ابن تيميةابن تيمية - كتبعطاءات العلم

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق
[آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (22)]المؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661 – 728 هـ)
تحقيق: عبد الله بن محمد المزروع
مراجعة: سليمان بن محمد العمير – عبد الرحمن بن صالح السديس
الطبعة: الثالثة، 1440 هـ – 2019 م (الأرلى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق

تأليف
شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية
(661 – 728 هـ)

تحقيق
عبد الله بن محمد المزروع

دار عطاءات العلم – دار ابن حزم

(المقدمة/1)


مقدمة

الحمد لله الذي جَعَلَ في كُلِّ خَلَفٍ عُدُولَه، ينفونَ عن العلم تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين. أما بعد:
فهذا سفرٌ نفيسٌ من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يرى النور لأول مرة، بعد أن حفظ الله قطعة منه من عوادي الزمان، ومن خصوم الشيخ حيث ترصدوا لمؤلفاته في عصره وبعد ذلك (1)؛ فإنه (لَمَّا حُبِسَ تفرَّقت أتباعُهُ، وتفرَّقت كتبُهُ، وخوَّفوا أصحابه من أنْ يُظهروا كتبه = ذهبَ كلُّ أحدٍ بما عنده وأخفاه ولم يُظْهروا كتبه، فبقي هذا يَهرب بما عنده، وهذا يبيعه أو يَهَبُهُ، وهذا يُخْفيه ويودعُهُ، حتى إنَّ منهم مَنْ تُسْرق كتبه أو تُجْحَد، فلا يستطيع أنْ يَطلبها! ولا يَقدر على تحصيلها! فبدون هذا تتمزق الكتب والتصانيف كلَّ تمزق) (2)، وقد ذكر المَقريزي (845) (3) أنَّ (أكثر مصنفاته مسوَّدات لم تُبَيَّض، وأكثر ما يوجد منها الآن بأيدي الناس قليل من كثير، فإنَّهُ أُحرق منها شيءٌ كثير، ولا قوة إلا بالله).
ومع كلِّ هذه الأسباب التي تؤدي إلى ضياع كتب الشيخ إلا أنَّ الله حفظ
_________
(1) انظر: كتب التراث بين الحوادث والانبعاث، للدكتور حكمت بن بشير ياسين (ص 40 – 93).
(2) العقود الدُّرِّيَّة (ص 109).
(3) في المقفَّى الكبير (ص 513 الجامع).

(المقدمة/5)


كثيرًا منها؛ وفي هذا يقول تلميذه ابن رُشَيِّق (749) (1): (ولولا أنَّ الله ــ تعالى ــ لَطَفَ وأعانَ، وَمَنَّ وأَنْعَمَ، وخرق العادة في حفظ أعيان كُتبه وتصانيفه لَمَا أمكنَ أحدًا أنْ يجمعها.
ولقد رأيتُ من خَرْقِ العادة في حفظ كتبه وجمعها، وإصلاح ما فَسَدَ منها، وَرَدِّ ما ذهبَ منها= ما لو ذكرتُهُ لكان عجبًا؛ يعلم به كلُّ منصفٍ أنَّ لله عنايةً به وبكلامه، لأنه يَذُبُّ عن سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).
والفضل في وقوفي على الكتاب يعود بعد الله للشيخ الدكتور/ عبد السلام بن إبراهيم الحصين ــ وفقه الله ــ، حيث عثر على الكتاب أثناء بحثه عن كتاب (التحقيق في مسألة التعليق) للسبكي، وبعد أن اطَّلعَ على نسخته ظهر له أنَّ الكتاب ليس للسبكي وإنما لابن تيمية (2)، ثم يسَّر الله أنْ اجتمعتُ به في مجلسٍ فعرض عليَّ فكرة تحقيق الكتاب وزوَّدني ــ مشكورًا ــ بصورةٍ منه (3)، وبعد أنْ أخذته واطَّلعتُ عليه وتيقَّنت صحةَ نسبتِهِ إلى
_________
(1) كما نقل ذلك ابن عبد الهادي في العقود (109 – 110)، وقد رأيت عددًا من الباحثين يَنسب هذا الكلام لابن عبد الهادي، والذي يَظهر أنه تتمة كلام ابن رُشيِّق، والله أعلم.
(2) والشيخ عبد السلام الحصيِّن ــ زاده الله توفيقًا ــ ممن له عناية بتراث شيخ الإسلام ابن تيمية، فرسالته العالمية (الماجستير) والعالمية العالية (الدكتوراه) تدور حول تراث ابن تيمية، وقد أعدَّ قائمةً بمؤلفات شيخ الإسلام المطبوعة نشرها في موقعه على الشبكة المعلوماتية.
(3) وإتمامًا للعناية بالكتاب قمتُ بتحميل مخطوطته على الشبكة المعلوماتية بموقع (ملتقى أهل الحديث) لمن أراد الاطلاع عليها، والتأكد من بعض المواضع المشكلة.

(المقدمة/6)


ابن تيمية – رحمه الله – عقدتُ العزمَ على العنايةِ به، ثم حاولتُ الحصولَ على نسخٍ أخرى للكتاب تتميمًا للنقص الحاصل في أوله، والخلل الموجود في وسطه، وإعانةً على قراءة ما يُشكلُ منه، فبدأت مرحلة البحث عن الجزء المفقود وعن نسخةٍ أخرى من الكتاب استمرت بضعة أشهر إلا أني لم أصل إلى نتيجةٍ مع بذلي ما في وسعي، ولعل ذلك يتيسَّر لي أو لغيري فيما بعد.
وهذا الكتاب الذي بين يديك ــ أيها القارئ الكريم ــ يعتبر من أطول ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في مسألة تعليق الطلاق؛ فآراؤه وحججه التي بَنَى عليها قولَهُ وردوده على أدلة مخالفيه= مبسوطة في هذا الرد، بينما وردت في فتاويه ورسائله الأخرى مختصرة.
وتأتي أهمية هذا الكتاب ــ أيضًا ــ في كونه جوابًا عن اعتراضِ فقيهٍ من كبار فقهاء الشافعية في زمانه، بل قد بلغَ رُتبةَ الاجتهاد (1)، وهذا الاعتراض يُعتبر من أقوى ما كُتِبَ في الردِّ على فتوى ابن تيمية في هذه المسألة، حتَّى وَصَفَ ابن تيمية ردَّه هذا مقارنة بردود غيره بقوله (2): ( … كما ادَّعى هذا المعترض ــ أي: السبكي ــ الذي بَرَّزَ على أقرانه، وظهر فضلُهُ عليهم في فِعْلِهِ ما يَعجزون عن فِعْلِهِ)، وقال في موضعٍ آخر (3): (وما سلكه من (التحقيق في التعليق) ــ كما سمَّى بذلك مصنفه ــ ودقق فيه من المعاني، وذكر فيه من الآثار، وأتى فيه من النقل والبحث بما برَّز به على غيره) (4).
_________
(1) وصفه بذلك غير واحدٍ من أصحابه ومحبيه، كما سيأتي في (ص 15).
(2) (ص 789).
(3) (ص 933).
(4) وقال الصفدي في الوافي بالوفيات (21/ 255) في تَعداده تصانيف السبكي: (والتحقيق في مسألة التعليق، ردًّا على العلامة تقي الدين ابن تيمية في الطلاق، وكان الناس قد عملوا عليه ردودًا ووقف عليها، فما أثنى على شيءٍ منها غير هذا، وقال: هذا ردُّ فقيهٍ). وقال ولي الدين العراقي في الأجوبة المرضِيَّة عن الأسئلة المكِّيَّة (ص 99) عن ردِّ السبكي: (وقد ردَّ عليه فيهما ــ مسألة الزيارة والطلاق ــ معًا الشيخ الإمام تقي الدين السبكي، وأفرد – رحمه الله – ذلك بالتصنيف، فأجاد وأحسن).

(المقدمة/7)


ولهذا لم أجد مَنْ أشار إلى أنَّ ابن تيمية قد ردَّ على ابن الزَّمْلَكَاني ــ مثلًا ــ مع أنَّ الأخير قد ردَّ على ابن تيمية ردًّا مطوّلًا في مجلد كبير (1) إلا أنَّ ابن تيمية لم يَرُدَّ عليه ولا على غيره، رُبَّما اكتفاءً بما ردَّ به على السبكي، أو أَنَّ اعتراض ابن الزَّمْلَكَاني لم يكن بقوةِ اعتراض السبكي ــ من وجهة نظر شيخ الإسلام كما قد يُشير إليه كلامه الذي نقلته قبل قليل ــ، أو أنَّه لم يطَّلع على رد ابن الزَّمْلَكَاني، أو لغير ذلك من الأسباب؛ إلا أنَّ القارئ لهذا الكتاب سيكون على يقين بأنه يُعتبر نقضًا لكلِّ أو أغلب حجج مَنْ اعترض عليه، وبيانًا لقوة ما اختاره – رحمه الله -.
ومن جهةٍ أخرى؛ فإنَّ هذا الرد يحتوي على مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لمسألة هي من مضايق الخلاف، والتي تتقاصر همم كثيرٍ من العلماء عن الولوج في خضمها استدلالاً وترجيحًا، مما دفعَ بعضهم إلى الاكتفاء بحكاية الإجماع دون التحقيق في مدى صحة هذه الدعوى، أو الركون إلى التقليد، تاركين خوض غمار البحث في الأدلة التي من خلالها يتبيَّن القول الراجح من المرجوح (2).
_________
(1) كذا وصفه ابن كثير في البداية والنهاية (18/ 286).
(2) قال أبو الوليد الأزدي في المفيد للحكام (4/ 99): (ولا يَنبغي أَنْ تُتَلقَّى المسألة هكذا تلقيًا تقليديًا مِن غير أَنْ يَسِمَهَا قويُّ الفَهم، ويوضحها لسان البرهان … ولا يَنبغي لحاكم ولا لغيره أَنْ يَمُدَّ القلم في فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعاني، فإنَّ الحكم إنْ لم يَقَع مستوضحًا على نور فكري مشعر بالمعنى المربوط اضمحل؛ والتوفيق بيد الله).

(المقدمة/8)


ومما يُبيِّنُ أهميةَ هذا الكتاب: أنه مع ما تقدَّم من مخالفة رأي ابن تيمية لجمهور العلماء أو للإجماع المحكي وإعراض كثيرٍ من العلماء عن بحث هذه المسألة= إلا أنَّ كثيرًا من كبار الفقهاء الذين كتبوا قوانين الأحوال الشخصية المبنية على الشريعة الإسلامية في الدول العربية قد أخذوا برأي ابن تيمية في الطلاق المعلَّق (1)،
وأفتى به كثيرٌ من المتصدِّين للإفتاء في هذا
_________
(1) قال الشيخ علي الطنطاوي في فتاواه (ص 192): (ولكن الذي تَمشي عليه المحاكم الشرعية في مصر وسوريا، وأكثر البلاد التي انفصلت عن الدولة العثمانية: أنَّ ذلك منوطٌ بنيته). قال الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الفتاوى الشاذة (ص 98 – 100): «آراء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذ مدرسته في قضايا الطلاق وشئون الأسرة، التي قُوبلت في زمنه وبعد زمنه بالرفض، والاتهام بالشذوذ، وتشديد الإنكار عليه، واتهامه بمخالفة الإجماع، واتباعه غير سبيل المؤمنين، إلى آخر ما عرفناه من قائمة الاتهامات السوداء، حتى حاكمه علماء زمنه من أجلها، وتسببوا في دخوله السجن … والآن في عصرنا؛ أصبحت هذه الآراء في فقه الأسرة، وفي أمر الطلاق هي طوق النجاة من انهيار الأسرة وتشتيتها، بسبب تَبَنِّي الأحكام التقليدية المشهورة في شأن الأسرة … ولقد تبنَّى آراء ابن تيمية كثيرٌ من العلماء في عصرنا، منهم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر في زمانه، في مشروعه الذي قدَّمه لإصلاح قانون الأحوال الشخصية في مصر، ومنهم العلامة الفقيه الكبير مصطفى الزرقا ومعه عدد من كبار الفقهاء في مصر وسوريا، في قانونهم لأحوال الأسرة الذي أعدُّوه أيام وحدة مصر وسورية … وكذلك اعتمدت قوانين الأسرة أو الأحوال الشخصية في عدد من البلاد العربية آراء ابن تيمية ومدرسته سبيلًا للإصلاح والتجديد» ..

(المقدمة/9)


الزمان (1)؛
وما ذاك إلا لحاجة الناس إلى ما نَصَرَه ابن تيمية (2)؛ ومع هذا لم يكتب في هذه المسألة ما تستحقُّه من البحوث العميقة المستقصية؛ مما يدعو إلى إبراز أدلة هذا القول الذي نَصَرَه ابن تيمية، والنظر في قوته وضعفه، والجواب عن أدلة المخالفين له (3).
_________
(1) فمنهم: الشيخ حسنين محمد مخلوف – رحمه الله – (مفتي الديار المصرية) حيث أشار في فتاويه إلى أنه بعد صدور القانون رقم (25) لعام 1929 م والذي نصَّ في المادة الثانية منه على أنَّ (الطلاق غير المنجَّز لا يقع إذا قَصَدَ به الحَمْلَ على فعلِ الشيء أو تركه لا غير)؛ فالفتوى على ما جرى عليه العمل في القضاء الشرعي مع مخالفته للمذهب الحنفي. ومنهم: الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله – (القاضي بالمحاكم الشرعية ثم عضو المحكمة العليا) في كتابه نظام الطلاق (ص 76) إلى تَبَنِّي رأي ابن حزم في المسألة. ومنهم: الشيخ عبد العزيز ابن باز – رحمه الله – (مفتي المملكة العربية السعودية) فقد كان يأخذ بقول ابن تيمية في القضاء والإفتاء.

وأتمنى أن يقوم أحد طُلَّاب العلم الجادِّين بجمع أسماء المفتين بهذا القول قبل وبعد ابن تيمية على غرار ما قام به الشيخ الدكتور سليمان بن عبد الله العمير في كتابه (تسمية المفتين بأنَّ الطلاق الثلاث بلفظ واحدٍ طلقة واحدة).
(2) وقد بَرَّ الله قَسَمَ ابن مُرِّي حيث قال في رسالةٍ أرسلها لبعض تلاميذ شيخ الإسلام يستحثهم على العناية بكتب ابن تيمية وانتساخها (ص 102 من الجامع): (ووالله ــ إنْ شاء الله ــ ليقيمنَّ الله سبحانه لِنَصْرِ هذا الكلام ونَشْرِهِ وتدوينِهِ وتفهمهِ واستخراج مقاصدِهِ واستحسان عجائبه وغرائبِهِ رجالًا هم إلى الآن في أصلاب آبائهم. وهذه هي سنة الحياة الجارية في عباده وبلاده، والذي وقَعَ من هذه الأمور في الكون لا يُحصِي عددَهُ غير الله تعالى).
(3) ومما يدعو إلى إبراز قول ابن تيمية في المسألة وأدلته أنَّ قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية صدر بالأغلبية بوقوع الطلاق المعلَّق، ومع ذلك ففتوى مَنْ تقلَّد منصب الإفتاء على خلاف هذا القرار، ومثله ما فعله مفتي الديار المصرية السابق كما مرَّ قريبًا.

(المقدمة/10)


ولعلك تقف معي متأملًا هذا النص الذي يُظهر شيئًا من إشكالية المسألة، حيث يُرجِّح الباحث قول الجمهور ثم ما يَلبث حتى يقول بقول ابن تيمية! فقد ذكر الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته (7/ 451) الخلافَ في المسألةِ وأدلةَ كُلِّ قولٍ، ثم قال: (وفي تقديري أَنَّ القول الأول هو الأصح دليلاً (1)، لكن يلاحظ أَنَّ الشُّبَّان غالبًا يستخدمون اليمين بالطلاق للتهديد لا بقصد الإيقاع، وهذا يجعلنا نميل إلى القول الثالث (2)، لا سيما وقد أخذ به القانون في مصر رقم (25 لسنة 1929)، وفي سورية؛ فنصت المادة الثانية من القانون الأول والمادة (90) من القانون الثاني (3) على الأخذ برأي ابن تيمية وابن القيم: لا يقع الطلاق غير المنجَّز إذا لم يقصد به إلا الحث على فعل شيء، أو المنع منه، أو استعمل استعمال القَسَم لتأكيد الإخبار لا غير).
كما تأتي أهمية هذا الكتاب من أنَّ مؤلِّفه إمام من كبار أئمة المسلمين، وتمكُّنه العلمي يَشهد به الموافق والمخالف (4)، وتراثه – رحمه الله – من أنفس ما
_________
(1) وهو قول الجمهور، والذي نَصَرَهُ السبكي.
(2) وهو القول الذي اختاره ابن تيمية.
(3) القانون الأول المراد به: القانون المصري. والقانون الثاني المراد به: القانون السوري.
(4) قال الذهبي في ذيل تاريخ الإسلام (ص 269 الجامع): (فأصحابه وأعداؤه خاضعون لعلمه، مقرُّون بسرعة فهمه، وأنه بحرٌ لا ساحل له، وكنزٌ لا نظير له). وقال في تذكرة الحفَّاظ (ص 274 من الجامع): (كان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزُّهَّاد الأَفراد، والشجعان الكبار، والكرماء الأجواد. أثنى عليه المُوافقُ والمخالف). وقال ابن حجر في سؤال وجوابه ملحق بآخر الرد الوافر (ص 309): (وقد أثنى عليه، وعلى علمه، ودينه، وزُهْدِهِ جميع الطوائف من أهل عصره، حتى ممن كان يُخالفه في الاعتقاد). وغيرها كثير.

(المقدمة/11)


سَطَّرَهُ علماء الإسلام لما فيه من التحقيق والتدقيق والتحرير للمسائل العلمية، والكلام في هذه المسألة لا يَصْلُحُ إلا له ولأمثاله من الكبار الأفذاذ.
وقد قدمت بين يدي تحقيق الكتاب عدة فصول ومباحث؛ هي كالتالي:
الفصل الأول: ذكر بعض المسائل الممهدة.
الفصل الثاني: أهم الكتب المصنفة في مسألة تعليق الطلاق، وقد قسمت هذه الكتب إلى ثلاث مجموعات في ثلاثة مباحث هي كالتالي:
المبحث الأول: مؤلفات ورسائل وفتاوى ابن تيمية.
المبحث الثاني: المؤلفات في الرد على ابن تيمية.
المبحث الثالث: مؤلفات ورسائل غير ابن تيمية، أو الرَّادِّين عليه.
الفصل الثالث: دراسة الكتاب، ويشتمل على مباحث:
المبحث الأول: تحقيق اسم الكتاب.
المبحث الثاني: توثيق نسبته لابن تيمية.
المبحث الثالث: سبب تأليفه، وعلاقته بالسبكي.
المبحث الرابع: تأريخ تأليفه.
المبحث الخامس: منهج ابن تيمية في هذا الكتاب.
المبحث السادس: وصف النسخة الخطية.
المبحث السابع: منهجي في العناية بالكتاب، ونماذج النسخ.

(المقدمة/12)


الفصل الأول
ذكر بعض المسائل الممهدة
رأيتُ أنَّ تسويد صفحات في ترجمة ابن تيمية والسبكي لا يضيف للقارئ شيئًا، فشهرتهما تغني عن ذكر طرفٍ من حياتهما لا يُقدِّم جديدًا؛ فاكتفيتُ بإلقاء الضوء على بعض القضايا التي أرى أهميتها كمدخل لقراءة هذا الكتاب (1)؛ فأقول مستعينًا بالله:

المسألة التي وقع فيها الخلاف:
قسَّم الفقهاء الطلاق باعتبار حال الصيغة إلى أقسام متفاوتة من حيث العدد، وذلك بسبب إدخال بعض الأقسام في بعض أو التفصيل فيها؛ وهي في الجملة كالتالي:
القسم الأول: الطلاق المنجَّز: وهي الصيغة المطلقة، كقول الرجل لامرأته: أنتِ طالقٌ. ويُدْخِلُ فيها بعض العلماء ما إذا عَلَّقَ الرجلُ الطلاقَ على أمرٍ محقق الوجود، كقول الرجل لزوجته: أنتِ طالقٌ إنْ كانت السماء فوقنا.
القسم الثاني: الطلاق المضاف: وهي الصيغة المضافة إلى زمنٍ ماضٍ أو مستقبل، كقول الرجل لامرأته: أنت طالقٌ غدًا. أو قوله: أنتِ طالقٌ أمس.
_________
(1) وأشيد بما كتبه الشيخ ياسر بن ماطر المطرفي في كتابه (حركة التصحيح الفقهي) عن تجربة ابن تيمية في مسار التصحيح الفقهي، وقد اقتصرت على بعض ما كنتُ أنوي كتابته في المقدمة اكتفاء بما ذكره، فقد أتى بما في النفس وأكثر.

(المقدمة/13)


القسم الثالث: الطلاق المعلَّق: وهو ما رُتِّبَ وقوعُهُ على حصول أمرٍ في المستقبل بأداةٍ من أدوات الشرط؛ وهذا على نوعين:
النوع الأول: أن يقصد وقوع الجزاء عند وجود الشرط، فهو مريدٌ وقوعه؛ وهذا تحته صورٌ متعددة، ولكلِّ صورةٍ حكمها الخاص.
النوع الثاني: أَنْ يقصد به الحث أو المنع مع كراهة وقوع الجزاء ــ وهو الطلاق هنا ــ، فهذه الصورة هي محل البحث في اعتراض السبكي وجواب ابن تيمية، ورُبَّما انجرَّ البحث إلى القسم الرابع.
القسم الرابع: الطلاق المحلوف به: وهو ما أتى بصيغة القسم دون وجود تعليق لفظي، كقول الرجل لامرأته: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا. وبعضهم يجعل هذا القسم داخلًا في القسم السابق باعتبار أنه تعليق معنوي.

المنزلة العلمية للمجيب والمعترض:
تَبَوَّأَ كل من ابن تيمية والسبكي درجةً عَلِيَّةً في العلم، حتى قال فيهما الصفدي في أعيان العصر (1): (وعلى الجملة؛ فكان الشيخ تقي الدين أحدَ الثلاثة الذين عاصرتهم ولم يكن في الزمان مثلهم، بل ولا قبلهم من مائة سنة؛ وهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، وشيخنا العلامة تقي الدين السبكي)، كما أنَّ المزِّي – رحمه الله – لم يكتب بخطِّهِ
_________
(1) الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص 366).
ولبيان موقف الصفدي نفسه من ابن تيمية والسبكي يراجع ما كتبه الباحث الفاضل أبو الفضل القونوي في كتابه «موقف خليل بن أيبك الصفدي من شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية».

(المقدمة/14)


(شيخَ الإسلام) إلا لثلاثة هم: ابن تيمية والسبكي وشمس الدين ابن أبي عمر (1).
ولم يَقتصر الحال على أنْ يكونا من أفذاذ العلماء فحسب، بل قد وُصِفَ كلُّ واحدٍ منهما بأنه قد استحقَّ رتبة الاجتهاد (2)، إلا أنَّ ابن تيمية كان أعلى كعبًا وأدقَّ نظرًا في العلم بشهادة معاصريهما وغيرهم (3)،
كما أنه أكثر استعمالًا
_________
(1) ذكر ذلك التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (10/ 195).
وقد قال شيخ الإسلام البُلقيني الشافعي في تقريظه للردِّ الوافر (ص 276): (ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين السبكي ــ رحمه الله تعالى ــ في ترجمة أبيه تقي الدين السبكي في ثناء الأئمة عليه، بأنَّ الحافظ المزي لم يكتب بخطِّه لفظ (شيخ الإسلام) إلا لأبيه، وللشيخ تقي الدين ابن تيمية، وللشيخ شمس الدين ابن أبي عمر. فلولا أنَّ ابن تيمية في غاية العلو في العلم والعمل ما قَرَنَ ابن السبكي أباه معه في هذه المنقبة التي نقلها!).
(2) فابن تيمية قد ذكر غير واحدٍ ــ كما في الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص 758) ــ بأنَّه قد اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وبالنسبة لتقي الدين السبكي فقد أشار إلى ذلك ابنه في ترجمته من طبقات الشافعية الكبرى (10/ 140)، وفي (10/ 226) ذكر جملةً من المسائل التي اختارها، ووصفه الصفدي في الوافي بالوفيات (21/ 253) بأنه أوحد المجتهدين، وذكر ابن النقيب ــ كما نقله السيوطي في تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد (ص 55) ــ أنه جلس بمكة بين طائفة من العلماء فشرعوا يقولون: لو قَدَّرَ الله تعالى بعد الأئمة الأربعة في هذا الزمان مجتهدًا عارفًا منهاجهم أجمعين يُرَكِّبُ لنفسه مذهبًا من الأربعة بعد اعتبار هذه المذاهب المختلفة كلها، لازدان الزمان به، وانقاد الناس؛ فاتفق رأينا على أنَّ هذه الرتبة لا تعدوا الشيخ تقي الدين السبكي ولا ينتهي لها سواه.
(3) فقد قال المزي كما في مختصر طبقات علماء الحديث (ص 251 من الجامع): (ما رأيتُ مثله، ولا رأى هو مثلَ نفسه). ونقل ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (ص 468 من الجامع) عن الذهبي قولَهُ: (فلا يَبلغ أحدٌ في العصر رتبته ولا يُقاربه). وقال الذهبي في ذيل تاريخ الإسلام (ص 269): (وإلا فلو لاطف الخصوم، ورفق بهم، ولزم المجاملة وحسن المكالمة؛ لكان كلمة إجماع). وقال ابن سيِّد الناس اليَعْمَري (ص 188 من الجامع): (بَرَّزَ في كلِّ فنٍّ على أبناء جنسه، ولم تَرَ عينُ مَنْ رآه مثله، ولا رأت عينُهُ مثلَ نفسِهِ) .. وقال الشيخ السيد أحمد بن الصديق الغماري ــ كما في در الغمام الرقيق (ص 227) ــ: (إنَّ بين السبكي وابن تيمية بونًا كبيرًا في العلم وقوة الاستدلال، وأنَّ الثاني ــ وهو ابن تيمية ــ أعلم بمراحل). والثناء على الشيخ وعلى تقدُّمه في العلم على معاصريه كثير جدًا تجد طرفًا منه في الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص 766 – 770)، ويكفي في هذا الباب كتاب (الرد الوافر) لابن ناصر الدين، وكتاب (الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية) لمرعي الكرمي.

(المقدمة/15)


لأدوات الاجتهاد التي توفرت لديه عند نظره في المسائل الشرعية؛ ولهذا تجد ابن تيمية أكثر خروجًا عن مذهبه الحنبلي الذي دَرَسَ في مدارسه وتلمذ لشيوخه، بل رُبَّما قال بأقوالٍ خارجةٍ عن المذاهب الأربعة (1)، بخلاف السبكي فغاية ما ذكره ابنه أنه انتحل أقوالًا يعترف بأنها خارج المذهب الشافعي وإن
_________
(1) وما أجمل ما ذكره برهان الدين ابن القيم في أول اختيارات ابن تيمية (ص 121): (لا نَعرف له مسألةً خَرَقَ فيها الإجماع، ومن ادَّعى ذلك فهو إما جاهلٌ، وإما كاذبٌ؛ ولكن ما نُسِبَ إليه الانفراد به يَنقسم إلى أربعة أقسام:
الأول: ما يُستغرب جدًّا؛ فَيُنسَبُ إليه أنه خالف الإجماع، لِنُدُورِ القائل به، وخفائه على كثيرٍ من الناس، ولحكاية بعض الناس الإجماع على خلافه.
الثاني: ما هو خارجٌ عن مذاهب الأئمة الأربعة؛ لكن قد قاله بعض الصحابة أو السلف أو التابعين، والخلاف فيه محكيٌّ.
الثالث: ما هو خارجٌ عن مذهب الإمام أحمد – رضي الله عنه – الذي اشتَهَرَ هو ــ أعني شيخ الإسلام ــ بالنسبة إليه، لكن قد قال به غيره من الأئمة وأتباعهم.
الرابع: ما أفتى به واختاره مما هو خلاف المشهور في مذهب أحمد، وإنْ كان محكيًّا عنه وعن بعض أصحابه).

(المقدمة/16)


كانت ربما وافقت قولًا ضعيفًا في المذهب أو وجهًا شاذًّا فيه (1).

علاقة ابن تيمية بالسبكي:
تربط ابن تيمية بتقي الدين السبكي علاقة مبنيَّةٌ على التعظيم والتقدير المتبادل؛ فقد كان ابن تيمية لا يُعَظِّمُ أحدًا من أهل عصره كتعظيمه للسبكي (2)، وفي المقابل فقد أثنى السبكي على ابن تيمية في الرسالة التي أرسلها جوابًا لرسالة الذهبي (3) حيث ذكر تَبَحُّرَ ابن تيمية في العلم وفرط ذكائه، وأنَّ قَدْرَهُ في نفسه أكبر من ذلك وأَجَلُّ (4).
لكن هذا التعظيم والتقدير يشوبه بعض الشوائب بسبب الاختلاف العقدي والفقهي بينهما (5)، حتى يصل إلى كلامٍ شديد للسبكي في حقِّ ابن تيمية، واتهامات لا تَليق بمقام السبكي ــ رحم الله الجميع ــ من مثل قوله في فتاواه (2/ 163): (وهذا الرجل ــ أي: ابن تيمية ــ كنتُ رددتُ عليه في حياته، في إنكاره السفر لزيارة المصطفى – صلى الله عليه وسلم -، وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حَلَفَ بِهِ،
_________
(1) طبقات الشافعية الكبرى (10/ 226 وما بعدها).
وانظر ما قاله العراقي في الغيث الهامع (ص 720) في سبب بقاء السبكي شافعيًا مع أنه حاز علوم الاجتهاد واستكمل آلاته!
(2) نقل ذلك التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (10/ 194).
(3) حيث أرسل الذهبي رسالةً يَعتبُ فيها على السبكي بسبب كلامٍ وَقَعَ منه في حقِّ ابن تيمية.
(4) نقل ذلك ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة (ص 470 من الجامع)، وابن حجر في الدرر الكامنة (ص 548 من الجامع)، وابن العماد في شذرات الذهب (ص 633 من الجامع) وغيرهم.
(5) انظر: الدُّرَّة المضية (ص 6 – 8).

(المقدمة/17)


ثم ظهر لي من حاله ما يَقتضي أنه ليس ممن يُعتمد عليه في نقلٍ يَنفرد به؛ لمسارعته إلى النقل بفهمه، كما في هذه المسألة ــ وهي مسألة قول الواقف: وقفتُ على أولادي، ثم أولاد أولادي ــ، ولا في بحثٍ يُنشئه؛ لِخَلْطِهِ المقصود بغيره، وخروجه عن الحدِّ جدًّا، وهو كان مكثرًا من الحفظ، ولم يتهذَّب بشيخ، ولم يَرْتَض من العلوم؛ بل يأخذها بذهنه، مع جسارته، واتساع خياله، وشَغَبٍ كثيرٍ!
ثم بلغني من حاله ما يَقتضي الإعراضَ عن النظر في كلامِهِ جملةً، وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للردِّ عليه، وحُبِسَ بإجماعِ المسلمين وولاة الأمور على ذلك! ثم مات) (1).
وفي المقابل؛ فقد تكلم ابن تيمية في السبكي بكلام شديد من نحو تجهيله واتهامه بتحريف الكلم عن مواضعه … ونحو ذلك؛ كما سيأتي في كتابنا هذا.
ولست في مقام المحاكمة بين ابن تيمية والسبكي، فقد (مضى ــ ابن تيمية ــ لسبيله راجيًا من الله أجرًا أو أجرين، وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون) (2).

موقف السبكي من مسألة تعليق الطلاق:
كانت الفتوى السائدة المنتشرة هي القول بوقوع الطلاق المعلَّق مطلقًا، سواء قصد منه القائل حثًّا أو منعًا أو لم يقصد، وسواء أكان كارهًا وقوعه
_________
(1) انظر تعليق ابن عبد الهادي على هذا الكلام مما نقله صاحب كتاب الفواكه العديدة (1/ 486 – 490)، وجلاء العينين للآلوسي، وكتاب (ابن تيمية رَدُّ مفتريات ومناقشة شبهات) للدكتور خالد العبد القادر، وما ذكره المؤرخون والعلماء يردُّ هذا الكلام الذي ذكره السبكي ــ عفا الله عنه ــ.
(2) إعلام الموقعين (3/ 363).

(المقدمة/18)


وغير مريدٍ له أم لا، حتى أفتى ابن تيمية – رحمه الله – في مسألة تعليق الطلاق عِدَّةَ فتاوى انتشرت في الآفاق واطلع عليها أهل العلم في زمانه، فرَّق فيها بين من يقصد الحث أو المنع وهو كارهٌ وقوعَ الطلاق وبين من يَقصد وقوع الطلاق عند الشرط، وكانت هذه الفتاوى سببًا في امتحانه ومنعه من الإفتاء في هذه المسألة، وانتهت هذه المحنة بسجنه بضعة أشهر (1).
وقد تصدَّى للردِّ عليه اثنان من كبار الفقهاء في زمانه هما: ابنُ الزَّملكاني وتقي الدين السبكي، وكان للسبكي اليد الطولى في محاربة هذا القول والقائلين به، ابتداءً بابن تيمية إلى تلاميذه المتأثرين برأيه في هذه المسألة خصوصًا (2).
وكان دافع السبكي – رحمه الله – في هذا الحماس (خوفًا على محفوظ الأنساب، ومحظوظ الأحسابِ؛ لِمَا كانت تؤدي إليه هذه العظيمة، وتَستولي عليه هذه المصيبة العميمة) (3)، وهذا الظنُّ بمثله في كبير علمه وديانته (4).
وقد كتب في الرد على ابن تيمية في هذه المسألة ستة ردود (5)، هي كالتالي:
_________
(1) انظر: العقود الدرية (ص 393 فما بعدها).
(2) قال النعمان الآلوسي في جلاء العينين (ص 31): (إن أكثر المنتقدين من المعاصرين وأشدهم في الوقوع فيه: الإمام السبكي).
(3) كما ذكر ذلك ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار (5/ 744).
(4) انظر: المعجم المختص (ص 166)، أعيان العصر (3/ 417)، مرآة الجنان (4/ 225)، البداية والنهاية (18/ 410)، بغية الوعاة (2/ 176).
(5) وربما تعقَّبه بأكثر من ذلك، لكن هذا ما وقفتُ عليه.

(المقدمة/19)


الردُّ الأول: وهو ردٌّ مختصر أسماه (رافع الشقاق في مسألة الطلاق).
الردُّ الثاني: وهو ردٌّ موسَّعٌ أسماه (التحقيق في مسألة التعليق)، وقد ذكر هذا الردّ والذي قبله التاج السبكي في كتابه طبقات الشافعية الكبرى (10/ 308).
ويظهر أنَّ (رافع الشقاق) ألَّفه التقي أولًا، ثم بسط الاعتراض على ابن تيمية في كتابه (التحقيق)؛ كما أشار إلى ذلك ابن تيمية في ردِّه هذا بقوله (ص 593): (ولكن ــ والله أعلم ــ كان قد اعترض أولًا اعتراضًا مختصرًا ذكر فيه هذا الكلام، ثم بسط الاعتراض بما تقدم ذكره له أولًا؛ فلهذا تكرر هذا منه)، وقال في (ص 709): (ولما لم يكن الكلام فيه ــ أي: في الفتوى المعترض عليها ــ مستوفًى ظَنَّ هذا المعترض وأمثاله أَنَّ هذا هو غاية ما في المسألة من النقل والبحث، فَطَمِعَ مثل هؤلاء في رَدِّ ذلك، وإِنْ كانوا مع قلته لم يردوه بحق، فلمَّا انتشر الكلام فيها وظهر لهم بعد هذا من النقل والدليل ما لم يكن في هذا الجواب = تكعكع مَنْ كان يتحدى بما عنده من العلم والبيان، وكتموا ما كانوا كتبوه في حكم هذه الأيمان، وبلغني أَنَّ المعترض لَمَّا رأى بعض ما ذُكِرَ ــ غَيْرَ الجواب المختصر ــ بَسَطَ هذا الاعتراض هذا البسط؛ ولهذا وقع فيه ما وقع من التكرار، وأنه لما رأى ما هو أبلغ من ذلك استعفى عن معاودة الاعتراض).
الردُّ الثالث: وهو كتابةٌ مختصرةٌ جدًّا، ليست كحال الردود، انتخبها السبكي من كتابه (التحقيق)، وجعلها في مقاصد خمسة (1).
_________
(1) نشرت مصورتها ضمن مخطوطات الأزهر على الشبكة المعلوماتية.

(المقدمة/20)


وهذه الردود الثلاثة السابقة على فتوى واحدة لابن تيمية (1).
الردُّ الرابع: (الدُّرَّةُ المضيَّة في الرد على ابن تيمية).
الردُّ الخامس: مؤاخذات تقي الدين السبكي على رسالة ابن تيمية (الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق)، انتهى من تأليفها بكرة نهار الأربعاء عشري شهر رمضان سنة ثماني عشرة وسبعمائة.
الردُّ السادس: النظر المحقق في الحلف بالطلاق المعلَّق (2)، وهذه الرسالة ليست ردًّا على فتوى معيَّنة، كتبها ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من محرم سنة خمسٍ وعشرين وسبعمائة.
وهذه الردود تُبيِّن حجم المسألة التي وقعَ فيها النزاع، ومدى الجهد الذي بَذَلَه السبكي في تتبع فتاوى ابن تيمية والردِّ عليها؛ فقد (جَرَّدَ سيفه، وأَرْهَفَ ذُبَابَيهِ، وردَّ القِرْنَ وهو ألدُّ خَصيم، وشدَّ عليه وهو يَشُدُّ على غيرِ هَزيم، وقابَلَهُ وهو الشمس التي تُعْشِي الأبصار، وقاتلَهُ ــ وكم جَهِدَ ــ ما يَثْبُتُ البطلُ لعليٍّ وفي يَدِهِ ذو الفَقار) (3).
وكان السبكي يحتفي بردِّه على ابن تيمية في مسألة تعليق الطلاق، فقد أَنشدَ لنفسهِ أبياتًا ذكر فيها ردَّ ابن تيمية على ابنِ المطهِّر الرافضي وما عابه
_________
(1) هي المنشورة في مجموع الفتاوى (33/ 187).
(2) سيأتي وصف هذه الكتب، والإشارة إلى ما طبع منها وما لم يطبع.
(3) كذا وصف ابن فضل الله العمري ردود السبكي على ابن تيمية في مسألة الطلاق والمنع من شدِّ الرحل (5/ 745).

(المقدمة/21)


عليه، ثم قال عن ابن تيمية (1):
لو كانَ حيًّا يَرَى قولي ويفهمُهُ … رددتُ ما قال أَقْفُو إِثْرَ سَبْسَبِهِ
كما رددتُ عليه في الطلاقِ وفي … تَرْكِ الزيارةِ ردًّا غيرَ مشتبِهِ
وبعدَه لا أرى للردِّ فائدةً … هذا وجوهرُهُ مما أَضِنُّ بِه

وأهمُّ ردوده وأقواها وأطولها هو ردُّه المسمى بِـ (التحقيق)، فقد صار عمدةً يُحيل عليه في بعض كتبه الأخرى، كما فعل في مؤاخذاته على رسالة (الاجتماع والافتراق) لابن تيمية (2)، وانتخب منه وريقات كما تقدم في الرد الثالث.
وقال التاج السبكي عن ردِّ والده المسمَّى (التحقيق) (3): (وقد أطال الشيخ الإمام الوالد الكلام على هذا، وحَرَّرَ مخالفته للإجماع في كتابه الرد على ابن تيمية في مسألة الطلاق كتاب (التحقيق) الذي هو مِنْ أَجَلِّ تصانيفِ الشيخِ الإمامِ)، كما أثنى على ردِّه هذا خصوصًا غير واحدٍ ــ كما تقدم ــ منهم منازعه ابن تيمية (4).
وقد دوَّن السبكي في ردِّه هذا بعض العبارات التي لا تخلو من اتهام
_________
(1) انظر: طبقات الشافعية الكبرى (10/ 176 – 177). وقد تعقَّب قصيدة السبكي هذه كلٌّ من: يوسف بن محمد السُّرَّمُرِّي الحنبلي، ومحمد بن جمال الدين الشافعي؛ وستأتي الإشارة إليهما في (ص 56 – 57).
(2) فتاوى السبكي (2/ 272). وقد أشار له في الدُّرَّة المضية (ص 15، 41) دون تصريح باسم كتابه.
(3) طبقات الشافعية الكبرى (2/ 65).
(4) انظر (ص 7 – 8) من هذه المقدمة.

(المقدمة/22)


ودخولٍ في النيات من مثل ما قاله بعد نَقْلِهِ فتاوى لابن عبد السلام تُخالف ما نَسَبَهُ إليه ابن تيمية: ( … فمن كان هذا كلامَهُ؛ كيف ينقلُ عنه أنه كان يُفتي بعدم وقوع الطلاق؟! ولا يَحلُّ لمسلمٍ ــ فضلًا عن فقيهٍ [ … يُنَصِّبُ] (1) نفسه منصب الإمامة أَنْ يَعتمد في دين الله ــ تعالى ــ على مثل هذه التُّرهات الباطلة، ولا أنْ يَكتفي في نقلِ الأحكام الشرعية (2) بكلِّ ما بلغه، فكفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّث بكل ما سمع (3)؛ ولهذا يقال: لا يكونُ إمامًا مَنْ حَدَّثَ بكلِّ ما سمع، وليس ابن تيمية ممن يَخفى عليه مثل هذا، ولكنه لَمَّا رَأَى أمرًا شُغِفَ بِنُصْرَتِهِ والإكثار مما يَستند إليه من حقٍّ وباطلٍ؛ لِيَنْفُقَ ذلك عند الضَّعَفَةِ وَمَنْ لا تمييز له؛ حتى يقع في أنفسهم أنَّ هذه المسألة من مسائل الخلاف … ) (4).
وهذا يُشير إلى الحماس الشديد الذي بلغ بالسبكي في إنكار هذا القول على ابن تيمية، وقد بيَّنَه هو في رسالته التي أرسلها إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ــ إنْ صحَّت عنه ــ حيث قال فيها: ( … ثم عاد إلى الشام ــ أي: ابن تيمية ــ، ثم بلغنا كلامه في الطلاق، وأنَّ مَنْ علَّق الطلاق على قصد اليمين ثم حنث لا يقع عليه طلاق، ورددت عليه في ذلك … لكن الطلاق والزيارة أنا شديد
_________
(1) هكذا قرأتها.
(2) كررها الناسخ.
(3) أخرج أبو داود في سننه (4994) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعًا: «كفى بالمرء إثمًا أنْ يُحدِّث بكلِّ ما سمع» وقال: ولم يذكر حفصٌ أبا هريرة. ثم قال: ولم يسنده إلا هذا الشيخ يعني علي بن حفص المدائني. وقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه (برقم 5) عن حفص بن عاصم مرفوعًا «كفى بالمرء كذبًا أَنْ يُحدِّثَ بكلِّ ما سمع» ثم ساق إسناده من طريق علي بن حفص بذكر أبي هريرة مرفوعًا. وصححه ابن حبان (برقم 30).
(4) التحقيق في مسألة التعليق (11 / أ)، وانظر: (26 / أ).

(المقدمة/23)


الإنكار لقول ابن تيمية فيهما ظاهرًا وباطنًا) (1).
وقد آل الأمر بالسبكي إلى استصدار مرسومٍ سُلطاني (بأنَّ كُلَّ مَنْ كان مِن أصحاب ابن تيمية لا يُولَّى حكمًا، ولا سائر الوظائف الدينية، وعُزِلَ بسبب ذلك جماعةٌ في الشام كانوا يَنتحلونه من الحُكْم ومن المدارس التي كانت بأيديهم) (2).
وكان السبكي يتألم ويتأذى من القاضي ابن بُخَيخ الحنبلي ــ أحد تلاميذ ابن تيمية ــ حيث كان يقول برأي شيخِهِ في المسائل التي انفرد بها، ويحكم بها، فلا يُنفِّذ السبكي ــ وهو قاضي القضاة آنذاك ــ ما حَكَمَ به ولا ما رآه! (3).
ومثله ما حدث بينه وبين ابن القيم، فقد كان ابن القيم (متصديًا للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وجرت له بسببها فصولٌ يطول بسطها مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره) (4)، حتى
_________
(1) انظرها وتعليق الآلوسي عليها في غاية الأماني (1/ 337).
(2) من مجموع بخطِّ تقي الدين السبكي (الورقة 91). نقله الباحث الفاضل أبو الفضل القونوي في مقدمة تحقيقه كتاب الذهبي بيان زغل العلم (ص 40).
(3) أعيان العصر للصفدي (3/ 630).
وقد كتب هذا السبكي في مجموعٍ بخطِّ يده (الورقة 91) حيث قال: ( … ومنه ما اشتهر عند الخاصِّ والعامِّ من انتحاله أقوالَ ابن تيمية في كلِّ شيء، ووقوفِهِ عندها، وتمسُّكِهِ بها، وحكمه بها، سواء أكانت مذهبًا أم لا، هذا في الأحكام الفرعية، دَعْ ذكر الاعتقادات التي يَتَّبِعُهُ فيها، وما يقال نسأل الله العافية والسلامة). نقله الباحث الفاضل أبو الفضل القونوي في مقدمة تحقيقه كتاب الذهبي بيان زغل العلم (ص 64).
(4) ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية (18/ 524).

(المقدمة/24)


أصلح بينهما الأمير سيف الدين بن فضل (1).
وقد حصل لابن كثير – رحمه الله – امتحان وإيذاء بسبب إفتائه برأي ابن تيمية في مسألة الطلاق، ولم يتبيَّن لي ممن كان هذا الإيذاء والامتحان، وإنْ كان يغلب على الظنِّ أنَّ السبكي طرفٌ في الموضوع، فهو قاضي القضاة في زمانه، وله حوادث مع غير ابن كثير (2).
وهذا من جانب السبكي يُعتبر موقفًا متصلِّبًا في مقابل غيره من العلماء ممن لم يوافق ابن تيمية على ما ذهب إليه إلا أنهم اعتذروا لابن تيمية، واعتبروا أنَّ المسألة لا تَحتمل هذه المفاصلة الشديدة؛ وهذا شيءٌ مما سطرته أقلامهم (3):
قال الذهبي في ذيل تاريخ الإسلام (ص 270 من الجامع): (وإنْ أنتَ عذرت الأئمة في معضلاتهم، ولا تَعذر ابن تيمية في مفرداته؛ فقد أقررت على نفسك بالهوى وعدم الإنصاف!
لا يُؤتى من سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا مِنْ قِلَّةِ علم، فإنه بحرٌ زخَّار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدين، فلو كان كذلك، لكان أسرع شيءٍ إلى مداهنةِ خصومه، وموافقتهم، ومنافقتهم.
_________
(1) البداية والنهاية (18/ 517).
(2) طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (3/ 86)، ونقله ابن العماد في شذرات الذهب (6/ 230).
(3) النصوص المنقولة كثيرة، اخترت منها بعض أقوال مَنْ لا يُوافق الشيخ على فتواه هذه، مع الإنصاف والعدل.

(المقدمة/25)


ولا هو يَتفرَّد بمسائل بالتشهي، ولا يُفتي بما اتفق، بل مسائله المفردة يَحتجُّ لها بالقرآن أو بالحديث أو بالقياس، ويبرهنها ويُناظر عليها، ويَنقل فيها الخلاف، ويطيل البحث؛ أُسْوَةَ مَنْ تقدَّمَهُ من الأئمة؛ فإنْ كان أخطأ فيها؛ فله أجر المجتهد من العلماء، وإنْ كان قد أصاب فله أجران).
وقال شيخ الإسلام صالح بن عمر البُلقيني الشافعي في تقريظه للرد الوافر (ص 276): (نعم؛ قد نُسب الشيخ تقي الدين ابن تيمية لأشياء أَنكرها عليه معاصروه، وانتصب للردِّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في مسألتي الزيارة والطلاق … وكلُّ أحدٍ يؤخذ من قولهِ ويترك، إلا صاحب هذا القبر ــ يعني: النبي – صلى الله عليه وسلم – ــ، والسعيد من عُدَّت غَلَطَاتُهُ، وانحصرت سَقَطَاتُهُ. ثم إنَّ الظنَّ بالشيخ تقي الدين أنه لم يَصدر منه ذلك تهورًا وعدوانًا ــ حاشا لله ــ، بل لعله لرأي رآه، وأقام عليه برهانًا).
وقال الشيخ زين الدين عبد الرحمن التَفَهْنِي الحنفي في تقريظه للردِّ الوافر (ص 282): (وإنما قام عليه بعض العلماء في مسألتي: الزيارة والطلاق، وقضيته وقضية مَنْ قامَ عليه مشهورة، والمسألتان المذكورتان ليستا من أصول الأديان، وإنما هما من فروع الشريعة التي أجمع العلماء على أنَّ المخطئ فيها مجتهد يُثاب، لا يكفر ولا يفسق. والشيخ كان يتكلم في المسألتين بطريق الاجتهاد، وقد ناظره مَنْ أنكر عليه فيهما مناظرة مشهورة، بأدلةٍ يَحتاج مَنْ عارضه فيها إلى التأويل، وهذا ليس بعيب؛ فإنَّ المجتهد تارة يُخطئ وتارة يُصيب، وهو مثاب على اجتهاده وإنْ كان مخطئًا).

(المقدمة/26)


وقال الشيخ بدر الدين العيني الحنفي في تقريظه للرد الوافر (ص 288): (ولم يكن بحثُهُ فيما صَدَرَ عنه في مسألتي الزيارة والطلاق إلا عن اجتهاد سائغ بالاتفاق، والمجتهد في الحالتين مأجور مثاب، وليس فيه شيء مما يُلام أو يُعاب … ).
ونقل النعمان الآلوسي في جلاء العينين (ص 30) عن والده ــ صاحب تفسير روح المعاني ــ أنه ذكر في رحلته المُعَنْوَنَةِ بِـ (نزهة الألباب) لمن ذَكَرَ له بأنَّ ابن تيمية له مخالفات للأئمة الأربعة في بعض المسائل الفقهية. قال: (شبهته في تلك المخالفة بحسب الظاهر قويَّة، وله في بعض ذلك سلف، كما يَعرفه مَنْ تتبَّعَ المذاهب ووقف. ثم ذكر بأنَّ شيخًا لوالده رأى ترجمةً لابن تيمية، فقال: قد ذَمَّهُ السُّبكي. فقال: كم من جليلٍ غَدَا مِنْ ذمِّ عصريه يَبكي؛ فآهٍ من أكثر المعاصرين، فهم بأيدي ظلمهم لحباب القلب عاصرين).

موقف ابن تيمية من مسألة تعليق الطلاق:
عاش ابن تيمية ونَشَأَ في بيتٍ حنبلي، ودرس على كبار فقهاء الحنابلة من أهل بيته وغيرهم، ثم درَّس في المدارس الحنبلية، وكانَ يُقرر المسائل وفقَ مذهبه، ثم ترقَّى في درجات العلم حتى صار يفتي بما يقوم الدليل عليه عنده دون التزام بمذهب معيَّن (1)، مع معرفته التامة بالمذاهب الأربعة، بل ومعرفةٍ بمذاهب السلف وما حدث بعدهم من الخلف (2).
_________
(1) انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 758).
(2) انظر: أعيان العصر للصفدي (ص 348 من الجامع).

(المقدمة/27)


ومسألة تعليق الطلاق كأيِّ مسألةٍ من مسائل الفقه التي يقررها شيخ الإسلام ابن تيمية، مرَّت بمراحل في حياته – رحمه الله -:
المرحلة الأولى: في أول حياته حيث كان يُفتي بأنَّ الطلاق المعلَّق يقع عند وجود الشرط، كما هو مذهبه الذي تربَّى في مدارسه وعلى مشايخه (1).
المرحلة الثانية: بحث المسألة بتتبع المرويات، وكتب الخلاف، والتحقق من الإجماعات المنقولة، والنظر في الأدلة والمقاصد الشرعية … انتهت به إلى تبنِّي القول بالتفريق بين الطلاق المعلَّق المقصود به الحث أو المنع وبين غيره، لكن مع ذلك لم يكن يُفتي بها ولا يُشهرها، ربما كان هذا لإكمال التأمل والنظر فيها ومناقشتها مع علماء زمانه، وقد استمر هذا التأمل والنظر عشرين عامًا حتى بدأ يُفتي بهذه المسألة ويُشْهِرُ قولَهُ فيها! قال السبكي في التحقيق (26 / أ): (فإنه بلغني أنَّ له في هذه المسألة أكثر من عشرين سنةً قبل أَنْ يُظهرها (2)).
المرحلة الثالثة: هي مرحلة الإعلان برأيه في المسألة وإشهاره والإفتاء
_________
(1) قال ابن تيمية في ردَّه على السبكي (ص 451): (فإنَّ المجيب ــ أي: ابن تيمية ــ لم يكن هذا القول مما تَرَبَّى عليه، ولا له فيه غرض يميلُ لأجلِهِ إليه، بل كان يعتقد خلافه ويفتي دائمًا بخلافه، لكن لما نظر ورأى الحق لم يجز له أن يقول خلاف ما تبين له، والله سبحانه وتعالى يعلمُ وعبادُهُ المؤمنون الذين هم شهداء الله في الأرض أنه لم يَمِلْ إلى قولٍ إلا قصدًا لاتباع الحق الذي بعث به الرسول – صلى الله عليه وسلم – من جهة قيام الحجة به، وإيجاب الله ورسوله عليه ألا يقول على الله إلا الحق، وأَنْ يَرُدَّ ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول).
(2) في التحقيق: (أظهرها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(المقدمة/28)


به، واستمرَّ على ذلك عِدَّةَ أشهرٍ (1)، حتى انتشرت فتاواه في مسألة تعليق الطلاق في الآفاق واطلع عليها أهل العلم في زمانه وتداولوها.
المرحلة الرابعة: كَثُرَ اللغط على ابن تيمية والقيل والقال، فنصحه بعض المحبين بترك الإفتاء فيها فامتثل هذه النصيحة (2). وفي هذه الفترة ورد الأمر السلطاني بمنع ابن تيمية من الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق، والأمر بعقد مجلس له في ذلك، فَعُقِدَ مجلس بدار السعادة، وانتهى على ما أمر به السلطان، ونودي بذلك في البلد.
المرحلة الخامسة: العودةُ إلى الإفتاء في المسألة، وكان يقول: لا يَسَعُنِي كتمان العلم! واستمر على ذلك حتى ورد الأمر من السلطان فيما يتعلق بعودة الشيخ إلى الإفتاء في هذه المسألة، فأُحضر مع جمعٍ من القضاة والفقهاء وعُوتب على فتياه بعد المنع، وأُكِّدَ عليه المنع من ذلك.
والذي يَظهر أنَّ الشيخ استمر على إفتائه، ومثله كان طلاَّبُهُ؛ فإنَّ الذهبي (3) أشار إلى أنَّ تلاميذ ابن تيمية بقوا على الإفتاء بها خُفْيَةً.
المرحلة السادسة: الأمر بسجنه وكان هذا في يوم الخميس الثاني والعشرين من رجب سنة عشرين وسبعمائة، واستمر مسجونًا خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا، حيث ورد المرسوم السلطاني بإخراجه، فأُخرج يوم
_________
(1) تحديد المُدَّة مستفاد من كلام الذهبي في تاريخ الإسلام (7/ 165).
(2) انظر: العقود الدُّرِّيَّة (ص 393). وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (7/ 165): (ثم حَرَّم الفتاوى على نفسه من أجلِ تكلُّمِ الفقهاء في عِرْضِهِ).
(3) في ذيل العبر في خبر مَنْ غَبَر (4/ 52).

(المقدمة/29)


الاثنين الموافق ليوم عاشوراء من سنة إحدى وعشرين وسبعمائة.
المرحلة السابعة: الاستمرار في الإفتاء بها إلى أَنْ (صار إلى ربه، وهو مقيمٌ عليها، داعٍ إليها، مباهلٌ لمنازعيه، باذلٌ نَفْسَهُ وعِرْضَهُ وأوقاتَهُ لمستفتيه؛ فكان يُفتي في الساعةِ الواحدةِ فيها بقلمِهِ ولسانِهِ أكثرَ من أربعين فتيا) (1).
وهذا الرأي الذي اختاره ابن تيمية ونافحَ مِنْ أجلِهِ، وصَبَرَ على الامتحان، وكلام الفقهاء في عرضه =لم يكن من بادئ الرأي الذي قد يتراجع عنه المفتي سريعًا، فليس هذا القول مما تربَّى عليه، ولا له فيه غرض يَميل فيه لأجله، لكنه نتيجة تأملٍ طويلٍ أعلنه بعد عشرين عامًا، ثم صار يُفتي به بلسانه وقلمه، وحسب ابن تيمية في هذه المسألة وغيرها أنه تكلَّم (في مسائل كبار لا تحتملها عقول أبناء زمانه ولا علومهم) (2)، وإلا فليس هو ممن يتسرَّع في الإفتاء حتى يمحِّص الأدلة ويستفرغ الوسع في البحث
_________
(1) إعلام الموقِّعين (5/ 540).

وهذا العدد الضخم من الإفتاء بهذه المسألة حصل للشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – في مسائل الطلاق عمومًا؛ كما ذكر ذلك الشيخ محمد الموسى في كتابه (جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز) (ص 293) حيث قال: (ولقد جمعتُ فتاوى الطلاق الصادرة بتوقيع سماحته، وبلغت سبعًا وعشرين ألف فتوى طلاق تقريبًا؛ هذا زيادةً على فتاواه التي لم تُسجَّل، كفتاواه لمَّا كانَ قاضيًا في الدلم، وفتاواه قبل ذهابه للجامعة الإسلامية، وفتاواه الشفوية، أو الخاصة التي لم تُسجَّل!)، وهذه حصيلة أكثر من ستين سنة من الإفتاء في الطلاق (ص 288).
(2) قاله الذهبي في الدرة اليتيمية (ص 47 تكملة الجامع)، وعنه أخذها ابن الوردي كما في تتمة المختصر في أخبار البشر (ص 336 الجامع). وفي تاريخ ابن الوردي (2/ 259) تفصيل أطول.

(المقدمة/30)


والنظر بعد اللجأ إلى الله (1)، فإذا ما لاحَ له وجه الصواب الذي لا يجوز له مخالفته قال به وأفتى، ولو أدَّى ذلك إلى سجنه وعقوبته (2).
وهذا دأبه فيما يحتاجه الناس وتبيَّن له فيه الحقّ، كما قال بعد بحثٍ طويلٍ في مسألة طواف الحائض (3): (هذا هو الذي توجَّه عندي في هذه المسألة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولولا ضرورة الناس واحتياجهم إليها علمًا وعملًا لما تجشمت الكلام حيث لم أجد فيها كلامًا لغيري؛ فإنَّ الاجتهاد عند الضرورة مما أمرنا الله به، فإنْ يكن ما قلته صوابًا فهو حكم الله ورسوله والحمد لله، وإنْ يكن ما قلته خطأً فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان من الخطأ، وإن كان المخطئ معفوًا عنه .. ).
فابن تيمية له رؤيته المغايرة لرؤية السبكي في هذه المسألة، فالقول بوقوع الطلاق المعلَّق أدَّى إلى قيام سوق المحلِّلين الملعونين (4)، ووقوع
_________
(1) ومن أمثلة ذلك: ما قاله في تفسير آيات أشكلت (2/ 597): «قد تدبَّرت الربا مراتٍ، عودًا على بدءٍ، وما فيه من النصوص والمعاني والآثار؛ فتبيَّن لي ــ ولا حول ولا قوة إلا بالله بعد استخارة الله ــ أنَّ أصل الربا هو النسأ … » إلخ.
(2) فقد قال بعد أنْ عاد إلى الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق بعد مَنعِهِ: (لا يَسَعُنِي كتمان العلم). العقود الدرية (ص 394).
(3) مجموع الفتاوى (26/ 241).
(4) يَصِفُ ابن القيم في إعلام الموقعين (5/ 540) طرفًا منها بقوله: (فَعُطِّلَت لفتاواه مصانعُ التحليل، وهُدِّمَت صوامعه وبِيَعُهُ، وكسدت سوقه، وتقشَّعت سحائب اللعنة على المحلِّلين والمحلَّل لهم من المطلِّقين، وقامت سوق الاستدلال بالكتاب والسنة والآثار السلفية، وانتشرت مذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الإسلام للطالبين، وَخَرَجَ من حَبْسِ تقليد المذهب المعيَّن به مَنْ كَرُمَتْ عليه نفسُهُ من المستبصرين).

(المقدمة/31)


الحرج والمشقة لكثيرٍ من الناس؛ فمنهم مَنْ يُفارق امرأته مع كراهته مفارقتها، ومنهم مَنْ يرغب في امرأته ولا يرى طريقًا إلا التحليل فيلجأ إليه مع كراهته له، ومنهم مَنْ يكره فراق امرأته ويكره التحليل فيقيم مع امرأته حسب اعتقاده أهونُ عليه من فراقها أو الوقوع في التحليل (1).
والمسألة في نظر ابن تيمية من المسائل الخلافية (2)،
وأنه ما زال في المسلمين مَنْ يُفتي بعدم وقوع الطلاق المعلَّق من حين حَدَثَ الحلف بها وإلى هذه الأزمنة (3)، وأنَّ هذه المسائل من المسائل الاجتهادية؛ المجتهد فيها ما بين أجرٍ وأجرين (4)، كما أنَّ الفتيا والقضاء بها سائغ (5)، بل إنَّه ينقل اتفاق الأئمة الأربعة على عدم جواز نقضِ حكمِ مَنْ حَكَمَ بعدم الوقوع (6)؛
_________
(1) انظر ما ذكره في (ص 32).
(2) قال أبو الوليد الأزدي في المفيد للحكام (4/ 98): (وسئل الفقيه القاضي أبو الفضل ابن النحوي – رحمه الله – عن مسألة الأيمان اللازمة.

فأجاب بأنْ قال: المسألة خلافية مظنونةٌ، ومن رحمة الله على الخَلْق أَنْ المسائل المظنونة التي أدركتها آراء الأئمة لم يَقِفِ الله ــ تعالى ــ على الخطأ فيها أحدًا؛ إما مصيرًا إلى أنَّ الحقَّ في واحدٍ، وإما مصيرًا إلى أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيب، ولكن استأثر الله بتعيينه تكليف المجتهدين للتحويم حولَهُ؛ فمن أصاب فله أجران: أجرُ الاجتهاد وأجرُ الإصابة، ومَنْ أخطأ فله أجر الاجتهاد، الذي هو استفراغ الوسع في طلب الحادثة).
(3) مجموع الفتاوى (33/ 135).
(4) مجموع الفتاوى (33/ 148 – 149).
(5) مجموع الفتاوى (33/ 133، 135، 139، 148 – 149).
(6) مجموع الفتاوى (33/ 134 – 135).

(المقدمة/32)


فالمجتهدون يُقَرُّونَ إذا عُدِمَت النصوص (1).
وهو يرى أنَّ مِنْ (آيات ما بَعَثَ به الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنه إذا ذُكِرَ مع غيره على الوجه المبيّن ظهر النور والهدى على ما بُعِثَ به، وعلم أنَّ القول الآخر دونه)، و (ما تنازع المسلمون فيه من مسائل الطلاق فإنك تجد الأقوال فيه ثلاثة: قولٌ فيه آصارٌ وأغلالٌ، وقولٌ فيه خداعٌ واحتيالٌ، وقولٌ فيه علمٌ واعتدالٌ) (2).
وكان حاصل ما ردَّ به عليه معترضوه ــ كما ذكر ابن القيم في إعلام الموقِّعين (3/ 363) ــ: (أربعة أشياء:
أحدها: ــ وهو عمدةُ القوم ــ أنه خلاف مرسوم السلطان.
والثاني: أنه خلاف الأئمة الأربعة (3).
والثالث: أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله: (إِنْ أبرأتني فأنتِ طالق) فَفَعَلَتْ (4).
_________
(1) جامع المسائل (6/ 305).
(2) مجموع الفتاوى (33/ 42 ــ 43).
(3) بل حكى السبكي الإجماع في هذه المسألة نقلًا عن غيره؛ إلا أنَّ ابن تيمية بيَّن أنه لا إجماع في المسألة، وابن تيمية ممن يعتني بمسألة تمحيص الإجماعات لكثرة ما يقع فيها من الخطأ، وفي الوقت ذاته يكثر من بيان أنَّه ليس لأحدٍ أنْ يقول قولًا لم يُسبق إليه.
انظر: مجموع الفتاوى (4/ 396) (19/ 268 – 269) (21/ 291)، جامع المسائل (6/ 401، 403) (8/ 442)، الصفدية (1/ 287)، المسائل والأجوبة (ص 55)، رفع الملام (ص 32)، الإخنائية (ص 458)، بغية المرتاد (ص 392).
(4) انظر: مجموع الفتاوى (33/ 56).

