عطاءات العلمكتب ابن القيمكتب ابن القيم- شاملة - txt

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين_2

عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين_2

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين [آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (15)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751)
المحقق: إسماعيل بن غازي مرحبا
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير – محمد أجمل الإصلاحي – علي بن محمد العمران
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 549
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

فالفقراء يتقدمون في دخول الجنة لخفّة الحساب عليهم، والأغنياء يؤخرون لأجل الحساب، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقراء كانت درجته في الجنة فوقه، وإن تأخر في الدخول.
كما أن السبعين ألفًا الذين (1) يدخلون الجنة بغير حساب -ومنهم عكاشة بن محصن (2) – قد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم في الدرجات، لكن أولئك استراحوا من تعب الحساب.
وهذا في الفقراء المذكورين (3) في الكتاب والسنة وهو ضدّ الغنى الذي يبيح أخذ الزكاة أو الذي لا يوجب الزكاة.
ثم قد صار في اصطلاح كثير من الناس: الفقر عبارة عن الزهد والعبادة والأخلاق. ويسمون من اتصف بذلك فقيرًا وإن كان ذا مال، [ومن لم يتصف بذلك قالوا: ليس بفقير وإن لم يكن له مال،] (4) وقد يسمى هذا المعنى تصوفًا.
ومن الناس من يفرق بين مسمى الفقير والصوفي، ثم من هؤلاء من يجعل مسمى الفقير أفضل، ومنهم من يجعل مسمى الصوفي أفضل.
والتحقيق في هذا الباب: أنه لا ينظر إلى الألفاظ المحدثة بل
__________
(1) ساقطة من الاْصل، واستدركتها من النسخ الأخرى.
(2) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (5811)، ومسلم في “صحيحه” رقم (216) من حديث أبي هريرة.
(3) كذا في الأصول، وفي بعض المطبوعات: “في الفقر المذكور. . ” وهو أوجه للسياق.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الأخرى.

(1/348)


يُنظر إلى ما جاء به الكتاب والسنة من الأسماء والمعاني، واللَّه قد جعل وصف أوليائه الإيمان والتقوى، فمن كان نصيبه من ذلك أعظم، كان أفضل، ولا اعتبار بما سوى ذلك، واللَّه أعلم.

(1/349)


الباب الثالث والعشرون في ذكر ما احتجت به الفقراء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار
قالت الفقراء: لم يذكر اللَّه سبحانه الغنى والمال في القرآن إلا على أحد وجوه:
الأول: على وجه الذم، كقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6، 7]، وقوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]، وقوله: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} [الزخرف: 33 – 35]، وقال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55]، وقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] الآية، ونظائر ذلك كثير.
الوجه الثانى: أن يذكره على وجه الابتلاء والامتحان، كما قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55، 56].
وقال تعالى مخبرًا عن ابتلائه بالغنى كما ابتلى بالفقر: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ

(1/350)


إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)} [الفجر: 15] الآية، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 35].
الوجه الثالث: إخباره أن الأموال والأولاد لا تقرّب إليه شيئا، وإنما يقرّب إليه الإيمان والعمل الصالح، كقوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ: 37].
الوجه الرابع: إخباره أن الدنيا والغنى والمال إنما جعلها متعة لمن لا نصيب له في الآخرة، وأن الآخرة جعلها للمتقين، فقال تعالى: {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: 131]، وقال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20].
وإلى هذا المعنى أشار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله لعمر: “أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة”، وسيأتي الحديث (1).
الوجه الخامس: أنه لم يذكر المترفين وأصحاب الثروة إلا بالذم كقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)} [الواقعة: 45]، وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16]، وقوله: {لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)} [الأنبياء: 13].
الوجه السادس: أنه سبحانه ذم محب المال، فقال: {وَتَأْكُلُونَ
__________
(1) أخرجه البخاري في “صحيحه” رقم (5191)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1479)، كلاهما من حديث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه في قصة إيلاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من نسائه، ولفظ البخاري فيه: “إن أولئك قوم قد عُجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا”.

(1/351)


التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر: 19، 20]، فذمهم بحب المال وعيّرهم به.
الوجه السابع: أنه سبحانه ذم متمنّي الدنيا والغنى والسعة فيها، ورأوا ذلك عطاء عظيمًا، ومدح من أنكر عليهم وخالفهم، فقال تعالى عن أغنى أهل زمانه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)} [القصص: 79، 80].
فأخبروا أن ما عند اللَّه خير لمن آمن وعمل صالحًا، ولا يلقّى هذه الوصية وهي الكلمة التي تكلم بها الذين أوتوا العلم أو المثوبة والجنة التي دل عليها قوله: {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ}، أو السيرة والطريقة التي دل عليها قوله: {لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}، وعلى كل حال لا يلقّى ذلك إلا الصابرون على الفقر وعن الدنيا وشهواتها وما أُترف فيه الأغنياء، وقد شهد اللَّه سبحانه لهم بأنهم من أهل العلم دون الذين تمنوا الدنيا وزينتها.
الوجه الثامن: أنه سبحانه أنكر على من ظنّ أن التفضيل يكون بالمال الذي يحتاج إليه لإقامة الملك، فكيف بما هو زيادة وفضلة؟! فقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} (1) [البقرة: 247]، فرد اللَّه سبحانه قولهم، وأخبر أن الفضل [ليس بالمال كما
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل.

(1/352)


توهّموه، وأن الفضل] (1) بالعلم لا بالمال.
وقال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [يونس: 58]، ففضله ورحمته العلم والإيمان والقرآن، والذي يجمعونه هو المال وأسبابه.
ومثله قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف: 32].
الوجه التاسع: أنه (2) سبحانه أخبر أن التكاثر في جمع المال وغيره ألهى الناس وشغلهم عن الآخرة والاستعداد لها، وتوعّدهم على ذلك، فقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 1 – 5].
فأخبر سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا وألهاهم عن اللَّه والدار الآخرة حتى حضرهم الموت، فزاروا المقابر، ولم يفيقوا من رقدة من ألهاه التكاثر، وجعل الغاية زيارة المقابر دون الموت إيذانًا بأنهم غير مستوطنين ولا مستقرين في القبور، وأنهم فيها بمنزلة الزائرين يحضرونها مدة ثم يظعنون عنها كما كانوا في الدنيا كذلك زائرين لها غير مستقرين فيها، ودار القرار هي الجنة أو النار.
ولم يعيّن سبحانه المتكاثر (3) بل ترك ذكره إما لأنّ المذموم هو نفس
__________
(1) ما بين المعقوفين من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) الأصل: “أنه أخبر. . ” وهو تكرار.
(3) في الأصل: “المكاثرة”، وفي (م) و (ن): “المتكاثر به”. والمثبت من (ب).

(1/353)


التكاثر بالشيء لا المتكاثر به، كما يُقال: شغلك اللعب واللهو، ولم يذكر ما يلعب به ويلهو به.
وإما إرادة الإطلاق (1)، وهو كل ما يكاثر به العبد غيره من أسباب الدنيا من مال أو جاه أو عبيد أو إماء أو بناء أو غراس أو علم لا يبتغي به وجه اللَّه أو عمل لا يقربه إلى اللَّه، فكل هذا من التكاثر الملهي عن اللَّه والدار الآخرة.
وفي “صحيح مسلم” من حديث عبد اللَّه بن الشخير أنه قال: انتهيت إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} قال: “يقول ابن آدم مالي مالي (2). وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت” (3).
ثم أوعد سبحانه من ألهاه التكاثر وعيدًا مؤكدًا إذا عاين تكاثره هباء منثورًا، وعلم أن دنياه التي كاثر بها إنما كانت خدعًا وغرورًا، فوجد عاقبة تكاثره عليه لا له، وخسر هنالك تكاثره كما خسر أمثاله، وبدا له من اللَّه ما لم يكن في حسابه، وصار تكاثره الذي شغله عن اللَّه والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه، فعذّب بتكاثره في دنياه، ثم عذّب به في البرزخ، ثم يعذّب به يوم القيامة فكان أشقى الخلق بتكاثره، إذ أفاد منه العطب دون الغنيمة والسلامة، فلم يفزْ من تكاثره إلا بأن صار من الأقليق، ولم يحظَ من علوه في الدنيا إلا بأن حصل مع الأسفلين.
فيا له تكاثرًا ما أقلّه؟! ورزءًا ما أجلّه؟! وغناء جالبًا لكل فقر،
__________
(1) الأصل: “أراده للإطلاق”.
(2) سقطت من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(3) “صحيح مسلم” رقم (2958).

(1/354)


وخيرًا توصّل به إلى كل شر، يقول صاحبه إذا انكشف عنه غطاؤه: {يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} [الفجر: 24]، وعملت بطاعة اللَّه قبل وفاتي {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 99، 100] تلك كلمة يقولها فلا يعوّل عليها، ورجعة يسألها فلا يجاب إليها.
وتأمل قوله أولًا: {رَبِّ} استغاث بربه، ثم التفت إلى الملائكة الذين أمروا بإحضاره إلى بين يدي ربه تبارك وتعالى فقال: {ارْجِعُونِ} ثم ذكر سبَب سؤال الرجعة وهو: أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه وسلطانه وقوله وأسبابه، فيقال له: {كَلَّا}، لا سبيل لك إلى الرّجعى وقد عُمّرتَ ما يتذكر فيه من تذكّر.
ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استقاله، وأن يفسح له في المهلة؛ ليتدارك ما فاته، أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرّط الرجعة كلمة هو قائلها لا حقيقة تحتها، وأن سجيّته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحا لو أجيب، وأنما ذلك شيء يقوله بلسانه، وأنه لو رُدّ لعاد لما نهي عنه، وأنه من الكاذبين، فحكمة أحكم الحاكمين وعزته وعلمه وجدّه يأبى إجابته إلى ما سأل؛ فإنه لا فائدة في ذلك، ولو ردّ لكانت حاله الثانية مثل حاله الأولى، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)} [الأنعام: 27، 28].
وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية، وما وردوا. فراجع أقوالهم تجدها لا تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا (1)، ومعناها أجل
__________
(1) انظر على سبيل المثال: “تفسير البغوي” (2/ 92)، و”تفسير ابن كثير” (2/=

(1/355)


وأعظم مما فسروها به، ولم يتفطنوا لوجه الإضراب بـ {بَلْ} ولا للأمر الذي بدا لهم وكانوا يخفونه، وظنوا أن الذي بدا لهم العذاب، فلما لم يروا ذلك ملتئمًا مع قوله: {مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} قدروا مضافًا محذوفًا وهو جزاء {مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ}، فدخل عليهم أمر آخر لا جواب لهم عنه وهو: أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم، بل كانوا يظهرونه ويَدْعون إليه ويحاربون عليه.
ولما علموا أن هذا وارد عليهم، قالوا: إن القوم في بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه، وقالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} [الأنعام: 23]، فلما وُقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذي أخفوه. قال الواحدي: وعلى هذا أهل التفسير (1).
ولم يصنع أرباب هذا القول شيئا؛ فإن السياق والإضراب بـ {بَلْ} والإخبار عنهم بأنهم لو ردّوا لعادوا مشركين لا يلتئم بهذا الذي ذكروه فتأمله (2).
وقالت طائفة منهم الزجاج: بل بدا للأتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء من أمر البعث (3).
وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير، وفيه من التكلف ما ليس بخافٍ.
__________
= 121 – 122)، و”تفسير القرطبي” (6/ 264).
(1) انظر مفاد الكلام السابق للواحدي في الوسيط (2/ 263).
(2) في (ب): “بأنهم لو ردُّوا لعادوا لما نهوا عنه، وقولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} لا يلتئم بهذا الذي ذكروه فتأمّله”.
وفيها زيادة غير ملائمة للسياق.
(3) انظر كلام الزجاج في “زاد المسير” (3/ 23).

(1/356)


وأجود من هذا ما فهمه المبرّد من الآية قال: كأن كفرهم لم يكن باديًا لهم إذ خفيت عليهم مضرّته (1).
ومعنى كلامه: أنهم لما خفيت عليهم عاقبته ووباله فكأنه كان خفيًّا عنهم لم تظهر لهم حقيقته، فلما عاينوا العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره.
قال: وهذا كما تقول في من كنت حدثته في أمر قبل: ظهر لك الآن ما كنتُ قلتُ لك؟! وقد كان ظاهرًا له قبل هذا.
ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذي (2) كانوا ينادون به على رؤوس الأشهاد ويدعون إليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه لخفاء عاقبته عنهم، ولا يُقال لمن أظهر الظلم والفساد وقتل النفوس والسعي في الأرض بالفساد أنه أخفى ذلك لجهله بسوء عاقبته وخفائها عليه.
فمعنى الآية -واللَّه أعلم بما أراد من كلامه-: أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها تمنّوا أنهم يردون إلى الدنيا فيؤمنون باللَّه وآياته ولا يكذبون رسله، فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك وأنه ليس في طبائعهم وسجاياهم الإيمان، بل سجيّتهم الكفر والشرك والتكذيب، وأنهم لو ردّوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله، وأخبر أنهم كاذبون في زعمهم أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا.
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبيّن لك معنى الإضراب بـ {بَلْ}،
__________
(1) انظر كلام المبرد في: “زاد المسير” (3/ 23)، و”تفسير البغوي” (2/ 92)، و”تفسير القرطبي” (6/ 264).
(2) في الأصل: “الذين”. والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/357)


وتبيّن معنى الذي بدا لهم والذي كانوا يخفونه. والحامل لهم على قولهم: {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ}، فالقوم كانوا يعلمون في الدنيا أنهم على باطل وأن الرسل صدقوهم فيما بلّغوهم عن اللَّه، وتيقنوا ذلك وتحققوه ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم بل تواصوا بكتمانه.
فلم يكن الحامل لهم على تمنّي الرجوع والإيمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل، فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه، فظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على الباطل وأن الرسل على الحق، فعاينوا ذلك عيانًا بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه، فلو ردّوا لما سمحت نفوسهم بالإيمان، ولعادوا إلى الكفر والتكذيب، فإنهم لم يتمنوا الأيمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل، وإنما تمنوه لما عاينوا العذاب الذي لا طاقة لهم باحتماله.
وهذا كمن كان يُخفي محبة (1) شخص ومعاشرته وهو يعلم أن حبه باطل وأن الرشد في عدوله عنه، فقيل له: إن اطلع عليك قيّمه (2) عاقبك. وهو يعلم ذلك ويكابر، ويقول: بل محبته ومعاشرته هي الصواب، فلما أخذه وليّه ليعاقبه على ذلك، وتيقن العقوبة تمنى أن يعفى من العقوبة، وأنه لا يجتمع به بعد ذلك، وفي قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاودة بعد معاينة العقوبة بل بعد أن مسّته وأنهكته، فظهر له عند العقوبة ما كان يخفي من معرفته بخطئه وصواب من نهاه عنه ولو ردّ لعاد لما نُهي عنه.
__________
(1) مطابقة المثل تقضي أن يقال: كان يحبّ شخصًا ويعاشره. والذي كان يخفيه هو معرفته بخطئه لا حبَّ الشخص. (ص).
(2) في النسخ الثلاث الأخرى: “وليه”.

(1/358)


وتأمل مطابقة الإضراب لهذا المعنى وهو نفي قولهم: أنا لو رُددنا لآمنا وصدقنا، لأنه ظهر لنا الآن أن (1) ما قالت الرسل هو الحق، أي: ليس كذلك بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه، فلم يظهر لكم شيء لم تكونوا عالمين به لِتُعذَروا، بل ظهر لكم ما كان معلومًا لكم وكنتم تواصون بإخفائه وكتمانه واللَّه أعلم.
ولا تستطل هذا الفصل المعترض في أثناء هذه المسألة فلعله أهم منها وأنفع، وباللَّه التوفيق.
فلنرجع إلى تمام الكلام فيها وقوله: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)} [التكاثر: 5] جوابه محذوف دلّ عليه ما تقدم، أي: لما ألهاكم التكاثر، وإنما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لما فقد منكم علم اليقين، وهو العلم الذي يصل بصاحبه إلى حدّ الضروريات التي لا يُشك ولا يمارى في صحتها وثبوتها.
ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه وترتب أثره عليه، فإن مجرّد العلم بقبح الشيء وسوء عواقبه قد لا يكفي في تركه، فإذا صار له علم يقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد، فإذا صار عين يقين كجملة المشاهدات كان تخلف موجبه عنه من أندر شيء، وفي هذا المعنى قال حسان في أهل بدر:
سِرْنا وساروا إلى بَدْرٍ لِحَينهم (2) … لو يعلمونَ يقين العِلْمِ ما ساروا (3)
__________
(1) ليست في الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) في (ب): “لحتفهم”.
(3) انظره في ديوان حسان: (1/ 476).

(1/359)


وقوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)} [التكاثر: 3، 4]، قيل: هو تأكيد لحصول العلم كقوله: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)} [النبأ: 4، 5].
وقيل: ليس بتأكيد بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت، والعلم الثاني في القبر.
هذا قول الحسن ومقاتل ورواه عطاء عن ابن عباس (1).
ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه:
أحدها: أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل، وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته وعدم الإخلال بالفصاحة.
الثاني: توسط {ثُمَّ} بين العلمين، وهي مؤذنة بتراخي ما بين المرتبتين زمانًا وخَطَرًا.
الثالث: أن هذا القول مطابق للواقع فإن المحتضر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه، ثم يعلم في القبر وما بعده ذلك علمًا هو فوق العلم الأول.
الرابع: أن عليّ بن أبي طالب وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب القبر.
قال الترمذي: حدثنا أبو كُريب حدثنا حكام بن سلم الرازي عن عمرو بن أبي قيس عن الحجاج عن المنهال بن عمرو عن زرّ عن
__________
(1) انظر: “الوسيط” للواحدي (4/ 549)، و”تفسير البغوي” (4/ 520) و”تفسير القرطبي” (20/ 118)، و”تفسير ابن كثير” (4/ 548).

(1/360)


على قال: “ما زلنا نشكُّ في عذاب القبر حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} [التكاثر: 1] ” (1).
قال الواحدي: يعني أن معنى قوله: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)} [التكاثر: 4] في القبور.
الخامس: أن هذا مطابق لما بعده من قوله {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)} [التكاثر: 6، 7] فهذه الرؤية الثانية غير الأولى وليست تأكيدًا لفظيًّا للرؤية الأولى، والفرق بين الرؤية الأولى والثانية من وجهين:
إطلاق الأولى وتقييد الثانية بعين اليقين، وتقدم الأولى وتراخي الثانية عنها.
ثم ختم السورة بالإخبار المؤكّد بواو القسم ولام التوكيد والنون الثقيلة عن سؤال النعيم، فكل أحد يُسأل عن نعيمه الذي كان فيه في الدنيا هل ناله من حلّه ووجهِه أم لا؟
فإذا تخلص من هذا السؤال سئل عسْه سؤالًا آخر: هل شكر اللَّه تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم لا؟
فالأول سؤال عن سبب استخراجه (2)، والثاني عن محل صرفه.
كما في جامع الترمذي من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر
__________
(1) “جامع الترمذي” رقم (3355)، وقال: “هذا حديث غريب”.
(2) في الأصل: “فالأول سبب عن استخراجه”. وفي (ب): “فالأول سبب استخراجه”. والمثبت من (م) و (ن).

(1/361)


[عن ابن مسعود] (1) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟ ” (2).
وفيه أيضًا عن أبي برزة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه”. قال: هذا حديث صحيح (3).
وفيه أيضًا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة -يعني العبد من النعيم- أن يُقال له: ألم نُصِحّ لك جسمك، ونُرْوِيك من الماء البارد؟! ” (4).
وفيه أيضًا من حديث الزبير بن العوام قال: لما نزلت {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ (5) يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 8] قال الزبير: يا رسول اللَّه فأي النعيم نسأل عنه وإنما هو الأسودان، التمر والماء؟ قال: “أما إنه
__________
(1) ما بين المعقوفين ليس في الأصل، ولا في سائر النسخ الثلاث، وإنما هو من جامع الترمذي.
(2) “جامع الترمذي” رقم (2416)، وقال: “حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعف في الحديث من قِبَل حفظه”.
(3) “جامع الترمذي” رقم (2417)، وفيه قال: “حديث حسن صحيح”.
(4) “جامع الترمذي” رقم (3358)، وقال: “حديث غريب”.
(5) في الأصل: “ولتسئلن”. وفي (م) و (ن): {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ}. وفي (ب): {لَتُسْأَلُنَّ}.

(1/362)


سيكون”. قال: هذا حديث حسن (1).
وعن أبي هريرة نحوه وقال: “فإنما هما الأسودان والعدو حاضر، وسيوفنا على عواتقنا، قال: إن ذلك سيكون” (2).
وقوله: “إن ذلك سيكون” إما أن يكون المراد به أن النعيم سيكون ويحدث لكم، وإما أن يرجع إلى السؤال أي أن السؤال يقع عن ذلك، وإن كان تمرًا وماء فإنه من النعيم. ويدل عليه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح -وقد أكلوا معه رطبًا ولحمًا وشربوا من الماء البارد-: “هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة” (3). فهذا سؤال عن شكره والقيام بحقه.
وفي الترمذي من حديث أنس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يُجاء بالعبد يوم القيامة كأنه بَذَج (4)، فيوقف بين يدي اللَّه، فيقول اللَّه: أعطيتك وخوّلتك وأنعمت عليك، فماذا صنعت؟ فيقول: يا رب جمعته وثمّرته فتركته أكثر ما كان فارجعني آتك به (5) فإذا عبد لم يقدم خيرًا، فيمضى به إلى النار” (6).
__________
(1) “جامع الترمذي” رقم (3356). ورواه ابن ماجه في “سننه” رقم (4158).
(2) أخرجه الترمذي في “جامعه” رقم (3357). ثم قال الترمذي عقبه: “وحديث ابن عيينة عن محمد بن عمرو -أي حديث الزبير السابق- عندي أصح من هذا”.
(3) رواه مسلم في “صحيحه” رقم (2038) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه بلفظ: “لتسألن عن هذا النعيم”.
(4) البذج: ولد الضأن، وجمعه بِذْجان. “النهاية” لابن الأثير (1/ 110).
(5) في “جامع الترمذي” بعد هذه الكلمة: “كلّه، فيقول له: أرني ما قدمت، فيقول: يا ربّ جمعته وثمّرته فتركته أكثر ما كان، فارجعني آتك به كله”.
(6) “جامع الترمذي” رقم (2427) وقال: “روى هذا الحديث غير واحد عن =

(1/363)


وفيه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول اللَّه له: ألم أجعل لك سمعًا وبصرًا ومالًا وولدًا، وسخّرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع (1)، فكنتَ تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني”. قال: هذا حديث صحيح (2).
وقد زعم طائفة من المفسرين: أن هذا الخطاب خاص بالكفار وهم المسؤولون عن النعيم، وذكروا ذلك عن الحسن ومقاتل (3)، واختار الواحدي ذلك، واحتج بحديث أبي بكر لما نزلت هذه الآية: قال يا رسول اللَّه: “أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيّهان من خبز شعير ولحم وبسر قد ذَنَّب (4) وماء عذب، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نُسأل عنه؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنما ذلك للكافر”، ثم قرأ: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (1)} [سبأ: 17] (5).
قال الواحدي: والظاهر يشهد لهذا القول؛ لأن السورة كلها خطاب
__________
= الحسن قوله، ولم يسندوه. . . “.
(1) قال في “النهاية” (2/ 186): “في حديث القيامة: “ألم أذرك تربع وترأس” أي تأخذ ربع الغنيمة. . . يريد ألم أجعلك رئيسًا مطاعًا؛ لأن الملك كان يأخذ الربع من الغنيمة في الجاهلية دون أصحابه” اهـ.
(2) “جامع الترمذي” رقم (2428)، وفيه قال: “صحيح غريب”.
(3) انظر قول الحسن ومقاتل في: “الوسيط للواحدي” (4/ 549)، و”تفسير البغوي” (4/ 520)، و”تفسير القرطبي” (20/ 15).
(4) أي البسر الذي قد بدا فيه الإرطاب من قِبَل ذنبه. انظر: “لسان العرب” (1/ 390).
(5) لم أقف عليه مسندًا. وعزاه القرطبي في “تفسيره” (20/ 120) لأبي نصر القشيري.

(1/364)


للمشركين وتهديد لهم. والمعنى أيضًا يشهد لهذا وهو أن الكفار لم يؤدوا حق النعيم عليهم حيث أشركوا به وعبدوا غيره، فاستحقوا أن يسألوا عما أنعم به عليهم توبيخًا لهم، هل قاموا بالواجب فيه أم ضيعوا حق النعمة؟ ثم يعذبون على ترك الشكر بتوحيد المنعم.
قال: وهذا معنى قول مقاتل، وهو قول الحسن قال: لا يُسأل عن النعيم إلا أهل النار (1).
قلت: ليس في اللفظ ولا في السنة الصحيحة ولا في أدلة العقل ما يقتضي اختصاص الخطاب بالكفار، بل ظاهر القرآن وصريح السنة والاعتبار يدل على عموم الخطاب لكل من اتصف بإلهاء التكاثر له، فلا وجه لتخصيص الخطاب ببعض المتصفين بذلك.
ويدل على ذلك قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند قراءة هذه السورة: “يقول ابن آدم: مالي مالي (2)، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت. . . ” الحديث وهو في صحيح مسلم (3).
وقائل ذلك قد يكون مسلمًا وقد يكون كافرًا.
ويدل عليه الأحاديث التي تقدمت، وسؤال الصحابة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وفهمهم العموم حتى قالوا له: “وأيّ نعيم نُسأل عنه؟ وإنما هما الأسودان” (4).
__________
(1) لم أقف على نص كلامه هذا. وانظر معناه في “الوسيط” (4/ 549).
(2) سقطت من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث.
(3) وقد سبق ص (356).
(4) وقد سبق تخريجه قريبًا.

(1/365)


فلو كان الخطاب مختصًّا بالكفار لبيّن لهم ذلك وقال: ما لكم ولها إنما هي للكفار.
فالصحابة فهموا التعميم، والأحاديث صريحة في التعميم، والذي أُنزل عليه القرآن أقرّهم على فهم العموم.
وأما حديث أبي بكر الذي احتج به أرباب هذا القول فحديث لا يصح.
والحديث الصحيح في تلك القصة يشهد ببطلانه ونحن نسوقه بلفظه، ففي “صحيح مسلم” عن أبي هريرة قال: خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال: “ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ ” قالا: الجوع يا رسول اللَّه، قال: “وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قُومًا” فقاما معه فأتى رجلًا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته امرأته قالت: مرحبًا وأهلًا. فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “وأين فلان؟ ” قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وصاحبيه ثم قال: الحمد للَّه، ما أحد اليوم أكرم أضيافًا مني قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذا، وأخذ المُدية (1)، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إياك والحلوب”، فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي بكر وعمر: “والذي نفسي بيده لَتُسْألُنّ عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوعُ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم” (2).
__________
(1) المُدية: السكين والشفرة. انظر: “النهاية” لابن الأثير (4/ 310).
(2) “صحيح مسلم” رقم (2038).

(1/366)


فهذا الحديث الصحيح صريح في تعميم الخطاب وأنه غير مختص بالكفار.
وأيضًا، فالواقع يشهد بعدم اختصاصه، وأن الإلهاء بالتكاثر واقع من المسلمين كثيرًا، بل أكثرهم قد ألهاه التكاثر (1).
وخطاب القرآن عام لمن بلغه، وإن كان أول من دخل فيه المعاصرون لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهو متناول لمن بعدهم، وهذا معلوم بضرورة الدين وإن نازع فيه من لا يُعتد بقوله من المتأخرين، فنحن اليوم ومن قبلنا ومن بعدنا داخلون تحت قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ونظائره، كما دخل تحته الصحابة بالضرورة المعلومة من الدين.
فقوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} [التكاثر: 1] خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف، وهم في الإلهاء والتكاثر درجات لا يحصيها إلا اللَّه.
فإن قيل: فالمؤمنون لم يلههم التكاثر ولهذا لم يدخلوا في الوعيد المذكور لمن ألهاه.
قيل: هذا هو الذي أوجب لأرباب هذا القول تخصيصه بالكفار؛ لأنه لم يمكنهم حمله على العموم، ورأوا أن الكفار أحق بالوعيد فخصّوه بهم (2).
وجواب هذا: أن الخطاب للإنسان من حيث هو إنسان على طريقة القرآن في تناول الذم له من حيث هو إنسان كقوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ
__________
(1) رحم اللَّه الإمام ابن القيم، كيف لو رأى حالنا في هذا العصر؟!
(2) في الأصل: “به”، والمثبت من: (ن).

(1/367)


عَجُولًا} [الإسراء: 11]، {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100]. {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات: 6]. {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج: 66]. ونظائره كثيرة.
فالإنسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع والعمل الصالح، وإنما اللَّه سبحانه هو الذي يكمله بذلك ويعطيه إياه وليس له ذلك من نفسه، بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم، والظلم المضاد للعدل، وكل علمٍ وعدلٍ وخيرٍ فيه فمن ربه لا من نفسه.
فإلهاء التكاثر طبيعة العبد وسجيّته التي هي له من نفسه، ولا خروجَ له عن ذلك إلا بتزكية اللَّه له وجعله مريدًا للآخرة مُوثرًا لها على التكاثر بالدنيا، فإن أعطاه ذلك وإلا فهو مُلتَهٍ بالتكاثر في الدنيا ولا بدّ.
وأما احتجاجه بالوعيد على اختصاص الخطاب بالكفار فيُقال: الوعيد المذكور مشترك، وهو العلم عند معاينة الآخرة، وهذا أمر يحصل لكل أحد لم يكن حاصلًا له في الدنيا.
وليس في قوله: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)} [التكاثر: 3] ما يقتضي دخول النار فضلًا عن التخليد فيها.
وكذلك رؤية الجحيم لا يستلزم دخولها لكل من رآها، فإن أهل الموقف يرونها ويشاهدونها عيانًا، وقد أقسم الرب تبارك وتعالى أنه لا بد أن يَرِدَها الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فليس في جملة من جمل هذه السورة ما ينفي عموم خطابها.
وأما ما ذُكر (1) عن الحسن أنه لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار،
__________
(1) في النسخ الأخرى: “ذكره”.

(1/368)


فباطل قطعًا، إما عليه وإما منه، والأحاديث الصحيحة الصريحة ترده، وباللَّه التوفيق.
ولا يخفى أن مثل هذه السورة مع عظم شأنها وشدة تخويفها وما تضمنته من تحذير التكاثر الملهي، وانطباق معناها على أكثر الخلق، يأبى اختصاصها من أولها إلى آخرها بالكفار ولا يليق ذلك بها، ويكفي في رد ذلك تأمل الأحاديث المرفوعة فيها، واللَّه أعلم.
وتأمل ما في هذا العتاب الموجع لمن استمر على إلهاء التكاثر له مدة حياته كلها إلى أن رأى (1) القبور ولم يستيقظ من نوم الإلهاء، بل أرقد التكاثرُ قلبَه فلم يستفق منه إلا وهو في عسكر الأموات.
وطابق بين هذا وبين حال أكثر الخلق يتبين لك أن العموم مقصود. وتأمل تعليقه سبحانه الذم والوعيد على مطلق التكاثر من غير تقييد بمتكاثرٍ به معيّن؛ ليدخل فيه التكاثر بجميع أسباب الدنيا على اختلاف أجناسها وأنواعها.
وأيضًا فإن التكاثر تفاعل وهو طلب كلّ من المتكاثرين أن يكثر صاحبه، فيكون أكثر منه فيما يكاثره به، والحامل له على ذلك توهمه أن العزة للمكاثر كما قيل:
ولست بالأكثرِ منهم حَصًى … وإنما العِزّة للكاثر (2)
فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره، كما كانت الكثرة
__________
(1) في النسخ الأخرى: “زار”.
(2) البيت للأعشى في ديوانه (94).

(1/369)


حاصلة لجماعة من الصحابة ولم تضرهم إذ لم يتكاثروا بها.
وكل مَن كاثر إنسانًا في دنياه أو جاهه أو غير ذلك، شغلته مكاثرته عن مكاثرة أهل الآخرة، فالنفوس الشريفة العلويّة ذات الهمم العالية إنما تكاثر بما يدوم عليها نفعه وتكمل به وتزكو وتصير مفلحة، فلا تحب أن يَكْثُرَها غيرها في ذلك، وينافسه في هذه المكاثرة ويسابقه إليها، فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد. وضده تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم، فهذا تكاثر مُلْهٍ عن اللَّه والدار الآخرة، وهو صائر إلى غاية القلّة، فعاقبة هذا التكاثر قلٌّ وفقر وحرمان.
والتكاثر بأسباب السعادة الأخروية تكاثر لا يزال يذكر باللَّه ولقائه، وعاقبته الكثرة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى، فصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى غيره أفضل قولًا منه وأحسن عملًا وأغزر علمًا. وإذا رأى غيره أكثر منه في خصلة من خصال الخير يعجز عن لحاقه فيها، كاثره بخصلة أخرى هو قادر على المكاثرة بها.
وليس هذا التكاثر مذمومًا ولا قادحًا في إخلاص العبد، بل هو حقيقة المنافسة واستباق الخيرات، وقد كانت هذه حال الأوس مع الخزرج في تواصلهم بين يدي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ومكاثرة بعضهم لبعض في أسباب مرضاته ونصره، وكذلك كانت حال عمر مع أبي بكر فلما تبيّن له مدى سبقه قال: “واللَّه لا أسابقك إلى شيء أبدًا” (1).
__________
(1) رواه أبو داود في “سننه” رقم (1678).
وصححه الحاكم في المستدرك (1/ 414) على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

(1/370)


فصل
وتأمل حسن موقع {كَلَّا} في هذا الموضع فإنها تضمّنت ردعًا لهم وزجرًا عن التكاثر ونفيًا وإبطالًا لما يؤملونه من نفع التكاثر لهم وعِزتِهم وكمالهم به، فتضمنت اللفظة نهيًا ونفيًا، وأخبرهم سبحانه أنه لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علمًا بعد علم، وأنهم لا بد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التي ألهتهم عن الآخرة رؤية بعد رؤية، وأنه سبحانه لا بد أن يسألهم عن أسباب تكاثرهم من أين استخرجوها وفيما صرفوها.
فلله ما أعظمها من سورة، وأجلّها وأعظمها فائدة، وأبلغها موعظة وتحذيرًا، وأشدها ترغيبًا في الآخرة وتزهيدًا في الدنيا، على غاية اختصارها وجزالة ألفاظها وحسن نظمها، فتبارك من تكلم بها حقًّا، وبلّغها رسوله عنه وَحْيًا.

فصل
وتأمل كيف جعلهم عند وصولهم إلى غاية كل حيّ زائرين غير مستوطنين، بل هم مستودعون في المقابر مدة وبين أيديهم دار القرار، فإذا كانوا عند وصولهم إلى الغاية زائرين، فكيف بهم وهم في الطريق في هذه الدار؟! فهم فيها عابرو سبيل إلى محل الزيارة، ثم منتقلون من محل الزيارة إلى المستقر.
فهاهنا ثلاثة أمور: عبور السبيل في هذه الدنيا، وغايته زيارة القبور، وبعدها النقلة إلى دار القرار.

(1/371)


فصل
فلنرجع إلى تمام المناظرة. قالوا: فاللَّه تعالى حمى أولياءه عن الدنيا، وصانهم عنها، ورغب بهم عنها تكريمًا لهم، وتطهيرًا عن أدناسها، ورفعة عن دناءتها؛ وذمّها (1) لهم، وأخبرهم بهوانها عليه وسقوط قدرها عنده، وأعلمهم أن بسطها فتنة، وأنه سبب الطغيان والفساد في الأرض، وإلهاء التكاثر بها عن طلب الدار الآخرة، وأنها متاع الغرور، وذم محبيها ومؤثريها.
وأخبر أن من أرادها وأراد زينتها وحرثها فليس له في الآخرة من نصيب (2).
وأخبر أن بسطها فتنة وابتلاء لا كرامة ومحبة، وأن إمداد أهلها بها ليس مسارعة لهم في الخيرات، وأنها لا تقرب إليه ولا تزلف لديه (3)، وأنه لولا تتابع الناس في الكفر لأعطى الكفار منها فوق مناهم، ووسعها عليهم أعظم التوسعة بحيث يجعل سقوف بيوتهم وأبوابهم ومعارجهم وسررهم كلها من فضة، وأخبر أنه زينها لأعدائه ولضعفاء العقول الذين لا نصيب لهم في الآخرة (4)، ونهى رسوله عن مد عينيه إليها وإلى ما متع
__________
(1) في الأصل: “وذمًّا”، والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)} [الشورى: 20].
(3) يريد قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55 – 56].
(4) وذلك في قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} [الزخرف: =

(1/372)


به أهلها (1)، وذم من أذهب طيباته فيها واستمتع بها (2).
وقال لنبيه: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)} [الحجر: 3] وفي هذا تعزية (3) لما منعه أولياءه من التمتع بالدنيا وكثرة الأكل فيها، وتأديبًا لمن بسط له فيها ألا يطغى فيها ولا يعطي نفسه شهواتها ولا يتمتع بها.
وذم سبحانه محبيها المفتخرين بها المتكاثرين بها الظانين أن الفضل
والكرامة في سعتها وبسطها، فأكذبهم اللَّه سبحانه، وأخبر أنه ليس كما قالوه ولا توهّموه، ومثّلها لعباده بالأمثلة التي تدعو كل لبيب عاقل إلى الزهد فيها وعدم الوثوق بها والركون إليها، فأحضر صورتها وحقيقتها في قلوبهم بما ضربه له مثلًا، كماء أنزله (4) من السماء فخالط نبات الأرض، فلما أخذت به الأرض زخرفها وتزيّنت به بأنواع النبات أتاها أمره فجعل تلك الزينة يبسًا هشيمًا تذروه الرياح كأن لم يكن قط منه شيء (5).
__________
= 33 – 35].
(1) وذلك في قوله تعالى: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} [الحجر: 88].
وقوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: 131].
(2) قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} [الأحقاف: 20].
(3) في (م) و (ن): “معرفة”.
(4) الأصل: “أنزلناه”.
(5) إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ =

(1/373)


وأخبر سبحانه عن فنائها وسرعة انقضائها وأنه إذا عاين العبد الآخرة فكأنه لبث فيها ساعة من نهار أو يومًا أو بعض يوم، ونهى أن يغتروا بها (1).
وأخبرهم أنها لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر ومتاع غرور وطريق ومعبر إلى الآخرة، وأنها عرض عاجل لا بقاء لها (2).
ولم يذكر مريدها بخير قط، بل حيث ذكره ذمه، وأخبر أن مريدها مخالف لربه تعالى في إرادته، فاللَّه يريد شيئًا ومريد الدنيا يريد خلافه، فهو مخالف لربه بنفس إرادته، وكفى بهذا بعدًا عنه سبحانه.
وأخبر سبحانه عن أهل النار أنهم إنما دخلوها بسبب غرور الدنيا وأمانيها لهم (3).
__________
= الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 24].
وقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)} [الكهف: 45].
(1) إشارة إلى قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)} [الروم: 55].
وقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)} [طه: 104].
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20].
(3) إشارة إلى قوله تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ =

(1/374)


قالوا: وهذا كله تزهيد لهم منه سبحانه فيها، وترغيب في التقلّل منها ما أمكن.
قالوا: وقد عرضها سبحانه وعرض مفاتيح كنوزها على أحب الخلق إليه وأكرمهم عليه عبده ورسوله، فلم يُردها ولم يخترها، ولو آثرها وأرادها لكان أشكر الخلق بما أخذه منها، ولأنفقه كله في مرضاة اللَّه وسبيله قطعًا، بل اختار التقلّل منها وصبر على شدة العيش فيها.
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن محمد حدثنا عباد -يعني ابن عباد- حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: دخلت امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عباءة مثنية، فرجعت إلى منزلها فبعثت إليّ بفراش حشوه الصوف، فدخل عليّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: “ما هذا”؟ فقلت: فلانة الأنصارية دخلت عليّ فرأت فراشك فبعثت إليّ بهذا، فقال: “ردّيه” فلم أردّه، وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال: “يا عائشة رُدّيه، واللَّه لو شئتُ لأجرى اللَّه معي جبال الذهب والفضة” (1).
وعرض عليه مفاتيح كنوز الدنيا، فقال: “بل أجوع يومًا وأشبع يومًا، فإذا جعتُ تضرعتُ إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك” (2).
وسأل ربه أن يجعل رزقه ورزق أهله قوتًا كما في “الصحيحين” من
__________
= وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)} [الحديد: 14].
(1) سبق تخريجه ص (303).
(2) سبق تخريجه ص (215).

(1/375)


حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا” (1).
وفيهما عنه قال: “والذي نفس أبي هريرة بيده ما شبع نبي اللَّه وأهله ثلاثة أيام تباعًا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا” (2).
وفي “صحيح البخاري” عن أنس: “ما أعلم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رغيفًا مرقّقًا ولا شاة سميطًا حتى لحق بربه” (3).
وفي “صحيحه” أيضًا عنه قال: “خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يشبع من خبز الشعير” (4).
وفي “الصحيحين” عن عائشة: “ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليال تباعًا حتى قبض” (5).
وفي “صحيح مسلم” عن عمر: “لقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلًا يملأ بطنه” (6).
وفي “المسند” و”الترمذي” عن ابن عباس: “كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-
__________
(1) سبق تخريجه ص (302).
(2) “صحيح البخاري” رقم (5374)، و”صحيح مسلم” رقم (2976).
(3) “صحيح البخاري” رقم (5421).
وقوله: “سميطًا” أي: مشوية. انظر: “النهاية” لابن الأثير (2/ 400).
(4) “صحيح البخاري” رقم (5414) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، ولم أقف عليه من حديث أنس.
(5) “صحيح البخاري” رقم (5416)، و”صحيح مسلم” رقم (2970).
(6) “صحيح مسلم” رقم (2978).
والدقل: رديء التمر ويابسه. انظر: “النهاية” لابن الأثير (2/ 127).

(1/376)


يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير” قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (1).
وفي الترمذي من حديث أبي أمامة: “ما كان يفضل عن أهل بيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خبز الشعير” (2).
وفي “المسند” عن عائشة: “والذي بعث محمدًا بالحق ما رأى مُنخلًا، ولا أكل خبزًا منخولًا منذ بعثه اللَّه عز وجل إلى أن قُبض” قال عروة فقلت: فكيف كنتم تأكلون الشعير؟ قالت: كنا نقول: أف -أي: ننفخه- فيطير ما طار، ونعجن الباقي (3).
وفي “صحيح البخاري” عن أنس قال: لقد رهن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- درعه بشعير، ولقد سمعته يقول: “ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى، وإنهم لتسعة أبيات” (4).
وفي “مسند الحارث بن أبي أسامة (5) ” أن فاطمة جاءت بكسرة خبز
__________
(1) “المسند” (1/ 255)، و”جامع الترمذي” رقم (2360).
ورواه ابن ماجه أيضًا في “سننه” (3347).
وطاويًا: أي خالي البطن، جائع لم يأكل. انظر: “النهاية” لابن الأثير (3/ 146).
(2) “جامع الترمذي” رقم (2359)، وقال: “حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه”.
(3) “المسند” (6/ 71).
وقال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (10/ 312): “رواه أحمد وفيه سليمان بن رومان ولم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا”.
(4) “صحيح البخاري” رقم (2508).
(5) في الأصل: “أمامة”، وهو خطأ. والتصويب من النسخ الأخرى.

(1/377)


إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: “ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ ” قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة. فقال: “أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام” (1).
وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر قال: “لما حفر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الخندق، أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على بطنه حجرًا من الجوع” (2).
وقد أسرف أبو حاتم بن حبان في “تقاسيمه” في رد هذا الحديث، وبالغ في إنكاره، وقال: المصطفى أكرم على ربه من ذلك (3).
وهذا من وهمه، وليس في هذا ما ينقص مرتبته عند ربه، بل ذلك
__________
(1) مسند الحارث مفقود، والموجود منه زوائده للهيثمي. وهذا الحديث ليس من الزوائد، وقد نسبه أيضًا للحارث: العراقيُّ في المغني عن حمل الأسفار (3/ 73).
والحديث أخرجه أحمد في “مسنده” (3/ 213)، وابن سعد في “الطبقات” (1/ 400)، والطبراني في “المعجم الكبير” رقم (750) وغيرهم من حديث أنس رضي اللَّه عنه.
والحديث ضعف إسناده العراقي في “المغني عن حمل الأسفار” (3/ 73).
(2) “المسند” (3/ 301).
ورواه البخاري في “صحيحه” رقم (4101) من حديث جابر رضي اللَّه عنه، وهو حديث طويل، وفيه قصة دعوة جابر للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى طعام، وفيه قول جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ثم قام وبطنه معصوب بحجر”.
والحديث رواه أيضًا مسلم في “صحيحه” رقم (2039)، وليس فيه محل الشاهد.
(3) انظر: “صحيح ابن حبان” (8/ 345).

(1/378)


رفعة له وزيادة في كرامته، وعبرة لمن بعده من الخلفاء والملوك وغيرهم.
وكأن أبا حاتم لم يتأمل سائر الأحاديث في معيشة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهل ذلك إلا من أعظم شواهد صدقه؟! فإنه لو كان كما يقول أعداؤه وأعداء ربه أنه مَلِك طالبُ مُلكٍ ودنيا، لكان عيشه عيش الملوك وسيرته سيرتهم، ولقد توفاه اللَّه وإن درعه مرهونة عند يهودي على طعام أخذه لأهله (1)، وقد فتح اللَّه عليه بلاد العرب وجُبيَت إليه الأموال، ومات ولم يترك درهمًا واحدًا ولا دينارًا ولا شاة ولا بعيرًا ولا عبدًا ولا أمة.
قال الإمام أحمد حدثنا حسين حدثنا محمد بن مطرف عن أبي حازم عن عروة: أنه سمع عائشة تقول: كان يمر بنا هلال وهلال ما يوقد في بيت من بيوت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نار. قالت: يا خالة فعلى أيّ شيء كنتم تعيشون؟ قالت: “على الأسودين: التمر والماء” (2).
وقد تقدم حديث أبي هريرة في قصة أبي الهيثم بن التّيهان، وإنه خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-من بيته فرأى أبا بكر وعمر فقال: “ما أخرجكما؟ ” قالا: الجوع، قال: “أنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما” (3).
وذكر أحمد من حديث مسروق قال: دخلت على عائشة فدعت لي
__________
(1) وقد سبق تخريجه ص (302).
(2) “المسند” (6/ 71).
والحديث رواه البخاري في “صحيحه” رقم (2567)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2972).
(3) تقدم ص (368) وانظر ص (366).

(1/379)


بطعام وقالت: ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلا بكيت، قال: قُلت لم؟ قالت (1): “أذكر الحال التي فارق عليها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الدنيا، واللَّه ما شبع في يوم مرتين من خبز البرّ حتى قبض” (2). وفيه عنها: “ما شبع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من خبز شعير يومين متتابعين حتى قُبض” (3). والحديثان صحيحان.
وفيه: “ما شبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثة أيام حتى لحق باللَّه” (4).
وفي “الصحيحين” عن أبي هريرة: “ما شبع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأهله ثلاثًا تباعًا من خبز البرّ حتى فارق الدنيا” (5).
وفي الترمذي عن ابن عباس قال: “كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير” (6).
وفيه عن أنس عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لقد أخفت في اللَّه وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في اللَّه وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما
__________
(1) في الأصل: قال. وهو خطأ.
(2) “الزهد” للإمام أحمد رقم (908).
ورواه الترمذي في “جامعه” رقم (2356). بلفظ: “واللَّه ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم”. وقال: “حديث حسن صحيح”. وانظر الحديث الآتي.
(3) “مسند أحمد” (6/ 98). ورواه مسلم في “صحيحه” رقم (2970).
(4) “مسند أحمد” (6/ 127).
ورواه البخاري في “صحيحه” رقم (6687).
(5) وقد سبق تخريجه قريبًا.
(6) سبق تخريجه قريبًا.

(1/380)


لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال” (1).
والحديثان صحيحان.
وفيه أيضًا عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: “شكونا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الجوع ورفعنا عن بطوننا حجرًا حجرًا، فرفع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن حجرين” (2).
وفيه أيضًا عن علقمة عن عبد اللَّه قال: نام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على حصير فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول اللَّه لو اتخذنا لك وطاء (3) فقال: “ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها” حسن صحيح (4).
وفيه عن علي بن أبي طالب قال: خرجت في يوم شات من بيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد أخذت إهابًا معطونًا (5)، فجوّبت وسطه (6) وأدخلته في عنقي فشددت به وسطي، فحزمته بخوص النخل، وإني لشديد الجوع، ولو كان في بيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- طعام لطعمت منه، فخرجت ألتمس شيئًا فمررت بيهودي في مال له وهو يسقي ببكرة له، فاطلعت عليه من ثلمة من الحائط، فقال: مالك يا أعرابي؟ هل لك في
__________
(1) سبق تخريجه ص (88).
(2) “جامع الترمذي” رقم (2371)، وقال: “حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه”.
(3) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(4) “جامع الترمذي” رقم (2377).
(5) معطونًا أي: منتنًا منمرق الشعر. انظر: “النهاية” لابن الأثير (3/ 259).
(6) أي: لبستُه. انظر: “النهاية” (1/ 310).

(1/381)


كلّ دلو بتمرة؟ قلت: نعم، فافتح الباب حتى أدخل. ففتح ودخلت فأعطاني دلوه، فكلما نزعتُ دلوًا أعطاني تمرة، حتى امتلأت كفي أرسلت دلوه وقلت: حسبي. فأكلتها، ثم جرعت من الماء فشربت ثم جئت المسجد (1) فوجدت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه (2).
وقال سعد بن أبي وقاص: “لقد رأيتنا نغزو مع رسول اللَّه ما لنا طعام إلا الحُبْلَة وهذا السَّمُر” (3).
والحُبْلَة: ثمر العضاه ذات الشوك. وهو حديث صحيح.
وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- (4) يصلي من الليل أحيانًا وعليه كساء صوف بعضه عليه وبعضه على عائشة. قال الحسن: أثمان ستة دراهم أو سبعة (5).
وقال أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا زائدة حدثنا عطاء عن أبيه، عن
__________
(1) ساقطة من الأصل، وفي النسخ الثلاث الأخرى: “الماء”. والمثبت من “جامع الترمذي”.
(2) “جامع الترمذي” رقم (2473)، وقال: “حسن غريب”.
(3) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (6453)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2966).
والسّمُرُ: ضرب من شجر الطّلح، الواحدة: سَمُرة. انظر: “النهاية” لابن الأثير (2/ 399).
(4) “-صلى اللَّه عليه وسلم-” ليست في الأصل، وأثبتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(5) لم أقف عليه هكذا.
ورواه الطبراني في “الكبير” رقم (746) من المجلد رقم (22)، وفي “الأوسط” رقم (5695)، وابن أبي عاصم في “الآحاد والمثاني” رقم (2643)، وأبو عوانة في “مسنده” (2/ 60) دون ذكر الصوف.
أما قول الحسن فرواه أحمد في “الزهد” رقم (75).

(1/382)


على قال: “جهز رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-فاطمة في خميل وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف” (1).
والخميل: الكساء الذي له خُمُل.
قال: وحدثنا بهز بن أسد حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد قال: قال أبو بردة دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارًا غليظًا مما يصنع باليمن وكساء من هذه التي تدعونها الملبّدة، فقالت: “قُبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذين الثوبين” (2).
قالوا: ولو كان الغنى مع الشكر أفضل من الفقر مع الصبر لاختاره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ عرضت عليه الدنيا، ولأمره ربه أن يسأله إياه، كما أمره أن يسأله زيادة العلم، ولم يكن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليختار إلا ما اختاره اللَّه له، ولم يكن ليختار اللَّه له إلا الأفضل إذ كان أفضل خلقه وأكملهم.
قالوا: وقد أخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن خير الرزق ما كان بقدر كفاية العبد، فلا يعوزه ما يضره ولا يفضل عنه ما يطغيه ويلهيه.
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن مهدي حدثنا همام (3) عن قتادة عن
__________
(1) “المسند” (1/ 108).
وروى الحديث أيضًا النسائي في “سننه” رقم (3384). وابن ماجه في سننه رقم (4152). عن عطاء به.
والحديث صححه الحاكم في المستدرك (2/ 185)، ووافقه الذهبي.
(2) “المسند” (6/ 131).
والحديث رواه البخاري في “صحيحه” رقم (5818)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2080).
(3) كذا في الأصل وسائر النسخ الخطية. وكذا في المطبوع من “المسند” و”الزهد” =

(1/383)


خليد العصري عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما طلعت شمس قط إلا بُعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: يا أيها الناس هلمّوا إلى ربكم، فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. ولا آبت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا” (1).
قال أحمد: وحدثنا وكيع حدثنا أسامة بن زيد عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن سعد بن مالك قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي” (2).
وتأمل جمعه في هذا الحديث بين رزق القلب والبدن: رزق الدنيا والآخرة، وإخباره أن خير الرّزقين ما لم يتجاوز الحد فيكفي من الذكر إخفاؤه، فإذا زاد على الإخفاء خيف على صاحبه الرياء والتكثر به على الغافلين، وكذلك رزق البدن إذا زاد على الكفاية خيف عليه الطغيان والتكاثر.
__________
= للإمام أحمد.
إلا أن ابن حجر في “إتحاف المهرة” (12/ 567) ذكر أن الإمام أحمد أخرجه من طريق هشام.
(1) “المسند” (5/ 197)، و”الزهد” رقم (102).
وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” رقم (443).
(2) “المسند” (1/ 172).
وصححه ابن حبان فأخرجه في “صحيحه” رقم (809).
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 81): “وفيه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة، وقد وثقه ابن حبان وقال: روى عن سعد بن أبي وقاص، قلت: وضعفه ابن معين، وبقية رجالهما رجال الصحيح”.

(1/384)


قالوا: وقد غبط رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المتقلل من الدنيا بما لم يغبط به الغني.
قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا علي بن صالح عن أبي المهلب عن عبيد اللَّه بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ (1)، ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه، وكان غامضًا في الناس (2) لا يُشار إليه بالأصابع، فعجلت منيته، وقلّ تراثه، وقلّت بواكيه” قال عبد اللَّه بن أحمد: سألت أبي ما تراثه؟ قال: ميراثه (3).
قالوا: وحمية اللَّه تعالى لعبده المؤمن عن الدنيا إنما هو من محبته له وكرامته عليه.
قال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إن اللَّه تبارك وتعالى يحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه، كما تحمون مرضاكم الطعام والشراب تخافون عليهم” (4).
__________
(1) قال ابن الأثير في النهاية (1/ 457): “الحاذُ والحال واحد، وأصل الحاذ: طريقة المتن، وهو ما يقع عليه اللّبْدُ من ظهر الفرس، أي: خفيف الظهر من العيال”.
(2) أي: مغمورًا غير مشهور. انظر: “لسان العرب” (7/ 200).
(3) “الزهد” رقم (56). ورواه في “المسند” (5/ 252).
والحديث رواه أيضًا: الترمذي في “جامعه” رقم (2347) وقال: “حديث حسن”، وابن ماجه في “سننه” رقم (4117). وظاهر الحديث أنه قدسي كما يقتضيه السياق، وورد في “الزهد” ما يدل عليه وهو قوله “يعني قال اللَّه عز وجل”.
(4) “الزهد” رقم (57)، و”المسند” (5/ 427).
ورواه الترمذي في “جامعه” رقم (2036) من حديث محمود بن لبيد عن =

(1/385)


قالوا: وقلّ أن يقع إعطاء الدنيا وتوسعتها إلا استدراجًا من اللَّه لا إكرامًا ومحبة لمن أعطاه.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشدين (1) بن سعد عن حرملة بن عمران التجيبي عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إذا رأيت اللَّه يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج ثم تلا قولَه تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام: 44] ” (2).
قالوا: وَلِهَوان الدنيا على اللَّه منعها أكثر أوليائه وأحبائه.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن من أمتي من لو أتى باب أحدكم فسأله دينارًا لم يعطه إياه، ولو سأله فلسًا لم يعطه إياه، ولو سأل اللَّه الجنة لأعطاه إياها، ولو سأله الدنيا لم يعطها إياه، وما يمنعها إياه لهوانه عليه، ذو طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على اللَّه لأبرّه” (3).
__________
= قتادة بن النعمان عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- به نحوه، ومن حديث محمود بن لبيد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وقال الترمذي عقب حديث قتادة: “حديث حسن غريب، وقد روي هذا الحديث عن محمود بن لبيد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا”. ثم رواه بسنده.
(1) في الأصل: “رشدي”، والتصويب من (م) و (ن).
(2) “المسند” (4/ 145). وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” رقم (413).
(3) “الزهد” (67).
ورواه هناد في “الزهد” رقم (587)، وابن أبي الدنيا في كتاب “التواضع =

(1/386)


وهذا يدل على أنه إنما يمنعه إياها لهوانها عليه، لا لهوانه هو عليه، ولهذا يعطيه أفضل منها وأجل، فإن اللَّه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الآخرة إلا من يحب.
قالوا: وقد أخبرهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن أقربهم منه يوم القيامة مجلسًا ذوو التقفل من الدنيا الذين لم يستكثروا منها.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا محمد بن عمرو قال سمعت عراك بن مالك يقول: قال أبو ذر: إني لأقربكم مجلسًا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم القيامة، وذلك أني سمعته يقول: “إن أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئة ما تركته فيها”، وإنه واللَّه ما منكم من أحد إلا وقد تشبّث منها بشيء غيري (1).
قالوا: وقد غبط النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من كان عيشه كَفافًا وأخبر بفلاحه.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد اللَّه بن يزيد حدثنا حيوة قال: أخبرني أبو هانئ أن أبا علي الجنبي أخبره أنه سمع فضالة بن عبيد يقول إنه
__________
= والخمول” رقم (1)، والحارث في مسنده -كما في “بغية الباحث” رقم (1103) -. وهو مرسل.
إلا أن الطبراني وصله في “الأوسط” رقم (7548)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10447) من حديث سالم بن أبي الجعد عن ثوبان مرفوعًا نحوه.
وصحح إسناده العراقي في “المغني عن حمل الأسفار” (3/ 237). وصححه الألباني بشواهده في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” برقم (2643).
(1) “الزهد” رقم (795). ورواه في “المسند” (5/ 165). ورواية “الزهد” هي التي فيها التصريح بالسماع بين محمد بن عمرو وعراك.

(1/387)


سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كَفافًا وقنع” (1).
وذكر أيضًا من حديث عبد اللَّه بن عمرو أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنّعه اللَّه بما آتاه” (2).
قالوا: ولو لم يكن في التقلّل إلا خفة الحساب لكفى به فضلًا على الغنى.
قال عبد اللَّه بن الإمام أحمد: حدثنا بيان بن الحكم حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا بشر بن الحارث حدثنا عيسى بن يونس عن هشام عن الحسن قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ثلاثة لا يحاسب بهن العبد: ظل خُصّ (3) يستظل به، وكسرة يشدّ بها صلبه، وثوب يواري عورته” (4).
وقال الإمام أحمد: حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا ليث عن أبي عثمان قال: لما افتتح المسلمون جُوخا (5) دخلوا يمشون فيها وأكداس
__________
(1) “المسند” (6/ 19).
ورواه الترمذي في “جامعه” رقم (2349)، وقال: “حديث حسن صحيح”.
(2) “المسند” (2/ 168). ورواه مسلم في “صحيحه” رقم (1054).
(3) الخُصّ: بيت يعمل من الخشب والقصب. سمي بذلك لما فيه من الخصائص وهو الفُرج والأنقاب. “النهاية”: (2/ 37).
(4) الزهد رقم (65).
ورواه هناد في “الزهد” رقم (569)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10368). وهو ظاهر الإرسال.
(5) غير محررة في النسخ، والصواب ما أثبت. وجُوخا بالضم والقصر وقد يُفتح، =

(1/388)


الطعام فيها أمثال الجبال، ورجل يمشي إلى جنب سلمان فقال: “يا أبا عبد اللَّه ألا ترى إلى ما فتح اللَّه علينا، ألا ترى إلى ما أعطانا اللَّه”، فقال سلمان: “وما يعجبك مما ترى؟ إلى جنب كل حبّة مما ترى حساب! ” (1).
قالوا: وقد شهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأصحابه (2) أنهم يوم فقرهم وفاقتهم خير منهم يوم غناهم وبسط الدنيا عليهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا أبو الأشهب عن الحسن قال: قال نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يا أهل الصفة كيف أنتم؟ ” قالوا: نحن بخير قال: “أنتم اليوم خير أم يوم تغدو على أحدكم جفنة، وتروح أخرى، ويغدو في حلة، ويروح في أخرى (3)، وتسترون بيوتكم بمثل أستار الكعبة؟ ” قالوا: يا رسول اللَّه نحن يومئذ خير يعطينا ربنا تبارك وتعالى فنشكر. قال: “بل أنتم اليوم خير” (4).
__________
= اسم نهر عليه كورة واسعة في سواد بغداد بالجانب الشرقي. . قاله ياقوت في “معجم البلدان”: (2/ 179).
(1) لم أقف عليه فيما بين يدي من كتب الإمام أحمد. وأخرجه البيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10654).
(2) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(3) في حاشية الأصل كتب ما نصه: “يحتمل أن يكون هذا في الجنة، فيكون النعيم الذي فيها، دون ما يحصل من كمال المعرفة باللَّه بلذة الفقر ونحوها من أنواع الطاعات المتلذ بها، ويحتمل أن يكون في الدنيا ويشهد له ما بعده، ولكن لا يلزم منه أن يكون الغِنى أفضل بدليل ما قرن به من ضَرْب بعضهم رقاب بعض، واللَّه أعلم”.
(4) لم أقف عليه هكذا.
وقد رواه أحمد في كتاب “العلل ومعرفة الرجال” رقم (4955) عن =

(1/389)


فهذا صريح في أنهم في وقت صبرهم على فقرهم خير منهم في وقت غناهم مع الشكر.
وقال عبد اللَّه بن أحمد: حدثنا ابن نمير حدثنا حفص بن غياث عن داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الأسود عن طلحة البصري قال: قدمت المدينة ولم يكن لي بها معرفة، فكان يجري علينا مدٌّ من تمر بين اثنين، فصلى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (1) صلاة، فهتف به هاتف من خلفه فقال: يا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أحرق بطوننا التمر وتخرقت عنا الخُنُف (2). فخطب فحمد اللَّه وأثنى عليه وقال: “واللَّه لو أجد لكم اللحم والخبز (3) لأطعمتكموه، وليأتين عليكم زمان تغدو على أحدكم الجفان وتراح، ولَتلْبَسُن (4) مثل أستار الكعبة” قالوا: يا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نحن اليوم خير منا أو يومئذ؟ قال: “أنتم اليوم خير منكم يومئذ، أنتم اليوم خير منكم يومئذ؛ يضرب بعضكم رقاب بعض” (5) قال أحمد: وحدثنا عبد الوهاب
__________
= الحسن أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لأهل الصفة: “كيف أصبحتم” اهـ فقط دون باقي الحديث. وهو ظاهر الإرسال.
(1) “رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-” ليست في الأصل، وأثبتها من (ب).
(2) الخنُف جمع خنيف، وهو نوع غليظ من أردأ الكتان، أراد ثيابا تعمل منه كانوا يلبسونها. انظر: “النهاية” لابن الأثير (2/ 84).
وفي النسخ الثلاث الأخرى: “الكنف”.
(3) في الأصل سقطت الواو من “والخبز”، واستدركتها من النسخ الثلاث.
(4) في النسخ الثلاث زيادة: “بيوتكم” وليست في الأصل ولا مصادر الحديث.
(5) “زوائد الزهد” رقم (137).
وروى الحديث من طرق أخرى: أحمد في “المسند” (3/ 487)، وابن أبي عاصم في “الآحاد والمثاني” رقم (1434)، وابن حبان في “صحيحه” رقم (6684).

(1/390)


عن سعيد عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل على أهل الصفة فذكر نحوه (1).
قالوا ولو لم يكن في الغنى والمال إلا أنه فتنة، وقلّ من يسلم من إصابتها له وتأثيرها في دينه، كما قال اللَّه تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15].
وفي الترمذي من حديث كعب بن عياض قال: سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتى المال”. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (2).
قالوا: والمال والغنى يدعوان (3) إلى النار، والفقر يدعو إلى الجنة.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أنبأنا أبو الأشهب حدثنا سعيد بن أيمن مولى كعب بن سور قال: بينما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يحدّث أصحابه إذ جاء رجل من الفقراء فجلس إلى جنب رجل من الأغنياء فكأنه قبض من ثيابه عنه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أخشيت يا فلان أن يغدو غناك عليه أو أن يغدو فقره عليك؟ ” قال: يا رسول اللَّه! وشرٌّ الغنى؟ قال: “نعم إن غناك يدعوك إلى النار، وإن فقره يدعوه إلى الجنة” قال: فما ينجيني منه؟ قال: “تواسيه” قال: إذن أفعل، فقال الآخر: لا إرب لي فيه، قال: “فاستغفر وادع لأخيك” (4).
__________
(1) “الزهد” رقم (203).
(2) “جامع الترمذي” رقم (2336).
(3) في الأصل و (م) و (ب): “يدعوا”. والمثبت من (ن).
(4) “الزهد” رقم (207)، وهو مرسل.

(1/391)


قالوا: وحق الغنى أعظم من أن يقوم العبد بشكره.
وقد روى الترمذي في “جامعه” من حديث عثمان بن عفان: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجِلْف (1) الخبز والماء”. قال: هذا حديث حسن صحيح (2).
وفي “صحيح مسلم” من حديث أبي أمامة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شرّ لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى” (3).
وفي “صحيحه” أيضًا من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد قال: بينما نحن في سفر مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يضرب يمينًا وشمالًا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من كان معه فضل من ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له”. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في فضل (4).
قالوا: فهذا موضع النظر في تفضيل الغني الشاكر الذي يبذلُ الفضلَ كلّه، وأما غنيٌّ يتمتع بأنواع الفضل ويشكر بالواجب وبعض المستحب
__________
(1) الجلْف: الخبز وحده لا أُدْمَ معه، وقيل: الخبز الغليظ اليابس. ويروى بفتح اللام جمع جِلْفة، وهي الكسرة من الخبر. وقال الهروي: الجلف هاهنا: الظّرف. . يريد ما يُترك فيه الخبز. انظر: “النهاية” لابن الأثير (1/ 287).
(2) “جامع الترمذي” رقم (2341).
(3) “صحيح مسلم” رقم (1036).
(4) “صحيح مسلم” (1728).

(1/392)


فكيف يفضل على فقير صابر راضٍ عن اللَّه في فقره؟!
قالوا: وقد أقسم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأصحابه وهم أئمة الشاكرين، أنه لا يخاف عليهم الفقر، وإنما يخاف عليهم الغنى، ففي “الصحيحين” من حديث عمرو بن عوف وكان شهد بدرًا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هو صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فلما صلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين رآهم، ثم قال: “أظنكم (1) سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين” فقالوا: أجل يا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال: “فأبشروا وأمّلوا ما يسركم فواللَّه ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بسُطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم” (2).
وقال الإمام أحمد حدثنا روح حدثنا هشام عن الحسن قال: قيل لأبي ثعلبة الخشني: أين دنياكم التي كنتم تعدّون يا أصحاب محمد؟ قال: “ليبشر الآخر بدنيا قد أظلّت تأكل -واللَّه الذي لا إله إلا هو- الإيمان، كما تأكل النار الحطب الجزل” (3).
__________
(1) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث.
(2) “صحيح البخاري” رقم (3158)، و”صحيح مسلم” رقم (2961).
(3) لم أقف عليه.
وقد ذكر في معناه حديث لا أصل له، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب”. انظر: “إحياء علوم الدين” (3/ 178).
وقال العراقي في تخريجه: لم أجد له أصلًا. =

(1/393)


وقال أحمد: حدثنا يزيد حدثنا هشام بن حسان قال: سمعت الحسن يقول: “واللَّه ما أحد من الناس بسط اللَّه له دنيا فلم يخف أن يكون قد مَكَر به فيها، إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه، [وما أمسكها اللَّه عن عبد فلم يظن أنه قد خِيْر له فيها، إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه] (1) ” (2).
قالوا: وقد مر على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقير وغني فقال عن الفقير: “هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا” (3).
فروى البخاري في “صحيحه” عن سهل بن سعد قال: مرّ رجل على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: “ما تقولون في مثل هذا؟ ” قالوا: حريٌّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع يشفّع، وإن قال أن يسمع، قال: ثم سكت، فمرّ رجل من فقراء المسلمين فقال: “ما تقولون في هذا؟ ” قالوا: حريٌّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفّع، وإن قال أن لا يسمع، فقال رسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: “هذا خير من ملء الأرض مثل هذا” (4).
وقد بشّر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- [الفقراء الصابرين] (5) بما لم يبشّر به الأغنياء.
__________
= والجزل من الحطب: الغليظ القوي. انظر: “النهاية” لابن الأثير (1/ 270).
(1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الأخرى.
(2) “الزهد” رقم (200). ورواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (42).
(3) هو الحديث الآتي.
(4) “صحيح البخاري” رقم (5091).
(5) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الأخرى.

(1/394)


ففي الترمذي من حديث فضالة بن عبيد أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا صلّى بالناس يخرّ رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة وهم أصحاب الصفة، حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين. فإذا صلّى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- انصرف إليهم وقال: “لو تعلمون ما لكم عند اللَّه لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة”. قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (1).
وبشّرهم بسبقهم إلى الجنة، وقد اختلفت الروايات في مدة هذا السبق.
ففي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو: أنه جاءه ثلاثة نفر فقالوا: يا أبا محمد واللَّه ما نقدر على شيء: لا نفقة ولا دابة ولا متاع، فقال لهم: ما شئتم، إن شئتم رفعتم إلينا فأعطيناكم ما يسرّكم (2)، وإن شئتم ذكرنا أمركم للسلطان، وإن شئتم صبرتم فإني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة بأربعين خريفًا”. قالوا: نصبر، لا نسأل شيئًا (3).
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام” قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (4).
__________
(1) “جامع الترمذي” رقم (2368)، وقال: “حديث حسن صحيح”.
(2) في صحيح مسلم: “ما يسّر اللَّه لكم”.
(3) “صحيح مسلم” رقم (2979).
(4) “مسند أحمد” (2/ 343)، و”جامع الترمذي” رقم (2354).
ورواه ابن ماجه أيضًا رقم (4122).

(1/395)


وفي الترمذي أيضًا من حديث أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “فقراء المهاجرين يدخلون الجنّة قبل أغنيائهم بخمسمائة سنة” (1). وهو حديث حسن.
وفيه أيضًا من حديث جابر بن عبد اللَّه عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفًا” (2). وهو حديث حسن.
وهذا موافق لحديث عبد اللَّه بن عمرو، ولحديث أنس الذي في الترمذي أيضًا: “إن المساكين يدخلون قبل الأغنياء بأربعين خريفًا” (3).
فهؤلاء ثلاثة: جابر وأنس وعبد اللَّه بن عمرو وقد اتفقوا على الأربعين.
وهذا أبو هريرة وأبو سعيد قد اتفقا على التقدير بخمسمائة سنة.
ولا تعارض بين هذه الأحاديث إذ السبق والتأخير درجات بحسب الفقر والغنى، فمنهم من يسبق بأربعين، ومنهم من يسبق بخمسمائة، ولا يتقيد السبق بهذا المقدار بل يزيد عليه وينقص.
وقد روى أبو داود في “سننه” من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن أول الأمة دخولًا الجنة أبو بكر الصديق” (4).
__________
(1) “جامع الترمذي” رقم (2351)، وقال: “حديث حسن غريب من هذا الوجه”.
(2) “جامع الترمذي” رقم (2355)، وقال: “حديث حسن”. وقد تقدمت هذه الأحاديث.
(3) “جامع الترمذي” رقم (2352)، وقال: “حديث غريب”.
(4) “سنن أبي داود” رقم (4652).
وصححه الحاكم فى المستدرك (3/ 73) على شرط الشيخين، ووافقه =

(1/396)


ومعلوم أن المدة التي بينه وبين إخوانه من فقراء المهاجرين لا تطول، وأنها أطول مدة بين دخوله وبين دخول آخر من يدخل الجنة.
وقد روى الإمام أحمد في “مسنده” من حديث عبد اللَّه بن عمرو عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: “هل تدرون أول من يدخل الجنة؟ ” قالوا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: “فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره، يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، تقول الملائكة: ربنا نحن ملائكتك وخزنتك وسكان سماواتك لا تدخلهم الجنة قبلنا، فيقول: عبادي لا يشركون بي شيئًا يتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته في صدره لم يستطع لها قضاء، فعند ذلك تدخل عليهم الملائكة من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار” (1).
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا دويد (2) عن سلم بن بشير عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “التقى مؤمنان على باب الجنة: مؤمن غني ومؤمن فقير كانا في الدنيا، فأُدخل الفقير الجنة وحُبس الغني ما شاء اللَّه أن يُحبس ثم أُدخل الجنة، فلقيه الفقير فيقول: أي أخي ما حبسك؟ واللَّه لقد احتبست حتى خفتُ عليك. فيقول: أي أخي، إني حُبست بعدك محبسًا فظيعًا كريهًا ما وصلت إليك حتى سال مني من العرق ما لو ورده ألف بعير كلها آكلة حمض (3)
__________
= الذهبي.
(1) “المسند” (2/ 168).
وصححه الحاكم في المستدرك (2/ 71 – 72)، ووافقه الذهبي.
(2) في الأصل: “دريد”، والتصويب من النسخ الأخرى ومن “المسند”.
(3) الحمض هو كل نبت في طعمه حموضة، وهو للإبل كالفاكهة للإنسان. انظر: =

(1/397)


لصدرت عنه رواء” (1).
وقال الطبراني في “معجمه”: حدثنا محمد بن عبد اللَّه الحضرمي وعلي بن سعيد الرازي حدثنا علي بن بهرام العطار حدثنا عبد الملك بن أبي كريمة عن الثوري عن محمد بن زيد عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وذلك خمسمائة عام” (2) فقال رجل: أمنهم أنا يا رسول اللَّه؟ قال: “إن تغدّيت رجعت على عشاء، وإذا تعشيت يبيت معك غداء؟ ” قال: نعم. قال: “لست منهم”، فقام رجل فقال: أمنهم أنا يا رسول اللَّه؟ قال: “هل سمعت ما قلنا لهذا؟ ” قال: نعم، ولستُ كذلك. قال: “هل تجد ثوبًا سترًا (3) سوى ما عليك؟ ” قال: نعم. قال: “فلست منهم”، فقام آخر فقال: أمنهم أنا يا رسول اللَّه؟ قال: “هل سمعت ما قلنا لهذين قبلك؟ ” قال: نعم. قال: “هل تجد قرضًا كلما
__________
= “النهاية” لابن الأثير (1/ 441).
(1) “مسند أحمد” (1/ 304).
قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (10/ 263 – 264): “رواه أحمد وفيه (دويد) غير منسوب، فإن كان هو الذي روى عنه سفيان فقد ذكره العجلي في كتاب “الثقات”، وإن كان غيره لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح غير سلم بن بشير وهو ثقة”.
وقال العراقي في “المغني عن حمل الأسفار” (4/ 193): “وفيه دريد [هكذا في المطبوع والصواب: دويد] غير منسوب يحتاج إلى معرفته، قال أحمد: حديثه مثله”.
(2) ساقطة من الأصل، وكتب في حاشيته: لعله: “عام”. وأثبتها من (م) و (ن). وفي (ب): “سنة”.
(3) هكذا في الأصل و (م). وفي (ن): “يسيرًا”. وفي (ب): “ستيرًا”.

(1/398)


شئت أن تستقرض؟ ” قال: نعم. قال: “فلستَ منهم”. فقام آخر فقال: أمنهم أنا يا رسول اللَّه؟ فقال: “هل سمعت ما قلت لهؤلاء؟ ” قال: نعم. قال: “تقدر أن تكتسب؟ ” قال: نعم، قال: “فلست منهم” قال: فقام خامس فقال: أنا منهم يا رسول اللَّه؟ فقال: “هل سمعت ما قلت لهؤلاء؟ ” قال: نعم. قال: “هل تمسي عن ربك راضيًا وتصبح كذلك؟ ” قال: نعم. قال: “فأنت منهم” فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن سادة المؤمنين في الجنة من إذا تغدّى لم يجد عشاء، وإذا تعشّى لم يبت عنده غداء، وإن استقرض لم يجد قرضًا, وليس له فضل كسوة إلا ما يواري به ما لا يجد منه بدًّا, ولا يقدر على أن يكتسب ما يعيشه، ويمسي عن اللَّه راضيًا ويصبح راضيًا {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69].
قال الطبراني: هذا حديث غريب من حديث سفيان الثوري عن محمد بن زيد، يقال: هو العبدي تفرّد به عبد الملك (1).
قلت: محمد بن زيد هو العبدي، وثقه قوم، وضعفه آخرون. قال الدارقطني: ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، روى له الترمذي وابن ماجه (2).
وفي هذه الطبقة محمد بن زيد الشامي يروي عن أبي سلمة بن
__________
(1) لم أقف عليه في معاجم الطبراني.
وأخرجه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (7/ 99 – 100) من طريق الطبراني به.
(2) انظر: الثقات لابن حبان رقم (10731)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/ 256)، وتهذيب التهذيب (9/ 173).

(1/399)


عبد الرحمن وهو متروك (1)، ونخاف أن يكون هذا هو، والثوري لم ينسبه، وإنما يقال: هو العبدي، فاللَّه أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن عامر العقيلي عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “عرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة: فالشهيد وعبد مملوك لم يشغله رق الدنيا عن طاعة ربه، وفقير متعفف ذو عيال. وأما أول ثلاثة يدخلون النار: فأمير متسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق اللَّه في ماله، وفقير فخور” (2).
وروى الترمذي منه ذكر الثلاثة الذين يدخلون الجنة فقط (3).
قالوا: ويكفي في فضل الفقير أن عامّة أهل الجنة الفقراء، وعامة أهل النار الأغنياء.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن السائب بن مالك عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اطّلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطّلعت
__________
(1) انظر: لسان الميزان (5/ 173).
(2) “المسند” (2/ 425).
وصححه ابن خزيمة فأخرجه في “صحيحه” برقم (2249). وقال الحاكم في المستدرك (1/ 387): “عامر بن شبيب العقيلي شيخ من أهل المدينة مستقيم الحديث، وهذا أصل في هذا الباب، تفرد به عنه يحيى بن أبي كثير، ولم يخرجاه”. ووافقه الذهبي.
(3) “جامع الترمذي” رقم (1642)، وقال: “حديث حسن”.

(1/400)


على أهل النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء” (1).
وفي صحيح البخاري عن أبي رجاء قال: جاء عمران بن حصين إلى امرأته من عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: حدثنا ما سمعت من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: إنه ليس من حديث. فلم تدعه، أو قال: فأغضبته، فقال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “نظرت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، ونظرت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء” (2).
وفي “الصحيحين” من حديث أسامة بن زيد: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء” (3).
وفي “صحيح مسلم” عن ابن عباس: “أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اطلع في النار فرأى أكثر أهلها النساء، واطلع في الجنة فرأى أكثر أهلها الفقراء” (4).
قالوا: ويكفي في فضل الفقر أن كل أحد يتمناه يوم القيامة من الأغنياء.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد اللَّه بن نمير حدثنا إسماعيل يعني ابن أبي خالد عن نفيع عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما
__________
(1) “المسند” (2/ 173).
وضعفه الألباني في “سلسلة الأحاديث الضعيفة” رقم (2800).
(2) “صحيح البخاري” رقم (3241)، وليس فيه مجيء عمران إلى امرأته وما حصل بينهما، وإنما هذا عند أحمد في “المسند” (4/ 437).
(3) “صحيح البخاري” رقم (5196)، و”صحيح مسلم” رقم (2736).
(4) “صحيح مسلم” رقم (2737).