(المقدمة/33)


والرابع: أَنَّ العمل قد استمر على خلاف هذا القول، فلا يُلْتَفَتُ إليه (1)).
وربما أشار بعضهم إلى أنَّ الاحتياط في هذه المسألة هو بالأخذ بقول الجمهور إلا أنَّ لابن تيمية نظرته الفاحصة في القول بالاحتياط؛ فالاحتياط في الجملة مشروعٌ عنده فيما يمكن فيه الخروج من الخلاف (2)، (والاحتياط أحسن ما لم يُفْضِ بصاحبه إلى مخالفة السُّنَّة، فإذا أفضى إلى ذلك؛ فالاحتياط تَرْكُ هذا الاحتياط) (3)، و (الاحتياط … ليس مشروعًا في تحليل ما كان محرمًا بيقين، وهذه المرأة محرمة على الأجانب بيقين؛ فمن أوقع الطلاق بها مع الشك فقد أَحَلَّ الحرام بالشك، وهذا لا يجوز بالاتفاق، وأما إذا أمر بالتكفير مع الشك فليس فيه إلا أمر بعبادة يشك في وجوبها، ولا ريب أَنَّ مَنْ شَكَّ في عبادة عليه فاحتاط بأدائها كان محسنًا، وإذا أمره الآمر بأن يحتاط لنفسه فيؤدي ما يشك في وجوبه كان محسنًا في ذلك لم يكن هذا بمنزلة من يحرم المرأة عليه ويحلها للأجنبي بالشك، فإنه لا يقدر أحد أن يقيم حجة على وقوع الطلاق المحلوف به) (4).
_________
(1) وقد قال بمثل ما اختاره ابن تيمية جماعات من العلماء قبل ابن تيمية وفي عصره كذلك.
(2) مجموع الفتاوى (5/ 81) (10/ 512) (20/ 262) (21/ 23، 56، 521) (23/ 267، 376، 390) (25/ 100، 110، 124، 229) (26/ 54، 124) (35/ 223)، الفتاوى الكبرى (2/ 287، 318) (6/ 253)، جامع الرسائل (2/ 141)، المسائل والأجوبة (ص 135)، شرح كتاب الطهارة من العمدة (1/ 484).
(3) المستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 41).
(4) الرد على السبكي (ص 172).

(المقدمة/34)


وفي الجملة فقد أقام ابن تيمية نحوًا من ثلاثين دليلًا على صحة هذا القول (1)، (ولم يكن مع خصومه ما يَرُدُّونَ به عليه أقوى من الشكاية إلى السلطان، فلم يكن له بِرَدِّ هذه الحجة قِبَل، وأما ما سواها فبيَّنَ فسادَ جميع حججهم، ونقضها أبلغ نقض) (2).
والمسألة لا زالت جديرةً بالبحث والبسط (ليختار العاقل ما يُوجب الإنصاف، ويختار جوابًا يقدم به على ربِّ العباد، ولا يختار شيئًا حميَّةً ورياءً؛ فإنَّ الدنيا مفروغٌ منها، وهي زائلةٌ؛ فيتخذ لنفسِهِ ما يَصلحُ لِرَمْسِهِ، وليتخذ جوابًا يقف به بين يدي الله ــ عزو جل ــ حين يقف حاسرًا عُريانًا مكشوف الرأس حيران؛ فالدنيا جميعها لا تُساوي فلسًا، وليُنْصِفْ حيث يحق الإنصاف، ولا يَقل في المسائل باجتهاد نفسِهِ؛ فإنَّ العلماء رعاةٌ على دين الله، والراعي مسئول عن رعيته، فإنه إذا أبصر يوم القيامة ــ يوم الحسرة والندامة ــ الأهوال والأمور وديوانه = اِتَّبَعَ الحق، وخلَّى الفجور؛ ولست أقول هذا في هذه المسألة، بل في جميع المسائل؛ والحذرَ كُلَّ الحَذرِ من أنْ يُبيح ما حُرِّمَ، أو يُحرم ما حلل، أو يتكلم في صفات الله بغير علم، أو يقول ما يَخرج به عن الإسلام) (3).
* * * *
_________
(1) قاله ابن القيم في إعلام الموقِّعين (3/ 363).
(2) إعلام الموقِّعين (5/ 540).
(3) خاتمة كتاب (سير الحاث) لابن المبرد (ص 219).

(المقدمة/35)


الفصل الثاني
المؤلفات في مسألة تعليق الطلاق
اعتنى العلماء ــ رحمهم الله ــ بذكر مسألة تعليق الطلاق ضمن مصنفاتهم الفقهية والحديثية، إلا أنَّ التصنيف المفرد فيها ما زال قليلًا، فحاولتُ جمع ما أستطيع من شتات هذه الكتابات من فهارس المخطوطات ومواقع المكتبات العامة والكتب المطبوعة.
وقسَّمت ما وقفتُ عليه إلى ثلاث مجموعات في ثلاث مباحث؛ هي كالتالي:

المبحث الأول: مؤلفات ورسائل وفتاوى ابن تيمية:
كَتَبَ ابن تيمية في هذه المسألة شيئًا كثيرًا ما بين فتوى ورسالة وجواب على اعتراض؛ جاء بيان ذلك في قوله: (وقد بسطتُ أقوال العلماء في هذه المسائل وألفاظهم، ومَنْ نَقَلَ ذلك عنهم، والكتب الموجود ذلك فيها، والأدلة على هذه الأقوال في مواضع أُخَر تبلغ عِدَّةَ مجلدات) (1)، وقال ابن القيم في إعلام الموقِّعين (5/ 540): (وصنَّف في المسألة ما بين مطوَّل ومختصر ما يُقارب ألفي ورقة). فإحصاء كتابات الشيخ – رحمه الله – في هذا الباب متعذِّر، لكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق؛ وإليك بيان ما وقفتُ عليه منها:
1 ــ الاجتماع والافتراق في الحلف بالطلاق (2)، صححها وعَلَّق عليها:
_________
(1) مجموع الفتاوى (33/ 132)، ومختصر الفتاوى المصرية (ص 438).
(2) وقد كتب الشيخ علي بن محمد العمران ــ وفقه الله ــ تعريفًا بهذه الرسالة وبمخطوطتها النفيسة، نَشَرَهُ في مجلة الدارة (1/ 37/57)، وفي مواقع الشبكة المعلوماتية بعنوان: التعريف بمخطوطة نفيسة لرسالة (الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق) لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم طَبَعَهُ ضمن كتابه (بحوث ومقالات في العلم والتراث) نشر دار الوعي (ص 17 – 39).

(المقدمة/36)


محمد بن أحمد سيد أحمد، طبع في مكتبة السَّوَادي للتوزيع (1).
2 ــ لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف، طبعت ضمن مجموع الفتاوى (33/ 57)، ومستقلةً بتحقيق عبد العزيز بن أحمد الجزائري في دار الراية للنشر والتوزيع (2).
3 ــ القاعدة الخامسة من كتاب القواعد الكلية (النورانية) (ص 444 ــ 541)، وهي قاعدة متعلقةٌ بالأيمان والنذور، وهذا الموضع من كتابات ابن تيمية يعطي تصورًا واضحًا لتقرير ابن تيمية مسائل الأيمان والنذور.
4 ــ مسألة في رجل قال لزوجته: عليَّ الطلاق ما تروحي لبيت أبوكِ (3) لسنةٍ … إلى آخره؛ طبعت هذه الفتوى ضمن جامع المسائل (المجموعة
_________
(1) كتبَ السبكي على هذه الرسالة بعض المؤاخذات، ستأتي الإشارة إليها ضمن المؤلفات في الرد على ابن تيمية.
(2) ولها نسخٌ خطيةٌ عثرت عليها في بعض الفهارس؛ فمنها نسخة في مجاميع العمرية الظاهرية تحت رقم (72)، ونسختان ضمن مخطوطات جامعة أم القرى برقم (1/ 471، 660) ومصدر نسختي جامعة أم القرى مكتبة جامعة برنستون بأمريكا وهما برقم واحد (1377)، وقد ورد في معجم تاريخ التراث الإسلامي في مكتبات العالم ما يلي: نسخة بمكتبة الأوقاف العامة (5674/ 4) (13853) كتبت النسخة الأولى عام (1303)، والظاهرية برقم (72) كتبت النسخة عام (930).
(3) علَّق المحقق: (كذا في الأصل بالرفع ملحونًا من السائل).

(المقدمة/37)


الرابعة / 303).
5 ــ مسألة في غلام حلفَ بالطلاق الثلاث أنه لم يخدم عند إنسان … إلى آخره؛ طبعت هذه الفتوى ضمن جامع المسائل (المجموعة الرابعة / 311).
6 ــ مسألة فيمن حلف بالطلاق ألا يفعل شيئاً ثم أراد أن يفعله؛ طبعت هذه الفتوى ضمن جامع المسائل (المجموعة الرابعة / 331).
7 ــ مسألة في رجلٍ حلف بالطلاق ثم استثنى هُنَيهةً بقدر ما يمكن فيه الكلام؛ طبعت هذه الفتوى ضمن جامع المسائل (المجموعة الرابعة / 345)، وكذلك في الفتاوى العراقية (1/ 70).
8 ــ مسألة تسمى البغدادية (1)، تشتمل على مسائل متعلقة بالطلاق، ومنها مسألة الحلف بالطلاق؛ طبعت ضمن الفتاوى الكبرى (3/ 241)،
_________
(1) كذا ورد تسميتها في الفتاوى العراقية، وقد ذكر د. علي الشبل في كتابه (الأثبات في مخطوطات الأئمة) (ص 223): من مخطوطات ابن تيمية: (المسألة البغدادية فيما يَحِلُّ ويحرم من الطلاق، في (31) ورقة، في القرن الحادي عشر الهجري، أصلية، في مركز المخطوطات بالكويت، 124/ 1، خط قديم)، ولم أقف عليها، فيحتمل أنها هذه.
وقد ذكرها الصفدي في أعيان العصر (ص 358) والوافي بالوفيات (ص 381)، والكتبي في فوات الوفيات (ص 395).
وفي هذه المسألة ذكر الشيخ فيما يَتعلق بإيقاع الثلاث تعزيرًا: (وهذه المسائل عظيمة؛ وقد بسطنا الكلام عليها في موضعٍ آخر في أكثر من مجلدين، وإنما نَبَّهنا عليها هاهنا تنبيهًا لطيفًا)؛ فاللهم يسِّر العثور عليه.

(المقدمة/38)


والفتاوى العراقية (2/ 804)، وفرقها ابن قاسم في مجموع الفتاوى (33/ 75، 144، 215 وما بعدها).
9 ــ مسألةٌ في الفرق بين الطلاق الحلال والطلاق الحرام (1)؛ طبعت ضمن مجموع الفتاوى (33/ 5)، والفتاوى الكبرى (3/ 276)، والفتاوى العراقية (2/ 1094 إلى نهاية الكتاب) (2).
10 ــ فتوى في الطلاق الثلاث استطرد فيها إلى مسائل تتعلق بالطلاق والنذر المعلَّق بالشرط، والحلف بالعتاق أو الطلاق؛ طبعت هذه الفتوى ضمن مجموع الفتاوى (32/ 83)، والفتاوى الكبرى (3/ 207)، والفتاوى العراقية (2/ 750).
11 ــ مسألة في الرجل يَحلف بالطلاق على شيءٍ أنه لا يَفعله ثم يَفعله؛ هل يَلزمه الطلاق الثلاث؟؛ وهي ضمن مسائل أهل الرحبة، وقد طُبعت ضمن جامع المسائل (المجموعة السابعة / 15)، وكذلك ضمن مجموع طُبِعَ بتحقيق حسين عُكَّاشة، بدار الفاروق الحديثة للطباعة والنشر.
12 ــ فصلٌ: إذا قال الرجل: عليَّ الطلاق لأفعلنَّ كذا أو لا أفعله … فهل يقع به طلاق؟، طُبِعَ هذا الفصل ضمن مختصر الفتاوى المصرية (ص 424).
_________
(1) كذا عُنْوِنَ لها في الفتاوى الكبرى، ويَحتمل أنه من صنيع المحقق. وفي مجموع الفتاوى والفتاوى العراقية: فصلٌ مختصر فيما يَحلُّ من الطلاق ويحرم، وهل يَلزم المُحَرَّم أو لا يَلزم؟ ثم علق ابن قاسم عليها بقوله: تسمى «البغدادية» فيما يحل من الطلاق ويحرم.
(2) توجد نسخة من الرسالة في معهد المخطوطات في باكو بأذربيجان، كما في منتخب مخطوطاته المطبوع (ص 44) ورقمه في المعهد (4156 –
d)، ويوجد لها صورة في مركز جمعة الماجد برقم (563).

(المقدمة/39)


13 ــ فصلٌ: والألفاظ التي يَتكلم بها الناس في الطلاق ثلاثة أنواع … ، طُبِعَ هذا الفصل ضمن مختصر الفتاوى المصرية (ص 427)، وهو مطبوع ضمن مجموع الفتاوى (33/ 140)، والفتاوى الكبرى (3/ 311).
14 ــ فصلٌ: ومَنْ حَلَفَ على زوجته بالطلاق الثلاث لا تفعل كذا، ففعلت … إلخ، طُبِعَ هذا الفصل ضمن مختصر الفتاوى المصرية (ص 524)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 35).
15 ــ فصلٌ: وإذا حَلَفَ بالطلاق الثلاث: أنَّ أَحدًا من أرحام المرأة لا يطلع على بيته … ، طُبِعَ هذا الفصل ضمن مختصر الفتاوى المصرية (ص 528)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 39).
16 ــ فصلٌ: إذا حَلَفَ بالطلاق أو غيره: أنه لا يَدخل دار فلان … ، طُبِعَ هذا الفصل ضمن مختصر الفتاوى المصرية (ص 533).
17 ــ فصلٌ: إذا حلف الرجل بالحرام، فقال: الحرام يلزمني لا أفعل كذا، والحلُّ عليَّ حرام لا أفعل كذا، وما يحل للمسلمين يحرم عليَّ إنْ فعلتُ كذا ونحو ذلك وله زوجة؛ ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف … إلخ. طُبِع ضمن مجموع الفتاوى (33/ 74) (1)، والفتاوى الكبرى (3/ 226)، وقد نَقَلَ هذه الفتوى الآلوسي في جَلاء العينين (ص 257).
18 ــ الرد الكبير على من اعترض على ابن تيمية في مسألة الحلف بالطلاق، وهو كتابنا هذا (2).
_________
(1) انظر تعليق الشيخ ناصر الفهد في صيانة مجموع الفتاوى (ص 239).
(2) سيأتي وصف المخطوط والكلام عليه في الفصل الثاني: دراسة المخطوط.

(المقدمة/40)


19 ــ مؤاخذة ابن حزم في الإجماع؛ طُبِعَ عِدَّة طبعات باسم (نقد مراتب الإجماع) ملحقًا بمراتب الإجماع لابن حزم، وهو ضمن جامع المسائل (المجموعة الثالثة / 321 ــ 350). وقد علَّق ابن تيمية على كلام ابن حزم فيما يتعلق بالطلاق إذا خرج مخرج اليمين؛ أيلزم أم لا؟
20 ــ في الحلف بالطلاق وتنجيزه ثلاثًا؛ ذكره الصفدي في أعيان العصر (ص 358) والوافي بالوفيات (ص 381).
21 ــ الفرق المبين بين الطلاق واليمين؛ ذكره الصفدي في أعيان العصر (ص 358) والوافي بالوفيات (ص 381)، وابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 392) (1)، والكتبي في فوات الوفيات (ص 395)، كما ذكره ابن رجب في ذيل الطبقات (ص 483) باسم (الفرقان بين الطلاق والأيمان) ووصفه بأنه في مجلد لطيف.
22 ــ الحلف بالطلاق من الأَيمان حقيقةً؛ ذكره الصفدي في أعيان العصر (ص 358) والوافي بالوفيات (ص 381)، وابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 392).
23 ــ التحقيق في الفرق بين الأيمان والتطليق؛ ذكره الصفدي في أعيان العصر (ص 358) والوافي بالوفيات (ص 381)، والكتبي في فوات الوفيات (ص 395)، كما ذكره ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 392) ــ ووصفه بأنه قاعدة كبيرة نحو أربعين كراسة ــ، وابن رجب في ذيل الطبقات (ص 483)
_________
(1) ووصفها بأنها قدر النصف من (تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان) والذي هو في أربعين كراسة.

(المقدمة/41)


باسم (تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان) ووصفه بأنه في مجلد كبير.
24 ــ مسائل الفرق بين الحلف بالطلاق وإيقاعه والطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك؛ ذكره الصفدي في أعيان العصر (ص 358) والوافي بالوفيات (ص 381) (1)، وابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 61) (2)، والكتبي في فوات الوفيات (ص 395).
25 ــ قاعدة في أنَّ جميع أيمان المسلمين مكفَّرة؛ ذكرها ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 392) ووصفها بأنها في مجلد لطيف.
26 ــ اللمعة؛ ذكرها ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 392)، ويحتمل أنها تصحيف من (اللمحة) وهي لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف، كما بيَّن ذلك الشيخ علي العمران ــ وفقه الله ــ في حاشية تحقيقه للعقود نقلاً من هامش إحدى مخطوطات الكتاب.
27 ــ رسالة في الطلاق؛ نسخة محفوظة ضمن مجاميع المدرسة العمرية الظاهرية برقم (91) (3).
_________
(1) وقد أشار الصفدي إلى أنها تُقدَّر بخمسةَ عشر مجلدًا!
(2) حيث قال: وله في مسائل الطلاق والخلع وما يتعلق بذلك من الأحكام شيءٌ كثيرٌ ومصنفات عديدة، بيَّض الأصحاب من ذلك كثيرًا، وكثيرٌ منه لم يبيَّض، ومجموع ذلك نحو العشرين مجلدًا.
(3) وهي الفتوى المعترض عليها، وقد طبعت ضمن مجموع الفتاوى (33/ 187)، وفي المخطوط ما ليس في الفتاوى، وما في المخطوط متفق مع اعتراض السبكي وجواب ابن تيمية، وقد قدم الناسخ قبل نقل الفتوى بمقدمة تفيد في دراسة الحيِّز الذي أخذته هذه المسألة من ابن تيمية.

(المقدمة/42)


28 ــ الإفتاء بمسألة الطلاق؛ نسخة خطية محفوظة ضمن مخطوطات جامعة أم القرى برقم (1/ 174 مجاميع)، ومصدر النسخة المكتبة الظاهرية، ولم أطلع عليها.
29 ــ رسالة في الحلف بالطلاق وغير ذلك، ضمن مجاميع العمرية (91)، وهي ناقصة، قال المفهرس: المؤلف مجهول. لكن بالاطلاع عليها ظهر لي أنها لابن تيمية لعدة قرائن منها إشارته إلى كتابه «بيان الدليل على بطلان التحليل».
30 ــ نقض جواب الطبرسي في مسألة الطلاق؛ لها عدة نُسَخ في الظاهرية برقم (99 مجاميع) و (3835)، بعض هذه النسخ في (5) ورقات، وبعضها في (35) ورقة!، وقد جاء في إحدى النسخ زيادة (لَمَّا كان بمصر مسجونًا)، ولم يتضح لي كونها في تعليق الطلاق أو الطلاق الثلاث (1).

المبحث الثاني: المؤلفات في الرد على ابن تيمية:
1 ــ الدُّرَّةُ المضيَّة في الرد على ابن تيمية، للشيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكَاني الشافعي (2)، كتبها ردًّا على قول ابن تيمية بالاكتفاء في تعليق
_________
(1) انظر: الأثبات في مخطوطات الأئمة، للدكتور علي الشبل (ص 86، 242)، وقد اطلعت على الموضع الذي في مجاميع العمرية برقم (99) واتضح أنها ليست في الطلاق، وإنما في حكاية ما حصل لابن تيمية في الحبس، وهي في مجموع الفتاوى (3/ 348)، ولا أدري عن الموضع الآخر.
(2) وقد ذكر الحبشي في معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي (2/ 1239) بحث ابن تيمية والزملكاني في مسألة الطلاق، ولم يتضح لي هل هو هذا أو كتاب آخر؟

(المقدمة/43)


الطلاق على وجه اليمين بالكفارة عند الحنث؛ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (18/ 286) ووصفها بأنها مجلدٌ كبير، كما ذكرها صاحب كشف الظنون (1/ 744) وأفاد بأنَّ ابن الزملكاني رتَّبَها على ثلاثة فصول: في حكم المسألة، في إجمال دفع الاستدلال، في الجواب عنه. وأوله: الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى … إلخ، وفَرَغَ منه ناسخه في رمضان سنة (834) (1).
2 ــ الدُّرَّةُ المضيَّة في الرد على ابن تيمية، لتقي الدين السبكي، طبعت بمطبعة الترقي عام (1347)، وله نسخةٌ خطية في جامعة (برنستون) بالولايات المتحدة (2)، وهو في فهرس (خزانة التراث) من إصدارات مركز الملك فيصل برقم (39471).
3 ــ رافع الشقاق في مسألة الطلاق، لتقي الدين علي بن عبد الكافي السُّبكي، ذكرَهُ ابنُ المؤلف في ترجمته لوالده من طبقات الشافعية الكبرى (10/ 308)، وقد بحثتُ عنه فلم أجده.
4 ــ التحقيق في مسألة التعليق؛ لتقي الدين علي بن عبد الكافي السُّبكي، يوجد صورة من المخطوط غير كاملة في مكتبة الملك فيصل تحت رقم (118876) (3).
_________
(1) يحتمل عندي أنَّ صاحب كشف الظنون اطَّلَعَ على نسخةٍ من (الدرة المضيَّة) والتي من تأليف السبكي منسوبةً خطأً إلى ابن الزملكاني، بدليل أنَّ وصفَه هذا منطبقٌ تمامًا على كتاب السبكي.
(2) صورت مكتبة الملك فهد الوطنية مخطوطات هذه الجامعة.
(3) وقد سجل الباحث/ إياد أحمد الغوج تحقيقه في رسالة علمية.

(المقدمة/44)


5 ــ مختصر التحقيق في مسألة التعليق؛ لتقي الدين السبكي، وهو اختصارٌ من كتابه المطوَّل في الرد على ابن تيمية المسمَّى بِـ (التحقيق في مسألة التعليق) يوجد صورةٌ منه على الشبكة المعلوماتية ضمن ما نُشر من المخطوطات الأزهرية وهي تحت رقم (841 مجاميع ــ زكي 41731)، وجاء في وصفها أنها بقلم معتاد بخط العلامة الشيخ علي بن محمد الأشموني الشافعي النحوي، وفرغ من تأليفها عام (724).
6 ــ مؤاخذات تقي الدين السبكي على رسالة ابن تيمية (الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق)، طبعت ضمن فتاواه (2/ 267)، كما طبعت بمطبعة الترقي بدمشق ضمن مجموع في مجلد، وعنوان الرسالة (نقد الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق).
7 ــ المقالات السُّنِّيَّة في كشف ضلالات أحمد بن تيمية، لعبد الله بن محمد الهرري المعروف بالحبشي (1)، طبعته شركة دار المشاريع للطباعة والنشر. وقد ذكر في كتابه هذا مجموعة مسائل ردَّ فيها على ابن تيمية والوهابية، ومن ضمنها مسألة الطلاق المعلَّق.

المبحث الثالث: مؤلفات ورسائل غير ابن تيمية أو الرَّادِّين عليه:
مسألة تعليق الطلاق من المسائل الكبار التي لا يكاد يخلو مصنف في الفقه إلا وتعرض لها؛ فلهذا تجاوزت ذكر كتب الفقه إلى المؤلفات والرسائل التي أفردت مسألة تعليق الطلاق والحلف به بالبحث أو ما كان من
_________
(1) وقد رَدَّ عليه د. عبد الرحمن دمشقية بكتابه (المقالات السنية في تبرئة شيخ الإسلام ابن تيمية ورد مفتريات الفرقة الحبشية)، دار المسلم للنشر والتوزيع، عام 1418.

(المقدمة/45)


بحوث حول مسائل الطلاق والأيمان وقد تعرضت لمسألتنا هذه، أما كتب الفتاوى فهي زاخرةٌ بالأسئلة الموجَّهة للعلماء حول تعليق الطلاق بنوعيه.
أولًا: الكتب المتعلقة بمسألتنا:
1 – رسالةٌ في الطلاق، لمؤلفٍ مجهول ولعله شيخ الإسلام ابن تيمية؛ كذا قال المفهرس، وهي ضمن مجاميع المدرسة العمرية الظاهرية برقم (99)، وبالاطلاع عليها اتضح أنها لغير ابن تيمية حيث نقل عنه في عدة مواضع.
2 – فتح الانغلاق في مسألة عليَّ الطلاق، للنابلسي، ذكره الحبشي في معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي (2/ 1241) وأشار إلى أنه ضمن مخطوطات الظاهرية.
3 – النظر المحقق في الحلف بالطلاق المعلَّق، لتقي الدين السبكي، طُبِعَ بمطبعة الترقي بدمشق سنة (1347) ضمن مجموع في مجلد، كما طبع ضمن فتاوى السبكي (2/ 273).
4 – أحكام تعليق الطلاق، للباحث: عاصم بن ناصر بن عبد الرحمن القاسم، وهو بحث تكميلي لنيل درجة (الماجستير) بالمعهد العالي عام (1417) (1).
5 – الرسالة الحاكمة في مسألة الأيمان اللازمة، للقاضي أبي بكر ابن العربي، تحقيق: إبراهيم الوافي، مركز الدراسات والأبحاث بالرباط.
6 – الطلاق المعلَّق مفهومه وأثره في الفقه الإسلامي، بحث للدكتور: علي بن محمود الزقيلي، المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، المجلد
_________
(1) وقد زرتُ الشيخ ــ وفقه الله ــ وأطلعني ــ مشكورًا ــ على رسالته، وهي مشتملة على بحث حكم مجموعةٍ من ألفاظ التعليق.

(المقدمة/46)


الخامس، العدد الأول، عام 1430 هـ.
7 – الطلاق المعلَّق على شرط، للباحث: عبد الرحمن بن عبد اللطيف النمر، مجلة الوعي الإسلامي في عددها (439).
8 – معطية الأمان من حنث الأيمان، لابن العماد الحنبلي، تحقيق: عبد الكريم صنيتان العمري، المكتبة العصرية.
9 – الرسالة الحلفية، لقاضي بن قاسم العلوي القريشي، منسوخة عام (1041)، نسخة محفوظة في مكتبة الملك عبد العزيز برقم (3642).
10 – الحجة القوية في جواب الرسالة الحلفية، محمد بن جعفر بن محمد ميران (1).
11 – أحكام اليمين بالله ــ عز وجل ــ دراسة فقهية مقارنة، للدكتور: خالد بن علي المشيقح، دار ابن الجوزي.
12 – أبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (2/ 333).
13 – آراء ابن تيمية في مسائل الطلاق، للباحث: عبد الله بن جاسم كردي الجنابي، رسالة (ماجستير) مقدمة إلى جامعة بغداد، نوقشت عام (1998 م) (2).
_________
(1) ذكر هذا والذي قبله الباحث / إبراهيم بن عبد العزيز اليحيى في (ملتقى أهل الحديث)، وهو من المخطوطات المحفوظة في مكتبة الملك عبد العزيز العامة، وقد قام الباحث ــ مشكورًا ــ بنشر (الرسالة الحلفية) في الشبكة المعلوماتية.
(2) انظر: دليل الرسائل الجامعية في علوم شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 86)، للباحث: عثمان بن محمد الأخضر شوشان.

(المقدمة/47)


14 – تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف: د. أحمد موافي، فقد ذكر اختيار ابن تيمية ثم بحث المسألة بحثًا جيدًا (1/ 509 ــ 529 ط. الخامسة)، طبع لدى دار ابن الجوزي.
15 – اختيارات شيخ الإسلام الفقهية (من أول باب الخلع إلى نهاية كتاب الإقرار)، تأليف: د. زيد بن سعد الغنام، فقد بحث المسألة عند ذكره لاختيار شيخ الإسلام في باب الطلاق (9/ 102)، طبع في كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع ضمن مجموعة رسائل.
16 – القواعد والضوابط الفقهية عند شيخ الإسلام ابن تيمية في الأيمان والنذور، تأليف: د. محمد بن عبد الله بن الحاج التُّمْبُكْتِيّ الهاشمي، طبع لدى المكتبة المكية.
17 – نظام الطلاق في الإسلام، للشيخ أحمد شاكر، وتحدث عن بعض قضايا إصلاح المحاكم، ومن ذلك الحكم في مسائل الطلاق المختلف فيها كالطلاق الثلاث والمعلَّق، طبعته مكتبة السنة.
18 – الإشفاق على أحكام الطلاق، للأستاذ محمد زاهد الكوثري، وهو في أصله ردٌّ على كتاب الشيخ أحمد شاكر (نظام الطلاق)، ومن المسائل التي تعرض لها مسألة تعليق الطلاق، طبعته المكتبة الأزهرية للتراث.
19 – الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس، لعلامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي، طبع بتحقيق علي بن حسن الحلبي، بدار عمار.
20 – أحكام الحلف بالطلاق، د. عز الدين أحمد محمد إبراهيم، مجلة جامعة القرآن الكريم، العدد (16)، عام 1429.

(المقدمة/48)


ثانيًا: الكتب المتعلقة بتعليق الطلاق عمومًا:
بعض هذه الكتب وقفتُ عليه، واتضح لي أنه خاصٌّ بتعليق الطلاق المحض، وبعضها لم أقف عليه لكن يَغلب على الظن أنها لم تتعرض لتعليق الطلاق الذي يُقصد به الحث أو المنع.
1 – تعليق الطلاق بالمجهول، لابن شجرة التدميري، وهي ضمن فهرس مجاميع المدرسة العمرية الظاهرية برقم (128).
2 – رسالة في تعليق طلاق إحدى المرأتين بتطليق الأخرى، لابن نجيم الحنفي، وهي ضمن مخطوطات المكتبة البديرية بالقدس، تحت رقم (799).
3 – المحرر من الآراء في حكم الطلاق بالإبراء، للسمهودي، له نسخٌ كثيرة في مكتبات العالم (1)، وقد ذكره الحبشي في معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي (2/ 1242) بعنوان: المحرر في تعليق الطلاق.
4 – إتحاف البريات بالوقوف على الطلاق بالبراءات، للشيخ عبد المعطي بن سالم السملاوي الشافعي، مخطوط منشور في الشبكة المعلوماتية ضمن مخطوطات الأزهر الشريف.
5 – القول الأحرى في وقوع الطلاق المعلَّق على نفقةِ العِدَّةِ بالإبرا؛ لمحمد أمين بن حسن الميرغني الحنفي؛ محفوظةٌ نسخةٌ منه ضمن مخطوطات المسجد المكي، تحت الرقم العام (2050).
_________
(1) المكتبة الأزهرية برقم (2679) عروسي (42359)، ومكتبة الجامع الكبير بصنعاء برقم (85 مج، 38 مج، 62 مج)، والمكتبة المركزية بالرياض برقم (2764).

(المقدمة/49)


6 – نزهة الألباب في بيان تعليق الطلاق بِغَسْلِ الثياب، لمؤلفٍ حنفيٍ مجهول، كتبت بتأريخ 17/ 1 / 1295 بخطٍّ فارسي، وهي ضمن مخطوطات الحرم المكي تحت رقم (21/ 3803).
7 – إنباه الأنباه في الطلاق المعلَّق بِـ (إن شاء الله)، للكوكباني، ذكره الحبشي في معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي (2/ 1239).
8 ــ تعليق لابن رجب على قول صاحب المحرر في الفقه: (فإنْ قال: أنتِ طالق طلقةً إن ولدت ذكرًا، وطلقتين إن ولدت أنثى .. ) (1)، وهي محفوظة في مكتبة الفاتح في تركيا برقم (5318) ضمن مجموعة رسائل لابن رجب (2)، وفي مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود صورة منها.
وهناك بعض المصنفات التي وقفتُ عليها ضمن فهارس المخطوطات، ولم يتبيَّن لي هل تعرضت لمسألة تعليق الطلاق أم لا؟
1 – رسالة في الطلاق، لتقي الدين السبكي، وهي ضمن مجاميع
_________
(1) ومثله ما فعله الطوفي في كتابه (الصعقة الغضبية في الردِّ على منكري العربية) (ص 373 وما بعدها) في ذكره جملة من المسائل الشرعية المتفرعة من القواعد العربية، وقد ذكره على ترتيب المحرر في الفقه، ويصدِّر كثيرًا من المسائل بنقل كلام المجد، ثم يعقب عليه بالتوضيح والأمثلة وما ينبني عليه الخلاف.
(2) انظر: وصفها، وتفاصيل ما ورد في المخطوط في كتاب (ابن رجب الحنبلي وأثره في الفقه) (ص 284) للدكتور / محمد بن حمود الوائلي.
ثم طبع بتحقيق عمر الأحمد، لدى دار التوحيد للنشر، وبتحقيق أبي جنة الحنبلي، لدى دار الأوراق الثقافية.

(المقدمة/50)


المدرسة العمرية الظاهرية تحت رقم (99)، وهي في الحقيقة ليست رسالة مستقلة، وإنما نقل من شرح المنهاج للسبكي، حيث ذكر فرعًا في كتاب النكاح محله كتاب الطلاق، كما قال الناسخ، وختم الناسخ نقوله بقوله: (وليس فيه شيء من التحقيق).
2 – مسألة في الطلاق، للسيوطي، وهي ضمن مجاميع المدرسة العمرية الظاهرية تحت رقم (140).
3 – إحكام التحقيق بأحكام التعليق، لبدر الدين القرافي، ضمن مخطوطات جامعة أم القرى.
4 – رسالة الصنهاجي في الطلاق، وهي مسألة (الصنهاجي مع الشيخ شمس الدين بن الحريري كانت في سنة 789 هـ) أولها: الحمد لله، قال القاضي تقي الدين السبكي إلخ، وهي ضمن المخطوطات الأزهرية تحت رقم [375 ــ بخيت 44575].
5 – مسألة في تعليق الطلاق، لابن الشهرزوري، وهي ضمن المخطوطات الإسلامية بمكتبة تشستربيتي بدبلن، تحت رقم (3854).
* * * *

(المقدمة/51)


الفصل الثالث
دراسة المخطوط
ويشتمل على مباحث:

المبحث الأول: توثيق نسبة الكتاب:
هذا الكتاب ثابت النسبة لابن تيمية، ويدلُّ على ذلك ما يلي:
1 ــ أنَّ تلاميذ ابن تيمية ومن ترجم له ذكروا أنَّ له ردًّا مطولاً على من اعترض عليه في مسألة تعليق الطلاق، ومادة هذا المخطوط كذلك؛ فقد نَصَرَ قول ابن تيمية، وردَّ على من اعترض عليه.
وممن أشار إلى ردِّ ابن تيمية على السبكي:
أـ ابن عبد الهادي (ت 744) في العقود الدرية (ص 393) حيث قال: وله في ذلك ــ أي: الحلف بالطلاق ــ جوابُ اعتراضٍ وردَ عليه من الديار المصرية، وهو جوابٌ طويلٌ في ثلاث مجلدات، بقطع نصف البلدي.
ب ــ ابن القيم (ت 751) في إعلام الموقعين (3/ 363) حيث قال عن شيخه: (فنقَضَ حُجَجَهم وأقام نحوًا من ثلاثين دليلًا على صحة هذا القول، وصنف في المسألة قريبًا من ألف ورقة، ثم مضى لسبيله راجيًا من الله أجرًا أو أجرين، وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون).
وكأنَّ المقصود هنا هو كتابنا هذا، وفي (5/ 540): ( … فبيَّنَ فساد جميع حججهم، ونقضها أبلغ نقض، وصنَّفَ في المسألة ما بينَ مُطوَّل

(المقدمة/52)


ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة … ) إلخ= بيانُ جميع ما كتبه في هذه المسألة.
ج ــ تاج الدين السبكي (ت 771) حيث قال في طبقات الشافعية الكبرى (10/ 195): ( … وهذا الرد الذي لابن تيمية على الوالد لم يقف عليه، ولكن سمع به؛ وأنا وقفتُ منه على مجلدٍ).
وهذا يشير إلى أنه أكثر من مجلد، كما يشير إلى أنَّ المجلد الأول مفقودٌ قديمًا، حيث شنَّ بعض الناس حربًا على ابن تيمية وكتبه ورسائله وفتاويه وتلاميذه مما أدَّى إلى فقدان بعضها.
د ــ ابن رجب (ت 795) في ذيل الطبقات (4/ 523) عَدَّ جملةً من مؤلفات ابن تيمية، وذكر منها: الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق ثلاث مجلدات (1).
2 ــ أنَّ نَفَسَ مؤلفِ هذا الرد هو نَفَسُ ابن تيمية في الاستدلال والاعتراض والمناقشة، وهذا ظاهر لكلِّ مَنْ له اطلاعٌ على مؤلفاته وفتاويه وردوده، حيث يستخدم عبارات ونقولًا تتكرر في كثيرٍ من كتبه بلفظها لا سيما ما كتبه في ذات المسألة، وبعضها مروي بالمعنى لأنه يسوقها من حفظه.
3 ــ أنَّ هذا الرد متضمن لكثيرٍ من الاختيارات العلمية في مسائل فقهية وأصولية وغيرها مطابقةٍ لاختيارات شيخ الإسلام، مما يؤكد أنَّه هو مصنِّف هذا الرد.
_________
(1) وانظر: المنهج الأحمد للعليمي (ص 611 الجامع)، والدر المنضد له (ص 619 الجامع).

(المقدمة/53)


4 ــ أن المؤلف كان يفتي بما عليه جمهور أصحاب المذاهب ومنهم المعترض حتى تبيَّن له الحق، وقد أشار إلى هذا في (ص 451) حيث قال: (فإنَّ المجيب لم يكن هذا القول مما تربَّى عليه، ولا له فيه غرضٌ يميل لأجله إليه، بل كان يعتقد خلافه ويفتي دائمًا بخلافه، لكن لمَّا نظر ورأى الحق لم يجز له أن يقول خلاف ما تبيَّن له … ) إلخ، وهذا ــ والله أعلم ــ هو ما حصل لابن تيمية في مراجعته واجتهاده في بعض المسائل التي احتاج لها الناس عندما كثر التحايل والتحليل في عصره.
5 ــ أنَّ التاج السبكي في ترجمته لوالده في الطبقات (10/ 195) أشار إلى أنَّ ابن تيمية قال عن والده في ردِّه عليه: (لقد برَّزَ هذا على أقرانه)، وهذه العبارة موجودة في هذه القطعة التي بين يدينا حيث قال (ص 789): ( .. كما ادعى هذا المعترض الذي بَرَّزَ على أقرانه، وظهر فضله عليهم في فعله ما يعجزون عن فعله)، وقال في (ص 933): (وما سلكه من (التحقيق في التعليق) ــ كما سمَّى بذلك مصنفه ــ ودقق فيه من المعاني، وذكر فيه من الآثار، وأتى فيه من النقل والبحث بما برَّز به على غيره).
6 ــ أنَّ التاج السبكي ذكر أنه لم يطلع إلا على مجلَّدٍ منه، ولعل ما وقف عليه هو الجزء الذي بين يديك؛ بدليل ما ذُكِرَ في الفقرة السابقة.
7 ــ أنَّ ناسخ المخطوط التزم ذِكْرَ صاحب الكتاب المردود عليه بِـ (المعترض) وقد اتضح أنَّ الكتاب المردود عليه هو كتاب للسبكي؛ كما التزم ذكر صاحب الرد وصاحب الفتوى التي ردَّ عليها السبكي بِـ (المجيب)، والفتوى المردود عليها لابن تيمية؛ فهذا دليلٌ على أنَّ المجيب هو ابن تيمية.

(المقدمة/54)


8 ــ أنَّ المجيب هنا تحدث عن أشياء تتعلق بصاحب الفتوى المعترَض عليها مما لا يمكن أن يقوله إلا صاحب الفتوى؛ فمن ذلك:
أـ ما ذكره في (ص 170): (وابن تيمية يجزم بذلك، ويباهل عليه من يباهله، بل يباهل على هذا وعلى أن هذا القول هو القول الذي بعث الله ــ عز وجل ــ به رسوله؛ فليقم هذا وأمثاله فليباهلون على أن هذا لم يقله أحد من السلف والخلف، وأنه خطأ مخالف لشرع الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -).
ب ــ ما ذكره في (ص 428): ( … وقد تقدم أنَّ هذا سوء فهمٍ منه (أي المعترض)، لم يخطر ببال المجيب أنَّ أحدًا يفهم من كلامه هذا، فإنه لم يقل ما يدلُّ عليه، ولو خطر له أنَّ أحدًا يفهم هذا لبسط الكلام في ذلك الجواب المختصر الذي اعترض عليه المعترض … ) إلخ.
9 ــ أنَّ المؤلف أشار إلى كتابٍ له في (نقد مراتب الإجماع) (1)، ولم أجد من انتقد إجماعات ابن حزم في مصنف مستقل إلا ما ذكر عن ابن تيمية وابن شيخ السلامية (ت 769)؛ ولا يصح نسبة هذا الرد للثاني لأمورٍ منها:
أـ أنَّ ما أشار إليه المصنف هنا موجود في نقده مراتب الإجماع (2).
ب ــ أنَّ ابن شيخ السلامية ولد سنة (716 أو 712)، وناسخ المخطوط انتهى من نسخها في عام (744)؛ بمعنى أنَّ ابن شيخ السلامية أَلَّفَهَا في أوائل الثلاثينات من عمره أو قبل ذلك، وهذا الرد يعجز عنه من هو في هذا العمر؛ حيث حرر كثيرًا من المسائل المشتبهة، وفنَّد الإجماعات المدَّعاة،
_________
(1) انظر صفحة رقم (623، 624).
(2) انظر: جامع المسائل (3/ 333، 334).

(المقدمة/55)


وخاض غمار نقد المرويات، وذكر تراجعه عما تربَّى ونَشَأَ عليه في هذه المسألة، وأشار إلى بسط بعض المسائل في موضع آخر … وغير ذلك مما يشير أنَّ كاتب هذ الرد رجلٌ كبيرٌ في السِّنِّ له باعٌ طويل في العلم مع تفننٍ في كثيرٍ من العلوم.
ج ــ ما أشير إليه من دلائل تؤكد نسبته لابن تيمية لا غير.
10 ــ أنَّ هذا الكتاب ردٌّ على السبكي (1)، ولم أجد ــ بعد تتبعٍ ــ مَنْ ذُكِرَ أنه رَدَّ على المعترضين على ابن تيمية في مسألة الحلف بالطلاق إلا ثلاثة؛ هم:
1 ــ يوسف بن محمد السُّرَّمُرِّي الحنبلي (ت 776)، وقد سمَّى رَدَّهُ: (الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية)، وهذا الرد عبارة عن قصيدة في مائة واثنين وخمسين بيتًا عَارَضَ بها قصيدة السبكي التي كتبها بعد اطلاعه على كتاب ابن تيمية (منهاج السنة النبوية) (2)، وأشار فيها إلى بعض المسائل التي خالف فيها شيخ الإسلام، ومنها: مسألة الحلف بالطلاق.
وقد ذَكَرَت كتب التراجم طرفًا من قصيدة السُّرَّمُرِّي، وطبعت فيما بعد كاملةً (3)؛ وهي لا تنطبق على كتابنا هذا.
_________
(1) وسيأتي بيان أدلة كون المعترض عليه هو السبكي في (ص 59).
(2) ذكر هذه القصيدة التاج السبكي عند ترجمته لوالده في طبقات الشافعية (10/ 176).
(3) بتحقيق صلاح الدين مقبول، نشر مركز (أبو الكلام) للتوعية الإسلامية، الطبعة الأولى عام 1412.

(المقدمة/56)


2 ــ محمد بن جمال الدين الشافعي اليمني (ت؟)، وهي قصيدة ردَّ فيها على قصيدة السبكي السابقة، في مائةٍ وعشرة أبيات، وقد ذكر هذه القصيدة الآلوسي في جلاء العينين (ص 32)، ثم طبعت مستقلةً مع قصيدة السُّرَّمُرِّي؛ وهي كسابقتها لا تنطبق على كتابنا هذا.
3 ــ يوسف بن أحمد بن إبراهيم (ابن أبي عمر) المقدسي الحنبلي (ت 798)، وقد سمَّى رَدَّهُ: (الرد على المعترضين على ابن تيمية في الطلاق)؛ ولا يصح نسبة هذا الكتاب له لما يلي:
أـ أنَّ المقدسي ولد عام (720 أو 721) وناسخ المخطوط انتهى من نسخها في عام (744)؛ بمعنى أنَّ المقدسي أَلَّفَهَا وعمره قرابة عشرين عامًا، وهذا الرد لا يَتَأَتَّى ممن هو في هذا العمر من حيث التحرير، والإشارة إلى بسط بعض المسائل في مواضع أُخَر … وغير ذلك مما يشير إلى أنَّ كاتب الرد رجلٌ كبير السِّنِّ والعلم كما تقدم.
ب ــ أنَّ صاحب الردِّ ذكر كتابًا له في نقد إجماعات ابن حزم، ولا يُعرف لابن أبي عمر مؤلفٌ في هذا الباب.
ج ــ أني لم أجد من وصف ردَّ ابن أبي عمر بما يوضح لنا المسألة التي ردَّ عليها؛ هل هي الطلاق الثلاث أو تعليق الطلاق أو غيرهما؟ وهل هو ردٌّ على السبكي أو غيره؟
خاصةً أنَّ ابن أبي عمر له مزيد عناية بمسألة (الطلاق الثلاث) فقد صنّف فيها عدَّة كتبٍ منها: (التحفة والفائدة في الأدلة المتزايدة على أنَّ طلاق الثلاث واحدة) و (الرد على من قال إنَّ الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ

(المقدمة/57)


يقع ثلاثًا) و (الرسالة إلى ابن رجب في الطلاق الثلاث)؛ فيحتمل أنَّ هذا الرد هو على ذات المسألة (1)؛ والله أعلم.
11 ــ أنَّ ابن القيم ذكر في إعلام الموقِّعين (5/ 540) عن ابن تيمية: (وصار إلى ربه، وهو مقيمٌ عليها، داعٍ إليها، مباهل لمنازعيه، باذل نفسه وعرضه وأوقاته لمستفتيه)؛ والمجيب يطلب المباهلة كما في قوله (ص 170): (وابن تيمية يجزم بذلك، ويباهل عليه من يباهله، بل يباهل على هذا وعلى أَنَّ هذا القول هو القول الذي بعث الله ــ عز وجل ــ به رسوله؛ فليقم هذا وأمثاله فليباهلون على أن هذا لم يقله أحد من السلف والخلف، وأنه خطأ مخالف لشرع الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -).
وقال في (ص 169): (وأما المثبت للخلاف فيحلف الأيمان المغلَّظة، ويُباهل مَنْ يُباهله على أنَّ الخلاف موجودٌ في الأمة من سلفها وخلفها في وقوع الطلاق وفي التكفير).

المبحث الثاني: تحقيق اسم الكتاب:
لم يكن ابن تيمية – رحمه الله – ممن يعتني بتسمية مؤلفاته وقواعده ورسائله، ولعل هذا عائدٌ لكثرة تصانيفه المطوَّلة والمختصرة، وكثرة الأسئلة والاستفتاءات التي تَرِدُ عليه، مما يصعبُ معه اعتناؤه بتسمية كتبه؛ فيكتفي بتسميتها قاعدة، أو باسم البلد الذي ورد منه الاستفتاء، أو الرد على فلان باسم المردود عليه ونحو ذلك.
ولهذا لم أقف على تسميةٍ واضحةٍ لهذا الرد فيما بين يديَّ من مصادر،
_________
(1) انظر: معجم مصنفات الحنابلة (4/ 241).

(المقدمة/58)


حيث يُذْكَرُ هذا الرد في كتب التراجم بقولهم: (وله في ذلك جواب اعتراضٍ ورد عليه من الديار المصرية، وهو جوابٌ طويل في ثلاث مجلدات) (1)، أو بقولهم: (الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق) (2) ونحو ذلك؛ ومما لا يخفى أنَّ هذا وصفٌ للكتاب لا اسمًا علميًا له.
ولكن من خلال الأوصاف التي ذكرها تلاميذه ومَنْ ذكرَ كتابه هذا اخترت أنْ أُسميه بِـ (الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق)، ولعلَّه بهذا العنوان يكون واضحًا في الدلالة على الكتاب.

المبحث الثالث: سبب تأليفه:
تقدمت الإشارة إلى أنَّ السبكي تعقَّب ابن تيمية في مسألة تعليق الطلاق بِعِدَّةِ ردود، وبخصوص الفتوى المعترض عليها ألَّف ردَّه المسمَّى (رافع الشقاق في مسألة الطلاق) و (التحقيق في مسألة التعليق)، وجواب ابن تيمية هو على أحد هذين الاعتراضين، ولم يتبيَّن لي على وجه الجزم على أيِّهما كان جواب ابن تيمية هذا.
لكن هناك من القرائن ما يدلُّ على أنَّ هذا الرد إنما هو على كتاب السبكي (رافع الشقاق) بدليل ما يلي:
1 ــ أنَّ النصوص التي ينقلها المجيب في كتابه هذا نقلًا عن المعترض هي بنصِّها كلام السبكي الوارد في مخطوط كتابه (التحقيق في مسألة التعليق) إلا أنَّ بينها تقديمًا وتأخيرًا، مما يَدُل على أنَّ الكتاب المردود عليه
_________
(1) العقود الدرية (ص 393).
(2) انظر: فهرس مصنفات ابن تيمية آخر الجامع لسيرته خلال سبعة قرون (ص 793).

(المقدمة/59)


للسبكي ليس هو (التحقيق)، وإنما هو كتابٌ آخر، والذي يفهم من كلام ابن تيمية أنَّ كتاب السبكي (التحقيق) كتبه بعد (رافع الشقاق)، فرافع الشقاق هو الأصل الذي بنى عليه كتابه التحقيق (1)، ولهذا حصل فيه من التقديم والتأخير والزيادة والتكرار ونحو ذلك.
2 ــ أنَّ رد ابن تيمية توقف وقد بقي على نهاية الموجود من كتاب (التحقيق) للسبكي قرابة (6) لوحات، والمفقود من التحقيق لا ندري كم يبلغ، ولعل هذا يؤكد أنَّ الكتاب المردود عليه هو (رافع الشقاق).
أما ما ورد في هذا الرد من ذكر كتاب السبكي (التحقيق) فيحتمل أنَّ ابن تيمية اطَّلعَ عليه أثناء رَدِّه فأشار إليه، إلا أنَّه يُشكل على هذا التقرير أنَّ في الكتاب إشارة إلى أنَّ الردَّ على (التحقيق) من مثل قولِهِ: ( … وهذا قاله بعد البحث التام وما سلكه من (التحقيق في التعليق) كما سمى بذلك مصنفه، ودقَّقَ فيه من المعاني وذكر فيه من الآثار وأتى فيه من النقل والبحث بما بَرَّزَ به على غيره … )، ومثله إشارته إلى ما وقع فيه من التكرار واعتذاره عنه.
وعلى أيِّ حال؛ فالمناقشة التي ذكرها المعترض في كتابيه واحدة، وقد بسط الاعتراض في كتابه (التحقيق)، والعبارات التي ساقها المجيب موجودة بنصِّها في التحقيق.
_________
(1) قال في (ص 593): (قد اعترض أولًا اعتراضًا مختصرًا ذكر فيه هذا الكلام، ثم بسط الاعتراض بما تقدم ذكره له أولًا؛ فلهذا تكرر هذا منه).
وقال في (ص 709 – 710): (وبلغني أَنَّ المعترض لَمَّا رأى بعض ما ذُكِرَ ــ غَيْرَ الجواب المختصر ــ بَسَطَ هذا الاعتراض هذا البسط؛ ولهذا وقع فيه ما وقع من التكرار، وأنه لما رأى ما هو أبلغ من ذلك استعفى عن معاودة الاعتراض).

(المقدمة/60)


وبسبب فقدان المجلد الأول من رَدِّ ابن تيمية هذا لم يتضح لنا ما اسم الكتاب المردود عليه، ولا سبب تأليف ابن تيمية له، لكن غالبًا ما يكون اتهامه بخرق الإجماع، وتكثير أولاد الزنا، وما صاحَب ذلك من حملة سُلِّطت عليه= هي السبب الرئيس في الكتابة، ثم قد يكون ــ أيضًا ــ بإشارة من أحد محبِّيه أو طلابه، أو ابتداءً من الشيخ – رحمه الله -.

المبحث الرابع: تأريخ تأليفه:
هذا الرد ألَّفَهُ ابن تيمية – رحمه الله – في دمشق قطعًا، فإنَّ ابن رجب في الذيل (1) ذكر أنَّ ابن تيمية صنف أثناء مُقامِهِ بمصر أعيان مصنفاته، ولم يذكر منها ردَّه على السبكي في مسألة تعليق الطلاق، كما أنَّ الذاكرين لردِّه هذا يشيرون إلى اعتراض ورد عليه من مصر.
وقد أشار السبكي ــ كما تقدَّم ــ في رسالته التي أرسلها للنبي – صلى الله عليه وسلم – ــ إنْ صحَّت عنه ــ ما يَدُلُّ على أنَّه أَلَّف ردَّه على ابن تيمية بعد مغادرته مصر في رحلته الثانية إليها (2).
ويؤكد ما تقدم: ما ذكره التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (3) من أنَّ والده (تقي الدين) حَجَّ عام (716)، ثم قال: (وفي هذه المُدَّة رَدَّ على
_________
(1) (482 من الجامع).
(2) حيث كانت الرحلة الأولى عام (700) واستمرت مدة قصيرة، والثانية استمرت من عام (704 – 712) ثم عاد إلى دمشق، وفي رحلته الأخيرة صنَّف مصنفاته التي ذكرها ابن رجب.
(3) (10/ 167).

(المقدمة/61)


الشيخ أبي العباس ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة) (1)، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ الاعتراض كُتِبَ في عام (717) أو في أوائل السنة التي بعدها، وذلك لأنَّ السبكي كتب نقدًا على كتاب (الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق) لابن تيمية، وقد أشار إلى أنه استوفى بعض المسائل في كتابه (التحقيق)، وكان فراغه من هذا النقد (بكرة نهار الأربعاء عشر شهر رمضان المعظَّم سنة ثمان عشرة وسبعمائة) (2).
ومن المعلوم أنَّ ابن تيمية كانت وفاته عام (728)؛ فيتضح لنا ــ إذن ــ أنَّ هذا الرد كُتب ما بين سنة (717 ــ 728).
والناظر في سيرة شيخ الإسلام – رحمه الله – يرى أنَّ الكلام حول هذه المسألة اشتدَّ عام (718) وما بعدها حيث أشار القاضي شمس الدين الحنبلي على ابن تيمية بترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق، ثم حدثت بعد ذلك حوادث انتهت بالترسيم باعتقاله عام (720) (3).
فبناءً على ما تقدَّم: يحتمل أنَّ هذا الرد أَلَّفَهُ أثناء مكوثه في السجن بدمشق عام (720)، حيث كَتَبَ كثيرًا من كُتُبِهِ ومؤلفاته وهو في الحبس (4)،
_________
(1) وهذا بعد رجوعه إلى دمشق؛ كما تقدم.
(2) فتاوى السبكي (2/ 272).
(3) انظر: العقود الدُّرِّيَّة (393 – 395)، وقد مكث في سجنه هذا خمسة أشهرٍ وثمانية وعشرين يومًا.
(4) قال ابن عبد الهادي في مختصر طبقات علماء الحديث (ص 257 من الجامع): (مع أنَّ تصانيفَهُ كان يكتبها من حفظه، وكتبَ كثيرًا منها في الحبس، وليس عنده ما يَحتاج إليه ويُراجعه من الكتب).

(المقدمة/62)


ونستأنس في ذلك بأن كُتُبَ التراجم لم تُشر إلى أنه مُنع من الكتابة في هذه المرة؛ وهذا ما استظهره الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد – رحمه الله – (1).

المبحث الخامس: منهج ابن تيمية في هذا الكتاب:
تميَّز منهج ابن تيمية – رحمه الله – العلمي في الرد على المخالفين عمومًا وفي ردِّهِ هذا خصوصًا بميزات كثيرة؛ أُجملها فيما يلي:
1 ــ الاستدلال على ما يريد تقريره من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح وآثار الصحابة وأقوال السلف، وبيان المفاسد المترتبة على القول المخالف … مما يجعل المخالف إما أنْ يُسَلِّمَ له أو على الأقل يَنظر إلى المسألة إلى أنها من المسائل الخلافية التي تقبل الاختلاف.
2 ــ التعامل مع المردود عليه وفق منهج السلف بالعدل والإنصاف؛ ومن مظاهر ذلك:
أـ بيان ما يحتمله كلام المخالف من المعاني الصحيحة والباطلة وبيان ما فيه من إجمال ونحو ذلك؛ وهذا ظاهر في مواضع كثيرة من هذا الرد؛ وقد بيَّن منهجه هذا في ردِّه على الشاذلي (ص 191) حيث قال: (فلهذا وغيره نَذكر ما تحتمله الكلمة من المعاني، لاحتمال أنْ يكون قَصَدَ بها صاحبها حقًا، ما لم يتبين مرادُهُ؛ فإذا تبيَّن مرادُهُ لم يكن بنا حاجة إلى توجيه الاحتمالات) (2).
_________
(1) انظر: المداخل إلى آثار ابن تيمية وما لحقها من أعمال (ص 37)، ومقدمة الشيخ للجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص 32).
(2) وقال في الجواب الصحيح (4/ 44): (فإنه يجب أَنْ يُفَسَّرَ كلامُ المتكلم بعضه ببعض، ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه، كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده.
وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضا، وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه، وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه).

(المقدمة/63)


وانظر أمثلة لذلك في كتابنا هذا (ص 19، 108 – 109، 131).
ب ــ الابتعاد عن الانتقادات اللفظية التي لا ثمرة لها في البحث؛ فقد قال في كتابنا هذا (ص 789) مجيبًا على اعتراض ذكره السبكي: (فهو مع أَنَّه من المؤاخذات اللفظية التي لو فتح المجيب بابها على المعترض لطال الزمانُ بكثرة ما يرد عليه منها) (1).
وقال في (ص 342): (فمثل هذا الكلام وأمثاله لولا أن المعترض سطره لم يكن بنا حاجة إلى أن نذكره ونجيب عنه).
ج ــ الثناء على المخالف فيما أصاب فيه الحق؛ فقال في كتابنا (ص 891): (وهو وإنْ كان قد غلط في هذه المواضع فقد أصاب وأحسن في قوله: (على أَنَّ هذا القول بالتحرير الذي يقوله المتأخرون ــ وهو: أَنَّ الواجب الكفارة عيناً بحيث لو أتى بالذي التزمه لا يكفي ــ لسْتُ أعرف الآن دليلاً عليه، لا من خبرٍ ولا من نظرٍ، فإنَّ هذا القول في غايةِ الضعف)، وقد أحسن في تضعيفه، بل هو خلاف الإجماع الذي حكاه الإمام أحمد، مع
_________
(1) ومثله ما قاله في الرسالة الأكملية: (والفروق اللفظية لا تؤثر على الحقائق العلمية). وقال في تنبيه الرجل العاقل (1/ 35): (وبالجملة فهذه مشاحة لفظية).

(المقدمة/64)


تحري أحمد في حكاية الإجماع، وَرَدِّهِ على مَنْ يجزم بالإجماع، وَأَمْرِهِ له بأنْ يقول: ما أعلم خلافاً).
وقال (ص 933): (وهذا قاله بعد البحث التام وما سَلَكَهُ من (التحقيق في التعليق) كما سَمَّى بذلك مُصَنَّفَهُ، وَدَقَّقَ فيه من المعاني، وَذَكَرَ فيه من الآثار وأَتَى فيه من النقل والبحث بما برز به على غيره).
وقال في (ص 897): (قد أحسن المعترض في هذا وأصاب).
ولهذا نظائر كثيرة مبثوثة في ثنايا هذا الرد.
د ــ الاعتذار عن المخالف فيما وقع فيه من غلط؛ فقال في كتابنا (ص 891): (وأنا أعذر المعترض وأمثاله في كثيرٍ مما يقولونه، لأنَّ مَنْ هو أكبر منهم غَلِطَ في مواضع، وهم زادوا في الغلط؛ فتضاعف الغلط وضعفت معرفتهم بالكتاب والسنة ومعاني أقوال الصحابة ومن اتبعهم).
وقال (ص 789): (كما ادعى هذا المعترض الذي برز على أقرانه، وظهر فضله عليهم في فعله ما يعجزون عن فعله، فإنه يتكلم كثيراً مما لا يحققه، ويقفوا ما ليس له به علم، ويخوض من النقول والبحوث فيما لا يعرف حقيقته.
ولا ريب أن المقصرين في هذه المسألة معذورون لكونهم لم يجدوا فيها من النقل والبحث ما يصلون به إلى تحقيقها، لكن من رحمة الله ــ تعالى ــ أنهم ابتداءُ ظنهم أنهم يصلون إلى آخرها من قريب، وأَنَّ فيها نقولاً وأدلة تشفيهم، فلما أمعنوا النظر والكشف و [ … ] (1)، وطالت مدة النظر
_________
(1) بياض مقدار كلمة.

(المقدمة/65)


والمناظرة، وتبيَّن لكلٍّ من الناس منها ما لم يكن يعرفه = عَرَفَ ــ حينئذٍ ــ مَنْ عَرَفَ عجزه، وعرف العاقل عذر المقصِّر، وعرف أَنَّ من كمال الدين الذي بعث الله ــ سبحانه وتعالى ــ به رسوله – صلى الله عليه وسلم – اشتمال الشريعة على مثل هذه الحكم والأحكام التي تبين ما أنعم الله به من كمال دين الإسلام).
وقال (ص 950): (وأهل العلم والدين يَعرفون الحق ويرحمون الخلق، ويعذرون من خالفهم مع جزمهم بأنه أخطأ ولم يفهم، وأهل الأهواء والبدع يخطئون ويذمون من خالفهم، ويتكلمون فيه بالباطل؛ فتارة يكفرونه وتارة يفسقونه، كما يفعل الخوارج والروافض وغيرهم من أهل البدع).
3 ــ التغليظ في الرد على المخالف عندما يبلغ غلطه مبلغًا عظيمًا، حتى قال في السبكي (ص 773): (وأما تصنيف أقوال العلماء من غير آثار تُروى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة والتابعين، فهذا مما أحدثه المتأخرون، لم يكن شيء منه في عهد السلف، وليس هذا مما يصلح له شيوخ شيوخ المعترض، فضلًا عنه وعن أمثاله .. ) إلخ.
وهذا متسقٌ مع منهج ابن تيمية الذي حكاه هو عن نفسه في قوله (1): (وتعلمون أيضًا؛ أَنَّ ما يجري من نوع تغليظٍ أو تخشين على بعض الأصحاب والإخوان ــ ما كان يجري بدمشق ومما جرى الآن بمصر ــ، فليس ذلك غضاضة ولا نقصًا في حقِّ صاحبِهِ ولا حَصَلَ بسبب ذلك تَغَيُّرٌ مِنَّا ولا بُغْض؛ بل هو بعد ما عومل به من التغليظ والتخشين أرفع قدرًا وأَنْبَهُ ذِكرًا وأحب وأعظم، وإنما هذه الأمور هي من مصالح المؤمنين التي يصلح الله بها بعضهم ببعض، فإنَّ المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما
_________
(1) مجموع الفتاوى (28/ 53).

(المقدمة/66)


الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة؛ لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين).
ومع ذلك؛ فليس المقصود من التغليظ على المخالف هو القدح فيه، بل (المقصود بالجواب عن اعتراضاته ليس هو ذمه والردُّ عليه، بل هو مشكور محمود مُثْنَى عليه مكرم لما ذكره مما استفرغ فيه وسعه … ولكنَّ المقصود: رَدُّ جنس الكلام الباطل الذي يناقض ما يناقضه من الهدى ودين الحق … ) (1).
أما منهج ابن تيمية في ترتيب كتابه هذا؛ فأُجْمِلُهُ في النقاط التالية:
1 ــ تقسيم الرد إلى فصول، ويبدأ الفصل ــ غالبًا – بنقل عبارة المعترض (2)، ثم يعقب عليها ببيان مراد المعترض أو مراد المجيب في أصل الفتوى.
وقد يحتاج الجواب إلى بسط فيقول: والجواب من وجوه، ثم يسوقها واحدًا تلو الآخر.
وربما أجمل الجواب، ثم شَرَعَ في تفصيله وبيانه؛ كما في (ص 253، 552، 783، 784).
2 ــ تكرار بعض المباحث بحسب ما يقتضيه المقام؛ فقد يكرر الكلام على مسألة معينة لأنَّ المعترض ذكرها في مواطن من اعتراضه، أو لأنَّ
_________
(1) انظر (ص 709).
(2) وهذا من الأمانة العلمية؛ حيث يتم نقل كلام المعترض كاملًا، وربما ذكر كلام المجيب ثم أتبعه باعتراض المعترض، ثم تعقبه بما تيسّر.

(المقدمة/67)


المجيب ذكرها في موضع بشكل مجمل وفي موضع آخر يقتضي الإطالة فيطيل البحث والتقرير لهذه المسألة.
3 ــ عدم الخروج عن الموضوع؛ فمع طول الكتاب إلا أنَّه لم يخرج عن صلب النقاش؛ فإنْ تحدَّث عن مسألة أصولية أو فرعية فلعلاقتها بالمسألة التي فيها النقاش، وليس هذا بغريب عليه فقد (وقعت مسألة فرعيةٌ في قسمةٍ جرى فيها اختلاف المفتين في العصر، فكتب فيها مجلَّدةً كبيرةً، وكذلك وقعت مسألةٌ في حدٍّ من الحدود، فكتب فيها مجلدةً كبيرةً ــ أيضًا -، ولم يَخرج في كلِّ واحدةٍ عن المسألة، ولا طوَّل بتخليط الكلام والدخول في شيء والخروج من شيء، وأتى في كلِّ واحدةٍ بما لم يكن يَجري في الأوهام والخواطر) (1).
4 ــ الفصول التي عقدها ابن تيمية في آخر الرد تميَّزت بالقِصَر مقارنة بالفصول التي في أول الكتاب أو وسطه، وهذا عائدٌ في الجملة إلى أنَّ عامة المباحث تقدم ذكرها تفصيلًا.

المبحث السادس: وصف النسخة الخطية:
الكتاب ليس له إلا نسخة واحدة حسب اطلاعي، حُفِظَ أصلها في مكتبة (شستربيتي) برقم (013906 – 1)، وقد صورتها كثيرٌ من المكتبات (2)
_________
(1) العقود الدُّرِّيَّة (ص 13 – 14).
(2) ومن تلك المكتبات: مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وهي محفوظة برقم (3232 – ف)، ومكتبة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية برقم (4013 – قص).

(المقدمة/68)


ــ كما يظهر هذا باستعراض فهارس المخطوطات العربية في الدول الإسلامية وغيرها ــ منسوبةً خطأً للسبكي (1).
وهي نسخة جيدة مكتوبةٌ بخط نسخي واضح، تقع النسخة في (279) لوحة بترقيمي، في كل صفحة (25) سطرًا، في كلِّ سطر نحو عشر كلمات أو أكثر.
كُتِبَ في أعلى اللوحة الأولى بخطٍّ مغايرٍ لخط النسخة: (فقه)، وأسفل منها: (التحقيق الرد على التعليق للسبكي)، وهل هو من المفهرس أو هو سبب الخطأ في فهرستها؟ وفي أسفل اللوحة على الجانب الأيسر بخط حديث متدرج من الأعلى إلى الأسفل (عموم ــ 1091 ــ فقه شافعي ــ 200609).
وتبدأ النسخة بقول المجيب – رحمه الله -: (الدين ما لم يأذن به الله، وهذا يُنكر من الدين ما شرعه الله … ) إلخ؛ مما يدل على وجود سقطٍ في أول المخطوط، والذي تَرَجَّحَ لديَّ أنَّ الساقط من هذا المجلد هو قَدْرُ عَشْرِ لوحات، وذلك لأن الناسخ قام بتقسيم الكتاب إلى أجزاء، كل جزء يحتوي على عشر ورقات، يشير إلى ذلك في الجانب الأعلى من الجهة اليسرى من الورقة، ويكتب ذلك بالحروف، وابتدأ ذلك بِـ (الثاني)، ثم استمر الترقيم كلَّ عشر لوحات.
_________
(1) وهذا الخطأ وقعَ فيه ــ أيضًا ــ الدكتور عبد الرحمن بن سليمان المزيني في كتابه (اتجاهات التأليف والنَّسْخ في مجال الفقه وأصوله في القرنين السابع والثامن الهجريين)، فقد عَدَّ ناسخ المخطوط ــ وهو الساوجي ــ من نُسَّاخ الفقه الشافعي، كما في (1/ 382). مع التنبيه إلى أنَّ معلومات الكتاب والنسخة الخطية قد سقطت من (3/ 38).

(المقدمة/69)


والنسخة ــ أيضًا ــ رُقمت بالأرقام، ولا أدري هل هي من الناسخ أم من غيره، وقد سقط منها اللوحة رقم (85) حسب الترقيم الموجود في الأصل.
وفي اللوحة الأخيرة يظهر في وسط الجانب الأيمن منها أثر ختم دائري الشكل، لا يمكن قراءة نَقْشِهِ.
وكتب الناسخ في آخر المخطوط: (إلى هنا انتهى كلام المصنف المجيب ــ رحمة الله تعالى عليه ــ، وبه كَمَلَ المجلدُ الثاني)، مما يدلُّ على أنَّ المجلد الأول ما زال مفقودًا؛ وقد أشرت إلى شيءٍ من ذلك في الكلام على نسبة الكتاب وبيان أنَّ هذا الرد كبيرٌ جدًا.
وقد حصل خلل في ترتيب بعض الأوراق في عدة مواضع، وهذا أَدَّى إلى وجود إشكال في موضعين لم أستطع الوصول إلى تتمتها، وسأُشير إلى كلِّ ذلك في موضعه.
فُرِغَ من نسخها ــ كما ورد في آخر المخطوط ــ يوم السبت 3/ 12 / 744 هـ، أي قبل وفاة ناسخها بقرابة خمسة أعوام حيث توفي عام (749)، وبعد وفاة ابن تيمية بستة عشر عامًا.
ولم يتضح لي الأصل الذي نَقَلَ منه الناسخ، وإنْ كنتُ أقول احتمالًا أنه ربما وقف على خَطِّ ابن تيمية (1)، والذي دعاني لذلك كتابته لكلمات يظهر منها أنه قام برسمها كما في الأصل (2)، ووجود العديد من الكلمات التي
_________
(1) وخطُّ ابن تيمية مشهور بالإغلاق والتعليق؛ انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص 761)، وتكملة الجامع (ص 40).
(2) انظرمثلًا: (ص 439، 791).

(المقدمة/70)


كتب عليها ما يُفيد الظن، وتصحيح أو زيادة بعض الكلمات بما يُفيد اطلاعه على نسخةٍ أخرى (1) مما قد يُشير إلى محاولة تصحيحه لنسخته منها، إضافةً إلى قُرْبِ عهده وداره بالمصنِّف.
ويقوي هذا الاحتمال ما ورد في هامش (73 / ب) حيث كتب الناسخ: (حشية [كذا] من خط الشيخ لفظة في أصول الفقه).
والنسخة حالتها جيدة في الجملة إلا أنَّ في وسطها تشويش بسبب سوء الحفظ أو غيره، يصعب معه قراءة كثير من الكلمات.
وقد اعتنى الناسخ بتجويد نسخته، فيلحق الكلمات والأسطر الساقطة في الهامش، ويختمها بعلامة التصحيح (صح)؛ انظر لذلك ــ مثلًا ــ ما ورد في (3 / ب، 4 / أ، 6 / ب، 7 / ب، 9 / أ، 13 / ب).
ومن مظاهر عنايته بالنسخة أنه ربما لم تتضح له الكلمة (2)، فيكتب في الهامش (أظنه)، وأحيانًا يرمز لذلك بحرف (ظ)، وربما كتب فوقها (لعله)؛ انظر لذلك ــ مثلًا ــ ما ورد في (17 / أ، 57/ أـ ب، 60/ أـ ب، 65/ب، 83 / أ، 124/ ب).
ومن مظاهر ذلك ــ أيضًا ــ: أنه عند وجود خطأ في تقديم كلمة على كلمة يُبيِّنُ ذلك بحرف (م) فوق الكلمتين؛ انظر لذلك: ما ورد في (27 / ب، 78 / ب).
_________
(1) ويضع فوقها حرف (خ)؛ كما في (15 / أ، 19 / أ، 24 / أ، 28 / أ، 30 / أ، 39 / أ) وغيرها من المواضع.
(2) وقد يفعل ذلك فيما يرى أنه خطأ في النسخة التي يَنقل منها كما في (3 / أ).

(المقدمة/71)


كما أنه إذا لم تتضح الكلمة أعاد كتابتها في الهامش وكتب فوقها (بيان)؛ كما في (158 / ب، 220 / ب، 226 / ب، 248 / أ).
وربما قام بشطب أحرف أو كلمة أو أكثر عند تكرارها أو كونها خطأ؛ انظر لذلك ــ مثلًا ــ ما في (55 /أ).
وربما كتبَ حاشية لبيان معنى كلمة؛ كما في (40/أ، 79/أ، 117/أ).
وقد يقوم بكتابة أول كلمتين أو ثلاث من الصفحة التالية في أسفل الصفحة السابقة؛ كما في (11 / أ، 21 / أ، 31 / أ، 45 / أ).
وآثار هذه المقابلة ظاهرة بما تقدَّم، وبما وضعه من دوائر منقوطة قبل كل فصل، وبعضها قد لُوِّن بالكامل، بما يُشير إلى موضع نهاية المقابلة.
ومع هذه العناية إلا أنه يوجد في الأصل بياضات ما بين كلمة إلى عدة أسطر، كما حصل تكرار في بعض الكلمات لم يتنبَّه له الناسخ، كما وقع في أخطاء في قراءة النص، وبيان ذلك في مواضعه من هوامش التحقيق.
ومن تجويده لنسخته أنه يميِّز الفصول والكلمات التي تدل على بداية الجواب من مثل (فيقال) أو (والجواب) بخطٍّ كبيرٍ محبَّر.
كما أنَّ الناسخ التزم تشبيك بعض الكلمات من مثل: (معمن) و (كلما)، وأكتفي بالتنبيه هنا عن بيان ذلك في مواضعها من الرد.
ومع هذه العناية من الناسخ إلا أنه وقع في أخطاء غير قليلة، وبقيت بياضات في النسخة لم تملأ، وتكرار لبعض الكلمات والجُمَل.
أما ناسخ المخطوط فهو: شهاب الدين (1) محمد بن أبي بكر بن
_________
(1) ذكر ذلك الحُسيني وابن رافع.

(المقدمة/72)


أحمد بن هارون بن أسعد السلمي الساوجي ــ كما هو مُدَوَّنٌ في آخر المخطوط ــ، وهو سبط الشيخ شرف الدين بن حمويه.
وقد ذكر الحُسيني في ذيله على (العِبَر في خبر من غبر) (1) أنه توفي عن سبعين سنةً، وهذا يدل على أنه ولد في عام (679)، حيث إنه توفي في عام (749).
والذي يبدو أنه كان من أهل العلم، فقد وَلِيَ مشيخة خانقاه القصَّاعين (2)، ووثَّقَهُ الحسيني، ووصفه بالمشيخة ابن رافع في وفياته.
وقد سمع جامع الترمذي على الفخر ابن البخاري، وحدث بالمجلس الأخير منه (3)، وهو من مناقب عبد الله بن عباس إلى آخره.
وقد كان صوفيًا بخانقاه الطواويس.
وتوفي – رحمه الله – في يوم الأحد 18/ 7 / 749 ودفن بِقَاسِيُون (4).
أما بالنسبة لمخطوط (التحقيق) للسبكي؛ فأصله محفوظ في المتحف البريطاني برقم (5/ 9262
OR)، وهو من مصورات مكتبة الملك فيصل
_________
(1) (4/ 151) وهو ملحق بكتاب العبر وذيله للذهبي.
(2) ذكر ذلك الحُسيني في ذيل العبر (4/ 151)، ونقله عنه النعيمي في الدارس في تأريخ المدارس (2/ 132).
(3) والذي أفاده الحسيني أنه حدَّث بالترمذي كاملًا.
(4) الدرر الكامنة في تراجم أعيان المائة الثامنة (4/ 20)، والوفيات لابن رافع السلامي (2/ 89)، وذيل التقييد في رواة السنن والأسانيد (1/ 105)، وكتب التراجم شحيحة في ذكر شيءٍ من سيرته وأخباره.

(المقدمة/73)


للبحوث والدراسات، وتقع النسخة في (55) لوحة، في كل صفحة (27) سطرًا، في كلِّ سطر قرابة خمسةَ عشرَ كلمةً.
كُتِبَ في اللوحة الأولى عنوان المخطوط بخط كبير (كتاب التحقيق في مسألة التعليق)، وتحته اسم المؤلف تقي الدين السبكي، وفي أعلى العنوان من الجهة اليسرى كتب (بالله يَثق العبد الفقير محمدٌ، حسبه ربي وكفى)، وبجانب اسم المؤلف خَتْمُ وقفية الكتاب، وفيها (وقف لله تعالى هذا الكتاب محمد السيد أبو الأنوار) (1).
والنسخة ناقصة الآخر حيث انتهت المصوَّرة والكلام لا يزال متصلًا.
وخطُّ النسخة مقروءٌ في الجملة، ويوجد لَحَق وتصحيحات على هوامش النسخة، مع أنها لا تَسلم من الأخطاء.

المبحث السابع: منهج التحقيق:
وقد اعتنيت بالكتاب وفق المنهج التالي:
1 ــ نسخ المخطوط وفق القواعد الإملائية ــ ما عدا الآيات فقد جعلتها موافقة للرسم العثماني ــ ومقابلته ثلاث مرات (2).
2 ــ تقسيم الكتاب إلى فقرات، وإضافة علامات الترقيم.
_________
(1) هذا ما استطعت قراءته.
(2) آخرها كان غالبه مع الشيخ: عبد السلام بن إبراهيم الحصين، وفي مواضع منه مع الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن القادري؛ فجزاهما الله خيرًا على ما بذلاه من الوقت والجهد.

(المقدمة/74)


3 ــ عزو الآيات إلى مواضعها من القرآن الكريم.
4 ــ تخريج الأحاديث والآثار؛ وذلك من خلال المنهج التالي:
أـ إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما؛ فأكتفي بالعزو إليهما دون غيرهما إلا عند الحاجة إلى ذلك.
ب ــ ما كان خارج الصحيحين فإني أكتفي بذكر بعض المصادر مبتدأً بمن تقدمت وفاته، وفي الغالب أني لا أتجاوز الكتب المشهورة كالسنن الأربع ومسند الإمام أحمد ونحوها إلا عند الحاجة.
هـ – ذيلت تخريج الحديث والأثر ــ قدر الطاقة ــ بذكر المصادر التي اعتنت بتخريجه وبيان طرقه ورواياته، ومثله العزو للكتب المسندة التي خُرِّجَت أحاديثها تخريجًا موسَّعًا كمسند أحمد وغيره.
وـ الحديث الذي يذكره المصنِّف دون بيان راويه أو مصدره، فأشير إلى بعض مَنْ رواه من الصحابة إنْ وجد.
5 ــ اجتهدتُ في توثيق النصوص والأقوال التي ينقلها شيخ الإسلام من مصادرها الأصلية، وإنْ تعذَّر ذلك لكونه مفقودًا أو غير ذلك فأُشير إلى من نقله؛ وكل هذا حسب الوسع والطاقة.
6 ــ قمتُ بعزو كلام السبكي إلى رَدِّهِ الكبير على ابن تيمية المسمَّى بِـ (التحقيق في مسألة التعليق) حيث لم أعثر على مخطوطٍ لِـ (رافع الشقاق)، والذي يَحتمل أن يكون هو الكتاب المردود عليه.
7 ــ ترجمتُ للأعلام غير المشهورين ــ من وجهة نظري ــ ممن نقل كلامه المجيب أو المعترض، أما رجال الأسانيد ونحو ذلك فلم أُترجم لأحدٍ منهم.

(المقدمة/75)


8 ــ ربطتُ ــ حسب المستطاع ــ إحالات المصنف التي يُشير إلى بسطها في موضع آخر مع كتبه الأخرى.
9 ــ علقتُ على مواضع من الكتاب بتتميم فائدة، أو ذكرٍ لاختيار ابن تيمية، أو مواضعَ بحثِ هذه المسألة من كتبه الأخرى، أو نحو ذلك مما رأيتُ فائدته لقارئ الكتاب؛ ملتزمًا في ذلك كلِّه الاختصار.
وأرجو ألا أكون داخلًا فيمن عناهم الشيخ عبد الرحمن ابن قاسم – رحمه الله – في مقدمته لمجموع الفتاوى (1 / د): (وأعيذ بالله مَنْ قد يتولاه أنْ يُحَشِّي عليه، فهو ذهبٌ مصفَّى، حقَّقَهُ مَنْ قد علمتَ نزرًا من مزايا فضله، فهو غنيٌّ عَن زعم تحقيق بعض العصريين الذين لم يَبلغوا شأوه، وغَنِيٌّ عن عنونتهم وغيرها أثناء كلامه، وعن تعليقاتهم؛ فلبعضهم من الاعتراضات والسقطات ما يَعرفه الناقد البصير).
10 ــ صنعت فهارس للكتاب، وهي على النحو التالي:
أولًا: الفهارس اللفظية؛ وتشمل:
أـ فهرس الآيات القرآنية.
ب ــ فهرس الأحاديث النبوية.
ج ــ فهرس الآثار.
د ــ فهرس الأشعار.
هـ ــ فهرس الأعلام.
وـ فهرس الكتب.

(المقدمة/76)


ثانيًا: الفهارس العلمية؛ وتشمل:
أ – العقيدة.
ب – الحديث وعلومه.
ج – أصول الفقه.
د – القواعد الفقهية والأصولية.
هـ- اللغة والنحو.
و- فوائد متفرقة.
وختمت الفهارس بفهرس مراجع التحقيق.
وقدمت للكتاب بمقدمات تبيِّن أهميته، وصحة نسبته لمؤلفه، وما يتعلق بذلك، وعرَّفت بجملةٍ من الكتب التي تحدثت عن تعليق الطلاق.
وأرجو ممن وقعَ على خطأ أو استدراك أنْ يزودني به مشكورًا، لتدارك ذلك في الطبعات القادمة إن شاء الله، (ويأبى الله العصمة لكتابٍ غير كتابِهِ، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه) (1).
وأحمد الله على إعانته لي على إتمام هذا العمل، وأسأله ــ سبحانه ــ أن يَجعله خالصًا لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
عبد الله بن محمد المزروع
mzroa 1400@gmail.com
0504460717
_________
(1) تقرير القواعد وتحرير الفوائد (1/ 4).

(المقدمة/77)


نماذج من النسخة الخطية

(المقدمة/79)


اللوحة الأولى من ردّ ابن تيمية على السبكي

(المقدمة/81)


لوحة يظهر فيها أثر الرطوبة التي أصابت بعض صفحات المخطوط

(المقدمة/82)


اللوحة الأخيرة من ردّ ابن تيمية على السبكي

(المقدمة/83)


اللوحة الأولى من كتاب (التحقيق في مسألة التعليق) للسبكي

(المقدمة/84)


اللوحة الأخيرة من كتاب (التحقيق في مسألة التعليق) للسبكي

(المقدمة/85)


[ … ] (1) الدين ما لم يأذن به الله، وهذا ينكر من الدين ما شرعه الله!
فنفاة المعاني الشرعية والحِكَم الإلهية الذين لا يعتصمون إلا بظاهرٍ من القول إنما يعتصمون بعمومات فيدخلون فيها ما لم يُرِدْهُ المتكلم، أو باستصحاب حال البراءة الذي هو من أضعف الأدلة، وليس هو دليلاً شرعيًا في الحقيقة وإنما هو عدم دليل؛ ولهذا تنازع الناس فيه؛ هل يصلح للنفي أو للدفع على قولين:
قيل: تُنْفَى بهِ الأحكام لكن بعد البحث التام عن الناقل بالاتفاق. وقيل: لا يُنْفَى بهِ شيء بل يدفع بهِ قول المثبت، فيصلح للمنع لا للنفي، والمانع لا دليل عليه، والنافي عليه دليل (2).
فالمانع مطالِبٌ بالدليل؛ كذلك المستمسك بالاستصحاب العدمي المعلوم بالعقل، وأما النافي فهو كالمثبت لا بُدَّ لهُ من دليلٍ عَلِمَ بِهِ النفيَ، والمثبت لا بُدَّ له من دليل عَلِمَ بِهِ الإثبات.
وهؤلاء يقولون: المستصحب طالب علم ليس معه علمٌ لا بنفي ولا إثبات، فليس له أن يعتقد موجَب الاستصحاب ولا يُفتي به ولا يحكم به؛ بل يمسك عن الإثبات كالذي لم يقم معه دليل لا على إثبات ولا نفي (3).
_________
(1) من هنا بدأت النسخة، وهو المجلد الثاني من ردِّ ابن تيمية، وقد تقدم التنبيه على وجود سقط في أول هذا المجلد قرابة عشر لوحات.
(2) مجموع الفتاوى (11/ 342) (13/ 112) (23/ 15 وما بعدها) (29/ 165)، جامع المسائل (2/ 282)، المسوَّدة (1/ 304) (2/ 885 وما بعدها)، تنبيه الرجل العاقل (1/ 255، 314) (2/ 442 – 444، 617 – 620، 626).
(3) القواعد الكلية (ص 419) ــ وهو في المجموع (29/ 166) ــ: (أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي: فقد أجمع المسلمون وعُلِمَ بالاضطرار من دين الإسلام: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك؛ فإنَّ جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مغيِّر لهذا الاستصحاب، فلا يُوْثَقُ به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك).

(1/3)


فنفاةُ القياس عمدتهم إما الاستصحاب وإما العموم، وأما المُخَلِّطُون فيه الذين لا يميزون بين صحيحه وفاسده؛ بل يُعَلِّقونَ الأحكام بما رأوه من الصفات الشبهية والمعاني الذي يَخْطُرُ بقلوبهم أنها مناط الحكمِ في الشرع من غير دليلٍ يَدُلُّ على ذلك = فهم يُشْبِهُونَ أهل الخرص والحَزْر والتكهن الذين يتكلمون بلا دليل، وخير الأمور أوساطها، كما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان من (1) اعتبارِ المعاني التي اعتبرها الله ــ عز وجل ــ ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، والاستدلال بالألفاظ التي تُبَيِّن مرادَ اللهِ ورسولِهِ؛ فيعلم مراده باللفظ ويعرف الأسباب والحِكَم التي عَلَّقَ بِها الأحكام بما يَدُلُّ على ذلك، والمجتهد المصيب له أجران، والمخطئ له أجر، وخطؤه مغفورٌ له (2).
والمقصود هنا: أنه اشترط في النذر شرطًا بلا دليل، وفَرَّقَ بِهِ وَمَنَعَ ثبوتَ الوصفِ المؤثر وتعليق الحكم به، وهو قصده اليمين الذي يتضمن أنه لم يقصد الجزاء [2/ أ] بحال؛ بل قَصَدَ أنْ يَلتزمَهُ ليكون لُزُومُهُ معَ كراهةِ لزومِهِ مانعًا له من قصد الملزوم لا موجبًا لقصد اللازم.
_________
(1) كتب الناسخ بعدها: (غير) ثم ضرب عليها.
(2) انظر ما سيأتي (ص 36، 39، 807 – 809 مهم).

(1/4)


فصلٌ
ثم أورد (1) على نفسِهِ سؤالاً ولم يُجِب عنه؛ فقال: (فإنْ قلتَ: يلزمُ أنَّ العتق المُنَجَّزَ لا يقع إذا لم ينوِ التقرب به، وأنَّ النذر المنجَّزَ أو المعلَّق إذا لم يقصد بِهِ التقرب لا يقع) (2).
وتوجيه السؤال: أنه إذا اُشْتُرِطَ في النذر قصد التقرب فلأن يُشترطَ ذلك في قصد المنذور إذا فعلَهُ بطريق الأولى؛ فيلزم أنَّ مَن فعل (3) شيئًا من جنس ما يُنذَر ــ كالعتق والصدقة ــ بغير قصدِ التقرب لا يصح إذا لم ينو التقرب بهِ، ومعلومٌ أنَّ العتق والصدقة تصح من الكافر الذي ليس مِنْ أهلِ قصد التقرب إلى الله (4)، ويصح عِتْقُ العبد وإنْ لم يَخْطُر بقلبِ صاحبِهِ التقربَ، وكذلك الصدقة.
لكن حصول الثوابِ من الله يكونُ مشروطًا بقصد التقرب، لكن لا يلزم من عدمِ الثواب ألا يَعْتُق، ولا يملك الفقير ما أُعطيَهُ.
وقال في الجواب: (قلتُ: أما الأول؛ فإما أن يلتزمَ ذلك على مذهبِ أبي ثور ويُفَرِّق بين الطلاق والعتق، وإما أَنْ يقول: العتق لا يُشترطُ فيه التقرب إلا للثواب (5) عليه، أما من جهة تحرير أو إزالة الملك فلا.
_________
(1) في الأصل: (أودر).
(2) «التحقيق» (34/ ب).
(3) كتب الناسخ فوقها: (أظنه).
(4) انظر ما سيأتي (ص 11 – 12، 370 – 371، 671).
(5) في الأصل: (الثواب)، والمثبت من «التحقيق».

(1/5)


فإنَّ العتق (1) له جهتان: إحداهما: كونه إسقاط ملك وهو حَقٌّ مِن جملةِ الحقوق؛ فمن هذه الجهة لا يشترط فيه قصد القربة، كالإبراء من الديون وما أشبهَهُ.
والثانية: كونه مُعِينًا على التخلص لعبادةِ الله ــ تعالى ــ؛ ومن هذه الجهة هو قربةٌ وطاعة، ورافعٌ الإذلال (2) الذي هو يلزم. فإنْ قَصَدَ المعتقُ بعتقِهِ ذلك حَصَلَ له الثواب، وإنْ لم يقصد ذلك حصل العتق كما يحصل الإبراء من الحقوق من غير قصد القربة (3).
وأما الثاني: فإنْ قلتَ: إذا كان المشي مقصودًا، والمشيُ طاعة؛ فالطاعة مقصودةٌ.
قلتُ: قصدُ المشي له جهتان: إحداهما: قصده من حيث كونه امتثالاً للأمر المطلق في الترغيب في النوافل، وهذا هو الطاعة، وليس مقصودًا هاهنا.
والثانية: قصدُهُ لأمرٍ آخر، كما هو في نذر اللجاج والغضب، فإنه إنما قَصَدَهُ ليكون مانعًا له من ذلك الفعل لا ليتقرب به؛ فهذا ليس بطاعة، فلا [2/ ب] يدخل في قوله: «من نَذَرَ أن يطيعَ الله فليطعه» (4)) (5).
_________
(1) في الأصل: (المعتق)، والمثبت من «التحقيق».
(2) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (للإذلال).
(3) في «التحقيق» أعاد الجهة الثانية مرتين، وفيه اختلاف يسير.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6696) وبرقم (6700) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(5) «التحقيق» (34/ ب).

(1/6)


وأما الثاني [ … ] (1).
فيقال: أما قوله: (أما الأول: فإما أنْ يلتزم ذلك على مذهب أبي ثورٍ ويُفرِّق بين الطلاق والعتق) فيقال:
أولاً: أنتَ تُخطِّئ أبا ثورٍ ومن قال بقوله.
وثانيًا: أنَّ هذا ليس موافقةً لأبي ثور؛ فإنَّ أبا ثور كانَ يجعل هذا يمينًا من أيمان المسلمين، ويحتجُّ بالقرآن، ويقول: إنَّ مقتضى الدليل أنَّ جميع الأيمان تجري فيها الكفارة إلا أنْ ينعقدَ الإجماعُ في صورةٍ على خلاف ذلك = لم يكن مأخذَ أبي ثورٍ – رحمه الله -.
وقد ذَكَرَ هو نفسُهُ لفظَ أبي ثورٍ فقال: (قال أبو ثور: مَنْ حلفَ بالعتق فعليهِ كفارةُ يمين، ولا عِتْقَ عليه). قال: (وذلك أنَّ اللهَ أوجبَ في كتابِهِ كفارةَ اليمين على كلِّ حالفٍ فقال: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] يعني: فحنثتم) قال أبو ثور: (فكلُّ يمينٍ حَلَفَ بها الإنسانُ فَحَنِثَ فعليه الكفارة على ظاهرِ الكتاب إلا أنْ تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيءٍ ما، ولم يجتمعوا على ذلك إلا في الطلاق، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارةَ، وألزمناه الطلاقَ للإجماع، وجعلنا في العتق الكفارة، لأنَّ الأمةَ لم تجتمع على ألا كفارةَ فيه) (2).
_________
(1) بياض في الأصل مقدار كلمتين.
(2) نقل كلام أبي ثور: محمد بن نصر المروزي في كتابه اختلاف الفقهاء (ص 492).
ونقل السبكي في «التحقيق» (44/ ب) كلام أبي ثور بواسطة الاستذكار لابن عبد البر، وابن عبد البر نقله من كتاب المروزي. وستأتي مناقشة المجيب لكلامه (ص 603 – 608، 823 – 827).

(1/7)


فهذا أبو ثورٍ قد بيَّنَ مذهبَهُ: أنَّ الحالف بالعتق حالفٌ يمينًا عليه فيها كفارةٌ، وهذا مقتضى الدليل عنده على كلِّ حالفٍ؛ فالطلاقُ كان مقتضى ظاهر الكتاب عنده أنْ يكونَ على الحالفِ بالطلاق الكفارة, لأنه يمين من أيمانِ المسلمين حَلَفَ بها الإنسان فحَنِثَ (1).
ثم قال (2): (إلا أنْ تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيءٍ ما، ولم يجتمعوا على ذلك إلا في الطلاق، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارةَ، وألزمناه الطلاقَ للإجماع، وجعلنا في العتق الكفارة، لأنَّ الأمةَ لم تجتمع على ألا كفارةَ فيه).
فقد بيَّنَ أبو ثورٍ مأخذه، وأنَّ مقتضى ظاهر القرآن عنده: أنَّ كُلَّ حالفٍ سواء إِنْ حَلَفَ بالطلاق أو غيرِهِ أنه تجزئه كفارةُ يمينٍ إذا حنث، لكنَّ الإجماعَ الذي يعتقدُهُ إذا عارضَ ظاهرَ القرآن رَجَّحَ الإجماع، والإجماع الذي اعتقدَهُ: إجماعُهُم على ألا كفارةَ فيه [3/ أ] لا على أنَّه لا (3) يلزمه طلاقٌ ــ كما بيَّنَهُ ــ، لكن إذا أجمعوا أنه لا كفارةَ فيه امتنع أنْ يجب عليه كفارة، وحينئذٍ فهو حالفٌ عنده، وموجَب يمينِهِ لزومُ ما حلفَ بهِ أو الكفارة، فلما سقطت الكفارة بما ظَنَّه من الإجماع، والواجب عنده إذا سقطَ هذا لزوم الآخر= ألزمه (4) بالطلاق.
_________
(1) نقل ابن المنذر في الأوسط (12/ 132) عن أبي عبيد أنَّ الطلاق أشبه بالعتق منه بغيره من وجهين.
(2) أي: أبو ثور.
(3) كذا في الأصل، ولعل الصواب حذفها.
(4) في الأصل: (الإجزاء لزمه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/8)


وهذا مسلكُ محمد بن جرير (1) تلقاهُ عن أبي ثور، واعتقد الإجماع كما اعتقده أبو ثور وعنه أخذَهُ، وكان كتابُ أبي ثورٍ عنده ينقل منه كما نقلَ منه في كتاب (الاختلاف) ألفاظَ أبي ثورٍ بعينها.
وابن جرير كانَ أوسعَ ادعاءً للإجماع من أبي ثور، فإنه كان يقول: إنَّ خلافَ الواحد والاثنين لا يُعتدُّ بِهِ، فجعلَ قولَ الجمهور إجماعًا؛ كما فعلَ ذلك في مسائل كثيرة (2)، كما ادعى الإجماع على أنَّ متروكَ التسميةِ سهوًا يُباحُ أكلُهُ (3)، وأمثالِ ذلك مما يُنكرُهُ عليه جمهور العلماء، ثمَّ إنَّه مع ذلك
_________
(1) كتب الناسخ في الهامش: (أظنه: ابن نصر).
ويحتمل ما هو مثبت ويحتمل ما أشار إليه الناسخ في الهامش، وذلك لأنَّ لكلٍّ من المروزي والطبري كتابًا بعنوان (اختلاف الفقهاء)، وكلاهما نقل عن أبي ثور الإجماع في هذه المسألة.
انظر: اختلاف الفقهاء للمروزي (ص 491 وما بعدها)، وأما (اختلاف الفقهاء) للطبري فالمطبوع منه لا يوجد فيه هذا النقل عن أبي ثور إلا أنَّ ابن تيمية في (ص 169) أشار إلى أنَّ الطبري نقل الإجماع استنادًا على كلام أبي ثور.
والذي يظهر لي ــ والله أعلم ــ أن المثبت هو الصواب؛ لأنَّ هذا هو المنقول من الأصل المنسوخ منه، ولأنَّ الكلام الذي بعده متعلق بالطبري لا المروزي.
(2) منهاج السنة (8/ 335). وانظر ما سيأتي (ص 225، 227).
وما ذكره المجيب عن ابن جرير هو المشهور في كتب الأصوليين، وقد نقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء (6/ 2458) تعريف الطبري للإجماع فقال: (ولو رجع ــ أي: ابن داود ــ إلى كتابه في رسالة اللطيف وفي رسالة الاختلاف وما أودعه كثيرًا من كتبه من أن الإجماع هو: نقل المتواترين لما أجمع عليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الآثار، دون أن يكون ذلك رأيًا ومأخوذًا جهة القياس).
(3) جامع البيان في تفسير القرآن (9/ 529).

(1/9)


كان عنده أنَّ هذه ليست أيمانًا منعقدة تجب فيها الكفارة، ولا تَدخلُ في عموم الآيةِ؛ بل جعلها أيمانًا غير منعقدةٍ، كأيمانِ أهل الشرك، واتَّبَعَ مَنْ قالَ ذلك في الحلف بالنذر والعتق؛ كما قال ذلك الحارث العكلي وغيره (1). وقال: إنه لا يجب عليه شيءٌ لا في الحلف بالعتق ولا غيرِهِ.
وأما داود فكان هو وأصحابُهُ أكثر توسعًا في الأدلة والنظر وأقوال أهل العلم، والعلمِ بالإجماع والاختلاف، لكن كانَ من نُفاة القياس هو وأصحابهُ، فقال في جميعِ هذه التعليقات التي يُقصدُ بها اليمين: إنه ليس فيها شيء، وطردوا ذلك في الطلاق لعلمهم بما فيهِ من النزاع.
وأبو ثورٍ لم يذكر فرقًا معنويًا بين الطلاق وغيره، ولا بينَ الصفات المؤثرة من (2) الفرق بين الطلاق وغيره، ولكن ظن الإجماع على أنَّ الحلف بالطلاق لا كفارةَ فيه، وقد بيَّنَ مراده في كلامِهِ الذي ذكرناه عنه في غير هذا الموضع عن الإجماع = أنَّ مراده بالإجماع عدم علمه بالمُنَازِع، فهذه مقدمة.
والمقدمةُ الأخرى: أنه إذا انتفت الكفارةُ لَزِمَ وقوعُ المحلوفِ به، لأنَّ هذه عنده أيمانٌ منعقدة يتناولها عموم قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] لفظًا ومعنى، لكن للإجماع المظنون في سقوط الكفارة فَرَّقَ، وهذا إنما يصح [3/ ب] على قول من يُجَوِّز الاستحسان الذي تُخَصُّ بِهِ العلة الشرعية لفظًا ومعنى بدون فوات شرطٍ ولا انتفاء مانع؛ وهذا أصلٌ ضعيف، كما قد بُسِطَ في موضعه (3).
_________
(1) المغني (13/ 461 – 462).
(2) كتب الناسخ في الهامش: (في) وفوقها حرف (خ) إشارة إلى أنه في نسخة.
(3) مجموع الفتاوى (20/ 167)، بيان الدليل (ص 329 وما بعدها)، المسوَّدة (2/ 774). وانظر ما سيأتي (ص 275 – 276، 378).

(1/10)


وَبُيِّنَ أنَّ العلة التي دَلَّ الشرع على صحتها لا يجوز تخصيصها إلا بفوت شرطٍ أو وجودِ مانع، فتكون صور التخصيص مختصة بوصف يوجب الفرق بينها وبين غيرها، وإلا فالشارعُ أحكمُ الحكماء لا يجوز أن ينسب إليه الفرق بين المتماثلين، والتسوية بين المختلفين، ولا أنه يجعل المعنى الموجب للحكم يُوجِبُهُ تارةً ولا يُوجبُهُ أخرى، مع عدم اختصاص إحدى الصورتين بمعنى يوجب الإثبات أو النفي؛ وهل يصدر هذا إلا عن متناقض ناقص العلم أو الحكمة؟! يَفعل ذلك إما لنقصِ علمهِ وإما لنقصِ حِكمتِهِ.
وإنه ــ تعالى ــ عليمٌ حكيم، فوقَ كل عليمٍ، وفوقَ كلِّ حكيمٍ، فيمتنع أن يكون في شرعِهِ الذي بعثَ به خاتم المرسلين وأفضلهم وأتمهم علمًا وحكمةً= يمتنع أنْ يكونَ في أحكامِهِ من التناقض ما يدل على نقص فاعلِهِ، فإذا كان مثل هذا النقص مستلزمًا (1) نقصَ علمِ صاحبه أو حكمته، والله ــ سبحانه وتعالى ــ يتقدس عن ذلك= كانَ انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم (2).
والمقصود: أنَّ أبا ثورٍ ــ رحمة الله عليه ــ قد بيَّن مذهبه أنَّ هذه التعليقات أيمانٌ تدخل في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وأنَّ ظاهر القرآن يدل على تكفير جميع هذه الأيمان الحلف بالطلاق والعتاق وغير ذلك؛ فأين قول أبي ثور من قولِ هذا المعترض الذي ينكر أن تكون هذه أيمانًا ويمنع دخولها في القرآن؟!
فَدَلَّ على أنَّ ما ذكره أبو ثورٍ حجةٌ عليه لا لَهُ، وأنَّ أبا ثور لم يُفرِّق بين
_________
(1) في الأصل: «مستلزم» والصواب ما أثبت.
(2) شرح الأصبهانية (ص 142).

(1/11)


العتق والطلاق لكون النذر يُشترط فيه قصد القربة، ولا قال أبو ثور: إنَّ العتق المنجَّز لا يقع إذا لم يَنوِ التقرب به، ولا قال هذا أحدٌ من الأئمة المعروفين؛ بل هم متفقون على صحة عِتق الكافر لعبده؛ بل أبو ثور بيَّن أنَّ التعليق الذي يُقصدُ بِهِ اليمين هو يمين، وإنْ كانَ المُعلَّقُ عتقًا وطلاقًا، وأنَّ ظاهر القرآن يوجب تكفير كل يمين، فإنْ وافقت أبا ثور [4/ أ] فالزم ذلك، وهاتِ دليلاً يدل على خروج الطلاق من ظاهر القرآن لفظًا ومعنى؛ فإنَّ ظاهر القرآن الذي هو لفظه، وباطنُهُ الذي هو معناه يدلُّ على أنَّ الحالف (1) بالطلاق أو العتق أو غيرهما تجزئه كفارة يمين كما تجزئ غيره.
وما من منصف إلا وهو يُسَلِّمُ أنَّ ظاهر القرآن يدل على هذا كما يُسلمه أبو ثور؛ فإذا ادَّعَى الإجماع فهنا مقامان:
أحدهما: أنْ نقول: النزاعُ معلومٌ، ومع العلمِ بالنزاع يمتنع دعوى الإجماع، وأبو ثورٍ وإنْ لم يَبلغه النزاع في الكفارة، فقد بلغ غيره؛ كما أنَّ طائفةً أخرى ادعت الإجماع في أنَّ العتق المحلوف به يلزم (2)، وقد بلغ غيرها من النزاع ما لم يبلغها، وتقرير النزاع مبسوط في مواضع أخر.
وهذا المعترض إذا قُرر النزاعُ عليه بطلت هذه الدعوى، وقد تقدم قريبًا أنه في الكتاب الذي نقل منه الإجماع على وقوع الطلاق المعلَّق المقصود به الإيقاع = فيه نقلُ النزاع في الطلاق المعلَّق الذي يقصد به اليمين، وفيه ذِكرُ الأقوال الثلاثة: هل يُكَفِّر، أو لا يكفر ولا يَلزمه طلاق، أم يلزمه طلاق ولا
_________
(1) في الأصل: «الحلف».
(2) نقل الإجماع على ذلك ابن جرير الطبري في اختلاف الفقهاء (ص 34). وانظر ما سيأتي (ص 297، 747 – 748، 751 – 752).

(1/12)


تجزئه الكفارة.
والثاني: أنَّا قبل أنْ نعلم النزاع مَعَنَا ظَنَّان: ظنُّ الإجماع، وظنُّ عموم القرآن لفظًا ومعنى؛ فمن كان قوةُ ظنِّ الإجماع عنده أقوى ــ كأبي ثور ــ قدَّمَ هذا الظن، ومن كان ظنُّه بكلام الله وعلمه وحكمته أتم، وأنَّ الله ــ تعالى ــ لا يُفرِّقُ بين المتماثلين ولا ينقض العلة لغير مخصصٍ معنوي، وكان ــ أيضًا ــ إذا رجعَ إلى نفسهِ لم يَجد عنده اعتقادًا بنفي النزاع يقاوم هذا الاعتقاد الذي عَلِمَهُ من كلام الله وكلام رسوله = حَكَمَ بأنَّ الأمةَ لا تجتمع على مثل هذا، وأنها معصومةٌ أن تجتمع على خطأ.
والفرق بينَ المتماثلين ونقض العلة بدون مخصص معنوي تُنَزَّهُ الأمةُ أن تجتمع عليه؛ كما نَزَّهَ الله ــ عز وجل ــ رسولهُ – صلى الله عليه وسلم – أن يكونَ في حُكمِهِ مثل هذا التعارض الذي يوجب القدح في أحدها؛ إمَّا في دلالة الكتاب والسنة لفظًا ومعنى، وإمَّا في دلالة الإجماع، وكلٌّ من الدلالتين [4/ ب] صحيحة، والحقُّ لا يَتعارضُ (1).
ثم إذا نظرَ في كلِّ إجماع معلوم وجده موافقًا للنصوص لا مخالفًا لها، ولا تجد قطُّ إجماعًا يخالفُ دلالة الكتاب والسنة إلا ومع الإجماع دلالة أخرى من الكتاب والسنة توجب ترجيحها على الأول، فيكون أحدُ النصين ناسخًا للآخر، إمَّا دفعًا لحكمه ــ وهو النسخ الخاص ــ، وإما دفعًا لظاهر دلالته ــ وهو النسخ العام ــ؛ وهذا أصلُ أحمد بن حنبل وغيره من سلف الأمة وأئمتها المتبعين للصحابة لا يعارضون قط دلالة كتاب وسنة بإجماعٍ، كما فعل أبو ثور وأمثاله (2).
_________
(1) بيان الدليل (ص 333). وانظر ما سيأتي (ص 87 – 88).
(2) قال في مجموع الفتاوى (32/ 115) ــ وهو في الفتاوى الكبرى 3/ 179 ــ: (وكلُّ من عارض نصًا بإجماعٍ، وادَّعى نسخه من غيرِ نصٍّ ناسخٍ يُعارض ذلك النص؛ فإنه مخطئٌ في ذلك، كما قد بسط الكلام على هذا في مواضع أخر؛ وبيّن أنَّ النصوص لم يُنسخ منها شيءٌ إلا بنصٍّ باقٍ محفوظٍ عند الأمة، وعلمها بالناسخ الذي العمل به أهمُّ عندنا من علمها بالمنسوخ الذي لا يجوز العمل به، وحفظُ الله النصوص الناسخة أولى من حفظه المنسوخة). وانظر ما سيأتي (ص 633).

(1/13)


وأحمد كان يقول: (من ادَّعَى الإجماع فقد كذب، وما يُدريهِ أنَّ الناس أجمعوا (1))، كان مقصوده بذلك: أنَّ يَرُدَّ ما يحكى له عن أبي ثورٍ ونحوه من الإجماعات، فإن طائفةً من أصحابه كانوا يسألونه عن أشياء يقولها أبو ثور (2).
وكان أبو ثور؛ إمامًا مجتهدًا فقيهًا أفقه أهل بغداد، أو من أفقه أهل بغداد بعد أحمد، وكان أحمد كثيرًا يدلُّ عليه في الفتيا، فيقول للسائل: (سل الفقهاء، سل أبا ثور). ويقول: (هو في مسلاخ الثوري) (3).
وكان أحيانًا ينكر عليه إذا رأى أنه قال أقوالاً مبتدعة، كقوله في المجوس: إنه يباحُ نكاحهم وذبائحهم (4). حتى يقولَ أحيانًا: (أبو ثورٍ كاسمِهِ) (5). وفي
_________
(1) في الأصل: (اختلفوا)، ولا تستقيم العبارة إلا بما أثبتُّ، وستأتي على الصواب في (ص 15).
(2) مجموع الفتاوى (19/ 271)، الفتاوى الكبرى (6/ 286)، الإخنائية (ص 459). وانظر ما سيأتي (ص 136، 604 – 605).
(3) تاريخ بغداد (6/ 579). وانظر: طبقات الفقهاء للشيرازي (ص 92). وما سيأتي (ص 605).
(4) أهل الملل والردة والزندقة من كتاب الجامع للخلال برقم (456 – 458، 1053 – 1055، 1058). وانظر: قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم (ص 172)، أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 816)، شرح الزركشي (6/ 645).
(5) انظر: أحكام أهل الذمة (2/ 817)، طبقات الشافعيين (ص 99).

(1/14)


روايةٍ أخرى عنه: (كيف يجوز للرجل أن يقولَ: أجمعوا؟! إذا سمعتهم (1) يقولون: أجمعوا فاتهمهم، لو قال: إني لم أعلم مخالفًا جاز).
وكذلك نقلَ عنه أبو طالبٍ أنه قال: (هذا كذبٌ؛ ما عِلْمُهُ أنَّ الناس مجمعون؟! ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافًا، فهو أحسن من قوله: إجماع الناس).
وكذلك نقلَ عنه أبو الحارث: (لا ينبغي لأحدٍ أنْ يدَّعي الإجماع، لعل الناس اختلفوا) (2).
فأحمد وأمثاله يقولون: (من ادَّعى الإجماع في مثلِ هذا فقد كَذَبَ، وما يدريه أنَّ الناس أجمعوا، ولكن يقول: لا أعلم منازعًا)، وعدمُ علمهِ بالمنازع لا يُزيلُ بهِ ما بيَّنَه اللهُ ورسوله في كتابهِ وسنةِ نبيه من الدلالة البيِّنَةِ لفظًا ومعنى.
وحينئذٍ؛ فإذا رأى هذا فلا يَزال يبحث حتى يجدَ الصورة المدعى فيها الإجماع تختص بفرق مؤثرٍ في الشرع، فيكون الله ورسوله قد فرَّقَ [5/ أ] بمثلِ ذلك، وإما أنْ يَعلمَ أنَّ في المسألة نزاعًا يَرفعُ ما ادُّعِيَ من الإجماع، وحينئذٍ فيحكِّم الكتاب والسنة، وعلى قَدْرِ علمه بدلالة الكتاب والسنة لفظًا ومعنى وبعدمِ النزاع = يكون ترجيح أحد القولين؛ فمن كانت تلك الدلالة عنده أقوى من ظَنِّ عدم النزاع قَدَّمَ ذلك، ومن كان ظنُّ عدم النزاع عنده أقوى من دلالة الكتاب والسنة على تلك المسألة قوي ما ظَنَّهُ إجماعًا؛ كما فعل أبو ثور وابن جرير.
_________
(1) في الأصل: (سمعتم)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) سيأتي توثيق هذه النقول عن الإمام أحمد في (ص 604 – 605).

(1/15)


فهذه مآخذ العلماء المجتهدين، وليس في هؤلاء مَن نازع في كونِ ذلك يمينًا كما فعل هذا المعترض وأمثاله، ولا ادعوا ما يُعْلم فسادُهُ من كون المعلِّق تعليق اليمين قَصَدَ وقوعَ الجزاء عند وجود الشرط ونحو ذلك من الدعاوي التي يظهر فسادُها ومخالفتها للأدلة السمعية والعقلية.
وقوله: (وإما أن يقول العتق لا يشترط فيه التقرب) إلى آخره كما تقدم.
فيقال: الكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أنَّ هذا حُجَّة على المعترض ــ أيضًا ــ فإنه إذا لم يُشترط في العتق قَصْدُ التقرب، فكذلك لا يُشترط في صحة نذره قصد القربة بطريق الأولى والأحرى؛ فإنَّ المقصود بالنذر: فعلُ الطاعة، فإذا لم يشترطوا في فعل الطاعة قصدَ القربة فألا يشترطوا ذلك في نذره أولى وأحرى.
الثاني: أنَّ ما ذكره مضمونه: أنَّ العتق فيه حقان؛ حق العبد بزوال الملك عنه كالإبراء، وحقٌّ لله بتخليصه من الرق. فيقال: وهذا صحيح، لكن دعواه أنَّ قصد القربة معتبرٌ في حقِّ الله في تلك دون هذه خطأ، فإنه لا يُعتبر في واحدةٍ منهما قصد التقرب؛ بل يصير حُرًّا خالصًا لله وإنْ لم يقصد التقرب، وإذا اشترط قصد التقرب للثواب، فلا يُثاب لا من هذه الجهة ولا من هذه إلا بقصد التقرب؛ فأين حصولُ الثواب من حصول الحرية التي هي حقٌّ للهِ وحقٌّ للعبد؟
وهذان الوجهان قد اعتبرهما الفقهاء؛ فقال جمهورهم: تجوز الشهادة بالعتق من غير تقدم دعوى، كما يصح بالطلاق لما فيه مِنْ حق الله ــ تعالى ــ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد.
وقال [5/ ب] أبو حنيفة: لا بُدَّ من دعوى العبد.

(1/16)


الثالث: أن يقال: هَبْ أنَّ العتق تكلفت فيه هذا التكلف الفاسد؛ فكيف تصنع في النذر المُنَجَّز أو المعلَّق إذا لم يُقصد به التقرب؟ فإنك قد سألتَ نفسك وقلتَ: إنه يلزمك أنَّ هذا لم يقع، ولم تذكر عنه جوابًا، بل اقتصرت على قولك: (وأما الثاني … )، ولم يمكنك تُحَبِّرُ (1) جوابًا.
الرابع: أن يقال: إذا كان العتق الذي يلزم عندك إذا كان معلقًا سواءً قصد اليمين أو الإيقاع، وقد فَرَّقْتَ بينه وبين الطلاق اتباعًا لأبي ثور؛ فأبو ثورٍ يُفرِّقُ بين تلك الأمور ــ أيضًا ــ وبين الطلاق، فينبغي إنْ كنتَ متبعًا له أنْ تقولَ تلك الأمور يشترط فيها قصد القربة، كما ادعيتَ أنَّ أبا ثور اشترط ذلك في العتق.
ثم من العجائب: أنَّ قصدَ القربة هو عنده مانعٌ من اللزوم، وأبو ثور يُلزم بالعتق وبنذر الطاعات دون الطلاق، فإنْ كانَ مأخذه أنه لم يقصد التقرب به، فيكون عدم قصد التقرب هو الموجب للزوم الوفاء، ويكون ما لم يقصد به التقرب يجب الوفاء به، وما قصد به التقرب لا يجب الوفاء به، وهذا نقيض ما ادعيته.
وهذا إنما لزمه لأنه اعتضد بقول أبي ثور، وهو مناقضٌ لقوله لا موافقٌ له، ولكن شاركه في صورة الفرق بين العتق وغيره.
وأيضًا؛ فقد زعم أنَّ في العتق جهتين (2): حقَّ الحقِّ، وحقَّ الخلقِ؛ وَجَعَلَ هذا هو الفرق إنْ لم يوافق أبا ثور، وهذا موجودٌ في نذر الصدقة والهَدي ونحو ذلك مما فيه حقان؛ حقٌّ لله وحقٌّ للعباد.
_________
(1) الكلمة غير منقوطة في الأصل، ولعلها ما أثبتُّ.
(2) في الأصل: (جهتان)، والجادة ما أثبتُّ.

(1/17)


فصلٌ
قال: (الخامس عشر: أنَّ اقتضاء التعليق المذكور لوقوعِ الطلاق أمرٌ مشهور عند الخاصة والعامة لا يقبل التشكيك، وإدراجُ الحَلِفِ بالطلاق في أيمانِ المسلمين إنما كان لإدخال من أدخلها في البيعة، وقد كان في زمان هشام بن عبد الملك أميرٌ اسمه: توبة بن أبي أسيد (1) مولى بني العنبر (2)، أحسنَ إلى الناسِ وألانَ جانبَهُ، وأحسنَ إلى الجندِ، وامتنعَ أنْ يحلفهم بالطلاق [6/ أ] وكانَ الناس بعد موتهِ يُحَلِّفُونَ الجندَ بتلك الأيمان، ويُسمونها أيمان توبة. ولمَّا قَدِمَ عاصمُ بن عبد الله وأرادَ أنْ يُحلِّفَ الناسَ بالطلاق فأبوا، وقالوا: نحلف أيمانَ توبة؛ فهذا أمرٌ مشهورٌ عند العوام من ذلك العصر، ولولا ذلك لم يَمتنعوا منه، ولم يُحلِّفوهم به، ولاكتفوا منهم بالأيمان بالله) (3).
والجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ كونَ الحلف بالطلاق يمينًا، والحلف بالعتق يمينًا، والحلف بالمشي وصدقة المال يمينًا، والحلف بالحرام يمينًا، وقول القائل: قد حلفَ بالطلاق أنه لا يَفعل، وحلف بالمشي أو بصدقة المال أنه لا يَفعل؛ فهذا أشهرُ عند العامة والخاصة من كلِّ ما يُناقضه.
_________
(1) كذا في الأصل وبعض كتب التراجم، وفي بعضها: (الأسد).
(2) هو: توبة بن كيسان، أبو المُوَرِّع العنبري البصري، ولد سنة (57)، وتوفي في الطاعون سنة (131).
انظر في ترجمته: الطبقات لخليفة بن خياط (ص 365)، تاريخ دمشق (11/ 94)، تهذيب الكمال (4/ 336).
(3) «التحقيق» (34/ ب)، وهو الوجه العشرون.

(1/18)


ولهذا يوجد (1) المتكلم بأنَّ هذه وأمثالها أيمانٌ في لغة العرب وأصناف العجم والترك والفرس والبربر والهند والحبشة، ويوجد ذلك في كلام المسلمين والكفار وإنْ لم يعتقدوا في موجِبها ما يعتقده المسلمون، ويوجد ذلك في كلام من لا يرى لزوم الطلاق من العلماء؛ السنة والشيعة والظاهرية والقائلين بالمعاني والاعتبار. فهذا مما يوجد في كلام جميع الطوائف بخلاف وقوعِ الطلاق بالحالف، فإنَّ هذا إنما يوجد في بعض المسلمين.
الوجه الثاني: أنَّ قولَه: (اقتضاء التعليق لوقوع الطلاق أمرٌ مشهور) لفظٌ مجملٌ؛ فإنَّ هنا ثلاثة أمور: إرادةُ وقوعِ الطلاقِ عند الصفة أو كراهة وقوع الطلاق عند الصفة. والثاني: رَبْطُ الجزاءِ بالشرطِ وجعلُ الشرطِ مستلزمًا لوقوع الجزاء ومقتضيًا له. والثالث: اعتقادُ وقوعِ الطلاق عند الصفة وكذلك في سائر التعليقات.
فإنْ أرادَ أنَّ كلَّ تعليقٍ يقصدُ بهِ اليمين فإرادة وقوعِ الطلاق عند الصفةِ بهِ أمرٌ مشهورٌ؛ فهذا مكابرةٌ تصدرُ عن جهلٍ أو عنادٍ؛ بل الأمر بخلاف ذلك، فليس أحدٌ من الخاصة ولا العامة إلا إذا رجعَ إلى نفسه عند تعليق الحلف إلا وهو يجدُ في نفسهِ كراهة تامة لوقوع الطلاق وغيره من اللوزام المعلقة، ويجد نفسَهُ غير مريدةٍ لذلك إذا وجدت الصفة.
فإذا قيل له: (افعل كذا وكذا) لأمورٍ لا يريد أن يفعلها، فقال: لا أفعل، فألحوا [6/ ب] عليه، فحلف أنَّه لا يفعل. وقال: إنْ فعلتُ هذا فنسائي طوالق، وعبيدي أحرار، وسائر مالي صدقة، وعليَّ عشرُ حججٍ، وأنا بريءٌ
_________
(1) كذا في الأصل.

(1/19)


من الإسلام ونحو ذلك مما يُعلقه ويجعله لازمًا له إذا فعل ذلك، فهو يعلم من نفسه والناس يعلمون ــ أيضًا ــ منه أنه لم يرد إذا فعل ذلك الأمر أنْ يقع شيءٌ من هذا؛ لا طلاقُ نسائهِ، ولا عتقُ عبده، ولا أنْ يلزمه خروجه من ماله، ولا أن يلزمه عشر حجج، ولا أنْ تلزمه البراءة من دين الإسلام؛ بل هو يعلم من نفسه وهم يعلمون أنه لا يريد هذه الأمور البتة، سواء فعلَ ذلك الفعل أو لم يَفعله، وإنْ كان قد يريد بعضها ــ أحيانًا ــ، لكن مجموع هذه اللوازم المعلقة لا يريدها أحد أن تلزمه.
والحالفُ كلما أراد أنْ يُغلظَ يمينه كثَّر من اللوازم التي يعلم هو وغيره أنه لا يريد أن تلزمه؛ ولهذا إذا طُلِبَ منه الحنث واعتقد أنها تلزمه يذكر ما عليه في لزومها له من الضرر العظيم الذي لا يريده حتى يُعْذَرَ في ترك الحنث، كما يُعذر الرجل إذا علم أنه إذا فعل فعلاً قُتِلَ وأُخِذَ أهلُهُ ومالُهُ وعُذِّبَ عذابًا شديدًا، فيقول: إنْ فعلتُ كذا حصلَ لي كذا، فإذا عُرِفَ أنه يلزم من فعل ذلك الضرر الذي ذكره عذروه بترك الفعل، وإنْ كانَ حصولُ ذلكَ ليس بعقده واختياره؛ بل بفعل مَنْ يَظلمه ويعتدي عليه إذا فعلَ ذلك، فيكون مكرهًا على ترك ذلك الفعل، فَيَعْذُرُ الناس الحالِفَ كما يعذرون المكره إذا عرفوا (1) أَنَّ فعلَ كلٍّ منهما يستلزم لوازم تَضره، وهو وهم يعلمون أنه لا يريد تلك اللوازم البتة؛ بل ما زال ولا يزال كارهًا لها.
والإنسان مجبولٌ على حبِّ ما لائَمَهُ وبغض ما ينافيه، فليس في طبيعته محبةُ الأشياء التي تنافيه، ولا كراهة الأشياء التي تلائمه، لكن كثيرًا ما تتلازم المكاره والمحاب، فلا يوجد محبوبٌ إلا بمكروه. وحينئذٍ فيرجِّح أحدَهُمَا؛
_________
(1) في الأصل هنا زيادة: (أنه)، والنص مستقيم بدونها.

(1/20)


فإذا كانت (1) إرادته لدفع المكروه [أقوى] (2) دَفَعَهُ وإنْ فاتَ المحبوب، وإنْ (3) كانت إرادته للمحبوب أقوى طلبه وإنْ حصلَ المكروه.
ومثل هذا يقعُ كثيرًا في تعليق الطلاق، إذا علَّقه بأمرٍ مكروه مثل مخالفتها له، وإضرارها به في نفسه وماله وعرضه، أو بأولادِه أو أمه أو جيرانه [7/ أ] أو أصدقائه، أو فعلها أمرًا مكروهًا في الدين ونحو ذلك، فهو يكره ذلك وهو يُحِبُّهَا ويكره طلاقها؛ فهنا يَجتمعُ محبوب ومكروه، فيريد أنْ ينهاها عن المكروه، ويقول لها: لا تفعلي ذلك.
ثم تارةً يحلفُ عليها ألا تَفعله، ولا يُريدُ أنْ يُطلقها إذا فعلته، لأنَّ إرادتَهُ لبقائها معه أقوى من إرادتِهِ لدفع المكروه، فهي وإنْ كانت ــ أحيانًا ــ تخونه في بعض ماله أو تُطَوِّل لسانها عليه، أو تضرب أولادَهُ، أو تَخرجُ من منزله بغيرِ إذنهِ، أو تُطْعِمُ مالَهُ لأهلها، أو تَمتنع عليه ــ أحيانًا ــ من الفراش= فإنَّهُ يَكره ذلك وينهاها عنه، ولكن مع ذلك فراقُهَا أَكرهُ إليه وأبغض إليه من مقامِهَا على تلك الحال.
كما يكون للرجل الولد الذي يؤذيه فينهاه عن الأذى، ويحلف عليه أنه (4) لا يؤذيه، ولا يختار مفارقةَ ابنه وإنْ آذاه، وكذلك قد يكون الأمر كذلك في مملوكه وصديقه فهو في مثل هذه الأمور يَحلفُ على أحدهم أنْ
_________
(1) في الأصل: (كانَ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) إضافة يستقيم بها الكلام.
(3) في الأصل: (فإن)، والصواب ما أثبت.
(4) كذا في الأصل، ولعلها (أن) كما تقدم في الفقرة السابقة وكما سيأتي.

(1/21)


لا يَفعل ذلك، وكذلك يحلف على المرأة؛ وهؤلاء يَبَرُّونه لئلا يؤذوه (1) بالحنث ولئلا يَغضب عليهم إذا حَنَّثُوهُ، ولئلا يُعاقبهم إذا حنثوه، والمرأة تَبرُّه لذلك، وتَبَرُّهُ ــ أيضًا ــ لئلا يقعَ بها الطلاق إذا اعتقدت أنه إذا حَنثَ طَلُقت لما عليها في ذلك من الضرر بفراقه، فقد يَمنعها هذا من تحنيثِهِ.
فهذا إذا قال: إنْ فعلتِ كذا فأنتِ طالقٌ، أو قال لولده: إنْ فعلتَ أنت كذا فامرأتي طالقٌ، أو قالَ ذلك لعبدِهِ أو صديقِهِ فهو كما لو قال: الطلاق يلزمني لا تفعلين، أو يقول لابنِهِ ومملوكِهِ وصديقِهِ: الطلاق يلزمني لا تَفعل هذا، أو يقول عن نفسِهِ: الطلاقُ يلزمني لا أفعل كذا؛ فهنا يعلم من نفسهِ أنَّه لم يُرِد أنْ يطلقها عند وقوع الصفة؛ بل لم يزل ممتنعًا من الطلاق كارهًا له غيرَ مريدٍ لوقوعِهِ سواءً وجدت الصفة أو لم توجد، وإنما علَّقَهُ بالصفةِ مع علمِهِ أنه كارهٌ لوقوعِهِ، ليجعل امتناعه من وقوعِهِ موجبًا لامتناع وجودِ الشرطِ الملزوم، وقصده باليمين منع أولئك، أو منعُ نفسهِ من الشرط بما علقه بالجزاء وجعلِهِ لازمًا له من الطلاقِ وغيرِهِ من الأمور التي جعلها لازمةً للشرطِ وهي أمورٌ لا يريدُها بل يَكرهُهَا [7/ ب]، بل فيها ما يَمتنعُ في العادة أنْ يريده، وما يَمتنع في الطبيعةَ وللجِبِلَّةِ أنْ يريده.
وكلَّمَا غَلَّظَ اليمينَ زادَ من تعليق هذه الأمور التي هو في غايةِ الامتناع من إرادتها مثل أن يقول: إنْ فعلتُ كذا فلا أماتني الله على دين الإسلام، وقطع أربعتي، وسلبني بصر عيني، وحشرني مع فرعون وهامان وأُبَيِّ بن خَلَفٍ وأمثال ذلك من الأدعية التي يدعو بها على نفسه.
والداعي طالب للمدعو مريد لوقوعه إذا كان الدعاء مقصودًا له، وأمَّا
_________
(1) في الأصل: (يؤذونه)، والوجه النصب.

(1/22)


إذا كان معلقًا بالشرط الذي يريد عدَمَه فهو لم يرد الدعاء ولا المدعو به؛ بل هو من أبغض الناس وأبعدهم عن إرادة هذا الدعاء والطلب، وعن إرادة المطلوب المدعو به؛ بل يمتنع في الطبيعة أنْ يريد البشر مثل هذه المضار العظيمة المستلزمة لغاية الضرر في الدين والدنيا والآخرة، ومَنْ جَوَّزَ على البشر أنْ يريد الإنسان كلَّ ما يضره فهو جاهل بحقيقة الإنسان.
كما يظن بعض الغالطين أنَّ صاحب الفناء عن إرادة ما سوى الحق، أو شهود ما سواه ينتهي إلى ألا يُفرِّق بين ما يؤلمه ويضره وبينَ ما يَلَذُّهُ وينفعه، ويبقى هذا له مقامًا ثابتًا، فإنَّ هذا جهلٌ بحقيقة الحي وصفات الحي؛ بل قد يعرض له ــ أحيانًا ــ حالٌ يغيب فيها عن الإحساس ببعض الأشياء مع أنَّ هذه ليست مما يؤمر بها، ولا يكون صاحبها بها أفضل ممن هو أكملُ منه، وليست هذه الحال من اللوزام لمن سلكَ طريقَ الله ولا غاية له، كما يظن هذا وهذا بعض الغالطين، ولكنَّها أمورٌ عارضةٌ لبعضِ الناس، وغايتُهُ أنْ يكونَ فيها معذورًا حصولها له بغير اختيارِهِ، وقد يُحمد على ما يقترن بها مما يُحبه الله ــ تعالى ــ ورسوله – صلى الله عليه وسلم – لا أنَّ نفسَ عدمِ التمييز مما يحمد صاحبه عليه، كما يعذر الإنسان على ما يجده من الحزن والخوف ونحو ذلك مما لا يمكنه دفعه عن نفسهِ، فيعذر ولا يُذَم لعجزه لا أنه يحمد ويمدح على ذلك؛ بل يحمد ويمدح ويؤجر على صبره ونهيه نفسه عن الهوى، ومجاهدتِهِ لنفسه عن الهوى؛ كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله» (1)،
ولبسط هذه
_________
(1) أخرجه بلفظ: «المجاهد من جاهد نفسه» الترمذي في جامعه (1621) وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، والنسائي في الكبرى (11794) من حديث فَضَالة بن عبيد – رضي الله عنه -. وقد جاء في مسند الإمام أحمد (39/ 375، 381، 386، 387) بزيادة ألفاظ مقاربة «لله» «في الله» «في طاعة الله» «في سبيل الله». أما اللفظ الذي ذكره المؤلف بزيادة «في ذات الله» فهو عند الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (4/ 149) دون إسناد، وإنما قال: وروي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم ذكره.