(1/401)


من أحد يوم القيامة غني ولا فقير إلا ودّ أن ما كان أوتي في الدنيا أو من الدنيا قوتًا” (1).
قال البخاري: يتكلمون في نفيع (2). وهذا ألين ما قيل فيه.
قالوا: وقد صرح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بتفضيل الفقراء في غير حديث، فمنها: ما تقدم من حديث سهل بن سعد (3).
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن أبي ذر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يا أبا ذر ارفع بصرك فانظر أرفع رجل تراه في المسجد”، قال: فنظرت فإذا رجل جالس عليه حُلّة (4) له، قال: فقلت: هذا، فقال: “يا أبا ذر ارفع بصرك فانظر أوضع رجل تراه في المسجد” قال: فنظرت فإذا رجل ضعيف عليه أخلاق قال: قلت: هذا. قال: فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “والذي نفسي بيده لهذا أفضل عند اللَّه يوم القيامة من قراب الأرض من هذا”.
قال: وحدثنا وكيع ووافقه زائدة حدثنا الأعمش عن سليمان بن مسهر (5) عن خرشة بن الحر عن أبي ذر فذكره، وقال: “لهذا خير عند اللَّه
__________
(1) “المسند” (3/ 117).
والحديث رواه ابن ماجه في “سننه” رقم (4140).
وضعفه العراقي في “المغني عن حمل الأسفار” (3/ 205). وضعفه جدًّا الألباني في “سلسلة الأحاديث الضعيفة” برقم (4869).
(2) “الضعفاء الصغير” ص 115.
(3) تقدم ص (396)، وهو في “صحيح البخاري”.
(4) قال الخطابي في “غريب الحديث” (1/ 498): “الحلّة: ثوبان: إزار ورداء، ولا تكون حُلّة إلا وهي جديدة تُحلّ عن طيّها فتُلبس”.
(5) في الأصل: “سليمان بن يسار”. وكذا في النسخ الثلاث. والتصويب =

(1/402)


يوم القيامة من ملء الأرض مثل هذا”.
قال الإمام أحمد: وحدثنا أبو معاوية ووافقه يعلى قالا: حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن أبي ذر فذكره بنحوه (1).
قالوا: والذي يفصل بيننا في المسألة ويشفي العليل: أن الفقر يوفر أجر صاحبه ومنزلته عند اللَّه، والغني ولو شكر، فإن ما ناله في الدنيا بغناه يُحسب عليه من ثوابه يوم القيامة، وإن تناوله بأحلّ وجه، فقليل الفضل في الدنيا نقص من كثير الآخرة.
وفي “صحيح مسلم” من حديث عبد اللَّه بن عمرو أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ما من غازية تغزو في سبيل اللَّه فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم” (2).
وفي “الصحيحين” عن خبّاب بن الأرتّ قال: “هاجرنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نلتمس وجه اللَّه، فوقع أجرنا على اللَّه، فمنّا من مات لم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد (3) وترك نمرة، فكنّا إذا
__________
= من “المسند” و”الزهد” للإمام أحمد، ومن “الزهد” لوكيع.
(1) “المسند” (5/ 170)، و”الزهد” رقم (148).
ورواه وكيع في “الزهد” رقم (144)، وهناد في “الزهد” رقم (815) وغيرهم.
وصححه ابن حبان فأخرجه في “صحيحه” رقم (681).
(2) “صحيح مسلم” رقم (1906).
(3) في الأصل: “بدر”. وهو سهو، والتصويب من: (م) و (ب)، ومن مصادر التخريج.

(1/403)


غطّينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه شيئًا من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها” (1).
وفي “الصحيحين” عن قيس بن أبي (2) حازم قال: دخلنا على خباب نعوده وقد اكتوى سبع كيّات. فقال: “إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا” وذكر الحديث (3).
وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر قال: “ما يصيب عبد (4) من الدنيا شيئًا إلا انتقص من درجاته عند اللَّه وإن كان عليه كريمًا” (5).
وفي “صحيح البخاري” عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: أتي عبد الرحمن بطعام، وكان صائمًا. فقال: “قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكفن في بردة؛ إن غطّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطّي رجلاه
__________
(1) “صحيح البخاري” رقم (1276)، و”صحيح مسلم” رقم (940).
ويهدبها: أي يجنبها. انظر: “النهاية” لابن الأثير (5/ 250)
(2) ساقطة من الأصل، واستدركتها من (م) و (ن)، ومن مصادر التخريج.
(3) “صحيح البخاري” رقم (5672)، و”صحيح مسلم” رقم (2681). وليس في مسلم محلّ الشاهد.
(4) في (م) و (ن): “ما من عبد يصيب”. وفي (ب): “ما أوتي عبد”.
(5) لم أقف عليه فيما طبع من سنن سعيد.
وقد رواه البيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10676) من طريق سعيد به.
والأثر رواه أيضًا: ابن أبي شيبة في “مصنفه” رقم (34628)، وهناد في “الزهد” رقم (557)، وابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا”. رقم (311)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (1/ 306).

(1/404)


بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد له كفن إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط -أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا- وقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا. ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام” (1).
قال أبو سعيد ابن الأعرابي (2): وليس عبد الرحمن بن عوف وخباب قالا ذلك دون غيرهما، لقد قاله الأكابر من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكرهوا ما فتح اللَّه عليهم من الدنيا، وأشفقوا منه، وعلموا أن ما اختاره اللَّه لنبيه كان أفضل، وأن ما أخّروا له كان أنقص، منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبو عبيدة، وعمار بن ياسر، وسلمان، وعبد اللَّه بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وأبو هاشم بن عتبة وجماعة لم نذكرهم للاختصار.
فأما أبو بكر فحدثنا ابن أبي الدنيا حدثنا عبد الرحمن بن زبان (3) الطائي حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد الواحد بن زيد حدثني أسلم (4) عن مرة عن زيد بن أرقم قال: كنا مع أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه فدعا بشراب فأتي بماء وعسل، فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه، فسكتوا وما سكت، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أنهم لم يقدروا على مسألته، قال: ثم مسح عينيه، فقالوا: يا خليفة رسول اللَّه ما
__________
(1) “صحيح البخاري” رقم (1274)، (1275).
(2) لابن الأعرابي كتاب سماه: “تشريف الفقير على الغني”. انظر: “لسان الميزان” (5/ 28). فلعل كلامه هذا منه، واللَّه أعلم.
(3) في الأصل وسائر النسخ الثلاث: “أبان”. والتصويب من “ذم الدنيا” و”تاريخ بغداد”.
(4) في الأصل وسائر النسخ الثلاث: “سلمان”. والتصويب من مصادر التخريج.

(1/405)


أبكاك؟ فقال: كنت مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فرأيته يدفع عن نفسه شيئًا ولم أرَ معه أحدًا، فقلت: يا رسول اللَّه ما الذي تدفع عن نفسك؟ قال: “هذه الدنيا مثّلت لي، فقلت لها (1): إليك عني، ثم رجعت فقالت: إنك إن أفلتّ مني فلن يفلت مني مَنْ بعدك” (2).
وذكر ليث بن سعد عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن ابن عوف عن أبيه: أن أبا بكر قال في مرضه الذي مات فيه: “إني وليت أمركم ولست بخيركم، وكلكم وَرِمَ أنفه (3) من ذلك أن يكون هذا الأمر له، وذلك لما رأيت الدنيا قد أقبلت وأقبلت، ولما تقبل حتى يتخذوا نضائد الحرير وستور الديباج، وحتى يألم أحدُكم من الاضطجاع على الصوف كما يألم من الاضطجاع على الحسك والسعدان (4)، ثم أنتم أول ضال بالناس تصفقون بهم يمينًا وشمالًا، ما هذا الطريق؟ أخطأت إنما هو البحر أو الفجر. واللَّه لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حدٍّ، خير له من أن يخوض غمرات الدنيا” (5).
__________
(1) في الأصل: إليها، والمثبت من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب “ذم الدنيا” رقم (11)، والحاكم في “المستدرك” (4/ 309)، وابن أبي عاصم في “الزهد” رقم (187)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10518)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (1/ 30 – 31)، والخطيب في “تاريخ بغداد” (10/ 267)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (30/ 329).
وضعفه جدًّا الألباني في “سلسلة الأحاديث الضعيفة” رقم (4878).
(3) أي: امتلأ وانتفخ من ذلك غضبًا، وخصّ الأنف بالذكر لأنه موضع الأنفة والكبر. انظر: “النهاية” لابن الأثير (5/ 177).
(4) الحَسَك جمع حَسَكة، وهي: شوكة صلبة معروفة. والسّعْدان: نبتٌ ذو شوك. انظر: “النهاية” لابن الأثير (1/ 386) و (2/ 367).
(5) رواه ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (30/ 417 – 418)، وفيه: “إني وليت =

(1/406)


وذكر محمد بن عطاء بن خباب قال: كنت جالسًا مع أبي بكر فرأى طائرًا فقال: “طوبى لك يا طائر تأكل من هذه الشجر، ثم تبعر، ثم لا تكون شيئًا, وليس عليك حساب، وددت أني مكانك” فقلت له: أتقول هذا وأنت صديق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟! (1).
وأما عمر فإنه لما اُتي بكنوز كسرى بكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فواللَّه إن هذا ليوم شكر ويوم سرور ويوم فرح، فقال عمر: “إن هذا لم يعطه قوم (2) إلا أُلقي بينهم العداوة والبغضاء” (3).
ودخل عليه أبو سنان الدؤلي وعنده نفر من المهاجرين، فأرسل عمر إلى سَفَط (4) أتي به من قلعة بالعراق، وكان فيه خاتم، فأخذه
__________
= أمركم خيركم في نفسي. . . ” الخ.
وروى نحوه: الطبراني في “الكبير” رقم (43)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (1/ 34)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (30/ 421).
(1) لم أقف عليه.
وروى ابن المبارك في “الزهد” رقم (240)، وأحمد في “الزهد” رقم (581)، وابن أبي الدنيا في كتاب “المتمنين” رقم (92)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (786). عن الحسن عن أبي بكر قريبًا منه.
وروى ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (30/ 330) عن الضحاك عن أبي بكر قريبًا منه أيضًا.
(2) في الأصل: “قومًا”. والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى.
(3) رواه معمر في “الجامع” رقم (20036)، وابن المبارك في “الزهد” رقم (768)، وابن أبي شيبة: (13/ 264) وأبو داود في “الزهد” (86)، وعبد اللَّه بن أحمد في “زوائد الزهد” رقم (597)، والبيهقي في “السنن الكبرى” (6/ 358).
(4) السّفط: الذي يعبئ فيه الطيب وما أشبهه من أدوات النساء. انظر: “لسان =

(1/407)


بعض ولده فأدخله في فيه، فانتزعه عمر منه ثم بكى، فقال له مَن عنده: لم تبكي وقد فتح اللَّه لك وأظهرك وأقر عينك؟ فقال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقى اللَّه بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة” وأنا مشفق من ذلك (1).
قال أبو سعيد: وجدت في كتاب بخط يدي عن أبي داود قال: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد حدثنا يونس عن الحسن؟ أن عمر بن الخطاب أُتي بفروة كسرى بين يديه، وفي القوم سراقة بن مالك، فألقى إليه سواريْ كسرى، فجعلهما في يديه فبلغا منكبيه، فلما رآهما في يدي سراقة قال: الحمد للَّه، سوارا كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي من بني مدلج، ثم قال: “اللهم قد علمت أن رسولك قد كان يحب أن يصيب مالًا فينفقه في سبيلك وعلى عبادك، فزويت ذلك عنه نظرًا منك له وخيارًا، اللهم إني أعوذ بك أن يكون هذا مكرًا منك بعمر، ثم قال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55، 56] (2).
__________
= العرب” (7/ 351).
(1) رواه أحمد في “المسند” (1/ 16)، والبزار في مسنده “البحر الزخار” رقم (311).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 122): “رواه أحمد وأبو يعلى في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه كلام”، وقال في (10/ 236): “رواه أحمد والبزار وأبو يعلى في الكبير وإسناده حسن”.
وضعفه الألباني في “سلسلة الأحاديث الضعيفة” رقم (4871).
(2) رواه البيهقي في “السنن الكبرى” (6/ 358)، وفي “دلائل النبوة” (6/ 325)، من طريق أبي سعيد به.

(1/408)


والمقصود: أن سعة الدنيا وبسطها تعجيل من أجر الآخرة، وتضييق من سعتها.
قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري عن ابن أبي صُعير عن جابر بن عبد اللَّه قال: لما كان يوم أحد أشرف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على الشهداء الذين قُتلوا يومئذ فقال: “إني شهيد على هؤلاء فزمِّلوهم بدمائهم” (1).
قال معمر: وأخبرني من سمع الحسن يقول: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “هؤلاء قد مضوا وقد شهدت عليهم لم يأكلوا من أجورهم شيئًا، وإنكم تأكلون من أجوركم، وإني لا أدري ما تحدثون بعدي” (2).
وقال ابن المبارك: أخبرنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن يقول: خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأصحابه إلى بقيع الغرقد فقال: “السلام عليكم يا أهل القبور، لو تعلمون ما نجّاكم اللَّه مما هو كائن بعدكم”. ثم أقبل على أصحابه فقال: “هؤلاء خير منكم” فقالوا: يا رسول اللَّه إخواننا، أسلمنا كما أسلموا، وهاجرنا كما هاجروا، وجاهدنا كما جاهدوا، وأتوا على آجالهم فمضوا فيها وبقينا في آجالنا، فما يجعلهم خيرًا منا؟ فقال: “إن هؤلاء خرجوا من الدنيا ولم يأكلوا من أجورهم شيئًا، وخرجوا وأنا شهيد عليهم، وإنكم قد أكلتم من أجوركم ولا أدري ما تحدثون بعدي”. قال: فلما سمعها القوم واللَّه عقلوها
__________
(1) “المصنف” رقم (6633)، (9580).
ورواه أحمد في “المسند” (5/ 431).
وصححه الألباني في “إرواء الغليل” برقم (714).
(2) “مصنف عبد الرزاق” رقم (6634)، (9581).
وهذا سند ضعيف، لجهالة من سمع الحسن.

(1/409)


وانتفعوا بها فقالوا: وإنا لمحاسبون بما أصبنا من الدنيا بعدهم، وإنه لمنتقص به من أجورنا، فأكلوا طيبًا، وأنفقوا قصدًا، وقدّموا فضلًا (1).
وقال عبد اللَّه بن أحمد: قرأت على أبي هذا الحديث: حدثنا أسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر قال: “ما أعطي رجل من الدنيا إلا نقص من درجته، وإنه من أهل الجنة” (2).
قالوا: وقد صرح سادات الأغنياء بأنهم ابتلوا بالضرّاء فصبروا، وابتلوا بالسرّاء فلم يصبروا، قال ذلك عبد الرحمن بن عوف وغيره (3).
وكان هذا مصداقًا لما رواه مصعب بن سعد (4) عن أبيه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لأنا من فتنة السرّاء أخوف عليكم من فتنة الضرّاء، إنكم ابتليتم في فتنة الضرّاء فصبرتم، وإن الدنيا حلوة خَضِرة” (5).
__________
(1) “الزهد” لابن المبارك رقم (498).
ورواه ابن عبد البر في “الاستذكار” (5/ 111) من طريق ابن المبارك به.
ورواه عبد الرزاق في “مصنفه” رقم (6720) عن ابن جريج قال: حُدّثت أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وذكره نحوه.
(2) لم أقف عليه في الزهد. وقد سبق تخريجه ص (406).
(3) وقد سبق تخريجه ص (115).
(4) جاء الاسم في الأصل: “مصعب بن عمير بن سعد”. وهو خطأ. والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى.
(5) رواه البزار في مسنده “البحر الزخار” رقم (1168)، وأبو يعلى في “مسنده” رقم (780)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (1/ 93)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10308).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 246): “رواه أبو يعلى والبزار، وفيه رجل لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح”. وضعفه الألباني في “سلسلة الأحاديث الضعيفة” برقم (4296).

(1/410)


قالوا: وهاهنا قضيتان صادقتان بهما يتبين الفضل:
إحداهما: أن الأقلِّين هم الأكثرون يوم القيامة.
والثانية: أن الأكثرين هم الأقلون.
أما الأولى: فقد تقدم الدليل عليها بما فيه كفاية.
وأما الثانية: ففي “الصحيحين” من حديث أبي ذر قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمشي وحده ليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد قال: فجعلت أمشي في ظل القمر فالتفت فرآني فقال: “من هذا؟ ” قلت: أبو ذر جعلني اللَّه فداك. قال: “يا أبا ذر! تعالَ”. فمشيت معه ساعة فقال: “إن الأكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه اللَّه خيرًا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرًا” وذكر الحديث (1).
قالوا: ولو كان الغنى أفضل من الفقر لما حضّ اللَّه رسوله على الزهد في الدنيا والإعراض عنها، وذم الحرص عليها والرغبة فيها، بل كان ينبغي أن يحضّ عليها وعلى اكتسابها والاستكثار منها، كما حض على اكتساب الفضائل التي بها كمال العبد من العلم والعمل، فلما حضّ على الزهد فيها والتقلّل دلّ على أن الزاهدين فيها المتقلّلين منها أفضل الطائفتين.
وقد أخبر أنها لو ساوت عند اللَّه جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء (2). وأنها أهون على اللَّه من السخلة الميتة على
__________
(1) “صحيح البخاري” رقم (6443)، و”صحيح مسلم” (2/ 687 – 688) رقم (94).
(2) سبق تخريجه ص (329).

(1/411)


أهلها (1). وأن مثلها في الآخرة كمثل ما يعلق بأصبع من أدخل أصبعه في البحر (2). وأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر اللَّه وما والاه وعالم أو متعلم (3). وأنها سجن المؤمن وجنة الكافر (4).
وأمر العبد أن يكون فيها كأنه غريب أو عابر سبيل، وأن يعُدّ نفسه من أهل القبور، وإذا أصبح فلا ينتظر المساء وإذا أمسى فلا ينتظر الصباح (5).
ونهى عن اتخاذ ما يرغِّب فيها, ولعن عبد الدينار وعبد الدرهم، ودعا عليه بالتعس والانتكاس وعدم إقالة العثرة بالانتقاش (6).
وأخبر أنها خضرة حلوة، أي: تأخذ بالعيون بخضرتها وبالقلوب بحلاوتها، وأمر باتقائها والحذر منها، كما يُتقى النساء ويُحذر منهن (7).
__________
(1) سبق تخريجه ص (330).
(2) سبق تخريجه ص (330).
(3) سبق تخريجه ص (330).
(4) رواه مسلم في “صحيحه” رقم (2956) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(5) روى البخاري في “صحيحه” رقم (6416) عن عبد اللَّه بن عمر قال: “أخذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”. وكان ابن عمر يقول: “إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء”.
(6) روى البخاري أيضًا في “صحيحه” رقم (2887) عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة: إن أعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش”.
(7) روى مسلم في “صحيحه” رقم (2742) عن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إن الدنيا حُلوة خضرة، وإن اللَّه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء”.

(1/412)


وأخبر أن الحرص عليها وعلى الرياسة والشرف يفسد الدين، كإفساد الذئبين الضاريين إذا أُرسلا في زريبة غنم أو أشد إفسادًا (1).
وأخبر أنه في الدنيا كراكب استظل تحت شجرة في يوم صائف، ثم راح وتركها (2).
وهذه في الحقيقة حال سكّان الدنيا كلهم، ولكن هو -صلى اللَّه عليه وسلم- شهد هذه الحال وعمي عنها بنو الدنيا.
ومرّ بهم وهم يعالجون خُصًّا لهم قد وهى فقال: “ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك” (3).
وأمر بستر على بابه فنزع، وقال: “إنه يذكرني الدنيا” (4).
وأعلم الناس أنه ليس لأحد منهم حق في سوى بيتٍ يسكنه، وثوب يواري عورته، وقوت يقيم صلبه (5).
وأخبر أن الميت يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى
__________
(1) روى الترمذي في “جامعه” رقم (2376) من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه”. وقال: “حديث حسن صحيح”.
(2) سبق تخريجه ص (329).
(3) رواه أبو داود في “سننه” رقم (5236)، والترمذي في “جامعه” رقم (2335)، وقال: “حديث حسن صحيح”، وابن ماجه في “سننه” رقم (4160). كلهم من حديث عبد اللَّه بن عمرو. وتقدم التعريف بالخُصّ ص (390).
(4) رواه مسلم في “صحيحه” رقم (2107) من حديث عائشة أنه قال لها: “حوّلي هذا، فإني كما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا”.
(5) سبق تخريجه ص (393).

(1/413)


عمله (1).
وأخبر أن للمتخوّض فيما شاءت نفسه من مال اللَّه [بغير حق] (2) النار يوم القيامة (3).
وأقسم أنه لا يخاف الفقر على أصحابه، وإنما يخاف عليهم الدنيا، وتنافسهم فيها، وإلهاءها لهم (4).
وأخبر أنه ليس لابن آدم من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدّق فأمضى (5).
وأخبر أن حسب ابن آدم من الدنيا لقيمات يُقمن صلبه، فإن لم يقتصر عليها فثلث بطنه لطعامه، وثلثه لشرابه، وثلثه لنفسه (6).
__________
(1) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (6514)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2960) عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله”.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الثلاث.
(3) روى البخاري في “صحيحه” رقم (3118) عن خولة الأنصارية قالت: سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إن رجالًا يتخوّضون في مال اللَّه بغير حق، فلهم النار يوم القيامة”.
(4) سبق تخريجه (395).
(5) سبق تخريجه ص (393).
(6) رواه الترمذي في “جامعه” رقم (2380)، وابن ماجه في “سننه” رقم (3349). عن المقدام بن معديكرب قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطن، حسب الآدمي لقيمات يُقمن صُلبه، فإن غلبت الآدمي نفسُه، فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفَس” هذا لفظ ابن ماجه. وقال =

(1/414)


وفي هذا الحديث الإرشاد إلى صحة القلب والبدن والدين والدنيا.
وأخبر أن غنى العبد فيها غنى نفسه لا كثرة عرضه (1).
وسأل اللَّه أن يجعل رزقه فيها قوتًا (2).
وغبط من كان رزقه فيها كفافًا بعد أن هدي للإسلام (3).
وأخبر أن من كانت الدنيا همّه جعل اللَّه فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله، ولم يأته منها إلا ما كتب له (4).
وعرض عليه ربه تعالى أن يجعل له بطحاء مكة ذهبًا، فقال: “لا يا رب ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا، فإذا جعت تضرّعت إليك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك” (5).
__________
= الترمذي: “حديث حسن صحيح”.
(1) روى البخاري في “صحيحه” رقم (6446)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1051)، عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس”.
(2) سبق تخريجه ص (302).
(3) سبق تخريجه ص (389).
(4) روى الترمذي في “جامعه” رقم (2465) عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ومن كانت الدنيا همه جعل اللَّه فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدّر له”.
وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” برقم (949).
ورواه ابن ماجه في “سننه” رقم (4105) من حديث زيد بن ثابت نحوه. وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” برقم (950).
(5) تقدم تخريجه ص (215) وأعاده المصنف ص (377).

(1/415)


وأعلمهم أن “من أصبح منهم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا” (1).
وأخبر أن بذل العبد ما فضل عن حاجته خير له، وإمساكه شرّ له، وأنه لا يلام على الكفاف (2).
ونهى أمّته أن ينظر أحدهم إلى من هو فوقه في الدنيا، وأمره أن ينظر إلى من هو دونه فيها (3).
وأخبر أنه لم يبقَ من الدنيا إلا بلاء وفتنة وضرب مثلها مثل ما يخرج من ابن آدم عند خلائه، وإن كان أوله طيبًا لذيذًا فهذا آخره (4).
وأخبر أن عباد اللَّه ليسوا بالمتنعمين فيها، فإن أمامهم دار النعيم، فهم لا يرضون بنعيمهم في الدنيا عوضًا من ذلك النعيم (5).
وأخبر أن نجاةَ أول هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلكة آخرها بالبخل وطول الأمل (6).
__________
(1) رواه الترمذي في “جامعه” رقم (2346) وقال: “حديث حسن غريب”، وابن ماجه في “سننه” رقم (4141)، من حديث عبيد اللَّه بن محصن الخطمي.
(2) سبق تخريجه ص (394).
(3) رواه مسلم في “صحيحه” رقم (2936) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة اللَّه”.
(4) سبق تخريجه ص (331).
(5) روى أحمد في “مسنده” (5/ 243) عن معاذ بن جبل أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما بعث به إلى اليمن قال: “إياي والتنعم، فإن عباد اللَّه ليسوا بالمتنعمين”.
وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” برقم (353).
(6) روى ابن أبي الدنيا في “قصر الأمل” رقم (20)، وفي “اليقين” رقم (3)، =

(1/416)


وكان يقول: “لبيك لا عيش إلا عيش الآخرة” (1).
وأخبر أنه إذا أحب عبده حماه من الدنيا كما يحمي الإنسان مريضه من الطعام والشراب (2).
ودخل على عثمان بن مظعون وهو في الموت، فأكبّ عليه يقبّله ويقول: “رحمك اللَّه يا عثمان ما أصبت الدنيا ولا أصابت منك” (3).
__________
= والطبراني في “الأوسط” رقم (7650)، وابن عدي في الكامل (6/ 127)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10526)، (10844)، (10846)، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد، ويهلك آخرها بالبخل والأمل”.
وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” برقم (3427).
(1) رواه أحمد في “مسنده” (3/ 216) من حديث أنس.
ورواه البخاري في “صحيحه” رقم (2961)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1805) من حديث أنس أيضًا، بلفظ: “اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة”.
ورواه أيضًا البخاري في “صحيحه” رقم (3797)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1804) من حديث سهل بن سعد به.
(2) سبق تخريجه ص (387).
(3) رواه أحمد في “الزهد” رقم (61)، وأبو نعيم في “الحلية” (1/ 105)، عن عبد ربه بن سعيد المدني مرسلًا.
ورواه ابن عبد البر في “التمهيد” (21/ 224)، والذهبي في “سير أعلام النبلاء” (5/ 481) من حديث القاسم عن عائشة قالت: “لما مات عثمان بن مظعون كشف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن وجهه وقبّل بين عينيه ثم بكى بكاء طويلًا، فلما رفع على السرير قال: طوباك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها”.
وصححه ابن عبد البر قبل روايته له في “التمهيد”، وصححه في “الاستذكار” (3/ 120).
وروى الطبراني في “الكبير” رقم (10826)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” =

(1/417)


فغبطه بذلك.
وكان يقول: “الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة في الدنيا تطيل الهم والحزن” (1).
وكان يقول: “من جعل الهموم همًّا واحدًا كفاه اللَّه (2) سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم في (3) أحوال الدنيا لم يبالِ اللَّه في أي (4) أوديته هلك” (5).
__________
= (1/ 105)، عن ابن عباس نحو حديث عائشة، وفيه: “فلقد خرجت ولم تتلبس منها بشيء”.
(1) رواه أحمد في “الزهد” رقم (51)، وابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (131)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10536) عن طاووس مرسلا.
ورواه نحوه الطبراني في “الأوسط” رقم (6120)، وابن عدي في “الكامل” (1/ 367)، وابن الجوزي في “العلل المتناهية” رقم (1343)، من حديث أبي هريرة مرفوعًا.
وقال ابن الجوزي عنه: “لا يصح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-“.
ورواه نحوه القضاعي في “مسند الشهاب” رقم (278) من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا.
وضعفه الألباني جدا في “سلسلة الأحاديث الضعيفة” تحت الحديث رقم (1291).
(2) لفظ الجلالة أثبته من النسخ الثلاث، وليس في الأصل.
(3) في الأصل: “دون”، والمثبت من النسخ الثلاث وهو الموافق لمصدر التخريج.
(4) ساقطة من الأصل، وأثبتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(5) رواه ابن أبي شيبة: (13/ 221)، وابن ماجه في “سننه” رقم (257)، (4106)، وغيرهم من حديث عبد اللَّه بن مسعود.
وضعف إسناده البوصيري في “مصباح الزجاجة” (1/ 38). ورواه الحاكم في “المستدرك” (2/ 443) من حديث عبد اللَّه بن عمر وصححه، ووافقه =

(1/418)


وأخبر أنه: “يؤتى يوم القيامة بأنعم الناس كان في الدنيا، فيقول عز وجل: اصبغوه في النار صبغة. فيصبغونه صبغة، ثم يؤتى به فيقول: يا ابن آدم هل أصبت نعيمًا قطّ؟ هل رأيت قرّة عين قطّ؟ هل أصبت سرورًا قط؟ فيقول: لا وعزتك. ثم يقول: ردّوه إلى النار. ثم يُؤتى بأشد الناس كان بلاء في الدنيا وأجهده جهدًا، فيقول تبارك وتعالى: اصبغوه في الجنة صبغة. فيُصبغ فيها، ثم يُؤتى به فيقول: يا ابن آدم هل رأيت ما تكره قطّ؟ فيقول: لا، وعزتك ما رأيت شيئًا قط أكرهه” (1).
وفي حديث مناجاة موسى الذي رواه الإمام أحمد في كتاب “الزهد”: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل حدثنا عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه فذكره وفيه: “ولا تعجبكما زينته ولا ما مُتع به ولا تمدان إلى ذلك أعينكما، فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين، وإني لو شئت أن أزينكما بزينة يَعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت، ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديمًا ما خرت لهم في ذلك، فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة، وإني لأجنبهم سكونها (2) وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة، وما ذاك لهوانهم على ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تَكْلِمْه الدنيا ولم يطغه الهوى، واعلم أنه لم يتزيّن لي العباد بزينة هي أبلغ من الزهد في
__________
= الذهبي.
(1) رواه مسلم في “صحيحه” رقم (2807)، من حديث أنس بن مالك نحوه.
(2) في النسخ الثلاث الأخرى: “سلوتها”. وهي محتملة.

(1/419)


الدنيا؛ فإنها زينة المتقين، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك أوليائي حقًّا، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلّل لهم قلبك ولسانك”، وذكر الحديث (1).
وقال أحمد: حدثنا غوث بن جابر قال: سمعت محمد بن داود عن أبيه عن وهب قال: “قال الحواريون: يا عيسى، من أولياء اللَّه الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون؟ ” قال: “الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس (2) إلى ظاهرها، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم، وتركوا ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالًا، وذكرهم إياها فواتًا، وفرحهم بما أصابوا منها حزنًا، فما عارضهم من نائلها رفضوه، وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه، خَلِقت الدنيا عندهم فليسوا [يجددونها، وخربت بينهم فليسوا] (3) يعمّرونها، وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا فيها هم الفرحين، ونظروا إلى أهلها صرعى قد حلت بهم المثلات فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون اللَّه ويحبون ذكره، ويستضيئون بنوره ويضيئون به، لهم خبر عجيب،
__________
(1) “الزهد” للإمام أحمد رقم (342).
ورواه أيضًا: أحمد في “الزهد” رقم (341)، وابن أبي الدنيا في “التواضع والخمول” رقم (9)، وفي “الأولياء” رقم (115)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (1/ 10 – 12)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (61/ 60).
(2) في الأصل: “حين نظروا”. والمثبت من النسخ الأخرى ومن مصادر التخريج.
(3) ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/420)


وعندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب وبه علموا، ليسوا يرون نائلًا مع ما نالوا، ولا أمانًا دون ما يرجون، ولا خوفًا دون ما يحذرون” (1).
وحدثنا روح حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: قيل لعيسى ابن مريم: يا رسول اللَّه، لو اتخذت حمارًا تركبه لحاجتك، قال: “أنا أكرم على اللَّه من أن يجعل لي شيئًا يشغلني به” (2).
وقال: “اجعلوا كنوزكم في السماء، فإن قلب المرء عند كنزه” (3).
وقال: “اتقوا فضول الدنيا، فإن فضول الدنيا عند اللَّه رجز” (4).
وقال: “يا بني إسرائيل اجعلوا بيوتكم كمنازل الأضياف، فما لكم
__________
(1) “الزهد” رقم (339).
ورواه أيضًا: ابن أبي الدنيا في “الأولياء” رقم (18)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (1/ 10)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (47/ 466).
(2) “الزهد” رقم (309).
ورواه أيضًا: ابن أبي شيبة في “مصنفه” رقم (34235)، وابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (130)، وهناد في “الزهد” رقم (583)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (47/ 418).
(3) رواه أحمد في “الزهد” رقم (313)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (47/ 456).
(4) رواه ابن المبارك في “الزهد” رقم (848)، وهناد في “الزهد” رقم (581)، وابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (215)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (47/ 444 – 445).
ورواه ابن أبي الدنيا في “القناعة والعفاف” رقم (173)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (47/ 444)، بلفظ: “وإياكم وفضول الدنيا. . . “.

(1/421)


في العالم من منزل، إن أنتم إلا عابرو سبيل” (1).
وقال: “يا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبني على موج البحر دارًا؟ قالوا: يا روح اللَّه ومن يقدر على ذلك؟ قال: إياكم والدنيا فلا تتخذوها قرارًا” (2).
وقال: “أكل خبز البر، وشرب ماء العذب، ونوم على المزابل مع الكلاب، كثير لمن يريد أن يرث الفردوس” (3).
قال أحمد: وحدثنا ابن نمير (4) عن الأعمش عن خيثمة قال: قال المسيح: “بشدة ما يدخل الغني الجنة” (5).
وقال المسيح: “حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، ومرارة الدنيا حلاوة الآخرة” (6).
وقال: “يا بني إسرائيل تهاونوا بالدنيا تهن عليكم، وأهينوا الدنيا
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (34242)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (47/ 426). ووقع في الأصل: “عابري”.
(2) سبق تخريجه ص (331).
(3) سبق تخريجه ص (331).
(4) في النسخ الثلاث الأخرى: “وحدثنا بهز”. مكان: “وحدثنا ابن نمير”.
(5) لم أقف عليه بهذا الإسناد، وهذا اللفظ. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه رقم (34237)، وعنه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (4/ 119)، من طريق الأعمش به قال: “ما يدخل الجنة غني”.
وأخرجه أحمد في “الزهد” رقم (476)، عن وهب أن عيسى عليه السلام قال: “بحق أقول لكم: إن أكناف السماء لخالية من الأغنياء، ولدخول جمل في سم الخياط أيسر من دخول غني الجنة”.
(6) سبق تخريجه ص (330 – 331).

(1/422)


تكرم عليكم الآخرة، ولا تكرموا الدنيا تهن عليكم الآخرة، فإن الدنيا ليست بأهل الكرامة، وكل يوم تدعو إلى الفتنة والخسارة” (1).
وقال إسحاق بن هانئ في “مسائله”: قال أبو عبد اللَّه -وأنا أخرج من داره-: قال الحسن: “أهينوا الدنيا فواللَّه لأهنأ ما تكون حين تهان” (2).
وقال الحسن: “واللَّه ما أبالي شرّقت أم غرّبت” (3).
قال: وقال لي أبو عبد اللَّه: “يا إسحاق ما أهون الدنيا على اللَّه عز وجل” (4).
وقال: “الدنيا قليلها يجزي وكثيرها لا يجزي” (5).
قالوا: وقد تواتر عن السلف: أن حب الدنيا رأس الخطايا وأصلها (6)
__________
(1) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في “زوائد الزهد” -كما في “الدر المنثور” (2/ 205)، و”كشف الخفاء” (2/ 291) -، ولم أقف عليه في المطبوع من “الزهد”.
(2) “مسائل ابن هانئ” (2/ 181).
ورواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (314)، (489) عن الحسن.
(3) “مسائل ابن هانئ” (2/ 181).
(4) “مسائل ابن هانئ” (2/ 180).
(5) انظر: “طبقات الحنابلة” (1/ 10).
(6) هو مروي عن مالك بن دينار كما في “ذم الدنيا” لابن أبي الدنيا رقم (416).
وعن سعد بن مسعود التجيبي كما في “تاريخ دمشق” لابن عساكر (20/ 402). وقال شيخ الإسلام: هذا معروف عن جندب بن عبد اللَّه البجلي رضي اللَّه عنه. انظر “الفتاوى”: (18/ 123).

(1/423)


وقد روي فيه حديث مرفوع لا يثبت (1)، ولكنه يروى عن المسيح:
قال عبد اللَّه بن أحمد: حدثنا عبيد اللَّه بن عمر القواريري حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن بديل بن ميسرة قال حدثني جعفر بن جرفاس: أن عيسى ابن مريم قال: “رأس الخطيئة حب الدنيا، والنساء حبالة الشيطان، والخمر جماع كل شر” (2).
وقال الإمام أحمد: حدثنا عمر بن سعد أبو داود الحفري عن سفيان قال: كان عيسى بن مريم يقول: “حب الدنيا أصل كل خطيئة، والمال فيه داء كبير”، قالوا: وما داؤه؟ قال: “لا يسلم صاحبه (3) من الفخر والخيلاء”، قالوا: فإن سلم؟ قال: “يشغله إصلاحه عن ذكر اللَّه عز وجل (4) “.
قالوا: وذلك معلوم بالتجربة والمشاهدة؛ فإن حبّها يدعو إلى كل خطيئة ظاهرة وباطنة، ولا سيما خطيئة يتوقف تحصيلها عليها، فيُسكِر
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (9)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10501) عن الحسن مرفوعًا. وقال البيهقي: لا أصل له من حديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال ابن تيمية: ليس له إسناد معروف. “الفتاوى”: (18/ 123).
وحكم عليه الألباني بالوضع في “سلسلة الأحاديث الضعيفة” برقم (1226).
(2) “الزهد” رقم (474)، وهو من زوائد عبد اللَّه بن أحمد.
(3) زيادة من الزهد، وليست في الأصل.
(4) “الزهد” رقم (475).
ورواه ابن أبي الدنيا في “الزهد”: (43) وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (6/ 388)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10458) وفي “الزهد”: (134)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (47/ 429).

(1/424)


عاشقَها حبُّها عن علمه بتلك الخطيئة وقبحها وعن كراهتها واجتنابها، وحبها يوقع في الشبهات ثم في المكروهات ثم في المحرمات، وطالما أوقع في الكفر.
بل جميع الأمم المكذبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدنيا، فإن الرسل لما نهوهم عن الشرك والمعاصي التي كانوا يكتسبون بهما الدنيا، حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم، فكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا.
ولا تنسَ خطيئة الأبوين قديمًا، فإنما كان سببها حب الخلود في الدنيا.
ولا تنسَ ذنب إبليس، وسببه حب الرياسة التي محبتها شرٌّ من محبة الدنيا.
وبسببها كفر فرعون وهامان وجنودهما وأبو جهل وقومه واليهود.
فحب الدنيا والرياسة [هو الذي عمر النار بأهلها، والزهد في الدنيا والرياسة هو الذي عمر الجنة بأهلها. والسكر بحب الدنيا] (1) أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير، وصاحب هذا السكر لا يفيق منه إلا في ظلمة اللحد، ولو انكشف عنه غطاؤه في الدنيا لعلم ما كان فيه من السكر وأنه أشد من سكر الخمر، والدنيا تسحر العقول أعظم سحر.
قال الإمام أحمد: حدثنا سيار حدثنا جعفر سمعت مالك بن دينار يقول: “اتقو السحّارة، فإنها تسحر قلوب العلماء” (2).
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبته من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) “الزهد” ص: 259 طبعة محمد عبد السلام شاهين.
ورواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (39)، وأبو نعيم في “حلية =

(1/425)


وقال يحيى بن معاذ الرازي: “الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها فلا يفيق إلا في عسكر الموتى نادمًا (1) بين الخاسرين” (2).
وأقل ما في حبها أنه يُلهي عن حب اللَّه وذكره، ومن ألهاه ماله عن ذكر اللَّه فهو من الخاسرين. وإذا لهى القلب عن ذكر اللَّه سكنه الشيطان وصرفه حيث أراد، ومن فقهه في الشرّ أنه يرضيه ببعض أعمال الخير ليريه أنه يعمل فيها الخير وقد تعبد لها قلبه، فأين يقع ما يفعله من البر مع تعبده لها وقد لعنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ودعا عليه فقال: “لُعِنَ عبد الدينار والدرهم” (3)؟!
وقال: “تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، إن أعطي رضي، وإن منع سخط” (4). وهذا تفسير منه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبيان لعبوديتها.
وقد عُرضت الدنيا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بحذافيرها، وتعرضت له فدفع في صدرها باليدين، وردّها على عقبيها.
ثم عرضت بعده على أصحابه وتعرضت لهم، فمنهم من سلك سبيله ودفعها عنه وهم القليل، ومنهم من استعرضها وقال: ما فيك؟
__________
= الأولياء” (2/ 364) و (6/ 287).
(1) في الأصل: “نادمين”. والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) لم أجده مسندا.
وذكره عنه: ابن الجوزي في “صفوة الصفوة” (4/ 98)، والثعالبي في “ثمار القلوب” ص 77.
(3) رواه الترمذي في “جامعه” رقم (2375)، من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وقال: “حديث حسن غريب من هذا الوجه”.
(4) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (2887) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

(1/426)


قالت: فيَّ الحلال والشبهة والمكروه والحرام، فقالوا: هاتِ حلالك ولا حاجة لنا فيما عداه فأخذوا حلالها.
ثم تعرضت لمن بعدهم فطلبوا حلالها وحده فقالت: قد ذهب به من قبلكم. فأخذوا مكروهها وشبهها.
ثم تعرضت لمن بعدهم فطلبوا حلالها فلم يجدوه، فطلبوا شُبَهَهَا ومكروهها، فقالت: قد أخذه من كان من قبلكم، قالوا: فهاتِ حرامك فأخذوه. فطلبه من بعدهم، فقالت: هو في أيدي الظلمة، قد استأثروا به عليكم، فتحيلوا على تحصيله منهم بالرغبة والرهبة، فلا يمد فاجر يده إلى شيء من الحرام إلا وجد أفجر منه وأقوى قد سبقه إليه.
هذا وكلهم ضيوف وما بأيديهم عارية، كما قال ابن مسعود: “ما أصبح أحد في الدنيا إلا ضيف وماله عارية، فالضيف مرتحل، والعارية مؤداة” (1).
قالوا: وإنما كان حب الدنيا رأس الخطايا، ومفسدًا للدين من وجوه:
أحدها: أن حبها يقتضي تعظيمها، وهي حقيرة عند اللَّه، ومن أظهر (2) الذنوب تعظيم ما حقّر اللَّه.
وثانيها: أن اللَّه تعالى لعنها ومقتها وأبغضها إلا ما كان له فيها، ومن
__________
(1) رواه أحمد في “الزهد” رقم (906)، وابن أبي شيبة في “مصنفه” رقم (34557)، وابن أبي الدنيا في “قصر الأمل” رقم (173)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (1/ 134)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10644).
(2) في النسخ الثلاث الأخرى: “أكبر”.

(1/427)


أحب ما لعنه اللَّه ومقته وأبغضه فقد تعرّض للفتنة ومقته وغضبه.
وثالثها: أنه إذا أحبّها صيّرها غايته وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها اللَّه وسائل إليه وإلى الدار الآخرة، فعكس الأمر، وقلب الحكمة فانتكس قلبُه، وانعكس سيره إلى وراء.
فهاهنا أمران:
أحدهما: جعل الوسيلة غاية.
والثاني: التوسّل بأعمال الآخرة إلى الدنيا.
وهذا شرٌّ معكوس من كل وجه، وقلب منكوس غاية الانتكاس، وهذا هو الذي انطبق عليه (1) قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: 15، 16]، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)} [الإسراء: 18]، وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)} [الشورى: 20].
فهذه ثلاث آيات يشبه بعضها بعضًا، وتدل على معنى واحد، وهو: أن من أراد بعمله الدنيا وزينتها دون اللَّه والدار الآخرة، فحظه ما أراد وهو نصيبه ليس له نصيب غيره، والأحاديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مطابقة لذلك مفسرة له، كحديث أبي هريرة في الثلاثة الذين أول ما تسعّر بهم
__________
(1) بعد هذه الكلمة في النسخ الثلاث: “حذو القذة بالقذة”.

(1/428)


النار: المغازي، والمتصدق، والقارئ، الذين أرادوا بذلك الدنيا. وهو في “صحيح مسلم” (1).
وفي “سنن النسائي” عن أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه رجل غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا شيء له”، فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا شيء له”، ثم قال: “إن اللَّه تعالى لا يقبل إلّا ما كان خالصًا وابتُغي به وجهه” (2).
فهذا قد بطل أجره وحبط عمله مع أنه قصد حصول الأجر؛ لما ضم إليه قصد الذكر بين الناس، فلم يخلص عمله للَّه فبطل كله.
وفي “مسند الإمام أحمد” عن أبي هريرة أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه الرجل يريد الجهاد في سبيل اللَّه وهو يبتغي عرض الدنيا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا أجر له” فأَعظَمَ الناسُ ذلك، وقالوا للرجل: عُد لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعله لم يفهم، فعاد فقال: يا رسول اللَّه الرجل يريد الجهاد في سبيل اللَّه وهو يبتغي عرض الدنيا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا أجر له” ثم أعاد الثالثة فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا أجر له” (3).
__________
(1) “صحيح مسلم” رقم (1905) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2) “سنن النسائي” رقم (3140).
وحسنه العراقي في “المغني عن حمل الأسفار” (4/ 325). والألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” برقم (52).
(3) “المسند” (2/ 290).
ورواه أبو داود في “سننه” رقم (2516).
وصححه ابن حبان حيث أخرجه في “صحيحه” برقم (4637)، وصححه =

(1/429)


وفي “المسند” أيضًا و”سنن النسائي” عن عبادة بن الصامت أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “من غزا في سبيل اللَّه عز وجل وهو لا ينوي في غزاته إلا عقالًا فله ما نوى” (1).
وفي “المسند” و”السنن” عن يعلي بن منية قال: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعثني في سرايا فبعثني ذات يوم في سرية، وكان رجلًا يركب بغلًا، فقلت له: ارحل، فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد بعثني في سرية، فقال: ما أنا بخارج معك حتى تجعل لي ثلاثة دنانير، ففعلت، فلما رجعت من غزاتي ذكرت ذلك لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ليس له من غزاته هذه ومن دنياه وآخرته إلا ثلاثة دنانير” (2).
وفي “سنن أبي داود” أن عبد اللَّه بن عمرو قال: يا رسول اللَّه أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: “يا عبد اللَّه بن عمرو إن قاتلت صابرًا محتسبًا بعثك اللَّه صابرًا محتسبًا، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا بعثك اللَّه مرائيًا مكاثرًا، يا عبد اللَّه بن عمرو على أي حال قاتلت أو قُتلت بعثك اللَّه على تلك
__________
= الحاكم في “المستدرك” (2/ 85)، ووافقه الذهبي.
(1) “المسند” (5/ 315)، و”سنن النسائي” رقم (3138).
وصححه ابن حبان حيث أخرجه في “صحيحه” برقم (4638)، وصححه الحاكم في “المستدرك” (2/ 109)، ووافقه الذهبي.
(2) “المسند” (4/ 223)، و”سنن أبي داود” رقم (2527).
وصححه الحاكم في “المستدرك” (2/ 112) على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
وإنما جعل يعلى هذه الدنانير للرجل, لأنه أراده أجيرًا يكفيه ويُجري له سهمه، فأبى ذلك الرجل إلا أن يسمي له يعلى أجرًا محددًا ورفض السهم، كما جاء ذلك موضّحًا في سياق أبي داود.

(1/430)


الحال” (1).
وفي “المسند” و”السنن” عن أبي أيوب قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “إنها ستفتح عليكم الأمصار، وتضربون فيها بعوثًا، فيكره الرجل منكم البعث، فيخلص من قومه، ويعرض نفسه على القبائل يقول: من أكفيه بعث كذا وكذا؟ ألا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه” (2).
فانظر محبة الدنيا ماذا حرمت هذا الجاهل (3) المجاهد من الأجر، وأفسدت عليه عمله، وجعلته أول الداخلين إلى النار.

فصل
ورابعها: أن محبتها تعترض (4) بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة لاشتغاله عنه بمحبوبه.
والناس هاهنا مراتب:
فمنهم: من يشغله محبوبه عن الإيمان وشرائعه.
__________
(1) “سنن أبي داود” رقم (2519).
وصححه الحاكم في “المستدرك” (2/ 85 – 86)، ووافقه الذهبي.
(2) “المسند” (5/ 413)، و”سنن أبي داود” رقم (2525).
والراوي عن أبي أيوب هذا الحديث هو ابن أخيه، قال عنه الترمذي في “جامعه” بعد الحديث رقم (2544): “وأبو سورة هو: ابن أخي أبي أيوب، يُضعّف في الحديث؛ ضعفه يحيى بن معين جدًّا. وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: أبو سورة هذا منكر الحديث، يروي مناكير عن أبي أيوب لا يتابع عليها”. وانظر “تهذيب التهذيب” لابن حجر (12/ 124).
(3) هذه الكلمة محتملة في الأصل لأن تكون: “الجاهر”، واللَّه أعلم.
(4) الأصل: “تعرض”.

(1/431)


ومنهم: من يشغله عن الوجبات التي تجب عليه للَّه ولخلقه، فلا يقوم بها ظاهرًا ولا باطنًا.
ومنهم: من يشغله حبها عن كثير من الواجبات.
ومنهم: من يشغله عن واجب يعارض تحصيلها وإن قام بغيره.
ومنهم: من يشغله عن القيام بالواجب في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، فيفرّط في وقته وفي حقوقه.
ومنهم: من يشغله عن عبودية قلبه في الواجب وتفريغه للَّه عند أدائه، فيؤديه ظاهرًا لا باطنًا، وأين هذا في عشاق الدنيا ومحبيها؟! هذا من أندرهم.
وأقل درجات حبها أن يشغل عن أعظم سعادة العبد، وهو تفريغ قلبه لحب اللَّه، ولسانه لذكره، وجمع قلبه على لسانه، ولسانه وقلبه (1) على ربه.
فعشقها ومحبتها تضرّ بالآخرة ولا بد، كما أن محبة الآخرة تضرّ بالدنيا، وفي هذا حديث قد روي مرفوعًا: “من أحب دنياه أضرّ بآخرته، [ومن أحب آخرته أضرّ بدنياه] (2)، فآثروا ما يبقى على ما يفنى” (3).
__________
(1) كلمة: “وقلبه” ليست في الأصل، وإنما أثبتها من (م) و (ب).
(2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الأخرى. ووقع الأصل: “آخرته”.
(3) رواه أحمد في “المسند” (4/ 412)، والحاكم في “المستدرك” (4/ 308)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه، وصححه الحاكم، وخالفه =

(1/432)


فصل
وخامسها: أن محبتها تُجعل أكبر همّ العبد، وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من كانت الآخرة أكبر همّه جعل اللَّه غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه جعل اللَّه فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدّر له” (1).
وسادسها: أن محبّها أشد الناس عذابًا، وهو معذب في دُوره الثلاث؛ يعذّب في الدنيا بتحصيلها والسعي فيها ومنازعة أهلها، وفي دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبدًا, ولم يحصل له هناك محبوب يعوّضه عنه، فهو أشد الناس عذابًا في قبره، يعمل الهمّ والغمّ والحزن والحسرة في روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض في جسمه.
كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم حدثنا عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه: “أن حزقيل كان ممن سبى بختنصر”، فذكر عنه حديثًا طويلًا وفي آخره، قال: “فبينا أنا نائم على شطّ الفرات إذ أتاني ملك فأخذ برأسي فاحتملني حتى وضعني بقاع من الأرض، قد كانت معركة، قال: وإذا فيه عشرة آلاف قتيل قد بدّدت الطير والسباع لحومهم وفرّقت أوصالهم. قال لي: إن
__________
= الذهبي بقوله: “فيه انقطاع”.
(1) “جامع الترمذي” رقم (2465). وحسنه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” برقم (949).

(1/433)


قومًا يزعمون أنه من مات منهم أو قتل فقد انفلت مني وذهبت عنه قدرتي، فادعهم. قال حزقيل: فدعوتهم فإذا كلُّ عظم قد أقبل إلى مفصله الذي انقطع منه، ما الرجل بصاحبه بأعرف من العظم بمفصله الذي فارق، حتى أمّ بعضها بعضًا، ثم نبت عليها اللّحم ثم نبتت العروق ثم انبسطت الجلود، وأنا انظر إلى ذلك، ثم قال: ادع أرواحهم، قال: فدعوتها، فإذا كل روح قد أقبل إلى جسده الذي فارق، فلما جلسوا سألتهم: فيما كنتم؟ قالوا: إنا لما متنا وفارقنا الحياة لقينا ملك فقال: هلمّوا أعمالكم وخذوا أجوركم، كذلك سنّتنا فيكم وفيمن كان قبلكم وفيمن هو كائن بعدكم، قال: فنظر في أعمالنا فوجدنا نعبد الأوثان فسلّط الدود على أجسادنا وجعلت الأرواح تألمه، وسلّط الغمّ على أرواحنا وجعلت أجسادنا تألمه، فلم نزل كذلك نعذّب حتى دعوتنا” (1). ولا يستريح عاشق الدنيا.
فقولهم: “كنا نعبد الأوثان”، فسيان عبادة الأثمان وعبادة الأوثان؛ تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم.
والمقصود: أن محب الدنيا معذّب في قبره ومعذّب يوم لقاء ربه.
قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: 55].
قال بعض السلف: “يعذبهم بجمعِها، وتزهق أنفسهم بحبّها، وهم كافرون بمنع حق اللَّه فيها”.
__________
(1) “الزهد” رقم (425).

(1/434)


فصل
وسابعها: أن عاشقها ومحبها الذي يؤثرها على الآخرة من أسفه الخلق وأقلّهم عقلًا (1)، إذ آثر الخيال على الحقيقة، والمنام على اليقظة، والظل الزائل على النعيم الدائم، والدار الفانية على الدار الباقية، وباع حياة الأبد في أرغد عيش بحياة إنما هي
أحلامُ نومٍ أو كظلٍّ زائلٍ … إنّ اللبيبَ بمثلها لا يُخدَعُ (2)
كما نزل أعرابي بقوم فقدّموا له طعامًا فأكل، ثم قام إلى ظل خيمة فنام، فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس، فانتبه وهو يقول:
وإن امرأً دنياه أكبرُ همّه … لَمستمسكٌ منها بحبل غرورِ (3)
وكان بعض السلف يتمثل بهذا البيت:
يا أهلَ لذّاتِ دنيا لا بقاء لها … إن اغترارًا بظلّ زائل حمق (4)
__________
(1) في الأصل بعد هذه الكلمة زيادة: “ومحبها الذي يؤثرها”. وحذفها أصوب، وهو بذلك يوافق النسخ الثلاث الأخرى، واللَّه أعلم.
(2) من أربعة أبيات لعمران بن حطّان الخارجي في “روضة العقلاء” لابن حبان ص (287).
(3) نسب هذا البيت لهاتف من الهواتف في: “الهواتف” لابن أبي الدنيا رقم (88)، و”ذم الدنيا” له أيضًا رقم (26) وهو يشبه بيتًا للشويعر الحنفي -وقد أنشده له ثعلب- صدره:
وإن الذي يمسي ودنياه همّه
انظر: “المؤتلف والمختلف” للآمدي ص (210).
(4) روى ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (24)، عن الحسن بن على أنه كان كثيرًا ما ينشده.

(1/435)


قال يونس بن عبد الأعلى: “ما شبّهت الدنيا إلا كرجل نام فرأى في منامه ما يكره وما يحبّ، فبينا هو كذلك انتبه” (1).
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو على الطائي حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن ليث قال: رأى عيسى ابن مريم الدنيا في صورة عجوز عليها من كل زينة، فقال لها: كم تزوّجت؟ قالت: لا أحصيهم، قال: فكلُّهم مات عنك أو كلهم طلّقك؟ قالت: بل كلُّهم قتلتُه. فقال عيسى: “بؤسًا لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين كيف تهلكينهم واحدًا واحدًا، ولا يكونوا منك على حذر” (2).
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها … على أنهم فيها عراة وجُوَّعُ
أراها وإن كانت تُحَبّ فإنها … سحابة صيف عن قليل تَقشّعُ (3)
أشبه الأشياء بالدنيا الظلّ، تحسب له حقيقة ثابتة وتحسبه ساكنًا، وهو في تقلّص وانقباض، وتتبعه لتدركه فلا تلحقه.
وأشبه الأشياء بها السراب {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39].
وأشبه الأشياء بها المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره، فإذا
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (21)، عن يونس بن عبيد.
فلعل ما وقع هنا من نسبته ليونس بن عبد الأعلى خطأ، واللَّه أعلم.
(2) “ذم الدنيا” رقم (27).
(3) البيتان لعمران بن حطان الخارجي، انظرهما في: “ذم الدنيا” لابن أبي الدنيا رقم (190) و (240)، و”حلية الأولياء” (6/ 373 – 374)، و”تاريخ دمشق” (43/ 497).

(1/436)


استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له.
وأشبه الأشياء بها امرأة عجوز شوهاء قبيحة المنظر والمخبر، غدّارة بالأزواج، تزيّنت للخُطّاب بكل زينة، وسترت كل قبيح، فاغتر بها من لم يجاوز بصره ظاهرها، فطلب النكاح، فقالت: لا مهر إلا نقد الآخرة، فإنا ضرّتان واجتماعنا غير مأذون فيه ولا مستباح. فآثر الخاطب العاجلة وقال: ما على من واصل حبيبته من جناح، فلما كشف قناعها وحلّ إزارها إذا كل آفة وبليّة، فمنهم من طلّق واستراح، ومنهم من اختار المقام فما استتمت ليلة عرسه إلا بالعويل والصّياح، تاللَّه لقد أذّن مؤذنها على رؤوس الخلائق بحيّ على غير الفلاح، فقام المجتهدون والمصلّون لها فواصلوا في طلبها الغدوّ بالرّواح، وسروا ليلهم فلم يحمد القوم السرى عند الصباح، طاروا في صيدها فما رجع أحد منهم إلا وهو مكسور الجناح، فوقعوا في شبكتها فأسلمتهم للذّبّاح.
قال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن علي بن شقيق حدثنا إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض قال: قال ابن عباس: “يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوّه خلقها، فتشرف على الخلائق، فيُقال: تعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ باللَّه من معرفة هذه. فيُقال: هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها، بها تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثمّ تُقذف في جهنّم فتقول: يا رب أين أتباعي وأشياعي. فيقول اللَّه عز وجل: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها” (1).
__________
(1) “ذم الدنيا” رقم (123).
ورواه ابن الأعرابي في “الزهد وصفة الزاهدين” رقم (70)، والبيهقي =

(1/437)


قال ابن أبي الدنيا: وحدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا روح بن عبادة حدثنا عوف عن أبي العلاء (1) قال: “رأيت في النوم عجوزًا كبيرة عليها من كل زينة الدنيا، والناس عكوف عليها متعجّبون ينظرون إليها، فجئت فنظرت فعجبت من نظرهم إليها وإقبالهم عليها، فقلت لها: ويلك من أنت؟ قالت: أما تعرفني؟ قلت: لا، قالت: أنا الدنيا. قال: قلت: أعوذ باللَّه من شرّك. قالت: فإن أحببت أن تعاذ من شرّي فأبغض الدرهم” (2).
قال ابن أبي الدنيا: وحدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال لي أبو بكر بن عياش: رأيت الدنيا (3) عجوزًا مشوّهة شمطاء تصفّق بيديها، وخلفها خلق يتبعونها ويصفّقون ويرقصون، فلما كانت بحذائي أقبلت عليّ فقالت: لو ظفرتُ بك صنعت بك ما صنعتُ بهؤلاء. ثم بكى أبو بكر (4).
__________
= في “شعب الإيمان” رقم (10671).
(1) هو حيان بن عمير القيسي، الجُرَيْري، أبو العلاء البصري، من أوساط التابعين، توفي قبل المائة. انظر: “تقريب التهذيب” ص (281).
(2) “ذم الدنيا” رقم (28).
وهذا الأثر بعينه مروي عن العلاء بن زياد العدوي، رواه عنه: ابن أبي الدنيا في “المنامات” رقم (103)، وابن أبي شيبة في “المصنف” رقم (30518)، (35663)، وأحمد في “الزهد” رقم (1429)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (2/ 243 – 244)، والمزي في “تهذيب الكمال” (22/ 501).
(3) في النسخ الثلاث بعد هذه الكلمة: “في النوم”.
(4) “ذم الدنيا” رقم (29)، (30). ورواه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (8/ 304).

(1/438)


قال: وحدثنا محمد بن على حدثنا إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل قال: “بلغني أن رجلًا عُرج بروحه، قال: فإذا بامرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة الحليّ والثياب، وإذا هي لا يمرّ بها أحد إلا جرحته، وإذا هي أدبرت كانت أحسن شيء رآه الناس، وإذا أقبلت أقبح شيء: عجوزًا شمطاء زرقاء عمشاء، فقلت: أعوذ باللَّه. قالت: لا واللَّه، لا يُعيذك اللَّه حتى تبغض الدرهم. قال: قلت: من أنتِ؟ قالت: أنا الدنيا” (1).
ووصف عليٌّ رضي اللَّه عنه الدنيا فقال: “دارٌ من صحّ فيها أمن, ومن سقم فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن (2)، في حلالها الحساب، وفي حرامها النار” (3).
وقال ابن مسعود: “الدنيا دارُ من لا دارَ له، ومالُ من لا مالَ له، ولها يَجمع من لا عقل له (4) ” (5).
__________
(1) “ذم الدنيا” رقم (124).
(2) في الأصل: “أمن فتن”. وحَذفتُ كلمة: “أمن” ليوافق النسخ الثلاث ومصدر التخريج.
(3) رواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (18).
ورواه أيضًا في “ذم الدنيا” رقم (17)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10622)، عن على: “حلالها حساب، وحرامها النار”.
(4) “له” ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(5) رواه أحمد في “الزهد” رقم (883)، وابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (16)، وابن أبي شيبة في “المصنف” رقم (35707)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10637).
وحكم الألباني بانقطاع سنده في “سلسلة الأحاديث الضعيفة” (4/ 406). وروي مرفوعًا من حديث عائشة رضي اللَّه عنها. رواه أحمد في “المسند” =

(1/439)


وذكر ابن أبي الدنيا: أن الحسن كتب إلى عمر بن عبد العزيز: “أما بعد: فإن الدنيا دارُ ظعن ليست بدار إقامة، وإنما نزل آدم إليها عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها. لها في كل حين قتيل، تذل من أعزّها، وتفقر من جمعها. وهي كالسمّ أكلَه من لا يعرفه [ليشفيه] (1) وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحاته يحتمي قليلًا مخافة (2) ما يكره طويلًا، ويصبر على شدّة الدواء مخافة طول البلاء. فاحذر هذه الدار الغرّارة الختّالة الخدّاعة التي قد تزيّنت بخدعها وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوّفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوّة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة. فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخر بالأول (3) مزدجر، والعارف باللَّه تعالى حين أخبره عنها مدكر. فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغترّ وطغى، ونسي المعاد، فشغل فيها لبّه، حتى زلّت عنها قدمه، فعظمت ندامته، وكبرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه، وحسرات الفوت ونغصه، فذهب منها بكمده ولم يدرك ما طلب، ولم يرح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فاحذرها يا أمير المؤمنين. وأسرّ ما تكون فيها أَحْذَر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا
__________
= (6/ 71)، وابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (182)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10638).
وضعفه الألباني في “سلسلة الأحاديث الضعيفة” برقم (1933).
(1) ليست في الأصل، ولا في سائر النسخ، وأثبتها من “ذم الدنيا”.
(2) في الأصل: “ما يخافه”، بدل: “مخافة”، والمثبت من النسخ الأخرى.
(3) في الأصل: “ولا الأول بالآخر”، والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/440)


كما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، السّارّ فيها غدًا ضارٌّ، وقد وصل الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالحزن. لا يرجع منها إلى ما ولّى فأدبر، ولا يدرى ما هو آت فينتظر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد. فلو كان الخالق لها لم يخبر عنها خبرًا, ولم يضرب لها مثلًا، لكانت قد أيقظت النائم، ونبّهت الغافل، فكيف وقد جاء من اللَّه عز وجل عنها زاجر، وفيها واعظ، فما لها عند اللَّه عز وجل قدر ولا وزن، وما نظر إليها منذ خلقها. ولقد عرضت على نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- بمفاتيحها وخزائنها لا تنقصه عند اللَّه جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، كره أن يحب ما أبغض خالقُه، أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختبارًا، وبسطها لأعدائه اغترارًا، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها، ونسي ما صنع اللَّه بمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- حين شدّ الحجر من بطنه” (1).
وقال الحسن أيضًا: “ابن آدم لا تعلِّق قلبك بالدنيا، فتعلِّقه بشرّ معلَّق، قطّع حبالها، وغلّق أبوابها، حسبك يا ابن آدم منها ما يبلغك المحل” (2).
وكان يقول: “إن قومًا أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب، فأهينوها، فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها، هيهات هيهات ذهبت الدنيا، وبقيت الأعمال قلائد في الأعناق! ” (3).
__________
(1) “ذم الدنيا” رقم (293).
ورواه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (6/ 313 – 314). ورواه أبو نعيم أيضًا في (2/ 134 – 139) بأطول مما هاهنا ومع اختلاف وتقديم وتأخير.
(2) رواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (405).
(3) رواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (489).

(1/441)


وقال المسيح: “لا تتخذوا الدنيا ربًّا فتتخذكم الدنيا عبيدًا. اعبروها ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا، ورب شهوة أورثت أهلها حزنًا طويلًا. ما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا التاط قلبُه منها بثلاث: شغل لا ينفك عناؤه، وفقر لا يدرك غناؤه، وأمل لا يدرك منتهاه. الدنيا طالبة مطلوبة، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه. يا معشر الحواريين ارضوا بدنيء الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بدنيء الدين مع سلامة الدنيا” (1).
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا هارون بن عبد اللَّه حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا مالك بن دينار قال: قال أبو هريرة: “الدنيا موقوفة (2) ما بين
__________
(1) أقوال المسيح عليه الصلاة والسلام التي ساقها الإمام ابن القيم رحمه اللَّه هنا هي أقوال مفرقة، قد جمعها الإمام ابن القيم في سياق واحد، وهي كالتالي:
• قوله: “لا تتخذوا الدنيا ربًّا فتتخذكم الدنيا عبيدًا”. رواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (31).
• وقوله: “اعبروها. . . حزنًا طويلًا”. رواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (32)، (33)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (8/ 145)، (145 – 146)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (47/ 426)، (428)، (429).
• وأما قوله: “ما سكنت الدنيا. . . فيأخذ بعنقه”. فقد رواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (35)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (47/ 429).
• وأما قوله: “يا معشر الحواريين ارضوا. . . سلامة الدنيا”. فقد رواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (449)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (47/ 441).
(2) في الأصل محتملة هذه الكلمة لـ “مرقوفة”، وعلى كلّ حال فالمثبت من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/442)


السماء والأرض منذ خلقها إلى يوم يفنيها، تنادي ربها: يا رب لم تبغضني؟ فيقول: اسكتي يا لا شيء، اسكتي يا لا شيء” (1).
وقال الفضيل: “تجيء الدنيا يوم القيامة تتبختر في زينتها ونضرتها، فتقول: يا رب اجعلني لأحسن عبادك دارًا، فيقول: لا أرضاك له، أنت لا شيء فكوني هباء منثورًا” (2).
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (360).
(2) رواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (125).

(1/443)


فصل في ذكر أمثلة تبيّن حقيقة الدنيا
المثال الأول: للعبد ثلاثة أحوال:
حالة لم يكن فيها شيئًا، وهي ما قبل أن يوجد.
وحالة أخرى وهي من ساعة موته إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمد، فلنفسه وجود بعد خروجها من البدن: إما في الجنة، وإما في النار، ثم تعاد إلى بدنه فيجازى بعمله، ويسكن إحدى الدارين في خلود دائم.
ثم بين هاتين الحالتين -وهي ما قبل وجوده وما بعد موته- حالة متوسطة وهي أيام حياته في الدنيا فلينظر (1) إلى مقدار زمانها وانسبه إلى الحالتين تعلم أنه أقل من طرفة عين في مقدار عمر الدنيا.
ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها, ولم يبالِ كيف تقضت أيامه فيها في ضرّ وضيق أو سعة ورفاهية.
ولهذا لم يضع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة وقال: “ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظلّ شجرة ثم راح وتركها” (2).
وقال: “ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ فلينظر بم يرجع” (3).
__________
(1) بقية النسخ: “فانظر”.
(2) سبق تخريجه ص: (329).
(3) سبق تخريجه ص: (330).

(1/444)


وإلى هذا أشار المسيح بقوله: “الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها” (1).
وهذا مثل صحيح؛ فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة، واللحد هو الركن الثاني على آخرها، ومن الناس من قد قطع نصف القنطرة، ومنهم من قد قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبقَ له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها، وكيف ما كان فلا بد من العبور، فمن وقف يبني على القنطرة ويزيّنها بأصناف الزينة وهو يستحث العبور، فهو في غاية الجهل والحمق.

فصل
المثال الثاني: شهوات الدنيا في القلب كشهوات الأطعمة في المعدة، وسوف يجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنّتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت في المعدة غايتها. وكما أن الأطعمة كما كانت ألذّ طعمًا وأكثر دسمًا وأكثر حلاوة كان رجيعها أقذر، فكذلك كل شهوة كانت في النفس ألذّ وأقوى فالتّأذّي بها عند الموت أشد، كما أن تفجع الإنسان بمحبوبه إذا فقده يقوى بقدر محبة المحبوب.
وفي “المسند” أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للضحاك بن سفيان: “ألست تُؤتى بطعامك وقد مُلِّح وقُزِّح ثم تشرب عليه اللّبن والماء؟! ” قال: بلى، قال: “فإلامَ يصير؟ ” قال: إلى ما قد علمت. قال: “فإن اللَّه عز وجل ضرب مثل الدنيا لما يصير إليه طعام ابن آدم” (2).
__________
(1) سبق قوله: “اعبروها ولا تعمروها” قريبًا.
(2) “المسند” (3/ 452) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن =

(1/445)


وكان بعض السلف يقول لأصحابه: “انطلقوا حتى أريكم الدنيا. فيذهب بهم إلى مزبلة، فيقول: انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم” (1).

فصل
المثال الثالث لها ولأهلها في اشتغالهم بنعيمها عن الآخرة، وما يعقبهم من الحسرات.
مثَلُ أهلها في غفلتهم مَثَلُ قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملاّح بالخروج لقضاء الحاجة، وحذرهم الإبطاء وخوّفهم مرور السفينة، فتفرّقوا في نواحي الجزيرة فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خاليًا، فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمراده.
__________
= الضحاك، ولفظه: “يا ضحاك ما طعامك؟ قال: يا رسول اللَّه اللحم واللبن. قال: ثم يصير إلى ماذا؟ قال: إلى ما قد علمت. قال: فإن اللَّه تبارك وتعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلًا للدنيا”.
قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (10/ 288): “رواه أحمد والطبراني، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير علي بن زيد بن جدعان وقد وُثق”.
قال المنذري في “الترغيب والترهيب” (3/ 78): “رواه أحمد، ورواته رواة الصحيح إلا علي بن زيد بن جدعان”.
وعلي بن زيد بن جدعان، لخص الحُكْمَ فيه الحافظ في “التقريب” ص: (696) بقوله: “ضعيف”.
وقد سبق ص: (331) نحوه من حديث أبي بن كعب.
(1) رواه: ابن سعد في “الطبقات الكبرى” (6/ 82)، عن مسروق.
ورواه: ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (62)، وفي “قصر الأمل” رقم (299)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (10/ 324)، عن بشير بن كعب.

(1/446)


وتوقف بعضهم في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وأنوارها (1) العجيبة، ويسمع نغمات طيورها، ويعجبه حسن أحجارها، ثم حدّثته نفسه بفوت السفينة وسرعة مرورها وخطر ذهابها، فرجع فلم يصادف إلا مكانًا ضيقًا فجلس فيه.
وأكبّ بعضهم على تلك الحجارة المستحسنة والأزهار الفائقة فحمل منها حِمْلَه، فلما جاء لم يجد في السفينة إلا مكانًا ضيّقًا، وزاده ما حَمَلَه ضيقًا، فصار محموله ثقلًا عليه ووبالًا، ولم يقدر على نبذه، بل لم يجد من حمله بدًّا ولم يجد له في السفينة موضعًا، فحمله على عنقه وندم على أخذه فلم تنفعه الندامة، ثم ذبلت الأزهار وتغيّرت رائحتها وآذاه نتنها.
وتولّج بعضهم في تلك الغياض (2) ونسي السفينة وأبعد في نزهته، حتى إن الملّاح نادى بالناس عند دفع السفينة فلم يبلغه صوته لاشتغاله بملاهيه، فهو تارة يتناول من الثمر، وتارة يشمّ تلك الأنوار، وتارة يُعجب من حسن الأشجار، وهو على ذلك خائف من سبع يخرج عليه، غير منفك من شوك يتشبّث بثيابه ويدخل في قدميه، أو غصن يجرح بدنه، أو عوسج (3) يخرق ثيابه ويهتك عورته، أو صوت هائل يفزعه.
ثم من هؤلاء من لحق السفينة ولم يبقَ فيها موضع فمات على الساحل، ومنهم من شغله لهوه فافترسته السباع ونهشته الحيّات، ومنهم
__________
(1) الأنوار جمع نَوْر، وهو الزهر، وقيل: النّوْر الأبيض، والزهر الأصفر. انظر: “لسان العرب” (5/ 243).
(2) الغياض جمع غَيْضة، وهي الشجر الملتف. “لسان العرب” (7/ 202).
(3) العَوْسج: شجر كثير الشوك. انظر: “لسان العرب” (2/ 324).

(1/447)


من تاه فهام على وجهه حتى هلك.
فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم، وما أقبح بالعاقل أن تغرّه أحجار ونبات يصير هشيمًا قد شغل باله وعوّقه عن نجاته ولم يصحبه.

فصل
المثال الرابع لاغترار الناس بالدنيا وضعف إيمانهم بالآخرة.
قال ابن أبي الدنيا: أنبأنا إسحاق بن إسماعيل أنبأنا روح بن عبادة حدثنا هشام بن حسان عن الحسن قال: بلغني أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لأصحابه: “إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا، كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء (1)، حتى إذا لم (2) يدروا ما سلكوا منها أكثر أم ما بقي، أنفدوا الزّاد وحَسَروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة لا زاد ولا حَمُولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاءكم هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء علامَ أنتم؟ قالوا: على ما ترى، قال: أرأيتكم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر، ما تجعلون لي؟ قالوا: لا نعصيك شيئًا. قال: عهودكم ومواثيقكم باللَّه، قال: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم باللَّه لا يعصونه شيئًا، قال: فأوردهم ماء ورياضًا
__________
(1) في الأصل: “غرّاء”. والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى، وهو كذلك في مصادر التخريج.
والمفازة الغبراء هي التي لا يهتدى إلى الخروج منها. انظر: “لسان العرب” (5/ 5).
(2) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/448)


خضراء، قال: فمكث فيهم ما شاء اللَّه، ثم قال: يا هؤلاء الرحيل. قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم وإلى رياض ليست كرياضكم. قال: فقال جُلُّ القوم وهم أكثرهم: واللَّه ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده، وما نصنع بعيش خير من هذا؟! قال: وقالت طائفة وهم أقلهم: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم باللَّه لا تعصونه شيئًا، وقد صدقكم في أول حديثه، فواللَّه ليصدقنكم في آخره، قال: فراح فيمن اتبعه، وتخلف بقيتهم، فبَدَرهم عدو، فأصبحوا بين أسير وقتيل” (1).

فصل
المثال الخامس للدنيا وأهلها.
ما مثلها به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كظل شجرة، والمرء مسافر فيها إلى اللَّه، فاستظلّ في ظلّ تلك الشجرة في يوم صائف ثم راح وتركها (2).
فتأمل حسن هذا المثل ومطابقته للواقع سواء، فإنها في خضرتها كالشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئًا فشيئًا كالظلّ، والعبد مسافر إلى ربه، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف لا يحسن به أن يبني تحتها دارًا ولا يتخذها قرارًا، بل يستظلّ بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق.
__________
(1) “ذم الدنيا” رقم (88).
ورواه ابن المبارك في “الزهد” رقم (507)، والرامهرمزي في “أمثال الحديث” رقم (23).
(2) سبق تخريجه ص (329).

(1/449)


فصل
المثال السادس: تمثيله لها -صلى اللَّه عليه وسلم- بمدخل إصبعه في اليمّ (1)، فالذي يرجع به إصبعه من البحر، هو مثل الدنيا بالنسبة إلى الآخرة.
وهذا أيضًا من أحسن الأمثال؛ فإن الدنيا منقطعة فانية، ولو كانت مدتها أكثر مما هي، والآخرة أبدية لا انقطاع لها، ولا نسبة للمحصور إلى غير المحصور، بل لو فرض أن السماوات والأرض مملوءتان خردلًا، وبعد كل ألف سنة طائر ينقل خردلة فني الخردل، والآخرة لا تفنى، فنسبة الدنيا إلى الآخرة في التمثيل كنسبة خردلة واحدة إلى ذلك الخردل.
ولهذا لو أن البحر يمدّه من بعده سبعة أبحر، وأشجار الأرض كلها أقلام يكتب بها كلام اللَّه، لنفدت الأبحر والأقلام ولم تنفد كلمات اللَّه؛ لأنها لا بداية لها ولا نهاية، والأبحر والأقلام متناهية (2).
قال الإمام أحمد وغيره: “لم يزل اللَّه متكلمًا إذا شاء” (3).
وكماله المقدس مقتض لكلامه، وكماله من لوازم ذاته فلا يكون إلا كاملًا، والمتكلم أكمل ممن لا يتكلم، وهو سبحانه لا يلحقه كلال ولا تعب ولا سآمة من الكلام، وهو يخلق ويدبر خلقه بكلماته، فكلماته هي التي وُجد بها خلقه وأمره، وذلك حقيقة ملكه وربوبيته
__________
(1) سبق تخريجه ص (330).
(2) قال اللَّه تبارك تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27].
(3) انظر كلام الإمام أحمد هذا في “الرد على الزنادقة والجهمية” ص 46.

(1/450)


وإلهيته، وهو لا يكون إلا ملِكًا ربًّا لا إله إلا هو.
والمقصود: أن الدنيا نفس من أنفاس الآخرة، وساعة (1) ساعاتها.

فصل
المثال السابع: ما مثّلها به -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي سعيد الخدري قال: قام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فخطب الناس فقال: “لا واللَّه ما أخشى عليكم إلا ما يُخرج اللَّه لكم من زهرة الدنيا” فقال رجل: يا رسول اللَّه أَوَ يأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم قال: “كيف قلت؟ ” قال: يا رسول اللَّه أو يأتي الخير بالشر؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- “إن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإن مما يُنبتُ الربيع ما يقتل حبطًا أو يلمّ، إلا اكلة الخضر أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت (2) وبالت، ثم اجترّت (3) فعادت فأكلت، فمن أخذ مالًا بحقه يُبارك له فيه، ومن أخذ مالًا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع” (4).
فأخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه إنما يخاف عليهم الدنيا، وسمّاها زهرة تشبيهًا لها
__________
(1) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) ثلطت أي: ألقت ما في بطنها رقيقًا. انظر: “فتح الباري” لابن حجر (11/ 252).
(3) في الأصل: “أدبرت”. وهو تحريف.
و”اجترت” أي: استرفعت ما أدخلته في كرشها من العلف، فأعادت مضغه. انظر: “فتح الباري” (11/ 252).
(4) “صحيح البخاري” رقم (6427)، و”صحيح مسلم” رقم (1052).