وقال عنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/ 635)، (14/ 460): ثابت.

(1/23)


الأمور مواضعُ غير هذه (1).
[8/ أ] والمقصود: أَنَّ المعلِّقَ يُعَلِّقُ اليمين لم يرد أن تلزمه تلك اللوازم التي علقها بالشرط؛ بل فيها ما يمتنع أن يريده البتة ولا يتصور أن يريده بشر، ومنها ما يمتنع أَنْ يريده مسلم، ومنها ما لا يريده الناس في العادة الغالبة ولكن قد يريده نادرًا، ومنها ما يريده في حال ولا يريده في حال وهذا القسم هو الذي اشتبه حاله على كثيرٍ من الناس؛ كإيجاب الحج والعبادات فإنَّ هذا الإيجاب قد يراد بالنذر، وكإنشاء الطلاق والظهار والحرام فإنَّ الإنسان قد يريد أَنْ يُطَلِّقَ ويظاهر من امرأته ويُحَرِّمَهَا أو يُحَرِّمَ عليه بعض ماله الحلال، وأما تحريم جميع الحلال فهذا لا يريده أحد، ولهذا لا يقول الناس: الحِلُّ عليَّ حرام، أو ما أَحَلَّ اللهُ عليَّ حرام، أو يحرم عليَّ كل ما يحل للمسلم ونحو هذه العبارات المتضمنة تحريم جميع الحلال إلا إذا كانوا حالفين، لا يقولونها عند الإنشاء بالتحريم والابتداء به وإيقاعه، بخلاف تحريم امرأته أو شيء من طعامه وبعض ماله فإنَّ هذا يحرمه ابتداء.
والصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ تكلموا في تحريم المرأة وتحريم ماله (2)،
_________
(1) جامع المسائل (6/ 8 وما بعدها)، التدمرية (ص 221 وما بعدها)، والرد على الشاذلي (ص 191)، الرد على المنطقيين (ص 561 وما بعدها).
(2) انظر ما ورد عنهم في: مصنف عبد الرزاق (6/ 399 وما بعدها)، ومصنف ابن أبي شيبة (9/ 601 وما بعدها).

(1/24)


وأما الحلف بذلك فلم يتكلموا فيه فيما بلغنا، كما تكلموا في تعليق الطلاق على الملك (1) ولم يتكلموا في الحلف به فيما بلغنا؛ لأن الناس لم يكونوا يعتادون الحلف بالحرام ولا بالظهار ولا بالطلاق في أوائل الأمر، لكن بعد ذلك اعتادوا الحلف بها، وقد كانوا يحلفون بالنذر قبل ذلك، لأنَّ هذا فيه التزام عبادة لله، فهو أخف على الإنسان من تحريم أهله وماله؛ فقد يختار الرجل أن يتصدق بماله لله، ولا يختار بشر أن يحرم عليه جميع ما أحله الله له، فصاروا يغلظون الأيمان شيئًا بعد شيء، كما أنهم في أول الأمر لم يكن ولاة الأمور يُحَلِّفُونَ الناس بأيمان البيعة، ثم حلفهم الحجاج بأربعة أيمان أو خمسة، ثم زاد الناس في أيمان البيعة أضعاف ما فعله الحجاج (2).
وقد نُهي عن تغليظ الأيمان لما في ذلك من زيادة تعظيمها لا لأنها من أيمان الشرك؛ فيظن الغالط أَنَّ ذلك يقتضي أنها لا تلزم للنهي عنها، ولو تغلظت الأيمان المنعقدة غاية التغليظ، فإنَّ أيمان المسلمين [8/ ب] لا تغير شرائع الدين؛ بل ما كان الله ورسوله قد أَمَرَ به قبل الأيمان المغلظة على تركه فقد أمر به بعد ذلك، يفعله العبد كما أمر الله ــ تعالى ــ به ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، ويُكفِّر أيمانه المغلظة، وما نهى الله عنه ورسوله بعد تغليظه الأيمان على فعله فإنه منهي عنه بعد أَنْ حَلَفَ الأيمان المغلظة أنه لا يفعله، فيكفر أيمانه ولا يفعله (3).
_________
(1) انظر ما ورد عنهم في: مصنف عبد الرزاق (6/ 415 وما بعدها)، ومصنف ابن أبي شيبة (9/ 524 وما بعدها).
(2) انظر ما سيأتي في (ص 41 – 44، 835).
(3) مجموع الفتاوى (33/ 144 وما بعدها)، الفتاوى الكبرى (3/ 265)، قاعدة العقود (1/ 257 وما بعدها).

(1/25)


ولو غَلَّظَ الأيمان أَيَّ تغليظٍ كان لم يمنع ذلك من تكفيرها مثل أن يقول: إِنَّ عليَّ الحج ماشيًا حافيًا (1) على أغلظ مذهب في الإسلام أو على مذهب مالك بن أنس، أو يقول على أشدِّ ما أخذ أحدٌ على أحدٍ، أو مالي صدقة وعليَّ الحج ونسائي طوالق وعبيدي أحرار على مذهب مَنْ يُلزم الحالف ما التزمه، أو على أني لا أقلد من يفتي بالكفارة، أو لا أستفتي من يفتي بذلك ونحو هذه العبارات التي يلتزم فيها ما يجعله لازماً له لزوماً ثابتاً، ويميناً معقودة لا يمكن تحليلها، فإنَّ عَقْدَهُ وَرَبْطَهُ وتعليقه لو بالغ فيه ماذا عسى أَنْ يبالغ لم يكن ذلك برافعٍ لحكم الله ورسوله الذي شرعه على لسان نبيه محمد عبده ورسوله حيث قال: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وقال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» (2).
فقد تبين أنَّ المشهور عند العامة والخاصة لو عَلَّقَ تعليقًا يَقصد به الأيمان أنه يكره وقوع ما علقه لا يريده سواءً كان المعلق بالشرط وقوع الطلاق أو العتاق أو الظهار أو الحرام، أو وجوب حج أو صيام أو صدقة أو هدي أو أضحية أو وقف أو غير ذلك مما يلتزمه المسلمون عند أيمانهم، وكذلك إن كان المعلق كفرًا كقوله: إنْ فعلتُ ذلك فأنا بريءٌ من الله ورسوله، وأنا يهودي ونصراني، وأنا مشرك بالله، وأقول: إن الله ثالث ثلاثة، وأعبد الصليب دون الله إن فعلت كذا، وأقول: إن القرآن ما هو كلام الله، وأقول: إن القرآن شعر وسحر إن فعلت ذلك، وأستحل وطء أمي في كعبة
_________
(1) في الأصل: (ماشي حافي)، والصواب ما أثبتُّ.
(2) أخرجه مسلم (1650) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.

(1/26)


المسلمين إن فعلت ذلك إلى أنواع من هذه التعليقات التي يعلقها كثير من الناس، ويعلقون ما هو عندهم أغلظ أنواع الكفر الذي يمتنع في تلك الحال أن يقصدوا لزومه [9/ أ] لهم غاية الامتناع، لأنهم في غاية الإرادة لنقيضه والكراهة له، والإرادةُ الجازمةُ لوجودِهِ تُنَاقِضُ الإرادةَ الجازمةَ لعدمِهِ (1).
وكذلك إِنْ كان المعلق بالشرط دعاءً يدعو به على نفسه من أنواع الشر، كقوله: إِنْ فعلتُ كذا قطع الله يدي، أو أَماتني على غير الإسلام، وذبح الله ولدي على صدري (2) ونحو ذلك.
وكذلك إِنْ كان المعلَّق اتصافه بقبائح ومنكرات يكره اتصافه بها غاية الكراهة، وإن كان اتصافه بها ممتنعًا في نفس الأمر لكن يقدر لزومها له؛ كقوله: إن لم أفعل كذا فأنا بريء من قرابتي من رسول الله، أو تكون هذه اللحية على مخنث، أو أكون بغَّاءً أو يركبني (3)، أو يقول النصراني: أكون بريئاً من الصليب، أو من المسيح، أو من السيدة، أو يقول مَنْ يُعَظِّمُ بعض المشايخ أو القرابة أو الصحابة: أنا بريء من الشيخ فلان أو من علي بن أبي طالب إن فعلت كذا، إلى أمثال هذه الأيمان التي تحلف بها الأمم على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، لا يُعلِّقون تعليقًا يقصدون به اليمين إلا وهم كارهون لوقوع المعلَّق غير مريدين له، بل لا يكون إلا مِنْ أَكْرَهِ الأمورِ إليهم وأبعدهم عن إرادة وقوعه؛ فيمتنع أن يكون أحدهم قاصدًا لليمين، وهو مع ذلك يقصد وقوع الجزاء المعلَّق.
_________
(1) انظر ما سيأتي (ص 118، 433 – 434، 462).
(2) في الأصل: (صدره)، والصواب ما أثبتُّ.
(3) هنا علامة لحق لكن لم يظهر في التصوير شيء.

(1/27)


وأما إن أُريد باقتضاء التعليق لوقوع الطلاق المشهور عند الخاصة والعامة أنهم يعلمون أَنَّ المعلِّقَ جَعَلَ الشرط مستلزمًا للجزاء مقتضيًا له بحيث يلزم من وجود الملزوم وجود اللازم= فهذا صحيح، وهذا هو الذي أراده ــ والله أعلم ــ بقوله: (إن اقتضاء التعليق لوقوع الطلاق أمر مشهور عند الخاصة والعامة لا يقبل التشكيك)؛ فهذا الاقتضاء مُسلَّم لا ينازعه فيه عاقل وهو موجَب يمينه، ولكن حقيقةُ هذا أَنَّ المعلق نفسه أثبت هذا الاقتضاء واللزوم، فإنه هو الذي عَلَّقَ وربط وألزم فجعل الجزاء لازماً لنفسه، وهذا الاقتضاء لا بُدَّ فيه من إرادة وقصد؛ لكن يجب الفرق بين قصد الربط والتعليق واللزوم وجعل الجزاء لازمًا للشرط، وبين أنْ يقصد وجود الجزاء اللازم سواء وجد الشرط أو لم يوجد.
وهذا المعترض وأمثاله لا يفرقون بين هذا القصد وهذا [9/ ب] القصد؛ بل يجعلون مَنْ قَصَدَ التعليق فقد قصد وجود الجزاء المعلَّق، وهذا من أسباب غلطهم، فإنَّ قصده للتعليق والربط واللزوم بحيث جعل الأول مستلزمًا للثاني لا يوجب أَنْ يقصد وجود اللازم عند وجود الملزوم، كما أنه في الجمل الشرطية الخبرية قد جعل الثاني لازمًا للأول يوجد إذا وجد، فإنه قد جعل الثاني اللازم ثابتًا موجودًا عند وجود الملزوم، ثم ذلك لا يوجب أَنْ يكون مثبتاً للثاني؛ بل قد يكون ذلك مع نفيه للازم والملزوم، وَقَصْدُهُ من اللزوم نفي الملزوم (1) لانتفاء اللازم، ليس قصده إثبات اللازم بتقدير وجود الملزوم؛ بل هو نافٍ للازم لم يقصد الإخبار بثبوته البتة، وإنما جعله لازمًا لقصد نفي الملزوم لا لقصد إثباته على ذلك التقدير.
_________
(1) في الأصل زيادة (لا)، والصواب حذفها.

(1/28)


فإذا قيل: هو بتقدير اللزوم يكون مثبتًا أو نافيًا؟
قيل: هو مثبِت على هذا التقدير، لكن هذا التقدير هو عنده منتف في نفس الأمر، لا يمكن ثبوته؛ فلا يضره جعل اللازم ثابتًا بتقدير ثبوته، وهذا كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] و {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47] {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} (1) [محمد: 4] ونحو ذلك؛ فإن هذه التعليقات تضمنت جعل الجزاء لازمًا للشرط بتقدير وجوده، وهو مع ذلك مراده نفي كل منهما.
ولهذا يقول من يقول من النحاة (لو) حرف يمتنع بها الشيء لامتناع غيره؛ أي: يمتنع بها الجزاء اللازم لامتناع الشرط الملزوم، فإن امتناع الملزوم يوجب امتناع اللازم. وقيل: حرف يدل على امتناع ما يلزم من وجوده وجود مثله. فبكل حال هي تدل على عدم الشرط ونفيه له (2).
وحينئذٍ؛ فالجزاء المعلَّقُ بوجوده لا يكون مُخْبِرًا بثبوته في نفس الأمر، فإنه إنما أخبر بثبوته على تقدير منتفٍ، وإذا كان لم يجعله موجودًا إلا على تقدير معدوم (3) لم يكن قد جعله موجودًا البتة؛ فإنَّ ما عُلِّقَ بالمعدوم، وقيل: إنه إِنْ وُجِدَ المعدومُ يوجد، والمعدوم لا يوجد = لم يكن قد أخبر بأنه يوجد؛ فهذا في التعليقات الخبرية.

_________
(1) في الأصل: (لانتقم منهم)، وهو خطأ.
(2) لابن تيمية رسالة في جواب سائلٍ عن حرف (لو) طبعت ضمن جامع المسائل (3/ 319)، ثم طبعت تامة في جامع المسائل (9/ 437).
(3) في الأصل: (معلوم)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/29)


وإذا حلف [10/ أ] على هذا التعليق فقال: والله لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، و [والله] (1) لو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم، ووالله لو شاء الله لهدى الناس جميعًا= لم يكن حالفًا على وجود الجزاء في نفس الأمر، لكنه حالف على وجوده بتقدير منتفٍ عنده؛ فهكذا في التعليقات الطلبية هو وإن كان قد جعل الجزاء لازماً للشرط الملزوم فمع قصده اليمين هو يكره الجزاء اللازم كراهة تامة لم يقصد لزومه في نفس الأمر سواء وجد الملزوم أو لم يوجد، كما أن الأول لم يخبر بثبوت الملزوم، بل هو نافٍ له مطلقًا، سواء وجد اللازم أو لم يوجد، لكن هو في الجملة الخبرية التعليقية نافٍ للملزوم مثبتٌ لانتفائه بانتفاء اللازم، وقد يوجد اللازم مرة أخرى ولا يوجد الملزوم، لأنه (2) يلزم من وجود الملزوم وجودُ اللازم وهو دليل، فإنَّ كل ملزوم دليل على لازمه، والدليل لا ينعكس.
وأما في الجملة التعليقية الطلبية فهو كاره للازم كراهة تامة، لا يريده لا بتقدير وجود الملزوم ولا بتقدير عدمه، ولكن قصده كراهة الملزوم ليمتنع عن فعل الملزوم بامتناعه من فعل اللازم، فالامتناع من فعل اللازم هو ثابت، كما أن نفي الملزوم في الجملة الخبرية قد تتغير إرادته فيريد الملزوم ولا يريد اللازم، فإن لم يكن ليمينه تحلة وإلا لزم وجود اللازم وإن كان كارهًا له لم يرده، وهنا قد يحصل اللازم الذي هو الجزاء؛ كما قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] والمراد: لو عَلِمَ الله فيهم خيرًا لأسمعهم إسماع فَهْمٍ، ولو أسمعهم إسماع فَهْمٍ ولم يعلم فيهم خيرًا لتولوا وهم معرضون؛ فسماعهم سماع فهم هو اللازم، وقد يوجد اللازم بدون الملزوم، فيوجد الإسماع بدون أن يعلم الله فيهم خيرًا، لكن إذا وجد ذلك تولوا وهم معرضون.
_________
(1) إضافة يقتضيها السياق.
(2) في الأصل زيادة: (لا)، والصواب حذفها.

(1/30)


وإذا عُرِفَ أن كون التعليق مقتضيًا لثبوت الجزاء عند الشرط لا ينازعه فيه أحد، وإنما النزاع في شيئين: في كونه كارهًا لوقوع الجزاء عند الشرط، وفي حكم الله ورسوله في التعليق الذي قصد به اليمين.
لكن يقال: نحن نُسَلِّمُ أَنَّ المعلِّق [10/ ب] جعلَ الجزاء لازمًا له، وجعل الشرط مستلزمًا للجزاء، لكن النزاع في أَنَّ هذا الملزوم الذي جعله هذا المعلق وهذا الربط والعقد الذي عقده وربطه هذا العاقد الرابط الذي عقد الجزاء بالشرط وربطه به = هل يمكن في [حكم] (1) الله ورسوله حَلُّ هذا العقد والربط وقطع هذا اللزوم وَفَكُّهُ؟ بحيث يوجد الملزوم (2) المقتضي ولا يوجد اللازم الذي هو مقتضاه؛ فهذا محل النزاع.
وهذا نزاع في حكم الله ورسوله في هذا الاقتضاء القَسَمي، كما أَنَّ الحالفَ إذا قال: أَحلفُ بالله لأفعلنَّ كذا؛ فمعنى هذا الربط جعل الفاعل (3) تعظيمه لله مستلزمًا للفعل مقتضيًا له، وهذا الاقتضاء القسمي مشهورٌ عند العامة والخاصة؛ فكلُّ مَنْ حَلَفَ باسمِ شيءٍ فإنما يحلف باسم ما يعظمه، وقد جعل تعظيمه له مستلزمًا للمقسم عليه، فموجب يمينه أنه إنْ حنث زال تعظيمه للمحلوف به، فلولا أَنَّ الله شَرَعَ تحلَّةَ الأيمان ــ فإذا كَفَّرَ الحالف يمينه لم يَزُلْ تعظيمه للمحلوف به ــ إذا حنث= لم يكن الحنث إلا بزوال ذلك التعظيم،
_________
(1) إضافة يقتضيها السياق.
(2) في الأصل: (اللزوم)، والصواب ما أثبتُّ.
(3) في الأصل: (الفعل)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/31)


ولكان الحانث قد عقد عقدًا وفسخه، وجعل الحلف (1) لازمًا للتعظيم وقد نقض عقده = بمنزلة الغادر الكاذب، أو لا (2) يزولَ تعظيمُ المحلوفِ بِهِ من قلبه إن كان العقد باقيًا؛ فلا بُدَّ من هذا أو هذا إن لم يكن لليمين تحلة.
وهكذا إذا حلف بصيغة التعليق قصدًا لليمين فلا بُدَّ إذا لم يكن لهذه اليمين تحلة من أنْ يلزمه ما علقه، أو أن يكون حانثًا في يمينه بمنزلة الغادر الكاذب؛ ولهذا كثيرٌ ممن يحلف بالطلاق أو غيره من الأيمان ثم يحنث ولا يرى أن له تحلة ولا كفارة ليمينه لا بُدَّ له من أحد أمرين: إما أن يلتزم ما عَلَّقَهُ، وإما أَنْ يعتقد في نفسه أنه حلف يمينًا وَفَجَرَ في الحنث بها كالغادر الكاذب؛ فإن كانت يمينًا بالله على شيء وَفَعَلَهُ= اعتقد أنه قد أتى ذنبًا عظيمًا إذا حنث ولم يعتقد أن له كفارة، وإنْ كان يمينًا بالطلاق واعتقد أنه يقع به= اعتقدَ أَنَّ امرأتَهُ مطلقةٌ منه، وهو يطؤها وطئًا محرمًا، وكثيرٌ منَ الناس مَنْ يُقْدِم على ذلك لرغبته فيها.
فإنَّ الحالفَ بالطلاقِ إذا رأى أنه قد حنث ولزمه [11/ أ] الطلاقُ ثلاثة أقسامٍ: قسمٌ يعتقدون وقوع الطلاق وحرمةَ التحليل؛ ويكون هذا الذي اعتقدوه دينًا صحيحًا راجحًا عندهم على إرادة المرأة، فيفارقونها ــ وإن كرهوا فراقها ــ خوفًا من عقاب الله الذي اعتقدوا أنهم يستحقونه (3) إذا لم يفارقوها (4).
ومنهم مَنْ يَرغَبُ في امرأته، ولا يرى له طريقًا إلا التحليل؛ فيفعله تقليدًا لمن يجوِّزُهُ، ويحتمل ما في ذلك من المكاره لاعتقاده أنها لا تحل له
_________
(1) في الأصل: (الحنث)، ولعل الأقرب ما أثبت.
(2) في الأصل: (أن)، ولعل الأقرب ما أثبت.
(3) في الأصل: (يستحقونهم)، والصواب ما أثبتُّ.
(4) في الأصل: (يفارقونها)، والصواب الجزم كما أثبت.

(1/32)


إلا بهذه الطريق، واعتقاده أَنَّ هذا دينٌ صحيحٌ هو من شرع الإسلام.
وقسمٌ يكرهون (1) فراقَ المرأة، ويكرهون التحليل، وهم لا يعتقدون إلا ما عليه هؤلاء وأولئك؛ فيرى أحدهم أنه يقيم معها حرامًا، ويكون ذلك أهون عليه من التحليل ومن فراقها، ويرى أَنَّ التحليل أقبح وأشنع بل وأجرم من مقامه معها حرامًا، وفطرته تكره التحليل أعظم مما تكره مقامه معها على ذلك الوجه.
ثم من اعتقد ذلك شرعًا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – إما أَنْ يُسَلِّمَهُ مع ما في قلبه من القدح في ذلك، لكن يُقَدِّم ما سواه دينًا على ما في قلبه، وإما أَنْ يبقى في قلبه ريبٌ واضطرابٌ، وإما أَنْ يجدَ هذا قادحًا عنده في الرسول إذا لم يكن جازمًا بنبوته وهو جازم بقبح هذا؛ فيقوم في قلبه أَنَّ محمدًا – صلى الله عليه وسلم – شَرَعَ هذا، وأَنَّ شارعَ هذا لا يكون نبيًا = فمحمدٌ ليس بنبي، وهذا قائمٌ في نفوس كثيرٍ من اليهود والنصارى كما رأيناه في كتبهم وسمعناه منهم وممن أسلم منهم وممن سمع منهم، فأخبروا عما في نفوسهم من ذلك.
وأما القسم الثالث: وهو اعتقاد لزوم الجزاء عند الشرط؛ فهذا موجود في نفس الاعتقاد تابع لما يعتقده الإنسان من شرع الإسلام، فمن اعتقد أن هذا التعليق موجب لوقوع الطلاق في شرع الإسلام = اعتقدَ هذا، سواء اعتقد ذلك اجتهادًا أو تقليدًا، وهذا الاعتقاد وأمثاله من الاعتقادات لا عبرة به باتفاق المسلمين، فمن تكلم بكلام اعتقده طلاقًا لم يكن طلاقًا بمجرد اعتقاده باتفاق المسلمين؛ بل الاعتبار بحكم الله ورسوله في ذلك.
فمن الناس مَنْ يرى في المنام أنه طلَّقَ امرأته فيصبح يظن أنه وقع به
_________
(1) في الأصل: (لا يكرهون)، والصواب ما أثبت.

(1/33)


الطلاق كما جرى هذا لغير واحد، وهذا الاعتقاد لا [11/ ب] يُوقَع به الطلاق باتفاق المسلمين؛ بل هم متفقون على أن النائم لا يقع به طلاق إذا رأى في منامه أنه طلق وإِنِ اعتقد وقوع الطلاق بذلك (1)، وقد سألني عن هذه المسألة مَنْ وقعت به ومن لم تقع به، وسألني مرة شخصٌ (2) عمن رأى في منامه أنه حلفَ بالطلاق ليسافرنَّ من هذا البلد فأصبح عازمًا على السفر؛ بل أظنُّهُ خَرَجَ من البلد خوفًا أَنْ يحنث باليمين في منامه إذا لم يسافر.
وإذا طَلَّقَ وهو سكرانٌ أو مكرهٌ ففي الوقوع نزاع بين العلماء (3)؛
فلو فرض أنَّ الشخص اعتقد أنه يقع به الطلاق، لم يكن ذلك موجبًا للوقوع باتفاق العلماء؛ بل من العلماء ممن (4) يرى أنه لم يقع به يفتيه بأنه لا يقع به وإن كان اعتقد أنه يقع به، وكذلك بالعكس لو اعتقد أنه لا يقع به لم يكن لاعتقاده تأثير في أنه لا يقع؛ بل من يرى أنه يقع به يفتيه بأنه يقع وإن اعتقد خلافه.
لكن إذا اعتقد أَنَّ الطلاق لم يقع به، إما اجتهادًا وإما تقليدًا لمن يرى أنه عالم، سواء كان المفتي مصيبًا أو مخطئًا، أو اعتقد ذلك جهلًا؛ فإنه إذا وطئ امرأته بعد ذلك معتقدًا أنها امرأته وأنه لم يقع به الطلاق= لم يُحَدَّ بذلك،
_________
(1) منهاج السنة (5/ 186).
(2) في الأصل: (شخصا)، وعلى الألف أثر شطب.
(3) انظر في طلاق السكران: مجموع الفتاوى (10/ 442) (14/ 117) (33/ 102 وما بعدها)، الفتاوى الكبرى (1/ 186) (3/ 193، 299) (5/ 489).

وفي طلاق المكره: الفتاوى الكبرى (3/ 193، 299) (5/ 489)، جامع المسائل (1/ 345)، الاختيارات الفقهية (ص 366).
(4) في الأصل: (مَنْ)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/34)


ويلحقه نسب الولد فلا يكون ولد زنا؛ بل هو الذي تسميه العامة «ولد حلال» باتفاق العلماء، فإن النَّسَبَ وحرية الولدِ تتبعُ اعتقادَ الواطئ؛ فمن وطئ من يعتقدها امرأته وكان نكاحه فاسدًا، أو اعتقد أنه لم يقع (1) به الطلاق ولم يعلم أنه وقع به = فالولد يلحقه نسبه، ولا يقال: إنه ولد زنا.
وكذلك لو وطئ مَنْ يعتقدها امرأته الحرة أو أمته، فإنَّ ولدَهُ حُرٌّ وإن كانت في الباطن مملوكةً لغيره، ويُسمَّى هذا «المغرور»، وهذا من الأحكام المعروفة عن الصحابة – رضي الله عنهم – والتابعين وسائر علماء المسلمين يجعلون النسب والحرية تتبع اعتقاد الواطئ وإنْ كان مخطئًا في اعتقاده، وهذا مبسوط في موضع آخر (1).
والمقصود هنا: أَنَّ اعتقاد المعلِّق أنَّهُ يقع به الطلاق لا يوجب وقوع الطلاق إذا حنث باتفاق العلماء؛ بل مَنْ رَأَى أنَّهُ لا يقع الطلاق يقول: إنه لا يقع وإن اعتقد أنه يقع، ومَنْ قال: إنَّهُ يقع يقول: إنَّهُ وقع وإن اعتقد [12/ أ] أنه لم يقع؛ وهكذا الحكم في سائر الكلمات التي تحتمل الطلاق أو يظن أنها طلاق كألفاظ الكنايات.
فلو قال الرجل لامرأته: أنتِ خَلِيَّة أو بَرِيَّة أو بائن أو بَتَّهٌ أو بَتْلَة أو حبلك على غاربك ونحو ذلك فإنه يرجع إلى مراده بهذا الكلام، هل أراد به الطلاق أم غير الطلاق؟ فإذا أراد به غير الطلاق لم يقع به وإن اعتقد أنه يقع به
_________
(1) في الأصل: (وقع)، والصواب ما أثبتُّ.
(2) مجموع الفتاوى (14/ 34) (29/ 326) (32/ 67، 79، 103، 383) (34/ 13 – 16، 26)، الفتاوى الكبرى (3/ 349).

(1/35)


الطلاق، وإن أراد الطلاق وقع وإن اعتقد أنه لم يقع، لكن إذا اعتقد أنَّ المفهوم من اللفظ إرادة الطلاق كان هذا مما يدل على أنه أراد به الطلاق فيقع به الطلاق لكونه أراده لا لمجرد اعتقاده.
والحالفُ لم يرد وقوع الجزاء عند الشرط ومعه اعتقاده لوقوع الجزاء، والاعتقاد لا تأثير له، وكذلك معه عقد اليمين، وعقد اليمين يقتضي أنه جَعَلَ الجزاء لازمًا للشرط وهو قاصد للعقد مُرِيدٌ له؛ فَقَصْدُ عَقْدِ اليمين لا يمنع أن تكون يمينًا مكفرةً، واعتقاده وقوع الجزاء لا يمنع أن تكون يمينًا مكفَّرة.
فينبغي أن تعرف هذه المعاني، فإنه بها تتبين زوال شبهاتٍ تعرض لكثير من الناس في مسائل الأيمان؛ فإنَّ من الناس مَن يشتبه عليه الاعتقاد والظن بالقصد والإرادة؛ فيجعل اعتقاده وقوع الطلاق كإرادته وقوع الطلاق أو موجبًا له أو هو هو.
ومنهم مَنْ يشتبه عليه موجب العقد في الشرع الذي بعث الله به رسوله بموجبه (1) الذي أوجبه الحالف العاقد؛ والذي أوجبه الحالف العاقد لزوم الجزاء عند الشرط، لكن الشارع شرع تحليل هذه العقود وإبطال هذا الإيجاب بالكفارة التي فرض الله تعالى.
ومنهم مَنْ يشتبه عليه قصده التعليق واللزوم بقصده وجود الجزاء اللازم، فجعل هذا الفعل هو ذاك أو مستلزمًا له؛ وهذا كُلُّهُ غلطٌ، بل المُعَلِّقُ تعليقًا يقصد به اليمين هو كارهٌ لوجود الجزاء وإن وجد الشرط، وهذه الكراهة يعلمها الناس بحسهم وعقلهم، فهذا أمرٌ معقولٌ عندهم لا يحتاجون
_________
(1) في الأصل: (موجبه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/36)


فيه إلى غيرهم، وليس هذا حكمًا شرعيًا ولا لغويًا.
وأما كون هذا يسمى يمينًا في اللغة، فهو أَمْرٌ سمعيٌ لغويٌ [12/ ب]، وحكم هذا التعليق شرعي يرجع فيه إلى الله ورسوله، لا يُعلم هذا بمجرد العقل ولا اللغة ولا العرف ولا العادة ولا اعتقاد الناس ولا اعتقاد أحد من العلماء وغيرهم، لكن العلماء المجتهدون يَستدلون على موجَب هذا وغيره في الشرع بحسب اجتهادهم، والعلماء المجتهدون مَنْ عَرَفَ منهم حكم الله ورسوله في الباطنِ فله أجران، ومن لم يعرفْ ذلك لكن استفرغ وسعه في الاجتهاد فاتبع ما اعتقده حكم الله ورسوله = فإنه له أجر وخطؤه مغفور له؛ كالمجتهدين في جهة الكعبة من أصاب القبلة باطنًا وظاهرًا كان له أجران، ومن اعتقد أنه يصلي إلى الكعبة سقط الفرض عنه ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإن كان قد استقبل ما يعتقده الكعبة لم يستقبل نفس الكعبة.
فصلٌ
قوله: (وإدراج الحلف بالطلاق في أيمان المسلمين إنما كان لإدخال مَنْ أدخلها في البيعة) (1).
فيقال: ليس الأمر كذلك؛ ولا هذا الإدخال والتسمية مختصًا بالحلف بالطلاق، بل أهل الأرض كلُّهم على اختلاف عقولهم وأديانهم ومذاهبهم يسمون كل من عَلَّقَ تعليقًا يقصد به اليمين يكره فيه لزوم الجزاء وإن وجد الشرط = حالفًا، ويسمون هذا يمينًا، وتسمية مثلِ هذا حَلِفًا ويمينًا وتسمية صاحبه حالفًا يمينًا (2) مشهورٌ عند العامة والخاصة؛ إما أن يكون مثل شهرةِ
_________
(1) «التحقيق» (34/ ب).
(2) في الأصل: (ويمينًا)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/37)


الاقتضاء واللزوم عندهم أو أشهر من ذلك، فإنَّ تسميته يمينًا أَمْرٌ يتكلم به اللسان وتسمعه الآذان وتعقل معناه القلوب، وأما مجرد اللزوم فهو معنًى عقلي، وما يُعلم بالحس والعقل فهو أشهر مما يُعلم بالعقل وحده.
وكذلك علم الأمم كلها بأن الحالف يكره وقوع الجزاء مشهور عند العامة والخاصة، وليس شهرة هذا بدون شهرة الاقتضاء؛ بل يقال: هو أشهر منه؛ لأنَّ علم الإنسان بكراهة نفسه مثلُ عِلْمِهِ بحبِّه وبغضه وعزمه وقصده وجوعه وعطشه ونحو ذلك من الأمور التي يجدها من نفسه ويحسها من باطنه فهي حسيات باطنة، ثم يعلم بالعقل أَنَّ هذا مثل هذا، بخلاف العلم بالاقتضاء فإنه عقلي محض، وما تعاضد على معرفته الحس والعقل كان أبلغ مما يُعْرَف بمجرد العقل [13/ أ]، وكون هذه أيمانًا مما يعرفه عموم الخلق كلهم.
وأما كونها من أيمان المسلمين: فهذا بحسب اعتقاد موجَبها؛ فمن جعلها غير موجبة لا للزوم الجزاء ولا للكفارة فهي عنده ليست من أيمان المسلمين، بل من جنس الحلف بالمخلوقات، ومن جعلها توجب أحد هذين جعلها من أيمان المسلمين، وعلى هذا جمهور المسلمين قديمًا وحديثًا، ولم يُنْقَل عن الصحابة في جنس التعليقات التي يقصد بها اليمين إلا أحد هذين القولين وكذلك جماهير التابعين والعلماء، والقول بأنها أيمان غير منعقدة قول طائفة من التابعين وهو قول داود وابن جرير الطبري والإمامية، كما أن القول بأن الطلاق المعلق بالصفات لا يقع يحكى عن طائفة من الناس لم يُنْقَلْ هذا عن أحدٍ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
والقول بأن هذه ليست أيمانًا منعقدة أَضعفُ من قول مَنْ يقول: موجَبها لزوم ما علقه، فإنَّ هذا يشبه قول من جعل أيمان المسلمين لا كفارة فيها،

(1/38)


والثاني يشبه قول من جعل موجَبها الوفاءَ دون الكفارة، وهذا قد قيل إنه كان شرع أهل الكتاب؛ فالقول بلزوم ما عَلَّقَهُ من جنس الشرع المنسوخ شرعِ أهلِ الكتاب وما كانوا عليه في أول الإسلام، وأما القول بأنها غير منعقدة ولا توجب شيئًا فهذا قول من يجعل أيمان المسلمين لا توجب على الحالف شيئًا لا وفاء ولا كفارة، وهذا من جنس قول أهل الجاهلية الذي لم يشرع بحال، وشرعٌ منسوخٌ خيرٌ من قولٍ لم يشرع بحال (1).
وليس هذا من خصائص هذه المسألة؛ بل كل مسألة فيها نزاع فالقول المخالف في نفس الأمر لحكم الله ورسوله لا بُدَّ أنْ يكونَ من جنسِ الدين المنسوخ أو المبدل (2)، وإنْ كانَ قائله مجتهدًا مثابًا على ما فعله من طاعة الله ورسوله وخطؤه مغفور له، لكن ليس لله ورسوله في كلِّ حادثةٍ إلا حكمٌ واحدٌ هو الذي بعث به رسوله، وسائرها ليست كذلك وإِنْ عُذِرَ فيها أصحابها وَأُجِرُوا.
ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لسعد بن معاذ لما حكم في بني قريظة: «لقد حكمتَ فيهم بحكمِ اللهِ منْ فوقِ سبعة أرقعة» (3).
_________
(1) مجموع الفتاوى (33/ 40)، الفتاوى الكبرى (3/ 301). وانظر ما سيأتي (ص 857).
(2) مجموع الفتاوى (11/ 404)، (13/ 64)، (27/ 397)، الفتاوى الكبرى (4/ 27)، الإخنائية (162 – 163).
(3) أخرجه بهذا اللفظ: ابن إسحاق في السيرة ــ كما في السيرة النبوية لابن هشام 3/ 251، وتخريج أحاديث الكشاف 3/ 103 ــ، ومن طريقه ابن زنجويه في الأموال (1/ 344) عن عاصم بن عمر بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن أبي وقاص الليثي به.
قال الذهبي في العلو (ص 35) وابن حجر في الفتح (7/ 412): مرسل.
انظر: إرواء الغليل (5/ 276)، السلسلة الصحيحة (6/ 557).
وأصله في البخاري (3043)، ومسلم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -، ولفظ البخاري: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك».

(1/39)


وكان يقول لمن يُؤَمِّره على [13/ ب] سريةٍ أو جيش: «وإذا حاصرتَ أهلَ حصن فسألوك أنْ تُنْزِلَهُم على حكمِ الله فلا تنزلهم على حكم الله؛ فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك» (1) وكلا الحديثين في الصحيح.
وقال سليمان ــ عليه السلام ــ: «أسألك حكمًا يوافقُ حكمَكَ» وهو حديث جيد، رواه الحاكم في صحيحه (2).
ولهذا كان الصحابة كأبي بكر وابن مسعود وغيرهما يقول أحدهم: (أقولُ فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكنْ خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه) ( 3).
_________
(1) أخرجه مسلم (1731) من حديث بريدة بن الحصيب – رضي الله عنه – ولفظه: « … وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيِّهِ، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيِّه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم أَنْ تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهونُ من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أنْ تُنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيبُ حكم الله فيهم أم لا؟».
(2) (1/ 84). كما أخرجه النسائي في سننه (693)، وابن ماجه (1408) وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما -. وصححه ابن خزيمة، وقال عنه الحاكم: هذا حديثٌ صحيحٌ، تداوله الأئمة، وقد احتجا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة. انظر: الثمر المستطاب للألباني (ص 545 وما بعدها).
(3) ما ورد عن أبي بكر: أخرجه الدارمي في مسنده (4/ 1944)، والبيهقي في السنن الكبير (12/ 465/ ح 12394) وفي معرفة السنن والآثار (9/ 113). وأخرجه مختصرًا: ابن أبي شيبة في المصنف (32255). قال ابن حجر في التلخيص (4/ 195): أخرجه قاسم بن محمد في كتابه (الحجة والرد على المقلدين)، وهو منقطع.

وما ورد عن ابن مسعود: أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 294، 479)، وسعيد بن منصور في سننه (1/ 267)، وابن أبي شيبة في مصنفه (17402)، وأحمد في مسنده (30/ 406).
كما جاء بنحوه عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (9/ 214). وجاء بنحوه عن حذيفة – رضي الله عنه -: أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة (3/ 1114). وانظر: مجموع الفتاوى (33/ 41)، المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 112، 196).

(1/40)


والناسُ يُدخلون الحلفَ بالطلاقِ والظهارِ والحرامِ والنذرِ في أيمان المسلمين مع أن أكثرهم لا يعرفون أيمانَ البيعة، وقد كان الناسُ يسمونَ التعليق الذي يُقصدُ بِهِ اليمين يمينًا قبلَ أَنْ يُستحلفَ الناسُ في البيعة بهذه الأيمان؛ فقد سماها الصحابة مثل: عمر وابنه وابن عباس وعائشة وحفصة وزينب وغيرهم أيمانًا قبل أنْ تدخلَ هذه في أيمان البيعة.
فإنَّ أولَ من رتَّبَ هذه الأيمان في البيعة هو: الحجاج بن يوسف على ما ذكره الفقهاء في كتبهم، والحجاج إنما تولى العراق بعد قتل ابن الزبير، وكان ابن عباس – رضي الله عنهما – قد ماتَ قبلَ ذلكَ بمدةٍ، وتوفي ابن عمر – رضي الله عنهما – عامَ قتل ابن الزبير سنة بضع وسبعين، وإمارةُ الحجَّاج على العراق من جهة عبد الملك وتحليفه الناس له بأيمان البيعة ــ الطلاق والعتاق وصدقة المال ــ [كان] (1) بعد هذا، ثم كان مِنَ الناس مَنْ يحلفهم بها ومنهم من لا يحلفهم.
_________
(1) بياض في الأصل بمقدار كلمة تقريبًا، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام.

(1/41)


وكانت إمارة هشام بن عبد الملك في أوائل المائة الثانية بعد عمر بن عبد العزيز وبعد أخيه يزيد، وهو آخر الأربعة من بني عبد الملك الذين تولوا الخلافة: الوليد وسليمان ويزيد وهشام؛ فكان توبة بن أبي أسيد لما امتنع أن يحلفهم بالطلاق قد أحسن إليهم حيث خرج عن العادة والسُّنَّة التي سَنَّهَا لهم الحجاج، وكانوا يحلفونهم بالله وبالنذر كصدقة المال ويحلفونهم بالطلاق والعتاق (1).
ثم اليمين بالله تعالى مُكَفَّرَة بالكتاب والسنة والإجماع، وكذلك اليمين بالنذر عند جمهور السلف والخلف تكفر، وعليه دَلَّ [14/ أ] الكتاب والسنة، فكون الطلاق والعتاق مما كانوا يُحَلَّفُون به لا يمنع أن يكون من أيمان المسلمين المكفرة، كما كان الحلف بالله وبالنذر من أيمان المسلمين المكفرة وإن حلفوا بها.
وأما قوله: (وهذا أمرٌ مشهورٌ عند العوام من ذلك العصر، ولولا ذلك لم يمتنعوا منه، ولم يحلِّفوهم به، ولاكتفوا منهم بالأيمان بالله (2)).
فيقال: أما تسمية التعليق الذي يُقصد به اليمين أيمانًا فهو مشهورٌ عند الخاصة والعامة قبل ذلك العصر بل قبل الإسلام، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «مَنْ
_________
(1) مجموع الفتاوى (33/ 36) (35/ 243 – 244، 290)، الفتاوى الكبرى (3/ 298) (4/ 111، 140)، القواعد الكلية (ص 446)، قاعدة العقود (1/ 118)، إعلام الموقعين (4/ 464 وما بعدها)، القواعد والضوابط الفقهية عند شيخ الإسلام ابن تيمية في الأيمان والنذور (2/ 685).
(2) في الأصل: (لله)، والصواب ما أثبت، كما تقدم في (ص 18).

(1/42)


حلفَ بملة غير الإسلام فهو كما قال» (1)، والصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين يسمون هذه أيمانًا.
وأما تحليف الولاة أو غيرهم بها؛ فلا ريب أنَّ الصحابة لم يكونوا يحلِّفونَ أحدًا بطلاق ولا عتاق ولا ظهار ولا حرام ولا نذر مثل: الحلف بالمشي إلى مكة وصدقة المال وغير ذلك من الأيمان التي أحدث الحجاج ومن بعده تحليف الناس بها في البيعة، بل أحدث بعض قضاة الحنفية تحليفَ الناس أيمانَ الحكمِ بالطلاقِ مع أنَّ هذه بدعةٌ لم تُعْرَف عن أحد من السلف ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وذكر ابن عبد البر إجماعَ العلماء على أنه ليس للحاكم أن يحلف الناس إلا باسم الله (2).
بل النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفاؤه الراشدون لم يكونوا عند المبايعة يَحلِفون يمينًا أصلًا، بل كانت المبايعة عقدًا (3) من العقود، فيقال: بايعناك على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأَثَرَةٍ علينا، وأن لا نُنَازعَ الأمرَ أهله. أو يقول: أو نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم (4)، أو بايعناك على
_________
(1) أخرجه البخاري (1363) من حديث ثابت بن الضحاك – رضي الله عنه – ولفظه: «من حلف بملةٍ غير الإسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال … ».
(2) الاستذكار (15/ 95) قال: (لا ينبغي لأحدٍ أَنْ يَحلف بغير الله … لإجماع العلماء أنَّ مَنْ وجبَ له يمينٌ على آخر في حَقٍّ قِبَلَهُ أنه لا يَحلف له إلا بالله، ولو حلفَ له بالنجم والسماء والطارق وقال: نويتُ ربَّ ذلك= لم يكن يمينًا عندهم).
(3) في الأصل: (عقدٌ)، والجادة ما هو مثبت.
(4) أخرجه البخاري (7199)، ومسلم (1709) من حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه -.

(1/43)


أن لا نَفِرَّ (1)، بايعناك على الموت (2). كما يقال: عاهدناك وعاقدناك.
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يبايع الناس ويبايعونه، وذلك معاهدة ومعاقدة، وهي عقودٌ لازمة تنعقدُ بأيِّ لفظٍ دَلَّ على المقصود كسائر العقود، وهذه يجب الوفاء بها وإن لم يكن فيها حلف بالتزام ما يُكره لزومه، وقد تسمى يمينًا ــ أيضًا ــ، وما وجب الوفاء به من العقود مع الحلف بالأيمان التي يلتزم فيها ما يكره لزومه عند الحنث وجب الوفاء به [14/ ب] بدون ذلك، وما لم يجب الوفاء به بدون هذه الأيمان لم تكن اليمين موجبة لما لم يكن واجبًا، ولكنها تؤكد الواجب؛ فلما كان الناس على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه يوفون بعقد المبايعة بلا إقسام، كانوا يبايعون بيعة مطلقةً (3)، ثم لما حَدَثَ غَدْرُ الناس ونكثهم لبيعة أئمتهم وحدث ظلم الأئمة لهم صاروا يُغلِّظون مبايعتهم بالإقسام باسم الله، وتارة يَضُمُّونَ إلى ذلك ما يحلف به من أيمان المسلمين أو بعض ذلك.
ومن المعلوم أنَّ هذا التغليظ لا يُغَيِّرُ حكمَ الله ورسوله؛ بل ما أوجبه الله من طاعة ولاة الأمور (4) وحَرَّمَهُ من غِشِّهم والخروج عليهم= فهذا واجب ومحرم بدون البيعة، ومبايعتهم على ذلك مبايعة على ما هو واجب بدون المبايعة؛ كما أنَّ مبايعة الصحابة للرسول – صلى الله عليه وسلم – مبايعة على ما هو واجب عليهم بدون المبايعة، فإنَّ طاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – واجبة فيما يأمرهم به، بايعوه أولم يبايعوه، ولكن مبايعته التزام لأداء هذا الواجب بالشرع، كذلك المبايعة
_________
(4) أخرجه مسلم (1856) من حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنه -.
(4) أخرجه البخاري (2960)، ومسلم (1860) من حديث سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه -.
(1) في الأصل: (مطلقًا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) في الأصل زيادة: (من طاعتهم)، وبحذفها تكون العبارة أكثر استقامة.

(1/44)


الشرعية لولاة الأمور التزام لما أوجبه الله ــ تعالى ــ ورسوله لهم بالشرع، ليس في المبايعة لهم تغيير لما أمر الله به ورسوله (1).
ثم لما أحدث الناس أَنْ يُقْسِمُوا على ذلك ويحلفوا عليه كانت هذه الأيمان مُؤَكِّدَةً لما أوجبه الله ورسوله ليست مغيرة لشرع الله ورسوله؛ فالواجب بها واجب وإن لم يحلف الحالف بها، ومن حلف بها على فعل محرم أو ترك واجب لم يكن له أن يفي بموجبها؛ فالكفار والمنافقون (2) إذا حلَّفوا المسلم على أنَّه يعاونهم على الكفر بالله ومعصيته ومعصية رسوله
وتضييع فرائضه وتضييع حدوده=لم يكن له أَنْ يوفي بهذه الأيمان، ولهذا كان المنافقون الملاحدة الباطنية يحلِّفون الناس بالأيمان المغلظة على كتمان أسرارهم، مظهرين لهم أنهم من أهل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأنهم يدعون إلى الإيمان بالله ورسوله فيحلف لهم من يظنهم كذلك، ثم يتبيَّنُ له أنهم منافقون ملاحدة مبطنين الكفر بالله ورسوله وكتابه ودينه (3).
[و] (4) صار الفقهاء يختلفون في موجب هذه الأيمان؛ [15/ أ] منهم من يقول: لا يلزم منها شيء؛ لأنَّ الحالف إنما حلف لمن يعتقده مؤمنًا وليًّا لله من آل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يحلف لمنافقٍ ملحدٍ. ومنهم من يقول: بل هي
_________
(1 ) مجموع الفتاوى (27/ 425) (28/ 184 – 185) (29/ 346) (33/ 146)، الفتاوى الكبرى (3/ 265).
( 2) في الأصل: (والمنافقين)، والجادة ما أثبتُّ.
(3) قاعدة العقود (1/ 121).
(4) إضافة يقتضيها السياق.

(1/45)


أيمان لازمة؛ ثم يأمرون بتكفير ما يرون (1) تكفيره، وما لا كفارة له عندهم كالطلاق والعتاق يحتال له بالحيل التي ذكرها بعض من يراها أيمانًا (2) لازمة إما بخلع اليمين وإما بدور الطلاق وإما بنكاح التحليل، وأما من يقول أيمان المسلمين مكفرة فغاية هذه أن تكون عنده أيمانًا مكفَّرة.
والمقصود هنا: أنه ليس في تحليف مَنْ حَلَّفَ بذلك دليل على حكم شرعي أصلًا، ولكن من الناس من يقيم مذهبه بانتصاره ببعض الولاة الذين لا علم عندهم يفصلون به بين الناس فيما تنازعوا فيه، وقد يوهمونه أَنَّ أحد القولين يضاد مقصوده أو أنه يضره؛ وقد يكونون كاذبين في ذلك، ويكون
قولهم أعظم مناقضة لمقصوده وأضر عليه وهو لا يعرف ذلك، ومن الناس مَنْ يكونُ مَيلُهُ إلى أحد القولين لهواه وغرضه لا لأجل أنه الحق الذي بعث الله به رسوله وهذا كثيرٌ في الولاة والرعية، وقد تجتمع شهوة وشبهة وإذا كان ذلك في الولاة كان مثل هذا من أسباب خفاء الحق في بعض المسائل عند كثير من الناس أو أكثرهم؛ كما قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: (كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير؟! إذا تركت بدعة، قيل: تركت السنة) (3).
_________
(1) في الأصل: (يرو)، والصواب ما أثبتُّ.
(2) في الأصل: (أيمان)، والجادة ما أثبتُّ.
(1) أخرجه معمر بن راشد في جامعه (11/ 359)، وابن أبي شيبة في المصنف (38311)، والشاشي في مسنده (2/ 90)، والبيهقي في شعب الإيمان (9/ 212/ برقم 6552)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 654) ولفظه: (كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، وتتخذ سنة؛ فإنْ غيِّرت يومًا قيل: هذا منكر … )، وفي لفظ: ( … إذا غُيِّرَ منها شيءٌ قيل: غُيِّرَت السنة).

(1/46)


ولهذا كان بعض الناس قد يظلم بعض العلماء؛ كما ظلموا مالك بن أنس ــ رحمه الله تعالى ــ لما أفتى بأنَّ يمين المكره لا تنعقد، وضَرَبَهُ مَنْ ضَرَبَهُ بطريق الظلم ثلاثين سوطًا (1)، والشافعي ــ رحمه الله تعالى ــ ظلموه لما قَدِمُوا به على الرشيد (2)، وقد روي أنه قيل له لما قَدِمَ على الرشيد بغداد: لا تتكلم في مسألتين: إحداهما: مسألة الحلف بالطلاق قبل النكاح (3).
والشافعي في قوله وقول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين: أنَّ الطلاق المعلَّق على النكاح باطل، فإذا حلف به لم يلزم شيء، ومذهب طائفة من السلف من الصحابة والتابعين: أنه يلزم في الخصوص كقول مالك، وذهب آخرون [15/ ب] إلى أنه يلزم في العموم والخصوص كقول أبي حنيفة؛ فعلى هذا القول إذا قال في أيمان البيعة: وكل امرأةٍ أتزوجها فهي
_________
(1) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (القسم المتمم للتابعين ص 441)، والمِحَن لمحمد بن أحمد التميمي (ص 264 وما بعدها)، وترتيب المدارك (2/ 134)، والأنساب للسمعاني (1/ 174).
(2) آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص 85)، مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 111 وما بعدها)، مناقب الإمام الشافعي للآبري (ص 70)، توالي التأسيس (ص 127 وما بعدها).
(3) لم يذكر المسألة الثانية، ولعلها مسألة اتهامه بأنه مع العلويين ضد العباسيين.
أما ما يتعلق بقدوم الشافعي إلى بغداد ونهيه عن الكلام في مسألة الحلف بالطلاق قبل النكاح؛ فلم أجد من ذكرها غير المجيب هنا، وابن القيم في إعلام الموقعين (5/ 541)، وقول الشافعي في المسألة ذكره ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ولم يُشر إلى امتحان الإمام بسببها، ولعل هذا يعود لما ذكره ابن أبي حاتم في (ص 91) ــ وكذلك غيره ــ إلى: أنَّ الحكايات المذكورة في محنة الشافعي كثيرةٌ مضطربة.
وسيشير ابن تيمية إلى قصة مالك والشافعي مرةً أخرى في (ص 296).

(1/47)


طالق= طلقت كل امرأة يتزوجها.
وأبو حنيفة ــ – رحمه الله – ــ وطائفة يقولون: يمين المكره منعقدة؛ فتبقى هذه اليمين لازمة وإنْ كانَ صاحبها مكرهًا، وأما مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء ــ رحمهم الله تعالى ــ فلا تَطْلُق عندهم كل امرأة يتزوجها لوجهين: أحدهما: لقوله: كل امرأة أتزوجها فهي طالق. والثاني: كونه مكرهًا؛ ويمين المكره لا تنعقد.
ومع هذا؛ فلم يكن في تحليف من حلف بها دليل شرعي على لزوم المعلَّق، وكذلك لم يكن في الإكراه على الأيمان في البيعة وغيرها دليل شرعي على انعقاد يمين المكره؛ فالاستدلال بتحليف مَنْ حَلَّفَ بأيمان الطلاق على أنهم لولا لزومه لهم لم يمتنعوا منه ولم يحلفوهم = حجةُ جاهلٍ بالأدلة الشرعية؛ كما لو استدل بمثل ذلك على لزوم النذر للحالف بالنذر، وعلى لزوم الطلاق المعلق بالملك لتحليف مَنْ حَلَّفَ به، والاستدلال على انعقاد يمين المكره لتحليف من حلف به، وكذلك الاستدلال بامتناع الممتنع من الحلف بأنه قد يمتنع من ذلك خوفًا أن يلزموه بطلاق امرأته إذا حنث وإنْ كان لا يعتقد ذلك، وقد يمتنع لاعتقاده لزوم الطلاق كما يعتقد لزوم ما علقه من النذر.
وليس اعتقاد طائفة من المسلمين حجة شرعية يجب [أن] (1) ترد إليها الأحكام الشرعية، لاسيما والنزاع في مثل هذه المسائل غير مدفوع؛ فإنَّ أبا حنيفة مثلاً يقول: يمين المكره منعقدة، ويقول: إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، وكل عبد أملكه فهو حر= طلقت كل من تزوجها، وعَتَقَ كل من
_________
(1) كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ.

(1/48)


يملكه، ويقول بلزوم النذر المحلوف به في المشهور عنه والطلاق والعتاق، وأكثر العلماء ينازعونه في ذلك.
ومن رأى لزوم الأيمان وصعوبة ذلك احتاج إلى الاحتيال لمن يُبْتَلَى بذلك، فصنف محمد بن الحسن وغيره كتاب (الحيل) في هذا الباب وغيره (1)،
واحتجوا بقصة أيوب ــ عليه السلام ــ (2)، بل صَدَّرُوا بها كتبهم، وهذه الحجة تروى عن بعض التابعين وأظنها مروية عن عطاء (3)، وفهموا من الآية أن الله
_________
(1) طبع كتاب محمد بن الحسن بعنوان (المخارج في الحيل) بمكتبة الثقافة الدينية عام 1419. وقد شكك بعضهم في صحة نسبة الكتاب لمحمد بن الحسن. انظر: المبسوط للسرخسي (30/ 209). وللمؤلفات في الحيل انظر: معجم الموضوعات المطروقة (1/ 712)، ومقدمة تحقيق د. سليمان العمير لكتاب (الحيل) لابن بطة.
وقد تكلم ابن تيمية في مواضع كثيرة عن الحيل وأنواعها وأحكامها؛ بل صنف في ذلك مصنفه الجليل (بيان الدليل على بطلان التحليل)، انظر منه (ص 137 – 142).
وقال – رحمه الله – في القواعد الكلية (ص 258): (ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين:
إما ذنوب جوزوا عليها تضييقًا في أمورهم، ولم يستطيعوا دفعها إلا بالحيل، فلم تزدهم الحيل إلا بلاءً … وهذا الذنب ذنبٌ عمليٌ.

وإما مبالغةٌ في التشديد لِمَا اعتقدوه من تحريم الشارع، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل؛ وهذا من خطأ الاجتهاد). انظر ما سيأتي (ص 179 – 181).

(2) أشار لها الله سبحانه وتعالى في سورة (ص) عند قوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [آية: 44].
(3) روى سعيد بن منصور في التفسير (7/ 186/ ح 1847) ــ ومن طريقه حرب في مسائله (1/ 457) ــ قال: حدثنا أبو معاوية، قال: ثنا عبد الواحد بن أيمن، عن عطاء قال: أتاه رجل فقال: إني حلفت ألا أكسوا امرأتي درعًا حتى تقف بعرفة. فقال عطاء: احملها على حمار، ثم اذهب بها فقف بها عرفة. فقال: إني إنما عنيت يوم عرفة. فقال له عطاء: وأيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة نوى أن يضربها بالضغث؟! إنما أمره الله أن يأخذ ضغثًا فيضربها، ثم قال عطاء: إنما القرآن عبر، إنما القرآن عبر.

وأخرجه البيهقي في السنن الكبير (20/ 168) من طريق وكيع، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن عطاء به نحوه.

(1/49)


[16/ أ] احتال لأيوب في يمينه، ونازعهم أكثر العلماء في ذلك؛ فمنهم من قال: تلك خاصة لأيوب، لأنَّ الله وجده صابرًا، ومنهم مَنْ قال: هذا شرع من قبلنا فلا يكون شرعًا لنا إلا بدليل خاص، وشرعنا قد جاء في الضرب الواجب بالتفريق، ومنهم مَنْ قال: لا حيلة في ذلك، بل لم يكن في شرعهم كفارة، وكانت اليمين توجب المحلوف عليه في شرعهم فخفف الواجب بالنذر، كما خفف الواجب بالشرع في ضرب الزاني فإنه يجب تفريق الضرب، وإذا كان مريضًا يخاف عليه من الضرب المفرق جُمِعَ عليه الضرب كما جاءت به السنة (1)، لم نَقُل ذلك في كل مريض يُخَافُ عليه، ونُقِلَ في المريض الذي
_________
(1) أخرج الإمام أحمد في مسنده (36/ 263)، والنسائي في سننه الكبرى (7268)، وابن ماجه (2574)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/ 74)، والطبراني في المعجم الكبير (6/ 63) وغيرهم من حديث سعيد بن سعد بن عبادة قال: كان بين أبياتنا إنسان مخدَّج ضعيفٌ، لم يرع أهل الدار إلا وهو على أَمَةٍ من إماء الدار يخبُث بها، وكان مسلمًا، فَرَفَعَ شأنه سعد إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: «اضربوه حَدَّهُ» قالوا: يا رسول الله، إنه أضعف من ذلك، إِنْ ضربناه مائة قتلناه. قال: «فخذوا له عِثْكَالًا فيه مائة شمراخ، فاضربوه به ضربة واحدة، وخلُّوا سبيله».
وقد أطال النفس النسائي في سننه الكبرى في سياق أسانيد هذا الحديث وبيان الاختلافات الواردة فيه (6/ 470 – 475) وقال: أجودها حديث أبي أمامة مرسل. وضعف البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 312 – 313) إسناد هذا الحديث لعنعنة ابن إسحاق.
انظر: البدر المنير (8/ 624)، تخريج أحاديث الكشاف (3/ 193)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 1215/ ح 2986).

(1/50)


أيس من برئه (1)، وهما وجهان في مذهب أحمد (2).
وأنكر أكثر العلماء ما قاله أولئك في حيل الأيمان، وكانت الأيمان عند الجمهور لا تحتاج إلى الحيل التي احتاج إليها أولئك، لأنَّ يمين المكره لا تنعقد عند أكثرهم، وكذلك الحلف بالنذر يمين مكفرة عند الأكثرين إلا مالكًا؛ فمنْ طَرَدَ الدليل والقياس في الحلف بالطلاق والعتاق سَلِمَ من التناقض، وكان قوله متضمنًا إظهار محاسن الإسلام التي بعث بها خير الأنام، ومن تناقض قوله لم يكن ذلك قادحًا في حُسْنِ ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وسلامته من التناقض.
* * * *
_________
(1) في الأصل: (برؤه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) بيان التحليل (ص 308 – 313).

(1/51)


فصلٌ
قال المعترض:
(السادس عشر: ما رواه البيهقي في كتاب (دلائل النبوة) في الجزء السادس بإسناده إلى الواقدي، ثم قال: وذكر موسى بن عقبة في المغازي هذه القصة بمعنى ما رويناه إلا أنه ذكر في قصة الكنز أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سأل كنانة بن الربيع بن أبي الحُقيق عن ذلك، وسأل مع كنانة حيي بن الربيع بن أبي الحقيق فقالا: أنفقناه في الحرب، ولم يبق منه شيء. وحَلَفَا له على ذلك. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «برئت منكما ذمة الله وذمة رسوله إنْ كان عندكما» أو قال نحوًا من هذا القول. فقالا: نعم؛ فأشهد عليهما، ثم أمر الزبير بن العوام أنْ يُعَذِّبَ [16/ ب] كنانةَ فعذَّبَهُ حتى خافه فلم يعترف بشيء (1).
وفي رواية الواقدي في مصالحته يهود: فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «وبرئت منكما ذمة الله وذمة رسوله إنْ كتمتموني شيئًا» فصالحوه (2).
ورواه البيهقي من طريق آخر قال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو جعفر البغدادي قال: [حدثنا علاثة] (3)، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة،
_________
(1) دلائل النبوة (4/ 233).
(2) أخرجه الواقدي في مغازيه (2/ 671) ــ ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (4/ 226) ـــ عن جماعةٍ من شيوخه.
وأخرجه ابن شبةَ في تاريخ المدينة (2/ 464) من مراسيل ابن شهاب.
وقال ابن تيمية في الصارم المسلول (2/ 155) عن رواية الواقدي لقصة كعب بن الأشرف: وما ذكره الواقدي عن أشياخه يوضح ذلك ويؤيده، وإنْ كان الواقدي لا يُحتجُّ به إذا انفرد، لكن لا ريب في علمه بالمغازي، واستعلام كثيرٍ من تفاصيلها من جهته ….
(3) زيادة من «التحقيق» ودلائل النبوة.

(1/52)


حدثنا أبو الأسود، عن عروة بن الزبير: ثم إنَّ المسلمين حاصروا اليهود أشدَّ الحصار، فلمَّا رأوا ذلك سألوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الأَمَنَةَ على دمائهم ويتبرؤون (1) له من خيبر وأرضها وما كان لهم من مال، فقاضاهم على الصفراء والبيضاء ــ وهو: الدينار والدرهم ــ وعلى الحلقة ــ وهي: الأداة ــ وعلى البَزِّ إلا ثوبًا على ظهر إنسان، وبرئت ذمة الله منكم إن كتمتم شيئًا، ثم ذكر بقيته إلى أنْ قال: [ثم إن] (2) رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمر الزبير فدفع كنانة بن أبي الحقيق إلى محمد بن مسلمة فقتله (3).
فهذه القصة تضمنت التعليق المقصود به المنع من الكتمان، ولما كتموا ترتب عليه مشروطه وهو براءة ذمة الله وذمة رسوله، لأمره – صلى الله عليه وسلم – بقتل كنانة بن أبي الحقيق، وكذلك القصة الأولى تضمنت تعليقًا مقصودًا به التصديق.
فإنْ قلتَ: القتلُ لم يكن بمقتضى الشرط، وإنما كان لأنَّ المصالحة وقعت على الوفاء بالشرط، فلمَّا لم يفوا به رجعوا إلى الأصل الذي كانوا عليه وهو الحرابة.
قلتُ: ابن تيمية يَدَّعِي أَنَّ الشرط متى لم يكن مقصودًا في نفسه، وَقُصِدَ به حث أو منع أو تصديق أو تكذيب لم يترتب عليه إلا الكفارة وهذه القصة ترد عليه، والله أعلم) (4).
_________
(1) كلمة لم أستطع قراءتها، وتحتمل ما أثبتُّ، وهي كذلك في «التحقيق» وفوقها حرف (ظ)، وفي الدلائل: (ويبرزون).
(2) في الأصل: (فدفع)، والمثبت من دلائل النبوة.
(3) دلائل النبوة (4/ 231).
(4) «التحقيق» (33/ أ)، وهو الوجه الثامن.