(1/451)


بالزهر في طيب رائحته وحسن منظره وقلة مقامه، وأن وراءه ثمر خير (1) منه وأبقى.
وقوله: “إن مما ينبت (2) الربيع ما يقتل حبطًا أو يلمّ” هذا من أحسن التمثيل المتضمن للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والشّرَهِ (3) فيها، وذلك أن الماشية يروقها نبت الربيع، فتأكل منه بأعينها، فربما هلكت حبطًا.
و”الحَبَط” انتفاخ بطن الدّابة من الامتلاء أو من المرض، يُقال: حبط الرجل والدابة تحبط حبطًا إذا أصابه ذلك.
ولما أصاب الحارث بن مازن بن عمرو بن تميم ذلك في سفر فمات حبطًا؛ فنسب إليه الحَبَطي؛ كما يقال: السلمي.
فكذلك الشّرِه في المال يقتله شرهه وحرصه، فإن لم يقتله قارب أن يقتله، وهو قوله: “أو يلم”. وكثير من أرباب الأموال إنما قتلتهم (4) أموالهم، فإنهم شرهوا في جمعها، واحتاج إليها غيرُهم فلم يصلوا إليها إلا بقتلهم، أو ما يقاربه من إذلالهم وقهرهم.
وقوله: “إلا آكلة الخضر” هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته، مثّله بالشاة الآكلة من الخضر بمقدار حاجتها، أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها، وفي لفظ آخر: “امتدت خاصرتاها”، وإنما تمتد من امتلائها
__________
(1) كذا في الأصول، والوجه: “ثمرًا خيرًا”.
(2) في الأصل: “يقبل”، وهو تحريف.
(3) بقية النسخ: “والمسرَّة”.
(4) في (ب ون): “قتلهم”.

(1/452)


من الطعام، وثّنى الخاصرتين؛ لأنهما جانبا البطن.
وفي قوله: “استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت” ثلاث فوائد:
إحداها: أنها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته.
الثانية: أنها أعرضت عما يضرّها من الشّره في المرعى، وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاج ما أكلته وإخراجه.
الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى في بطنها (1)، فاستراحت بإخراجه ولو بقي فيها لقتلها، فكذلك جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة.
وأول الحديث مثلٌ للشّرهِ في جمع الدنيا (2) الحريص على تحصيلها، فمثاله: مثال الدّابة التي حملها شره الأكل على أن قتلها حبطًا أو ألمّ بقتلها، فإن الشّرِه الحريص إما هالك وإما قريب من الهلاك، فإن الربيع ينبت أنواع البقول والعشب، فتستكثر منه الدّابة حتى ينتفخ بطنها لما جازت (3) حدّ الاحتمال؛ فتنشقّ أمعاؤها وتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلّها ويحبسها أو يصرفها في غير حقّها.
وآخر الحديث مثل للمقتصد بآكلة الخضر الذي تنتفع الدابة بأكله، ولم يحملها شرهها وحرصها على تناولها منه فوق ما تحتمله، بل أكلت
__________
(1) في الأصل: “بطونها”، والصواب ما أثبت من غيره.
(2) في الأصل: “المال” والمثبت من غيره وهو المناسب للسياق.
(3) في النسخ الثلاث الأخرى: “جاوزت”.

(1/453)


بقدر حاجتها، وهكذا هذا أخذ ما يحتاج إليه ثم أقبل على ما ينفعه.
وضرب بول الدابة وثلطها مثلًا لإخراجه المال في حقه، حيث يكون حبسه وإمساكه مضرًّا له فنجا من وبال جمعه بأخذ قدر الحاجة منه، ونجا من وبال إمساكه بإخراجه، كما نجت الدابة من الهلاك بالبول والثلط.
وفي هذا الحديث إشارة إلى الاعتدال والتوسط بين الشره في المرعى القاتل بكثرته، والإعراض عنه وتركه بالكلية، فتهلك جوعًا.
وتضمن الخبر أيضًا إرشاد المكثر من المال إلى ما يحفظ عليه قوّته وصحته في بدنه وقلبه، وهو الإخراج منه وإنفاقه، ولا يحبسه فيضرّه حبسه، وباللَّه التوفيق.

فصل
المثال الثامن: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن سليمان بن يسار عن ميمونة قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمرو بن العاص: “الدنيا خضرة حلوة، فمن اتقى اللَّه فيها وأصلح، وإلا فهو كالآكل ولا يشبع، وبين الناس في ذلك كبعد الكوكبين: أحدهما يطلع في المشرق، والآخر يغيب في المغرب” (1).
فنبّه بخضرتها على استحسان العيون لها، وبحلاوتها على استجلاء الصدور لها، وبتلك الخضرة والحلاوة زيّنت لأهلها، وحُبّبت إليهم، لا
__________
(1) رواه أبو يعلى في “مسنده” رقم (7099)، والرامهرمزي في “الأمثال” رقم (19).
وضعفه الهيثمي في “مجمع الزوائد” (10/ 247).

(1/454)


سيّما وهم مخلوقون منها وفيها، كما قيل:
ونحن بنو الدنيا ومنها نباتُنا … وما أنت منه فهو شيء محبّب (1)
وجعل الناس فيها قسمين:
أحدهما: مصلح متقي، فهذا تقواه وإصلاحه لا يدعانه ينهمك عليها، ويشره فيها، ويأخذها من غير حلّها، ويضعها في غير حقّها. فإن لم يتقِ ويصلح صرف نهمته وقواه وحرصه إلى تحصيلها، فكان كالذي يأكل ولا يشبع.
وهذا من أحسن الأمثلة، فإن المقصود من الأكل حفظ الصحة والقوّة وذلك تابع لقدر الحاجة، وليس المقصود منه ذاته ونفسه، فمن جعله نهمته فوّتَ مقصوده ولم يشبع. ولهذا قال الإمام أحمد: “الدنيا قليلها يجزي، وكثيرها لا يجزي” (2).
وأخبر عن تفاوت الناس في المنزلتين: أعني منزلة التقوى والإصلاح، ومنزلة الأكل والشره، وأن بين الرجلين في ذلك كما بين الكوكبين الغارب في الأفق والطالع منه، وبين ذلك منازل متفاوتة.

فصل
المثال التاسع: ما تقدم من حديث المستورد بن شداد قال: كنت
__________
(1) البيت لمحمد بن وهيب الحميري. انظر: “معجم الشعراء” للمرزباني ص (357)، وانظر تخريجه ورواياته المختلفة في: “شعراء عباسيون” للسامرّائي ص (58 – 59). (ص).
(2) انظر: “طبقات الحنابلة” (1/ 10).

(1/455)


مع الركب الذين وقفوا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على السخلة الميتة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها؟ ” فقالوا: ومن هوانها ألقوها يا رسول اللَّه، قال: “فالدنيا أهون على اللَّه من هذه على أهلها”. قال الترمذي: حديث حسن صحيح (1).
فلم يقتصر -صلى اللَّه عليه وسلم- على تمثيلها بالسخلة الميتة بل جعلها أهون على اللَّه منها.
وفي “مسند الإمام أحمد” في هذا الحديث: “فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على اللَّه من هذه على أهلها” (2)؛ فأكّد ذلك بالقسم الصادق، فإذا كان مثلها عند اللَّه أهون وأحقر من سخلة ميتة على أهلها، فمحبها وعاشقها أهون على اللَّه من تلك السخلة. وكونها سخلة أهون عليهم من كونها شاة كبيرة؛ لأن تلك ربما انتفعوا بصوفها أو دبغوا جلدها، وأما ولد شاة صغير ميت ففي غاية الهوان، فاللَّه المستعان.

فصل
المثال العاشر: مثلها مثل البحر الذي لا بدّ للخلق كلهم من ركوبه، ليقطعوه إلى الساحل الذي فيه دورهم وأوطانهم ومستقرّهم، ولا يمكن قطعه إلا في سفينة النجاة، فأرسل اللَّه رسله تعرّف الأمم اتخاذ سفن النجاة، وتأمرهم بعملها وركوبها، وهي: طاعته، وطاعة رسله، وعبادته وحده، وإخلاص العمل له، والتشمير للآخرة وإرادتها والسعي لها سعيها، فنهض الموفقون وركبوا السفينة ورغبوا عن خوض البحر لما
__________
(1) سبق تخريجه ص (330).
(2) “المسند” (4/ 230).

(1/456)


علموا أنه لا يقطع خوضًا ولا سباحة.
وأما الحمقى فاستصعبوا عمل السفينة وآلاتها والركوب فيها، وقالوا: نخوض البحر فإذا عجزنا قطعناه سباحة. وهم أكثر أهل الدنيا فخاضوه، فلما عجزوا عن الخوض أخذوا في السباحة حتى أدركهم الغرق، ونجا أصحاب السفينة كما نجوا مع نوح وغرق أهل الأرض.
فتأمل هذا المثل، وحال أهل الدنيا يتبين لك مطابقته للواقع، وقد ضُرب هذا المثل للدنيا والاَخرة والقدر والأمر؛ فإن القدر بحر، والأمر فيه سفينة لا ينجو إلا من ركبها.

فصل
المثال الحادي عشر: مثالها مثل إناء مملوء عسلًا رأته الذباب، فأقبلت نحوه، فبعضها قعد على حافة الإناء، وجعل يتناول من العسل حتى أخذ حاجته ثم طار، وبعضها حمله الشره على أن رمى بنفسه في لجة الإناء ووسطه فلم يدعه انغماسه فيه أن يتهنأ به إلا قليلًا حتى هلك في وسطه.

فصل
المثال الثاني عشر: مثال حَبٍّ قد نثر على وجه الأرض، وجعلت كل حبة في فخ، وجعل حوالي ذلك الحب حبٌّ ليس في فخاخ، فجاءت الطير، فمنها من قنع بالجوانب [ولم يرم نفسه في وسط الحبّ] (1) فأخذ حاجته ومضى، ومنها من حمله الشره على اقتحام معظم الحبّ ووسطه،
__________
(1) ما بين المعقوفين ليس في الأصل، وأثبته من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/457)


فما استتم اللقاط إلا وهو يصيح من أخذة الفخ له.

فصل
المثال الثالث عشر: رجلٌ أوقد نارًا عظيمة فجعلت الفراش والجنادب (1) يرون ضوءها فيقصدونها ويتهافتون فيها، ومن له علم بحالها جعل يستضيء ويستدفئ بها من بعيد.
وقد أشار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هذا المثل بعينه في الحديث الذي (2) رواه مالك بن إسماعيل عن حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إني ممسك بحجزكم عن النار، وتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب، ويوشك أن أرسل بحجزكم” (3).
وفي لفظ آخر: “مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعلت الجنادب والفراش يتقاحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تغلبوني وتتقاحمون فيها” (4).
__________
(1) الجنادب جمع جُنْدَب وهو ضرب من الجراد. انظر: “النهاية” لابن الأثير (1/ 306).
(2) ساقطة من الأصل، وأثبتها من النسخ الأخرى.
(3) رواه البزار في مسنده “البحر الزخار” رقم (204)، وابن أبي شيبة في “مصنفه” رقم (31678)، والقضاعي في “مسند الشهاب” رقم (1128)، (1129)، (1130)، والرامهرمزي في “أمثال الحديث” رقم (14).
وصحح إسناده الهيثمي في “مجمع الزوائد” (3/ 85).
(4) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (6483)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2284)، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه نحوه.
ورواه مسلم في “صحيحه” رقم (2285) من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه نحوه.

(1/458)


وهذا المثال منطبق على أهل الدنيا المنهمكين فيها، فالرسل تدعوهم إلى الآخرة، وهم يتقاحمون في الدنيا تقاحم الفراش.

فصل
المثال الرابع عشر: مثل قوم خرجوا في سفر بأموالهم وأهلهم، فمرّوا بواد معشب كثير المياه والفواكه، فنزلوا به وضربوا خيامهم وبنوا هنالك الدّور والقصور، فمرّ بهم رجل يعرفون نصحه وصدقه وأمانته، فقال: إني رأيت بعينيّ هاتين الجيش خلف هذا الوادي وهم قاصدوكم، فاتبعوني أسلك بكم في غير (1) طريق العدو تنجوا منه، فأطاعته طائفة قليلة، فصاح فيهم: يا قوم النجاء النجاء، أُتيتم أُتيتم، وصاح السامعون له بأهليهم وأولادهم وعشائرهم فقالوا: كيف نرحل من هذا الوادي وفيه مواشينا وأموالنا ودورنا وقد استوطناه؟ فقال لهم الناصح: لينجُ كل واحد منكم بنفسه وبما خفّ عليه من متاعه، وإلا فهو مأخوذ وماله مجتاح.
فثقل على أصحاب الجد والأموال ورؤساء القوم النقلة ومفارقة ما هم فيه من النعيم والرفاهية والدعة، وقال كل أحمق: لي أسوة بالقاعدين فهم أكثر مني مالًا وأهلًا فما أصابهم أصابني معهم، ونهض الأقلون مع الناصح ففازوا بالنجاة، وصبّح الجيش أهل الوادي فقتلهم واجتاح أموالهم.
وقد أشار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هذا المثل بعينه في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي بردة عن أبي موسى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنما مثلي ومثل
__________
(1) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/459)


ما بعثني اللَّه به، كرجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبّحهم الجيش فاهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئتُ به، ومثل من عصاني وكذّب بما جئتُ به من الحق” (1).

فصل
المثال الخامس عشر رجل هيّأ دارًا وزيّنها، ووضع فيها من جميع الآلات، ودعا الناس إليها، فكلّما دخل داخل أجلسه على فراش وطيء، وقدّم إليه طبقًا من ذهب عليه لحم، ووضع بين يديه أواني مفتخرة فيها من كل ما يحتاج إليه، وأخدمه عبيده ومماليكه.
فعرف العاقل أن ذلك كله متاع صاحب الدار وملكه وعبيده، فاستمتع بتلك الآلات والضيافة مدّة مقامه في الدار، ولم يعلق قلبه بها (2)، ولا حدّث نفسه بتملكها، بل اعتمد مع صاحب الدار ما يعتمده الضيف فيجلس حيث أجلسه، ويأكل ما قدمه له، ولا يسأل عما وراء ذلك، اكتفاء منه بعلم صاحب الدار وكرمه، وما يفعله مع ضيوفه، فدخل الدار كريمًا، وتمتعّ فيها كريمًا، وفارقها كريمًا، وربُّ الدار غيرُ ذامٍّ له.
وأما الأحمق، فحدّث نفسه بسكنى الدار، وحوز تلك الآلات إلى ملكه، وتصرفه فيها بحسب شهوته وإرادته، فتخيّر المجلس لنفسه،
__________
(1) “صحيح البخاري” رقم (7283)، و”صحيح مسلم” رقم (2283).
(2) الأصل: “بهم” والمثبت من النسخ الأخرى وهو الأنسب للسياق.

(1/460)


وجعل ينقل تلك الآلات إلى مكامن في الدار يخبؤها فيها، وكلما قدم إليه ربها شيئًا أو آلة حدّث نفسه بملكه واختصاصه به عن سائر الأضياف، ورب الدار يشاهد ما يصنع، وكرمه يمنعه من إخراجه من داره، حتى إذا ظن أنه قد استبدّ بتلك الآلات وملك الدار وتصرّف فيها وفي آلاتها تَصَرُّف المالك الحقيقي، واستوطنها واتخذها دارًا له، أرسل إليه مالكُها عبيدَه فاخرجوه منها إخراجًا عنيفًا، وسلبوه كل ما هو فيه، ولم يصحبه من تلك الآلات شيء، وحصل على مقت رب الدار له وافتضاحه عنده وبين مماليكه وحشمه.
فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل، فإنه مطابق للحقيقة، واللَّه المستعان.
قال عبد اللَّه بن مسعود: “كل أحد في هذه الدنيا ضيف، وماله عارية، فالضيف مرتحل، والعارية مؤدّاة” (1).
وفي “الصحيحين” عن أنس بن مالك قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابني حتى أكون أنا أحدثه، فجاء (فقرّبت إليه) (2) عشاء، فأكل وشرب. قال: ثم تصنّعت له أحسن ما كانت تصنّع قبل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة: أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، ألَهم أن يمنعوه؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك. قال: فغضب، فقال: تركتيني حتى تلطّخت ثم أخبرتيني بابني!! فانطلق حتى
__________
(1) سبق تخريجه ص (428).
(2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/461)


أتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخبره بما كان، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “بارك اللَّه لكما في غابر ليلتكما” وذكر الحديث (1).

فصل
المثال السادس عشر: قوم سلكوا مفازة، فاصابهم العطش، فانتهوا إلى البحر وماؤه أمرّ شيء وأملحه، فلشدّة عطشهم لم يجدوا طعم مرارته وملوحته، فشربوا منه فلم يرووا، وجعلوا كلما ازدادوا شربًا ازدادوا ظمأ حتى تقطعت أعناقهم وماتوا عطشًا.
وعلم عقلاؤهم أنه مُرٌّ مالح، وأنه كلما ازداد الشارب منه زاد ظمؤه، فتباعدوا مسافة حتى وجدوا أرضًا حلوة، فحفروا فيها قليبًا، فنبع لهم ماء عذب فرات، فشربوا وعجنوا وطبخوا ونادوا إخوانهم الذين على حافة البحر: هلمّوا إلى الماء الفرات. وكان منهم المستهزئ، ومنهم المعرض الراضي بما هو فيه، وكان المجيب واحدًا بعد واحد.
وهذا المثل بعينه قد ضربه المسيح، فقال: “مثل طالب الدنيا كمثل شارب البحر، كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا حتى يقتله” (2).

فصل
المثال السابع عشر: مثل الإنسان فيها ومثل ماله وعمله وعشيرته، مثل رجل له ثلاثة (3) إخوة، فقُضي له سفر بعيد طويل لا بدّ له منه، فدعا
__________
(1) “صحيح البخاري” رقم (1301)، و”صحيح مسلم” رقم (2144) (23).
(2) رواه ابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (342)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (47/ 431).
(3) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/462)


إخوته الثلاثة، وقال: قد حضر ما ترون من هذا السفر، وأحوج ما كنت إليكم الآن.
فقال أحدهم: أنا كنت أخاك إلى هذه الحال، ومن الآن فلستُ لك بأخ ولا صاحب، وما عندي غير هذا. فقال له: لم تغنِ عنّي شيئًا.
فقال للآخر: ما عندك؟ فقال: كنت أخاك وصاحبك إلى الآن، وأنا معك حتى أجهزك إلى سفرك وتركب راحلتك، ومن هناك لستُ لك بصاحب. فقال له: أنا محتاج إلى مرافقتك في مسيري. فقال: لا سبيل لك إلى ذلك. فقال: لم تغنِ عني شيئًا.
فقال للثالث: ما عندك أنت؟ فقال: كنت صاحبك في صحّتك ومرضك، وأنا صاحبك الآن، وصاحبك إذا ركبت، وصاحبك في مسيرك، فإن سرت سرت معك، وإن نزلت نزلت معك، وإذا وصلتَ إلى بلدك كنتُ صاحبك فيها لا أفارقك أبدًا. فقال: إن كنتَ لأهون الأصحاب علي، وكنتُ أوثر عليك صاحبيك، فليتني عرفت حقك، وآثرتك عليهما.
فالأول: ماله.
والثاني: أقاربه وعشيرته.
والثالث: عمله.
وقد روي في هذا المثل بعينه حديث مرفوع لكنه لا يثبت، رواه أبو جعفر العقيلي في كتاب “الضعفاء” من حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة، وعن ابن المسيب عن عائشة مرفوعًا (1)، وهو مثل صحيح
__________
(1) “الضعفاء الكبير” (2/ 277 – 278). =

(1/463)


في نفسه مطابق للواقع.

فصل
المثال الثامن عشر، وهو من أحسن الأمثلة: ملكٌ بنى دارًا لم يرَ الراؤون ولم يسمع السامعون أحسن منها ولا أوسع ولا أجمع لكل ملاذّ النفوس، ونصب إليها طريقًا، وبعث داعيًا يدعو الناس إليها، وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زُيّنت بأنواع الزينة، وأُلبست أنواع الحليّ والحلل، وممرُّ الناسِ كلهم عليها، وجعل لها أعوانًا وخدمًا، وجعل تحت يدها ويد أعوانها زادًا للمارّين السائرين إلى الملك في تلك الطريق، وقال لها ولأعوانها: من غضّ طرفه عنك، ولم يشتغل بك عنّي، وابتغى منك زادًا يوصله إلى؛ فاخدميه وزوّديه، ولا تعوّقيه عن سفره إليّ، بل أعينيه بكل ما يبلغه في سفره.
ومن مدّ إليكِ عينيه، ورضي بك وآثرك عليّ، وطلب وصالك، فسوميه سوء العذاب، وأوليه غاية الهوان، واستخدميه واجعليه يركض خلفك ركض الوحش، وما نال منك فاخدعيه به قليلًا ثم استرديه منه واسلبيه إياه كلّه، وسلطي عليه أتباعك وعبيدك، وكلما بالغ في محبتك
__________
= وقد جاء في ذلك أحاديث صحاح منها:
– حديث أنس بن مالك، رواه ابن حبان في “صحيحه” رقم (3108)، والحاكم في “المستدرك” (1/ 74)، (371)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” (4/ 629).
– وحديث النعمان بن بشير، رواه الحاكم في “المستدرك” (1/ 74 – 75)، وابن أبي شيبة في “مصنفه” رقم (34723)، والطبراني في الأوسط رقم (7396)، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” رقم (2481).

(1/464)


وتعظيمك وإكرامك، فقابليه بأمثاله قلًى وإهانة وهجرًا حتى تتقطَّع نفسُه عليكِ حسرات.
فتأمل هذا المثل، وحال خطاب الدنيا وخطاب الآخرة، واللَّه المستعان.
وهذا المثل مأخوذ من الأثر المرويّ عن اللَّه عز وجل: “يا دنيا اخدمي من خدمني، واستخدمي من خدمك” (1).

فصل
المثال التاسع عشر: ملك اختط مدينة في أصح المواضع وأحسنها هواء، وأكثرَ مياهَها (2) وشقَّ أنهارَها وغرس أشجارها، وقال لرعيته: تسابقوا إلى أحسن الأماكن فيها، فمن سبق إلى مكان فهو له، ومن تخلف سبقه الناس إلى المدينة، وأخذوا منازلهم، وتبوأوا مساكنهم، وبقي مع أصحاب الحسرات. ونصب لهم ميدان السباق، وجعل على الميدان شجرة كبيرة لها ظلٌّ مديد وتحتها مياه جارية، وفي الشجرة من أنواع الفواكه وعليها الطيور العجيبة الأصوات، وقال لهم: لا تغتروا بهذه الشجرة وظلها، فعن قليل تُجْتثّ من أصلها، ويذهب ظلها، وينقطع ثمرها، وتموت أطيارها، وأما مدينة الملك؛ فأُكُلها دائم، وظلها مديد، ونعيمها سرمد، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن
__________
(1) أخرجه: القضاعي في “مسند الشهاب” رقم (1454)، والخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” (8/ 44) من حديث عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا.
وحكم عليه بالوضع الخطيب بعد روايته له. وكذلك الألباني في “سلسلة الأحاديث الضعيفة” رقم (12)، (808).
(2) في النسخ الأخرى: “وأكثرها مياهًا”. مكان: “وأكثر مياهها”.

(1/465)


سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فسمع الناس بها فخرجوا في طلبها على وجوههم، فمروا في طريقهم بتلك الشجرة على أثر تعب ونصب وحرٍّ وظمأ، فنزلوا كلهم تحتها، واستظلوا بظلّها، وذاقوا حلاوة ثمرها، وسمعوا نغمات أطيارها، فقيل لهم: إنما نزلتم تحتها لتحموا أنفسكم، وتضمّروا مراكبكم للسباق، فتهيأوا للركوب وكونوا على أهبة، فإذا صاح النفير ابتدرتم حلبة السباق.
فقال الأكثرون: كيف ندع هذا الظلّ الظليل، والماء السلسبيل، والفاكهة النضيجة، والدعة والراحة، ونقتحم هذه الحلبة في الحرّ والغبار والتعب والنصب والسفر البعيد والمفاوز المعطشة التي تتقطع فيها الأعناق؟! وكيف نبيع النقد الحاضر بالنسيئة الغائبة (1) إلى الأجل البعيد؟! ونترك ما نراه لما لا نراه، وذرّة منقودة في اليد أولى من درّة موعودة بعد غد، خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به (2)، ونحن بنو اليوم، وهذا عيش حاضر كيف نتركه لعيش غائب (3) في بلد بعيد لا ندري متى نصل إليه؟!
ونهض من كل ألف واحد فقالوا: واللَّه ما مقامنا في ظل زائل تحت شجرة قد دنا قلعها، وانقطاع ثمرها، وموت طيورها، وترك المسابقة
__________
(1) ساقطة من الأصل، وأثبتها من النسخ الأخرى.
(2) قوله: “خذ ما تراه وح شيئًا سمعت به” هو صدر بيت، وعجزه: “في طلعة البدر (الشمس) ما يغنيك عن زحل”. وهو للمتنبي. انظر: “ديوان المتنبي” (1/ 162).
(3) ساقطة من الأصل، وأثبتها من النسخ الأخرى.

(1/466)


إلى الظلّ الظليل الذي [لا يزول، والعيش الهنيء الذي] (1) لا ينقطع إلا من أعجز العجز، وهل يليق بالمسافر إذا استراح تحت ظل أن يضرب خباءه عليه ويتخذه وطنه خشية التأذي بالحرّ والبرد؟! وهل هذا إلا أسفه السفه؟! السباق السباق والبدار البدار.
حكم المنيّة في البرية جاري … ما هذه الدنيا بدار قرارِ
قضوا مآربكم سراعًا إنّما … أعمارُكم سَفَرٌ من الأَسفارِ
وتراكضوا خَيْلَ السّباقِ وبادروا … أن تُسْتَرَدَّ فإنَّهن عَواري
ودعوا الإقامة تحت ظلٍّ زائلٍ … أنتم على سَفرٍ بهذي الدّارِ
من يرجُ طِيبَ العَيْشِ فيها إنما … يبني الرّجاءَ على شَفيرٍ هارِ
والعَيْشُ كُلُّ العَيْشِ بعد فِراقِها … في دارِ أَهْلِ السَّبْقِ أكْرَمِ دارِ (2)
فاقتحموا حلبة السباق، ولم يستوحشوا من قلة الرفاق، ساروا في ظهور العزائم، ولم تأخذهم في سيرهم لومة لائم، والمتخلف في ظل الشجرة نائم.
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، وأثبته من النسخ الأخرى.
(2) الأبيات الثلاثة الأولى وعجز البيت الخامس هي لأبي الحسن التهامي “ديوانه”: (ص/ 155) في قصيدته المشهورة التي يرثي فيها ابنه، التي وصفها الحموي بقوله: “وهي نسيج وحدها، وواسطة عقدها”.
انظر: “الحماسة المغربية” (2/ 867) وما بعدها، و”الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” (8/ 544 – 545)، و”خزانة الأدب” للحموي (1/ 35).
أما الأبيات الباقية فأظنها من تركيب ابن القيم، لتوافق المثل الذي ساقه، واللَّه أعلم.

(1/467)


فواللَّه ما كان إلا قليل حتى ذوت أغصان تلك الشجرة، وتساقطت أوراقها، وانقطعت ثمارها، ويبست فروعها، وانقطع شربها، فقلعها قيمها من أصلها، فأصبح أهلها في حرّ السموم يتقلّبون، وعلى ما فاتهم من العيش في ظلها يتحسّرون، ثم أحرقها قيّمها فصارت هي وما حولها نارًا تلظى، وأحاطت بمن تحتها فلم يستطع أحد الخروج منها، فقالوا: ما فعل الركب الذين استظلوا معنا تحت ظلها ثم راحوا وتركوه؟ فقيل لهم: ارفعوا أبصاركم تروا منازلهم فرأوهم من البعد في قصور مدينة الملك وغرفها يتمتعون بأنواع اللّذات، فتضاعفت عليهم الحسرات ألا يكونوا معهم، وزاد تضاعفها بأن حيل بينهم وبين ما يشتهون، وقيل: هذا جزاء المتخلفين، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118].

فصل
المثال العشرون: ما مثلّها به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الثوب الذي شُق، وبقي معلّقًا بخيط في آخره، فما بقاء ذلك الخيط (1)؟.
قال ابن أبي الدنيا: حدثني الفضل بن جعفر حدثنا وهب بن بيان (2) حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا أبو سعيد خلف بن حبيب عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “مثل هذه الدنيا مثل ثوب شقّ من أوله إلى آخره، فبقي معلّقًا بخيط في آخره، فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع” (3).
__________
(1) ساقطة من الأصل، وأثبتها من النسخ الأخرى.
(2) في الأصل والنسخ الأخرى: “حيان”. والتصويب من “ذم الدنيا” و”قصر الأمل”.
(3) “ذم الدنيا” رقم (221)، و”قصر الأمل” رقم (122).
ورواه البيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10240)، وأبو نعيم في “حلية =

(1/468)


وإن أردت لهذا المثل زيادة إيضاح، فانظر إلى ما رواه أحمد في “مسنده” من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد قال: صلى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- العصر نهارًا، ثم قام فخطبنا، فلم يترك شيئًا من قيام الساعة إلا أَخبر به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قال: وجعل الناس يلتفتون إلى الشمس هل بقي منها شيء؟ فقال: “ألا إنه لم يبقَ من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه” (1).
وروى حفص بن غياث عن ليث عن المغيرة بن حكيم عن ابن عمر قال: خرج علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والشمس على أطراف السعف، فقال: “ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه” (2).
[وروى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن سعد حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا موسى بن خلف عن قتادة عن أنس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خطب عند مغربان الشمس فقال: “ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه” (3)] (4).
__________
= الأولياء” (8/ 131).
وضعفه الألباني في “سلسلة الأحاديث الضعيفة” رقم (1975).
(1) “المسند” (3/ 19).
ورواه الترمذي في “جامعه” رقم (2191)، وقال: “حديث حسن صحيح”.
(2) رواه ابن أبي الدنيا في “قصر الأمل” رقم (120).
وحسنه العراقي في “المغني عن حمل الأسفار” (4/ 390).
(3) “قصر الأمل” رقم (121).
(4) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الأخرى.

(1/469)


فالدنيا كلها كيوم واحد، بُعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في آخره قبل غروب شمسه بيسير.
وقال جابر وأبو هريرة عنه: “بُعثت أنا والساعة كهاتين، وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى” (1).
وكان بعض السلف يقول: تصبّروا فإنما هي أيام قلائل، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يُدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت، وإنه قد نُعيت إليكم أنفسكم، والموت حبس لا بد منه، واللَّه بالمرصاد، وإنما تخرج هذه النفوس على آخر سورة الواقعة (2).

فصل
المثال الحادي والعشرون: مثال الدنيا كحوض كبير مُلئ ماء،
__________
(1) رواه مسلم في “صحيحه” رقم (867) من حديث جابر رضي اللَّه عنه.
والبخاري في “صحيحه” رقم (6505) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
ورواه البخاري في “صحيحه” رقم (6504)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2951) من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه.
ورواه البخاري في “صحيحه” رقم (6503)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2950) من حديث سهل بن سعد رضي اللَّه عنه.
(2) جمع الإمام ابن القيم رحمه اللَّه هنا بين قولين للسلف:
فأما قوله: “تصبروا. . . ولا يلتفت”. فهو مروي عن الحسن كما في “قصر الأمل” رقم (171)، و”محاسبة النفس” رقم (63)، كلاهما لابن أبي الدنيا.
وأما الشطر الباقي، فهو مروي عن ميمون بن مهران كما في “قصر الأمل” رقم (170).

(1/470)


وجعل موردًا للأنام والأنعام، فجعل الحوض ينقص على كثرة (1) الوارد حتى لم يبقَ منه إلا وَشَلٌ (2) كدر في أسفله، قد بالت فيه الذواب، وخاضته الناس والأنعام، كما روى مسلم في “صحيحه” عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم، فقال في خطبته: “إن الدنيا قد آذنت بصُرم (3)، وولّت حذّاء (4)، ولم يبقَ منها إلا صبابة (5) كصبابة الإناء يتصابّها صاحبها، وإنكم منتقلون عنها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم” (6).
وقال عبد اللَّه بن مسعود: “إن اللَّه تعالى جعل الدنيا كلها قليلًا، فما بقي منها إلا قليل من قليل، ومثل ما بقي منها كالثَّغَب شرِبَ صفوه، وبقي كدره” (7). الثغب: الغدير.
__________
(1) في الأصل: “كثيرة”. والمثبت من النسخ الأخرى.
(2) تحرفت في النسخ إلى “وشك” وسقطت من (ب). والوَشَلُ بمعنى الماء القليل.
(3) أي: بانقطاع وانقضاء. انظر: “النهاية” لابن الأثير (3/ 26).
(4) أي: مسرعة الانقطاع. انظر: “شرح النووي على مسلم” (18/ 102).
(5) أي: البقية اليسيرة من الشراب تبقى في أسفل الإناء. انظر: “النهاية” (3/ 5).
(6) “صحيح مسلم” رقم (2967).
(7) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (2964)، بلفظ: “ما غبر -أي: ما بقي- من الدنيا إلا كالثغب شرب صفوه وبقي كدره”.
ورواه الحاكم في “المستدرك” (4/ 320) عن عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا بنفس اللفظ الذي ذكره ابن القيم. وصححه، ووافقه الذهبي.
وحسنه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” رقم (1625).

(1/471)


فصل
المثال الثاني والعشرون: قوم سكنوا مدينة مدة من الزمان، فكثرت فيها الأحداث والآفات، وطرقتها المحن، وأغارت عليها عساكر الجور والفساد، فبنى ملكهم مدينة في محل لا يطرقها آفة ولا عاهة، وعزم على تخريب المدينة الأولى، فأرسل إلى سكانها، فنودي فيهم بالرحيل بعد ثلاث، ولا يتخلف منهم أحد، وأمرهم أن ينقلوا إلى مدينة الملك الثانية خير ما في تلك المدينة وأنفعه وأجفه من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة، وما خفّ حمله من المتاع، وعظم قدره، وصلح للملوك، وأرسل إليهم الأدلّاء وآلات (1) النقلة، ونهج لهم الطريق، ونصب لهم الأعلام، وتابع الرسل يستحثونهم بعضهم في إثر بعض، فانقسموا فرقًا.
فالأقلون علموا قصر مدّة مقامهم في تلك المدينة، وتيقنوا أنهم إن لم يبادروا بتحصيل خير ما فيها وحمله إلى مدينة الملك، وإلا فاتهم ذلك فلم يقدروا عليه، فرأوا غبنًا أن يقطعوا تلك المدة في جمع المفضول والاشتغال به عن الفاضل، فسألوا عن خير ما في المدينة وأنفسه وأحبه إلى الملك وأنفعه في مدينته، فلما عرفوه لم يلتفتوا إلى ما دونه، ورأوا أن أحدهم إذا وافى بجوهرة عظيمة كانت أحب إلى الملك من أن يوافيه بأحمال كثيرة من الفلوس والحديد ونحوهما، فكان همّهم في تحصيل ما هو أحب إلى الملك وأنفس عنده ولو قلّ في رأي العين.
وأقبلت فرقة أخرى على تعبئة الأحمال المحملة وتنافسوا في كثرتها، وهم على مراتب، فمن بين مَن أحماله أثمان، وبين من أحماله
__________
(1) في الأصل: “والآلات”، والتصويب من النسخ الأخرى.

(1/472)


دون ذلك على قدر هممهم وما يليق بهم، لكن هممهم مصروفة إلى تعبئة الأحمال والانتقال من المدينة.
وأقبلت فرقة أخرى على عمارة القصور في تلك المدينة والاشتغال بطيباتها ولذاتها ونزهها، وحاربوا العازمين على النقلة، وقالوا: لا ندعكم تأخذون من متاعنا شيئًا، فإن شاركتمونا في عمارة المدينة واستيطانها وعيشنا فيها، وإلا لم نمكنكم من النقلة، ولا من شيء من المتاع، فوقدت الحرب بينهم فقاتلوا السائرين، وعمدوا إلى أموالهم وأهليهم، وما نقموا منهم إلا سيرهم إلى دار الملك وإجابة داعيه، والرغبة عن تلك الدار التي أمرهم بتركها.
وأقبلت فرقة أخرى على التنزه والبطالة والراحة والدعة، وقالوا: لا نتعب أنفسنا في عمارتها، ولا ننتقل منها، ولا نعارض من أراد النقلة، ولا نحاربهم، ولا نعاديهم.
وكان للملك فيها قصر فيه حرم له وقد أحاط عليه سورًا، وأقام عليه حرسًا، ومنع أهل المدينة من قربانه، وطاف به القاعدون فلم يجدوا فيه بابًا يدخلون منه، فعمدوا إلى جدرانه فنقبوه ووصلوا إلى حريمه فأفسدوهم، ونالوا منه ما أسخط الملك وأغضبه وشقّ عليه، ولم يقتصروا على ذلك حتى دعوا غيرهم (1) إلى إفساد حريمه والنيل منهم، فبينما هم على تلك الحال، وإذا بالنفير قد صاح فيهم كلهم فلم يُمكن أحدًا منهم التخلف، فحملوا على تلك الحال وأحضروا بين يدي الملك، فاستعرضهم واحدًا بعد واحد، وعرضت بضائعهم وما قدموا به
__________
(1) في الأصل: “غيره”. والمثبت من النسخ الأخرى.

(1/473)


من تلك المدينة عليه، فقبل منها ما يصلح له مثله، وأعاض أربابه أضعاف أضعاف قيمته، وأنزلهم منازلهم من قربه، ورد منها ما لا يصلح له وضرب به وجوه أصحابه، وقابل من نقب حماه وأفسد حريمه بما يقابل به المفسدون، فسألوا الرجعة إلى المدينة ليعمروا قصره، ويحفظوا حريمه، ويقدموا عليه من البضائع بمثل ما قدم به التجار، فقال: هيهات قد خربت المدينة خرابًا لا تعمر بعده أبدًا وليس بعدها إلا هذه المدينة التي لا تخرب أبدًا.

فصل
وقد مثّلت الدنيا بمنام، والعيش فيها بالحلم، والموت باليقظة.
ومثّلت بمزرعة، والعمل فيها البذر، والحصاد يوم المعاد.
ومُثّلت بدار لها بابان: باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون منه.
ومُثّلت: بحيّة ناعمة الملمس، حسنة اللون، وضربتها الموت.
ومُثّلت: بطعام مسموم، لذيذ الطعم، طيّب الرائحة، من تناول منه قدر حاجته كان فيه شفاؤه، ومن زاد على حاجته كان فيه حتفه.
ومُثّلت: بالطعام في المعدة، إذا أخذت الأعضاء منه حاجتها فحبسه قاتل أو مؤذ ولا راحة لصاحبه إلا في خروجه، كما أشار إليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في آكلة الخضر وقد تقدّم (1).
ومُثّلت بامرأة من أقبح النساء قد انتقبت على عينين فتنت بهما الناس
__________
(1) سبق في المثال السابع.

(1/474)


وهي تدعو الناس إلى منزلها، فإذا أجابوها كشفت لهم عن منظرها وذبحتهم بسكاكينها وألقتهم في الحفر، وقد سلّطت على عشاقها تفعل بهم ذلك قديمًا وحديثًا، والعجب أن عشاقها يرون إخوانهم صرعى قد حلّت بهم الآفات، وهم يتنافسون في مصارعهم، {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)} [إبراهيم: 45].
ويكفي في تمثيلها ما مثّلها اللَّه في كتابه فهو المثل المنطبق عليها.
قالوا: وإذا كان هذا شأنها فالتقلل منها والزهد فيها خير من الاستكثار منها والرغبة فيها.
قالوا: ومن المعلوم أنه لا تجتمع الرغبة فيها، والرغبة في اللَّه والدار الآخرة أبدًا، ولا تسكن هاتان الرغبتان في مكان واحد إلا وطردت إحداهما الأخرى، واستبدت بالمسكن، ولا تجتمع بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وبنت عدو اللَّه عند رجل واحد أبدًا (1).
قالوا: ويكفي أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عرضت عليه مفاتيح كنوزها، ولو أخذها لكان أشكر خلق اللَّه بها، ولم تنقصه مما له عند اللَّه شيئًا، فاختار جوع يوم وشبع يوم (2). ومات ودرعه مرهونة على طعام لأهله، كما تقدم ذكره (3).
__________
(1) يشير إلى ما رواه البخاري في “صحيحه” رقم (3110) ومسلم في “صحيحه” رقم (2449) كلاهما من حديث المسور بن مخرمة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ولكن واللَّه لا تجتمع بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وبنت عدو اللَّه أبدًا”.
(2) سبق ص (215).
(3) سبق ص (302).