(1/53)


والجواب بعد النزول عن المطالبة بصحة الحديث: بأنه ليس فيه حجة على محل النزاع؛ فلهذا لم نحتجْ إلى المطالبة بصحته؛ وذلك أَنَّ قولَهُ: «برئت منكم ذمة الله إن كان عندكما شيء»، وقوله (1): «برئت ذمة الله منكم إن كتمتم شيئًا» ليس من الأيمان المعقودة، بل هو من جنس تعليق فسخِ العقود على الشروط، كقول المشتري: إِنْ جئتك بالثمن إلى وقت كذا وإلا فلا بيع بيننا، وسواء كان هذا الشرط صحيحًا أو فاسدًا، فإنَّ في ذلك نزاعًا بين العلماء، وأكثرهم على أنه شرط صحيح، وذلك منقول عن [17/ أ] ابن عباس – رضي الله عنهما -، ومثل قول أحد الشريكين للآخر: إِنْ خالفتَ شرطي فلا شركةَ بيننا أو فقد فسخت الشركة، وقول الوكيل لوكيله: إِنْ لم تفعل كذا فقد عزلتك عن الوكالة؛ فالنبي – صلى الله عليه وسلم – عَلَّقَ براءته من الذمة التي بينه وبينهم على كتمان شيء.
وكذلك في شروط عمر – رضي الله عنه – على النصارى (2) شَرَطَ مثل هذا، فقال: إِنْ خالفتم شيئًا مما شرطناه عليكم فقد حَلَّ لنا منكم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق (3)، وليس هذا وأمثاله من جنس الأيمان التي فرض الله
_________
(1) في الأصل: (فقوله)، والصواب ما أثبت.
(2) وضع الناسخ (على) في الهامش وكتب فوقها (صح) وهذا هو الصواب؛ وبناءً عليه قمتُ بتعديل (للنصارى) إلى (النصارى) ليستقيم الكلام.
(3) أخرجه الخلال في جامعه (2/ 431/ رقم 1003)، والبيهقي في السنن الكبير (19/ 66/ ح 18751) وغيرهما.
وقد أطال في ذكر طرقه ابن كثير في مسند الفاروق (2/ 334 – 338) نقلاً عن ابن زبر في جزءٍ له جمعه في الشروط العمرية. ثم قال: فهذه طرقٌ يشد بعضها بعضًا، وقد ذكرنا شواهد هذه الشروط، وتكلمنا عليها مفردة، ولله الحمد.
وقد طُبع جزء ابن زَبر الرَّبَعِي عدة طبعات أجودها بتحقيق الشيخ أنس بن عبد الرحمن العقيل ضمن لقاءات العشر الأواخر عام (1427)، كما طبع للدقاق جزء فيه شروط عمر بن الخطاب على النصارى بتحقيق الشيخ نظام محمد يعقوبي ضمن لقاءات العشر الأواخر عام (1422).

قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 365): (وهذه الشروط أشهر شيءٍ في كتب الفقه والعلم، وهي مجمعٌ عليها في الجملة بين العلماء المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة).
وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (3/ 1164): (إنَّ الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بها).
وانظر: مجموع الفتاوى (28/ 652).

(1/54)


تحلتها عند أحد من العقلاء، وقد تقدم نظير هذا.
ومن العجب: أنَّ القول المعروف بأن مثل هذا المعترض وأمثاله يتقلدونه هو مخالف للنصوص التي يحتجون بها (1)، ويحتجون بتلك النصوص حيث لا تكون حجة لهم، فيتضمن قولهم أنهم يخالفون النصوص فيما دلت عليه، ويحتجون بها فيما لم تدل عليه؛ كما احتج بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة» رواه البخاري (2)، وهذا حديث صحيح يخالفونه فيما دلت عليه وفي نظائره، ويحتج به المعترض فيما لم يدل عليه؛ بل فيما دلت النصوص على نقيضه، فإن النصوص دلت على تكفير أيمان المسلمين، فإذا احتج به على أنه لا كفارة في بعضها كان ذلك تركًا للنصوص في الموضعين، واستدلالًا
_________
(1) كذا في الأصل، والعبارة فيها قلق، والمعنى واضح.
(2) أخرجه البخاري برقم (4261) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – ولفظه: «إنْ قُتِلَ زيدٌ فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة».

(1/55)


بالنصوص فيما لم تدل عليه، وهذا غاية ما يكون من تحريف الكلم عن مواضعه ولبس الحق بالباطل، وإن كان صاحبه المتأوِّل معه مغفورًا له خطؤه، وهو مأجور على ما فعله من الحق.
وكذلك هذا الحديث هو وشروط عمر – رضي الله عنه – تدل على أن أهل العهد إذا خالفوا العهد بترك شيء مما شُرِطَ عليهم = انتقض عهدهم وحَلَّت دماؤهم وأموالهم، لا سيما مع بيان ذلك بقوله: «وبرئت منكم ذمة الله إن كتمتم شيئًا» مع أن كثيرًا منهم ينازع في هذا.
وقد أورد على نفسه سؤالًا صحيحًا، وأجاب عنه بجواب كذب! فقال:
(فإنْ قلتَ: القتل لم يكن بمقتضى الشرط، وإنما كان لأن المصالحة وقعت على الوفاء بالشرط، فلما لم يَفُوا به رجعوا إلى الأصل الذي كانوا عليه؛ وهو الحرابة.
قلت: ابن تيمية يَدَّعي أنَّ [17/ ب] الشرط متى لم يكن مقصودًا في نفسه، وَقُصِدَ به حث أو منع أو تصديق أو تكذيب لم يترتب عليه إلا الكفارة؛ وهذه القصة ترد عليه).
فيقال له: هذا غلطٌ مقطوعٌ بغلط صاحبه على ابن تيمية؛ [إذ لم يقل] (1) هذا قط! بل ولا خَطَرَ هذا بقلبه، ولا قال هذا أحد من الناس قبله، ولا يقول هذا عاقل! وكلام ابن تيمية وكتبه الكثيرة المصنفة في الأيمان والطلاق كلها تُصَرِّحُ بنقيض هذا القول تصريحًا لا يحتمل النقيض.
وهذا من جنس كذب مَنْ يقول: ابن تيمية يفتي بالكفارة في كل طلاق
_________
(1) إضافة يقتضيها السياق.

(1/56)


معلَّق لأنَّ هذا حالف، أو يفتي به في كل طلاق لأنَّ المطلق حالف؛ وابن تيمية إنما قال ذلك فيمن حلف يمينًا سواء كانت بصيغة القسم أو بصيغة التعليق (1).
والتعليق الذي يُقْصَدُ به القسم تسميه الناس كلهم يمينًا، والصحابة – رضي الله عنهم – سموه يمينًا، وأفتوا فيه بكفارة يمين، وروي عن بعضهم رواية أخرى أنهم ألزموا بموجَبه، وجمهور التابعين بعدهم يسمون هذا التعليق يمينًا، وأكثرهم أفتوا في جنس هذا التعليق بكفارة، ومنهم مَنْ خَصَّصَ، لكنَّ اسم اليمين لم يتنازعوا فيه.
وابن تيمية سماه يمينًا كما سماه هؤلاء يمينًا، وأدخل في اليمين المذكورة في القرآن هذا التعليق الذي يقصد به اليمين كما أدخله الصحابة في القرآن، ولم يُفَرِّق بين تعليق وتعليق إذا كان كلاهما يُقْصَدُ به اليمين، والصحابة – رضي الله عنهم – لم يعرف عن أحد منهم أنه فَرَّقَ بين تعليق وتعليق، وكذلك كثيرٌ من التابعين ومن بعدهم لم يُعْرَف عنه الفرق، بل منهم مَنْ عُرِفَ منه طردُ الأصل الذي دَلَّ عليه القرآن، ومنهم مَنْ عُرِفَ أصله ولم يعرف تناقضه، ومنهم من تناقض؛ وكذلك مَنْ بعدهم.
ومعلومٌ أن هؤلاء لم يجعل أحدٌ منهم كُلَّ شرطٍ لم يقصد وقصد به حث أو منع يمينًا، بل هم وسائر الأمم يعلمون أنَّ الشرط الذي لم يقصد وقصد به حث أو منع إذا كان المعلق به وعيدًا كان جنسًا آخر غير اليمين، بل غالب (2) ما يستعمل الفقهاء لفظ الحث والمنع فيما يخص اليمين، وما سوى ذلك يسمى أمرًا ونهيًا وشرطًا وعقدًا، كما يقال: شَرط عليهم ألا يكتموا شيئًا [18/ أ] وقال:
_________
(1) قاعدة العقود (1/ 298 وما بعدها)، القواعد الكلية (ص 455).
(2) في الأصل: (غاية)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/57)


«إن كتمتموني شيئًا برئت منكم الذمة» ومثل هذا لا يدخل في قول الفقهاء: إذا حلف يمينًا يقصد بها حضًا أو منعًا، فإنه لا يسمى يمينًا بحال، وهم لا يُدخلون هذا في لفظ الحض والمنع الذي يستعملونه (1) في الأيمان، وإنْ كان يسمى في اللغة منعًا؛ فإنَّ هذا مَنْعٌ دخل بين اثنين فصار له اسم يخصه.
وإنْ كان المعلَّق به دعاءً على الغير لم يكن يمينًا؛ كما يقول الإنسان لغيره: إنْ ظلمتني فالله ينتقم منك، وإن لم تعطني حقي فالله يأخذ حقي منك ونحو ذلك؛ فإنَّ هذا شرط ليس مقصودًا في نفسه، ومقصوده أَنْ يعطيه حقه وليس يمينًا، بخلاف ما لو كان الدعاء على نفسه كقوله: إنْ لم أعطك حقك يقطع الله يدي ورجلي؛ فهذا يمين سواء كانت مُكفَّرة أو غير مُكفَّرة.
وكذلك ألفاظ الوعيد كقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} [الأنفال: 19] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]، ولم يقل أحدٌ أَنَّ هذا يمين.
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «لا نصرني الله إنْ لم أنصر بني بكر» (2)
يمين، وكذلك قول القائل: إِنْ لم أفعل كذا، وإن فعلت كذا فكل مملوك لي حرٌّ وكل امرأة لي طالق وعليَّ ثلاثون حجة ومالي صدقة= يمينٌ.
_________
(1) في الأصل: (يستعملوه)، والجادة ما أثبت.
(2) لم أجده بهذا اللفظ.
وأخرجه أبو يعلى في مسنده (7/ 343)، والفاكهي في فوائده برقم (230) من حديث عائشة – رضي الله عنها – بلفظ: «لا نصرني الله إِنْ لم أنصر بني كعب».

قال الهيثمي في المجمع (6/ 162): رواه أبو يعلى عن حزام بن هشام بن حبيش، عن أبيه، عنها؛ وقد وثقهما ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح.

(1/58)


وإذا قال: إِنْ خالفتِ أمري أو عصيتني أو فعلتِ ما نهيتُكِ عنه فأنت طالق ــ وقصدُهُ أَنْ يقعَ الطلاقُ إذا فعلت ذلك ــ فهذا مُطَلِّقٌ عند الصفة طلاقًا مقيدًا موصوفًا بتلك الصفة ليس هذا بحالف، ولو قال: الطلاق يلزمني لا تفعلي كذا وكذا أو إِنْ فعلتيه فأنت طالق، وهو يكره وقوع الطلاق وإِنْ فَعَلَتْهُ كما يكره طلاق نسائه وعتق عبيده وخروجه من ماله وبراءته من دين الإسلام، وإنما عَلَّقَ ذلك المكروه لاعتقاده أَنَّهُ إذا حلفَ عليها تَبَرُّ قَسَمَهُ إما إكرامًا له وإما خوفًا من ضررٍ يلحقه بتحنيثه يمينَه أو طلاقها = فهذا حالف.
والحالف يحلف وهو يعتقد أَنَّ المحلوف عليه يَبَرُّ قسمه، ولو اعتقد أنه يحنثه لم يحلف إذا اعتقد أنه يلزمه ذلك المكروه؛ فالحالف باللوازم التي يكره لزومها إذا اعتقد أنها تلزمه لم يحلف إلا إذا اعتقد أنه لا يحنث، لا يقع في العادة أن يعلم أن تلك المكروهات التي لا يريدها تلزمه إذا حنث ويعلم أنه يحنث وهو مع ذلك [18/ ب] يحلف، فإنَّ هذا يستلزم أن يكون غير مريد لِأَنْ يقع بحال، ويفعل ما يعلم أنه مستلزم لوقوعها، وإرادةُ الملزومِ إرادةٌ للازم، فيلزم أن يكون غير مريد وهو مريد، وهذا لا يفعله إلا من يكون مكرهًا على اليمين، وكثيرًا ما يعتقد الحالف أنه لا يحنث ثم يحنث.
وأما إذا اعتقد أنه لا بُدَّ أَنْ يحنث وحلف؛ فهذا يكون ممن يرى في الحنث مخرجًا، أو أَنْ يُقَدِّرَ في نفسِهِ أنه إذا حنث لزمه ذلك الأمر الذي لم يرده البتة، ولكن حصل بغير إرادته فيحتمله كما يحتمل المكرَه ما يُكرَه عليه من العقاب الحاصل بغير إرادته، وإِنْ علم أَنَّ مقصوده لا يحصل بدونه.
وأما المعلِّق الذي يقصد الإيقاع فهو يريده إذا وجد الشرط ويعلقه به مع علمه بأنَّ الشرط يكون، بل إذا علم وجود الشرط كان أدعى له إلى الإيقاع،

(1/59)


وقد يُعَلِّقُ الطلاق بفعلها ظنًّا أنها لا تختار الطلاق، سواء كان الشرط مقصودًا أو غير مقصود، كما يقول لها: إِنْ أبرأتني من صداقك فأنت طالق، وهو يظن أنها لا تبرئه ولا تختار طلاقه، ولو عَلِمَ ذلك لم يقل لها ذلك، لكن يقول ذلك ليريها أنه ليس براغب فيها إذا فعلت ذلك مع أنه راغب فيها؛ فهذا في وقوع الطلاق به نزاع.
وكذلك لو اعتقد أنها فعلت أمرًا نهاها عنه فقال: هي طالق، ثم تبين له أنها لم تفعله؛ ففي وقوع الطلاق به قولان معروفان، والأظهر: أنه لا يقع؛ كما قد بسط في موضع آخر (1).
والمقصود هنا: أنَّ التعليق الذي يَقصد به يمينًا ــ حضًّا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا ــ يسميها الصحابة والتابعون وعامة العلماء وأهل الإسلام يمينًا، ولا يسمون ما ذكره من تعليق فسخ العقود يمينًا كقوله: «برئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتم شيئًا» (2).
ومن الفقهاء مَنْ يسمي كل تعليق للطلاق يُقصد به حضٌّ أو منعٌ يمينًا، أو كُلَّ تعليقٍ للطلاق يمينًا، ولا يسمون هذه التعليقات يمينًا وإِنْ كان فيها حضٌّ أو منعٌ= لكن هذان عرفان حادثان، وهؤلاء عمموا الاسم دون الحكم.
ولم يُعْرَف تسمية ذلك يمينًا عن الصحابة بل ولا عن التابعين لكونهم كانوا أحدث علمًا باللغة [19/ أ] التي نزل بها القرآن، وكانوا أعرف بمعنى اليمين المعقول والفرق بينه وبين غيره؛ ولهذا كان جمهورهم على التكفير
_________
(1) مجموع الفتاوى (19/ 210)، (32/ 86)، (33/ 210 – 215 مهم)، الفتاوى الكبرى (3/ 209)، منهاج السنة (5/ 90).
(2) تقدم تخريجه في (ص 52).

(1/60)


فيما يظهر فيه معنى اليمين كالحلف بالنذر، فإنَّ الشرط هناك إذا لم يكن مقصودًا لم يكن الجزاء مقصودًا ــ أيضًا ــ من الأمر العام، بخلاف الطلاق فإنه قد يكون الشرط فيه غير مقصود والجزاء فيه مقصود؛ فلما رأوا في تعليق الطلاق الذي يقصد به الحض والمنع ما يقصد به الطلاق كثيرًا بخلاف تعليق النذر = كان هذا مما أوجب إفتاءهم في كثيرٍ من تعليق الطلاق الذي يقصد به الحض والمنع بالوقوع.
ثم منهم مَنْ فَرَّقَ بين قصد اليمين وغيره طردًا للأصل وتسويةً بين المتماثلين، ومنهم من لم يُفَرِّق لاشتباه أحد النوعين بالآخر، ونظرًا إلى قصد الحض والمنع في تعليق الطلاق ليس موجب كونه يمينًا العادة المعروفة، بل قد يَقْصِدُ ذلك ولا يكون يمينًا، لا سيما حيث كانوا لا يحلفون بالطلاق أو لا يكاد يُحلف به إلا نادرًا (1)؛ فكان المعتاد منهم أَنَّ تعليق الطلاق مع قصد الحض والمنع ليس بيمين بل تطليق، ثم صار الناس يعلقونه تعليق يمين كما يعلقون النذر وغيره فيكونون ممتنعين من إيقاعه ووقوعه عند الصفة، وإنما علقوه مع ذلك لئلا يقع الشرط فقط لا ليقع الطلاق بحال سواء وقع الشرط أو لم يقع، بل هم ممتنعون من إيقاعه على التقديرين، وهؤلاء كارهون للشرط كارهون للجزاء وإِنْ وجدَ الشرط.
والحالف لا يكون حالفًا إلا بهذين الشرطين: بكراهة الجزاء، مع قصد الحض والمنع، لا أَنَّ مجردَ الحض والمنع يصير به وحده حالفًا.
وكذلك قصد التصديق والتكذيب لا بُدَّ أن يكون معه كارهًا للزوم ما
_________
(1) كتب الناسخ في الحاشية (في النادر) وبعدها (صح) وفوقها حرف (خ) إشارةً إلى وجودها في نسخة أخرى.

(1/61)


عَلَّقَهُ من الطلاق سواء [أكان] (1) خبره مطابقًا أو غير مطابقٍ، وأما إذا قصد وقوع الطلاق عند مطابقة الخبر، فهذا ليس بحالف في الحقيقة وإِنْ أظهرَ أنه حالف، بل هذا يقع به الطلاق؛ فلو قال: ما فعلتُ كذا وإن كنتُ فعلته [فامرأتي طالق] (2)، أو الطلاق يلزمني ما فعلته وهو يعلم أنه فعله، وقصده أن يوقع الطلاق بها وأظهر ذلك في صورة اليمين ليكون [19/ ب] ذلك عذرًا له عند مَنْ يلومه على الطلاق فيقول: أنا قصدت أن أبرئ نفسي فحلفت لها= فهذا يقع به الطلاق.
وأما الذي يقصد اليمين فلا يكون إلا كارهًا للزوم الجزاء المعلَّق وإِنْ وجد الشرط، فهو وإِنْ حَلَفَ يمينًا غموسًا فقال: ما فعلتُ وإِنْ كنتُ فعلتُهُ فامرأتي طالق، فهو لا يريد أَنْ يطلقها وإِنْ كان فَعَلَهُ (3)، بل أظهر هذا اللزوم ليظهر للناس أنه صادق حيث إِنَّه (4) جعل كذبه ملزوم الطلاق، وهم يعلمون أنه لم يقصد الطلاق وأنه (5) لم يرده وإن كان كاذبًا، لكن جَعَلَهُ لازمًا له على تقدير الكذب نافيًا للكذب، لا على تقدير الكذب مثبتًا للكذب، فَجَعَلَهُ لازمًا للكذب الذي نفاه، ومع نفي اللزوم لا يكون مثبتًا للازم قاصدًا لوقوعه مع ثبوت الملزوم، فإنه مع ثبوت كذبه لم يقصد وقوع الطلاق وإن جعله لازمًا له مع نفيه للملزوم.
_________
(1) إضافة يقتضيها السياق.
(2) إضافة يقتضيها السياق.
(3) في الأصل: (وإن كانت فعلته)، والسياق يقتضي ما أثبت.
(4) في الأصل: (إن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(5) في الأصل: (وإن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/62)


وأيضًا؛ فالحض والمنع إذا دخل في عقد آخر غير عقد اليمين كان له اسم آخر، مثل دخوله في العقد بين اثنين مثل: عقد النكاح والبيع والإجارة؛ فإنه تضمن أن كلًا منهما يطلب من الآخر مقصوده ولا يسمي الفقهاء هذا حضًّا، وتضمن أَنَّ كلًا منهما يمنع الآخر عن خلاف موجَب العقد ولا يسمون هذا منعًا، بل لفظ الحض والمنع يَخُصُّونَهُ بالطلب المؤكد بالقسم.
فإنَّ لفظ الحث يتضمن نوع تأكيد للطلب والاقتضاء، فلا يستعمل هذا غالبًا في مطلق الطلب، بل في الطلب المؤكد، كما يقال: حَضَّهُ وحَرَّضَهُ، فإذا قُرِنَ بهذا المنع أرادوا به المنع المؤكد بالقسم؛ ففيهما معنى الأمر والنهي، لكن أمر مؤكد بالقسم ونهي مؤكَّد بالقسم (1).
فصار لفظ اليمين ولفظ الحض والمنع يقتضي تخصيص ذلك بالمؤكد، والمؤكد هو الذي يُعلِّقُ به ما يكره لزومه له وإن وجد الشرط، فإنَّ ما كان كذلك كان التخصيص والمنع به أبلغ من جهة الحالف، فإنه إذا التزم عند المخالفة ما يكره لزومه له كان أشد امتناعًا منه، بخلاف ما إذا التزم ما لا يكره هو لزومه له، فإنه لا تكون كراهته له مثل كراهته لما يلتزم به ما يكره، كمن [20/ أ] نهى غيره عن فِعْلٍ وتوعَّدَهُ عليه بعقابه، فإنَّ العقاب ضررٌ يلحق بالمنهي الممنوع لا بالناهي المانع، بخلاف لزوم ما يكره عند الحنث فإنه ضرر يلحق بالمانع الحالف لا بالممنوع المحلوف عليه، لكن قد يضره من جهة أخرى كما يضر المرأة أنْ تُطَلَّق.
_________
(1) مجموع الفتاوى (33/ 232)، المستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 35)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 538)، اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 329).
وانظر: بدائع الفوائد (2/ 644 – 646).

(1/63)


ولكن الحلف بالطلاق لا يختص بمنع المرأة، بل قد يحلف به لمنع نفسه، وقد يحلف لمنع صديق له أجنبي، وبمنع ولده ومملوكه، ويحلف به لمنع امرأته؛ وغير المرأة لا يلحقها الطلاق فلا يتضرر بوقوعه، مع أنه قد يحلف عليه بالطلاق، كما قد يحلف عليه بصدقة ماله وتحريم الحلال عليه وغير ذلك مما لا يكون الضرر فيه بالحنث إلا على الحالف، وإنْ كان قد يلحق غيره ضررٌ آخر بالعرض، ولو لم يكن إلا مخالفة الحالف الذي يوجب أن يعاقبه على تحنيثه له.
* * * *

(1/64)


فصلٌ
قال المعترض:
(السابع عشر: لمَّا قالت بنو لَحْيَان لسرية عاصم بن ثابت: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلًا. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر (1).
وقول جُبير بن مُطْعِم لمولاه وحشي لما قَتَلَ حمزةُ طعيمةَ بنَ عدي بنِ الخيار ببدر: إِنْ قتلتَ حمزةَ بِعَمِّي فأنت حر، فقتل وحشيٌّ حمزةَ (2) عام عَينين ــ جبلٌ بحيالِ أُحُدٍ (3) ــ (4).
وجه الاستدلال من هاتين القصتين: أَنَّ المقصود بهذين التعليقين الحثُّ على تحصيل الشرط من القتل والنزول، فهو يشبه قوله: إِنْ لم يفعل كذا فأنت حر، فلو كان ذلك التعليق لا يترتب عليه الحرية (5) ولم يحصل مشروطه لكان هنا كذلك، لا يترتب عليه عتق وحشي ولا حصول الذمة لسرية عاصم، وهو خلاف ما فهموه منهم وفهمه كل أحد، وهم أهل اللسان وَصِحَابُهُ ــ أعني: سرية عاصم ــ فليس يخفى عنهم مدلول اللفظ لغة وشرعًا، وكذلك ما لا يحصى من
_________
(1) أخرجه البخاري (4086) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(2) من قوله: (طعيمة بن عدي) إلى هنا غير موجود في «التحقيق».
(3) في البخاري: (وعَينين جبل بحيال أُحُد، بينه وبينه وادٍ).
انظر: الأماكن للهمداني (ص 707)، معجم البلدان (4/ 173).
(4) أخرجه البخاري (4072) من حديث وحشي – رضي الله عنه -.
(5) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (الكفارة).

(1/65)


الشروط الواردة في الكتاب والسنة؛ والله أعلم) (1).
والجواب أن يقال:
أما قول جبير بن مطعم (2): إِنْ قتلتَ حمزة بعمي فأنت حر، فإيرادُ هذا في الاستدلال في هذا المكان في غاية الفساد وبُعد الذهن، فإنَّ هذا شرطٌ مقصودُ الوجود، وتقدم الكلام فيه غير مرة: أَنَّ الشرط إما أَنْ يكونَ يمينًا إذا كان غير مقصود فيكون منعًا منه.
وأَمَّا الحضُّ عليه [20/ ب] فلا بُدَّ أن يكون مع حرف النفي، فيقول: إنْ سافرتُ معكم فعبدي حر؛ فهنا مقصوده منع نفسه من السفر، ومراده ألا يسافر، وأما إذا قال: إِنْ لم أسافر معكم فعبدي حر؛ فهنا مقصوده حض نفسه على السفر، ومراده أنه يسافر؛ كمسألة ليلى بنت العجماء فإنها قالت لمملوكها: إِنْ لم أُفَرِّقْ بينك وبين امرأتك فمالي في سبيل الله وعليَّ (3) المشي إلى بيت الله وكل مملوك لي حر وأنا يومًا يهودية ويومًا نصرانية؛ فهذه كان مقصودها حض نفسها على التفريق بين الزوجين؛ ولهذا قال لها الصحابة: يا هاروت وماروت! خَلِّ بينَ الرجل وبين امرأته، وكَفِّرِي يمينك (4)؛ فأتت بصيغة الشرط مع حرف النفي.
فإنَّ الحلف بصيغة التعليق المقدَّم فيها الشرط يكون المنفي في الشرط
_________
(1) «التحقيق» (33/ ب)، وهو الوجه التاسع.
(2) في الأصل: (طعيمة بن عدي)، والمثبت هو الصواب، كما في البخاري وكتب التاريخ والسير، وتقدم على الصواب.
(3) في الأصل: (وعليها)، والسياق يقتضي ما أثبتُّ.
(4) سيأتي تخريجه في (ص 201 – 209).

(1/66)


مثبتًا والمثبت منتفيًا، والمقدم في صيغة الشرط والجزاء مؤخرًا في صيغة القسم والمؤخَّر مقدمًا، فلو حَلَفَتْ بصيغة القسم لقالت: العتق يلزمني والمشي يلزمني والصدقة بمالي تلزمني لَأُفَرِّق بينك وبين امرأتك؛ كما يقول الحالف: الطلاق يلزمني لأفرقنَّ بينك وبين امرأتك، ولو قال: هذه الأشياء تلزمني إن لم أفعل هذا كان الشرط مثبتًا وكانت هذه صيغة شرط أيضًا.
فإنَّ الجملة الشرطية يُقَدَّمُ فيها الشرط تارة ويؤخر أخرى، والأصل فيه أن يكون مقدمًا، فإنه له صَدْرُ الكلام، وجوابه بعده إذ كان هو السبب للجزاء، والسبب يتقدم على المسبب.
واختلف النحاة فيما إذا أُخِّرَ كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] وقول الحالف: والله لأفعلنَّ كذا إن شاء الله، وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] ونحو ذلك؛ فذهب سيبويه وأصحابه إلى أن جواب هذا الشرط محذوف لدلالة ما تقدم عليه، وقالوا: الكلام كلمتان تقديره: لأفعلن كذا إن شاء الله لأفعلنه، لكنه حذف جواب الشرط المذكور لدلالة ما تقدم عليه، وذهب الفَرَّاء وغيره إلى أن هذا الشرط متعلق بما قبله وليس في الكلام محذوف، وجعلوا الشرط يقدم تارة ويتأخر أخرى، وهذا أرجح القولين، وكما أن جواب القسم يحذف إذا سَدَّ مسدَّهُ [21/ أ] جواب الشرط، ولا يكون هناك جواب قسم محذوف؛ فكذلك إذا تقدم جواب الشرط أغنى عن تأخره ولا يكون هناك شيء محذوف ولا يخطر ببال أحد ولا استعمل قط، وما لا يخطر ببال المتكلم ولم يذكر في الاستعمال لم يجز أن يجعل محذوفًا، فإنَّ المتكلم إنما يقصد أن يربط بالشرط المؤخر ما تقدم من الجملة,

(1/67)


لا جملة أخرى لم تخطر بباله، وبسط هذا له موضع آخر (1).
والمقصود هنا: أَنَّ الشرط قد يتقدم وقد يتأخر، لكن المنفي فيه مثبت في صيغة القسم والمثبت فيه منفي؛ فقول القائل لِيُرَغِّبَ عبده في فعلٍ: إِنْ فعلتَ هذا فأنت حر، كقوله: إِنْ أعطيتني ألفًا فأنت حر، وإِنْ قتلتَ عدوي فلانًا فأنت حر، كما قال جبير بن مطعم (2) لغلامه وحشي: إِنْ قتلتَ حمزة فأنت حر، ونحو ذلك من باب التعليق الذي يقصد به الشرط والجزاء جميعًا، كقول الناذر: إِنْ شفى الله مريضي فعبدي حر، وهذا إيقاع للعتق عند الصفة، ليس بحلف بالعتق عند أحد من العقلاء لا من الفقهاء ولا غيرهم.

فإنَّ الحالف يكره شرطين وجوديين: يَكرهُ الشرط ويَكرهُ الجزاءَ عنده؛ كقوله: إِنْ كلمتُ فلانًا فعبيدي أحرار ونسائي طوالق، وإذا كان الشرط منفيًا كقول ليلى بنت العجماء: إِنْ لم أفرق بينكما فكل مملوك لي حر وعليَّ المشي وأنا يومًا يهودية ويومًا نصرانية؛ فالشرط عدم هذه الأمور وهو يكره هذا العدم ويريد وجود نقيضه وهو التفريق؛ فالشرط في اليمين أبدًا مكروه والجزاء أيضًا مكروه، فإن كان الشرط ثبوتيًا كُرِهَ ثبوته وأريد عدمه، وإِنْ كان عدميًا كره عدمه وأريد وجوده، والجزاء مكروه وإن تحقق الشرط.
وقوله: إِنْ قتلتَ عدوي فلانًا فأنت حر؛ كقول سيد وحشي له: إِنْ قتلتَ
_________
(1) مجموع الفتاوى (6/ 225) (7/ 454، 460) (8/ 426) (17/ 196) (20/ 490)، شرح الأصبهانية (ص 257 وما بعدها).
وانظر: بدائع الفوائد (1/ 186).
(2) في الأصل: (طعيمة بن عدي)، وصوابه ما أثبتُّ كما تقدم التنبيه عليه.

(1/68)


حمزة فأنت حر = هو فيه مريدٌ للشرط الذي هو قتل حمزة، وقد جعل العتق لازمًا له، وإرادة الملزوم تستلزم إرادة اللازم؛ كسائر من يعلق العتق بشرط يريد وجوده، فإنَّ هذا يقع به العتق، ولم ينازع أحدٌ في هذا؛ بل ذَكَرَ غيرُ واحدٍ الإجماعَ على وقوعِ العتقِ المعلَّقِ بالصفةِ المقصودةِ والعتقِ المعلَّقِ إذا قُصِدَ إيقاعه عند الصفة (1)، وإنما النزاع فيما إذا عَلق العتق قاصدًا [21/ ب] لليمين كقوله: إِنْ لم أُفَرِّق بينك وبين امرأتك فعبدي حر، وإنْ فعلتَ كذا فكل مملوك لي حر.
ومنه إذا قال: والله لا أبيع هذا المملوك وإن بعته فهو حر، وقصده ألا يبيعه وألا يكون حرًّا = فهذا حالفٌ؛ فيه النزاع: هل يكفِّر يمينه أم لا يكفِّر؟ والذين قالوا: لا يكفر اضطربوا؛ هل يَعتق أو لا يَعتِق أو يَعتِق إذا شرط الخيار؟ وكلُّ قولٍ فيها ضعيف، لأنَّ الرجل لم يقصد أن يعتقه بعد خروجه من ملكه إلى ملك المشتري، ولا يقصد هذا عاقل، وليس هذا كالتدبير؛ فإنَّ الذين قالوا يَعْتِق شبهوه بالمدبَّر، لأنَّ المدبَّر لم ينتقل إلى ملك الورثة بل عتق عقب الموت، والتدبير منعه من الانتقال.
وهنا إذا قال: إِنْ بعتك فأنت حر؛ فإنْ أراد البيع الشرعي اللازم، فالبيع الشرعي اللازم لا يكون إلا ناقلًا للملك إلى المشتري، وإن أراد بالبيع التلفظ ببيع لا ينقل الملك لم يكن هذا بيعًا، بل كان بمنزلة بيع المجنون والمحجور عليه وغيرهما. وبعد هذا إذا قال لغيره: بعتك، وقال الآخر: قبلت ــ إِنْ كان هذا بيعًا ــ فقد صار له موجَبان متضادان: انتقاله إلى المشتري وعتقه، بخلاف موت سيد المدبَّر؛ فإنَّ موته لم يوجب انتقاله إلى الورثة مع
_________
(1) انظر ما سيأتي (ص 416).

(1/69)


عتقه، بل لولا العتق لانتقل إلى الورثة مع وجود السبب وهو الموت، وهنا إذا عتق لم يكن هناك بيع أصلًا؛ وحقيقة كلامه: إذا بعتك فلا بعتك أو إذا بعتك لم أكن بعتك، فقد عَلَّقَ على الشرط نقيض موجبه، والنقيضان لا يجتمعان، وهو لو قصد هذا المعنى فقال: إذا بعتك لم أكن بعتك لم يلتفت إليه، بل إذا باعه انتقل إلى المشتري.
وأيضًا؛ فمثل هذا يكون لاعبًا بالمشتري هازئًا به، وذلك لأنه لم يقصد أن يعتقه إذا باعه، وإنما قصد ألا يبيعه، وجعل العتق لازمًا لبيعه لكراهته عتقه وإن وجد البيع، لا لإرادته عتقه إذا وجد البيع، وهو بمنزلة قوله: إِنْ بعتك فثمنك عليَّ حرام، فإذا باعَهُ لم يحرم ثمنه عليه، لكن عليه كفارة يمين في أظهر قولي العلماء وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما، كما لو قال ابتداءً: ثمنك عليَّ حرام، ومراده أنه لا يبيعه، وأما إِنْ كان مراده التزام عتقه فهذا نذر لعتقه.
ومن قال: إنه لا يعتق لكونه [22/ أ] قد خرج عن ملكه بالبيع إما مطلقًا، وإما إذا لم يكن للمشتري خيارٌ، أو كان ثَمَّ خيار وقيل (1) ذلك للمشتري؟
فيقال له: هَبْ أَنَّ البيع سبب لنقل الملك إلى المشتري، فهو ــ أيضًا ــ سبب لزوال الرق وثبوت الحرية، وتعليق العتق مُقَدَّم؛ فَلِمَ قُدِّمَ أَحَدُ المسبَّبَين دون الآخر وكلاهما ثبت بقوله؟ فهذا الذي جعل البيع مستلزمًا لعتقه وهو الذي باع بيعًا يكون ناقلًا للملك.
وأما قول بني لحيان لسرية عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح: لكم العهد
_________
(1) الكلمة غير منقوطة في الأصل.

(1/70)


والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلًا. فقال عاصم: أَمَّا أنا فلا أنزل في ذمة كافر؛ فهذا كقول يعقوب ــ عليه السلام ــ: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66]، ومسألة قول القائل: عَليَّ عهدُ الله وميثاقه لأفعلنَّ كذا= وهذا يمين.
وأما قوله: (فوجه الاستدلال من هاتين القصتين: أَنَّ المقصود بهذين التعليقين (1) الحث على تحصيل الشرط من القتل والنزول، فهو يشبه قوله: إن لم أفعل (2) كذا فأنت حر، فلو كان ذلك التعليق لا يترتب عليه الحرية (3) ولم يحصل مشروطه لكان هنا كذلك لا يترتب عليه عتق وحشي ولا حصول الذمة لسرية عاصم، وهو خلاف ما فهموه وفهمه كُلُّ أَحَدٍ، وهم أهل اللسان وَصِحَابُهُ ــ أعني: سرية عاصم ــ، فليس يخفى عنهم مدلول اللفظ لغة وشرعًا، وكذلك ما لا يحصى من الشروط الواردة في الكتاب والسنة).
فيقال له: لم يقل أحد إن كُلَّ ما يُقصد به الحث على تحصيل الشرط يكون يمينًا، كقوله: إِنْ لم أفعل كذا فأنت حر، ولا يقول هذا عاقل، بل الناس كلهم يُفَرِّقُونَ بين قوله: إِنْ قتلتَ عدوي فأنت حر، وبين قوله: إِنْ لم أفعل كذا وكذا فأنت حر، ويعلمون أَنَّ الأول عَلَّقَ العتقَ على قتل عدوِّهِ، ومقصودُهُ أَنْ يقتل عدوَّه ويعتِق إذا قتله، فهو يقصد الشرط ويريد وقوع
_________
(1) من قوله: (أنَّ المقصود) إلى هنا غير موجود في الأصل، والمثبت من «التحقيق»، وقد تقدم ذكرها في أول الفصل.
(2) في «التحقيق»: (تفعل).
(3) في «التحقيق»: (الكفارة).

(1/71)


الجزاء إذا وقع، والثاني كارهٌ (1) للشرط الذي هو عدم الفعل مريدٌ لنقيضه وهو الفعل، وكارهٌ للحريَّةِ وَإِنْ وجد الشرط، كقول ليلى بنت العجماء: إِنْ لم أُفَرِّق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي حر (2).
وكذلك قوله: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل أحدًا منكم؛ فمعناه: نعاهدكم بالله إن نزلتم إلينا ألا نقتل، ونعطيكم عهد الله وميثاقه إن [22/ ب] نزلتم ألا نقتل، فهو بمنزلة مَنْ حلف لا يقتل زيدًا إذا أتى إليه.
وإذا عَبَّرَ عن هذا بصيغة الشرط قيل فيه: إن نزلت إليَّ فلك العهد والميثاق ألا أقتلك، فهو إثبات للعهد والميثاق إذا وجد الشرط، وهو تعليق للجزاء المقصود على الشرط المقصود، وهو يشبه قوله: لكَ عهد الله وميثاقه لئن أديت إليَّ ألفًا لأُعتقنَّك، وقوله: لكِ عهد الله وميثاقه لئن أديتِ إليَّ ألفًا لأطلقنَّك.
ولو قصد الإيقاع عند الشرط لوقع، فلو قال: إن أديتَ إليَّ ألفًا فأنت حر أو إن أديتِ إليَّ ألفًا فأنت طالق؛ وقع الطلاق والعتاق إذا وجد الشرط، كما لو قال الناذر: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ عتق رقبة أو فعبدي حر أو فعليَّ الحجُّ، فإنه إن وجد الشرط وجد الجزاء.
بخلاف قوله: إِنْ سافرتُ معكم أو إن كلمت فلانًا فعليَّ عتق عبد أو (3) فمالي صدقة؛ فإنَّ هذا مقصوده ألا يسافر، ومقصوده ألا يعتق عبده ولا يكون ماله صدقة، وإن سافر وكلم فهو ممتنع من فعل الشرط وممتنع من
_________
(1) في الأصل: (كان)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) سيأتي تخريجه في (ص 201 – 209).
(3) في الأصل زيادة: (قتلت)، ولعل حذفها هو الصواب، فلم يُشِر لها فيما بعد.

(1/72)


إيقاع الجزاء وإن وجد الشرط = فهذا هو الحالف.
فأهل اللغة والصحابة ــ كعاصم وغيره ــ فهموا [فهمًا] (1) صحيحًا، والذي فهموه هو مقتضى اللغة والشرع ولم ينازع في ذلك أحد، ولكن مَنْ جَعَلَ مقتضى هذا مثل قصد التعليق الذي يقصد به اليمين، فقد أثبت اللغة والشرع بالقياس الفاسد، وجعلَ ما يُقْصَدُ وجودُهُ مثلما لا يقصد وجوده، وجعل المريد لإيقاع الشيء مثل الممتنع من إيقاعه، وخالفَ الصحابةَ والتابعينَ وعامة العلماء الذين جعلوا الممتنع من الشرط والجزاء حالفًا، وجعلوا ذلك التعليق يمينًا بخلاف ما يقصد وقوعه لا سيما إذا قصد الشرط كما في القصتين، فإنَّ في إحداهما: إعتاق. وفي الأخرى: أَمَانٌ على نفي القتل إذا نزلوا لا على إثباته، فهو كما لو قال: إِنْ نزلتم إلينا وقتلنا منكم أحدًا فنحن برآء من الله؛ فهذا يمين على نفس القتل.
واليمين إذا كانت على العقود بين الناس كانت لازمة لا يجوز فيها الحنث والتكفير باتفاق الناس، كما في اليمين على النذر كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) [23/ أ] فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 ــ 77]، فمعاهدتهم لله إن آتاهم من فضله لنصدقنَّ ولنكوننَّ من الصالحين هو نظير معاهدة أولئك لسرية عاصم لئن نزلتم إلينا لا نقتل منكم أحدًا، والأول نذر لله مؤكد باليمين، والثاني مصالحة ومهادنة
_________
(1) إضافة يقتضيها السياق.

(1/73)


ومعاهدة لسرية عاصم مؤكدة باليمين، ومثل هذا يجب الوفاء به باتفاق المسلمين ولا يجوز فيه الحنث والتكفير.
ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} [الأحزاب: 15]، فإن تولية الأدبار من الكبائر، والامتناع من التولي واجب بالشرع، فإذا عاهدوا الله عليه توكَّد وجوبه؛ كالذي يعاهد الله على العمل بطاعته، وكالذين يبايعون النبي – صلى الله عليه وسلم – على الإيمان به وطاعته قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] فقد بين أن ما بايعوا الله عليه فقد عاهدوا الله عليه.
ومنه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] قال غير واحد من السلف: يتساءلون به أي: يتعاقدون ويتعاهدون؛ فإنَّ كل واحد من المتعاهدين المتعاقدين يسأل بالله (1) ويطلب منه ما عاهده عليه (2)،
وهذه معاهدة بالله وإن لم يتكلم بها بحرف القسم، وتسمى هذه أيمانًا؛ قال تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ
_________
(1) في الأصل: (الله)، والصواب ما أثبتُّ.
(2) انظر آثار السلف في ذلك: تفسير الطبري (6/ 342 وما بعدها)، تفسير ابن المنذر (2/ 548)، تفسير ابن أبي حاتم (3/ 854).

وانظر: مجموع الفتاوى (29/ 139 – 140، 32/ 13)، الفتاوى الكبرى (4/ 83 – 84)، القواعد الكلية (ص 385)، اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 308، 327)، الصارم المسلول (2/ 42)، أحكام أهل الذمة (3/ 1387 وما بعدها).

(1/74)


أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 1 ــ 4] إلى قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ [23/ ب] إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 7 ــ 8] والإِلُّ: القرابة، والذمة: العهد. إلى قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ [وَطَعَنُوا] (1) فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 12 ــ 13].
وقال: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} [النحل: 91 ــ 92].
قال المفسرون: نزلت في الرجل كان يعاهد القوم، فإذا وجد قومًا أَرْبَا
_________
(1) ليست في الأصل ..

(1/75)


منهم، غَدَرَ بالأولين ونكث عهدهم وعاهد هؤلاء (1).
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ عاقدت (2) أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وكانوا يسمون الرجل حليفًا مأخوذ من الحِلْف (3)، وهذه الأيمان لا يجوز فيها النكث والتكفير بل هذه يجب الوفاء بها بمطلق العقد، فإنَّ مطلق العقود التي بين الناس هي معقودة بالله، والله أمر بالوفاء بها، وإذا وَكَّدُوهَا بالحلف باسمه كان ذلك توكيدًا لها.
ولفظ اليمين في الأصل هو يمين الرجل، ثم لما كان إذا عاهد غيره يعقد يمينه بيمينه سُمِّي ذلك عقدًا ويمينًا، كما يسمى صفقة لأنه يصفق بيده على يده، وسمي مبايعة لأن كلا منهما يَمُدُّ باعه إلى الآخر، كما سميت المعانقة لأن كلًا منهما يمد عنقه إلى الآخر، والمصافحة لأن كلًا منهما يصفح يده بيد الآخر؛ أي: يمس صفحة يده بصفحة يده.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] يدل على أن مبايعتهم كانت بأيديهم مع أقوالهم، وكذلك كان
_________
(1) الفتاوى الكبرى (4/ 83)، القواعد الكلية (ص 385)، الصارم المسلول (2/ 42).
وانظر: تفسير الطبري (14/ 340، 346 – 347)، أحكام أهل الذمة (3/ 1387 وما بعدها).
(2) كذا في الأصل، وهي قراءة أبي عمرو وغيره من السبعة، والتي كان يقرأ بها شيخ الإسلام.
انظر: جامع البيان في القراءات السبع (3/ 1010)، والنشر في القراءات العشر (2/ 249).
(3) مجموع الفتاوى (35/ 321).

(1/76)


النبي – صلى الله عليه وسلم – يبايع الرجال بيده (1)، وأما النساء فقد روي في الصحيح: أنه ما مس امرأة بيده (2)، وروي أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» (3)،
وروي عنه – صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يضع يده في ماء ويضعن أيديهن فيه (4)، وفي هذا نظر والأول أعرف.
_________
(1) ثبت هذا في أحاديث كثيرة وحوادث متعددة؛ منها: حديث عمرو بن العاص – رضي الله عنه -: أخرجه مسلم في صحيحه (121).
وحديث كعب بن مالك – رضي الله عنه -: أخرجه ابن حبان في صحيحه (15/ 471).
وحديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه -: أخرجه الشاشي في مسنده (3/ 122).
وحديث ابن عمر – رضي الله عنهما -: أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (14/ 482).
وأخرج مسلم في صحيحه (1844) من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – مرفوعًا: «ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقةَ يده».
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (2713) من حديث عائشة – رضي الله عنها – ولفظه: والله ما مست يده يدَ امرأةٍ قط في المبايعة.
(3) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 578)، والطيالسي (3/ 192)، وعبد الرزاق في مصنفه (9826)، والإمام أحمد في مسنده (44/ 556)، والنسائي (4181)، والترمذي (1597)، وابن ماجه (2874) من حديث أُميمة بنت رُقيقة – رضي الله عنها -.

وصححه ابن حبان (10/ 417)، وقال الترمذي في روايةٍ مختصرةٍ له: هذا حديث حسن صحيح … وسألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: لا أعرف لأميمة بنت رقيقة غير هذا الحديث، وأميمة امرأة أخرى لها حديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. وانظر: السلسلة الصحيحة (2/ 63).
(4) أخرجه ابن إسحاق في المغازي ــ كما في الفتح 8/ 637 ــ عن أَبَان بن صالح، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يغمس يده في إناء، وتغمس المرأة يدها فيه.
قال السُّهيلي في الروض الأنف (4/ 71): وقد ذكر أبو بكر محمد بن الحسن المقري النقَّاش في صفة بيعة النساء وجهًا ثالثًا أورد فيه آثارًا، وهو أنَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يغمس يده في إناء، وتغمس المرأة يدها فيه عند المبايعة، فيكون ذلك عقدًا للبيعة، وليس هذا بالمشهور، ولا هو عند أهل الحديث بالثبت، غير أنَّ ابن إسحاق ــ أيضًا ــ قد ذكره في روايةٍ عن يونس عن أبان بن صالح. وانظر: جامع المسائل (5/ 221).

(1/77)


وقد أنكر هذا بعضهم (1) قال: لأن البيع من ذوات الياء؛ يقال: باع يبيع بيعًا، والباع من ذوات الواو أصله؛ يقال: باع وأبواع.
وجوابه: أنَّ هذا من باب الاشتقاق الأكبر، وهو اتفاق اللفظتين في أكثر الحروف وفي بعضها يتفقان [24/ أ] في جنسها لا في عينها؛ كما قال أبو جعفر: العامة اسم مشتق من العَمَى، ما رضي الله بأن شبههم بالأنعام حتى قال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (2) [الفرقان: 44]، والعامة من عَمَّ يَعم، والعمى مِنْ عَمَى يعمى، لكن العرب تعاقب بين الحرف المعتل والمضعَّف كما يقولون: تقضَّى البازي وتَقَضَّضَ (3).
_________
(1) اعترض على هذا صاحب المُطْلِع على أبواب المقنع (ص 227) من وجهين: أحدهما: أنه مصدر، والصحيح أنَّ المصادر غير مشتقة. والثاني: أنَّ الباع عينه واو، والبيع عينه ياء؛ وشرط صحة الاشتقاق موافقةُ الأصل والفرع في جميع الأصول.
(2) أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 168) من طريق عبد الله بن محمد بن عجلان وجعله من قول علي بن محمد بن الرضا. وأخرجه ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد (19/ 141) من طريق ابن عجلان هذا وجعله من قول علي بن موسى بن جعفر الرضا. وقد أطال ابن النجار النفس في تضعيف هذا الأثر.

والذي يبدو أن ابن تيمية يقصد أبا جعفر الباقر ــ واسمه: محمد بن علي بن الحسين ــ حيث نسب ابن القيم في شفاء العليل (1/ 252) هذا الأثر إليه، ولم أجده مسندًا عنه.
(3) قال في مجموع الفتاوى (10/ 369): قال أبو جعفر: العامة اسم مشتق من العمى؛ فراعوا الاشتراك في الحروف دون الترتيب؛ وهو الاشتقاق الأوسط، أو الاشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الأكبر. وانظر: منهاج السنة (5/ 190).

(1/78)


ومنه قيل: سُرِّيَّة مأخوذة من السِّرِّ وهو الجماع، والسرر من المضعَّف، والسرية من المعتل كما قال امرؤ القيس:
ألا زعمت شباب (1) الحي أني … كبرت وأن لا يحسن السِّرَّ أمثالي (2)

والله ــ تعالى ــ إذا شرع للمؤمنين تحلة أيمانهم ــ وهي الأيمان التي يعقدونها ليحض أحدهم نفسه أو غيره أو يمنعها ــ وعقدوها بالله ولله توكيدًا= كذلك الحض والمنع، وأما ما يكون من العقود بينهم وبين غيرهم؛ فهذا (3) لم يفرض الله تحلته وإنْ سُمِّيَ يمينًا، وكذلك ما عقدوه لله بالتزام ما أوجبه عليهم، فهذا واجب بأمر الله ــ تعالى ــ لم يَفْرِض الله تحلته؛ فكل عقدٍ أمر الله بالوفاء به عينًا ــ إما لحقِّه وإما لحق العباد ــ فلم يفرض تحلته، وإِنْ حلف حالف بالله ليوفين فيه، وما وَفَى بل غدر كان عليه مع الإثم الكفارة، مع أنَّ إثم الغدر والنكث باقٍ عليه.
ثم قد يقال: إنما سمي من العقود يمينًا ما يتضمن الحلف بالله وإن كان الوفاء به واجبًا (4) وإن لم يُذكر فيه اسم الله بل ذكر فيه ألفاظ أخرى؛ كقوله: عليَّ عهد الله وميثاقه، أو عليَّ العهد والميثاق؛ والفقهاء متنازعون في انعقاد
_________
(1) في هامش الأصل: (بسباب) وفوقها حرف (ظ) وقبله حرف (خ).
(2) ديوان امرئ القيس (ص 28)، والبيت فيه هكذا:
أَلا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ اليومِ أنني … كبرتُ وَأَنْ لا يُحْسِنَ اللهوَ أمثالي
وفي غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 238) وغيره: «السِّرَّ» بدلًا عن «اللهو».
(3) في الأصل: (غيرها فلهذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(4) في الأصل: (واجب)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/79)


اليمين بهذه الألفاظ وإن لم يذكر فيها اسم الله؛ فأكثرهم يقولون: ينعقد بها اليمين، ومنهم من يقول: لا ينعقد إلا إذا ذكر اسم الله (1).
وأما لفظ العهد المجرد كقوله: أَمَّنْتُكَ أو بعتك أو أجرتك أو أنكحتك أو [ … ] (2) فهذا موجبه يقتضي الوفاء بالعقد، لكن يمنع كون هذا يسمى يمينًا فلا يتناوله قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] فإنَّ هذا لا كفارة فيه إذا غدر، بل فيه الإثم.
* * * *
_________
(1) بدائع الصنائع (3/ 8)، الاختيار في تعليل المختار (3/ 394)، المدونة (1/ 579 وما بعدها)، الأم (8/ 152)، الحاوي الكبير (15/ 279)، نهاية المطلب (18/ 301)، المغني (13/ 463)، الفروع (10/ 435).
انظر: مجموع الفتاوى (29/ 138)، الفتاوى الكبرى (4/ 83)، القواعد الكلية (ص 384 – 388). وانظر ما سيأتي (ص 533 – 536).
(2) بياض مقدار كلمة.

(1/80)


فصل
قال المعترض:
(الثامن عشر: أنَّ معظم ما استدل به ابن تيمية في الطلاق قياسه على العتق، وسنذكر الفرق بينهما على تقدير تسليم الحكم في العتق فيمتنع إلحاقه به) (1).
فيقال:
أولًا: أنت في ذكر أدلة الشرع الدالة على [24/ ب] أَنَّ التعليقين: التعليق المجرد عن قصد اليمين، والتعليق الذي يقصد به اليمين ليتبين بذلك حكم تعليق الطلاق المجرد وتعليقه المتضمن قصد اليمين= أنت (2) لم تذكر البتة دليلًا لا على هذا ولا على هذا؛ بل إما مقدمات مُدَّعَاةٌ بلا حجة، وإما حُجَّةُ عمومٍ وإطلاقٍ لا تقول بموجبه، بل هو عندك منقسم إلى قسمين، ولم تذكر ما يميز أحد القسمين من الآخر وأنَّ الطلاق من أحدهما، وإما قياسٌ لم تُبيِّن فيه أن المشترك هو المؤثر في الحكم، وإما أدلة لا تتناول محل النزاع بل إنما تدل على غيره؛ كالتعليق الذي يقصد به الوعيد، والذي يقصد به الشرط والجزاء، والذي يقصد به فسخ العقد عند الشرط ونحو ذلك، ثم ذكرت من الأدلة ما ليس دليلًا، وإنما هو من باب الجواب عن حجة من احتج على أن هذه يمين فتدخل في النص، وقاسها على نذر اللجاج والغضب؛ كتفريقك بين ذلك وبين تعليق نذر اللجاج والغضب ومنعك تسمية هذه أيمانًا، ومثل هذا الوجه وهو وعدك بالفرق بينه وبين العتق.
_________
(1) «التحقيق» (33/ ب)، وهو الوجه العاشر.
(2) في الأصل: (وأنت)، والصواب ما أثبتُّ، أو حذفها كاملة.

(1/81)


ومعلوم أَنَّ ذكر الجواب عن هذه المعارضة من الأدلة كلامُ مَنْ لا يفرق بين الدليل وبين الجواب عن المعارضة، والمستدِلُّ عليه أَنْ يقيم الأدلة ثم يجيب عن المعارضة؛ ولهذا كان جنس الأسولَةِ الواردة عليه تنحصر في نوعين في الممانعة وفي المعارضات: إما أن يمنع مقدمات دليله، وإما أن يعارض بما يدل على نقيضها، ثم قد يعارض في أدلة المقدمات وقد يعارض في حكمها؛ ففي الأدلة يجيب عن الممانعات ثم يذكر ما استدل به المعارض ويجيب عنه، وهذا قد انتدب أولًا للاعتراض على المجيب المستدل على أن هذه يمين مكفرة، ثم نصب نفسه منصب المستدل، فإنَّ المعترض لو منع مقدمة استدل على صحة منعها بإثبات الحكم المتنازع فيه، مثلُ أَنْ يقول: الدليلُ على فسادها أنه يلزم من صحتها الحكم المتنازع فيه وهو باطل= لكان هذا غصبًا لمنصب الاستدلال وهو غير مقبول.
فكيف إذا شرع يستدل ابتداء وهو في مقام الاعتراض قبل أن يعترض على أدلة المستدل، ثم لما استدل على نقيض قول المستدل الأول= جعل (1) من جملة أدلته ما زعم أنه جواب [25/ أ] عن أدلة المستدل؛ وهذا خروج عن قانون النظر والاستدلال والمناظرة المستقيمة، ثم المستدل سامحه في ذلك كله ولم يؤاخذه إذ كان مقصوده الكلام على ما أبداه، هل فيه دليل صحيح على بطلانه أو جواب صحيح على دليل المجيب، فلم يكن منه ــ مع التخليط المذكور ــ لا دليل صحيح ولا جواب صحيح عن أدلة المستدل المجيب أولًا، وذلك مثل قوله هنا: (إِنَّ معظم ما استدل به ابن تيمية في الطلاق قياسه على العتق وسنذكر الفرق).
_________
(1) في الأصل: (وجعل)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/82)


فيقال لك: هذا وأمثاله من الاعتراضات على أجوبة المجيب لا يصلح أن يكون دليلًا لك في المسألة، وإنما يصلح أن يكون جوابًا عن استدلاله؛ ومع هذا فليس بجواب صحيح، بل كلا المقدمتين اللتين (1) ذكرتَهما في الجواب ظاهرة البطلان، فإنَّ ابن تيمية لم يكن معظم استدلاله هو القياس على العتق، ولا ذكرتَ بينهما فرقًا مؤثرًا في الشرع، بل أنت معترف بفساد الفرق بينهما، وأنَّ هذا الفرق وإن كان قد قاله أحد من الصحابة فقد أخطأوا في ذلك.
أما المقدمة الأولى: فمعلومٌ أن النزاع في العتق مشهور، والأربعة وغيرهم ينازعون في العتق، وقد ادعى بعضهم الإجماع على وقوع العتق المحلوف به؛ فكيف يكون هذا حجة؟! بل إذا قيس الطلاق على العتق فلا بُدَّ من إثبات الحكم في الأصل بدليل يدل عليه.
وأيضًا؛ فالمجيب استدل بالكتاب والسنة ودلالتهما من جهة عموم الخطاب عمومًا محفوظًا من أظهر الأدلة القولية، ومن جهة عموم المعنى المؤثر في سائر الصور؛ وهذا غاية ما يُستدل به على الأحكام الشرعية، فإن النص على كل فردٍ فردٍ ممتنع، وإنما بُعث الشارع بجوامع الكلم التي تَجْمَعُ في الكلمة الواحدة أنواعًا وأعيانًا؛ كما قال: «بعثت بجوامع الكلم» (2). ولما (3) سُئل عن الحُمُر قال: لم يَنزل عَلَيَّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
_________
(1) في الأصل: (التين)!
(2) أخرجه البخاري (2977)، ومسلم (523) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) في الأصل: (لما)، ولا يستقيم الكلام إلا بما أثبتُّ.

(1/83)


شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ــ 8] أخرجاه في الصحيحين (1)، وقال: «إذا قلتم: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض» (2)، وفي الصحيحين ــ أيضًا ــ عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أَنَّ [25/ ب] النبي – صلى الله عليه وسلم – لما سُئل عن الأشربة، فقيل: عندنا شرابٌ (3) يُصْنَعُ من الذرة يقال له: المِزْر، وشرابٌ (4) يصنع من العسل يقال له: البِتْع، وكان قد أوتي جوامع الكلم؛ فقال: «كل مسكر حرام» (5).
وكلماته الجامعة هي القواعد الكلية وهي الألفاظ العامة، وهي ضوابط شرعه وقوانين دينه، لكن بعض الألفاظ يدخلها تقييدٌ يُجْعَلُ تخصيصًا لها، وقد لا يفهم منها المعنى العام الذي جعله الشارع مناط الحكم، فإذا كان خطابه العام وكلمته الجامعة باقية على عمومها لم يخص منها صورة، والمعنى الذي جعله مناط الحكم موجودًا في الصورة المستدل عليها= كان هذا غاية ما يستدل به على الأحكام، وإذا تم تصور الإنسان لمقصود الشارع كان علمه بذلك قطعيًا وإن كان غيره لم يفهم ذلك أو لم يحصل له فيه إلا ظن (6).
وأيضًا؛ فالقياس الجلي في المسألة وهو قياسه على ما ثبت إما بإجماع
_________
(1) أخرجه البخاري (2371)، ومسلم (987) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(2) أخرجه البخاري (6328)، ومسلم (402) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -.
(3) في الأصل: (شرابًا)؛ ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(4) في الأصل: (وشرابًا)، ولعل الصواب ما أثبت.
(5) أخرجه البخاري (4343)، ومسلم (1733) من حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -.
(6) لابن تيمية – رحمه الله – قاعدة بعنوان (شمول النصوص للأحكام) طبعت ضمن جامع المسائل (2/ 237).

(1/84)


الأمة وإما بإجماع الصحابة وإما بدلالة الكتاب والسنة من أن تعليق النذر الذي يقصد به اليمين هو يمين تجري فيه كفارة يمين، وهذا المعنى موجود في تعليق الطلاق والعتاق إذا قصد به اليمين؛ فهذه الأدلة تدل على أن تعليق الطلاق والعتاق جميعًا إذا قُصِدَ به اليمين كانت يمينًا مكفرة، ثم ذكرنا الآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين في العتق لنبين النزاع فيه وندفع من ظن في ذلك إجماعًا، وكان تعليق العتق قد اشتهر النقل فيه عن الصحابة والتابعين لكون الحلف بالتزام القُرَبِ كان قد ظهر في زمن الصحابة، بخلاف الحلف بالطلاق والظهار والحرام فإنَّ هذا لم يكن مشهورًا في زمنهم [قد كثر في كلامهم من ذلك] (1) ليعلم أنهم إذا أجابوا في ذلك بكفارة يمين معللين ذلك بأنه يمين كان جوابهم في الحلف بالطلاق بكفارة يمين أولى وأحرى لشمول الدليل والعلة له، وأنَّ العتق مع كونه قربة يَلزم بالنذر إذا كان قصد اليمين في تعليقه مانعًا من لزومه فلأن يكون هذا مانعًا من لزوم الطلاق الذي لا يلزم بنذر وليس بقربة بطريق الأولى والأحرى.
ومذاهب العلماء المجتهدين يؤخذ من عموم خطابهم وعموم [26/ أ] تعليلهم، كما يؤخذ حكم الشارع من عموم خطابه وعموم علته (2)؛ وعموم العلة أقوى من عموم اللفظ، فإنَّ العموم اللفظي يَقبل التخصيص لمطلق الأدلة، وأما العلة فلا يجوز تخصيصها إلا بفرقٍ معنوي مؤثِّر يبين اختصاص صورة الفرق بوصف يوجب انتفاء الحكم عنها، وإلا فلو ساوت سائر الصور في العلة الموجبة للحكم= لوجب أن يساويها في الحكم، وإلا
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) انظر ما سيأتي (ص 607، 819).

(1/85)


كان ذلك تناقضًا ينزه الشارع عنه.
فإنه إذا قال: كل مسكر خمر وكل مسكر حرام؛ فعلَّق الحكم بوصف مشتق مناسب وهو السُكر، ثم أباح بعض المسكرات دون بعض مع عدم اختصاص ذلك المسكر بوصف يوجب الإباحة = كان هذا تناقضًا؛ بخلاف ما إذا أباح المسكر للضرورة ــ كما أباح الميتة للضرورة ــ مثل إباحته لدفع الغصة أو إباحته لمن أُكْرِهَ على شربه أو للعطش ــ إِنْ قيل إنه يدفع العطش ــ فهذا تخصيص بمعنى يوجب الفرق، كما يوجد مثل هذا التخصيص في تحريم الميتة، ولكن هو ــ سبحانه ــ في القرآن قال في الميتة والدم ولحم الخنزير: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] ولم يَذكر مثل ذلك في تحريم الخمر، لأنَّ الحاجة إلى الغذاء حاجة عامة، فالاضطرار إلى أكل هذه المحرمات يقع كثيرًا، وأما الخمر فلا يكاد أَحَدٌ يحتاج إلى شربها؛ فإنه لا يكاد أَحدٌ يغص بالطعام وليس عنده إلا خمر، وكذلك لا يكاد أحد يعطش وليس عنده إلا خمر، فإن الماء متيسر غالبًا، وكذلك وجود غيرها من المرطبات التي هي أبلغ منها في دفع العطش كثير جدًا، وأما هي فقد قيل تزيل العطش وقيل لا تزيله، ولهذا اختلف الفقهاء في شربها للعطش بناء على هذا المأخذ (1).
_________
(1) قال في مجموع الفتاوى (14/ 471): (وكذلك الخمر يباح لدفع الغصة بالاتفاق، ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء؛ ومَنْ لم يبحها قال: إنها لا تدفع العطش، وهذا مأخذ أحمد؛ فحينئذٍ فالأمر موقوف على دفع العطش بها؛ فإنْ عُلِمَ أنها تدفعه أُبيحت بلا ريبٍ؛ كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة، وضرورةُ العطش الذي يرى أنه يُهلكُهُ أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع، فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحةَ في شيءٍ من ذلك).
وانظر: مجموع الفتاوى (10/ 462) (27/ 230 وما بعدها)، جامع الرسائل (2/ 82).

(1/86)


وكذلك في الأيمان إذا قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وكان هذا الخطاب يتناول ما هو يمين من أيمان المسلمين وإن كان بصيغة التعليق كقوله: إِنْ فعلت كذا فعليَّ الحج ومالي صدقة ونحو ذلك كما ثبت ذلك عن الصحابة وجمهور التابعين، بل ويتناول قوله: وكل مملوك لي حر؛ فمن المعلوم أَنَّ تناول ذلك ــ أيضًا ــ للحلف بالطلاق واجب كتناوله لهذه الصورة وأولى، ويمتنع أن يكون الشارع قد جعل هذا الخطاب متناولًا للحلف بالنذر أو بالنذر والعتق دون [26/ ب] الحلف بالطلاق، ويمتنع أن يكون كون التعليق يمينًا هو الوصف المؤثر في تحليل هذه اليمين بالكفارة، ثم تعليق الطلاق الذي يقصد به اليمين لا يؤثر كونه يمينًا في تحليل هذه اليمين بالكفارة، فإنَّ هذا من أعظم التناقض الذي يُنَزَّهُ عنه الصحابة – رضي الله عنهم – فضلًا عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – فضلًا عن رب العالمين ــ سبحانه وتعالى ــ.
ويمتنع أن يقوم دليل شرعي إجماع أو غير إجماع على [أنَّ] (1) هذا التعليق القسمي يكفر دون هذا التعليق، كما يمتنع أن يقوم إجماع أو غير إجماع على الفرق بين هذا المسكر وهذا المسكر مع تساويهما من كل وجه في الصفات المعتبرة في الشرع، فإن الأمة لا تجتمع على خطأ ولا على ضلالة (2)،
_________
(1) إضافة يقتضيها السياق.
(2) في الأصل: (ظلاله)؛ والصواب ما أثبتُّ.

(1/87)


والفرق بين المتماثلين ونقض العلة مع تساويها في محالها, ومخالفة الكتاب والسنة = من الخطأ الذي نَزَّه الله الأمة أن تجتمع عليه (1).
ولهذا ــ ولله الحمد والمنة ــ لا توجد الأمة مجتمعة على حكم إلا وأدلته أدلة صحيحة سالمة عن المعارض المقاوم، والاحتجاج بدعاوى الإجماعات المخالفة للكتاب والسنة والقياس الجلي في مثل هذه المسائل مما ابتدع في الإسلام بعد انقراض عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان بل وبعد عصر التابعين، ولهذا أنكر أئمة الإسلام مثل هذه الدعاوى؛ كما أنكر ذلك أحمد بن حنبل وغيره، وكذلك الشافعي ذكر أن السلف لم يكونوا يَدَّعُون مثل هذه الإجماعات (2).
* * * *
_________
(1) انظر: (ص 13).
(2) انظر: (ص 157 – 158).

(1/88)


فصلٌ
قال المعترض:
(التاسع عشر: أن الأدلة التي ذكرها ابن تيمية (1) والتي يتخَيَّل ــ أيضًا ــ ترجع إلى شيئين: أحدهما: أَنَّ التعليق على هذه الصورة يسمى يمينًا، والثاني: أنه لا يسمى تطليقًا.
أما الأول: فقد منعناه؛ وبَيَّنَّا أَنَّ ذلك إنما هو بحسب الاصطلاح لا بحسب اللغة والشرع، وإيقاع الطلاق به إذا عُلِّقَ بالحلف إنما هو إذا قُيِّدَ كقوله: (2) حلفت بطلاقك.
وأما الثاني: فممنوع أيضًا؛ وقد بَيَّنَّا أن ذلك تطليق.
ثم إما أنْ يكون قول القائل: عَلَّمْتُهُ فما تَعَلَّم حقيقة أو مجازًا، فإنْ كان حقيقةً وَجَبَ أَنْ يكون مجرد تعليق الطلاق تطليقًا، وإن كان مجازًا فلا إشكال أنه إذا حصل العلم بصدق التعلم (3) حقيقة، ولا [27/ أ] امتناع في توقف إطلاق اسم التعليم على محاولة أسبابه إلى أَنْ يحصل أثرها، فإذا حصل أثرها صدق عليها اسم التعليم حقيقة، وإلا لوجب ألا يصدق التعليم أصلًا، لا قبل حصول العلم (4) ولا بعده؛ فإنَّ العلم في الغالب لا يحصل وقت التعليم بل لا بُدَّ من مُهلة= كذلك التطليق المعلَّقِ يتوقف إطلاق اسم
_________
(1) في «التحقيق» زيادة: (جميعها).
(2) في «التحقيق» زيادة: (إن) وهو خطأ، كما سيأتي في (ص 95).
(3) في «التحقيق»: (التعليم)، وانظر ما سيأتي (ص 95).
(4) في الأصل زيادة: (أصلًا)، وليست في «التحقيق»، وانظر ما سيأتي (ص 96).

(1/89)


التطليق عليه على وجود شرطه، فإذا وُجِدَ تَرَتَّبَ عليه أثره وسُمِّيَ تطليقًا؛ كما يُسَمَّى التعليم عند وجود أثره تعليمًا، ولو لم يكن كذلك لزم ألا يقع الطلاق المعلَّق بالصفات التي ليس فيها يمين كطلوع الشمس، وابن تيمية يوافق على وقوعه فيلزم (1) على سياق كلامه أَنَّ ذلك غير داخل تحت اسم التطليق، فإنْ قال: إنه عند الصفة يصير تطليقًا، فليقل: بأنه عند وجود الشرط والحنث يصير تطليقًا) (2).
والجواب:
أنَّ هذا معناه على الوجه الصحيح: دليلان أو مقدمتا دليل؛ أنَّ هذين الأصلين عليهما يُبْنى الحكم في هذه المسائل باتفاق المسلمين، فإنَّ من أوقع الطلاق جعل ذلك كله تطليقًا تتناوله النصوص، ومن لم يوقعه لم يجعله تطليقًا، وكذلك من قال بالكفارة جعله يمينًا تتناوله النصوص، ومن لم يجعل فيه كفارة؛ فإما أَنْ يُنَازع في كونه يمينًا، أو في كونه يمينًا من أيمان المؤمنين.
فإنَّ الله قال لعباده بعد قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
_________
(1) في «التحقيق»: (فيلزمه)، وانظر ما سيأتي (ص 96).
(2) «التحقيق» (33/ ب)، وهو الوجه الحادي عشر.

(1/90)


ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 87 – 89]، وقال ــ أيضًا ــ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وقال ــ أيضًا ــ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، فذكر تعالى في كتابه: حكم أيمان المؤمنين وذكر حكم الطلاق؛ فمن الأقوال ما هو طلاق شرعي باتفاق المسلمين؛ كالطلاق المنجَّز إذا أوقعه على الوجه المباح مع سائر شروطه، مثل أن يقول لها: أنت طالق أو مطلقة أو قد طلقتك ونحو ذلك، ومنها ما هو يمين مكفَّرة باتفاق المسلمين؛ كالحلف باسم الله، مثل أنْ [27/ ب] يقول: والله لأفعلنَّ كذا؛ إذا حلف مع الشروط التي معها تكون اليمين مكفرة، ومن الأقوال ما تنازع فيه المسلمون.
وكذلك من الأقوال ما هو عتق، ومنها ما هو ظهار، ومنها ما هو نذر، ومنها ما تنازع فيه المسلمون هل هو طلاق وظهار ونذر؛ وإذا كان يمينًا فهل هو يمين مكفرة كفارة يمين أم ليست (1) مكفرة كفارة يمين.
فالطلاق إذا قيل ليس بيمين فهو طلاق، ولا كفارة في الطلاق بإجماع المسلمين.
وكذلك العتق لا كفارة فيه. فإذا قيل: ليس بيمين كان عتقًا واقعًا.
وأما الظهار إذا قيل ليس بيمين بل هو ظهار، ففي الظهار كفارة الظهار بالنص والإجماع.
وكذلك تعليق النذر إذا قيل ليس هو بيمين بل هو نذر، فقد تجب فيه
_________
(1) في الأصل: (ليس)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/91)


كفارة يمين إذا لم يفعل المنذور عند كثير من العلماء؛ فمذهب أحمد أَنَّ المنذور لا بُدَّ فيه مِنْ فعلِهِ أو فعلِ بَدَلِهِ أو كفارة يمين، وهذا معنى ما نُقِلَ عن كثير من الصحابة والتابعين؛ كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (1).
فمن جَوَّزَ النزاع في التعليقات التي يُقصد بها اليمين كقوله: إِنْ فعلت كذا فعليَّ الحج ومالي صدقة وكل مملوك لي حر وامرأتي عليَّ كظهر أمي والحِلُّ عليَّ حرام وأنا يهودي ونصراني؛ فمن العلماء من يقول: إذا وجد الفعل كان مُطَلِّقًا وناذرًا ومعتقًا ومظاهرًا ومُحَرِّمًا ولكن ليس بكافر، وهذا قول مالك – رحمه الله -.
ومنهم من يقول: بل يكون مُطَلِّقًا ومعتقًا ومظاهرًا ومُحَرِّمًا ولا يكون ناذرًا بل حالفًا يجزئه كفارة يمين، وكذلك في الكفر تجزئه كفارة يمين وهذا هو المنصوص عن أحمد، وتجزئه عنده كفارة واحدة، واتَّبَعَ في ذلك حديث ليلى بنت العجماء (2)، والكفارة عنده إنما هي في النذر.
ومنهم من يقول: هو حالفٌ في الجميع إلا في الطلاق والعتاق.
ومنهم من يقول: هو حالفٌ في الجميع إلا في الطلاق فإنه مُطَلِّق.
ومنهم من يقول: بل هو في الجميع حالف (3).
ومن العلماء مَنْ جعل هذه التعليقات أو أكثرها أيمانًا، ويجعلها من جنس
_________
(1) أخرجه مسلم (1645) من حديث عقبة بن عامر – رضي الله عنه -.
(2) سيأتي تفصيل روايات هذا الأثر في كلام المجيب فيما سيأتي (ص 201 – 209).
(3) في الأصل: (حالفٌ في الجميع)، ووضع الناسخ علامة التقديم والتأخير، وكتب في الهامش ما هو مثبت.

(1/92)


الأيمان بالمخلوقات فلا تنعقد ولا يجب فيها كفارة (1)، ثم مِنْ هؤلاء مَنْ طرد هذا في الجميع، ومنهم من استثنى الطلاق، ومنهم من استثنى الطلاق والعتاق.
[28/ أ] ومن السلف (2) مَنْ عُرِفَ قوله في بعض هذه الأيمان ولم يُعرف قوله في الآخر؛ فمن العلماء من استثنى الطلاق والعتاق، ولا أعلم قوله في الحلف بالظهار والحرام، هل هو عنده من باب الحلف بالنذر أو من باب الحلف بالطلاق والعتاق؟
والشافعي – رضي الله عنه – رأيته استثنى الطلاق والعتاق، ولم أقف له على نَصٍّ في الحلف بالظهار والحرام لكن أصحابه [يقولون: الحلف بالظهار والحرام في لزوم المحلوف به؛ كالحلف بالطلاق والعتاق] (3).
وإذا كان منشأ النزاع بين العلماء في التعليق الذي يُقصد به اليمين هل هو يمين أم هو من جنس ما عُلِّقَ فيه نذرٌ أو طلاق أو عتاق= فقد عادَ النزاعُ في هذه المسائل إلى تحقيق المناط الذي عَلَّقَ الله به الحُكْمَ؛ هل هو موجودٌ
_________
(1) الحلف بالمخلوقات يمينٌ غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء، ووقع الخلاف في الحلف بالنبي – صلى الله عليه وسلم -، وبعض أهل العلم عَدَّاه إلى غيره من الأنبياء.
انظر: مجموع الفتاوى (1/ 286، 335) (27/ 226) (33/ 62، 68، 122، 126، 136، 142، 222) (35/ 243)، الفتاوى الكبرى (3/ 222 وما بعدها، 236، 245، 308، 312)، (4/ 110، 115 – 117)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 440)، قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 231)، والقواعد الأصولية والفقهية من مجموع الفتاوى لابن غديان (2/ 69 – 70).
وانظر: (ص 132، 364)، ومعطية الأمان من حنث الأيمان (ص 80 – 85).
(2) في الأصل: (ومنهم)، وفي الهامش كتب الناسخ ما أثبتُّ وفوقها حرف (خ).
(3) يوجد هنا بياض في الأصل بمقدار سطر إلا كلمتين. وانظر: قاعدة العقود (1/ 224).

(1/93)


في هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين أم لا؟ هل هي يمين أم هي تطليق ونذر وإعتاق وظهار وحرام؟
وحينئذٍ؛ فمن قال: إنها يمين وليست بطلاق عليه أَنْ يُبَيِّنَ هذا وهذا، ومن قال: هي تطليق وليست يمينًا عليه أَنْ يبين هذا وهذا.
والقائلون بأنَّ هذا يمين يقولون: ليس هذا بمطلِّقٍ ولا ناذر ولا مظاهر ولا محرم ويُصرِّحونَ بذلك، سواء ادعوا أنها يمين مكفَّرة أو غير مكفرة ــ وقد تقدم بعض كلامهم في ذلك ــ؛ وإذا كان كذلك فهذا المعترض لم يُقِم دليلًا على أَنَّ هذا مُطَلِّق ولا على أنه ليس بيمين.
وقد تقدم ذكر ما زعم أنه دليل على أنه تطليق وأنه ليس في شيء منها دليل، وأما كونها ليست يمينًا فلم يُقِم عليه دليلًا (1) بل اكتفى بمجرد الدعوى، ولو قام مقام المانع المطالِب لكونها يمينًا لم يكن عليه دليل على النفي، وإنما قام مقام النافي الجازم بكونها ليست أيمانًا، ومعلوم أنَّ عليه دليلًا على نفي كونها من الأيمان، كما أَنَّ المثبت لكونها من الأيمان عليه الدليل، وهو لم يقم دليلًا على النفي، وإنما غايته دعاوى مجردة، أو نقل من ليس معه إلا الدعوى المجردة.
وأما المجيب فبيَّن أنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين يمين بالنقول المستفيضة عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ والتابعين وعلماء المسلمين وعامتهم، بل بإجماع [28/ ب] الصحابة والتابعين على أنها تسمى أيمانًا من غير خلاف يُعرف عنهم في التسمية، وباتفاق الأمم عربهم وعجمهم على تسمية ما
_________
(1) في الأصل: (دليل)، والجادة ما أثبتُّ.

(1/94)


يقصد به هذا المعنى يمينًا، وبَيَّنَّا أنَّ المعقول في اليمين موجود في هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين (1) وأن ذلك لا يختلف باختلاف اللغات، وباتفاق الفقهاء على (2) إدخال هذه في مسمى اليمين والحلف (3).
وأما قوله: (أنه لا يتناوله اسم الحلف واليمين في كلام الفقهاء وغيرهم إلا مع القيد كقوله: حلفت بطلاقك).
فعنه جوابان؛ أحدهما: أنَّ هذا باطل؛ فإن الصحابة وغيرهم سموا التعليق الذي يقصد به الحلف يمينًا باللفظ المطلق لا بالقيد؛ كقولهم: هذه يمينٌ من الأيمان، وكَفِّر عن يمينك ونحو ذلك، بل أدرجوها في لفظ الأيمان في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وكذلك الفقهاء أدرجوها في ذلك (4).
فصلٌ
قال: (وقد بَيَّنَّا أَنَّ ذلك تطليق؛ ثم إما أَنْ يكون قول القائل: عَلَّمْتُهُ فما تَعلَّم حقيقة أو مجازًا؛ فإنْ كانَ حقيقة وجب أن يكون مجرد تعليق الطلاق تطليقًا، وإنْ كان مجازًا فلا إشكال أنه إذا حصل العلم بصدق التعليم حقيقة، ولا امتناع في توقف إطلاق اسم التعليم على محاولة أسبابه إلى أنْ يحصل
_________
(1) في الأصل زيادة: (يمينًا)، والصواب حذفها.
(2) في الأصل زيادة: (أنَّ)، والصواب حذفها.
(3) انظر (ص 878).
(4) لم يذكر الجواب الثاني إلا أنْ يكون الجواب الأول: منع دعوى بطلان حجة الخصم، والثاني: إثبات صحة كلام المجيب بما ذكره هنا.

(1/95)


أثرها، فإذا حصل أثرها صدق عليها اسم التعليم حقيقة، وإلا لوجب ألا يَصدق التعليم أصلًا لا قبل حصول العلم ولا بعده؛ فإنَّ العلم في الغالب لا يحصل وقت التعليم بل لابد من مهلةٍ.
كذلك التطليق المعلَّق يتوقف إطلاق اسم التطليق عليه على وجود شرطه، فإذا وجد ترتب عليه أثره وسمي تطليقًا كما يسمى التعليم عند وجود أثره تعليمًا، ولو لم يكن كذلك لزم ألا يقع الطلاق المعلق بالصفات التي ليس فيها يمين؛ كطلوع الشمس.
وابن تيمية يوافقُ على وقوعه، فيلزم على مساقِ كلامه أنَّ ذلك غير داخل تحت اسم التطليق.
فإنْ قال: إنه عند الصفة يصير تطليقًا، فليقل: بأنه عند وجود الشرط والحنث يصير تطليقًا) (1).
فيقال: قد تقدم الكلام على أنه ليس فيما ذَكَرَ دليل على أنه تطليق.
وأيضًا؛ فتمثيل ذلك [29/ أ] بقوله: (عَلَّمْتُهُ فتعلَّم أو ما تعلم) لو كان التمثيل صحيحًا لكان حجة عليه؛ لأنه حينئذٍ يقال: عَلَّمْتُهُ فَتَعَلَّمَ وَعَلَّمْتُهُ فَمَا تَعَلَّمَ، فيجب إِنْ كان مثله أنْ يقال: طلقتُها فَطَلُقَتْ وطلقتها فما طلقت؛ وليس الأمر كذلك، لأنَّ التطليق لا يتوقف على أمر تفعله المطلَّقة كما يتوقف التعليم على أمر يفعله المتعلم، لكن التطليق يتوقف على كون المحل قابلًا للطلاق؛ فلو طلق الأجنبية من زوجها لم تطلق باتفاق المسلمين، كما في
_________
(1) «التحقيق» (33/ ب)، وقد تقدم في أول الفصل السابق.

(1/96)


السنن عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» (1)، وإنما الطلاق الذي قَصَدَ إيقاعه عند الصفة، فهو تطليق عند الصفة من غير أن يحتاج إلى فعل في الصفة بل بمنزلة الظرف؛ كما لو قال: أنتِ طالق عند الهلال.
وأما قوله: (وابن تيمية يوافق على وقوع الطلاق المعلق بالصفة التي ليس فيها يمين؛ فيلزمه على مساق كلامه إذا قال: إنه عند الصفة يصير تطليقًا، فليقل: بأنه عند وجود الشرط والحنث يصير تعليقًا).
فيقال: ابن تيمية مع قوله بالفرق يقول: لا حجة للمعترض وأمثاله ممن يجمع ويُفَرِّق في أحكام التعليقات بغير دليل شرعي على من نفى وقوع
_________
(1) أخرجه أبو داود (2190)، والترمذي (1181)، وابن ماجه (2047) وغيرهم من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده بألفاظ متقاربة.
وقال الترمذي: حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن صحيح، وهذا أحسن شيءٍ روي في الباب. وقال في العلل (برقم 302): وسألتُ محمدًا عن هذا الحديث، فقلتُ: أيَّ حديثٍ في هذا الباب أصحُّ في الطلاق قبل النكاح؟ فقال: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وصححه الحاكم (2/ 222)، وابن الجارود (برقم 743)، وابن الملقن في تحفة المحتاج (2/ 206).
وقال ابن معين ــ كما في علل ابن أبي حاتم 4/ 132 ــ: لا يصحُّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا طلاق قبل نكاح»، وأصحُّ شيءٍ فيه حديث الثوري، عن ابن المنكدر، عمن سمع طاوسًا، أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا طلاق قبل نكاح».
انظر: نصب الراية (3/ 230)، البدر المنير (8/ 88)، صحيح أبي داود (الأم) (6/ 393).

(1/97)


الطلاق المعلَّق، فإنهم يجمعون بين ما فرق الله بينه ويفرقون بين ما جمع الله بينه، فلم يكن لهم حجةٌ شرعيةٌ على ما يذكرونه من وقوع الطلاق المعلق ــ سواءً قصد به اليمين أو الإيقاع ــ من المنع من وقوع غيره من الأحكام المعلقة؛ كالولايات والوكالات والضمانات والأنكحة وغيرها من الأحكام.
وأما ابن تيمية فإنه يقول: الطلاق الذي يَقصد إيقاعه عند الصفة يَلزم، كما يلزم النذر المعلَّق بالصفة والعتق المعلَّق بالصفة والجعالة المعلَّقة بالصفة والظهار المعلَّق بالصفة والتحريم المعلَّق بالصفة والولايات المعلَّقة بالصفات، وغير ذلك من الأحكام مما يدخل في مسمى الاسم الذي عُلِّقَت به الأحكام لفظًا ومعنى، ويُفَرِّقُ بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي يقصد به الإيقاع، وهو يقول: كما أَنَّ لفظ النذر والعتق يتناول مُنَجَّزَهُ ومُعَلَّقَهُ= فكذلك لفظ الطلاق وغيره لا فرق بينهما لا من جهة اللغة ولا من جهة الشرع [29/ ب] ولا العقل.
فلما كان قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (1) يتناول المُطْلَقَ والمعلَّق بالنص والإجماع، وقوله: «الولاء لمن أعتق» (2) يتناول المنجِّزَ للعتق والمعلِّقَ له بالإجماع= فكذلك قوله: «الزعيم غارم» (3)
يتناول المنجِّز
_________
(1) تقدم تخريجه (ص 6)، وهو في البخاري.
(2) أخرجه البخاري (456)، ومسلم (1504) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(3) أخرجه الطيالسي في مسنده (2/ 451)، وعبد الرزاق في المصنف (4/ 148) (8/ 173، 181) (9/ 48)، وابن أبي شيبة (20562، 22843)، وأحمد في المسند (36/ 628)، وأبو داود (3565)، والترمذي (1265، 2120)، وابن ماجه (2405) وغيرهم من حديث أبي أُمامة – رضي الله عنه -.

وقال الترمذي: حديث حسن، وقد روي عن أبي أمامة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من غير هذا الوجه، ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل العراق وأهل الحجاز ليست بذلك فيما تفرد به؛ لأنه روى عنهم مناكير، وروايته عن أهل الشام أصح. وصححه ابن الجارود (رقم 1023)، وحسنه البغوي في شرح السنة (8/ 252).
وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (4/ 144): هذا الحديث حسنه الترمذي، ورواية إسماعيل عن أهل الشام جيدة، وشرحبيل من ثقات الشاميين؛ قاله الإمام أحمد، ووثقه – أيضًا – العجلي وابن حبان، وضعفه ابن معين.
انظر: نصب الراية (4/ 57 وما بعدها)، الدراية (2/ 163)، البدر المنير (6/ 707)، إرواء الغليل (5/ 245)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 166/ ح 610).

(1/98)


للضمان والمعلِّق له، كقوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] فهذا ضمانٌ بحِمْلِ بعير، وهو معلَّق على المجيء بالصاع، وهو تعليق للجعالة وللكفالة، لكنه تعليق على سبب الوجوب، ولهذا كان جمهور العلماء أحمد وغيره على أنَّ تعليق الضمان على سبب الوجوب يجوز، مثل أن يقول: إنْ أقرضتَهُ ألفًا فأنا ضامنٌ له، وتنازعوا فيما إذا عَلَّقَهُ بغيره كطلوع الشمس، وفيه وجهان في مذهب أحمد؛ والأظهر جوازه.
وعلى هذا فالمطلِّق موقعٌ للطلاق عند الصفة، كما أَنَّ الناذرَ ملتزمٌ للمنذور عند وجود الصفة، وهو من جنس التعليق يُطَلِّقُ طلاقًا مقيدًا موصوفًا لا طلاقًا منجزًا مرسلًا، كما أَنَّ الناذر من حين يعلق النذر ناذرٌ نذرًا مقيدًا موصوفًا لا نذرًا مطلقًا، ولا فرقَ بينَ حال المطلِّق والناذر والجاعل بين عقد التعليق وبين وجود الصفة التي لا تتعلق بفعله، فإنه لم يتجدد منه

(1/99)


شيء، لكن إذا حدثت الصفة وقع الطلاق الذي كان عَلَّقَهُ به، كما يجب المنذور الذي كان عَلَّقَهُ بالصفة، ويحصل العتق الذي عَلَّقَهُ بالصفة، ويجب الجُعْلُ الذي علقه بالصفة إذا قال: مَنْ رَدَّ عبدي الآبق له عشرة دراهم فإذا حصل الرد وجب الجعل، فالتطليق متقدم من حين عقد التعليق، ووقوعُ الطلاقِ حاصلٌ إذا حصلت الصفة التي عَلَّقَ بها الطلاق كسائر الأمور المعلقة بأسبابها.
ومجرد تعليق الطلاق تطليقٌ معلَّقٌ بالصفة (1) ليس تطليقًا مجردًا منجزًا مرسلًا، ولا يقول: إنه لا يسمى تطليقًا معلقًا بالصفة إلا عند وجودها، بل هو موجود، ويسمى بذلك قبل أنْ يقع، لكن عند وقوعها وقع الطلاق وصارت المرأة مطلَّقة؛ فحصول المجموع وهو في تلك الحال صار مطلقًا بالفعل طلاقًا وَقَعَ وَحَصَل.
وأما القاصد لليمين فهذا لا نُسلِّم أنه مُطلِّق؛ كما أنَّ المعلِّق للنذر القاصد لليمين لا نسلم [30/ أ] أنه ناذر، بل هذا حالف وهذا ناذر، لا هذا أراد النذر ولا هذا أراد الطلاق، ولا المعلِّق للعتق والظهار والحرام على وجه اليمين أراد العتق والظهار والحرام، لا هو ناذرٌ لا مطلقًا ولا مقيدًا، ولا مُطلِّقٌ لا مطلقًا ولا مقيدًا، ولا معتقٌ ومظاهِرٌ ومحرِّم لا مطلقًا ولا مقيدًا؛ فكيف يصير مُطَلِّقًا عند وجود الصفة بدون أن يكون عند التعليق لا مُطَلِّق لا مطلقًا ولا مقيدًا؟!
وليس بين تعليق النذر على وجه اليمين وبين تعليق الطلاق والعتاق
_________
(1) في الأصل: (بالعقد)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/100)


والظهار والحرام إلا فرقٌ غير مؤثر في الشرع، فإنَّ الناذر عَلَّقَ الوجوب بالشرط، والوجوب مقتضاه أَنْ يفعل ما أوجبه، فمقتضى التعليق أفعالٌ (1) يؤمر بها، والموقِعُ عَلَّقَ بالشرط وقوع الطلاق والظهار والحرام.
والوقوع مقتضاه حرمة أفعال وتركها والكَفُّ عنها؛ فمقتضاه ترك محظورات، كما أَنَّ مقتضى النذر فعل مأمورات، ولما كانت الحرية إذا ثبتت لم يؤمر الإنسان بفعلٍ ينشئه بعدها بل الكَفُّ والإمساك، والوجوب يؤمر فيه بفعل المنذور، وصار الناذر يفعل، ثم إنه بعد الحلف بالنذر قد يخير بين فعل المنذور والتكفير.
وأما الحرية فهي إذا ثبتت لم توجب إلا الكَفَّ والإمساك، فلا يُعْقَلُ تَخَيُّرٌ بينَ فعلٍ وبين تكفير وهذا فرق صوري؛ فإنه إذا كان قصده اليمين لم يثبت هناك وجوب، بل كان مخيرًا بين فِعْلِ ما عقد سبب وجوبه من التكفير؛ وهنا إذا كان قصده اليمين لم يثبت وقوع، بل كان مخيرًا بين إيقاع ما انعقد سبب وقوعه وبين التكفير، وهو مخيرٌ بين التكفير وبين الإيقاع الموجب للوقوع والمقتضي للكف، وهناك (2) مخيرٌ بين التكفير وبين الفعل الذي انعقد سبب وجوبه؛ فالوقوع هناك متقدم على الفعل الذي يخير بينه وبين التكفير، وهنا الوقوع متأخر عن الإيقاع الذي يخير بينه وبين التكفير، وهذا فَرْقٌ لا تأثير له في الشرع.
والجمع والفرق إنما يكون بالصفات المؤثرة في الشرع، المعتبرة في
_________
(1) في الأصل: (أفعالًا)، والجادة ما أثبتُّ.
(2) كتبها الناسخ في الهامش وفوقها حرف (ظ) و (خ)، وفي الأصل: (وهنا).

(1/101)


الكتاب والسنة؛ وهي الصفات التي عَلَّقَ الشارع بها الأحكام، ولهذا يقول (1) [30/ ب] الفقهاء: هذا وَصْفٌ شَهِدَ له الشرعُ بالاعتبار، وهذا وَصْفٌ شَهِدَ له بالإلغاء والإهدار، وتكلم كثيرٌ منهم في المناسب المرسل والمصالح المرسلة هل يجوز تعليق الأحكام بها أم لا؟ بناءً على اعتقادهم أن في الوجود مناسبًا ومصالحَ (2) لم يعتبرها الشرع ولم يلغها؛ وهذا غلط، فليس في الوجود وصف يظن أنه مناسب أو مصلحة إلا والشارع قد اعتبره أو أهدره (3).
وقد بَيَّنَ الرسول – صلى الله عليه وسلم – جميع الدين وما تعلق به الشرع من الأوصاف، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» (4)، وقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
_________
(1) الكلمة غير واضحة، ولعلها ما أثبت.
(2) في الأصل: (ومصالحًا)، والجادة ما أثبتُّ.
(3) مجموع الفتاوى (11/ 342 – 344)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 22)، جامع المسائل (2/ 192)، (4/ 46)، قاعدة في المحبة (ص 81). وانظر ما سيأتي (ص 807).
(4) أخرجه أحمد (28/ 367/ رقم 17142)، وابن ماجه (43) وغيرهما من حديث العرباض بن سارية – رضي الله عنه -.
وصححه الحاكم (1/ 175)، وقال أبو نعيم في مستخرجه (1/ 36): وهذا حديث جيد من صحيح حديث الشاميين، وهو وإنْ تركه الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج فليس ذلك من جهة إنكار منهما له، فإنهما ــ رحمهما الله ــ قد تركا كثيرًا مما هو بشرطهما أولى وإلى طريقتهما أقرب، وقد روى هذا الحديث عن العرباض بن سارية ثلاثة من تابعي الشام معروفين مشهورين: عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر ويحيى بن أبي المطاع؛ وثلاثتهم من معروفي تابعي الشام.
انظر: السلسلة الصحيحة (2/ 610/ رقم 937).

(1/102)


نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
لكن قد يخفى على كثيرٍ من الناس ما بيَّنه الله ــ تعالى ــ وَدَلَّ عليه من الأحكام وما عَلَّقَ به تلك الأحكام من الصفات المعتبرة المناسبة وما في ضمن ذلك من المصالح والحِكَم، وقد يَظُنُّ أنَّ ما أهدره وألغاه فيه مصلحة وهو مناسب، وتكون مصلحته ــ إِنْ كان فيه مصلحة ــ مرجوحة بالمفسدة الراجحة، وكذلك إن كان فيه نوع مناسب فتكون مرجوحة بالمناسبة التي تقتضي خلافه.
والشارع أحكم الحكماء يُرَجِّح عند التعارض والتزاحم أرجح المصلحتين وإن فاتت أدناهما (1)؛ كما يدفع أعظم المفسدتين وإن لزمت أدناهما، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]، وقال تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ
_________
(1) انظر: القواعد الأصولية والقواعد والضوابط والفوائد الفقهية من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 15 – 33).

(1/103)


تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] (1)
لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25]، وقال: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، وبسط هذا له موضعٌ آخر (2).
والمقصود هنا: أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين، إذا كان المعلَّقُ وجوبَ فعلٍ خُيِّر بين ذلك الفعل وبين التكفير، وإذا كان المعلَّق وقوع طلاق أو ظهار يقتضي ترك فعلٍ خُيِّرَ بين التزام (3) ذلك الطلاق والظهار وبين التكفير، والطلاق لا يكون لازمًا له [31/ أ] حتى يوقعه، فيكون الفعل هنا الذي خير بينه وبين التكفير الذي أوجبه التعليق هو الموجِب للوقوع المقتضي للكف والإمساك، وهناك الفعل الذي يخير بينه وبين التكفير هو الذي أوجبه التعليق، والتعليق هناك أوجب فعلًا أو أوجب تركًا، فإذا خير هناك لم يحتج إلى فعلٍ يقتضي الحكم، بل يخير بين الفعل الذي جعله واجبًا
_________
(1) ليست في الأصل ..
(2) مجموع الفتاوى (1/ 138، 265)، (8/ 94، (10/ 512)، (13/ 96)، (15/ 312 وما بعدها)، (20/ 48)، (23/ 182، 343)، (24/ 278)، (27/ 178)، (28/ 591)، (29/ 251، 271)، (30/ 136، 193، 234، 359)، (31/ 266)، الفتاوى الكبرى (3/ 14)، (4/ 362)، (5/ 153)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 383)، جامع الرسائل (2/ 141)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 123)، جامع المسائل (1/ 177، 179)، (6/ 416، 422)، الاستقامة (1/ 288، 439)، الجواب الصحيح (2/ 215)، (6/ 17)، منهاج السنة (1/ 551)، (3/ 84)، (4/ 527)، (6/ 118)، الواسطة بين الحق والخلق (ص 33)، قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 200).
(3) في الأصل: (إلزام)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/104)


عليه وبين التكفير، وإذا خير هنا احتاج إلى فعلٍ يقتضي الحكم الذي جعله واقعًا منه، فإنَّ الوقوع بعد الإيقاع الذي يريد أن يفعله إذا لم يكفر، وهناك لا يحتاج إلا إلى الفعل الذي أوجبه، لا يحتاج إلى فعلِ مقتضٍ للحكم الذي هو الوجوب، وهذا لأن المقصود من الوجوب فعل الواجب فإذا فعله هناك فقد فعل ما جعله لازمًا له، والمقصود من الوقوع الترك، والوقوع لا يحصل إلا بعد إيقاع، فإذا اختاره لم يحصل بمجرد كَفِّهِ وإمساكه وامتناعه، بل لا بُدَّ من إنشاء طلاق تصير به مطلقة.
وأما في الظهار والتحريم إذا اختار أن تصير مظاهرة ومحرمة؛ فهذا حرام عليه (1)، لا يجوز له أن يظاهر (2) ولا يحرم؛ بل يُنهى عن ذلك فلا نخيره نحن، بل لو حرمها أو ظاهر منها صار مظاهرًا ولزمته كفارة الظهار (3)، كما لو كان الطلاق الذي علَّقه في تعليق اليمين محرمًا مثل الطلاق الثلاث أو الطلاق في الحيض ونحو ذلك لم نخيِّره بين التكفير وبين التطليق؛ بل نأمره بالكفارة عينًا، لكن إِنْ طَلَّقَ لزمه الطلاق وسقطت عنه الكفارة عند من يقول الطلاق المحرم واقع، وأما من يقول إنه غير واقع فلا يخيره، وإذا طلق في الحيض لم يقع به الطلاق؛ فيتعين في مثل هذه الصورة عليه الكفارة.
وأما إذا قال: إن فعلت كذا؛ كما لو قال: والله لئن فعلت كذا لأطلقنك في الحيض، فإنه تتعين الكفارة، والطلاق في الحيض متعذر؛ كما لو قال: والله لأنكحنَّك في العِدَّة ولأشترينَّ هذه الجرار الخمر؛ هذا إذا كان مقصوده
_________
(1) في الأصل: (عليها به)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) في الأصل: (يظهار).
(3) في الأصل: (الطلاق)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/105)


النكاح والبيع والطلاق الذي يحصل (1) به مقصوده وهو الذي يريده عامة الناس، وأما إن كان مقصوده (2) [31/ ب] صورة العقد بَرَّ في يمينه بفعل ذلك، وأما إذا كان المعلَّق هو الطلاق الثلاث كان تقدير الكلام: والله إن فعلتِ ذلك ليقعن بك الطلاق الثلاث، فإذا أوقع بها الثلاث ــ وقلنا: لا يقع به إلا واحدة ــ فقد حنث في يمينه.
فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فامرأتي طالق ثلاثًا، وَقُدِّرَ أنه اختار أَنْ يطلقها ولا يكفر يمينه لم يجز له أن يطلقها إلا واحدة، فلو طَلَّقَ ثلاثًا لم يقع به إلا واحدة؛ وحينئذ فتتعين عليه الكفارة هنا أيضًا.
فمتى كان المعلَّق في تعليق اليمين طلاقًا محرمًا أو ظهارًا أو تحريم حلال تعينت الكفارة، كما لو كان المعلَّق في تعليق النذر فعلًا محرمًا مثل أن يقول: إن فعلت كذا فلله عليَّ قتل فلان أو ذبح نفسي ونحو ذلك، فهنا تتعين عليه الكفارة؛ فإنه من التزم لله أو بالله معصية لم يكن له أن يفعلها وتعينت الكفارة عليه.
ولو كَفَّرَ المعلِّق للظهار والتحريم كفارة ظهار من غير إنشاء ظهار كان قد أتى بأعلى الكفارتين، كما لو كَفَّرَ في اليمين بذلك، فإذا كانت الكفارة عتقًا أو إطعام ستين مسكينًا فهذا يجزئ باتفاق المسلمين, وأما إن كانت صوم شهرين متتابعين، والواجب كفارة اليمين عتقًا أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم (3).
_________
(1) سواد في الأصل، ولعل ما أثبتُّ هو الصواب.
(2) سواد في الأصل، وهكذا قرأتها.
(3) بهذا انتهى الفصل، وكأن الكلام لم يتم بعد.

(1/106)


فصل
قال المعترض:
(العشرون: لو لم يكن الطلاق بحيث يقع عند الشرط لم تنعقد اليمين به، كما لو قال للأجنبية: إنْ دخلتِ الدار فأنت طالق، وتزوجها بعد ذلك ثم دخلتِ الدار؛ فهذا لا يلزمه شيء بلا خلاف، فلو كان قَصْدُ اليمين وحده كافيًا لكفى ههنا.
فإن قلتَ: قصد اليمين مع كون الشيء بحيث يقع لولا إرادة اليمين، فإرادة اليمين مانعة؛ وكذلك نذر اللجاج فإنَّ ما سماه في نذر اللجاج لا يحصل عند القائلين بالكفارة أو التنجيز ومع ذلك تنعقد اليمين به.
قلتُ: الناذر في اللجاج ملتزم لاقتران الفعل الذي مقصوده الامتناع منه بالإعتاق مثلًا، كما أَنَّ الحالف ملتزم لاقتران ما حلف عليه بتعظيم المحلوف به، فإذا حصل ذلك الفعل فنقول له: إن أعتقت (1) فقد وَفَّيْتَ بمقتضى التزامك من اقتران الإعتاق بالفعل، [32/ أ] وصار كما لو لم يحنث في الأيمان، واستمريت في التزام حرمة الاسم، وإنْ تركتَ العتق تكون قد خالفته (2) وتركت ما التزمت اقترانه بالفعل، كما لو خالف الحالف بالحنث فترك مقتضى ما التزمه من حرمة الاسم، فتجب (3) عليك الكفارة؛ فهي حينئذٍ مكفَّرة لترك العتق لا لحصول الفعل، وصار النذر كاليمين المعلقة، كأنه
_________
(1) في الأصل: (عتقت)، والمثبت من «التحقيق».
(2) في «التحقيق»: (خالفت).
(3) في الأصل: (تجب)، والمثبت من «التحقيق».

(1/107)


قال: والله إِنْ فعلتُ كذا أعتقت هذا العبد (1)، فإن أعتق فقد بَرَّ في قسمه ولم يحنث، وإن لم يعتق وجبت الكفارة؛ فافهم هذا فإنه من نفيس البحث، وبه يظهر قوله – صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارة يمين» (2)، وسيكون لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله) (3).
والجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال: إن أراد أنه لو لم يقع عند الشرط مطلقًا لم تنعقد به اليمين؛ فهذه دعوى مجردة تضمنت دعوى محل النزاع بلا دليل. وحقيقة كلامه أن الحالف لو لم يلزمه الطلاق المعلق إذا قصد بتعليقه اليمين لم تنعقد اليمين به، وهو كمن يقول: لو لم يلزمه النذر المعلَّق والظهار المعلَّق والتحريم المعلَّق والهدي (4) المعلَّق والكفر المعلَّق والوقف المعلَّق والأضحية المعلَّقة على وجه اليمين لم تنعقد اليمين به؛ وهذا باطل، فإنه لو علَّق النذر بشرط يقصده لزم، فإذا قال: إنْ شفاني الله من هذا المرض فَثُلُثُ مالي صدقة، أو هذا البعير هدي، أو هذه الشاة أضحية ونحو ذلك صَحَّ، ولو قصد به اليمين فقال: إِنْ سافرتُ معكم فثلث مالي صدقة، وهذا البعير هدي أو هذه الشاة أضحية أجزأته كفارة يمين عند الجمهور والمعترض وغيره.
ولو قال: إن سافرت معكم فأنا بريء من الله ورسوله لم يبرأ، ولو قال: إنْ أعطيتموني ألفًا فأنا بريءٌ من الله ورسوله صار بريئًا من حين قال ذلك،
_________
(1) انظر ما سيأتي (ص 120 وما بعدها).
(2) سبق تخريجه (ص 92)، وهو في صحيح مسلم.
(3) «التحقيق» (33/ ب ــ 34/ أ)، وهو الوجه الثاني عشر.
(4) في الأصل: (وبالهدي)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/108)


فهذا إذا علقه تَنجَّز ولم يتوقف على الشرط لقوة نفوذه، وهو إذا عَلَّقه تعليقًا يقصد به الأيمان لم يلزم، فالذي لا يتنجز مع التعليق بل يتأخر إلى وجود الشرط= أولى ألا يلزم إذا قصد به اليمين (1).
وإن أراد أنه لو لم يكن مما يجوز تعليقه في الجملة لم تنعقد به اليمين، لأنه حينئذٍ [32/ ب] معلَّق، وما لا يقبل التعليق لا يصير محلوفًا به إذا عَلَّقَهُ؛ فهذا المعنى ينفعنا لا يضرنا، فإنَّا نسلم أنه مما يقبل التعليق في الجملة، كما أَنَّ النذر يقبل التعليق.
وإذا قصد بالتعليق اليمين لم يكن نذرًا، وسواء كان النذر وجوب شيء في الذمة أو ثبوت ذلك في عين معينة.
فإذا قال: إِنْ فعلت كذا فهذا البعير هدي وهذه الشاة أضحية وهذه الدار وقف على المساكين وهذا المال صدقة ونحو ذلك، فهو كقوله: فهذا العبد حر، وهذه المرأة طالق، فإنه لو قال: هذا البعير هدي وهذه الشاة أضحية وهذه الدار وقف على المساكين لزم ذلك، كما يلزم إذا قال: هذا العبد حر وهذه المرأة طالق، ثم إذا عَلَّقَ ذلك تعليقًا يقصد به اليمين كان يمينًا مكفَّرة.

الوجه الثالث (2): أَنْ يقال: هذا الكلام حجة على من يوافقهم المعترض في الفرق بين المُطْلَق والمعلَّق الذين يقولون: إذا قال: إن فعلت كذا فمالي
_________
(1) مجموع الفتاوى (32/ 91).
(2) هكذا في المخطوط، وقد ألحق في هامش النسخة قبل هذا الوجه: (الوجه الثاني) دون أنْ يذكر تحته شيئًا.

(1/109)


صدقة كان يمينًا، ولو قال: إذا طلع الهلال فمالي صدقة، أو قال: هذا المال صدقة لم يصح، وكذلك إذا قال: عليَّ نذر لم يلزم، وإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ نذر لزم.
ولو قال: عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي أو إذا جاء رأس الشهر فعليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي لم يلزم.
ولو قال: إِنْ سافرتُ معكم فعليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي كان عليه كفارة يمين؛ كما ذَكَرَ ذلك مَنْ ذَكَرَهُ من أصحاب الشافعي وجعلوه مذهب الشافعي، والشافعي نفسه فَرَّقَ بين أن يقول: عليَّ نذر، وبين أن يقول: إن فعلت كذا فعليَّ نذر (1)؛ فهؤلاء يجعلون المعلِّق يقصد اليمين يمينًا وإن كان لا يلزم منجزًا فضلًا عن أن يلزم مع الشرط، فيجعلون التعليق الذي يقصد به اليمين في اقتضاء كونه يمينًا أبلغ من المنجز ومن التعليق المحض.
وهذا يناقض دليل المعترض الذي زعمه بقوله: (لو لم يكن الطلاق بحيث يقع عند الشرط لم تنعقد اليمين به) فإنَّ هذه الأمور تنعقد بها اليمين عندهم وهي مما لا يلزم عندهم منجزة ولا معلقة بشرط؛ بل يلزم عند طائفة النذر المعلَّق وإن لم يلزم المعلق بالصفة، كما يلزم عندهم الذي يقصد به اليمين [33/ أ] وَإِنْ لم يلزم المعلق بالصفة ولا المنجز، وهذا لأنه إذا قصد اليمين صار حالفًا فيدخل في النصوص الموجبة للكفارة، وإذا لم يقصد اليمين صار ناذرًا للطلاق وغيره من المباحات، ونذر المباحات لا يلزم
_________
(1) الأم (3/ 655).

(1/110)


الوفاء بها، أو (1) صار منجزًا لما لا ينعقد بصيغة التنجيز عندهم كقوله: مالي صدقة ــ في أحد الوجهين ــ، وكالنذر المنجَّز مطلقًا ــ في أحد الوجهين ــ.
وهذا لأنَّ القاصد لليمين لم يقصد أن يلزمه ما عَلَّقَهُ، ولا أن يكون ذلك؛ لا نذرًا لمباحات ولا نذرًا منجزًا ولا تطليقًا ولا إعتاقًا، وإنما يقصد أن يعلق بالفعل ما يكره لزومه ليكون حاضًّا ومانعًا له، ويكون ذلك المعلق حقًّا محضًا لله، فيكون قد التزم لله عند الحنث ما لا يريد أن يلزمه إذا حنث؛ فهذا معنى اليمين عندهم، سواءٌ كان ذلك مما يلزم مجردًا أو معلقًا بالصفة أو مما لا يلزم؛ هذا حقيقة هذا القول المأثور عن الشافعي ومن ذكره من أصحابه، وهو قول أحمد في إحدى الروايتين عنه.
ولو قال: عَبْدُ فلانٍ حر؛ لم يعتق عنده ولا عند أحد من المسلمين.
ولو قال: إنْ شفى الله مريضي فعبد فلانٍ حر؛ فإنَّ عليه كفارة يمين في إحدى الروايتين (2)، كما لو قال: لله عليَّ أنْ أشتريه وأعتقه فإنه مع التعليق قد نذر أن يصير حرًّا كأنه قال: فعليَّ أَنْ أُعتقه، فإذا تعذر عتقه كان عليه كفارة يمين، ولو أعتقه لم يلزمه شيء آخر.
والمقصود: أَنَّ من العلماء من يُلزم مع التعليق ما لا يُلزم مع التنجيز، ومع قصد اليمين ما لا يُلزم بدونه، فما ذكره لو كان حجةً كان حجةً على هؤلاء فكيف ولم تكن حجة؟! وذلك يتبين بِـ
الوجه الرابع: وهو أَنَّ هذا القياس الذي ذكره لم يذكر ما يدل على
_________
(1) هذه هي الحالة الثانية فيمن لم يقصد اليمين.
(2) المغني (13/ 480).

(1/111)


صحته.
فيقال له: لا نُسَلِّمُ أَنَّ العلة في الأصل ما ذكرتَ، وهذا المنعُ يكفي في منعه من الاستدلال به، ثم نذكر من الفرق ما يُبَيِّنُ به بطلان قياسه وهو أن قوله للأجنبية: إِنْ دخلتِ الدارَ فأنتِ طالق إيقاع طلاق بأجنبية، والأجنبية لا يلحقها الطلاق لا منجزًا ولا معلقًا، وهو إنما جعلها طالقًا إذا دخلت الدار فلم يشرط أن تدخل الدار وهي زَوجُهُ، فلو قال: إِنْ دخلتِ وأنتِ زوجتي [33/ ب] فأنت طالق؛ فهذا فيه النزاع المشهور.
ولو قال: إِنْ دخلتِ الدار فلله عليَّ أَنْ أُطلقك من زوجِكِ، فهذا عليه كفارة يمين؛ كما لو قال: فوالله لأطلقنَّك من زوجك، أو قال: إن دخلت الدار فلله عليَّ أَنْ أطلق امرأتي؛ كما ذكرنا في مذهب أحمد وأبي حنيفة وهو الذي جعله الخراسانيون مذهب الشافعي.
ولو قال: إن سافرت معكم فامرأة فلان طالق؛ فهو كقوله: مملوكه حر أو فبعيره هدي أو فماله وقف، فتصرفه في ملك الغير بدون وكالة وولاية لا ينفذ لا منجزًا ولا معلقًا؛ لكن هل يكون هذا كقوله: فلله عليَّ أَنْ أُعْتِقَ عبد فلانٍ وأهدي بعيره وأَقِفَ ماله، ويكون هذا بمنزلة أن يحلف ليفعلنَّ ذلك، كما لو قال: إن فعلت ذلك فعليَّ أَنْ أقتل فلانًا، وإِنْ أظفرني الله بفلان فلله عليَّ أَنْ أقتله، هذا مما يحتمل النزاع في مذهب أحمد وغيره.
الوجه الخامس: قوله: (لو كان قصد اليمين وحده كافيًا لكفى هنا).
يقال له: قوله: إِنْ دخلت الدار فأنت طالق؛ إِنْ كان قصده منعها من الدخول وهو لا يكره الطلاق إذا دخلت بل يريده؛ فليس هذا بحالف، ولا

(1/112)


هذا وحده يمينًا، وهذا مما تكرر ذكر المعترض له وعليه بنى كلامه، حيث ظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَّقَ حكمًا بأمر يكرهه فإنه حالف قد قصد اليمين، وعرف أن هذا خطأ على جميع الخلق العامة والخاصة والصحابة والتابعين والفقهاء وغيرهم، وإن كان يكرهه فهو حالف (1).
فإن أراد: إِنْ دخلتِ الدارَ فأنت طالق مني الآن؛ فهذا كلام باطل فإنه لو قال: لله علي أن أطلقك الآن لكان باطلًا.
وإن قال: فأنت طالق إِنْ تزوجتك فهذا يمين، كما لو قال إن فعلت كذا فكل امرأة أتزوجها فهي طالق، ولو قال لأجنبية: إن فعلت كذا فوالله لأطلقنك إن تزوجتك، أو فلله عليَّ أَنْ أطلقك إن تزوجتك فهو يمين.
ولو قال: فأنت طالق إذا تزوجتك ففيه نزاع مُرَتَّبٌ؛ فمن قال: إِنَّ الطلاق المعلق بالنكاح يلزم، يقول بانعقاد هذه اليمين، [و] (2) في إجزاء الكفارة فيها النزاع الذي نحن فيه، ومن قال: إن الطلاق المعلق بالنكاح لا يلزم تنازعوا إذا صار مستحقًّا للغير أو كان [34/ أ] التعليق في ملكه، وفي ذلك روايتان مشهورتان مثل أن يقول لامرأته: إن تزوجت عليك امرأة فهي طالق؛ فهنا نص أحمد في إحدى الروايتين على أنها تطلق إذا تزوجها مُفَرِّقًا بين ذلك وبين أن يقول ابتداءً: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فإنه هناك مقصوده الامتناع من نكاحها، وهذا لا يلزم، بخلاف ما إذا صار الطلاق حقًّا للمرأة، فإن من أصله أنه لو شرط لها ألا يتزوج عليها صحَّ الشرط، ولو تزوَّج عليها
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) إضافة يقتضيها السياق.

(1/113)


كان لها فسخ النكاح، فصار في امتناعه من النكاح حق لها.
ولو قال: إنْ تزوجت فلانة فلله عليَّ أنْ أُطلقها لم يكن عليه أنْ يُطلِّقَهَا؛ بل عليه كفارة يمين عند أحمد وأبي حنيفة ومن معهما، لأنَّ هذا يمين.
ولو شَرَطَ لامرأته ألا يتزوج عليها، وإنْ تزوَّجَ فلله عليَّ أنْ أطلقها = كان الطلاق حقًّا لها، فإذا لم يَفِ بشرطها كان لها أنْ تفارقَه ولا يسقط حقها بالكفارة؛ فلهذا قال (1): إنْ تزوجتُ عليكِ امرأةً فهي طالق؛ تطلق إن تزوجها، لأن الطلاق صار مستحقًا للمرأةِ، والمعلَّقُ هنا وقوعه (2).
وأصل أحمد أنَّ المضافَ إلى الملك من الحرية والظهار يقع في الملك؛ كقول الجمهور مالك وأبي حنيفة وغيرهما، فالمشهور من مذهبه أنه لو قال: إنْ تزوجت فلانة فهي عليَّ كظهر أمي، أو إذا مَلَكْتُ فلانًا فهو حُرٌّ صَحَّ الظهار ووقع العتق، وإنما مَنَعَ من الطلاق المعلَّق على الملك، لأنَّ مقصوده الامتناع من النكاح، ومعناه: لا أتزوج، وهذا لا يلزم؛ فإذا صار حقًّا لها صار ممتنعًا من النكاح لأجلها، وعلى الرواية الأخرى عنه: هو معلل بأنه لا طلاق قبل النكاح وهذا لا يجوز، لأنه فسخ للعقد قبل انعقاده وهو باطل، بخلاف الحرية [فليست] (3) فسخًا للبيع؛ بل هي تقرير للملك الحاصل به.
فإذا قال: إذا اشتريت فلانًا فهو حُر؛ فهو إعتاقٌ له بعد ملكه له وليس
_________
(1) أي: الإمام أحمد.
(2) مجموع الفتاوى (32/ 164، 166، 169، 170) (33/ 119)، الفتاوى الكبرى (3/ 90، 124، 196، 217) (5/ 461).
(3) إضافة يقتضيها السياق.

(1/114)


ذلك فسخًا للبيع، والظهار تحريم لها، وتحريم الأجنبية ممكن؛ فكيف إذا علَّقَ التحريم بالملك؟!
ولو قال لها في العِدَّة: إنْ تزوجتك فأنتِ طالق؛ فعنه فيه روايتان، وإذا كان كذلك، فإذا قال لأجنبية: إنْ فعلتِ كذا فأنتِ عليَّ كظهرِ أمي، أو [إِنْ فعلتِ كذا] (1) إذا تزوجتك فأنتِ عليَّ كظهرِ أمي؛ فهذا يمين بالظهار [34/ ب] بخلاف ما إذا قال ابتداءً: أنتِ عليَّ كظهرِ أمي، أو إذا تزوجتك فأنت عليَّ كظهرِ أمي، فإنَّ هذا ظهار محضٌ منجز ومعلق بالملك، فكذلك إذا قال لأجنبية: إن فعلتِ كذا فأنتِ طالق إذا تزوجتك فإنَّ هذا إذا قصد أنْ يمنعها من ذلك الفعل بإيقاع طلاقها إذا تزوجها فهذا يمين، كقوله: إن فعلتِ كذا فلله عليَّ أنْ أطلقك إذا تزوجتك، ثم قد يقول بأنَّ هذا يمين مَنْ لا يقول بلزوم هذا الطلاق لو كان مجردًا تعليقًا محضًا، ويقول بلزوم الكفارة فيه كما يقوله في نظيره.
الوجه السادس: قوله: (الناذر في اللجاج ملتزم لاقتران الفعل الذي مقصوده الامتناع منه بالإعتاق مثلًا) ليس بمسلَّم؛ بل إنما قُرِنَ بالفعل إيجاب العتق أو وجوبه لا نفسُ الإعتاق، فإنه إذا قال: إن فعلت كذا فلله عليَّ أن أعتق هذا العبد أو أتصدق بمالي أو أنْ أحجَّ لله؛ لم يَقْرِن بالفعل الذي امتنع منه شيئًا من هذه الأفعال لا الحج ولا الإعتاق ولا الصدقة؛ بل إنما قَرَنَ بذلك إيجاب هذه الأفعال ووجوبها، ولو كان المعلَّق نفس الأفعال لكانت الأفعال توجد إذا وجد شرطها في قصد النذر المحض، كما إذا قال: إنْ شفاني الله من مرضي فلله عليَّ أَنْ أعتق هذا العبد وأتصدق بثلث مالي
_________
(1) إضافة يقتضيها السياق.

(1/115)


وأحج إلى بيتِ الله، فإذا وجد الشرط كان الحاصل وجوب هذه الأفعال في ذمته لا نفس هذه الأفعال، وفي اليمين المعلق بالشرط هو هذا الوجوب، لكنه هناك علقه مع بُعْدِهِ عن هذا الإيجاب وامتناعه منه، ليكون لزومه له مانعًا له من الشرط؛ وَلَمَّا كان المعلق هو إيجاب الفعل المقتضي للفعل، فإن أعتق فقد وفَّى بموجب تعليقه، ولم يبقَ في ذمته شيء، وإنْ لم يفِ فعليه كفارة يمين.
وهكذا إذا قال: إنْ فعلت كذا فمماليكي أحرار؛ فالمعلق حصول العتق بالمماليك، لكنه لم يقصد إيقاع هذا العتق؛ بل هو من أبعد الناس عنه، وهو ممتنع منه غاية الامتناع؛ بل علقه ليكون لزومه عند الشرط مانعًا له من الشرط؛ وهكذا الطلاق المعلق على وجه اليمين إذا قال: إنْ فعلتُ كذا فكل نسائي طوالق لم يُعَلِّق إيقاع الطلاق إلا وهو من أبعد الناس عنه وممتنع [35/ أ] منه غاية الامتناع، وعلقه ليكون لزومه مانعًا له من الفعل، ثم جَعْلُهُ اللزومَ مانعًا له من الفعل هو موجب ربطه وتعليقه.
وأما حكم هذا اللزوم فإلى الشارع، فإنْ جعله عقدًا لازمًا لزم، وإن جعل له تحليلًا بالكفارة التي فرضها الله تحلةً لأيمانِ المؤمنين كان له حل هذا العقد بالكفارة.

وهذا الحالف باسم الله قَرَنَ ما حلف عليه بتعظيم المحلوف به؛ فموجب عقده أنه إذا وجد التعظيم وجد الفعل الذي حلف ليفعلنه، والتعظيم موجود في قلبه فيلزمه الفعل، فَجَعَلَ الشرعُ لتعقيدِ الأيمان تحليلًا كما قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، فلو لم يشرع

(1/116)


الكفارة لكان إذا حصل المحلوف عليه زال تعظيمه للمحلوف به، لأن الفعل قد جعله لازمًا للتعظيم، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، لكنْ شَرَعَ الله الكفارة تحلة لأيمان المؤمنين، وشرع لهم حَلَّ هذا العقد، وإبطال هذا اللزوم بالكفارة التي فرضها.
وهذا المعنى موجود في كل ربط قصد به اليمين، لكن إنما تجب الكفارة إذا كان اللازم بالحنث هَتْكَ حرمة الأيمان، أو (1) انتهاك حرمة اسم الله، لأنَّ ذلك انتهاك لحرمة المسمى، وهذا يتضمن إسقاط ما في القلب من تعظيم الله (2).
وكذلك إذا التزم الكفر المضاد للإيمان إذا فعل؛ فهذا أعظم انتهاكًا لحرمة الأيمان، وأبلغ من زوال تعظيم الله من القلب، وكذلك إذا التزم لله
_________
(1) في الأصل: (أما)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) انظر (ص 532 – 534).
وقال في قاعدة العقود (1/ 181 – 182): وقد بَيَّنَّا في غير هذا الموضع: أنَّ وجوب الكفارة في النذر وتحريم الحلال والحالف بقوله: أنا يهودي أو نصراني أولى من وجوب الكفارة في الحالف باسم الله، لأنَّ هذه الأيمان فيها من الالتزام بمثل حرمة الأيمان أعظمُ مما في الحلف باسم الله، فإذا كان الحالف باسم الله يجب عليه الكفارة لما فيه مِنْ هَتْكِ حُرمةِ اسم الله؛ فما في هذه الأيمان من هتك حُرمة المسمَّى أحق بوجوب الكفارة، فإنَّ تحريم الحلال تبديلٌ لحكم الله، ليس هو من أمر الله، ولو اعتقد معتقدٌ أنه يُغَيِّرُ الدِّين لكان كافرًا؛ وكذلك التزام الكفر إنْ فعل كذا وكذا، فإنَّ ما عَقَدَهُ لله أبلغ مما عقده به؛ فقوله: لله عليَّ أَنْ أفعل أَبلغُ من قوله: والله لأفعلنَّ؛ فإذا كان الحانث في هذا يجب عليه كفارة، فالحانث في ذلك أولى وأحرى.

(1/117)


شيئًا ولم يفِ بما التزمه له فهو أعظم من أن يلتزم به شيئًا ولا يفعل ما التزم به، فإنَّ التعظيم الذي في قلبه لله يزول إذا التزم له شيئًا ولم يفِ بما التزم له أعظم مما يزول إذا التزم به شيئًا ولم يفِ بما التزمه.
وإذا جعل التزامه لله وبالله مانعًا مِنْ فِعْلِ ما أُمِرَ فقد دخل في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]، وقوله عز وجل: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] فالائتلاء والتألي والإيلاء هو الالتزام (1) وهي الحلف واليمين.
ولهذا كان قوله: لله عليَّ إذا قَدَّرَنِي الله على فلان [35/ ب] لأقتلنه؛ يمينًا عند جمهور العلماء، وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة، وهذا الذي ذكره الخراسانيون مذهبًا للشافعي، وهو لم يقصد بما التزمه لله أن يتقرب به إليه، وإنما قصد أن يَحُضَّ نفسه عليه كما يقصد ذلك بقوله: والله إذا قدرت عليه لأقتلنه.

وقوله: لله عليَّ لأقتلنه أبلغُ من قوله: بالله لأقتلنه؛ وهذا من اليمين، كما قال عقبة بن عامر: النذر حَلْفَةٌ (2).
وهو الذي روى عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «كفارة
_________
(1) كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ.
وانظر: مجموع الفتاوى (33/ 51)، رسالة الاجتماع والافتراق (ص 80)، جامع المسائل (1/ 373)، وفي الأخير: والإيلاء هو اليمين، وهو القَسَمُ والحلف.
(2) لم أجده مسندًا، وقد ذكره المجيب هنا وفي غيره من تصانيفه، فمرةً يشير إلى أنه مرفوعٌ ومرة يذكر أنه موقوفٌ على عقبة؛ وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم في بعض مصنفاته.

انظر: مجموع الفتاوى (25/ 277) (35/ 258، 271)، والفتاوى الكبرى (4/ 129)، والقواعد الكلية (ص 469، 491)، وقاعدة العقود (ص 154، 162) وعزاه إلى الجوزجاني، والصارم المسلول (2/ 42)، وأحكام أهل الذمة (3/ 1387)، ومدارج السالكين (1/ 353)، وذكره ابن قدامة في المغني (13/ 626) بصيغة التمريض.
وأقدم من وقفت عليه ناسبًا هذا اللفظ لعقبة: ما ورد في مسائل الإمام أحمد لابنه صالح (1/ 396): قلت: مَنْ نَذَرَ أَنْ يصومَ يوم الفطر ويوم الأضحى كيف يصنع؟ وما يجب عليه؟ قال: أما ابن عمر فقال: أمر الله بوفاء النذر ونهانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن صيام هذين اليومين. وأما عقبة بن عامر فقال: النذر حلفة. وقال: لا يصوم يوم النحر ولا يوم الفطر ويكفِّر يمينه ويصوم يومًا.
وقد جاء عنه مرفوعًا بمعنى ما ذكره المجيب؛ فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده (28/ 575)، وأبو يعلى في مسنده (3/ 283)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 313) عن عقبة بن عامر مرفوعًا: «إنما النذر يمين، وكفارتها كفارة يمين».
وذكره أبو يعلى في الروايتين (3/ 67 – 68) مرفوعًا بلفظ: (النذر حَلِفٌ، وكفارته كفارة يمين).

(1/118)


النذر كفارة يمين» (1)، وهو هنا مقصوده حضُّ نفسِهِ على قتله. والتزم هذا لله كما يلتزمه بالله ليقتلنَّه (2).
ومن قال: لا يلزمه شيء لأنه التزم معصيةً لله فهو شبيهٌ بقول من يقول في قوله: والله لأقتلنه: ليس عليه شيء إذا لم يقتله؛ لأنه التزم بالله معصيةً، وكفارتها تركها، وهو نظير قول من يقول: المولي لا شيء عليه إذا فاءَ، لأنه فعل الواجب، فهؤلاء لم ينظروا إلى المعنى الموجب للكفارة، وهو انتهاك حرمة الأيمان بالله، وزوال التعظيم الذي في القلب لله إذا التزم به شيئًا ولم يوفِ بذلك.
_________
(1) تقدم تخريجه في (ص 92)، وهو في صحيح مسلم.
(2) في الأصل: (لا يقتلنه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/119)


وهو لو قال: عليَّ عهدُ الله وميثاقه لأفعلنَّ كذا، كان يمينًا، ولو قال: عليَّ لأفعلنَّ كذا، كان يمينًا ونحو ذلك. قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91].
ولو قال: أشهد بالله لقد زنيت، كان هذا يمينًا أبلغ من قوله: أحلف بالله لقد زنيت، وهي شهادة مؤكدة باليمين.
الوجه السابع: أنه قال: (فهي ــ حينئذٍ ــ مكفرة لترك العتق لا لحصول الفعل، وصار النذر كاليمين المعلَّقة، كأنه قال: والله إنْ فعلتُ كذا أعتقتُ هذا العبد، فإنْ أعتقَ فقد بَرَّ في قَسَمِهِ ولم يحنث، وإنْ لم يُعْتِق فقد وجَبَت عليه الكفارة. ثم قال: فافهم هذا، فإنه من نفيس البحث، وبه يظهر قوله – صلى الله عليه وسلم -: «كفارة النذر كفارةُ يمين» (1) وسيكون لنا عَودَةٌ إلى هذا البحث).
فيقال: هذا الذي ذكرتَه صحيح، وهو ــ ولله الحمد ــ من أعظمِ الحجج للقول الذي نَصَرَهُ المجيب؛ فالحمد لله الذي جَعَلَ المعاني الصحيحة التي تستحق التعظيم كلها حجة على ذلك القول، وجعل ما يُخالفُهُ معاني فاسدة [36/ أ] متناقضة.
فإنَّ هذا الذي ذكره في تعليق وجوب العتق وإيجابه إذا قصد به اليمين هو موجود في تعليق وقوعه وإيقاعه إذا قصد به اليمين، وهو ــ أيضًا ــ موجود في تعليق وقوع الطلاق وإيقاعه إذا قُصِدَ به اليمين، كما أنه موجود
_________
(1) تقدم تخريجه في (ص 92)، وهو في صحيح مسلم.