(1/475)


قالوا: وقد انقسم الناس بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعة أقسام:
قسم: لم يريدوا الدنيا ولم تُرِدْهُم، كالصديق ومن سلك سبيله.
وقسم: أرادتهم الدنيا ولم يريدوها، كعمر بن الخطاب، ومن سلك سبيله (1).
وقسم: أرادوا الدنيا وأرادتهم الدنيا، كخلفاء بني أمية ومن سلك سبيلهم، حاشا عمر بن عبد العزيز فإنها أرادته ولم يردها.
وقسم: أرادوها وهي لم تردهم، كمن أفقر اللَّه منها يده، وأسكنها في قلبه، وامتحنه بحبها.
ولا يخفى أن خير الأقسام القسم الأول، والثاني إنما فُضّل لأنه لم يردها، فالتحق بالأول.
قالوا: وقد سأل رجل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يدلّه على عمل إذا فعله أحثه اللَّه وأحبّه الناس، فقال له: “ازهد في الدنيا يحبك اللَّه، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس” (2) فلو كان الغنى أفضل لدلّه عليه.
__________
(1) روى أحمد في “الزهد” رقم (586) عن معاوية بن أبي سفيان قال: “إن الدنيا لم ترد أبا بكر ولم يردها، وأرادت ابن الخطاب ولم يردها”.
وروى ابن الأعرابي في “الزهد” رقم (55) عن أبي مسهر قال: “لم يرد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الدنيا ولم ترده، ولم ترد أبا بكر ولم يردها، وأرادت عمر فتركها”.
(2) رواه ابن ماجه في “سننه” رقم (4102) من حديث خالد بن عمرو القرشي عن الثوري عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رضي اللَّه عنه.
إلا أنه وقع أول الحديث في الأصل المخطوط: “ازهد ما في الدنيا. . . ” بزيادة: “ما”، والمثبت موافق للنسخ الأخرى ولمصدر التخريج.
وصححه الحاكم في “المستدرك” (4/ 313)، وخالفه الذهبي فقال: =

(1/476)


قالوا: وقد شرع اللَّه سبحانه قتال الكفار، وشرع الكفّ عن الرهبان (1)؛ لاعتزالهم عن الدنيا وزهدهم فيها، فمضت السنة بأن لا يُقاتلون ولا تُضرب عليهم جزية، هذا وهُمْ أعداؤه وأعداء رسله ودينه، فعُلم أن الزهد فيها عند اللَّه بمكان.
قالوا: ولذلك استقرت حكمته في شرعه على أن عقوبة الواجد أعظم من عقوبة الفاقد، فهذا الزاني المحصن عقوبته الرجم، وعقوبة من لم يحصن الجلد والتغريب (2)، وهكذا يكون ثواب الفاقد أعظم من
__________
= “قلت: خالد وضّاع”.
وقال المنذري في “الترغيب والترهيب” (4/ 56 – 57): “وقد حسّن بعض مشايخنا إسناده، وفيه بعد؛ لأنه من رواية خالد بن عمرو القرشي الأموي السعيدي عن سفيان الثوري عن أبي حازم عن سهل، وخالد هذا قد ترك واتهم، ولم أرَ من وثقه، لكن على هذا الحديث لامعة من أنوار النبوة، ولا يمنع كون راويه ضعيفًا أن يكون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قاله، وقد تابعه عليه محمد بن كثير الصنعاني عن سفيان، ومحمد هذا قد وُثّق على ضعفه وهو أصلح حالًا من خالد، واللَّه أعلم”.
وضعف إسناده البوصيري في “مصباح الزجاجة” (4/ 215) لأجل خالد بن عمرو.
(1) أعلى ما وجدته في مشروعية الكف عن الرهبان: قول أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه: “لا تقتلوا صبيًّا ولا امرأة ولا شيخًا كبيرًا، ولا مريضًا ولا راهبًا”. رواه البيهقي في “السنن الكبرى” (9/ 90). وأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ: ألا لا يُقتل الراهب في الصومعة.
(2) مما يدل على ذلك حديث العسيف الذي رواه البخاري في “صحيحه” رقم (6859)، (6860)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1697)، (1698)، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي اللَّه عنهما. وفيه: “وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها”.

(1/477)


ثواب الواجد.
قالوا: وكيف يستوي عند اللَّه ذلّة الفقر، وكسرته، وخضوعه، وتجرع مرارته، وتحمُّل أعبائه ومشاقّه؟ وعزّة الغنى، ولذّته، وصولته، والتمتعّ بلذّاته، ومباشرة حلاواته؟ فبعين اللَّه ما يتحمّل الفقراء من مرارات فقرهم وصبرهم ورضائهم به عن ربهم تبارك وتعالى.
وأين أجر (1) مشقة المجاهدين إلى أجر عبادة القاعدين في الأمن، والدّعة، والراحة؟!
قالوا: وكيف يستوي أمران: أحدهما: حفّت به الجنة، والثاني: حفّت به النار (2)؟ فإن أصل الشهوات من قبل المال، وأصل المكاره من قبل الفقر.
قالوا: والفقير لا ينفك في خصاصة من مضض الفقر والجوع والعُرْي والحاجة وآلام الفقر، وكلّ واحد منها يكفر ما يقاومه من السيئات، وذلك زيادة على أجره بأعمال البرّ.
فقد شارك الأغنياء في أعمال البرّ، وامتاز عنهم بما يكفر سيئاته، وما امتازوا به عليه من الإنفاق والصدقة والنفع المتعدي فله سبيل إلى لحاقهم فيه، ونيله مثل أجورهم، وهو أن يعلم اللَّه من نيّته أنه لو أوتي مثل
__________
(1) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الأخرى.
(2) يشير إلى حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: “حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات”. رواه مسلم في “صحيحه” (2822).
ورواه البخاري في “صحيحه” رقم (6487)، ومسلم في “صحيحه” (2823) من حديث أبي هريرة بلفظ: “حجبت النار بالشهوات، وحُجبت الجنة بالمكاره”.

(1/478)


ما أوتوه لفعل كما يفعلون، فيقول: لو أن لي مالًا لعملت بأعمالهم فهو بنيته وأجرهما سواء، كما أخبر به الصادق المصدوق فى الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري (1).
قالوا: والفقير في الدنيا بمنزلة المسجون، إذ هو ممنوع عن الوصول إلى شهواتها وملاذّها، والغني متخلّص من هذا السجن، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر” (2)، فالغني إن لم يسجن نفسه عن دواعي الغنى وطغيانه وأرسلها في ميادين شهواتها كانت الدنيا جنّة له، فإنما ينال الفضل بتشبّهه بالفقير الذي هو في سجن فقره.
قالوا: وقد ذمّ اللَّه ورسوله من عجلت له طيباته في الحياة الدنيا، وإنه لحريٌّ أن يكون عوضًا عن طيبات الآخرة أو منقصة لها ولا بدّ كما تقدّم بيانه (3)، بخلاف من استكمل طيباته في الآخرة لما منع منها في الدنيا، وأتي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بسويق لوز، فأبى أن يشربه، وقال: “هذا شراب المترفين” (4).
قالوا: وقد سُئل الحسن البصري فقيل له: رجلان أحدهما تارك
__________
(1) “المسند” (4/ 230)، و”جامع الترمذي” (2325). وقال الترمذي: “حديث حسن صحيح”.
ورواه ابن ماجه في “سننه” رقم (4228). وسيذكر المصنف لفظه قريبًا.
(2) رواه مسلم في “صحيحه” رقم (2956) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(3) سبق ذلك ص (404) وما بعدها.
(4) رواه نعيم بن حماد في “زوائد الزهد” لابن المبارك رقم (200)، وأحمد في “الزهد” رقم (23)، وابن سعد في “الطبقات الكبرى” (1/ 395).

(1/479)


للدنيا، والآخر يكتسبها ويتصدق بها فقال: “التارك لها أحب إليّ” (1).
قالوا: وقد سُئل المسيح قبله عن هذه المسألة عن رجلين مرّ أحدهما بلبنة ذهب، فتخطاها ولم يلتفت إليها ومرّ بها الآخر، فأخذها وتصدّق بها، فقال: “الذي لم يلتفت إليها أفضل” (2).
ويدل على هذا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرّ بها، فلم يلتفت إليها، ولو أخذها لأنفقها في سبيل اللَّه.
قالوا: والفقير الفقيه في فقره يمكنه (3) لحاق الغنيّ في جميع ما ناله بغناه بنيته وقوله، فيساويه في أجره، ويتميز عنه بعدم الحساب على المال، فساواه في ثوابه، وتخلص من حسابه، كما تميز عنه بسبقه إلى الجنة بخمسمائة عام، وتميز عنه بثواب صبره على ألم الفقر وخصاصته.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد اللَّه بن نمير حدثنا عبادة بن مسلم حدثني يونس بن خباب عن أبي البختري الطائي عن أبي كبشة قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه، فأما الثلاث التي (4) أقسم عليهن: فإنه ما نقص مال عبد من
__________
(1) رواه ابن المبارك في “الزهد” رقم (564)، وأحمد في “الزهد” رقم (1554)، وابن أبي الدنيا في “ذم الدنيا” رقم (151)، أنه قيل له: رجلان طلب أحدهما الدنيا بحلالها فأصابها، فوصل فيه رحمه وقدم فيها لنفسه، وجانب الآخر الدنيا، فقال: أحبّهما إليّ الذي جانب الدنيا”.
ورواه أحمد في “الزهد” أيضًا رقم (1543) بنحوه.
(2) سبق هذا الأثر ص (215).
(3) في الأصل: “يمكن”، والمثبت من النسخ الثلاث الأخرى.
(4) في الأصل: “الذي”، والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى، ومن المسند.

(1/480)


صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده اللَّه عز وجل بها عزًّا، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح اللَّه له باب فقر” وأما الذي أحدثكم حديثًا فاحفظوه، فإنه قال: “إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه اللَّه عز وجل مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم فيه للَّه حقًّا، قال: فهذا أفضل المنازل عند اللَّه، وعبد رزقه اللَّه علمًا، ولم يرزقه مالًا، فهو يقول: لو كان لي مال عملت بعمل فلان، قال: فأجرهما سواء، وعبد رزقه اللَّه مالًا، ولم يرزقه علمًا، فهو يتخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يصل رحمه، ولا يعلم للَّه فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل عند اللَّه، وعبد لم يرزقه اللَّه مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو كان لي مال لفعلت بفعل فلان. قال: فهو بنيّته ووزرهما سواء” (1).
فلما فضل الغنيّ بفعله ألحق الفقير الصادق به بنيّته، فالغني هنالك إنما نقص بتخلفه عن العمل، والفقير إنما نقص بسوء نيته، فلم ينفع الغنيّ غناه مع التخلف، ولا ضرّ الفقير فقره مع حسن النيّة، ولا نفعه فقره مع سوء نيّته.
قالوا: ففي هذا بيان كاف شاف في المسألة، حاكم بين الفريقين، وباللَّه التوفيق.
__________
(1) “المسند” (4/ 231). ومضى قريبًا أن الترمذي وابن ماجه روياه. وصححه الترمذي.

(1/481)


الباب الرابع والعشرون في ذكر ما احتجت به الأغنياء من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار
قالت الأغنياء: لقد أجلبتم علينا أيها الفقراء بخيل الأدلّة ورجلها، ونحن نعلم أن عندكم مثلها وأكثر من مثلها، ولكن توسطتم بين التطويل والاختصار، وظننتم أنها حكمت لكم بالفضل دون ذوي اليسار، ونحن نحاكم إلى ما حاكمتمونا إليه، ونعرض بضاعتنا على من عرضتم بضاعتكم عليه، ونضع أدلّتنا وأدلّتكم في ميزان الشرع والعقل الذي لا يعول، فحينئذ يتبين لنا ولكم الفاضل من المفضول.
ولكن أخرجوا من بيننا من تشبّه بالفقراء الصادقين الصابرين، ولبس لباسهم على قلب أحرص الناس على الدنيا وأشحّهم عليها وأبعدهم من الفقر والصبر، من كل مظهر للفقر مبطن للحرص غافل عن ربه متبع لهواه مفرّط في أمر معاده، قد جعل زيّ الفقر صناعة (1)، أو فقيرِ جائحة (2)، فقرُه اضطرار لا اختيار، فزهده زهد إفلاس لا زهد رغبة في اللَّه والدار الآخرة، أو فقيرٍ (3) يشكو ربه بلسان قاله وحاله غير راض عن ربه في فقره، بل إن أُعطي رضي وإن منع سخط، شديد اللهف على الدنيا والحسرة عليها، وهو أفقر الناس [منها، فهو أرغب شيء] (4)
__________
(1) بعد هذه الكلمة في (م) و (ن): “والتحلي بما هو أبعد الناس منه بضاعته”. وفى (ب): “وتحلى بما هو أبعد الناس منه بضاعة”.
(2) في (ب) و (ن): “حاجة”. والأمر محتمل.
(3) في الأصل: فقيرا. والمثبت من النسخ الثلاث الأخرى.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الثلاث الأخرى، إلا أنه في نسخة (ب): [فيها، فهو أرغب شيء].

(1/482)


فيها، وهي أزهد شيء فيه.
وأخرجوا من بيننا ذا الثروة الجموع المنوع المتكاثر بماله المستأثر به، الذي قد عضّ عليه بناجذه، وثنى عليه خنصره، يفرح بزيادته ويأسى على نقصانه، فقلبه به مشغوف، وهو على تحصيله ملهوف، إن عرض سوق الإنفاق والبذل أعطى قليلًا وأكدى، وإن دعي إلى الإيثار أمعن في الهرب جدًّا.
وأخلصونا وإخواننا من سباق الطائفتين وسادات الفريقين الذين تسابقوا إلى اللَّه والدار الآخرة بإيمانهم وأحوالهم، ونافسوا في القرب منه بأعمالهم وأموالهم، فقلوبهم عاكفة عليه، وهمتهم المسابقة إليه، ينظر غنيُّهم إلى فقيرهم، فإذا رآه قد سبقه إلى عمل صالح شمّر إلى اللحاق به، وينظر فقيرهم إلى غنيهم فإذا رآه قد فاته بإنفاق في طاعة اللَّه أنفق هو من أعماله وأقواله وصبره وزهده نظير ذلك أو أكثر منه، فهؤلاء إخواننا الذين تكلم الناس في التفضيل بينهم وأيهم أعلى درجة، وأما أولئك فإنما ينظر أيهم تحت الآخر في العذاب وأسفل منه، واللَّه المستعان.
إذا عرف هذا، فقد مدح اللَّه سبحانه في كتابه أعمالًا، وأثنى على أصحابها، ولا تحصل إلا بالغنى، كالزكاة والإنفاق في وجوه البر، والجهاد في سبيل اللَّه بالمال، وتجهيز الغزاة، وإعانة المحاويج، وفكّ الرقاب، والإطعام في زمن المسغبة.
وأين يقع صبر الفقير من فرحة الملهوف المضطر المشرف على الهلاك إذا أعانه الغني ونصره على فقره ومخمصته؟
وأين يقع صبره من نفع الغني بماله في نصرة دين اللَّه وإعلاء كلماته

(1/483)


وكسر أعدائه؟
وأين صبر أبي ذر على الفقر إلى شكر الصديق ربّه وشرائه المعذبين في اللَّه وإعتاقهم، وإنفاقه على نصرة الإسلام حتى قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما نفعني مال أحد ما نفعني مال أبي بكر” (1)؟
وأين يقع صبر أهل الصفة من إنفاق عثمان تلك النفقات العظيمة التي قال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعضها: “ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم ” (2)، ثم قال: “غفر اللَّه لك يا عثمان ما أسررت، وما أعلنت، وما أخفيت، وما أبديت” أو كما قال (3).
وإذا تأملتم القرآن، وجدتم الثناء فيه على المنفقين أضعاف الثناء فيه على الفقراء الصابرين.
__________
(1) رواه الترمذي في “جامعه” رقم (3661)، وقال: “حسن غريب من هذا الوجه”، وابن ماجه في “سننه” رقم (94) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2) رواه الترمذي في “جامعه” رقم (3701)، وقال: “حديث حسن غريب من هذا الوجه”. من حديث عبد الرحمن بن سمرة.
(3) هذه الرواية أخرجها أحمد في “فضائل الصحابة” رقم (854) من حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنه. وللحديث طرق أخرى نحو ما سبق.
منها ما أخرجه: ابن عدي في “الكامل” (1/ 340) من حديث حذيفة، ثم ضعفه.
ومنها ما أخرجه: العقيلي في “الضعفاء” (4/ 408) من حديث أبي سعيد الخدري.
ومنها ما أخرجه أبو نعيم -كما في “كنز العمال” رقم (32847) – من حديث أبي موسى الأشعري.
ومنها ما أخرجه أحمد في “فضائل الصحابة” رقم (736) و (853)، وابن عدي في “الكامل” (6/ 249) عن حسان بن عطية مرسلًا.

(1/484)


وقد شهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وفسر اليد العليا بالمعطية، والسفلى بالسائلة (1).
وقد عدّد اللَّه سبحانه على رسوله من نعمه أن أغناه بعد فقره (2)، وكان غناه هو الحالة التي نقله إليها، وفقره الحالة التي نقله منها، وهو سبحانه كان ينقله من الشيء إلى ما هو خير منه.
وقد قيل في قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)} [الضحى: 4]: إن المراد به الحالتان، أي: كل حالة لك خير مما قبلها، ولهذا عقّبه بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5]، فهذا يدخل فيه عطاؤه في الدنيا والآخرة.
قالوا: والغنى مع الشكر زيادة فضل ورحمة: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)} [البقرة: 105].
قالوا: والأغنياء الشاكرون سبب لطاعة الفقراء الصّابرين، لتقويتهم إياهم بالصدقة عليهم، والإحسان إليهم، وإعانتهم على طاعتهم، فلهم نصيب وافر من أجور الفقراء، زيادة إلى نصيبهم من أجر الإنفاق وطاعاتهم التي تخصهم، كما في “صحيح ابن خزيمة” من رواية سلمان الفارسي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وذكر شهر رمضان، فقال: “من فطّر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن
__________
(1) روى البخاري في “صحيحه” رقم (1429)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1033) عن عبد اللَّه بن عمر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة”.
(2) قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 8].

(1/485)


ينقص من أجره شيء” (1).
فقد حاز الغني الشاكر أجر صيامه هو، ومثل أجر الفقير الذي فطّره.
قالوا: ولو لم يكن للغنيّ الشاكر إلا فضل الصدقة التي لما تفاخرت الأعمال كان الفخر لها عليهن، كما ذكر النضر بن شميل عن قرة عن سعيد بن المسيب أنه حدث عن عمر بن الخطاب قال: “ذُكر أن الأعمال الصالحة تتباهى، فتقول الصدقة: أنا أفضلكم” (2).
قالوا: والصدقة وقاية بين العبد وبين النار، والمخلص المسرّ بها مستظلٌّ يوم القيامة في ظلّ العرش.
وقد روى عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب (3) عن أبي الخير عن عقبة بن عامر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إن الصدقة لتطفئ على أهلها حرّ القبور، وإنما يستظلّ المؤمن يوم القيامة في ظلّ صدقته” (4).
__________
(1) “صحيح ابن خزيمة” رقم (1887).
وقد روى الترمذي في “جامعه” رقم (807)، وابن ماجه في “سننه” رقم (1746)، عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من فطر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا”. هذا لفظ الترمذي. وقال الترمذي: “حديث حسن صحيح”.
(2) رواه ابن خزيمة في “صحيحه” رقم (2433)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (3329).
وإخراج ابن خزيمة له في صحيحه تصحيح له. وصححه الحاكم في “المستدرك” (1/ 416) على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(3) في الأصل وفي سائر النسخ: “ويزيد بن أبي حبيب”. مكان: “عن يزيد بن أبي حبيب”. والتصويب من “المعجم الكبير” و”الكامل”.
(4) رواه الطبراني في “الكبير” رقم (787) و (788) من المجلد (17)، وابن عدي =

(1/486)


وقال يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة يرفعه: “كل امرئ في ظلّ صدقته حتى يقضى بين الناس”. قال يزيد: وكان أبو الخير لا يأتي عليه يوم إلا تصدّق فيه، ولو بكعكة أو بصلة (1).
وفي حديث معاذ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار” (2).
وروى البيهقي من حديث أبي يوسف القاضي عن المختار بن فلفل عن أنس يرفعه: “باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطى الصدقة” (3).
__________
= في “الكامل” (2/ 212)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (3347).
وقال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (3/ 110): “رواه الطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام”. وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” برقم (3484).
(1) رواه أحمد في “المسند” (4/ 147)، وابن حبان في “صحيحه” رقم (3310)، وابن خزيمة في “صحيحه” رقم (2431)، والحاكم في “المستدرك” (1/ 416).
وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. ووافقهما الألباني في “تخريج أحاديث مشكلة الفقر” رقم (118).
(2) رواه الترمذي في “جامعه” رقم (2616)، وقال: “حديث حسن صحيح”، وابن ماجه في “سننه” رقم (3973).
(3) “شعب الإيمان” للبيهقي رقم (3353).
ورواه ابن عدي في “الكامل” (2/ 15) و (3/ 248)، والخطيب في “تاريخ بغداد” (9/ 339).
قال المنذري في “الترغيب” (1/ 672): “رواه البيهقي مرفوعًا وموقوفًا على أنس ولعله أشبه”. وقال الألباني في “ضعيف الترغيب والترهيب” رقم (522): “ضعيف جدًّا”.
وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب، رواه الطبراني في “الأوسط” رقم =

(1/487)


وفي “الصحيحين” من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إذا تصدّق الرجل بصدقة من كسب طيّب، ولا يقبل اللَّه إلا طيّبًا، أخذها اللَّه بيمينه، فيربّيها لأحدكم كما يربي فلوّه أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل العظيم” (1).
وفي لفظ للبيهقي في هذا الحديث: “حتى إن التمرة أو اللقمة لتكون مثل أحد” (2).
وقال محمد بن المنكدر: “من موجبات المغفرة إطعام المسلم السّغبان” (3).
وقد روي مرفوعًا من غير وجه (4).
__________
= (5643).
قال المنذري في “الترغيب والترهيب” (1/ 672): “رواه الطبراني، وذكره رزين في جامعه، وليس في شيء من الأصول”. وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 110).
(1) “صحيح البخاري” رقم (1410)، و”صحيح مسلم” رقم (1014) كلاهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2) “شعب الإيمان” رقم (3467).
وأخرجه أيضًا: ابن حبان في “صحيحه” رقم (3316)، وابن خزيمة في “صحيحه” رقم (2425)، والدارمي في “سننه” رقم (1717).
(3) رواه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (3/ 149)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (3363).
ورواه هناد في “الزهد” رقم (634) عن مجاهد قوله.
والسغبان هو الجائع. وقيل: لا يكون السّغب إلا مع التعب. انظر: “النهاية” لابن الأثير (2/ 371).
(4) روي من حديث جابر بن عبد اللَّه، رواه: الحاكم في “المستدرك” (2/ 524)، =

(1/488)


وإذا كان اللَّه سبحانه قد غفر لمن سقى كلبًا على شدة ظمئه (1) فكيف بمن سقى العطاش، وأشبع الجياع، وكسا العراة من المسلمين؟!
وقد قال رسول اللَّه: “اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة” (2)، فجعل الكلم الطيّب عوضًا عن الصدقة لمن لا يقدر عليها.
قالوا: وأين لذّة الصدقة والإحسان، وتفريحهما القلب، وتقويتهما إياه، وما يلقي اللَّه سبحانه للمتصدّقين من المحبة والتعظيم في قلوب عباده والدعاء لهم والثناء عليهم، وإدخال المسرات عليهم، من أجر الصبر على الفقر؟! ونعم إن له لأجرًا عظيمًا، لكن الأجر درجات عند اللَّه.
قالوا: وأيضًا، فالصدقة والإحسان والإعطاء وصف الرب تعالى، وأحب عباده من اتصف بذلك كما قال النبي: “الخلق عيال اللَّه، فأحبهم إليه أنفعهم لعباده” (3).
__________
= وأبو نعيم في “الحلية” (7/ 90)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (3366). وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وروي أيضًا عن محمد بن المنكدر مرفوعًا مرسلًا، رواه: البيهقي في “شعب الإيمان” رقم (3364).
(1) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (6009)، ومسلم في “صحيحه” (2244)، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (6540)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1016) (68)، كلاهما من حديث عدي بن حاتم رضي اللَّه عنه.
(3) رواه أبو يعلى في “مسنده” رقم (3315)، والحارث في”مسنده” -كما في “بغية الباحث” رقم (911) -، والبزار في “مسنده” -كما في “كشف =

(1/489)


قالوا: وقد ذكر اللَّه سبحانه أصناف السعداء؛ فبدأ بالمتصدقين أولهم، فقال: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 18، 19] فهؤلاء أصناف السعداء ومقدموهم المصدقين والمصدقات.
قالوا: وفي الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها إلا اللَّه، فمنها: أنها تقي مصارع السوء، وتدفع البلاء حتى إنها لتدفع عن الظالم.
قال إبراهيم النخعي: “كانوا يرون أن الصدقة تدفع عن الرجل الظلوم” (1).
وتطفئ الخطيئة، وتحفظ المال، وتجلب الرزق، وتفرح القلب، وتوجب الثقة باللَّه وحسن الظن به -كما أن البخل سوء الظن باللَّه- وترغم الشيطان وتزكى النفس وتنميها، وتُحبّبُ العبد إلى اللَّه وإلى خلقه، وتَستُر عليه كل عيب -كما أن البخل يغطي عليه كل حسنة-
__________
= الأستار” رقم (1949) – والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (7447)، كلهم من حديث أنس.
وضعفه البيهقي بعد روايته له. وضعفه الهيثمي في “مجمع الزوائد” (8/ 191).
وله شاهد من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه رواه الطبراني في “المعجم الكبير” رقم (10033)، وفي “الأوسط” رقم (5541)، وابن عدي في “الكامل” (5/ 162)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (7448).
وضعفه الهيثمي في “مجمع الزوائد” (8/ 191).
(1) رواه ابن معين في “تاريخه – رواية الدوري” رقم (1219)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (3352)، (3559).

(1/490)


وتزيد في العمر، وتستجلب أدعية الناس ومحبتهم، وتدفعُ عن صاحبها عذاب القبر، وتكون عليه ظلًّا يوم القيامة، وتشفع له عند اللَّه، وتهونُ عليه شدائد الدنيا والآخرة، وتدعوه إلى سائر أعمال البر فلا تستعصي عليه، وفوائدها ومنافعها أضعاف ذلك.
قالوا: ولو لم يكن في النفع والإحسان إلا أنه صفة اللَّه سبحانه، وهو سبحانه يحب من اتصف بموجب صفاته وآثارها (1)، فيُحبّ العليم والجواد والحييّ والسّتّير، والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، ويحب العدل والعفو والرحيم والشكور والبر والكريم، فصفته الغنى والجود، ويحب الغنيّ الجواد.
قالوا: ويكفي في فضل النفع المتعدي بالمال أن الجزاء عليه من جنس العمل، فمن كسا مؤمنًا كساه اللَّه من حلل الجنة، ومن أشبع جائعًا أشبعه اللَّه من ثمار الجنة، ومن سقى ظمآنًا سقاه اللَّه من شراب الجنة، ومن أعتق رقبة أعتق اللَّه بكل عضو منه عضوًا من النار حتى فرجه بفرجه (2).
__________
(1) في الأصل: “وآثاره”، والمثبت من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) يروى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عُري كساه اللَّه من خُضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع، أطعمه اللَّه من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأ سقاه اللَّه من الرحيق المختوم”.
رواه أبو داود في “سننه” رقم (1682)، والترمذي في “جامعه” رقم (2449)، وقال: “حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي”.
أما إعتاق الرقبة، فقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من أعتق رقبة أعتق اللَّه بكل عضو منها عضوًا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه”. =

(1/491)


ومن يسّر على معسر يسّر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (1).
قالوا: ونحن لا ننكر فضيلة الصبر على الفقر، ولكن أين تقع من هذه الفضائل؟ وقد جعل اللَّه لكل شيء قدرًا.
قالوا: وقد جعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الطاعمَ (2) الشاكرَ بمنزلة الصائم الصابر (3)، ومعلوم أنه إذا تعدّى شكره إلى الإحسان إلى الغير ازداد درجة أخرى؛ فإن الشكر يتضاعف إلى ما لا نهاية له، بخلاف الصبر فإن له حدًّا يقف عنده. وهذا دليل مستقلٌّ في المسألة.
يوضحه: أن الشكر أفضل من الرضى الذي هو أعلى من الصبر، فإذا كان الشاكر أفضل من الراضي الذي هو أفضل من الصابر، كان أفضل من الصابر بدرجتين.
قالوا: وفي “الصحيحين” من حديث الزهري عن سالم عن أبيه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه
__________
= رواه البخاري في “صحيحه” رقم (6715)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1509)، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(1) قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسّر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره اللَّه في الدنيا والآخرة، واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه”.
رواه مسلم في “صحيحه” رقم (2699) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث.
(3) سبق تخريجه ص (214).

(1/492)


اللَّه (1) القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه اللَّه مالًا فهو ينفقه آناء الليل والنهار” (2)، فجعل الغنى مع الإنفاق بمنزلة القرآن مع القيام به.
قالوا: وقد صرّح في حديث أبي كبشة الأنماري (3): أن (4) صاحب المال إذا عمل في ماله بعلمه، واتقى فيه ربه، ووصل به رحمه، وأخرج منه حق اللَّه فهو بأعلى المنازل عند اللَّه -وهذا صريح في تفضيله- وجعل الفقير الصادق إذا نوى أن يعمل بعمله، وقال ذلك بلسانه، ثانيًا له، وأنه بنيته وقوله وأجرهما سواء، فإن كلًّا منهما نوى خيرًا وعمل ما يقدر عليه، فالغني نواه ونفذه بعمله، والفقير العالم نواه ونفذه بلسانه، فاستويا في الأجر من هذه الجهة.
ولا يلزم من استوائهما في أصل الأجر استواؤهما في كيفيته وتفاصيله، فإن الأجر على العمل والنيّة له مزية على الأجر على مجرد النية التي قارنها القول، ومن نوى الحجّ ولم يكن له مال يحجّ به وإن أثيب على ذلك، فإن ثواب من (5) باشر أعمال الحجّ مع النية، له مزيّة عليه.
وإذا أردت فهم هذا، فتأمل قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من سأل اللَّه الشهادة خالصًا (6) من قلبه بلغه اللَّه منازل الشهداء وإن مات على فراشه” (7).
__________
(1) ليست في الأصل، وأثبتها من النسخ الثلاث.
(2) “صحيح البخاري” رقم (7529)، و”صحيح مسلم” رقم (815).
(3) وقد سبق تخريجه ص (482).
(4) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(5) “ثواب من” ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث.
(6) في النسخ الثلاث الأخرى: “صادقًا”.
(7) رواه مسلم في “صحيحه” رقم (1909) من حديث سهل بن حنيف رضي اللَّه =

(1/493)


ولا ريب أن ما حصل للمقتول في سبيل اللَّه من ثواب الشهادة تزيد كيفيته وصفاته على ما حصل لناوي ذلك إذا مات على فراشه وإن بلغ منزلة الشهيد.
فهاهنا أمران: أجر وقرب، فإن استويا في أصل الأجر لكن الأعمال التي قام بها العامل تقتضي أثرًا زائدًا وقربًا خاصًّا، وهو فضل اللَّه يؤتيه من يشاء.
وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار” قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: “إنه أراد قتل صاحبه” (1)، فاستويا في دخول النار، ولا يلزم استواؤهما في الدرجة ومقدار العذاب، فأعطِ ألفاظ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حقّها، ونزّلها منازلها، يتبيّن لك المراد.
يوضّح هذا: أن فقراء المهاجرين شكوا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقالوا: يا رسول اللَّه ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصومون كما نصوم، ويصلون كما نصلي، ولهم فضول أموال يحجّون بها ويعتمرون ويجاهدون
__________
= عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “من سأل اللَّه الشهادة بصدق بلّغه اللَّه منازل الشهداء، وإن مات على فراشه”.
ورواه أحمد في “مسنده” (5/ 243)، وابن حبان في “صحيحه” رقم (3191) من حديث معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه بلفظ: “ومن سأل اللَّه الشهادة مخلصًا. . . “.
وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” رقم (2556).
(1) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (31)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2888)، كلاهما من حديث أبي بكرة رضي اللَّه عنه.

(1/494)


ويتصدقون، قال: “أفلا أعلّمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ ” قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: “تسبّحون، وتكبّرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين”، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ” {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد: 21] ” (1).
فلو كانوا يلحقونهم في مقدار الأجر بمجرد النية، لقال لهم: انووا أن تفعلوا (2) مثل فعلهم فتنالوا مثل أجرهم، فلما أعاضهم عما فاتهم من ثواب الصدقة والعتق والحجّ والاعتمار، بتحصيل نظيره بالذكر، عُلم أن الأغنياء قد فضلوهم بالإنفاق، فلما شاركوهم في الذكر بقيت مزية الإنفاق، فشكوا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الامتياز لم يزل، وأنهم قد ساوونا في الذكر كما ساوونا في الصلاة والصوم، فأخبرهم أن ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، فلو كان لهم سبيل إلى مساواتهم من كل وجه بالنية والقول لدلّهم عليه.
قالت الفقراء: هذا الحديث حجة لنا إذا فُهم على الحقيقة، وذلك أن معناه: أنهم وإن كانوا قد ساووكم في الإيمان والإسلام والصلاة والصيام، ثم فضلوكم بالإنفاق ففي التكبير والتسبيح والتهليل ما يلحقكم بدرجتهم، وقد ساويتموهم أيضًا بحسن النية، إذ لو أمكنكم لأنفقتم مثلهم.
__________
(1) سبق تخريجه ص (301).
(2) في الأصل: “تفعل”، والتصويب من النسخ الثلاث.

(1/495)


وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: “إن أخذتم به سبقتم من قبلكم، ولم يلحقكم من بعدكم” (1)، وهذا يدل على أن الأغنياء لا يلحقونهم، وإن قالوا مثل قولهم.
وقوله: “ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء” معناه: أن فضل اللَّه ليس مقصورًا عليكم دونهم، فكما آتاكم اللَّه فضله بالذكر، كذلك يؤتيهم (2) إياه إذا عملوا مثلكم وليس في هذا دليل أنهم أفضل منكم، وإنما معناه أن فضل اللَّه يؤتيه الذي ساووكم بذكره يتناولهم مثلكم أيضا، فأنتم فهمتم من الفضل التخصيص فوضعتموه في غير موضعه، وإنما معناه العموم والشمول، وأن فضله عام شامل للأغنياء والفقراء فلا تذهبون به دونهم، فأين في الحديث التفضيل لكم علينا؟!
قالوا: فيحتمل قوله: “ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء”. ثلاثة أمور:
أحدها: سبقهم لكم بالإنفاق.
والثاني: مساواتكم بهم في فضيلة الذكر فلم تختصّوا به دونهم.
والثالث: سبقكم لهم إلى الجنة بنصف يوم.
وهذا وإن كان لا ذكر له في هذه الرواية فهو مذكور في بعض طرقه.
قال البزار في “مسنده”: حدثنا الوليد بن عمرو حدثنا محمد بن الزبرقان حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر قال:
__________
(1) لم أقف عليه هكذا.
وقد رواه البخاري في “صحيحه” رقم (843)، بلفظ: “أدركتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم”.
(2) في الأصل: “يؤتيه”، والمثبت من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/496)


اشتكى فقراء المهاجرين إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما فضل به أغنياؤهم، فقالوا: يا رسول اللَّه إخواننا صدّقوا تصديقنا، وآمنوا إيماننا، وصاموا صيامنا، ولهم أموال يتصدقون منها، ويصِلون منها الرحم، وينفقونها في سبيل اللَّه، ونحن مساكين لا نقدر على ذلك، فقال: “ألا أخبركم بشيء إذا أنتم فعلتموه أدركتم مثل فضلهم، قولوا: اللَّه أكبر في دبر كل صلاة إحدى عشرة مرة، والحمد للَّه مثل ذلك، ولا إله إلا اللَّه مثل ذلك، وسبحان اللَّه مثل ذلك، تدركون مثل فضلهم”، ففعلوا، فذكروا ذلك للأغنياء ففعلوا مثل ذلك، فرجع الفقراء إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكروا ذلك، فقالوا: هؤلاء إخواننا فعلوا مثل ما نقول، فقال: “ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، يا معشر الفقراء ألا أبشركم أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم، خمسمائة عام”. وتلا موسى بن عبيدة {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)} [الحج: 47] (1).
قالوا: فهذا خبر واحد، وكلام متصل، ذَكَرَهُ بشارة لهم عند ما ذكروا مساواة الأغنياء لهم في القول المذكور، فأشبه أن يرجع الفضل إلى سبق الفقراء للأغنياء، وأنهم بهذه البشارة مخصوصون، فكان السبق لهم دون غيرهم، وإن تساووا في القول، وساووهم في الإنفاق في النية، كما في حديث أبي كبشة المتقدم (2)، وخلصت لهم مزية الفقر.
قالت الأغنياء: قد بالغتم في صرف الحديث عن مقصوده إلى
__________
(1) “مسند البزار” -كما في “كشف الأستار” (3094) -.
وأخرجه ابن ماجه في “سننه” رقم (4124) من طريق موسى بن عبيدة به مختصرًا.
(2) ص (482).

(1/497)


جهتكم، وهو صريح في تفضيل (1) هذا الجانب لمن أنصف، فإن قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} خرج جوابًا للفقراء عن قولهم: إن أهل الدثور قد ساووهم في الذكر كما ساووهم في الصلاة والصوم والإيمان وبقيت مزية الإنفاق، لم يحصل لنا ما نلحقهم فيها، وما علمتناه من الذكر قد لحقونا فيه، فقال لهم حينئذ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} وهذا صريح جدًّا في مقصوده، فلما انكسر القوم بتحقق السبق بالإنفاق الذي عجزوا عنه، خبرهم بالبشارة بالسبق إلى دخول الجنة بنصف يوم، وأن هذا السبق في مقابلة ما فاتكم من فضيلة الغنى والإنفاق، ولكن لا يلزم من ذلك رفعتهم عليهم في المنزلة والدرجة، فهؤلاء السبعون الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب، مِنَ الموقوفين للحساب من هو أفضل من أكثرهم وأعلى منه درجة.
قالوا: وقد سمّى اللَّه سبحانه المال خيرًا في غير موضع من كتابه، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]، وقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8].
وأخبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أن الخير لا يأتي إلا بالخير” كما تقدم (2)، وإنما يأتي بالشر معصية اللَّه في الخير لا نفسه.
وأعلم اللَّه سبحانه أنه جعل المال قوامًا للأنفس، وأمر بحفظها، ونهى أن يؤتوا السفهاء من النساء والأولاد وغيرهم (3)، ومدحه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-
__________
(1) هذه الكلمة مكررة في الأصل.
(2) سبق ص (452).
(3) فقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)} [النساء: 5].

(1/498)


بقوله: “نعم المال الصالح مع الرجل الصالح” (1).
وقال سعيد بن المسيب: “لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يكف به وجهه عن الناس، ويصِل به رحمَه، ويعطي منه حقّه” (2).
وقال أبو إسحاق السبيعي: “كانوا يرون السعة عونًا على الدين” (3).
وقال محمد بن المنكدر: “نعم العون على التقوى الغنى” (4).
وقال سفيان الثوري: “المال في زماننا هذا سلاح المؤمن” (5).
وقال يوسف بن أسباط: “ما كان المال في زمان منذ خلقت
__________
(1) رواه أحمد في “مسنده” (4/ 197)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 2) من حديث عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه.
وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في “غاية المرام” رقم (454).
(2) رواه ابن أبي الدنيا في “إصلاح المال” رقم (55)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (2/ 173).
(3) رواه أحمد في “العلل ومعرفة الرجال” رقم (999)، (4210) والبغوي في “مسند ابن الجعد” رقم (409)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (4/ 340)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (46/ 222).
(4) رواه البغوي في “مسند ابن الجعد” رقم (1763)، وابن أبي الدنيا في “إصلاح المال” رقم (58)، وابن حبان في “روضة العقلاء” ص 225، والدارقطني في “جزء أبي الطاهر” رقم (158)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (3/ 149)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (56/ 67).
(5) رواه ابن أبي الدنيا في “إصلاح المال” رقم (79).
ورواه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (6/ 381) بلفظ: “كان المال فيما مض يكره، فأما اليوم فهو ترس المؤمن”.