(1/120)


في تعليق وجوب جعل البهيمة هديًا وأضحية إذا قصد (1) به اليمين، فإنه إذا قال: هذا هدي وهذه أضحية صارت هديًا وأضحية؛ كما يصير العبد حرًا إذا قال: هذا حر، وكما تصير الأرض وقفًا على المساكين إذا قال: هذه وقف على المساكين، وكما يصير الفرس حبسًا إذا قال: هذه الفرس حبس في سبيل الله، ثم إذا قصد بذلك كُلِّهِ اليمين أجزأت فيه كفارة اليمين، وكما أن العبد يخرج عن ملكه بالعتق، فكذلك الأرض (2) تخرج عن ملكه بالوقف، لكن هل يشترط في الوقف إخراجها عن يده؟ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد؛ أحدهما: يشترط كقول مالك ومحمد بن الحسن. والثاني: لا يشترط؛ كقول الشافعي وأبي يوسف.
وكذلك الهدي والأضحية؛ هل تزول عن ملكه بذلك أم يجب عليه أن يزيله بالذبح؟ فيه قولان.
وقد تنازع العلماء في إبدال [الهدي] (3) والأضحية بخير منها والمنصوص عن أحمد جواز ذلك كقول أبي حنيفة، وفي مذهبه قول آخر: لا يجوز كقول الشافعي، اختاره أبو الخطاب (4).
وجعل هو وطائفة معه هذا الخلاف مستلزمًا للخلاف في زوال الملك؛
_________
(1) كأن رسمها في الأصل: (قتل)، والصواب ما أثبت.
(2) في الأصل: (العتق)، ولعل الصواب ما أثبتُّ؛ كما تقدم قريبًا.
(3) إضافة يقتضيها السياق.
(4) مجموع الفتاوى (31/ 212، 232، 240، 252)، الفتاوى الكبرى (4/ 359). وانظر ما سيأتي (ص 352).

(1/121)


وقالوا: إنْ قلنا: يزول ملكه، لم يجز الإبدال وإلا جاز؛ وليس بشيءٍ؛ فإنَّ العبد المنذور عتقه لم يزل ملكه عنه ولا يجوز إبداله بلا نزاع، لأنه هو المستحق للحرية فلا يصرف عنه، والمسجد الذي زال ملكه عنه يجوز إبداله حيث يجوز الإبدال: إما إذا تعذَّرَ الانتفاع وإما إذا كان البدل خيرًا من المبدل منه؛ كما فعل أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – لما أبدل مسجد الكوفة القديم بمسجد أصلح منه للمسلمين وصار الأول سوقًا للتمَّارين (1).
فجواز الإبدال والمنع منه ليس ملازمًا لبقاء الملك وزواله، ولا ريب أنَّ مَنْ جعلها هديًا أو أضحية عليه أن يذبحها وهو أحق بذلك من غيره، وكذلك [36/ ب] إذا قال: هذا المال صدقة فهو بهذه المنزلة.
_________
(1) أخرج الطبراني في معجمه الكبير (9/ 192/ رقم 8949) من طريق القاسم قال: قَدِمَ عبد الله وقد بَنَى سعدٌ القصر، واتخذ مسجدًا في أصحاب التمر، فكان يخرج إليه في الصلوات؛ فلمَّا ولي عبد الله بيت المال نُقِبَ بيتُ المال، فأخذ الرجل، فكتبَ عبد الله إلى عمر، فكتب عمر: (ألا تقطعه، وانقل المسجد، واجعل بيت المال مما يلي القبلة؛ فإنه لا يزال في المسجد مَنْ يصلي) فَنَقَلَهُ عبد الله وَخَطَّ هذه الخُطَّة، وكان القصر الذي بنى سعد شَاذروان، كان الإمام يقوم عليه، فأمر به عبد الله فنقض حتى استوى مقامُ الإمام مع الناس.
قال في المجمع (6/ 275): رواه الطبراني؛ والقاسم لم يسمع من جده، ورجاله رجال الصحيح.
وأخرجه الطبري في تاريخه (4/ 46) في خبرٍ طويلٍ. وإسناده لا يصح.
وانظر: مجموع الفتاوى (30/ 405)، (31/ 93، 252، 254، 266)، الفتاوى الكبرى (4/ 156، 288، 359، 360، 362).

(1/122)


والتحقيق: أَنَّ الملك الذي كان على ذلك أولًا من قدرته على التصرف المطلق زال، ولم يبق له إلا قدرة على تصرفٍ خاص، والملك هو القدرة الشرعية على التصرف، والقدرة تتنوع؛ فقد يقدر على تصرف دون آخر.
ومن هنا يغلط كثير من الفقهاء فيجعلون الملك شيئًا واحدًا مماثلًا في محالِّهِ، ثم يتنازعون في ثبوته وانتفائه في مواضع، ويكون كلا القولين الإثبات والنفي خطأ؛ كتنازعهم في الكفار هل يملكون أموال المسلمين؟ وفي العبد هل يملك؟ وفي الوقف هل هو ملك للموقوف عليه أو الواقف أو لله؟ وفي الهدي والأضحية هل هو باقٍ على ملك مَنْ جعل ذلك هديًا وأضحية أو خارجٌ عنه؟ ونحو ذلك.
فمن قال: الكفار لا يملكون، قال: لأنهم ظالمون بالاستيلاء فصاروا كالغاصبين.
فقال منازعوهم: الغاصب يَضمن ما أتلفه للمغصوب وهؤلاء لا يضمنون.
فقال الأولون: فإنهم لا يعتقدون تحريم القتال كأهل البغي.
قال النفاة: أهل العدل والبغي لا يضمنون ــ أيضًا ــ ما أتلفوه بالتأويل، ومع هذا لا يملكون ما استولوا عليه، فلا يلزم من نفي الضمان ثبوت الملك.
قال المثبتون: الكفار يعتقدون جواز تملك ما استولوا عليه، بخلاف أهل البغي فإنهم لا يعتقدون جواز تملك ما استولوا عليه، ومعلومٌ أَنَّ من جعلهم يملكون كما يملك المسلم منهم فقد غلط، ومن جعلهم لا يملكون

(1/123)


كما لا يملك المسلم الذي يعتقد تحريم التملك فقد غلط؛ بل هم نوع آخر يُحكم فيهم بما مضت به السنة وَحَكَمَ به الخلفاء الراشدون.
فإنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «من أسلم على شيء فهو له» (1)،
ولما أسلم الكفار لم يأمرهم برد ما في أيديهم من أموال المسلمين، وقد سأله – صلى الله عليه وسلم – بعض المهاجرين أَنْ يرد عليهم ديارهم التي كانت بمكة واستولى عليها الكفار، فسألوه رَدَّهَا لما فتح مكة فلم يردها (2)، وجعلها – صلى الله عليه وسلم – بمنزلة الدماء التي سفكت في الله، والله قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فما أُخِذَ في الله من دم ومال فأجر المؤمنين فيه على الله لا عوض له [37/ أ] في الدنيا، وأما ما أُخِذَ منهم بغير عوض فإنه يُرَدُّ إلى صاحبه؛ كما أخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – ناقته من التي أخذتها منهم ونذرت أن تنحرها، فقال: «بئس ما
_________
(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده (10/ 226)، والبيهقي في السنن الكبير (18/ 366/ ح 18306) وغيرهما من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -. وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 97/ رقم 190) من حديث ابن أبي مليكة. وأخرجه أيضًا (1/ 96/ رقم 189) من حديث عروة بن الزبير.

قال البيهقي في السنن الصغير (3/ 404): مرسل …. وقال بعد تضعيف المرفوع الموصول: وإنما يروى عن ابن أبي مليكة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلاً، وعن عروة مرسلًا.
والموصول أعلَّه كذلك ابن عدي. وقال عنه أبو حاتم: هذا حديثٌ لا أصل له.
وانظر: علل ابن أبي حاتم (2/ 554)، نصب الراية (3/ 410)، البدر المنير (9/ 171)، إرواء الغليل (6/ 156).
(2) انظر طرفًا من ذلك في: أخبار مكة للأزرقي (2/ 875)، والفاكهي (3/ 256).
وانظر: الصارم المسلول (2/ 301 – 308).

(1/124)


جزيتها، لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا نذر في معصية» (1).
وما أُخِذَ بعوض لم يؤخذ من صاحبه إلا بعوض، كما كتب عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بذلك فيما اشتراه التجار من أهل الحرب من أموال المسلمين= حَكَمَ بأنَّ صاحب المال إن أدى إلى التاجر الثمن الذي أداه وإلا فهو أحق به (2)،
لأن الكفار لم يلتزموا أحكام المسلمين، ولا يُمَكَّنُ التاجر أن يرجع عليهم بالثمن وهو لم يخلص المال إلا به وإلا فقد كان ذهب من صاحبه، وبسط هذا له موضع آخر (3).
والمقصود هنا: أَنَّ لفظ الملك جنس تحته أنواع متنوعة، وليس الملك معنى متماثلًا في جميع موارده، وإن كان لا بُدَّ فيه من نوع قدرة شرعية أباح الشارع لصاحبها نوعًا من التصرف لِحَظِّ نفسه بخلاف من يتصرف لغيره كالولي والوكيل.
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1641) من حديث عمران بن حصين – رضي الله عنه – ولفظه: «سبحان الله! بئسما جزيتها؛ نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنَّهَا؛ لا وفاء في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد» وفي رواية: «لا نذر في معصية الله».
(2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2/ 335/ رقم 2803)، والبيهقي في السنن الكبير (18/ 365/ ح 18304).
قال الشافعي ــ كما نقله البيهقي ــ: في رواية أبي عبد الرحمن عنه: هذا عن عمر – رضي الله عنه – مرسل، إنما روي عن الشعبي عن عمر – رضي الله عنه -، وعن رجاء بن حيوة عن عمر؛ وكلاهما لم يدرك عمر – رضي الله عنه – ولا قارب ذلك.

قال الشافعي: وحديث سعد أثبت من حديث عمر – رضي الله عنه -، لأنه عن الركين بن الربيع عن أبيه أنَّ سعدًا فعله به، والحديث عن عمر – رضي الله عنه – مرسل.
(3) مجموع الفتاوى (22/ 9) (29/ 212).

(1/125)


وقول المعترض: (اليمين مكفرة لترك العتق لا لحصول الفعل).
فيقال: لكن لا بُدَّ من الأمرين: العتق اللازم مع عدم الفعل الملزوم، كما في قوله: والله إِنْ فعلتُ لأعتقنك؛ فإنما يكون حانثًا إذا فعل ولم يعتق، وكذلك إذا قال: إِنْ فعلت لأطلقنك؛ بخلاف ما لو قال: والله لأعتقنك أو لأطلقنك فهنا يكون حانثًا بعدم الفعل المحلوف عليه.
وقوله هنا: (والله) تعليقٌ؛ كما لو قال: (لله عليَّ أَنْ أفعلَ) وهو كقوله هناك: لله عليَّ إِنْ فعلت أَنْ أُطَلِّق أو أُعتق، وإذا قال: إن فعلت كذا فأنت طالق وهو حر وهذا هديٌ وأُضحية ووقفٌ كقوله: إِنْ فعلت كذا لَتَكُونَنَّ فلانةُ طالقًا أوليكونَنَّ فلانٌ (1) حرًّا وليكونَنَّ هذا هديًا وهذا أُضحيةً وهذا وقفًا.
فإنَّ قوله: لله عليَّ أن يكون كذا؛ بمنزلةِ قولِهِ: والله ليكونن كذا؛ لكن هنا إذا التزم قربة لقصد التقرب كان نذرًا يلزمه الوفاء به، وإن لم يقصد إلا الحض والمنع فهو حالف، وإذا لم يكن ما التزمه قربة مع قصدِ الحضِّ والمنع فهو أَدخلُ في معنى اليمين.

فإنَّ النذر لا يكون نذرًا لازمًا إلا بشرطين (2): أَنْ يلتزم قربةً، وأَنْ يقصد به الالتزام لله لا لمجرد الحض والمنع؛ فإذا التزم (3) [37/ ب] لله ولم يكن قربةً فهو يمين محضةٌ، كقوله: لله عليَّ أنْ أقتل فلانًا، وكذلك لو كان قربة ولم يلتزمه لله بل للحض والمنع، كما لو قال: والله لأُسافرنَّ (4) إلى مكة أو لأمشينَّ إلى
_________
(1) في الأصل: (فلانًا)، والجادة ما أثبتُّ.
(2) مجموع الفتاوى (33/ 199).
(3) في الأصل: (لم يلتزم)؛ والصواب ما أثبتُّ.
(4) في الأصل: (لا سافرتُ)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/126)


مكة لطلب غريمٍ له هناك أو للتجارة، فإذا قال: إنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ المشي إلى مكة؛ فهنا الفعل وإِنْ كان قربة فهو لم يقصد أن يلتزمه لله وإنما قصد الحض والمنع بلزومه، وكذلك إذا قال: لله عليَّ أنْ أُعتق عبدي أو فعبيدي أحرار، وإنْ كان الفعل ليس قربة ولكن التزمه لله يَظُنُّهُ قربة كقوله: إنْ شفى الله مريضي فعليَّ أَنْ أنحر نفسي أو ولدي لله أو لأدعنَّ اللحم لله والنكاح لله ونحو ذلك، فهذا لا يلزمه لكن في الكفارة قولان مشهوران؛ وظاهر مذهبِ أحمد لزوم الكفارة، وظاهر مذهب الشافعي أن لا كفارة عليه، وأما أبو حنيفة ومالك فاستثنيا بعض المعاصي كذبح الولد لِمَا نُقِلَ عن ابن عباسٍ وغيره (1).
وأما إذا لم يكن الفعل قربة ولا قصد التقرب به إلى الله بل الحض أو المنع كقوله: إِنْ فعلت كذا فعليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي أو فهي طالق أو فهي عليَّ كظهر أمي أو فعليَّ أَنْ أتظاهر منها أو فهي عليَّ حرام أو فعليَّ أن أُحَرِّمَهَا = فهذا لا يلزم إذا كان نذرًا في الذمة بلا نزاع، وأما إذا كان إيقاعًا في العين فهو محل النزاع، ومعلومٌ أَنَّ هذا أولى أن يكون يمينًا.
_________
(1) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 610)، وعبد الرزاق في المصنف (15903)، وابن أبي شيبة (12654) وغيرهم أنَّ امرأة سألت ابن عباس – رضي الله عنهما – فقالت: إني نذرت أن أنحر ابني. فقال: لا تنحري ابنك، وكفري عن يمينك. فقال رجل: كيف يكون في طاعة الشيطان كفارة يمين؟ فقال ابن عباس: أليس قد قال الله في الظهار: {إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا}؟ فيه من الكفارة ما قد سمعت.
قال البيهقي في السنن الكبير (20/ 195): إسناده صحيح.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف (12655) عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -.

وجاء عن جماعةٍ من التابعين: أخرج مروياتهم ابن أبي شيبة في مصنفه (12656 – 12660).

(1/127)


ولا يلزم من قوله: إذا فعلت كذا فهذا هدي وهذه أضحية وهذه الأرض وقفٌ على المسلمين، بل قوله: فعليَّ أَنْ أُطلِّق أو أعتق لأن تلك قربة تعلقت بالأعيان لا بالذمة ومع هذا لم يلزم وهذا كذلك، وإذا قيل هناك: عليه أفعال واجبة كالذبح والصدقة. قيل: وهنا عليه أفعال واجبة كتخلية سبيل العبد والمرأة.
وأيضًا؛ فإنه إذا كان العقدُ الواجب في الذمة الموجب عليه أفعالًا في أعيان وأحكامًا لا يصير مع قصد اليمين موجبًا؛ فالعقد الذي لا يقتضي إلا حُكمًا في عينٍ أولى ألا يصيرَ مع قصدِ اليمين موجبًا، فإنه من المعلوم أنه إذا وجب عليه أن يعتق فقد وجب عليه ما وجب عليه بالعتق وزيادة، فإنه يجب عليه أن ينشئ العتق، ثم ــ حينئذٍ ــ يفعل ما يفعل إذا عتق العبد، وكذلك إذا وجب عليه [38/ أ] أَنْ يطلق المرأة فإنه يجب عليه أن يطلقها، ثم يفعل ما يفعل إذا كان قد طلقها.
وإذا قال: عليَّ أَنْ أُهدي شاة أو بعيرًا؛ فعليه أَنْ يهديه ويذبحه ثم يفعل ما يفعله بالهدي المعين إذا ذبحه، وإذا قال: لله عليَّ أن أتصدق بثلث مالي فعليه أنْ يتصدق؛ فهذه التعليقات توجب عليه أفعالًا، وتلك الأفعال توجب أحكامًا، وتلك الأحكام توجب أفعالًا أخرى.
فقوله: لله عليَّ أن أُعتق؛ يُوجب عليه أن يعتق، والإعتاق يوجب العتق، والعتق يوجب تخلية سبيله؛ فهذه الواجبات بإيجاب العتق أكثر من الواجب بالعتق المعلق.

فإن كُلَّ ما يجب بالعتق المعلق يجب بتعليق إيجاب العتق وزيادة، ثم قصد اليمين منع تلك الواجبات إنْ ثبت شيءٌ منها (1) فرفع إيجابَ العتق
_________
(1) كذا في الأصل، ولعل صوابها: (أَنْ يَثْبُتَ شيءٌ منها).

(1/128)


ووجوبه، فلا يقع إعتاق ولا عتق ولا تخلية سبيل، فإذا منع قصد اليمين هذا كله= فلأن يمنع بعض ذلك وهو الإيقاع والوقوع بطريق الأولى والأحرى؛ فإن اقتضاء التعليق للإيقاع والوقوع كاقتضائِهِ للإيجاب والوجوب، وذلك يتضمن الإيقاع والوقوع، فإذا لم يثبت شيءٌ من ذلك لأجل اليمين= فَلَأَن لا يثبت الإيقاع والوقوع بطريق الأولى.
لكنَّ الغالط يظن أنه إذا كان المعلَّق إيقاعًا فقد حصل، ويظن هناك أَنَّ المعلَّق هو الفعل وهو باختياره، وليس الأمر كذلك، بل المعلَّق هناك إيجاب الفعل ووجوبه، وهو حكم شرعي، وهو يوجب على العبد الإيقاع والوقوع، وقَصْدُ اليمين منع ذلك الإيجاب ومقتضى ذلك الإيجاب وهو الإيقاع ولازم الإيقاع وهو الوقوع؛ فإذا منع ذلك كله= فلأن يمنع مقتضى الوجوب وهو الوقوع الذي هو لازم للإيقاع الذي يقتضيه الوجوب بطريق الأولى والأحرى.
ووقوع الطلاق بالإيقاع هنا كحصول الملك للفقير بالصدقة عليه الذي هو موجَب المتصدَّق المنذور إذا قال: فمالي صدقة، ووقوع العتق بالإعتاق كمصير الماشية هديًا وأضحيةً والدار وقفًا، كمصيرها نسكًا بالذبح الذي هو فعله، فإنه إذا ذبحها صارت لله بذلك فلا يمكنه بيع اللحم.
* * * *

(1/129)


فصلٌ
قال المعترض:
(الحادي والعشرون: قوله – صلى الله عليه وسلم – [38/ ب]: «المؤمنون عند شروطهم إلا شرطًا أَحلَّ حرامًا أو حرم حلالًا» (1)
فدخل الشرط الذي عَلَّقَ الطلاق به في الشروط، فيجب الوفاء بمقتضاه الذي جُعل شرطًا فيه وهو الطلاق عملًا بالحديث، والله أعلم. و (2) كذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]) (3).
والجواب من وجوه (4):
_________
(1) لم أجده بهذا اللفظ؛ وإنما ورد بلفظ: «المسلمون على شروطهم؛ إلا شرطًا حرَّم حلالاً، أو أحلَّ حرامًا».
أخرجه الترمذي في جامعه (1352)، وابن ماجه (2353)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 22) من حديث عمرو بن عوف المزني – رضي الله عنه – وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح.

كما أخرجه أبو دواد (3594)، وابن الجارود (برقم 367، 1001)، والحاكم في المستدرك (2/ 57) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – بنحوه. وقال الحاكم: رواة هذا الحديث مدنيون، ولم يُخَرِّجَاه.
وجاء عن غيرهما من الصحابة.
انظر: البدر المنير (6/ 552)، إرواء الغليل (5/ 142)، السلسلة الصحيحة (6/ 992/ رقم 2915).
(2) إضافة من «التحقيق».
(3) «التحقيق» (34/ أ)، وهو الوجه الثالث عشر.
(4) لم يذكر إلا وجهًا واحدًا.

(1/130)


أحدها: أن يقال: ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أَنَّ ما كان من العقود من أيمان المسلمين فالوفاء به إنْ أريد به أنه لا بُدَّ من الكفارة عند الحنث وأنه يجب عليه أن يحفظ يمينه فإما أَنْ تَبَرَّ وإما أنْ تحنث= فهذا الوفاء بهذه العقود واجب بالنص والإجماع.
وإنْ أريد بالوفاء بعقود الأيمان أنه يلزمه جعله لازمًا بيمينه فهذا خلاف دين المسلمين، ولكن هذا يقال إنه كان شرعًا لمن قبلنا، وكذلك كان الأمر في الجاهلية، واستمروا على ذلك في أول الإسلام حتى أنزل الله للمسلمين ما شرع به كفارة الأيمان وفرض للمؤمنين تحلة أيمانهم، فبقي الوفاء بالعقود والشروط التي يقصد بها الأيمان أنه إذا حنث كَفَّرَ، وصار شرعُ المسلمين أن أيمان المسلمين لا تُغَيِّرُ شرائع الدين؛ بل ما كان واجبًا قبل اليمين فهو واجبٌ بعدها، وما كان محرمًا قبل اليمين فهو محرمٌ بعدها، فاليمين لا توجب فعلًا ولا تحرم فعلًا، ولا توجب لزوم شيء مما جعله الحالف لازمًا لنفسه إذا كَفَّر يمينه، بل إذا كَفَّر يمينه صار بمنزلة من لم يحلف ولم يُلْزِم نفسه بشيء مما جعله لازمًا (1).
ومن جعل شيئًا من أيمان المسلمين توجب لزوم شيء من الأشياء وَجَعَلَهَا يمينًا غير مكفرة= كان قوله هذا موافقًا لما كانوا عليه في أول الأمر وفي الجاهلية وما قيل إنه كان شرع من قبلنا، ولم يكن هذا هو الشرع الذي أنزل الله ــ عز وجل ــ به القرآن وشرعه الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأمته وجعله شرعًا للمسلمين؛ بل من جعل شيئا من أيمان المسلمين تُلْزِم الحالفَ ما جعله
_________
(1) قال في الفتاوى الكبرى (5/ 552): (ولم يقل أحدٌ إن اليمين على شيء تغيره عن صفته بحيث توجب إيجابًا أو تحرم تحريمًا لا ترفعه الكفارة).

(1/131)


لازمًا له إذا حنث ولا يجزئه في رفع ذلك اللزوم الكفارة، فإنه يقابله من جعل هذه الأيمان لا توجب شيئًا من الأشياء، لا ما جعله لازمًا ولا الكفارة ولا غير ذلك، حتى إن من الناس من يقول: قول هؤلاء أرجح من قول أولئك، ومنهم مَنْ [39/ أ] يقول: قول أولئك أرجح.
والقول الوسط الذي بعث الله ــ تعالى ــ به رسوله – صلى الله عليه وسلم – هو: ما أنزل الله ــ سبحانه ــ في كتابه وجاء به رسوله المتضمنة للتعظيم لله، وهو أنه ليس من الأيمان قط يمين توجب على المسلمين شيئًا ولا تحرم على المسلمين شيئًا، ولا تُلْزِمُ بشيء لا مما ألزموه أنفسهم عند الحنث ولا غيره، بل ما كان مقصوده تعظيم المخلوقات فهو يمينُ شركٍ لا حرمة لها ولا كفارة فيها إذا حلف، وما كان المقصود به تعظيم الخالق ــ تعالى ــ فإنَّ فيه كفارة إذا حنث الحالف، ثم إنه يُؤمر بالحنث تارةً إذا كان فيه طاعة لله، وَيُنْهَى عنه أخرى إذا كان معصية، وَيُبَاح له تارة إذا كان كلا الأمرين مباح؛ والكفارة واجبة عليه بالحنث في الأنواع الثلاثة.
وحدثني بعض الفقهاء الثقات عن بعض أهل العلم الذين كانوا يفتون بالكفارة في الحلف بالطلاق أنه كان يقول لمن ينازعه: يا كذا وكذا لم تُدْخِلُونَ في دين الإسلام ما ليس منه، وتُضَيِّقُون على المسلمين ما وسَّعَ الله عليهم؟! أين في دين المسلمين يمينٌ يَلزم صاحبها موجبها من غير أن يكون فيها كفارة؟! أو نحو هذا الكلام (1).
* * * *
_________
(1) سيذكر المجيب هذه القصة مرةً أخرى في (ص 176).

(1/132)


فصلٌ
قال المعترض:
(قال ــ يعني المجيب ــ: وهذا مذهب (1) أبي ثور وغيره من الفقهاء في العتق، وكذلك رواه حماد بن سلمة في جامعه عن حبيب بن الشهيد أنه سأل الحسن البصري عن رجل قال: كل مملوكٍ لي حر إن دخل على أخيه. قال: يكفر عن يمينه (2). وروي ذلك عن أبي هريرة وعائشة وأم سلمة – رضي الله عنهم – (3).
قلت: هذا والذي قبله مقصودٌ به إنْ ثبتَ الخلاف في العتق، ولاشك أَنَّ غيره قد نقل ذلك ــ أيضًا ــ في العتق عنهم، على أَنَّ ابن المنذر نقل عن أبي ثور في الإشراف (4) فيما إذا قال لعبده: إنْ لم أضربك فأنت حر، وأراد بيعه أنه إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع العتق عليه؛ وهذا يقتضي أنه إذا جعل له وقتًا يقع.
وكذلك نُقِلَ عن الحسن فيما إذا قال لعبده: إن بعتك فأنت حر، أنه يعتق من مال البائع (5) ــ يعني: إذا باعه ــ فهذا تصريحٌ من الحسن بوقوع العتق في
_________
(1) في «التحقيق» والفتوى المعترض عليها: (قول).
(2) لم أجده، وقد نقله المعترِض من فتوى ابن تيمية. انظر: مجموع الفتاوى (33/ 188). وانظر ما سيأتي (ص 149 – 150).
(3) سيأتي تفصيلها والكلام عليها في كلام المجيب عن قصة ليلى بنت العجماء (ص 201 – 209).
(4) الإشراف (8/ 123). وانظر: (ص 148).
(5) رواه سحنون في المدونة (2/ 388) عن ابن وهب، عن سهل بن أبي حاتم، عن قرة بن خالد قال: سئل الحسن البصري عن رجل قال لمملوكه: إنْ بعتُكَ فأنت حرٌّ؛ فباعَهُ. قال: هو حُرٌّ من مال البائع.
وقال ابن حزم في المحلَّى (ص 1421): وقد رُوِّيْنَا هذا القول عن إبراهيم النخعي والحسن ــ أيضًا ــ وهذا تناقضٌ منه.
وذكره عن الحسن: ابن المنذر في الإشراف (8/ 105)، والإقناع (2/ 601).
وقد أشار له المجيب في مواضع من ردِّه هذا ــ كما في (ص 150، 735) ــ مشيرًا إلى أنه نقلٌ مرسلٌ ليس له إسناد.

(1/133)


الحلف به.
ونقل عنه أبو الحسن [39/ ب] الجُوْرِي (1) أنه إنْ باعه على ألا خيار لواحد منهما لم يكن لهما خيار المجلس فلا يعتق؛ فالحكايتان [عنه متفقتان] (2) على خلاف ما نقله عنه، وسنتعرض (3) لذلك فيما بعد ــ إن شاء الله ــ) (4).
والجواب: أن هذا قد سلك في المنقولات عن الصحابة والتابعين وإجماعهم ونزاعهم مسلكًا في غاية الفساد والتناقض، ما علمتُ أحدًا سلكه من علماء المسلمين المحمودين عند الأمة لا من الأولين ولا من الآخرين، ولا يسوغ لعاقلٍ أنْ يسلكه فضلًا عنْ أَنْ يسلك مثله في الأحكام الشرعية
_________
(1) هو: علي بن الحسين، القاضي، أبو الحسن الجوري، والجور بضم الجيم ثم واو ساكنة ثم راء بلدةٌ من بلاد فارس، أحد الأئمة أصحاب الوجوه في مذهب الشافعي، ومن تصانيفه كتاب (المرشد في شرح مختصر المزني).
انظر: طبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح (2/ 614)، طبقات الشافعية لابن كثير (1/ 394)، طبقات الشافعية للسبكي (3/ 457).
(2) زيادة من «التحقيق».
(3) في الأصل: (وسنعترض).
(4) «التحقيق» (34/ ب).

(1/134)


المتلقاة عن الأدلة النبوية المتبع فيها سبيل من سلف قبلنا من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والتابعين لهم بإحسان.
وذلك أنه أراد أن يثبت أقوال السلف وإجماعهم بنقل منقطع، ونقلٍ عَلِمَ خطأَ صاحبه، ونقلٍ لا يدل على مقصوده، ونقلِ طائفةٍ ظنت إجماعًا؛ وينفي مع ذلك نقل هؤلاء وغيرهم لأقوال الصحابة والتابعين المشهورة عند عامة أهل العلم المذكورة في عامة كتب الإجماع والخلاف؛ وذلك أنه أراد أن يثبت إجماعهم على الطلاق وليس معه نقلٌ صحيحٌ صريحٌ عن أحدٍ من الصحابة – رضي الله عنهم – بأنَّ الطلاق المحلوف به يقع، فضلًا عن أن يكونوا مجمعين على ذلك، بل ويُثبت إجماعَ التابعين ومن بعدهم إلى زماننا ويطعن فيما استفاض عنهم من قولهم في العتق المحلوف به أنه لا يلزم، بل وفيما استفاض عنهم من أنَّ التعليق الذي يُقصدُ به اليمين يمينٌ (1)؛ فيأتي إلى الروايات الثابتة على شرط الصحيحين التي تداولها أهل العلم قديمًا وحديثًا يُعللها بعلل لا يُقْدَحُ فيها عند أهل العلم، مع أنَّ أهل العلم بالإجماع والاختلاف الذين يَعتمد هو وأمثاله في الإجماع في هذه المسألة على نقلهم كلُّهم متفقون على نقل النزاع في العتق، ومعهم غيرهم ممن ينقل النزاع في الطلاق ــ أيضًا ــ، والذين اعْتَمَدَ في نقل الإجماع على قولهم؛ أولهم أبو ثور كمحمد بن نصر وابن جرير وابن عبد البر، ومن أخذه عن ابن عبد البر كابن رشد الحفيد (2)، ومن نقل إجماع منْ يحفظ قوله في المسألة كابن المنذر؛
_________
(1) في الأصل: (يمينًا)، والوجه الرفع.
(2) انظر: بداية المجتهد (1/ 411). ومثله جَدُّه في المقدمات الممهدات (1/ 567) وانظر: (ص 169).

(1/135)


وكل هؤلاء نقلوا النزاع في (1) العتق وأثبتوه وصححوه، وهو عندهم وعند كُلِّ [40/ أ] عالم أثبتُ وأَصَحُّ (2) من نفي النزاع في الطلاق.
فكيف يسوغ لمن يدري ما يقول أن يحتج بنقل هؤلاء للإجماع في الطلاق ولا يُمَكِّنَ غيره أَنْ يحتج بنقلهم للنزاع في العتق؟! مع أَنَّ العلم بالنزاع أيسر من العلم بالإجماع؛ فإن النزاع يُعرف بقول بعض أهل العلم، وأما الإجماع فلا يعرف حتى يعرف أقوال أهل الإجماع وأنه لم ينازعهم أحد من العلماء، وهذا العلم باتفاق العقلاء إما متعذر وإما متعسر (3).
لا يقول عاقلٌ أَنَّ علم العلماء الناقلين لأقوال أهل الإجماع والنزاع بعدم النزاع أقوى ولا أيسر من علمهم بالنزاع؛ فإنَّ ذلك غاية أحدهم فيه عدم العلم بالنزاع، وكذلك صَرَّح أبو ثور (4) ــ إمام هؤلاء الذين نقلوا الإجماع على عدم التكفير في اليمين بالطلاق ــ، صَرَّحَ بأنَّ ما أذكره من الإجماع مرادي به عدم علمي بالنزاع، وعلى ذلك يجب أَنْ يُحْمَل كلام مثله وأمثاله من أهل العلم والعدل الذين يتقون الله ويقولون قولًا سديدًا.
ومع هذا؛ فلمَّا كان يُحكى عنه وعن غيره أنه يَدَّعِي الإجماع في مثل هذه الأمور، أنكر الإمام أحمد على من يَدَّعِي هذا، وكان إنكار أحمد هذه الدعوى تتضمن الإنكار على أبي ثور خصوصًا لا سيما في مثل هذه المسألة، فإنَّ أبا ثور
_________
(1) في الأصل: (وفي).
(2) في الأصل: (واحتج)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3) انظر ما سيأتي (ص 611، 692 – 693).
(4) كتب الناسخ في الهامش: (حاشية: الثور: السيد).
وانظر: مجمل اللغة (1/ 165)، لسان العرب (4/ 108).

(1/136)


كان هو أشهر الناس بالاجتهاد في عصر أحمد وغيره، وكان من أشهر الناس بالاستدلال على هذه الإجماعات، وكان أحمد يُسأل عما يَدَّعِيه هو وغيره من ذلك فيقول: (من ادعى الإجماع فقد كذب). ولهذا لم يَدَّعِ أحمد ولا إسحاق ولا أبو عبيد ولا أمثالهم إجماعًا في ذلك، بل كان غاية أحمد في العتق أَنْ يحكي ذلك عن بعض الصحابة، ويعارض بذلك بما نقل عنهم فيه.
وأما الطلاق؛ فلا أحمد ولا غيره من الأئمة لا الأربعة ولا غيرهم نقلوا عن الصحابة حرفًا واحدًا في أنَّ الطلاق المحلوف به يقع، هذا مع فرط عنايته وعناية أمثاله بآثار الصحابة، وأنه كان من أحرص الناس على معرفتها واتِّبَاعِهَا، وكان يقول: (العلم أن تكتب ما جاء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما جاء عن الصحابة، ثم أنت في التابعين مخيَّرٌ). وفي رواية: (ثم ما جاء عن التابعين) (1). وكان يقول: (ما تكلم الناس في مسألة إلا وقد تكلم الصحابة فيها أو في نظيرها) (2).
وهو كما قال؛ [40/ب] فإنَّ الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ وإنْ كانوا لم يتكلموا في الحلف بالطلاق، فقد تكلموا في نظيره وهو الحلف بالعتق والنذر، ولو كان عند أحمد أو غيره في الحلف بالطلاق لذكروه وقاسوا عليه العتق، بل أحمد لما سئل عن الطلاق المؤجل لم يكن عنده فيه عن الصحابة أثر إلا عن أبي ذر (3) في العتق المؤجل (4)،
وقاس الطلاق المؤجل عليه،
_________
(1) مسائل الإمام أحمد لأبي داود (رقم 1789). وانظر: مجموع الفتاوى (10/ 364).
(2) مجموع الفتاوى (19/ 200، 285)، الفتاوى الكبرى (1/ 156). وانظر (ص 226 – 227).
(3) أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (17896) عن أبي ذر أنه قال لغلامٍ له: (هو عتيقٌ إلى الحول).
(4) مسائل الإمام أحمد لابنه صالح (3/ 130) قلت: الرجل يقول: أنت طالق رأس الشهر؟ قال: إذا جاز رأس الشهر طلقت؛ أذهب إلى حديث أبي ذر: هو عتيق إلى رأس الحول.

وانظر: مسائل الإمام أحمد لابن هانئ (1/ 237)، وأحكام أهل الملل (ص 353).

(1/137)


وهذا بخلاف الطلاق المعلَّق بالصفة إذا قصد به الإيقاع (1) فإنَّ فيه آثارًا (2) عن الصحابة، لكن لا يلزم من جواز تعليقه بالشرط الذي يمكن وجوده وعدمه جواز تعليقه بالشرط الذي يأتي لا محالة، بل في هذا نزاعًا مشهورًا، لأنَّ هذا يوجب أن يصير النكاح مؤقتًا بوقت، فهو يشبه نكاح المتعة لكنه صار مؤقتًا بعد أنْ كان مطلقًا.
ولهذا اختلف كلام أحمد في ذلك إذا كان الطلاق يوجب تحريمًا كالطلقة الثالثة هل تتوقت أم لا تتوقت؟ على روايتين، وأما الرجعي فلم يختلف كلامه أنه يتوقت، لأن الرجعية زوجة فلا تصير مثل نكاح المتعة، وقد نقل عن ابن عباس – رضي الله عنهما – جواز توقيت الطلاق (3).
والمقصود: أَنَّ هذا المعترض عمدته فيما ينقله من الإجماع على وقوع الطلاق على هؤلاء المذكورين أبي ثور ومن وافقه؛ وهؤلاء كلهم نقلوا النزاع في العتق؛ فممن نَقَلَ عمن نَقَلَ عنه من الصحابة والتابعين أن الحالف بالعتق إذا قال: إِنْ فعلت كذا فكل مملوك لي حر؛ أنه لا يعتق شيء من مماليكه إذا فعله بل تجزئه كفارة يمين = نقل هذا عمن سماه من الصحابة والتابعين: أبو ثور، وذهب إلى ما نقله من ذلك، وبنى عليه مذهبه المتواتر
_________
(1) في الأصل: (الإع)؛ وما أثبتُّ هو الصواب.
(2) في الأصل: (آثار)؛ وما أثبتُّ هو الصواب.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (18194).

(1/138)


عنه، وروى هذا الحديث حديث ليلى بنت العجماء عن محمد بن عبد الله الأنصاري ــ قاضي البصرة صاحب الجزء المشهور ــ (1)، عن أشعث بن عبد الملك (2) الحمراني، عن بكر بن عبد الله المزني.
وهذه الطريق لم تبلغ أحمد بن حنبل، كما لم تبلغه طريق جسر بن الحسن عن بكر، وإنما بلغه طريق سليمان التيمي فتكلم عليها.
ومعلومٌ أَنَّ علم أبا ثور بما نقله بإسناده المعروف واتبعه وجعله مذهبًا له أعظم من علمه بما نفاه من عدم علمه بالنزاع في تكفير اليمين بالطلاق؛ فكيف يجوز [41/ أ/ أ] (3) أن يعتمد على نقل أبي ثور للإجماع على نفي الكفارة للطلاق مع القدح في نقله للنزاع في العتق؟! وهو أثبت عنده وعند جميع أهل العلم وهذا يجزم به، ونفي النزاع يقول: ليس عندي فيه إلا عدم العلم بالمنازع؛ فاعتقاده لذلك الإثبات أعظم من اعتقاده لهذا النفي، وحجته في ذلك الإثبات النقلي أعظم من حجته في هذا النفي النقلي.
وأحمد بن حنبل لم يطعن في هذه الطريق التي احتج بها أبو ثور وغيره على النزاع في العتق؛ وطعنهم فيه بانفراد التيمي عنه مسألة اجتهادية من أهل النقل، وأما طعن أحمد في دعوى الإجماع الذي ينقله أبو ثور ونحوه فظاهر مشهور وحجته فيه واضحة، وأحمد لم يدَّعِ إجماعًا لا في هذا ولا في هذا،
_________
(1) طبع برواية أبي مسلم الكجِّي وأبي محمد بن ماسي عنه. بتحقيق: مسعد بن عبد الحميد السعدني، لدى مكتبة أضواء السلف.
(2) في الأصل: (عبد الله)، والصواب ما أثبتُّ، وسيأتي على الصواب في عدة مواضع.
(3) صُوِّرت هذه اللوحة مرتين، في الوجه الثاني من الصورة الأولى ورقة في الوسط تحجب ما تحتها من الأصل، وفي الصورة الثانية تم التصوير بعد إزالة الورقة؛ فرمزت للأولى بالألف الثانية. وسيأتي نظائر لذلك في لوحات أخرى.

(1/139)


فإنه كان أعلم وأعقل وأفقه وأتقى لله من ذلك، ولكن عرضت له شبهة في ذكر العتق فذكر ما عنده فيه، وهو جازم بتخطئة من جزم بالإجماع في الطلاق ونحوه، ويقول: ليس معهم في مثل ذلك إلا عدم العلم، فإن جاز أنَّ يحتج بقول أحمد: انفرد به التيمي، وقد علمنا من جهة أخرى أنه لم ينفرد به، ولكن قال أحمد بحسب ما بلغه = فَلَأَن يحتج بقول أحمد وإنكاره على من ادعى ما لا علم له به من الإجماع بطريق الأولى والأحرى؛ فإنَّ هذا يجعل عدم علمه حجة لله على جميع المسلمين يجب عليهم اتباعها، والإعراض عما بينه الله ورسوله في كتابه وسنة رسوله وعما يعارض عدم علمه من علم غيره ما في ذلك من النزاع.
وأما قول القائل: لم أعلم روى هذا إلا التيمي؛ فليس في هذا إثبات حجة شرعية على غيره، وهب أن ذكر العتق في حديث ليلى لم يذكر بحال، فالنزاع في العتق عن السلف (1) معروف بدون ذلك، وقد نَقَلَ النزاع في العتق مع أبي ثور: محمد بن نصر المروزي ومحمد بن جرير الطبري وداود بن علي الظاهري وأبو بكر بن المنذر وأبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم، ونقله عامة الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية، لكن جمهورهم يتبعون حديث ليلى بنت العجماء وأنها يمين مكفَّرة مع تنازعهم في العتق إلا ابن جرير وداود وابن حزم، فإنَّ [41/ ب/ ب] هؤلاء يقولون: بأنها ليست بشيء بل لا شيء في ذلك؛ ومع هذا فقد نقل هؤلاء في الحلف بالعتق عن الصحابة كما نقلوا عنهم التكفير في الحلف بالنذر= فَعُلِمَ أَنَّ هذا نقلٌ ثابتٌ عند الموافقين له والمخالفين له، فإنه مع اعتراف المخالف له
_________
(1) في الأصل زيادة: (في العتق)، ولعل الأقرب حذفها.

(1/140)


بصحته نَعلم أنهم لم يتمكنوا من القدح فيه.
وقد قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري لما تكلم على مسألة نذر اللجاج والغضب في كتابه (اللطيف) (1) قال: (وَيُسْأَلُ القائلون: إِنَّ العتق واقع بمملوكِ القائلِ: مملوكُهُ فلانٌ حر إنْ كَلَّمَ اليوم فلانًا إذا حنث في يمينه؛ أتسقطون (2) عنه [الكفارة]؟ (3)).
إلى أنْ قال: (فإن ادعوا أنَّ ذلك إجماع.
قيل لهم: لا علم لكم باختلاف أهل العلم، وقد روي عن ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم وجماعة يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين أنَّ في ذلك كفارة يمين) (4). هذا نقل ابن جرير مع اختياره أنه لا يعتق ولا كفارة عليه.
وكذلك ابن حزم وهو مع داود يقولون ــ أيضًا ــ: إنه لا يعتق ولا كفارة عليه، كما يقول ذلك في الحلف بالنذر، ويقولون ــ أيضًا ــ: لا تطلق المرأة
_________
(1) للطبري – رحمه الله – كتاب بعنوان: (لطيف القول في أحكام شرائع الدين) وأحيانًا يُسميه (لطيف القول من البيان عن أصول الأحكام) ذكره في مواضع متعددة من تفسيره وتهذيب الآثار واختلاف الفقهاء، ولا أعلم عن وجوده شيئًا.
انظر: تاريخ دمشق (52/ 196)، معجم الأدباء (6/ 2458) وقد أثنى عليه ثناءً عاطرًا، سير أعلام النبلاء (14/ 273).
(2) في الأصل: (المسقطون)، والمثبت من قاعدة العقود (2/ 332).
(3) زيادة من الموضعين الآتيين، وقاعدة العقود.
(4) ذكر المجيب هذا النص عن الطبري مرةً أخرى في (ص 698)، وبأطول منه في (ص 212 – 215).

(1/141)


المحلوف بطلاقها ولا كفارة عليه ــ وهذا قول ابن جرير ــ مع أنه يقول (1):
(وصح عن عائشة وأم سلمة ــ أمي المؤمنين ــ، وعن ابن عمر أنَّه جعل في قول ليلى بنت العجماء كل مملوك لها حر وكل مالٍ لها (2) هدي وهي يهودية و (3) نصرانية إنْ لم تطلق امرأتك: كفارة يمين واحدة (4).
وعن عائشة ــ أم المؤمنين ــ أنها قالت فيمن قال في [يمينٍ: مالي] (5) ضرائب في سبيل الله، أو قال: مالي [كله] (6) في رتاج الكعبة = كفارة يمين (7).
وعن أم سلمة وعائشة ــ أمي المؤمنين ــ فيمن قال: عليَّ المشي إلى بيت الله إن لم يكن كذا = كفارة يمين، من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث الحمراني، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع
_________
(1) من هنا بدأ نقل المجيب كلام ابن حزم من المحلى (ص 991).
(2) في الأصل: (لي)، والمثبت من المحلَّى.
(3) في المحلَّى: (أو).
(4) أخرجه الدارقطني (5/ 288)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 174/ ح 20070).
وسيأتي كلام المجيب عنه في (ص 201 – 209).
(5) زيادة من المحلَّى.
(6) زيادة من المحلَّى.
(7) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 214)، وعبد الرزاق في مصنفه (8/ 483)، وابن المنذر في الأوسط (12/ 109 – 110)، والبغوي في شرح السنة (10/ 35) وغيرهم.

(1/142)


عنهما (1).
قال: وروينا عن جابر بن عبد الله أنه قال: النذر كفارته كفارة يمين (2).
وعن ابن عباس مثل هذا (3).
وعن عمر بن الخطاب [نحوه] (4).
وعن عكرمة والحسن فيمن قال: مالي كله في رتاج الكعبة = كفارة يمين (5).
قال: وصح عن طاووس وعطاء؛ أما طاووس فقال: الحلف بالعتاق ومالي هدي وكل شيء لي [42/ أ] في سبيل الله وهذا النحو= كفارة يمين (6). وأما عطاء فقال فيمن قال: عليَّ بدنة، أو قال: عليَّ ألف حجة، أو قال: مالي هدي، أو قال: مالي في المساكين= كل ذلك
_________
(1) لم أجده، والمروي من هذا الطريق ما جاء عن أم سلمة وعائشة، في قصة ليلى بنت العجماء.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 442).
(3) أخرجه عبد الرزاق (8/ 480)، وابن أبي شيبة (12172، 12175)، وفيهما أنها يمين مغلظة.
(4) زيادة من المحلَّى.
والأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبير (20/ 177/ ح 20073).
(5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 483، 489).
(6) أخرجه عبد الرزاق (8/ 483).

(1/143)


يمين (1).
قال: وهو قول قتادة، وسليمان بن يسار، وسالم بن عبد الله بن عمر (2).
قال أبو محمد بن حزم: كل هذا خلافٌ لقول أبي حنيفة ومالك والشافعي، لأنَّ الشافعي أخرج من ذلك العتق المعين.
قال: والذي ذكرنا عمن ذكرنا من الصحابة والتابعين هو قول عبيد الله بن الحسن وشريك وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد، وبه يقول الطحاوي، وذكر أنه قول زفر بن الهذيل وأحد قولي محمد بن الحسن.
قال: وقد روينا من طريق ثابتة عن ابن القاسم ــ صاحب مالك ــ أنه أفتى ابنه في المشي إلى مكة بكفارة يمين) (3).
قلتُ: مقصوده بذلك النقل عن هؤلاء أنهم أفتوا في التعليق الذي يقصد به اليمين بكفارة يمين، ليس مقصوده أنهم كلهم أفتوا في العتق بعينه، بل فيهم من أفتى بذلك في العتق أيضًا؛ كأبي ثور، ومنهم من نفاه كأحمد وإسحاق وأبي عبيد، ومنهم من لم يعرف قوله في العتق.
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق (8/ 483).
(2) نقله عنهم أبو عمر ابن عبد البر في الاستذكار (15/ 47)، ولم أقف عليها مسندةً.
(3) هنا انتهى النقل من المحلَّى.
والرواية عن ابن القاسم أسندها ابن حزم في المحلَّى (ص 991)، وابن عبد البر في الاستذكار (15/ 43) وقال عنها: رواها الثقات العدول. وقال ابن رشد في البيان والتحصيل (3/ 474): إنْ صحَّ ذلك عنه.

(1/144)


قال (1): (وقد روينا مثل تفريق الشافعي ــ أيضًا ــ بخلاف قوله ــ أيضًا ــ عن ابن عمر وابن عباس من طريق إسماعيل بن أمية، عن عثمان بن حاضر قال: حَلَفَت امرأة: مالي في سبيل الله وجاريتي حرة إن لم تفعل [كذا] (2). فقال ابن عباس وابن عمر: أما الجارية فتعتق، وأما قولها: مالي في سبيل الله فتصَّدَّق بزكاة مالها) (3).
قلتُ: معنى قوله مثل تفريق الشافعي؛ أي: مثل قوله في أَنَّ العتق يلزم، لم يُرِدْ مثلَ تفريقِ الشافعي بين العتق والنذر، حيث قال في النذر كفارة يمين، وفي العتق يلزم؛ فإن هذه الفتيا إنما فيها التسوية بين العتق والنذر في لزوم الجميع، وفيها ــ أيضًا ــ أنه يجزئه أن يتصدق بزكاة ماله ليس فيها تكفير ذلك كما يقوله الشافعي وأحمد وغيرهما.
قال (4): (وقد روينا مثل قول أبي حنيفة [ومالك] (5) عن ابن عمر من طريق لا يصح، وقد خالفوه ــ أيضًا ــ فيها؛ كما روينا من طريق سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية، حدثنا جميل بن زيد، عن ابن عمر (6) [42/ ب] قال: مَنْ حلف على يمين إِصْرٍ فلا كفارة له (7). والإصْرُ: أَنْ يحلف بطلاق أو عتاق أو مشي أو نذر،
_________
(1) ابن حزم في المحلَّى (ص 991).
(2) زيادة من المحلَّى.
(3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (15998)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 182/ ح 20081).
(4) ابن حزم في المحلَّى (ص 991).
(5) ما بين المعقوفتين ليس في المحلى.
(6) الكلمة غير واضحة في الأصل، والمثبت من المحلَّى.
(7) لم أجده عند سعيد بن منصور في المطبوع من سننه وتفسيره.
والأثر أخرجه ابن قتيبة في غريب الحديث (2/ 316)، وابن المنذر في الأوسط (12/ 131) وقال: ليس بثابت. وضعفه ابن حزم كما سيأتي.

(1/145)


ومن حلف على يمين غير ذلك؛ فليأت الذي هو خير فهو كفارته.
قال ابن حزم: جميل بن زيد ساقط، ولو صح لكانوا قد خالفوه في هذا الخبر نفسه، لأنه لم يجعل فيمن أتى خيرًا مما ترك (1) أن يفعله كفارة إلا فعله ذلك فقط.
قال: فإن قالوا: قد أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا بالكفارة.
قلنا: نعم؛ وقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الحلف بغير الله (2)، ونهى عن الوفاء بنذر المعصية (3)؛ فإن كان قولُهُ يمينًا فهي (4) معصية، وإن كان نذرًا فهو معصية إذا (5) لم يقصد به قصد القربة إلى الله، فلا وفاء فيه ولا كفارة؛ فحصل قول هؤلاء القوم خارجًا عن أقوال السلف).
_________
(1) في المحلَّى: (حلف).
(2) جاء في الباب نصوص كثيرة بالنهي والوعيد لمن حلف بغير الله؛ منها حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركبٍ وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم؛ فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو فليصمت» أخرجه البخاري (6108) ومسلم (1646). وحديث عبد الرحمن بن سمرة – رضي الله عنه – مرفوعًا: «لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم» أخرجه ابن أبي شيبة (889)، وابن ماجه (2095).
(3) فقال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»، وقد تقدم تخريجه (ص 6).
(4) في المحلَّى: (فهو).
(5) في المحلَّى: (إذ).

(1/146)


قلتُ: ليس المقصود ذكر بحثه لقوله الذي اختاره هو أَنَّ هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين ليس نذرًا ولا يمينًا منعقدة، وهذه قول طائفة من السلف، وهي أصل مذهب داود وابن حزم أيضًا؛ لكن المقصود: جزمه وتصحيحه لما نقل عن الصحابة والتابعين من أن الحالف بالعتق إذا قال: كل مملوك لي حر إن فعلت فإنها يمين مكفرة عند من ذكر عنه ذلك من الصحابة والتابعين، وأنَّ ما ذهب إليه من إلزام الحالف بهذه التعليقات بجميع ما التزمه أو ألزمه بغير العتق فإنه مما نقله ابن حزم قولٌ خارج عن أقوال السلف، وهذا كما قال ابن حزم فإنه لا يُعْرف عن أحد من الصحابة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه ألزم الحالف بهذه الأيمان بجميع ما أَلزم نفسَهُ فيها ولا أَلزمَهُ بجميع ذلك إلا العتق، بل ولا ألزمه بجميع ذلك إلا (1) العتق والطلاق، فليس مع القائل بشيءٍ من هذه الأقوال نقل مسند (2) عن أحد من الصحابة، ولكن ذكره ابن عبد البر بلا إسناد عن عائشة (3) في استثناء الطلاق والعتاق (4).
والمروي عن عائشة – رضي الله عنها – بالإسناد المعروف يناقض ذلك؛ فتارة تصرح بالتكفير في العتق وغيره (5)، وتارة يعم لفظها جميع الأيمان (6)، ولم
_________
(1) كذا في الأصل، وفوقها حرف (ظ).
(2) في الأصل: (سند)، والصواب ما أثبتُّ.
(3) (عن) وحرف العين من عائشة غير واضح في الأصل، وبما أثبت يستقيم الكلام.
(4) لم أجده مسندًا. وقد ذكره ابن عبد البر في الاستذكار (15/ 406) بلفظ: (كلُّ يمين ليس فيها طلاق ولا عتاق، فكفارتها كفارة يمين).
(5) كما في قصة مولاة أبي رافع، وسيأتي ذكرها في كلام المجيب.
(6) كما في قولها: (كل يمين ــ وإنْ عظمت ــ فكفارتها كفارة يمين).

(1/147)


يُسْنَد عنها لفظ تستثني [43/ أ] فيه الطلاق والعتاق فيما بلغنا، ولا ذكر ذلك أحد عنها مسندًا.
فكيف يسوغ مع هذا أنْ يُنْكِرَ أقوال الصحابة – رضي الله عنهم -، أو الصحابة والتابعين في العتق مع كثرة من نقل عنهم، وجلالة أقدارهم، وسعة علمهم، وتثبتهم فيما ينقلونه، وهم يَرْوون ذلك بالأسانيد الثابتة المعروفة عن الصحابة والتابعين، ثم يَدَّعِي الإجماع على الطلاق؟!
وبعضُ هؤلاء هو الذي نَقَلَ الطلاق، وقد نازعه غيره من هؤلاء، فهم متفقون على نقل النزاع في العتق مختلفون في نقل الإجماع في الطلاق، فلو لم نعلم خلافًا ثابتًا في الطلاق لكان إمساكنا عن نقل الإجماع في الطلاق مع اختلافهم فيه ونَقْلُنا للنزاع في العتق الذي اتفقوا على نقل النزاع فيه= أولى من أنْ نجزم بالإجماع في الطلاق مع ما ثبت من نقل النزاع فيه، وننفي النزاع في العتق مع ما ثبت واشتهر وعرفه الفقهاء من نقل النزاع فيه.
وأما ما نقله ابن المنذر في الإشراف عن أبي ثور فيما إذا قال لعبده: إنْ لم أضربك فأنت حر وأراد بيعه؛ أنه إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع عليه العتق، وقوله: وهذا يقتضي أنه إذا جعل له وقتًا يقع (1).
فيقال له: ابن المنذر نفسه ممن نقل النزاع في العتق عن الصحابة والتابعين، وعن أبي ثور نفسه، وهو في هذا النقل موافق لسائر العلماء الناقلين لأقوال السلف مسندة بألفاظها ومرسلة بمعانيها أو بألفاظها، وقول أبي ثور في العتق مشهور يعرفه عامة العلماء، فلا يحتج بمفهوم نقل ابن
_________
(1) تقدمت الإشارة له في (ص 133).

(1/148)


المنذر على نقيض ما صرح به هو وغيره.
بل قوله: (إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع العتق عليه) كلامٌ صحيحٌ؛ ومقصوده: أنه يخالف قول من يقول: يقع العتق عليه، أو يُلْزَم بإيقاع العتق إما مطلقًا وإما مع نية القربة، كما هو قول كثير من أهل العلم، وأبو ثور يقول في مثل ذلك: لا عتق عليه ولا كفارة، وابن المنذر لم يقل ولا كفارة عليه، مع أنَّ هذا مذهب أبي ثور في هذا الموضع، وأما بعد وجود الصفة فمذهبه أنه إن شاء أعتقه، وإن شاء كَفَّر ولا عتق عليه.
وما نقله عن الحسن؛ إن صحَّ كان روايةً عن الحسن (1).
وقد روي عنه رواية أخرى ذكرها حرب: أنه يستثني [43/ ب] الطلاق والعتاق (2).
وقد نُقِلَ عن غير واحد من التابعين في هذا الأصل اختلاف؛ كما نقل عن الشعبي وغيره (3)، والرواية التي ذكرناها عن الحسن في العتق ثابتة معروفة، وقد نَقَلَ ذلك عن الحسن عامة العلماء مثل: أبي ثور، ومحمد بن
_________
(1) نقله المعترض كما سبق (ص 133).
(2) ساق المصنف – رحمه الله – إسناد حرب الكرماني في القواعد الكلية (ص 471): عن معتمر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن قال: (كل يمين ــ وإِنْ عظمت ــ ولو حلف بالحج والعمرة، وإِنْ جعل ماله في المساكين؛ ما لم يكن طلاق امرأة في ملكه يوم حَلَفَ، أو عتق غلام في ملكه يوم حلف؛ فإنما هي يمين).
وانظر: مجموع الفتاوى (35/ 259)، الفتاوى الكبرى (4/ 121).
(3) سينقل المصنف إسناد أثر الشعبي وغيره من كتاب اللطيف لابن جرير، كما في (ص 214).

(1/149)


نصر، وابن عبد البر، وقد ذكرنا الإسناد الثابت عن الحسن، وقد رواه حماد بن سلمة في (جامعه) المعروف عن حبيب بن الشهيد أنه سأل الحسن البصري عن رجل قال: (كل مملوك له حر إِنْ دخل على أخيه. فقال: يكفر يمينه). وكذلك نقله ابن عبد البر.
وأما ما نقله (1) عنه من قوله لعبده: (إِنْ بعتك فأنت حر؛ أنه يعتق من مال البائع)، فهذا لم يذكر إسناده؛ ومع هذا فينبغي أَنْ يُعرف أَنَّ ما ذكرناه صريح عنه بأنه إذا قصد اليمين كفر يمينه ولا يلزمه العتق، لأن هذه الصيغة وهو قول: كل مملوك له حر إن فعل كذا؛ لا يقصد به في العادة إلا اليمين، فالصيغة ظاهرة في اليمين، بخلاف قوله: إن بعتك فأنت حر؛ فإنه لا يظهر فيها قصد اليمين كما يظهر في تلك، فقد يكون الحسن لم يتبين له أَنَّ هذا قَصَدَ اليمين، بل رآه تعليقًا للعتق فرتَّب عليه موجبه، وكذلك ما نقل عنه في الطلاق.
وقد تكون الصيغة التي تحتمل قصد اليمين وقصد العتق والطلاق يحملها على ذلك، ولا يقبل من القائل خلاف ذلك بخلاف ما يظهر منه قصد اليمين؛ وذلك أَنَّ قولَهُ: إن بعتك فأنت حُرٌّ؛ قد يقصد به: أَيَّ وقت قصدتُ إخراجَكَ من ملكي بالبيع فأنت حر يقصد إعتاقه، ولهذا جعله يَعتق من مال البائع، فإنه ليس مراده: إذا بعتك بيعًا يخرج به عن ملكي؛ فإنَّ هذا لا يقصده عاقل، فإنه جَمْعٌ بين المتناقضين، بل يكون مراده: إذا قصدتُ أَنْ أبيعك وعقدتُ بيعك، فالبيع باطل وأنت حُرٌّ لوجه الله؛ ومن أراد هذا عَتَقَ
_________
(1) أي: المعترض في صفحة (133).

(1/150)


عليه من ملكه، فنجمع بين قولي الحسن ولا نضرب أحدهما بالآخر (1).
وما نقله أبو الحسن الجُوري عنه (2) من أنه إذا باعه على أنه لا خيار لواحد منهما، لم يكن لهما خيار المجلس فلا يعتق، فهذا نَقْلٌ [لا] (3) يُعرف إسناده، ولا الناقل من المشهورين بنقل أقوال الصحابة والتابعين العارفين بها؛ فلا يعارض مثلُ هذا النقلِ الثابتَ بالإسناد المعروف [44/ أ].
وهذا يناقض قوله: إنه يعتق من مال البائع مطلقًا، وهذا القول هو معروف لبعض المتأخرين من أصحاب أحمد الذين يعللون العتق بكون البائع له في مدة الخيار أن يعتقه، بخلاف ما إذا لم يكن له خيار. وقال هؤلاء: يعتق إلا إذا شرط نفي الخيار، وقلنا: يصح الشرط، فإنَّ هذا هو إحدى الروايتين عن أحمد. وأما الشافعي فعنده هذا شرط باطل، لأنه إسقاط للحق قبل وجوبه بخلاف ما إذا أسقطه في المجلس، وأحمد عنده في الموضعين روايتان، لأنَّ الإسقاط قَارَنَ سبب الإيجاب.
* * * *
_________
(1) انظر ما سيأتي (ص 735).
(2) أي: عن الحسن؛ كما تقدم في أول الفصل.
(3) يوجد طمس هنا، وبما أثبت يستقيم المعنى.

(1/151)


فصلٌ
قال المعترض:
(ولو صَحَّ الخلاف في مسألة العتق لم يَلزم طرده في الطلاق للإجماع المتقدم، وللفرق الذي سنذكره ــ إن شاء الله تعالى ــ.
وقد تمسك في النقل عن الصحابة الذين ذكرهم في العتق بالأثر الذي يذكره، وذلك لو ثبت لا يفيده للفرق الذي سنذكره ــ إن شاء الله ــ، وللإجماع على الطلاق المانع من الإلحاق.
فقد عَرَّفْتُكَ ــ فيما تقدم ــ أني تتبعت أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم إلى زمننا هذا؛ فلم أعلم أحدًا قال بهذا القول الذي اخترعه ابن تيمية من سلف ولا خلف!) (1).
قوله: (لو صح الخلاف في العتق لم يلزم طرده في الطلاق للإجماع)؛ فعنه جوابان:
أحدهما: أَنَّ المجيب لم يذكر النزاع في الطلاق أخذًا له من النزاع في العتق، بل الطلاق فيه نزاع مذكور فيه بخصوصه بين السلف والخلف، لا نحتاج في نقل النزاع في الطلاق إلى نقله في العتق، وليس في كلام المجيب قط أَنَّ النزاع في الطلاق ذُكِرَ لأجل النزاع في العتق، وإنما ذَكَرَ النزاع في العتق لأنَّ أحدًا من السلف والأئمة المشهورين لم يفرق بين الطلاق والعتاق، بل يقولون بلزومهما جميعًا؛ فإذا عُرِفَ الخلاف المشهور عن الصحابة والتابعين
_________
(1) «التحقيق» (35/ ب).