(1/499)


الدنيا (1) أنفع منه في هذا الزمان، والخير كالخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر” (2).
قالوا: وقد جعل اللَّه سبحانه المال سببًا لحفظ البدن، وحفظه سببًا لحفظ النفس التي هي محل معرفة اللَّه والإيمان به وتصديق رسله ومحبته والإنابة إليه، فهو سبب عمارة الدنيا والآخرة، وإنما يُذم منه ما استخرج من غير وجهه وصرف في غير حقّه، واستعبد صاحبه وملك قلبه وشغله عن اللَّه والدار الآخرة، فيذمّ منه ما يَتوسل به صاحبه إلى المقاصد الفاسدة أو شغله عن المقاصد المحمودة، فالذمّ للجاعل لا للمجعول.
كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم” (3)، فذمّ عبدهما دونهما.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان عن يزيد بن ميسرة قال: “كان رجل ممن مضى جمع مالًا فأوعى، ثم أقبل على نفسه وهو في أهله، فقال: انعمي سنين. فأتاه ملك الموت، فقرع الباب في صورة مسكين، فخرجوا إليه، فقال: ادعوا لي صاحب الدار، فقالوا: يخرج سيدنا إلى مثلك؟! ثم مكث قليلًا، ثم عاد فقرع باب الدار وصنع مثل ذلك وقال: أخبروه أني ملك الموت. فلما سمع سيدهم قعد فزعًا،
__________
(1) بعد هذه الكلمة في الأصل: “في زمان”. وهي مكررة وحذفها موافق للنسخ الثلاث الأخرى.
(2) روى ابن حبان في “روضة العقلاء” ص 253 الشطر الأول منه.
ورواه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (6/ 380) عن يوسف بن أسباط عن الثوري قوله.
(3) سبق تخريجه ص (428).

(1/500)


وقال: لينوا له الكلام. قالوا: ما تريد غير سيدنا بارك اللَّه فيك. قال: لا، فدخل عليه، فقال: قم فأوصِ ما كنت موصيًا، فإني قابض نفسك قبل أن أخرج. قال: فصرخ أهله وبكوا، ثم قال: افتحوا الصناديق وافتحوا أوعية المال. ففتحوها جميعها فأقبل على المال يلعنه ويسبّه، ويقول: لُعنت من مال، أنت الذي نسيتني ربي وشغلتني عن العمل لآخرتي حتى بلغني أجلي. فتكلم المال فقال: لا تسبّني، ألم تكن وضيعًا في أعين الناس فرفعتك؟ (1) وكنت تحضر سدد الملوك (2) ويحضر عباد اللَّه الصالحون فلا يدخلون؟ ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادة فتُنكح، ويخطب عباد اللَّه الصالحون فلا ينكحون؟ ألم تكن تنفقني في سبيل الخبث فلا أتعاصى، ولو أنفقتني في سبيل اللَّه لم أتعاصَ عليك؟! وأنت ألوم مني، إنما خلقت أنا وأنتم يا بني آدم من تراب، فمنطلقٌ ببرّ ومنطلق بإثم (3) ” (4).
وفي أثر آخر يقول اللَّه تبارك وتعالى: “أموالنا رجعت إلينا، سعد بها من سعد، وشقي بها من شقي” (5).
قالوا: ومن فوائد المال: أنه قوام العبادات والطاعات، وبه قام سوق الحجّ والجهاد، وبه حصل الإنفاق الواجب والمستحب، وبه حصلت قربات العتق والوقف وبناء المساجد والقناطر وغيرها، وبه
__________
(1) بعد هذه الكلمة في (ب): “ألم يُرَ عليك من أثري”.
(2) بعد هذه الكلمة في (ب) وط السلفية: “والسادة فتدخل”.
(3) بعد هذه الكلمة في النسخ الثلاث: “فهكذا يقول المال فاحذروا”.
(4) رواه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (5/ 240 – 241)، من طريق أحمد به نحوه.
(5) لم أقف عليه.

(1/501)


يتوصل إلى النكاح الذي هو أفضل من التخلي لنوافل العبادة، وعليه قام سوق المروءة، وبه ظهرت صفة الجود والسّخاء، وبه وقيت الأعراض، وبه اكتسبت الإخوان والأصدقاء، وبه توصل الأبرار إلى الدرجات العلا ومرافقة الذين أنعم اللَّه عليهم، فهو مرقاة يصعد فيها إلى أعلى غرف الجنة، ويهبط منها إلى أسفل سافلين، وهو مقيم مجد الماجد، كما كان بعض السلف يقول: “اللهم لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال” (1).
وكان بعضهم يقول: “اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى” (2).
وهو من أسباب رضي اللَّه عن العبد، كما يكون من أسباب سخطه عليه، وهؤلاء الثلاثة الذين ابتلاهم اللَّه به: الأبرص، والأقرع، والأعمى، نال به الأعمى رضى ربه، ونالا به سخطه (3).
والجهاد ذروة سنام العمل، وتارة يكون بالنفس، وتارة يكون بالمال،
__________
(1) هذا القول مروي عن سعد بن عبادة رضي اللَّه عنه، رواه ابن سعد في “الطبقات” (3/ 614)، وابن أبي شيبة في “المصنف” رقم (26619)، وابن أبي الدنيا في “إصلاح المال” رقم (54)، والحاكم في “المستدرك” (3/ 253)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (1258)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (20/ 263).
(2) لم أقف عليه، وهو مروي عن فيس بن سعد، كما سيأتي عند المصنف ص (490).
إلا أنه في الأثر السابق المروي عن سعد بن عبادة فيه قوله: “اللهم لا يصلحني القليل ولا أصلح عليه”. وهو بمعناه. واللَّه أعلم.
(3) روى هذا الحديث: البخاري في “صحيحه” رقم (3464)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2964)، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

(1/502)


وربما كان الجهاد بالمال أنكى وأنفع، وبأي شيء فضّل عثمان على على، وعلى أكثر جهادًا بنفسه وأسبق إسلامًا من عثمان؟! وهذا الزبير وعبد الرحمن بن عوف أفضل من جمهور الصحابة مع الغنى الوافر، وتأثيرهم في الدين أعظم من تأثير أهل الصفّة.
وقد نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن إضاعته (1)، وأخبر أن ترك الرجل ورثته أغنياء خير له من تركهم فقراء، وأخبر أن صاحب المال لن ينفق نفقة يبتغى بها وجه اللَّه إلا ازداد بها درجة ورفعة (2).
وقد استعاذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الفقر وقرنه بالكفر، [فقال: “اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر” (3)] (4)، فإن الخير نوعان: خير الآخرة والكفر يضاده، وخَيرُ الدنيا والفقر يضاده، فالفقر سبب عذاب الدنيا، والكفر سبب عذاب الآخرة.
واللَّه سبحانه جعل إعطاء الزكاة وظيفة الأغنياء، وأخذها وظيفة
__________
(1) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (6473)، ومسلم في “صحيحه” (2/ 1341) رقم (593) كلاهما من حديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا: “وكان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال”.
(2) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (1295)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1628)، كلاهما من حديث سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه.
(3) رواه أبو داود في “سننه” رقم (5090)، والنسائي في “المجتبى” رقم (1347)، من حديث أبي بكرة رضي اللَّه عنه.
وصححه ابن خزيمة فأخرجه في “صحيحه” برقم (747). وله شواهد أخرى لا نطيل بذكرها.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الثلاث الأخرى، مع تقديم وتأخير بين كلمتي: “الفقر” و”الكفر”.

(1/503)


الفقراء، وفرق بين اليدين شرعًا وقدرًا، وجعل يد المعطي أعلى من يد الآخذ، وجعل الزكاة أوساخ المال، ولذلك حرّمها على أطيب خلقه وعلى آله؛ صيانة لهم وتشريفًا ورفعًا لأقدارهم (1).
ونحن لا ننكر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان فقيرًا ثم أغناه اللَّه، وفتح عليه وخوّله ووسّع عليه، وكان يدّخر لأهله قوت سنة (2)، ويعطي العطايا التي لم يعطها أحد غيره، وكان يُعطي عطاء من لا يخاف الفقر (3)، ومات عن فدك والنضير وأموال خصّه اللَّه بها (4)، وقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7].
فنزّهه ربه سبحانه عن الفقر الذي يسوغّ أخذ الصدقة، وعوّضه عما نزّهه عنه (5) بأشرف المال وأحلّه وأفضله، وهو ما أخذه بظلّ رمحه وقائم
__________
(1) روى مسلم في “صحيحه” رقم (1072) من حديث عبد المطلب بن ربيعة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس”.
(2) روى ذلك البخاري في “صحيحه” رقم (5357)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1757)، كلاهما من حديث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه.
(3) روى مسلم في “صحيحه” رقم (2312) من حديث أنس بن مالك قال: “ما سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة”.
(4) انظر في فدك: “صحيح البخاري” رقم (4035)، و”صحيح مسلم” رقم (1759)، من حديث عائشة رضي اللَّه عنها.
وانظر في النضير: “صحيح البخاري” رقم (2904)، و”صحيح مسلم” رقم (1757)، من حديث عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه.
(5) في الأصل: “به”، والمثبت من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/504)


سيفه من أعداء اللَّه (1) الذين كان مال (2) اللَّه بأيديهم ظلمًا وعدوانًا، فإنه خلق المال ليستعان به على طاعته، [وهو بأيدي الكفار والفجار ظلمًا وعدوانًا، فإذا رجع إلى أوليائه وأهل طاعته] (3) فاء إليهم ما خلق لهم، ولكن لم يكن غنى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وملكه من جنس غنى بني الدنيا وأملاكهم؛ فإن غناهم بالشيء، وغناه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الشيء، وهو الغِنَى العالي، وملكهم ملك يتصرفون فيه بحسب إرادتهم، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما يتصرف في ملكه بالأمر تصرّف العبد الذي لا يتصرف إلا بأمر سيّده.
وقد اختلف الفقهاء في الفيء هل كان ملكًا للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد (4).
والتحقيق: أن ملكه له كان نوعًا آخر من الملك، وهو ملك يتصرف فيه بالأمر كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: “واللَّه لا أُعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت” (5).
وذلك من كمال مرتبة عبوديته، [ولأجل ذلك لم يورّث؛ فإنه عبد
__________
(1) روى أحمد في “مسنده” (2/ 50) عن عبد اللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “بعثت بالسيف حتى يعبد اللَّه لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي”.
وحسنه الألباني في “إرواء الغليل” (5/ 109).
(2) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الثلاث الأخرى.
(4) انظر: “منهاج السنة” لشيخ الإسلام (6/ 109)، و”الفتاوى الكبرى” له (4/ 241).
(5) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (3117) من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه نحوه.

(1/505)


محض من كل وجه لربه عز وجل، والعبد] (1) لا مال له فيُورث عنه فجمع اللَّه له سبحانه بين أعلى أنواع الغنى وأشرف أنواع الفقر، فكمّل له مراتب الكمال، فليست إحدى الطائفتين بأحق به من الأخرى، فكان في فقره أصبر خلق اللَّه وأشكرهم له، وكذلك كان في غناه.
واللَّه تعالى جعله قدوة للأغنياء والفقراء، وأي غنى أعظم من غنى من عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض (2)، وعرض عليه أن يجعل له الصفا ذهبًا (3)، وخيّر بين أن يكون ملكًا نبيّا وبين أن يكون عبدًا نبيًّا، فاختار أن يكون عبدًا نبيًّا (4)، ومع هذا فجُبيت إليه أموال جزيرة العرب واليمن، فأنفقها كلّها ولم يستأثر منها بشيء، بل تحمّل عيال المسلمين
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) روى الطبراني في “الأوسط” رقم (6937) عن ابن عباس: “أن إسرافيل أتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إن اللَّه سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض. . . ” الحديث.
وقال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (10/ 315): “رواه الطبراني في الأوسط، وفيه سعدان بن الوليد ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح”. وضعفه الألباني في “ضعيف الترغيب والترهيب” رقم (1908).
(3) روى أحمد في “المسند” (1/ 242)، والحاكم في “المستدرك” (1/ 53)، عن ابن عباس قال: “قالت قريش للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: ادع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك. . . ” الحديث وفيه: “فأتاه جبريل فقال: إن اللَّه يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت أصبح الصفا ذهبًا. . . وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة. قال: بل باب التوبة والرحمة”.
وصححه الحاكم بعد روايته له.
(4) رواه أحمد في “المسند” (2/ 231)، وأبو يعلى في “مسنده” رقم (6105)، وابن حبان في “صحيحه” رقم (6365) بلفظ: “عبدًا رسولًا”. وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” برقم (1002).

(1/506)


ودَينهم، فقال: “من ترك مالًا فلورثته، ومن ترك كلًّا فإليّ وعليّ” (1).
فرفع اللَّه سبحانه قدره أن يكون من جملة الفقراء الذين تحلّ لهم الصدقة، كما نزهه أن يكون من جملة الأغنياء الذين غناهم بالأموال الموروثة، بل أغناه به عن سواه، وأغنى قلبه كل الغنى، ووسّع عليه غاية السعة، فأنفق غاية الإنفاق، وأعطى أجل العطايا، وما استأثر بالمال، ولا اتخذ منه عقارًا ولا أرضًا ولا ترك شاة ولا بعيرًا ولا عبدًا ولا أمة ولا دينارًا ولا درهمًا.
فإذا احتجّ الغني الشاكر بحاله -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يمكنه ذلك إلا بعد أن يفعل فعله، كما أن الفقير الصابر إذا احتج بحاله لم يمكنه ذلك إلا بعد أن يصبر صبره ويترك الدنيا اختيارًا لا اضطرارًا، فرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفى كل مرتبة من مرتبتي الفقر والغنى حقَّها وعبوديتها، وأيضًا فإن اللَّه سبحانه أغنى به الفقراء فما نالت أمّته الغنى إلا به، وأغنى الناس من صار به غيره غنيًّا.
قال عليّ بن رباح اللخمي: كنت عند مسلمة بن مخلد الأنصاري وهو يومئذ على مصر، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص جالس معه، فتمثل مسلمة ببيت من شعر أبي طالب فقال: لو أن أبا طالب رأى ما نحن فيه اليوم من نعمة اللَّه وكرامته، لعلم أن ابن أخيه سيّد قد جاء بخير. فقال
__________
(1) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (2398)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1619) (17) من حديث أبي هريرة بلفظ: “من ترك مالًا فلورثته، ومن ترك كلًّا فإلينا”.
ورواه أبو داود في “سننه” رقم (2899 – 2900)، وابن ماجه في “سننه” رقم (2738)، كلاهما من حديث المقدام الكندي نحوه.

(1/507)


عبد اللَّه بن عمرو: ويومئذ كان سيدًا كريمًا قد جاء بخير كثير. فقال مسلمة: ألم يقل اللَّه تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 6 – 8] فقال عبد اللَّه بن عمرو: أما اليتيم فقد كان يتيمًا من أبويه، وأما العيلة فكل ما كان بأيدي العرب إلى القفة (1).
يقول: إن العرب كلها كانت مقلّة حتى فتح اللَّه عليه وعلى العرب الذين أسلموا ودخلوا في دين اللَّه أفواجًا، ثم توفاه اللَّه قبل أن يتلبّس منها بشيء، ومضى وتركها، وحذر منها ومن فتنتها قال: فذلك معنى قوله: {عَائِلًا فَأَغْنَى (8)}.
وأما قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ (2) رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5] فلم تكن الدنيا لترضيه وهو لا يرضاها لأمته وهو يُحذر منها، وتعرض عليه فيأباها، وإنما هو ما يعطيه من الثواب، وما يفتح عليه وعلى أمته من ملك كسرى وقيصر، ودخول الناس في الإسلام، وظهور الدين إذ كان ذلك محبته ورضاه صلوات اللَّه وسلامه عليه.
وروى سفيان الثوري عن الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد اللَّه عن علي بن عبد اللَّه بن عباس [عن أبيه] (3) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “رأيت ما هو مفتوح بعدي كفرًا كفرًا، فسرّني ذلك، فنزلت: {وَالضُّحَى (1)} إلى قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 1 – 5] ” قال: “أُعطي
__________
(1) رواه البيهقي في “دلائل النبوة” (7/ 62).
(2) “ربك”، سقطت من الأصل.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل وسائر النسخ الثلاث. واستدركته من مصدرَيْ التخريج.

(1/508)


ألف قصر من لؤلؤ ترابها المسك، في كل قصر ما ينبغي له” (1).
قالوا: وما ذكرتم من الزهد في الدنيا والتقفل منها، فالزهد فيها لا ينافي الغنى، بل زهد الغنيّ أكمل من زهد الفقير، فإن الغنى زَهِد عن قدرة، والفقير عن عجز، وبينهما بون بعيد، ولهذا قال بعض السلف وقد سمّى له جماعة من الزهاد، فقال: الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي جاءت الدنيا إلى تحت قدميه فزهد فيها (2).
وقد كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حال غناه أزهد الخلق، وكذلك إبراهيم الخليل كان كثير المال، وهو أزهد الناس في الدنيا.
وقد روى الترمذي في “جامعه” من حديث أبي ذر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “الزهادة ليست في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يدي اللَّه، وأن تكون في ثواب المصيبة -إذا أنت أُصبت بها- أرغب في ثوابها لو أنها بقيت لك” (3).
__________
(1) رواه الحاكم في “المستدرك” (2/ 526) ومن طريقه البيهقي في “دلائل النبوة” (7/ 61).
وصححه الحاكم، وخالفه الذهبي.
وللحديث طرق أخرى أخرجها: الطبراني في “الكبير” رقم (10650)، وفي “الأوسط” رقم (572)، (3209). والحديث صححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” رقم (2790).
وكفرًا كفرًا أي: قرية قرية. انظر: “النهاية” لابن الأثير (4/ 189).
(2) رواه: أحمد في “المسند” (5/ 249)، وابن الأعرابي في “الزهد” رقم (51)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (5/ 257)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (45/ 209).
(3) رواه الترمذي في “جامعه” رقم (2340)، وقال: “حديث غريب لا نعرفه إلا =

(1/509)


وسُئل الإمام أحمد عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدًا (1)؟. قال: نعم، بشرط أن لا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت (2).
وقال بعض السلف: الزاهد من لا يغلب الحلالُ شكرَه، ولا الحرام صبره (3).
وهذا من أحسن الحدود، فإن الزهد حقيقة مركبة من الصبر والشكر فلا يستحق اسم الزاهد من لم يتصف بهما، فمن غلب شكره لما وسع عليه من الحلال وصبره لما عرض له من الحرام، فهو الزاهد على الحقيقة بخلاف من غلب الحلال شكره والحرام صبره، فكان شكره وصبره مغلوبين، فإن هذا ليس بزاهد.
وسمعت شيخ الإسلام يقول: الزهد تركك ما لا ينفعك، والورع تركك ما قد يضرّك (4).
فالزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد منها، ويقابله الشحّ
__________
= من هذا الوجه”، وابن ماجه في “سننه” رقم (4100).
(1) في الأصل: “زائدا”، والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) انظره في: “طبقات الحنابلة” (2/ 14)، و”جامع العلوم والحكم”: (2/ 183).
ونحوه مروي عن وهيب المكي وأبي موسى، رواه عنهما ابن الأعرابي في “الزهد” رقم (7/ 146).
(3) هذا مروي عن الزهري.
أخرجه ابن الأعرابي في “الزهد” رقم (5)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (3/ 371) و (7/ 287)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (4553)، (10776).
(4) انظر: “مجموع الفتاوى” (10/ 21) و (21/ 305).

(1/510)


والحرص، وهو ثلاثة أقسام: زهد في الحرام، وزهد في الشبهات والمكروه، وزهد في الفضلات.
فالأول: فرض.
والثالث: فضل.
والثاني: متوسط بينهما بحسب درجة الشبهة، فإن قويت التحق بالأول وإلا فبالثالث.
وقد يكون الثالث واجبًا بمعنى: أنه لا بدّ منه، وذلك لمن شمّر إلى اللَّه والدار الآخرة، فزهده في الفضلة يكون ضرورة، فإن إرادة الدنيا قادحة في إرادة اللَّه والدار الآخرة.
ولا يصح للعبد مقام الإرادة حتى يفرد طلبه ومطلوبه، فلا يتقسّم المطلوب ولا الطلب.
أما توحيد المطلوب: فأن لا يتعلّق طلبه وإرادته بغير اللَّه، وما يقرّب إليه ويدني منه.
وأما توحيد الطلب: فأن يستأصل الطلب والإرادة نوازع الشهوات وجواذب الهوى، وتسكن الإرادة في أقطار النفس فتملأها، فلا يدع فيها فضلًا لغير الانجذاب إلى جناب الحق جل جلاله، فتمحض الإرادة له، ومتى تمحضت كان الزهد لصاحبها ضرورة، فإنه يفرغه لعمارة وقته وجمع قلبه على ما هو بصدده وقطع مواد طمعه التي هي من أفسد شيء للقلب، بل أصل المعاصي والفساد والفجور كله من الطمع.
فالزهد يقطع موادّه، ويفرغ البال، ويجلي القلب، ويستحث الجوارح، ويذهب الوحشة التي بين العبد وبين ربه، ويجلب الأنس به،

(1/511)


ويقوي الرغبة في ثوابه إن ضعف عن الرغبة في قربه والدنو منه وذوق حلاوة معرفته ومحبته.
فالزاهد أروح الناس بدنًا وقلبًا، فإن كان زهده وفراغه من الدنيا قوة له في إرادة اللَّه والدار الآخرة -بحيث فرغّ قلبه للَّه، وجعل حرصه على التقرّب إليه، وشحّه على وقته أن يضيع منه شيء في غير ما هو أرضى للَّه وأحب إليه- كان من أنعم الناس عيشًا، وأقرّهم عينًا، وأطيبهم نفسًا، وأفرحهم قلبًا، فإن الرغبة في الدنيا تشتّت القلب وتبدّد الشمل، وتطيل الهم والغمّ والحزن، فهي عذاب حاضر يؤدي إلى عذاب منتظر أشد منه، وتفوّت على العبد من النعم أضعاف ما يروم تحصيله بالرغبة في الدنيا.
قال الإمام أحمد: حدثنا الهيثم بن جميل حدثنا محمد يعني ابن مسلم عن إبراهيم يعني ابن ميسرة عن طاوس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، وإن الرغبة في الدنيا تطيل الهم والحزن” (1).
وإنما تحصل الهموم والغموم والأحزان من جهتين:
أحدهما: الرغبة في الدنيا والحرص عليها.
الثاني: التقصير في أعمال البر والطاعة.
قال عبد اللَّه بن أحمد: حدثني بيان بن الحكم حدثنا محمد بن حاتم عن بشر بن الحارث قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن ليث عن الحكم (2)
__________
(1) سبق تخريجه ص (419).
(2) في الأصل: “الحكمي”. والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/512)


قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إذا قصّر العبد في العمل، ابتلاه اللَّه عز وجل بالهمّ” (1).
وكما أن الرغبة في الدنيا أصل المعاصي الظاهرة، فهي أصل معاصي القلب؟ من السخط والحسد والكبر والفخر والخيلاء والتكاثر، وهذا كله من امتلاء القلب بها لا من كونها في اليد، وامتلاء القلب بها ينافي الشكر، ورأس الشكر تفريغ القلب منها، وباللَّه التوفيق.
وامتداد المال كامتداد العمر والجاه، فخير الناس من طال عمره وحسن عمله (2)، فهكذا من امتدّ ماله وكثر خيره، فنعم المرء وماله وجاهه: إما أن يرفعه درجات، وإما أن يضعه درجات.
وسرّ المسألة: أن طريق الفقر والتقلل طريق سلامة مع الصبر، وطريق الغنى والسعة في الغالب طريق عطب، فإن اتقى اللَّه في ماله ووصل منه رحِمَه، وأخرج منه حقّ اللَّه، وليس مقصورًا على الزكاة بل من حقّه إشباع الجائع، وكسوة العاري، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج والمضطر، فطريقه طريق غنيمة وهي فوق السلامة.
فَمَثلُ صاحب الفقر كمثل مريض قد حُبس بمرضه عن أغراضه، فهو يثاب على حسن صبره على حبسه، وأما الغني فخطره عظيم في كسبه
__________
(1) “زوائد عبد اللَّه على الزهد” لإمام أحمد رقم (53).
ورواه الخطيب في “تاريخ بغداد” (7/ 111). كلاهما عن الحكم مرسلًا.
(2) روى ذلك الترمذي في “جامعه” رقم (2329)، وقال: “حسن غريب من هذا الوجه”، من حديث عبد اللَّه بن بسر.
ورواه أيضًا برقم (2330) وقال: “حديث حسن صحيح”، من حديث أبي بكرة رضي اللَّه عنه.

(1/513)


وجمعه وصرفه، فإذا سلم كسبه وحسن، وأخذه من وجهه وصرفه في حقّه، كان أنفع له.
فالفقير كالمتعبد المنقطع عن الناس، والغنيّ المنفق في وجوه الخير كالمفتي والمعلم والمجاهد؛ ولهذا جعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قرين الذي آتاه اللَّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، فهو أحد المحسودين الذين لا ثالث لهما (1)، والجهلة يغبطون المنقطع المتخلي المقصور النفع على نفسه، ويجعلونه أولى بالحسد من الغنى المنفق والعالم المعلم.
فإن قيل: فأيهما أفضل: من يختار الغنى للتصدق والإنفاق في وجوه البرّ، أم من يختار الفقر والتقفل ليبعد من الفتنة ويسلم من الآفة، ويرفه قلبه على الاستعداد للآخرة فلا يشغله بالدنيا؟ أم من لا يختار لا هذا ولا هذا بل يختار ما يختار اللَّه له فلا يُعنى باختياره واحدًا من الأمرين؟
قيل: هذا موضع اختلف فيه حال السلف الصالح:
فمنهم من اختار المال للجهاد به والإنفاق، وصرفه في وجوه البرّ، كعبد الرحمن بن عوف وغيره من مياسير الصحابة، وكان قيس ابن سعد يقول: “اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى” (2).
ومنهم من اختار الفقر والتقلّل كأبي ذرّ وجماعة من الصحابة معه،
__________
(1) سبق تخريج هذا الحديث في ص (494).
(2) لم أقف عليه هكذا.
وإنما روى ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (49/ 417) عنه أنه قال: “اللهم هب لي حمدًا ومجدًا، لا مجد إلا بفعال ولا فعال إلا بمال. . . “.
وقد سبق هذا عن أبيه أيضًا. انظر ص (503).

(1/514)


وهؤلاء نظروا إلى آفات الدنيا، وخشوا الفتنة بها، وأولئك نظروا إلى مصالح الإنفاق وثمراته العاجلة والآجلة.
والفرقة الثالثة لم تختر شيئًا، بل كان اختيارها ما اختاره اللَّه لها.
وكذلك اختيار طول البقاء في الدنيا لإقامة دين اللَّه وعبادته: فطائفة اختارته وتمنّته.
وطائفة أحبت الموت ولقاء اللَّه، والراحة من الدنيا،
وطائفة ثالثة لم تختر هذا ولا هذا، بل اختارت ما اختاره اللَّه لها، وكان اختيارهم معلقًا بما يريده اللَّه دون مراد معين منهم، وهي حال الصديق رضي اللَّه عنه فإنهم قالوا له في مرض موته: ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال: “قد رآني”، قالوا: فما قال لك؟ قال: “قال: إني فعال لما أريد” (1).
والأولى: حال موسى صلوات اللَّه وسلامه عليه، فإنه لما جاءه ملك الموت لطمه، ففقأ عينه (2)، ولم يكن ذلك حبًّا منه للدنيا والعيش فيها، ولكن لينفّذ أوامر ربّه، ويقيم دينه، ويجاهد أعداءه، فكأنه قال لملك الموت: أنت عبد مأمور، وأنا عبد مأمور، وأنا في تنفيذ أوامر ربّي وإقامة دينه، فلما عرضت عليه الحياة الطويلة وعلم أن الموت بعدها، اختار ما اختار اللَّه له.
__________
(1) سبق تخريجه ص (178).
(2) قصة لطم موسى عليه السلام لملك الموت رواها: البخاري في “صحيحه” رقم (3407)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2372)، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
أما فقأه عين الملك فهي عند مسلم فقط في الحديث نفسه.

(1/515)


وأما نبيُّنا صلوات اللَّه وسلامه عليه، فإن ربّه أرسل إليه يخبره وكان أعلم الخلق باللَّه، فعلم أن ربه تبارك وتعالى يحب لقاءه ويختاره له فاختار لقاء اللَّه، ولو علم أن ربه يحب له البقاء في الدنيا لتنفيذ أوامره وإقامة دينه لما اختار غير ذلك، فكان اختياره تابعًا لاختيار ربّه، كما أنه لما خيّره ربه عز وجل بين أن (1) يكون مَلِكًا نبيًّا وبين أن يكون عبدًا نبيًّا (2) وعلم أن ربه يختار له أن يكون عبدًا، اختار ما اختاره اللَّه له، فكان اختياره في جميع أموره تابعًا لاختيار اللَّه له.
ولهذا يوم الحديبية احتمل ما احتمل من تلك الشروط (3)، ووفّى هذا المقام حقّه. ولم يثبت عليه من كل وجه إلا الصّديق، فلم يكن له اختيار في سوى ما اختار اللَّه له ولأصحابه من تلك الحال التي تقرر الأمر عليها، فكان راضيًا بها مختارًا لها شاهدًا اختيار ربه لها، وهذا غاية العبودية، فشكر اللَّه له ذلك، وجعل شكرانه ما بشره به في أول سورة الفتح حتى هنأه الصحابة به، وقالوا: هنيئًا لك يا رسول اللَّه (4)، وحُقَّ له أن يُهَنّأ بأعظم ما هنّئ به بشر صلوات اللَّه وسلامه عليه.
__________
(1) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) سبق تخريجه ص (507).
(3) انظر في ذلك حديث سهل بن حنيف الذي رواه البخاري في “صحيحه” رقم (3181)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1785).
(4) رواه أحمد في “مسنده” (3/ 122)، والحاكم في “المستدرك” (2/ 459)، (460).
وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

(1/516)


فصل
ومما ينبغي أن يعلم أن كل خصلة من خصال الفضل فقد أحل اللَّه سبحانه رسوله في أعلاها، وخصه بذروة سنامها، فإذا احتجت بحاله فرقة من فرق الأمة -التي تفرقت تلك الخصال وتقاسمتها- على فضلها على غيرها، أمكن الفرقة الأخرى أن تحتج به على فضلها أيضًا.
فإذا احتجّ به الغزاة والمجاهدون على أنهم أفضل الطوائف، احتجّ به العلماء والفقهاء على مثل ما احتج به أولئك.
وإذا احتجّ به الزهاد والمتخلّون عن الدنيا على فضلهم، احتج به الداخلون في الدنيا والولاية وسياسة الرعية لإقامة دين اللَّه، وتنفيذ أمره.
وإذا احتج به الفقير الصابر، احتج به الغنى الشاكر.
وإذا احتج به العبّاد على فضل نوافل العبادة وترجيحها، احتجّ به العارفون على فضل المعرفة.
وإذا احتج به أرباب التواضع والحلم، احتج به أرباب العز والقهر للمبطلين والغلظة عليهم والبطش بهم.
وإذا احتج به أرباب الوقار والهيبة والرزانة، احتج به أرباب الخُلُق الحسن والمزح المباح الذي لا يخرج عن الحق وحسن العشرة للأهل والأصحاب.
وإذا احتج به أصحاب الصدع بالحق والقول به في المشهد والمغيب، احتج به أصحاب المداراة والحياء والتكرم أن يبادروا (1)
__________
(1) في الأصل: “يبادوا” -بسقوط الراء-، والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/517)


الرجل بما يكرهه في وجهه.
وإذا احتج به المتورعون على الورع المحمود، احتج به الميسرون والمسهلون الذين لا يخرجون عن سعة شريعته ويسرها وسهولتها.
وإذا احتج به من [صرف عنايته إلى إصلاح دينه وقلبه، احتج به من] (1) راعى إصلاح بدنه ومعيشته ودنياه، فإنه بعث بصلاح الدنيا والدين.
وإذا احتجّ به (2) من لم يعلّق قلبه بالأسباب ولا ركن إليها، احتج به من قام بالأسباب ووضعها مواضعها وأعطاها حقها.
وإذا احتج به من جاع وصبر على الجوع، احتج به من شبع وشكر ربه على الشبع.
وإذا احتج به من أخذ بالعفو والصّفح والاحتمال، احتج به من انتقم في موضع الانتقام.
وإذا احتج به من أعطى للَّه ووالى للَّه، احتج به من منع للَّه وعادى للَّه.
وإذا احتج به من لم يدّخر شيئًا لغد، احتج به من يدّخرُ لأهله قوت سنة.
وإذا احتج به من يأكل الخشن من القوت والأدم كخبز الشعير والخلّ، احتج به من يأكل اللذيذ الطيب كالشواء والحلواء والفاكهة والبطيخ ونحوه.
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) في الأصل بعد هذه الكلمة جملة: “من راعى إصلاح بدنه”. ومحلها هنا سهو، إذ قد سبقت. والتصويب موافق للنسخ الثلاث الأخرى.

(1/518)


وإن احتج به من سرد الصوم، احتج به من سرد الفطر، فكان يصوم حتى يُقال: لا يفطر، ويفطر حتى يُقال: لا يصوم (1).
وإن احتج به من رغب عن الطيبات والمشتهيات، احتج به من أحب أطيب ما في الدنيا وهو النساء والطيب.
وإن احتج به من لان جانبه وخفض جناحه لنسائه، احتج به من أدبهن وآلمهن وطلّقهن وهجرهن وخيّرهن.
وإن احتج به من ترك مباشرة أسباب المعيشة بنفسه، احتج به من باشرها بنفسه فآجر واستأجر، وباع واشترى، واستسلف، وأدان، ورهن.
وإن احتج به من يجنب النساء بالكلية في الحيض والصيام، احتج به مباشر امرأته وهي حائض بغير الوطء، ومن يقبّل امرأته وهو صائم.
وإن احتج به من رحم أهل المعاصي بالعذر (2)، احتج به من أقام عليهم حدود اللَّه، فقطع السارق، ورجم الزاني، وجلد الشارب.
وإن احتج به أرباب الحكم بالظاهر، احتج به أرباب السياسة العادلة المبنية على القرائن الظاهرة، فإنه حبس في تهمة، وعاقب في تهمة، وأخبر عن (3) نبي اللَّه سليمان عليه السلام أنه حكم بالولد للمرأة بالقرينة
__________
(1) روى ذلك البخاري في “صحيحه” رقم (1969)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1155)، كلاهما من حديث عائشة رضي اللَّه عنها.
(2) في النسخ الثلاث الأخرى: “بالقدر”. والأمر محتمل.
(3) ساقطة من الأصل، وأثبتها من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/519)


الظاهرة مع اعترافها لصاحبتها به (1)، فلم يحكم بالاعتراف الذي ظهر له بطلانه بالقرينة.
وترجم أبو عبد الرحمن (2) على هذا الحديث ترجمتين:
إحداهما: قال: التوسعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله: أَفْعَل ليستبين به الحق (3).
ثم قال: الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم عليه، إذا تبين للحاكم أن الحق غير ما اعترف به (4).
وكذلك الصحابة عملوا بالقرائن في حياته وبعده:
فقال على للمرأة التي حملت (5) كتاب حاطب: “لتلقين (6) الكتاب أو لأجرّدنك” (7).
وحد عمر بن الخطاب في الزنى بالحبل (8)، وفي الخمر
__________
(1) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (6769)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1720)، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
(2) أي النسائي صاحب السنن.
(3) سنن النسائي “المجتبى” ص 812، في 49 – كتاب آداب القضاة، الباب رقم (15). و”السنن الكبرى” له أيضًا (3/ 472)، قبل الحديث رقم (5958).
(4) “السنن الكبرى” (3/ 473) قبل الحديث رقم (5959). وليس هذا التبويب في السنن المجتبى.
(5) في الأصل: “حكمت”، والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى.
(6) في النسخ الثلاث الأخرى: “لتخرجن”. وهو الموافق لمصادر التخريج.
(7) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (3081)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2494).
(8) روى البخاري في “صحيحه” رقم (6830)، ومسلم في “صحيحه” رقم =

(1/520)


بالرائحة (1).
وحكى اللَّه سبحانه عن شاهد يوسف حكاية مقرر غير منكر أنه حكم بقرينة شقّ القميص من دبر على براءته (2).
وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- لابن أبي الحقيق وقد زعم أن النفقة أذهبت كنز حيي بن أخطب: “العهد قريب والمال أكثر من ذلك” (3)، فاعتبر قرينتين دالّتين على بقاء المال، وعاقبه حتى أقر به.
وجوّز لأولياء القتيل أن يحلفوا على رجل أنه قتله، ويقتلونه به بناء على القرائن المرجحة صدقهم (4).
وشرع اللَّه سبحانه رجم المرأة إذا شهد عليها زوجها في اللعان، وأبت أن تلاعن للقرينة الظاهرة على صدقه (5).
__________
= (1691) عنه قال: “والرجم في كتاب اللَّه حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف”.
(1) روى ذلك عنه مالك في الموطأ (2/ 842)، وعلقه البخاري في صحيحه (10/ 65) في 74 – كتاب الأشربة، 10 – باب الباذق. قبل الحديث رقم (5598).
وصححه ابن حجر في “فتح الباري” (10/ 67).
(2) قال اللَّه تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)} [يوسف: 26 – 28].
(3) رواه ابن حبان في “صحيحه” رقم (5199)، والبيهقي في “السنن الكبرى” (9/ 137).
(4) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (6142)، (6143)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1669)، من حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج رضي اللَّه عنهما.
(5) قال اللَّه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ =

(1/521)


وشريعته طافحة بذلك لمن تأمّلها، فالحكم بالقرائن الظاهرة من نفس شريعته وما جاء به فهو حجة لقضاة الحق وولاة العدل، كما أنه حجة على قضاة السوء، وولاة الجور، واللَّه المستعان (1).
والمقصود بهذا الفصل أنه ليس الفقراء الصابرون بأحق به من الأغنياء الشاكرين، وأحق الناس به أعلمهم بسنته، وأتبعهم لها، وباللَّه التوفيق.
__________
= بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)} [النور: 6 – 8].
(1) توسّع الإمام ابن القيم رحمه اللَّه في تقرير ذلك في كتابه: “الطرق الحكمية” ص 6 – 12.

(1/522)


الباب الخامس والعشرون في بيان الأمور المضادة للصبر والمنافية له والقادحة فيه
لما كان الصبر حبسَ اللسان عن الشكوى إلى غير اللَّه، والقلب عن التسخط، والجوارح عن اللطم وشقّ الثياب ونحوها، كان ما يضاده واقعًا على هذه الجملة.
فمنه الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكا العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمه إلى من لا يرحمه، ولا تضاده الشكوى إلى اللَّه كما تقدم (1) من شكاية يعقوب إلى اللَّه مع قوله {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18، 83].
وأما إخبار المخلوِق بالحال، فإن كان للاستعانة بإرشاده أو معاونته والتوصل إلى زوال ضرَرِه لم يقدح ذلك في الصبر، كإخبار المريض بشَكاتِه (2)، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به بحاله، وإخبار المبتلى ببلائه لمن يرجو أن يكون فرجه على يديه.
وقد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا دخل على المريض يسأله عن حاله ويقول: “كيف تجدك” (3)، وهذا استخبار منه واستعلام لحاله.
وأما الأنين فهل يقدح في الصبر، فيه روايتان عن الإمام أحمد (4).
__________
(1) تقدم ذلك ص (24، 92 – 93).
(2) العبارة في النسخ الثلاث الأخرى: “كإخبار المريض للطيب بشكايته”.
(3) رواه الترمذي في “جامعه” رقم (983) وقال: “حديث حسن غريب”، وابن ماجه في “سننه” رقم (4261) من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه.
(4) انظر: المغني لابن قدامة (3/ 360)، والإنصاف (2/ 464).

(1/523)


قال أبو الحسين (1): أصحهما الكراهة؛ لما روي عن طاوس: أنه كان يكره الأنين في المرض (2). وقال مجاهد: كل شيء يكتب على ابن آدم مما يتكلم به حتى أنينه في مرضه (3) (4)
قال هؤلاء: ولأن الأنين شكوى بلسان الحال ينافي الصبر.
وقال عبد اللَّه بن أحمد: قال (5) لي أبي في مرضه الذي تُوفي فيه: أخرج إلى كتاب عبد اللَّه بن إدريس فأخرجت الكتاب، فقال: أخرج أحاديث ليث بن أبي سليم فأخرجت أحاديث ليث، فقال: اقرأ عليّ حديث ليث. قال: قلت لطلحة: إن طاووسًا كان يكره الأنين في المرض، فما سُمع له أنين حتى مات. فما سمعت أبي أنَّ في مرضه ذلك إلى أن توفي (6).
والرواية الثانية: أنه لا يكره، ولا يقدح في الصبر.
قال بكر بن محمد عن أبيه: سئل أحمد عن المريض يشكو ما يجد من الوجع؟ فقال: تعرف فيه شيئًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: نعم حديث
__________
(1) هو القاضي أبو الحسين محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء الحنبلي.
(2) رواه: البغوي في “مسند ابن الجعد” رقم (2821)، وابن أبي شيبة في “مصنفه” رقم (35412)، وهناد في “الزهد” رقم (396)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (4/ 4) و (5/ 18)، وابن الجوزي في “الثبات عند الممات” ص 144.
(3) رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه” رقم (10830)، وهناد في “الزهد” رقم (1102).
(4) “التمام” للقاضي أبي الحسين (1/ 255 – 256).
(5) مكررة في الأصل.
(6) رواه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (9/ 183)، عن عبد اللَّه بن أحمد به.
ورواه ابن الجوزي في “الثبات عند الممات” ص 159 – 160 عن صالح ابن أحمد به إلا أنه قال: “فلم يئن إلا في الليلة التي توفي فيها”.

(1/524)


عائشة “وارأساه! ” (1) وجعل يستحسنه.
قال المروذي: دخلت على أبي عبد اللَّه وهو مريض، فسألته فتغرغرت عينه، وجعل يخبرني ما مرّ به في ليلته من العلة (2).
والتحقيق: [أن الأنين] (3) على قسمين: أنين شكوى فيكره. وأنين استراحة وتفريج فلا يكره، واللَّه أعلم.
وقد روي في أثر: “إن المريض إذا بدأ بحمد اللَّه ثم أخبر بحاله لم يكن شكوى” (4).
وقال شقيق البلخي: “من شكا مصيبة نزلت به إلى غير اللَّه لم يجد في قلبه لطاعة اللَّه حلاوة أبدًا” (5).

فصل
والشكوى نوعان:
شكوى بلسان القال.
__________
(1) سبق تخريجه ص (170).
(2) انظر لروايتي بكر بن محمد عن أبيه والمروذي: “التمام” (1/ 256).
(3) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الثلاث الأخرى.
(4) رواه الخلال -كما في “طبقات الحنابلة” (1/ 208) – عن ابن مسعود مرفوعًا: “إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك”.
ورواه الخطيب في: “تاريخ بغداد” (10/ 276) من قول محمد بن سيرين: “إذا حمد اللَّه العبد قبل الشكوى لم تكن شكوى”.
(5) رواه البيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10074)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (23/ 144).

(1/525)


وشكوى بلسان الحال ولعلها أعظمها، ولهذا أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أنعم عليه أن يظهر أثر نعمة اللَّه عليه، وأعظم من ذلك من يشتكي ربه وهو بخير، فهذا أمقت الخلق عند ربه.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد اللَّه بن يزيد حدثنا كهمس عن عبد اللَّه بن شقيق قال: قال كعب الأحبار: “إن من حسن العمل سبحة الحديث، ومن شر العمل التجديف”. قيل لعبد اللَّه: ما سُبحة الحديث؟ قال: سبحان اللَّه وبحمده في خلال الحديث. قيل: فما التجديف؟ قال: يصبح الناس بخير، فيُسألون، فيزعمون: أنهم بشرّ (1).

فصل
ومما ينافي الصبر: شقّ الثياب عند المصيبة، ولطم الوجه، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، وحلق الشعر، والدعاء بالويل، ولهذا برئ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ممن سلق وحلق وخرق (2).
سلق: رفع صوته عند المصيبة، وحلق رأسه، وخرق ثيابه.
__________
(1) لم أقف عليه للإمام أحمد.
والأثر رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه” رقم (29433)، (35044)، ومن طريقه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (6/ 21).
ورواه الطبراني في “الكبير” رقم (496) من المجلد 17 مرفوعًا من حديث عصمة بن مالك الخطمي. ومعنى “التجديف”: كفر النعمة واستقلال العطاء. “النهاية”: (1/ 247).
(2) رواه مسلم في “صحيحه” رقم (104) من حديث أبي موسى الأشعري.
وهو متفق عليه من حديث أبي موسى بلفظ: “إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بريء من الصالقة والحالقة والشاقة”. “صحيح البخاري” رقم (1296)، و”صحيح مسلم” رقم (104).

(1/526)


ولا ينافيه البكاء والحزن، قال تعالى عن يعقوب: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)} [يوسف: 84]. قال قتادة: “كظم على الحزن، فلم يقل إلا خيرًا” (1).
وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ما كان من العين ومن القلب فمن اللَّه والرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان” (2).
وقال هشيم عن عبد الرحمن بن يحيى عن حبان بن أبي جبلة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من بثّ فلم يصبر” (3).
وقال خالد بن أبي عثمان: مات ابن لي فرآني سعيد بن جبير مقنّعًا، فقال: “إياك والتقنع؛ فإنه من الاستكانة” (4).
وقال بكر بن عبد اللَّه المزني: “كان يُقال: من الاستكانة الجلوس في البيت بعد المصيبة” (5).
وقال عبيد بن عمير: “ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع القول السيّئ والظن السيّئ (6) ” (7).
__________
(1) سبق تخريجه ص (182).
(2) رواه أحمد في “مسنده” (1/ 237). وضعفه الألباني في “سلسلة الأحاديث الضعيفة” برقم (1715).
(3) سبق تخريجه ص (181).
(4) سبق هذا الأثر ص (187).
(5) لم أجده مسندًا. وقد ذكره في “تسلية أهل المصائب” ص (212).
(6) في النسخة (ب) بعد هذه الكلمة: “الجملة التالية”: “وسئل القاسم بن محمد عن الجزع؟ فقال: القول السيئ والظن السيئ”.
(7) سبق هذا الأثر ص (186).

(1/527)


ومات ابن لبعض قضاة البصرة، فاجتمع إليه العلماء والفقهاء، فتذاكروا ما يتبيّن به جزع الرجل من صبره، فأجمعوا: أنه إذا ترك شيئًا مما كان يصنعه فقد جزع (1).
وقال الحسين بن عبد العزيز الجروي: مات ابن لي نفيس، فقلت لأمه: اتقي اللَّه واحتسبيه واصبري، فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع (2).
وقال عبد اللَّه بن المبارك: أتى رجل يزيدَ بن يزيد وهو يصلي، وابنه في الموت، فقال: ابنك يقضي وأنت تصلي؟ فقال: إن الرجل إذا كان له عمل يعمله، فتركه يومًا واحدًا كان ذلك خللًا في عمله (3).
وقال ثابت: أصيب عبد اللَّه بن مطرف بمصيبة فرأيته (4) أحسن شيء شارة وأطيبه ريحًا، فذكرت له ما رأيت منه، فقال: تأمرني يا أبا محمد أن أستكين للشيطان، وأريه أنه قد أصابني سوء، واللَّه يا أبا محمد لو كانت لي الدنيا كلها ثم أخذها مني، ثم سقاني شربة يوم القيامة ما رأيتها ثمنًا لتلك الشربة (5).
__________
(1) سبق هذا الأثر ص (187).
(2) سبق هذا الأثر ص (186).
(3) لم أجده مسندًا وذكره في “تسلية أهل المصائب” ص (213).
(4) أي رأى مطرفًا، والد عبد اللَّه الذي أصيب بمصيبة، وتلك المصيبة هي موت ابنه عبد اللَّه.
(5) رواه ابن سعد في “الطبقات الكبرى” (7/ 244)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (2/ 199)، والبيهقي في “شعب الإيمان” رقم (10170)، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (58/ 319)، وابن الجوزي في “الثبات عند الممات” ص 39.

(1/528)


ومما يقدح في الصبر: إظهار المصيبة والتحدث بها، وكتمانها رأس الصبر.
قال الحسن بن الصباح في “مسنده”: حدثنا خلف بن تميم حدثنا زافر بن سليمان عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من البر كتمان المصائب (1) والأمراض والصدقة، وذكر أنه من بث لم يصبر” (2).
وروي من وجه آخر عن أنس يرفعه: “من كنوز البر كتمان المصائب وما صبر من بث” (3).
ولما نزل في إحدى عيني عطاء الماء، مكث عشرين سنة لا يعلم به أهله، حتى جاء ابنه يومًا من قبل عينه، فعلم أن الشيخ قد أصيب (4).
ودخل رجل على داود الطائي في فراشه فرآه يزحف، فقال: إنا للَّه وإنا إليه راجعون. فقال: مه لا تُعلم بهذا أحدًا. وقد أُقعد قبل ذلك بأربعة أشهر لم يعلم بذلك أحد (5).
وقال مغيرة: شكا الأحنف إلى عمه وجع ضرسه، فكرر ذلك عليه، فقال: ما تكرر على، لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة فما شكوتها إلى أحد (6).
__________
(1) في الأصل: “البر” والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) الحديث سبق تخريجه ص (181).
(3) لم أجده. وانظر ما سبق ص (181).
(4) انظر: “تسلية أهل المصائب” ص (215).
(5) انظر: “تسلية أهل المصائب” ص (215).
(6) رواه أحمد في “الزهد” رقم (1306).

(1/529)


فصل
ويضاد الصبر الهلع، وهو: الجزع عند ورود المصيبة، والمنع عند ورود النعمة قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} [المعارج: 19 – 21].
وهذا تفسير الهلوع قال الجوهري: الهلع: أفحش الجزع، وقد هلِع بالكسر، فهو هَلِعٌ وهلوع، وفي الحديث: “شر ما في العبد شحٌّ هالع، وجبن خالع” (1) (2).
قلت: هنا أمران: أمر لفظي. وأمر معنوي.
فأما اللفظي: فإنه وَصَف الشح بكونه هالعًا والهالع صاحبه، وأكثر ما يُسمى هلوعًا، ولا يُقال: هالع له؛ فإنه لا يتعدى، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه على النسب، كقولهم: ليل نائم، وسرٌّ كاتم، ونهار صائم، ويوم عاصف، كله عند سيبويه على النسب (3)، أي: ذو كذا، كما قالوا: تامر، ولابن.
والثاني: أن اللفظة غُيّرت عن بابها للازدواج مع خالع، وله نظائر.
وأما المعنوي: فهو أن الشحّ والجبن أردأ صفتين في العبد، ولا سيما إذا كان شحه هالعًا، أي: مُلق له في الهلع، وجبنه خالعًا، أي: قد
__________
(1) رواه أبو داود في “سننه” رقم (2511). من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.
وصححه ابن حبان فأخرجه في “صحيحه” برقم (2350). وصححه الألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” برقم (560).
(2) “الصحاح” (3/ 1308).
(3) انظر: “لسان العرب” (1/ 758).

(1/530)


خلع قلبه من مكانه، فلا سماحة ولا شجاعة، لا نفع بماله ولا ببدنه، كما يُقال: لا طعنة ولا جفنة، ولا يطرد ولا يثرد، بل قد قمعه وصغّره وحقّره ودسّاه (1) الشخ والخوف والطمع (2) والفزع.
وإذا أردت معرفة الهلوع، فهو الذي إذا أصابه الجوع أظهر الاستجاعة وأسرع بها، وإذا أصابه الألم أسرع الشكاية، وإذا أصابه القهر أظهر الاستضامة والاستكانة وباء بها سريعًا.
وإذا أصابه الوجع أسرع الانطراح على جنبه، وأظهر الشكاية. وإذا بدا له مأخذ طمع طار إليه سريعًا. وإذا ظفر به أحلّه من نفسه محل الروح فلا احتمال ولا إفضال.
وهذا كله من صغر النفس ودناءتها، وتدسيتها في البدن وإخفائها وتحقيرها، واللَّه المستعان.
__________
(1) في الأصل: “وسادة”. والتصويب من (م) و (ب).
ودساه أي: أخفاه. انظر: “لسان العرب” (14/ 256).
(2) في الأصل: “الطمع”. بدون واو. والمثبت من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/531)


الباب السادس والعشرون في بيان دخول الصبر والشكر في صفات الرب جل جلاله، وتسميته بالصبور والشكور، ولو لم يكن للصبر والشكر من الفضيلة إلا ذلك لكفى به
أما الصبر، فقد أطلقه عليه أعرف الخلق به وأعظمهم تنزيهًا له بصيغة المبالغة، ففي “الصحيحين” من حديث الأعمش عن سعيد بن جبير عن أبي عبد الرحمن السلمي [عن أبي موسى] (1) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ما أحد أصبر على أذى سمعه من اللَّه عز وجل، يدعون له ولذا وهو يعافيهم ويرزقهم” (2).
وفي أسمائه الحسنى الصبور (3)، وهو من أمثلة المبالغة، أبلغ من المصابر والصابر.
وصبره تعالى يفارق صبر المخلوق ولا يماثله من وجوه متعددة:
منها: أنه عن قدرة تامّة.
ومنها: أنه لا يخاف الفوت، [والعبد إنما يستعجل لخوف الفوت] (4).
ومنها: أنه لا يلحقه بصبره ألم ولا حزن، ولا نقص بوجه ما.
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) “صحيح البخاري” رقم (7378)، و”صحيح مسلم” رقم (2804).
(3) جاء ذلك في حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه الذي فيه تعداد أسماء اللَّه تعالى، رواه الترمذي في “جامعه” رقم (3507)، وقال: “حديث غريب”.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/532)


وظهور أثر هذا الاسم في العالم مشهود بالعيان كظهور اسمه الحليم.
والفرق بين الصبر والحلم: أن الصبر ثمرة الحلم وموجبه، فعلى قدر حلم العبد يكون صبره، والحلم في صفات الرب تعالى أوسع من الصبر، ولهذا جاء اسم الحليم [في القرآن] (1) في غير موضع، ولسعته يقرنه سبحانه (2) باسم العليم، كقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)} [الأحزاب: 51]، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} [النساء: 12].
وفي أثر: “أن حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك. واثنان يقولان: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك” (3).
فإن المخلوق يحلم عن جهل، ويعفو عن عجز، والربّ تعالى يحلم مع كمال علمه، ويعفو مع تمام قدرته، وما أضيف شيءٌ إلى شيء أزين
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، واستدركته من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) في الأصل: “سبحانه يقرنه”، مكان: “يقرنه سبحانه”. والمثبت من النسخ الثلاث الأخرى.
(3) هذا الأثر مروي عن بعض السلف لكن بلفظ: “حملة العرش ثمانية، أربعة يقولون. . . ” الخ.
رواه ابن أبي شيبة في “كتاب العرش” رقم (24)، عن شهر بن حوشب.
ورواه أبو نعيم في “حلبة الأولياء” (6/ 74) عن حسان بن عطية.
وقال الذهبي: إسناده قوي. ووافقه الألباني. انظر: مختصر العلو ص 101.
ورواه أبو نعيم أيضًا في “حلية الأولياء” (3/ 55)، وأبو الشيخ في العظمة (3/ 954) عن هارون بن رياب.

(1/533)


من حلم إلى علم، ومن عفو إلى اقتدار، ولهذا كان في دعاء الكرب وصفه سبحانه بالحلم مع العظمة (1).
وكونه حليمًا من لوازم ذاته، وأما صبره سبحانه فمتعلق بكفر العباد وشركهم ومسَبّتهم له سبحانه، وأنواع معاصيهم وفجورهم. فلا يزعجه سبحانه ذلك كله إلى تعجيل العقوبة، بل يصبر على عبده ويمهله ويستصلحه ويرفق به ويحلم عنه، حتى إذا لم يبقَ فيه موضع للصنيعة، ولا يصلح على الإمهال والرفق والحلم، ولا ينيب إلى ربه ويدخل عليه، لا من باب الإحسان والنعم، ولا من باب البلاء والنقم، أخذه أخذ عزيز مقتدر، بعد غاية الإعذار إليه، وبذل النصيحة له ودعائه إليه من كل باب.
وهذا كله من موجب صفة حلمه، وهي صفة ذاتية له لا تزول.
وأما الصبر فإذا زال متعلقه، كان كسائر الأفعال التي توجد لوجود الحكمة وتزول بزوالها، فتأمله، فإنه فرق لطيف اعترف (2) الحذاق بعسره، وقل من تنبه له ونبه عليه. وأشكل على كثير منهم معنى هذا الاسم، وقالوا: لم يأتِ في القرآن، فأعرضوا عن الاشتغال به صفحًا، ثم اشتغلوا بالكلام في صبر العبد وأقسامه.
ولو أنهم أعطوا هذا الاسم حقه لعلموا أن الرب تعالى أحق به من جميع الخلق، كما هو أحق باسم العليم والرحيم والقدير والسميع
__________
(1) رواه البخاري في “صحيحه” رقم (6345)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2735)، من حديث عبد اللَّه بن عباس أن نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: “لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم”.
(2) في سائر النسخ الثلاث: “ما عثرت” مكان: “اعترف”، والأمر محتمل.

(1/534)


والبصير والحي والملك وسائر أسمائه الحسنى من المخلوقين، وأن التفاوت الذي بين صبره سبحانه وصبرهم كالتفاوت الذي بين حياته وحياتهم، وعلمه وعلمهم، وسمعه وأسماعهم، وكذا سائر صفاته.
ولما علم ذلك أعرف خلقه به قال: “لا أحد أصبر على أذى يسمعه من اللَّه” (1).
فعِلمُ أرباب البصائر بصبره سبحانه كعلمهم برحمته وعفوه وستره، مع أنه صبر مع كمال علم وقدرة وعظمة وعزة، وهو صبر عن أعظم مصبور عليه، فإنّ مقابلة أعظم العظماء وملك الملوك وأكرم الأكرمين ومَن إحسانُه فوق كل إحسان، بغاية القبح وأعظم الفجور وأفحش الفواحش، ونسبته إلى كل ما لا يليق به، والقدح في كماله، وأسمائه وصفاته، والإلحاد في آياته، وتكذيب رسله ومقابلتهم بالسبّ والشتم والأذى، وتحريق أوليائه وقتلهم وإهانتهم = أمر لا يصبر عليه إلا الصبور الذي لا أحد أصبر منه، ولا نسبة لصبر جميع الخلق من أولهم إلى آخرهم إلى صبره سبحانه.
وإذا أردت أن ترف معرفة صبر الربّ تعالى وحلمه والفرق بينهما، فتأمل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41]، وقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)} [مريم: 88 – 91] وقوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)} [إبراهيم: 46].
__________
(1) سبق تخريجه قريبًا.

(1/535)


على قراءة من فتح اللام (1).
فأخبر سبحانه أن حلمه ومغفرته يمنعان زوال السماوات والأرض، فبالحلم أمسكهما، وإمساكهما أن تزولا بكفر بني آدم هو الصبر، فبحلمه صبر عن معاجلة أعدائه.
وفي الآية إشعار بأن السماوات والأرض تهم وتستأذن بالزوال لعظم ما يأتي به العباد، فيمسكها بحلمه ومغفرته، وذلك حبسُ عقوبَتِه عنهم، وهو حقيقة صبره تعالى، فالذي صدر عنه الإمساك هو صفة الحلم، والإمساكُ هو الصبرُ وهو حبس العقوبة، ففرق بين حبس العقوبة وبين ما صدر عنه حبسها، فتأمله.
وفي “مسند” الإمام أحمد مرفوعًا: “ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق بني آدم” (2).
وهذا هو مقتضى الطبيعة؛ لأن كرة الماء تعلو كرة التراب بالطبع، ولكن اللَّه سبحانه يمسكه بقدرته وحلمه وصبره، وكذلك خرور الجبال وتفطر السماوات، الربّ تعالى يحبسها عن ذلك بصبره وحلمه، فإن ما يأتي به الكفار والمشركون والفجار (3) في مقابلة العظمة والجلال
__________
(1) فتح اللام الأولى وضم الثانية هكذا {لِتَزُولَ}. وهي قراءة الكسائي.
فتكون اللام الأولى للتوكيد، كما تقول: إن زيدًا لَيقولُ. انظر: السبعة في القراءات ص 363، وحجة القراءات ص 379.
(2) رواه أحمد في “مسنده” (1/ 43)، عن عمر بن الخطاب عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات على الأرض يستأذن اللَّه في أن ينفضح عليهم، فيكفّه اللَّه عز وجل”.
وضعفه ابن الجوزي في “العلل المتناهية” رقم (37).
(3) في الأصل: “والكفار”، والتصويب من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/536)


والإكرام يقتضي ذلك، فجعل سبحانه في مقابلة هذه الأسباب أسبابًا يحبها ويرضاها ويفرح بها أكمل فرح وأتمّه، تقابل تلك الأسباب التي هي سبب (1) زوال العالم وخرابه، فدافعت تلك الأسباب وقاومتها، وكان هذا من آثار مدافعة رحمته لغضبه، وغلبتها له، وسبقها إياه، فغلب أثر الرحمة أثر الغضب كما غلبت الرحمة الغضب.
ولهذا استعاذ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، ثم جمع الأمرين في الذات إذ هما قائمان بها، فقال: “أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك” (2).
فإن ما يستعاذ به هو صادر عن مشيئته وخلقه بإذنه وقضائه، فهو الذي أذن في وقوع الأسباب التي يستعاذ منها خلقًا وكونًا، وهو الذي يعيذ منها ويدفع شرها خلقًا وكونًا، فمنه السبب والمسبب. وهو الذي حرك الأنفس والأبدان وأعطاها قوى التأثير، وهو الذي أوجدها وأعدّها وأمدّها وسلّطها على ما شاء، وهو الذي يمسكها إذا شاء، ويحول بين قواها وتأثيرها.
فتأمل ما تحت قوله: “أعوذ بك منك” من محض التوحيد، وقطع الالتفات إلى غيره، وتكميل التوكل عليه، والاستعانة به وحده، وإفراده بالخوف والرجاء، ودفع الضرّ وجلب الخير، فهو الذي يمس بالضرّ بمشيئته، وهو الذي يدفعه بمشيئته، وهو المستعاذ بمشيئته من مشيئته،
__________
(1) ساقطة من الأصل، واستدركتها من (ب) و (ن).
(2) رواه مسلم في “صحيحه” رقم (486) من حديث عائشة رضي اللَّه عنها.

(1/537)


فهو المعيذ من فعله بفعله، وهو سبحانه الذي خلق ما يصبر عليه، وما يرضى به، فإذا أغضبه معاصي الخلق وكفرهم وشركهم وظلمهم، أرضاه تسبيح ملائكته وعباده المؤمنين له، وحمدهم إياه، وطاعتهم له؛ فيعيذ رضاه من غضبه.
قال عبد اللَّه بن مسعود: “ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه، وإن مقدار يوم من أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة، فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم، فينظر فيها ثلاث ساعات، فيطّلع منها على ما يكره فيغضبه ذلك، فأول من يعلم بغضبه حملة العرش يجدونه يثقل عليهم، فتسبّحه حملة العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة، حتى ينفخ جبريل في القرن فلا يبقى شيء حتى يسمعَ صوته؛ فيسبحون الرحمن ثلاث ساعات حتى يمتلئ الرحمن رحمة، فتلك ست ساعات، قال: ثم يُؤتى بالأرحام فينظر فيها ثلاث ساعات، فذلك قوله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ (1)} [آل عمران: 6]، و {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 49، 50] فتلك تسع ساعات، ثم يؤتى بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات فذلك قوله {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] وقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] قال هذا شأنكم وشأن ربكم”.
رواه أبو القاسم الطبراني في “السنة”، وعثمان بن سعيد الدارمي، وشيخ الإسلام الأنصاري، وابن منده، وابن خزيمة، وغيرهم (2).
__________
(1) “يشاء” ليست في الأصل، وأثبتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(2) “نقض عثمان بن سعيد” رقم (114)، و”الرد على الجهمية” لابن منده رقم =

(1/538)


ولما ذكر اللَّه سبحانه في سورة الأنعام أعداءه وكفرهم وشركهم به وتكذيب رسله، ذكر بإثر ذلك شأن خليله إبراهيم، وما أراه من ملكوت السماوات والأرض، وما حاجّ به قومه في إظهار دين اللَّه وتوحيده، ثم ذكر الأنبياء من ذريته وأنه هداهم وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة، ثم قال: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89].
فأخبر أنه سبحانه كما جعل في الأرض من يكفر به، ويجحد توحيده ويكذب رسله، كذلك جعل فيها من عباده من يؤمن بما كفر به أولئك، ويصدق بما كذبوا به، ويحفظ من حرماته ما أضاعوه، وبهذا تماسك العالم العلوي والسفلي، وإلا فلو اتبع الحق أهواء أعدائه لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، ولخرب العالم. ولهذا جعل سبحانه من أسباب خراب العالم رفع الأسباب الممسكة له من الأرض، وهي: كلامه، وبيته، ودينه، والقائمون به، فلا يبقى لتلك الأسباب المقتضية لخراب العالم أسباب تقاومها وتمانعها.
ولما كان اسمه “الحليم” أَدخل في الأوصاف، واسم “الصبور” في الأفعال، كان الحلم أصل الصبر، فوقع الاستغناء به في القرآن (1) عن اسم “الصبور”، واللَّه أعلم.
__________
= (90).
ولم أقف عليه في السنة للالكائي ولا في ذم الكلام للهروي ولا في التوحيد لابن خزيمة.
والأثر رواه أيضًا: أبو الشيخ في “العظمة” رقم (111)، (147)، والطبراني في “الكبير” رقم (8886)، وأبو نعيم في “حلية الأولياء” (1/ 137)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” رقم (674).
(1) “في القرآن” ليست في الأصل، وأثبتها من النسخ الثلاث الأخرى.

(1/539)


فصل
وأما تسميته سبحانه بالشكور؛ فهو في حديث أبي هريرة (1).
وفي القرآن تسميته شاكرًا، قال اللَّه تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147].
وتسميته أيضا شكورًا، قال اللَّه تعالى: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)} [التغابن: 17]، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} [الإنسان: 22].
فجمع (2) لهم سبحانه بين الأمرين: أن شكر سعيهم وأثابهم عليه، واللَّه تعالى يشكر عبده إذا أحسن طاعته، ويغفر له إذا تاب إليه، فيجمع للعبد بين شكره لإحسانه ومغفرته لإساءته، إنه غفور شكور.
وقد تقدم في الباب العشرين ذكر حقيقة شكر العبد، وأسبابه، ووجوهه (3).
وأما شكر الرب تعالى فله شأن آخر، كشأن صبره، فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور، بل هو الشكور على الحقيقة؛ فإنه يعطي العبد ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والطاعة، فلا يستقله أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشرة أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، ويشكر عبدَه بقوله بأن يُثني عليه بين ملائكته وفي ملئه الأعلى، ويلقي له الشكر
__________
(1) رواه الترمذي في “جامعه” رقم (3507)، وقال: “حديث غريب”، وابن ماجه في “سننه” رقم (3861).
(2) في الأصل: “فجمعهم”. والمثبت من النسخ الثلاث الأخرى.
(3) ص 214 وما بعدها.

(1/540)


بين عباده ويشكره بفعله، فإذا ترك له شيئا أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئا رده عليه أضعافًا مضاعفة، وهو الذي وفقه للترك والبذل، وشكره على هذا وهذا.
ولما عقر نبيه سليمان الخيل غضبًا له إذ شغلته عن ذكره (1)، فاراد ألا تشغله مرة أخرى، أعاضه عنها متن الريح.
ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها في مرضاته، أعاضهم منها أن أملكهم الدنيا، وفتحها عليهم.
ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن له، شكر له ذلك بأن مكّنه في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء (2).
ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزّقها أعداؤه، شكر لهم ذلك بأن أعاضهم منها طيرًا خضرًا أقرّ أرواحهم فيها ترد أنهار الجنّة وتأكل من ثمارها إلى يوم البعث (3)، فيردُّها عليهم أكمل ما تكون وأجمله وأبهاه.
ولما بذل رسله أعراضهم فيه لأعدائهم، فنالوا منهم وسبّوهم، أعاضهم من ذلك أن صلى عليهم هو وملائكته، وجعل لهم أطيب الثناء
__________
(1) قال اللَّه تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)} [ص: 30 – 34].
(2) قال اللَّه تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [يوسف: 56].
(3) روى مسلم في “صحيحه” رقم (1887) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه مرفوعا: “أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل. . . ” الحديث.

(1/541)


في سماواته وبين خلقه، فأخلصهم بخالصة ذكرى الدار.
ومِنْ شُكره سبحانه أنه لا يضيع أجر من أحسن عملًا، ولو أنه مثقال ذرة.
ومن شُكره: أنه يجازي عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا، ويخفف به عنه يوم القيامة، فلا يضيّع عليه ما يعمله من الإحسان وهو من أبغض خلقه إليه (1).
ومن شكره أنه غفر للمرأة البغيّ بسقيها كلبًا كان قد جهده العطش حتى أكل الثرى (2)؛ وغفر لآخر بتنحية غصنِ شوكٍ عن طريق المسلمين (3)، فهو سبحانه يشكر العبد على إحسانه إلى نفسه، والمخلوق إنما يشكر من أحسن إليه.
وأبلغ من ذلك أنه هو الذي أعطى العبد ما يحسن به إلى نفسه وشكره عليه، بل شكره على قليله بالأضعاف المضاعفة التي لا نسبة لإحسان العبد إليها، فهو المحسن بإعطاء الإحسان وإعطاء الشكر، فمن أحق باسم الشكور منه سبحانه؟
__________
(1) روى مسلم في “صحيحه” رقم (2808) عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن اللَّه لا يظلم مؤمنًا حسنة، يُعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها للَّه في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها”.
(2) روى ذلك البخاري في “صحيحه” رقم (3467)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2245) عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
(3) روى ذلك البخاري في “صحيحه” رقم (2472)، ومسلم في “صحيحه” رقم (1914) عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.

(1/542)


وتأمل قوله سبحانه: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147] كيف تجد في ضمن هذا الخطاب أنّ شكره تعالى يأبى تعذيب عباده سُدى بغير جرم، كما يأبى إضاعة سعيهم باطلًا.
فالشكور لا يضيع أجر محسن ولا يعذب غير مسيء، وفي هذا ردٌّ لقول من زعم أنه يكلف عبده ما لا يطيقه، ثم يعذبه على ما لا يدخل تحت قدرته، تعالى اللَّه عن هذا الظنّ الكاذب والحسبان الباطل علوًّا كبيرًا.
فشُكره سبحانه اقتضى أن لا يعذب المؤمن الشكور ولا يضيع عمله، وذلك من لوازم هذه الصفة، فهو منزه عن خلاف ذلك كما ينزّه عن سائر العيوب والنقائص التي تنافي كماله وغناه وحمده.
ومن شُكْره سبحانه أنه يُخرج العبد من النار بأدنى أدنى مثقال ذرّة من خير (1)، فلا يضيع عليه هذا القدر.
ومن شكره أن العبد من عباده يقوم له مقامًا يرضيه بين الناس فيشكره له، وينوه بذكره، ويخبر به ملائكته، وعباده المؤمنين (2)، كما شكر لمؤمن آل فرعون ذلك المقام، وأثنى به عليه، ونوّه بذكره بين
__________
(1) روى ذلك البخاري في “صحيحه” رقم (7510)، ومسلم في “صحيحه” رقم (193) (326)، كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه.
(2) روى البخاري في “صحيحه” رقم (7455)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2675)، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “يقول اللَّه تعالى: أنا عند ظن عبدي بي. . . ” الحديث، وفيه: “وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم”.

(1/543)


عباده (1)، وكذلك شكره (2) لصاحب يس مقامه ودعوته إليه (3)، فلا يهلك عليه بين شكره ومغفرته إلا هالك، فإنه سبحانه غفور شكور يغفر الكثير من الزلل، ويقبل القليل من العمل.
ولما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر، كما أن أبغض خلقه إليه من عطلها واتصف بضذها، وهذا شأن أسمائه الحسنى: أحب خلقه إليه من اتصف بموجبها، وأبغضهم إليه من اتصف بأضدادها، ولهذا يبغض الكفور، والظالم والجاهل والقاسي القلب والبخيل والجبان والمُهين واللئيم.
وهو جميل يحب الجمال، عليم يحب العلماء، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، جواد يحب أهل الجود، ستّير يحب أهل السّتر، قادر يلوم على العجز، والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، عفوٌّ يحب العفو، وترٌ يحب الوتر، وكل ما يحبه فهو من آثار أسمائه وصفاته وموجبها، وكل ما يبغضه فهو مما يضادّها وينافيها.
__________
(1) قال اللَّه تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} [غافر: 28].
(2) ساقطة من الأصل، واستدركتها من النسخ الثلاث الأخرى.
(3) قال اللَّه تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} [يس: 20 – 27].

(1/544)


خاتمة
يا من عزم على السفر إلى اللَّه والدار الآخرة، قد رُفع لك علم فشمّر إليه فقد أمكن التّشمير، واجعل سيرك بين مطالعة منّته ومشاهدة عيب النفس والعمل والتقصير، فما أبقى مشهد النعمة والذنب للعارف من حسنة يقول: هذه منجيتي من عذاب السعير، ما المعوّل إلا على عفوه ومغفرته فكل أحد إليهما فقير، أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي [فاغفر لي] (1)، أنا المذنب المسكين وأنت الرحيم الغفور.
ما تساوي أعمالك -لو سلمت مما يبطلها- أدنى نعمة من نعمه عليك، وأنت مرتهن بشكرها من حين أرسل بها إليك، فهل رعيتها باللَّه حقّ رعايتها وهي في تصريفك وطوع يديك؟ فتعلق بحبل الرجاء وادخل من باب التوبة والعمل الصالح {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 30].
نهج للعبد طريق النجاة وفتح له أبوابها، وعرّفه طرق تحصيل السعادة وأعطاه أسبابها، وحذّره من وبال معصيته، وأشهده في نفسه وفي غيره شؤمها وعقابها، وقال: إن أطعتَ فبفضلي وأنا أشكر، وإن عصيت فبقضائي وأنا أغفر، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} [فاطر: 34].
أزاح عن العبد العلل، وأمره أن يستعيذ به من العجز والكسل، ووعده أن يشكر له القليل من العمل، ويغفر له الكثير من الزلل {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
أعطاه ما يشكره عليه، ثم شكره على إحسانه إلى نفسه لا على إحسانه إليه، ووعده على إحسانه لنفسه أن يحسن جزاءه ويقرّبه لديه،
__________
(1) زيادة من النسخ الأخرى.

(1/545)


وأن يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحه بين يديه، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
وثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعها، وعكفت بكرمه آمال المحسنين فما قطع طمعها، وخرقت السبعَ الطباق دعواتُ التائبين والسائلين فسمعها، ووسع الخلائق عفوه ومغفرته ورزقه، فما من دابة في الأرض إلا على اللَّه رزقها، ويعلم مستقزها ومستودعها، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
يجود على عبيده بالنوال قبل السؤال، ويُعطي سائله ومؤمليه فوق ما تعلّقت به منهم الآمال، ويغفر لمن تاب إليه ولو بلغت ذنوبه عدد الأمواج والحصى والتراب والرمال، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأفرح بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها، وأشكر للقليل من جميع خلقه فمن تقرّب إليه بمثقال ذرّة من الخير شكرها وحمدها، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
تعرّف إلى عباده بأوصافه وأسمائه، وتحبّب إليهم بحلمه وآلائه، ولم تمنعه معاصيهم أن جاد عليهم بآلائه، ووعد من تاب إليه وأحسن طاعته بمغفرة ذنوبه يوم لقائه، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
السعادة كلها في طاعته، والأرباح كلها في معاملته، والمحن والبلايا كلها في معصيته ومخالفته، فليس للعبد أنفع من شكره وتوبته، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتاب

(1/546)


الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه (1)، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
يطاع فيشكر وطاعته من توفيقه وفضله، ويعصى فيحلم ومعصية العبد من ظلمه وجهله، ويتوب إليه فاعل القبيح فيغفر له، حتى كأنه لم يكن قط من أهله، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
الحسنة عنده بعشرة أمثالها أو يضاعفها بلا عدد ولا حسبان، والسيّئة عنده بواحدة ومصيرها إلى العفو والغفران، وباب التوبة مفتوح لديه منذ خلق السماوات والأرض إلى آخر الزمان، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
بابه الكريم مناخ الآمال ومحطُّ الأوزار، وسماء عطاياه لا تقلع عن الغيث بل هي مدرار، ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة سَحَّاء الليل والنهار، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
لا يُلقى وصاياه إلا الصابرون، ولا يفوز بعطاياه إلا الشاكرون، ولا يهلك عليه إلا الهالكون، ولا يشقى بعذابه إلا المتمرّدون، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
فإياك أيها المتمرد أن يأخذك على غرّة فإنه غيور، وإذا أقمت على معصيته وهو يمدّك بنعمته فاحذره فإنه لم يهملك لكنه صبور، وبشراك أيها المحسن التائب بمغفرته ورحمته، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
ومن علم أن الرب شكور تنوع في معاملته، ومن عرف أنه واسع
__________
(1) روى البخاري في “صحيحه” رقم (3194)، ومسلم في “صحيحه” رقم (2751)، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “لما خلق اللَّه الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي”.

(1/547)


المغفرة تعلق بأذيال مغفرته، ومن علم أن رحمته سبقت غضبه لم ييأس من رحمته، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
من تعلق بصفة من صفاته أخذت بيده حتى تدخله عليه، ومن سار إليه بأسمائه الحسنى وصل إليه، ومن أحبه أحب أسماءه وصفاته، وكانت آثر شيء لديه.
حياة القلوب في معرفته ومحبته، وكمال الجوارح في التقرّب إليه بطاعته، والقيام بخدمته، والألسنة في ذكره والثناء عليه بأوصاف مدحته، فأهل شكره أهل زيادته، وأهل ذكره أهل مجالسته، وأهل طاعته أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته، إن تابوا فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم، يبتليهِم بأنواع المصائب، ليكفّر عنهم الخطايا ويطهرهم من المعايب، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
فالحمد للَّه رب العالمين، حمدَا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، حمدًا يملأ السماوات والأرض وما بينهما، وما شاء ربنا من شيء بعد، بمجامع محامده كلها ما علمنا منها وما لم نعلم، على نِعَمِه كلِّها ما عَلمنا منها وما لم نعلم، عدد ما حمده الحامدون، وغَفل عن ذكره الغافلون، وعدد ما جرى به قلمُه، وأحصاه كتابُه، وأحاط به علمه.
وصلى اللَّه على عبده ورسوله محمد نبي الرحمة وإمام المتقين وقائد الخير، وسلم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل.
* * *

(1/548)


وكان الفراغ من نسخ هذا الكتاب الذي أخذ بمجامع أولي الألباب. ووصل إلى نهج كل عبد أواب، وسيوفدهم مع صاحبه إلى دار المآب، بالفتاح العليم الوهاب، على يد الفقير إلى رحمة ربه النازلة بالسحاب، محمد بن محمد بن محمد القرشي الباهي (1)، غفر اللَّه له ولوالديه ولإخوانه في اللَّه ولأقاربه، ولمن أحسن إليه ولمن أساء إليه، ولجميع المسلمين والمسلمات، وصفّى ضمائر قلوبنا من جميع الكدر والآفات، في يوم الجمعة بعد صلاتها في ثامن عشر من شوال سنة سبعين وسبعمائة، أحسن اللَّه تقضيها وبقية العمر ساجدًا وعابدًا بلا محنة.
__________
(1) تقدمت ترجمته في المقدمة.

(1/549)