(1/152)


في العتق= كان الدليل الدال على أنه لا يلزم بل يجزئ فيه كفارة يمين هو بعينه يدل على ذلك في تعليق الطلاق وأولى، فيكون ذلك عملًا بالدليل الجامع لهما، واستثنينا النزاع في العتق لئلا يَدَّعِي من لا يعلم النزاع فيه أنَّ فيه إجماعًا؛ كما ادعى ذلك طائفة ادعوا أَنَّ الطلاق والعتاق لا كفارة فيهما بالإجماع [44/ ب] إذ كان لم يبلغهم النزاع في ذلك فذكروا ما عندهم.
ولهذا أنكر ابن جرير الطبري (1) على هؤلاء وقال لمن ادعى ذلك: لا علم لكم باختلاف أهل العلم، ثم ذكر ما روي عن الصحابة والتابعين في إجزاء الكفارة في الحلف بذلك إذا قال: إِنْ فعلت كذا فمملوكي حر؛ وكان ما نَقَلَهُ هؤلاء الأئمة وما يُنْقَلُ بالإسناد الثابت يتضمن الرد على من يحرف الكلم عن مواضعه، ويجعل قولهم في الحلف بالعتق إذا قال: العتق يلزمني وأراد به نذر العتق لا إيقاعه؛ مع أَنَّ هذا كما زعمه المعترض مع أنه يقول في قوله: الطلاق يلزمني؛ أنه إيقاع (2).
فيقال له: كلا اللفظين سواء؛ والمشهور عند الناس إذا قال أحدهم: العتق يلزمني أو الطلاق يلزمني؛ أنه جعل اللازم له وقوع الطلاق والعتق، لم يجعل اللازم له إيقاعًا في ذمته حتى يكون بمنزلة الناذر لذلك (3).
وكذلك قولهم: أيمان المسلمين تلزمني والحرام يلزمني ونحو ذلك؛ إنما يريد به الناس في العرف المعروف بينهم أنه يلزمه أن يكون الحلال حرامًا، لم يرد أنه يلزمه أن ينشئ بعد ذلك تحريمًا للحلال.
_________
(1) في كتابه (اللطيف) كما تقدم (ص 141).
(2) عبارة المجيب من قوله: (ويجعل قولهم في الحلف بالعتق) إلى هنا فيها إشكال.
(3) في الأصل: (كذلك)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/153)


وكذلك إذا قال: أيمان المسلمين تلزمني؛ مراده: أنه يلزمني ما يلزم المسلمين في أيمانهم إذا حلفوا بها، لم يرد أنه يلزمني أن أحلف بها فيما بعد.
الثاني: أن الصحابة والتابعين الذين أفتوا في قوله: إِنْ فعلتُ كذا فكل مملوك لي حر؛ إذا كانوا قد عللوا ذلك بأنه يمين وسووا بين ذلك وبين قوله: إِنْ فعلت فمالي في سبيل الله ومالي هدي= عُلِمَ أَنَّ الفرق الذي يذكره مَنْ يُفَرِّق بين الحلف بالعتق والحلف بالنذر باطل عندهم، وأَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين يمينٌ (1) عندهم سواء كان المعلَّق وجوبًا في الذمة أو كان المعلَّق وقوعًا في عين.
فعلم بذلك أن ما يذكره المعترض وغيره من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يُفَرِّقُ بين الطلاق والعتاق وبين النذر باطل عند هؤلاء الصحابة والتابعين، وأَنَّ مناطَ الحكمِ عندهم كونه قَصَدَ اليمين دَلَّ (2) على ذلك كلامهم؛ وحينئذٍ فيستدل بذلك على أن كل من قصد اليمين (3) بتعليقه هو حالفٌ عندهم، وإنْ كان المعلق وقوعًا.
والشافعي [45/ أ] وأحمد وغيرهما من الفقهاء طردوا أقوال الصحابة والتابعين في جنس الحلف بالنذر، وليس معهم إلا فتياهم في بعض الصور، لأنهم جعلوا ذلك يمينًا وعلقوا الحكم بذلك.
_________
(1) في الأصل: (يمينًا)، والجادَّة الرفع.
(2) مقدار كلمة لم أستطع قراءتها، ويظهر في آخرها حرف اللام، ولعلها ما أثبتُّ.
(3) كلمة (اليمين) لم يظهر منها إلا بعض الحروف، وبها يستقيم الكلام.

(1/154)


وهذا معنى عام لكل ما يقصد به اليمين من التعليقات مثل قوله: إِنْ فعلت كذا فمالي في الأضاحي ومالي وَقْفٌ ونحو ذلك مما لم ينقل عن الصحابة، وكذلك إذا قال: إِنْ فعلت كذا فالحلُّ عليَّ حرام وأنت عليَّ كظهر أمي وامرأتي طالق؛ هذا ــ أيضًا ــ إنما قَصَدَ به صاحبه اليمين، فالمعنى الذي جَعَلَ الصحابةُ التعليقَ يمينًا لأجلِهِ موجودٌ في هذه التعليقات، وعموم علتهم تتناوله كما تتناول غير ذلك من الصور.
ومعلوم أن العلماء كلهم إذا أفتى أحدهم في عين أو نوع وعَلَّلَ ذلك بعلة يوجد في غيرها= لزم أن يكون قوله في تلك الصورة كذلك؛ ولهذا ينقل الناس مذاهب السلف إذا عرفوا عللهم ومآخذهم، لاسيما إذا لم يكن بين الصورتين فرق يذهب إليه مجتهد (1)، وليس بين الطلاق والظهار والحرام وبين العتق فرق يذهب إليه مجتهد، بل كل من تدبر الشرع علم قطعًا أنه إذا كان قوله: إِنْ فعلت كذا فكل مملوك لي حر= لا يلزم عتق شيء من مماليكه، بل تجزئه كفارة يمين= فقوله: إِنْ فعلت كذا فأنتِ عليَّ كظهر أمي والحِلُّ عليَّ حرام ونسائي طوالق= أولى ألا يقع به الظهار والتحريم والطلاق، بل تجزئه كفارة يمين؛ فإنَّ العتق يتشوف إليه الشارع، وهو من القُرَبِ والطاعات، وله سراية ونفوذ في ملك الغير، وهو مما يلزم بالنذر إذا نذره وقد جعله واقعًا عند وجود الصفة.
ثم هؤلاء الصحابة والتابعون لهم بإحسان الذين أفتوا بأنه لا يقع العتق الذي عَلَّقَهُ بالصفة وجعله واقعًا عند وجود الصفة لكونه قصد اليمين لم
_________
(1) مجموع الفتاوى (29/ 40)، الفتاوى الكبرى (4/ 26)، القواعد الكلية (ص 252). انظر (ص 160، 274 – 276، 278 – 280، 288 – 290).

(1/155)


يقصد الإيقاع ولا الوقوع إذا وجدت الصفة، بل هو من أبعد الناس عن ذلك= يقولون ــ أيضًا ــ: إنه لا يلزمه الظهار والتحريم والطلاق الذي جعله واقعًا عند وجود الصفة إذا قصد به اليمين بطريق الأولى والأحرى.
فإنَّ الشارع على الالتزام بالطلاق أبعد منه عن الالتزام بالعتاق، والعتق يأمر به ويحض عليه، والطلاق لا يأمر به إلا إذا لم يقوما بالواجب، [45/ ب] بل يحرمه في مواضع باتفاق المسلمين، وفي مواضع أخر إما أن يكرهه أو لا يستحبه بل يحب تركه.
وهذا المعترض ونحوه ممن يقول على هؤلاء الصحابة – رضي الله عنهم – ما لم يقولوه من التفريق بين الطلاق والعتاق يقول: إنهم أخطأوا في هذا القول والتفريق، فيحكي عنهم قولًا يَشهد بفساده، ولم يقولوه قط، ولا قالوا ما يدل عليه، ولا نُقِلَ عنهم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، بل كلامهم الثابت عنهم يدل على أنهم يُسوون بين النوعين ويقولون بالتكفير فيهما.
وهذا القول إذا قالوه لم يمكن أحدًا أن يقول: إنهم تناقضوا وأخطأوا، بل يكون الذي قالوه موافقًا للكتاب والسنة والقياس الجلي؛ فأي الفريقين أولى بالصواب: مَنْ يحمل أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان على ما يدل عليه لفظهم وتعليلهم وسائر كلامهم مع أنه صواب مستقيم موافق للمعقول والمنقول للكتاب والسنة والقياس الجلي، أم من يحمل كلامهم على شيء لم يقولوه ولم يقولوا ما يدل عليه لا لفظًا ولا معنى بل قالوا ما يدل على نقيضه؟!
ثم مع نقله هذا عنهم يقول: إنهم أخطأوا وغلطوا؛ فلينظر أي الطريقين أحق بالصواب وأعلم وأصدق وأعدل وأقوم بما أوجبه الله ــ عز وجل ــ من حقوق

(1/156)


الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وبما يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار؟
وهذا الذي يُقَوِّلُهُم ما لم يقولوه ويزعم أنهم أخطأوا ليس معه بذلك نقل عنهم أصلًا، لكن معه عدم علم أبي ثور بالنزاع في مسألة الطلاق، وعدم علم من اتبعه؛ فكان عدم علم هؤلاء عند هذا المعترض وأمثاله موجبًا لما سلكه من تقويل الصحابة ما لم يقولوه، بل قالوا ما يدل على نقيضه، وتخطئتهم فيما قوَّلهم إياه مع أنهم أحق الناس بالصواب في هذا وغيره.
فإنَّا كما أَنَّا نعلم مجملًا أنهم فوقنا في كُلِّ علم وهدى وفقه وفضل وفهم وكُلِّ سببٍ ينال به علم أو يدرك به حق= كان رأيهم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا، فإنا ــ ولله الحمد ــ قد علمنا مفصلًا أن أقوالهم التي يخالفهم فيها مَنْ بعدهم هي الصواب دون قول منازعيهم، كما عرفنا ذلك في مسائل الأيمان والطلاق وغير ذلك.
وأبو ثور – رحمه الله – [46/ أ] لم يفرِّق بين الطلاق والعتاق بفرقٍ معنوي ولا دليلٍ شرعي من الكتاب والسنة يذهب إليه المجتهد من الصحابة، بل جعل ذلك موضع استحسان، وجَوَّزَ تخصيص العلة لغير فوات شرط ولا وجود مانع لما ظنه من الإجماع (1).
ومعلومٌ أن هذه طريقة باطلة؛ وهي ممتنعة من الصحابة، فإنه لا إجماع قبل زمانهم يَعتمدون عليه كما اعتمد عليه أبو ثور ونحوه (2)، والحلف بالطلاق في عهد الصحابة كان أقل من غيره، وقد علم يقينًا أنه لم يكن فيه
_________
(1) انظر ما سيأتي (ص 160 – 161، 378).
(2) انظر ما سيأتي (ص 168 – 169، 345، 377، 676).

(1/157)


إجماع في عهد الخلفاء الراشدين، بل ولا ينقل عن أحد منهم الإفتاء فيه ولا الحكم في شيء منه، ولا هو مما يدل القرآن عليه دلالة بينة، ولا فيه سنة معروفة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولا تقدم عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس – رضي الله عنهم – ونحوهم من الصحابة الذين أفتوا في الحلف بالعتق والنذر بالكفارة لكون ذلك يمينًا = لم يتقدمهم من الخلفاء – رضي الله عنهم – نقل مشهور في الحلف بالطلاق يُظَنُّ أنه إجماع ليفعلوا ما فعل أبو ثور، بل لا يُعرف قَطُّ عن أحدٍ من المسلمين قبل أبي ثور أنه فَرَّقَ بين الحلف بالطلاق والعتاق.
وابن جرير إنما فَرَّقَ موافقة لأبي ثور لعدم العلم بالنزاع، لأنَّ له في دعوى الإجماع أصلًا ضعيفًا؛ فإنه يجعل قول الجمهور إجماعًا ولا يعتد بخلاف الواحد والاثنين (1)، بخلاف ما يحكيه من النزاع فإنه ليس له فيه أصل ضعيف؛ فلهذا كان الواجب أن نعتمد على نقله للنزاع دون نقله للإجماع كما فعله المجيب، دون ما فعله المعترض ونحوه من اعتماده على نقله للإجماع دون نقله للنزاع.
والمقصود: أَنَّ الصحابة – رضي الله عنهم – لم يسبقهم إجماع يعتمدون عليه ليظنوا إجماعًا كما ظنه أبو ثور.
والشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة يذكرون أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يَدَّعون الإجماعات في مثل هذه الأمور.
قال الشافعي: [ … ] (2).
_________
(1) انظر ما تقدم (ص 9).
(2) بياض مقدار سطر ونصف.

(1/158)


فلو فرقوا لم يفرقوا إلا بكتاب أو سنة أو قياس، ومن المعلوم أنه ليس في [46/ ب] الكتاب والسنة فرق بينهما ولا في القياس، بل الفرق بينهما خطأ محض، كما اتفق على ذلك سلف الأمة وجمهورُها، لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء أنه فرق بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتاق، بل كلهم متفقون على أن هذا الفرق خطأ، وكلام الصحابة الذين سَوَّوا بين العتاق والنذر بل والذين أفتوا في النذر بالكفارة يدل على التسوية، وأن التعليق الذي يقصد به يمين من أيمان المسلمين هو يمين عندهم ليس إيقاعًا لعتاق ولا نذر ولا ظهار ولا تحريم ولا طلاق.
فتبيَّن أَنَّ المجيب ذكر نصوصهم في العتق لِتَبِينَ (1) بذلك أقوالهم في الطلاق = كان ما سلكه أحسن مما يسلكه المعترض، حيث جعل قولهم ما لم يقولوه من الفرق، وَخَطَّأَهم في ذلك لمجرد ظَنِّ ظانٍّ بعدهم بأكثر من مائتي سنة أنه لا يَعرف نزاعًا في الحلف بالطلاق، والحلف بالطلاق لا يُعرف عن أحدٍ من الصحابة بإسناد ثابت صريح أنه يلزم، ولا يُعْرَف أَنَّ أحدًا نقل ذلك عنهم، بل من نقله إما أن ينقله بإسنادٍ ضعيفٍ بل مكذوبٍ، أو بلفظٍ لا يدل دلالة بينة، مع أن الأظهر عنهم نقيض ذلك؛ وغايته أن ينقله عن ابن عمر الذي اختلفت النقول عنه في التعليق الذي يقصد به اليمين. نُقِلَ عنه: أنه يُلزِم به؛ نُقِلَ ذلك عنه من وجه صحيح ووجه متوسط ووجه ضعيف. ونُقِلَ عنه من وجوه أثبت من ذلك: أنه لا يُلْزِم به، بل يقول فيه بالتكفير؛ نقل ذلك عنه من وجه صحيح ومن وجه متوسط، وفيه أنه رجع عن ذلك القول، ومثل هذا يوجب أن يكون عنه روايتان في هذا الأصل، وكثيرًا ما اختلف
_________
(1) الكلمة غير منقوطة، وتحتمل: (لِيُبَيِّنَ).

(1/159)


اجتهاده واجتهاد غيره من الصحابة – رضي الله عنهم -.
وهذا الأصل ـ وهو أن هذا التعليق الذي يقصد به اليمين ـ هل هو يمين أم لا؟ مما اختلف فيه اجتهاد التابعين ومن بعدهم، وصار إلى كل قول طوائف من أكابر العلماء، كما اختلفوا في مسألة نذر اللجاج والغضب.
فإذا قيل عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه كان يقول بهذا تارة وبهذا تارة = كان هذا مما يليق بمثله وأمثاله من أهل العلم والدين، وابن عمر قد أفتى في روايةٍ بالتكفير في العتق (1) ورواية الإلزام بالعتق، فإنَّ الحلف بالعتق كالحلف بالنذر، تارة يقول [47/ أ] بتكفير الجميع وتارة يقول بأنه يلزم الجميع، لم يُقَوِّلْهُ أَحَدٌ ولا نَقَلَ عنه أحد أنه يفرق بين العتق والنذر، فَيُلْزِمُ بالعتق ويقول في النذر بالتكفير، مع أَنَّ هذا قولُ جماعةٍ من أكابر العلماء كالشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد ومحمد بن نصر وغيرهم، ولهؤلاء مأخذ قد يشتبه على أكابر المجتهدين، وإن كان جمهور الناس على إبطال هذا الفرق وإفساده.
فإذا كان الصحابة لم يَرُجْ عليهم مثل هذا الفرق، ولم يُفَرِّقْ أحدٌ منهم بين العتق والنذر فيلزمون بالعتق دون النذر، بل كان ما أعطاهم من العلم والإيمان كاشفًا لهم عن فساد هذا الفرق؛ فكيف يظن بهم أنهم فرقوا بين الطلاق والعتاق مع أَنَّ هذا لم يقله أحد قبل أبي ثور؟! ولا بينهما فرق معنوي يجوز أن يذهب إليه مجتهد.
وأبو ثور – رحمه الله – لم يذهب إلى الفرق لفرقٍ معنوي يَذْهَبُ إليه مجتهد،
_________
(1) في الأصل: (التكفير للعتق)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/160)


بل جعله استحسانًا خارجًا عن القياس لغير معنًى أصلًا، ولا ذكر معنى اختص به الطلاق يفرق بينه وبين العتق، بل لظنه الإجماع؛ فمن ادعى بعد هؤلاء فرقًا معنويًا يدل عليه كتاب وسنة وقياس = فهو المبتدع قولًا في الإسلام لم يَسْبِقهُ إليه أحد، ولا يُحكى هذا عن أحد من العلماء البتة؛ فكيف إن اعترف بفساد الفرق؟!
وقول هذا لا [ … ] (1) الأمة من الصحابة والتابعين وجعلهم مخطئين مع أنه ليس في كلامهم ما يدل على الفرق، بل على التسوية والجمع بين ما جمع الله ــ عز وجل ــ ورسوله – صلى الله عليه وسلم – بينهما؛ فالله ــ تعالى ــ ينتصر لأوليائه الذين هم صفوة الأمة وخلاصتها، ويُبيِّن الحق، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وهو الذي أرسل رسوله (2) بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا.
ومعلومٌ أَنَّ أصحاب الأئمة كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والثوري وإسحاق لا يرضون لأئمتهم بهذا، بل إذا نَصَّ أحدهم على مسألةٍ لعلةٍ وَنَصَّ على نظيرها بخلاف ذلك، فإنه إنْ كان بينهما ما قد يُظَنُّ أنه فَرْقٌ مؤثِّر اختلف اجتهادهم؛ فمنهم من يرى التسوية [فيحكي] (3) لذلك الإمام في المسألة قولين، وينصر في أحدهما خلاف نصه، ويجعله قوله [47/ ب] حيث كان مقتضى تعليله، ومنهم من يرى أَنَّ ذلك فَرْقٌ صحيحٌ فيفرِّقُ بينهما وينتصر لصحة الفرق، وأما أَنْ يَنقل عن إمامه الفرق مع اعترافه بفساد الفرق
_________
(1) كلمة مطموسة لم يظهر منها إلا حرف الألف والنون (ـان).
(2) في الأصل: (رسله)، والصواب ما أثبتُّ.
(3) كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ.

(1/161)


ويجعل ذلك قوله؛ فهذا لا يرضى به أصحاب الأئمة لهم، بل يقولون نصه على فردٍ من نوع نَصٌّ على ذلك النوع؛ فكيف يُرضى لأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والتابعين لهم بإحسان بما لا يُرضى لمن بعدهم؟! مع أَنَّ غايةَ مَنْ بعدهم خصوصًا في هذه المسائل أنْ يتبعهم فيها.
فهذا الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد غايتهم أن تبعوا فيها ما روي عن أولئك، والشافعي أَصْلُ قوله هو قول عطاء، وعليه فَرَّع كما صَرَّحَ بذلك في كتبه (1)، ولو علم الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم ما قاله الصحابة في العتق لم يعدلوا عنه؛ لكنَّ الشافعي بلغه أثر ليلى مجملًا ولم يكن عنده به إسناد، ولا ذكر إسناده ولا متنه في كتبه، بل قال: (ولو قال: مالي في سبيل الله أو صدقة على معاني الأيمان؛ فمذهب عائشة وعدد من الصحابة وعطاء والقياس: أَنَّ عليه كفارة يمين) (2)، وهؤلاء العدد هم المذكورون في حديث ليلى بنت العجماء مثل ابن عمر وزينب ومثل ابن عباس وأبي هريرة وحفصة وأم سلمة، وَنُقِلَ قبلهم عن عمر؛ فهؤلاء السبعة مجموع الصحابة الذين نَقَلَ عنهم ذلك الشافعي، كما ذكر أصحابه وغير أصحابه، واعتمد أصحابه وغير أصحابه على حديث ليلى بنت العجماء، وعليه اعتمد أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة.
وأما أبو حنيفة ومالك فلم يبلغهما ذلك، ولو بلغهما لم يعدلا عنه مع موافقته للقياس ولدلالة القرآن؛ كيف وقد اتبعا – رضي الله عنهما – فيما إذا حلف بذبح
_________
(1) الأم (3/ 656).
(2) الأم (3/ 656).

(1/162)


ولده فتيا بلغتهما عن ابن عباس؟! فأبو حنيفة يقول بها مع اعترافه بمخالفتها القياس (1)، ومالك ــ أيضًا ــ يقول بها؛ فتارة يوجب هديًا وتارة كفارة يمين (2)، وكل ذلك منقول عن ابن عباس، وهما لا يقولان بذلك في سائر نذور المعاصي.
وأحمد بن حنبل ــ أيضًا ــ اتبع ابن عباس في ذلك وقال بقوليه، فإنَّ ابن عباس ثبت عنه الإفتاء في ذلك بكفارة يمين، وثبت عنه الإفتاء بهدي؛ وكذلك أحمد بن حنبل أفتى تارة بكفارة يمين وتارة بهدي كما أفتى ابن عباس (3).
[48/ أ] لكن من الناس من يظن أن ابن عباس اختلف كلامه في ذلك، كما يظنون ذلك بأحمد بن حنبل ــ أيضًا ــ، ولهذا ذكر أصحابه عنه في ذلك روايات: رواية أنه يجب فيه الهدي؛ وهي اختيار أكثرهم كالقاضي أبي يعلى وأكثر أصحابه، ورواية أنه يجب فيه كفارة يمين لأنه معصية؛ وكفارة نذر المعصية عنده كفارة يمين وهو اختيار أبي الخطاب وأبي محمد، ورواية ثالثة بالجمع، ورواية رابعة لا شيء عليه كقول الشافعي.
والصحيح الذي كان أحمد بن حنبل يفتي به، وهو حقيقة قول ابن عباس: أنه إنْ نذر ذبح ولده تقربًا إلى الله ــ تعالى ــ أجزأه كبش، لأنه بدل النفس كما فدا الله الذبيح بكبش، وإن حلف بذلك فقال: إنْ فعلت كذا فعليَّ
_________
(1) المبسوط (8/ 139).
(2) المدونة (1/ 576).
(3) الروايتين والوجهين (3/ 70).

(1/163)


ذبح ولدي فهنا (1) يجزئه كفارة يمين، لأنه حالف بالذبح لا ناذر له (2).
وهذا الفرق حقيقة قول ابن عباس وغيره من الصحابة يفرقون بين النذر وبين الحلف بالنذر، وهو حقيقة مذهب أحمد بن حنبل، وهو ــ أيضًا ــ حقيقة قول أبي حنيفة إذا نذر المعصية لقصد الحلف لا لقصد النذر فعليه كفارة يمين، وكذلك ذكر الخراسانيون من أصحاب الشافعي.
والمقصود: أَنَّ الأئمة الأربعة وغيرهم مِن اِتِّبَاع الصحابة وتعظيم أقوالهم بهذه المنزلة، ولكن قد يخفى عليهم بعض أقوالهم، كما قد يخفى عليهم بعض النصوص؛ ولهذا لم يُفْتُوا في الحلف بالعتق ونحوه بكفارة يمين لَمَّا لم يبلغهم ذلك عنهم، كما لم يفت أبو حنيفة ومالك في الحلف بالنذر بكفارة يمين لَمَّا لم يبلغهم ما قال الصحابة في ذلك، ثم أبو حنيفة رجع إلى أصل الصحابة قبل موته بثلاث، ومالك خالفه ابن وهب (3) وابن
_________
(1) في الأصل: (وهنا).
(2) أخرج هذه المرويات عن ابن عباس: ابن حزم في المحلى (995 – 996)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 194 – 199).
ووجَّه البيهقي اختلاف المرويات عن ابن عباس بقوله: (اختلاف فتاويه في ذلك (فيمن نذر أَنْ ينحر نفسه) وفيمن نذر أن ينحر ابنه يدلُّ على أنه كان يقوله استدلالًا ونظرًا، لا أنه عرف فيه توقيفًا، والله أعلم).
وانظر لزامًا: قاعدة العقود (1/ 282 – 284)، والمسائل الفقهية التي حُكِيَ فيها رجوع الصحابة (2/ 701).
(3) عبد الله بن وهب بن مسلم، أبو محمد المصري، ولد سنة خمسٍ وعشرين ومائة، روى عن مالك والليث وخلق كثير، توفي سنة سبعٍ وتسعين ومائة، عن اثنين وسبعين عامًا.
ترتيب المدارك وتقريب المسالك (3/ 228 – 243)، الديباج المذهب لابن فرحون (ص 132)، سير أعلام النبلاء (9/ 223).

(1/164)


أبي الغمر (1) وغيرهما من أصحابه (2)، وكان ابن وهب أعلم بالآثار، ولم يكن مالك يكتب إلى أحدٍ (الفقيه) إلا إليه (3).
وأما نقل أبي ثور ومحمد بن نصر وابن عبد البر للنزاع فقد اعترف به (4) هذا المعترض، ونقل ما ذكره ابن عبد البر من نقل محمد بن نصر لكلامهم وكلام أبي ثور، وقد نقلت أنا كلام محمد بن نصر من مصنفه في الاختلاف (5)، كما نقله منه ابن عبد البر، وقد ذكر هذا المعترض ذلك نقلا له من الاختلاف (6).
[48/ ب] قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي (7): (إذا حلف بالمشي إلى مكة أو بثلاثين حجة أو بصيام أوجبه على نفسه في اليمين أو بغير ذلك من الأيمان سوى الطلاق والعتاق؛ فإن أهل العلم اختلفوا في ذلك: ففي قول أصحابنا كلهم كفارة يمين [و] (8) ليس عليه أكثر من ذلك،
_________
(1) عبد الرحمن بن عمر بن أبي الغمر، أبو زيد، ولد سنة (160)، رأى مالكًا ولم يأخذ عنه، وكان فقيهًا متقنًا، توفي سنة (234).
ترتيب المدارك (4/ 22)، الديباج المذهب (ص 148).
(2) مجموع الفتاوى (32/ 84) (33/ 320).
(3) ترتيب المدارك (3/ 230 وما بعدها).
(4) كلمة غير واضحة تحتمل ما أثبتُّ.
(5) كلمة (الاختلاف) غير واضحة؛ ولعل ما أثبتُّ هو الصواب، لأنَّ للمروزي كتابًا بعنوان (اختلاف الفقهاء).
(6) في الأصل كلمة لم يظهر منها إلا هذه الأحرف: الا، ولعلها ما أثبتُّ.
(7) في كتابه اختلاف الفقهاء (ص 491).
(8) إضافة من (اختلاف الفقهاء) للمروزي.

(1/165)


وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد، فإن حلف بطلاق [أو عتاق] (1) فقد أجمعت الأمة على أَنَّ الطلاق لا كفارة فيه، وأنه إِنْ حنث في يمينه فالطلاق لازم له.
واختلفوا في العتق؛ فقال أكثرهم: الطلاق والعتاق سواء، لا كفارة في العتاق كما لا كفارة في الطلاق، وهو لازم للحالف به كلزوم الطلاق، وممن قال ذلك: مالك بن أنس وسفيان الثوري [وأصحاب الرأي] (2) والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وإسحاق.
وقال أبو ثور: من حلف بالعتق فعليه كفارة يمين ولا عتق عليه؛ وذلك أن الله أوجب في كتابه كفارة اليمين على كل حالف، فقال تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] يعني: فحنثتم.
قال أبو ثور: وكل يمين حلف بها الإنسان فحنث فعليه الكفارة على ظاهر الكتاب إلا أن تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيءٍ ما، ولم يجتمعوا على ذلك إلا في الطلاق، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارة وألزمناه الطلاق للإجماع، وجعلنا في العتق الكفارة لأنَّ الأُمَّةَ لم تجتمع على أن لا كفارة فيه (3).
_________
(1) إضافة من (اختلاف الفقهاء) للمروزي.
(2) إضافة من (اختلاف الفقهاء) للمروزي.
(3) العبارة في المطبوع فيها اختلاف يسير، وبعدها الزيادة التالية:

(ورووا عن الأنصاري، عن الأشعث، عن بكر بن عبد الله، عن أبي رافع أنَّ مولاته حَلَفَت بالمشي إلى بيت الله، وكل مملوك لها حر، وهي يومٌ يهودية ويومٌ نصرانية، وكل شيءٍ لها في سبيل الله أَنْ تُفَرِّقَ بينه وبين امرأته. قال: فسألتُ ابن عمر وابن عباس وأبا هريرة وعائشة وحفصةَ وأم سلمة – رضي الله عنهم – فكلهم يقولون لها: كفِّري عن يمينك، وخلِّي بينهما. ففعلت.
ويروى عن طاووس والحسن مثل قولِهِ).

(1/166)


قال أبو عبد الله: وقد روي عن الحسن وطاووس مثل قول أبي ثور).
قال أبو عمر (1): (الخلاف الذي ذكره أبو ثور في العتق هو ما رواه معتمر بن سليمان؛ يعني: حديث ليلى بنت العجماء).
فهذا نَقْلُ النزاع من أبي ثور وابن نصر وابن عبد البر، وهم الذين اعتمد عليهم في نقل الإجماع على الطلاق؛ فكيف يجوز الاعتماد عليهم في النقل الذي ليس معهم فيه إلا عدم العلم بالنزاع، ولا يعتمد عليهم في النقل الذي أثبتوه وأسندوه ونقلوه كما ينقل سائر أقوال الصحابة والتابعين، بل وليس معهم عن الصحابة نقل في إثبات الطلاق مثل هذا النقل عن الصحابة في نفي العتاق، والنقل عن التابعين بنفي العتاق المحلوف به مشهور كثير أشهر من النقل [49/ أ/ أ] (2) عنهم بإثبات الطلاق المحلوف به، وقد ثبت عنهم النزاع في الطلاق، ولم يعرف عن أحد منهم الفرق بين الطلاق والعتاق، ولا اشتهر عنهم الفرق بين الطلاق والعتاق وبين غيرهما كما اشتهر عنهم التسوية بين العتق والنذر وغيرهما، ولا عنهم نَقْلٌ بأنَّ كُلَّ حالف بالطلاق أو بالطلاق والعتاق يلزمه ما حلف به، وإنما يُنقل اللفظ العام ــ إِنْ نُقِلَ ــ عن نفرٍ قليل، والنقل بإلزام الطلاق للحالف عن عدد قليل لا يبلغون عشرين رجلًا؛ كما تقدم التنبيه عليه.
_________
(1) في الاستذكار (15/ 46).
(2) سبق التنبيه على سبب وجود الألف الثانية في (ص 139).

(1/167)


فصلٌ
وأما قوله: (وقد تمسك في النقل عن الصحابة الذين ذكرهم في العتق بالأثر الذي يذكره، ولو ثبت ذلك لا يفيده للفرق الذي سنذكره، وللإجماع على الطلاق المانع من الإلحاق؛ فقد عَرَّفْتُك ــ فيما تقدم ــ أني تتبعت أقوال الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم فلم أعلم أحدًا قال بهذا القول الذي اخترعه ابن تيمية من سلف ولا خلف) (1).
فيقال:
أولًا: ليس عمدته قياسه على العتق؛ بل الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة لفظًا ومعنى تدل على ذلك في الحلف بالطلاق، كما يدل عليه في الحلف بالعتاق والنذر.
وأيضًا؛ فقياسه على العتق قياس صحيح في معنى الأصل، بل هو من قياس الأولى، والفرق الذي وعد به المعترض قد اعترف هو بفساده، والأمة قبل أبي ثور مجمعة على بطلان هذا الفرق، وهذا إجماعٌ محققٌ لا يقدر أحد أن يَنقل لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أَنَّ أحدًا قبل أبي ثور فَرَّقَ بين الطلاق والعتاق.
وأبو ثور فَرْقُهُ عَدَمُ عِلْمٍ لا لفرق وجده من كتاب الله ولا سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ولا فَرْقُ قياسٍ استنبطه من الكتاب والسنة، ولكن فَرَّقَ لعدم العلم، وهو يُسمِّي عدم العلم بالنزاع إجماعًا، وهذا حقيقة ظنه عدم النزاع، ومن
_________
(1) «التحقيق» (35/ ب).

(1/168)


جعل هذا جزمًا بالإجماع فهو جاهل جهلًا بينًا؛ بل لو كُلِّفَ أَنْ يحلف بالطلاق ــ مع اعتقاده لزومه ــ أَنَّ أحدًا من الأمة لم يخالف في الطلاق لَمَا اجترأَ على ذلك (1)، وأما المثبِت للخلاف فيحلف الأيمان المغلظة ويباهل من يباهله على أَنَّ الخلاف موجود في الأمة من سلفها وخلفها في وقوع الطلاق وفي التكفير.
وأئمة العلم ينكرون على مثل هذا المعترض وأمثاله الذين يتكلمون بالجهل، ويَقْفون ما ليس لهم به علم، ويجزمون بإجماع الأمة على ذلك، وليس لهم بهذا الإجماع من علم البتة؛ وغاية ما عندهم نَقْلُ مَنْ نَقَلَ ذلك، وأسبق من نقل الإجماع في ذلك أبو ثور، وكل من جاء بعده فعنه أخذ ذلك؛ ومحمد بن نصر عنه أخذه، وكذلك ابن جرير الطبري، وابن عبد البر عنه أخذه ابن رشد الحفيد (2).
وابن المنذر لَمَّا كان أوسع علمًا بالاختلاف في هذا، وعَلِمَ قلة عدد القائلين بذلك= لم يذكر إلا إجماع من يحفظ قوله ــ لم يذكر إجماع العلماء ــ كما جرت عادته في المسائل التي لم يحفظ فيها أقوال عامة الأمة، وإنما يحفظ فيها قول عددٍ منهم، فيقول: أجمع من نحفظ قوله؛ يعني: مَنْ يحفظ قوله في تلك المسألة لا يريد كُلَّ من قال قولًا ما، وهذا بَيِّنٌ في كتابه، وقد ذكرت ألفاظه وألفاظ غيره في غير هذا الموضع (3).
_________
(1) كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ.
(2) انظر ما تقدم (ص 135).
(3) انظر (ص 597 – 600، 625) ففيه كلامٌ مطوَّل للمجيب حول إجماعات ابن المنذر.

(1/169)


وقول هذا المعترض أنه تتبع أقوال الصحابة والتابعين فلم يعلم أحدًا قال بهذا القول؛ فهو مُصَدَّقٌ في هذا القول الذي أخبر فيه بعدم علمه ولم يكن في ذلك إلا مثل ابن عبد البر وأمثاله، ومثل ابن [41/ أ/ ب] (1) حزم وأمثاله؛ بل وأبي ثور ومحمد بن جرير ومحمد بن نصر وأمثالهم ممن يقول مثل هذا القول في مسائل كثيرة ويكون فيها نزاع لم يعلمه، كما قد بسط الكلام على ذلك في موضع آخر.
وأما قوله: إنه لم يعلم أحدًا قال بهذا القول الذي اخترعه ابن تيمية من سلف ولا خلف؛ فهذا قاله بناء على عدم علمه وظنه الفاسد الذي لا يغني من الحق شيئًا، وابن تيمية يَعلم علمًا جزمًا (2) بأنه لم يخترع هذا القول بل قد سبقه إليه غير واحد من السلف والخلف، بل هم ــ والله ــ من أَجَلِّ السلف وأجلِّ الخلف، وهم في أعصارهم وأمصارهم أفضل من غيرهم، ويَعلم مع ذلك أنه شرع الله ــ تعالى ــ الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
وابن تيمية يجزم بذلك، ويباهل عليه من يباهله، بل يباهل على هذا وعلى أَنَّ هذا القول هو القول الذي بعث الله ــ عز وجل ــ به رسوله؛ فَلْيَقُمْ هذا وأمثاله فليباهلون على أن هذا لم يقله أحد من السلف والخلف، وأنه خطأ مخالف لشرع الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -.
وقد تناظر مرة الأوزاعي والثوري في مسألة رفع اليدين في المواطن الثلاثة؛ فاحتج الأوزاعي على الرفع بحديث الزهري عن سالم عن ابن عمر
_________
(1) سبق التنبيه على سبب إضافة الحرف الثاني.
(2) كذا في الأصل، وله وجه.

(1/170)


أَنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يرفع يديه إذا كَبَّرَ (41/ ب/ أ) وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع (1)، واحتج عليه الثوري بحديث يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى، عن البراء أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يرفع يديه في أول مرة ثم لا يعود (2)، فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم عن ابن عمر، وتحدثني عن يزيد بن أبي زياد؟! قم إلى الحجر الأسود لنبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين! فلما رأى الثوري غضب الأوزاعي سكت (3)؛ فمن كان جازمًا بقوله نقلًا وبحثًا فليباهل عليه.
ثم هذا المعترض يعترف بالنزاع في وقوع الطلاق، وإنما يظن هو ونحوه أنه لم يقل أحد بالتكفير مع عدم الوقوع، بل إما أن يقع وإما ألا يقع ولا كفارة عليه.
_________
(1) أخرجه البخاري (735).
(2) أخرجه أبو داود (479) وغيره.
وقد ضعَّف زيادة: (ثم لا يعود) الإمام أحمد والبخاري وأبو داود وابن حبان وابن القيم وغيرهم.
وقد جاء الحديث بنحوه عن ابن عمر وابن مسعود وغيرهما.
انظر: كتاب رفع اليدين في الصلاة للبخاري (ص 86)، والمجروحين (2/ 450)، زاد المعاد (1/ 219)، تهذيب السنن (1/ 380)، رفع اليدين في الصلاة لابن القيم (ص 43 وما بعدها)، نصب الراية (1/ 402)، البدر المنير (3/ 480)، ضعيف سنن أبي داود (الأم) (1/ 285)، السلسلة الضعيفة (2/ 346).
(3) أسند هذه القصة: البيهقي في السنن الكبير (3/ 500/ ح 2574).
وذكرها غير واحدٍ من المصنفين؛ كالذهبي في سير أعلام النبلاء (7/ 112)، وابن القيم في زاد المعاد (3/ 643)، وابن كثير في البداية والنهاية (13/ 445)، وابن رجب في الفتح (6/ 329)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (7/ 112).

(1/171)


فيقال لهم: إذا كان النزاع في وقوع الطلاق معلومًا، لم يكن إثبات الوقوع بالإجماع بل لا بُدَّ من دليل، وأنتم لم تذكروا دليلًا صحيحًا على الوقوع، ثم إذا قُدِّرَ أَنَّ المجيب أو غيره قويت عنده الأدلة الدالة على عدم الوقوع، والتكفير قد نقل فيه خلاف ولم يُعلم ثبوتُهُ ولا انتفاؤه؛ ألم يكن في الاحتياط إذا رأى الرجل أنه لا يقع به الطلاق أَنْ يُكَفِّرَ مع ذلك خشية أن تكون الكفارة واجبة عليه؟! هذا إذا سمع أن فيها خلافًا ولم يَعلم بطلانه، فالاحتياط بإخراج [49/ أ/ ب] (1) الكفارة مع الشك أولى من الاحتياط بإيقاع الطلاق مع الشك؛ فإنَّ هذا يتضمن مع تحريمها على زوجها تحليلها لغيره.
وهب أَنَّ الاحتياط مشروع فيما إذا اشتبه الحلال بالحرام، فإنه ليس مشروعًا في تحليل ما كان محرمًا بيقين، وهذه المرأة محرمة على الأجانب بيقين؛ فمن أوقع الطلاق بها مع الشك فقد أَحَلَّ الحرام بالشك، وهذا لا يجوز بالاتفاق، وأما إذا أمر بالتكفير مع الشك فليس فيه إلا أمر بعبادة يشك في وجوبها، ولا ريب أَنَّ مَنْ شَكَّ في عبادة عليه فاحتاط بأدائها كان محسنًا، وإذا أمره الآمر بأن يحتاط لنفسه فيؤدي ما يشك في وجوبه كان محسنًا في ذلك لم يكن هذا بمنزلة من يحرم المرأة عليه ويحلها للأجنبي بالشك، فإنه لا يقدر أحد أن يقيم حجة على وقوع الطلاق المحلوف به.
والمسألة التي تَنازع العلماء في وقوع الطلاق [فيها] (2) إذا لم يترجح
_________
(1) صورت هذه اللوحة مرتين، لوجود ورقة معترضة تحجب اللوحة الأساسية، كما تقدم التنبيه على نظائرها.
(2) إضافة يقتضيها السياق.

(1/172)


عند المفتي أحد القولين لم يجز له أن يفتي بما لم يترجح عنده، والأصل بقاء النكاح؛ ولهذا كان أحمد يقول في طلاق السكران: إن من قال: إنه يقع؛ فقد حرمها على زوجها وأحلها لغيره، فقد فعل شيئين، ومن لم يحرمها أبقاها على ما هي [49/ ب/ أ] عليه، فلم يفعل إلا شيئًا واحدًا (1).
فالاحتياط للمفتي إذا لم يحرم ويحلل بالشك، بل أمسك عن ذلك، وأمر بالكفارة للاحتياط بأدائها لِمَا نُقِلَ من الخلاف في وجوبها؛ فهذا أحوط الأقوال الثلاثة قبل أن ينظر في الأدلة المفصلة مع ما ينضم إلى ذلك من المرجحات الكثيرة؛ فكيف ولست تجد في كلام أحد من العلماء على الإيقاع دليلًا يُعتمد عليه فضلًا عن أن يكون راجحًا، بل ليس معهم كتاب ولا سنة ولا آثار عن الصحابة ولا قياس جلي؛ بل الكتاب والسنة والقياس الجلي يدل على عدم الوقوع.
والنزاع في الوقوع ثابت بلا ريب وكذلك النزاع في الكفارة؛ ولكن المقصود أن ندرج الكلام في مقامات هذه المسألة درجة درجة؛ فإنَّ من الناس من يقول: لم يَثبت عندي النزاع في الكفارة، فيقال له: لا ريب أنه قد نقل النزاع في ذلك، كما نقله غير واحد منهم ابن حزم، وأنت لا تجزم جزمًا قاطعًا بأن الأمة اتفقت على نفي التكفير؛ وحينئذٍ فإذا ترجح عندك القول
_________
(1) لم أجده في المطبوع من مسائل الإمام أحمد، ولكن نقل غلام الخلال في زاد المسافر (3/ 291)، وابن القيم في مواضع من كتبه ــ كإعلام الموقعين (5/ 454)، وإغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان (ص 26)، وزاد المعاد (5/ 191، 220) ــ عن الإمام أحمد أنه قال في رواية أبي طالب: (والذي لا يَأمر بالطلاق فإنما أتى خَصلة واحدة، والذي يأمر بالطلاق قد أتى خصلتين: حَرَّمَهَا عليه، وأحلَّها لغيره؛ فهذا خيرٌ من هذا، وأنا أنفي جميعها). وفي بعض المصادر: (وأنا أتقي جميعًا).

(1/173)


بعدم الوقوع كان احتياطك بالتكفير أولى في العقل، وأمرك بالتكفير لغيرك احتياطًا أبرأ لعرض كل منهما ودينه، وهذا [49/ ب/ ب] احتياطٌ بفعل خيرٍ وبر، ليس فيه شيء من الشر، وهو دائر بين الإيجاب والاستحباب، فإن لم يكن واجبًا فلا ريب أنه مستحب.
وأما إيقاع الطلاق فليس بواجب ولا مستحب من الزوج فضلًا عن أن يكون واجبًا أو مستحبًا من المفتي؛ فإنَّ المفتي والحاكم وولي الأمر كلٌّ منهم لا يَحِلُّ له أن يحرمها على زوجها ويحلها لغيره إلا بدليل شرعي سالم عن المعارض، ومع النزاع في الإيقاع لا يمكنه دعوى الإجماع، وليس معه كتاب ولا سنة ولا قياس.
وإذا كان معه تقليد طائفة من علماء المسلمين؛ فالتقليد ليس فيه علم بالشرع ودليله الخاص، وإنما فيه علمٌ بأنَّ هذا قول فلان، وأنه يسوغ تقليده، فالمقلِّد لا يعلم ولا يظن أن هذا حكم الله في نفس الأمر إن لم يقترن بذلك أمارات تقوي ظنه أن هذا حكم الله في نفس الأمر؛ وحينئذٍ فلا يكون تقليدًا محضًا.
وإذا عَرَفَ المقلد أنَّ النزاع حاصلٌ في المسألة، وأن الذين يُقَلِّدُهُم لم يظهر لهم حجة يقطعون بها مَنْ نازعهم، ولا أظهروا علمًا يجب على الأمة اتباعه، مع توفر الهمم والدواعي على إظهار العلم ومسيس الحاجة إلى ذلك، ووجود ما يحمل النفوس على إظهار ما عندها من العلم لما وجد في ذلك من التحدي (1) والمعارضة والمخاصمة، وتشوف همم العامة
_________
(1) وتحتمل في الأصل: (التحري)؛ والأقرب ما أثبتُّ.

(1/174)


والخاصة إلى ما في ذلك من العلم وإلى ما يحصل لصاحبه من مصلحة الدنيا والدين والآخرة= فإن هذا مما يوجب عند المقلد أنه لا علم عند من كان يقلده بهذه المسألة.
وطالب العلم الذي له معرفة بالدليل الشرعي، وهو ممن يمكنه الاجتهاد في بعض المسائل ــ وإن لم يكن مجتهدًا مطلقًا ــ إذا استفرغ وسعه فيما ذكره العلماء في هذه المسألة ونحوها من النقل والبحث= جَزَمَ جَزْمَ مثله أنه ليس عندهم علم جازم بوقوع الطلاق، لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، بل ولا ظنّ راجح مستند إلى دليل شرعي، بل إنما معهم عادات وتقليد وليس شيء منه حجة شرعية باتفاق المسلمين.
ومن قال: إنَّ قول أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة أو عشرة أو اثني عشر معينين أو غير معينين من علماء المسلمين حجةٌ معصومةٌ يجب (1) على الناس اتباعها ويحرم مخالفتها= فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع [50/ أ] من الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين الأئمة الأربعة وغيرهم، فإنهم متفقون على أَنَّ مثل هذا ليس بحجة شرعية تفصل النزاع بين المسلمين فيما تنازعوا فيه من أمر دينهم.
وقول هذا المعترض: (إن هذا القول قول مخترع) له أسوة بما يقوله هو وأمثاله من أقوال تخالف الكتاب والسُنة واتفاق السلف مع دعواهم أن القول الذي يخالفهم قول مخترع، فليس هذا بأول بدعة يقولونها ويقولون لمن يخالفها إنه مبتدع، فهذا أمر يكثر فيمن يتكلم في الدين في أصوله
_________
(1) هكذا قرأتها.

(1/175)


وفروعه بغير اعتصام بالكتاب والسنة، بل بما يظنه هو وأمثاله إما إجماعًا وإما رأيًا.
وعامة أهل البدع يخالفون الكتاب والسنة بدعوى إجماع أو معقول؛ ولهذا قال أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب، هذه دعوى الأصم والمَرِيسي وابن عُلَيَّة. ولهذا المعترض أسوة بهؤلاء المبتدعين وأمثالهم في هذا وغيره الذين يتكلمون في الدين بلا علم.
والقول الذي يقوله هذا المعترض وأمثاله من أن هذا قول مبتدع، قد قابلهم عليه من هو أعلم منهم بشرع الله ــ تعالى ــ في هذه المسألة ممن كان يفتي فيها بالكفارة قبل أن يتكلم فيها المجيب، بل وقبل أَنْ يُخْلَق، فكان يقول لمن ينازعه فيها: يا دجاجلة! لم تدخلون في الإسلام ما ليس منه؟! أين في دين المسلمين يمين منعقدة لا كفارة فيها؟! (1).
وهذا هو الحق؛ فإن القول بأن من أيمان المسلمين المنعقدة ما لا كفارة فيه هو قول مبتدع لا ريب فيه، لكن قد قاله كثير من أهل العلم والدين مجتهدون مثابون على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم؛ كسائر الأقوال المخالفة في نفس الأمر لِمَا جاء به الرسول، فإنها في الحقيقة مبتدعة لم يشرعها الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، لكن القائل بها مجتهد قصد الحق بحسب استطاعته، واعتقد أن هذا هو شرع الله، فأثابه الله على اجتهاده، وغفر له قوله، ولو كان بدعة في نفس الأمر.
وما أحسن ما كان الصحابة – رضي الله عنهم – يقولون كما قال أبو بكر وابن مسعود
_________
(1) تقدمت الإشارة إلى هذه القصة في (ص 132).

(1/176)


وغيرهما من الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ: أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه (1).
ومن تَدَبَّر هذه (2) [50/ ب] الإجماعات التي يذكرها مثل هؤلاء القاصرين في معرفة علم الكتاب والسنة وأقوال السلف والخلف لا سيما في أصول الدين فضلًا عن فروعه= وَجَدَ من ذلك أمورًا كثيرة، فلا يعجب بعدها من دعواهم إجماعات لا علم لهم بحقيقتها، فإنَّ هذا كثير منهم جدًا، وهو من البدع التي انتشرت بعد انقضاء القرون المفضلة حتى كان الأئمة كأحمد بن حنبل – رضي الله عنه – وغيره يذمون هؤلاء المبتدعين على دعواهم ما لا علم لهم به.
ولهذا قال الشافعي – رضي الله عنه – (3): وإنما الأقوال المبتدعة المخالفة للكتاب والسنة ولما كان عليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخلفاؤه الراشدون التي هي أقوال منكرة تناقض مقصود الرسالة، وتُسَلِّطُ أعداءَ الملة على القدح فيها = هي الأقوال التي أُحدثت لما كَثُرَ القول بلزوم الطلاق ووقوعه حيث لم يوقعه الله ورسوله، فأحدثت لأجل ذلك بدعة كالقول بأن تتزوج المرأة من لا يريد أن يتزوج بها ولا يريد إلا أن يحلها للأول، وقد لعن الله ورسوله هذا المحلِّل والمحلَّل له (4).
_________
(1) تقدم تخريج الأثرين في (ص 40).
(2) كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ.
(3) لم أجد هذا النقل عن الشافعي، وأخشى أن يكون كلام الشافعي قد سقط من الأصل؛ والله أعلم.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (36190)، وأحمد في مسنده (7/ 313)، والنسائي (3416)، والترمذي (1120)، والبغوي في شرح السنة (9/ 100) وغيرهم من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -.

وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح. وقال ابن حزم (ص 1763): لا يصح في هذا الباب سواه. وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 159): وقد روي هذا المعنى من طرق صحاح عن ابن مسعود وغيره.
انظر: العلل لابن أبي حاتم (4/ 35)، نصب الراية (3/ 238)، البدر المنير (7/ 612)، إرواء الغليل (6/ 307)، صحيح أبي داود (الأم) (6/ 315).

(1/177)


وكذلك استفاض ذمه وتحريمه عن الخلفاء الراشدين المهديين وغيرهم من الصحابة مثل: عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر – رضي الله عنهم -؛ حتى قال ابن عمر: لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة، إذا علم الله من قلبه أنه يريد أن يحلها له (1).
وقال أبوه عمر – رضي الله عنهما -: لا أُوتَى بمحلِّل ومحلَّل له إلا رجمتهما (2).
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 265)، ومسدد ــ كما في إتحاف الخيرة المهرة 4/ 109 – .
وعزاه ابن تيمية في بيان الدليل (ص 403 – 404) إلى حسين بن حفص في جامعه، والجوزجاني.
وانظر: إرواء الغليل (6/ 311 – 312).
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 265)، وسعيد بن منصور في سننه (2/ 75)، وابن أبي شيبة (37344) وغيرهم.
قال ابن تيمية في المجموع (33/ 30): وقد ثبت عن عمر ثم ذكر هذا الأثر. وقال في بيان الدليل (ص 400): وهو مشهور محفوظ عن عمر، ورووه بالأسانيد الثابتة.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 480): وهو صحيحٌ عن عمر.
انظر: تخريج أحاديث الكشاف (1/ 148)، التحجيل (ص 368).

(1/178)


وقال عثمان – رضي الله عنه -: لا يُحلها إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة (1).
ولم يُعرف أَنَّ أحدًا من الخلفاء والصحابة أعاد امرأة إلى زوجها بنكاح تحليل (2).
وكذلك من جنسه أن يؤمر الزوجان بالخلع، مع أن الرجل مريد لامرأته، وهي مريدة له، ليس لواحد منهما غرض في مفارقة الآخر فيؤمر بالخلع في مثل هذه الحال مع قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].
ومثل دور الطلاق الذي يَجعل نكاح المسلمين مثل نكاح النصارى لا
_________
(1) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 152)، وابن حزم في المحلى (ص 1763)، والبيهقي في السنن الكبير (14/ 405/ ح 14309) بلفظ: (لا تَرجع إليه إلا بنكاح رغبةٍ غيرَ دُلْسَةٍ).
وعزاه ابن تيمية في بيان الدليل (ص 402) إلى ابن وهب. وعزاه ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 272) إلى أبي إسحاق الجوزجاني في كتاب (المترجم).
انظر: تخريج أحاديث الكشاف (1/ 149)، التحجيل (ص 369).
وروي معنى هذا الأثر مرفوعًا؛ كما نقل ذلك ابن تيمية في بيان الدليل (ص 394 وما بعدها)، وأطال النفس في الكلام عليه.
(2) قال الترمذي بعد حديث ابن مسعود: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو وغيرهم، وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

(1/179)


طلاق فيه بحال، وهي [51/ أ] بدعة مخالفة لصريح المعقول مع مناقضتها لشرع الرسول؛ إذ كان معنى قول القائل: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا، [و] إذا طلقتك فلم أطلقك، وإذا وقع عليك طلاق لم يكن قد وقع عليك طلاق، وهو جمع بين النقيضين مع تضمنه محالًا آخر، وهو إيقاع طلقة مسبوقة بثلاث تطليقات، وهذا ممتنع في الشرع (1).
ومثل الاحتيال بطلب إفساد النكاح، مع أنه لولا الطلاق لكان النكاح عندهم صحيحًا، يَستحِلَّان به ما يستحلان بالنكاح الصحيح من الوطء والميراث وغير ذلك إلى أن يطلقها= جعلوه فاسدًا لئلا يقع الطلاق (2).
ومثل الاحتيال في ألفاظ الأيمان بما يخالف قصد الحالف ومراده (3)؛
_________
(1) وهذه المسألة تُسمى (السُّرَيجية)، ولابن تيمية كلام كثير حولها؛ بل صنَّف فيها قاعدة خاصةً؛ ذكرها ابن رشيق في أسماء مؤلفاته (ص 309 ضمن الجامع)، وابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 80)، وأشار إلى هذه القاعدة في كتابه (الرد على المنطقيين) (ص 301 – 302) حيث تكلَّم عن (الدور الحكمي الفقهي) وذكر أنه أفرد هذا الدور بمصنفات تبيِّن حقيقته، وأنه باطل عقلاً وشرعًا، وفي مصنفٍ آخر هل في الشريعة شيءٌ من هذا الدور أم لا؟

وانظر: مجموع الفتاوى (33/ 39، 64، 240 – 245)، (35/ 294)، الفتاوى الكبرى (3/ 137، 237، 300، 316)، القواعد الكلية (ص 523).
ولابن القيم كلامٌ مطوَّل عن هذه المسألة في إعلام الموقعين (5/ 201 وما بعدها).
وانظر ما سيأتي (ص 600).
(2) مجموع الفتاوى (33/ 39، 64)، الفتاوى الكبرى (3/ 237، 300)، القواعد الكلية (ص 522).
وانظر ما سيأتي (ص 600).
(3) مجموع الفتاوى (33/ 39، 64، 148)، الفتاوى الكبرى (3/ 237، 267، 300).

(1/180)


فهذه هي البدع التي أُحدثت في الإسلام لما صاروا يعتقدون وقوع الطلاق المحلوف وغيره مما ليس هو بطلاق واقع في الشرع، فصاروا لأجل ذلك حزبين: حزبًا دخلوا في هذه الحيل التي تتضمن تحريم ما أحله الله ورسوله وتحليل ما حرمه الله ورسوله، وإن كان المجتهد فيها مأجورًا وخطؤه مغفورًا والمقلد له معذورًا، وكذلك الحزب الآخر الذين ألزموا الناس بالآصار والأغلال وتحريم ما أباحه الله من الحلال؛ والله يرضى عن جميع أئمة الدين ويغفره لجميع المؤمنين والمؤمنات (1).
لكن المقصود بيان ما هي الأقوال المخترعة المبتدعة في الإسلام، وإن كان أهلها مجتهدين مأجورين غير مأزورين، وما هي الأقوال الموافقة لشرع الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وقد قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78] فَخَصَّ أحد النبيين بالفهم مع ثنائه على كُلٍّ منهما بما آتاه من العلم والحكم؛ والعلماء ورثة الأنبياء (2).
وهذا الموضع الذي غلط فيه مثل المعترض وأمثاله، قد وقع نظيره لقوم
_________
(1) مجموع الفتاوى (33/ 64)، الفتاوى الكبرى (3/ 237). وانظر: إغاثة اللهفان (1/ 581).
(2) مجموع الفتاوى (20/ 224، 305)، (33/ 29، 41، 159)، (35/ 360 وما بعدها، 387)، الفتاوى الكبرى (3/ 274، 293، 302، 5/ 97)، جامع المسائل (3/ 81)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 153)، الجواب الصحيح (6/ 494)، منهاج السنة (3/ 411)، رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص 38). وانظر ما سيأتي (ص 808).

(1/181)


في مواضع يظنون في المسألة إجماعًا فيعملون به، مع مخالفتهم في ذلك الكتاب والسنة، مثل: من اعتقد أن نكاح الزانية قبل التوبة جائزٌ (1) بالإجماع، وخالف بذلك الكتاب والسنة (2).
ومن هؤلاء مَنْ يقول: الإجماع [51/ ب] يَنسخ الكتاب والسنة؛ وكنا نَظُنُّ بمن يقول ذلك أنه يريد به: أَنَّ الإجماعَ دَلَّ على نَصٍّ ناسخٍ، حتى ذَكَرَ مَنْ صَرَّحَ في نقله بأن نفس الإجماع يُنسخ به، وهذا من جنس قول النصارى الذين يُجوِّزون لأحبارهم أن يغيروا شريعة الأنبياء برأيهم، وهؤلاء ممن عناهم الله بقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لعدي بن حاتم حين قال: ما عبدوهم. فقال: «أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم؛ فكانت تلك عبادتهم إياهم» (3)؛ فمن جوَّز لعلماء
_________
(1) في الأصل: (جائزًا)، وصوابها ما أثبتُّ.
(2) مجموع الفتاوى (32/ 109 وما بعدها، 145)، الفتاوى الكبرى (3/ 151 وما بعدها، 176 وما بعدها)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 446). وانظر ما سيأتي (ص 774).
(3) أخرجه البخاري في تاريخه (7/ 106)، والترمذي في جامعه (3095)، وابن جرير في التفسير (11/ 417) وغيرهم بألفاظ متقاربة.
وقال الترمذي: هذا حديثٌ غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغُطيف بن أَعين ليس بمعروفٍ في الحديث.
وقال ابن تيمية في الإيمان (ص 58) ــ وهو في الفتاوى 7/ 67 – : وهو حديث حسن طويل.
وقال الذهبي في المهذب (8/ 4108): غطيف ضعفه الدارقطني، وقيل: غضيف.
وانظر: السلسلة الصحيحة (7/ 861).

(1/182)


الأمة بعد نبيها أن ينسخوا (1) شيئًا من شرعه كان قوله من جنس هذا القول، وهذا بخلاف ما إذا اجتهد واحد منهم؛ فإنَّ هذا يقول كما قال أبو بكر وابن مسعود – رضي الله عنهما -: أقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه (2).
والواحد من العلماء ليس بمعصوم يجب اتباعه، بخلاف الأمة فإنها معصومة.
فإذا قيل: إنها قد تنسخ نص الرسول – صلى الله عليه وسلم – بإجماعها على خلافه، وهي معصومة في إجماعها = فهذا اتخاذ لهم أربابًا من دون الله، يحللون الحرام ويحرمون الحلال (3).
ومثل من اعتقد إجماع الأمة على أَنَّ مسافة القصر لا تكون أقل من يومين (4)، فلزمهم ألا يقصر أهل مكة في عرفة ومزدلفة ومنىً، وهو خلاف
_________
(1) في الأصل: (ينسخ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) تقدم تخريجه في (ص 40).
(3) مجموع الفتاوى (19/ 257)، (33/ 94)، الفتاوى الكبرى (3/ 259).
وقد صرَّح في بعض المواضع بمن قال بذلك؛ فذكر منهم: عيسى بن أَبان وغيره من أهل الكلام والرأي من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة ومالك. وانظر ما سيأتي (ص 633 – 634).
(4) ذكر المجيب في (ص 695) وابن القيم في الصواعق المرسلة (2/ 587) أنَّ الليث بن سعد حكى الإجماع على أنَّ المسافر لا يقصر الصلاة في أقلَّ من يومين. وانظر ما سيأتي (ص 775).

(1/183)


سنته ــ التي لا ريب فيها ــ من أَنَّ أهل مكة صلوا بصلاته في عرفة ومزدلفة ومنى جمعًا وقصرًا (1)، وكذلك كانوا يفعلون في خلافة أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – وصدرًا من خلافة عثمان – رضي الله عنه – لمَّا كان يقصر الصلاة (2)، ثم لما أتمها للاجتهاد الذي رآه. تشعب للناس عن ذلك أقوال مذكورة في غير هذا الموضع.
واختلف الناس في مأخذه في اجتهاده: هل كان ذلك لأنه كان تَأَهَّلَ بمكة؟ أو لأن بعض الأعراب ظنوا الصلاة لا تكون إلا قصرًا؟ أو لأنه رأى جواز الأمرين ففعل الجائز؟ أو لأنه لما عُمِرَت منى وكان المقيم بها لا يحمل الزاد والمزاد رأى عثمان – رضي الله عنه – أنَّ النازل بها مقيم، ولهذا لم يقصر بعرفة ومزدلفة مع وجود [52/ أ] ما ذكر من الإتمام، ولم يكن عثمان – رضي الله عنه – يقصر في طريقه من المدينة إلى مكة، ولا كان ممن يجوز له المقام بمكة، بل كان إذا اعتمر يُنيخ راحلته ويعتمر ثم يخرج، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – إنما رَخَّص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد نسكه ثلاثًا. أخرجاه في الصحيحين (3).
_________
(1) هذا الكلام من المجيب مجمل؛ بيانه: أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – جمع وقصر في عرفة ومزدلفة، أما منى فقد كان يقصر فيها دون جمع. وهذا واضحٌ من سياق الأحاديث الواردة في حجة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين وغيرهما.
وانظر: مجموع الفتاوى (24/ 45، 124)، مجموعة الرسائل والمسائل (2/ 11 مهم، 72)، جامع المسائل (6/ 323)، الفتاوى العراقية (1/ 319).
(2) أخرجه البخاري (1082) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -. وفي (1084) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -.
(3) أخرجه البخاري (3933)، ومسلم (1352) من حديث العلاء بن الحضرمي – رضي الله عنه -.

(1/184)


ومثل من ظن إجماع (1) الصحابة على أن التكبير على الجنازة لا يجوز أن يزاد على أربع، وخالف السنة الثابتة في جواز التكبير أكثر من ذلك (2).
ومثل من ظن إجماع الصحابة على وجوب جلد ثمانين للشارب، وخالف بذلك ما تقدم من السنة في جواز الاقتصار على أربعين (3).
ومثل من ظن الإجماع على أنه لا يجوز قتل الشارب بحال، وخالف بذلك [ما] (4) ثبت من جواز القتل في الجملة، وبعض الناس جعل القتل واجبًا، والسنةُ إنما دلت على الجواز فإنه أمر بالقتل في الرابعة (5)، وأُتي
_________
(1) في الأصل: (الإجماع)، والصواب ما أثبتُّ.
(2) أخرج مسلم في صحيحه (957) عن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – أنه كان يكبر على الجنائز أربعًا، وأنه كبَّر على جنازة خمسًا. فسأله عبد الرحمن بن أبي ليلى. فقال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يكبِّرُها.
وانظر لأحاديث الباب: نصب الراية (2/ 267)، البدر المنير (5/ 260)، وأحكام الجنائز للألباني (ص 141 وما بعدها).
وانظر: مجموع الفتاوى (24/ 22)، القواعد الكلية (ص 148 – 149).
(3) مجموع الفتاوى (28/ 336)، (34/ 214)، الفتاوى الكبرى (3/ 425)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 498)، جامع المسائل (1/ 337)، المسودة (2/ 629) ونقله في المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 120)، منهاج السنة (6/ 39، 82 وما بعدها)، السياسة الشرعية (ص 134 وما بعدها). وانظر ما سيأتي (ص 740، 774).
(4) إضافة يقتضيها السياق.
(5) جاء هذا عن جماعةٍ من الصحابة منهم: معاوية بن أبي سفيان، وابن عمر، وأبي هريرة ــ رضوان الله عليهم ــ وغيرهم.
وأقوى ما ورد في الباب: حديث معاوية بن أبي سفيان؛ أخرجه أبو داود (4482)، والترمذي (1444)، والنسائي في الكبرى (5278)، وابن ماجه (2573) وغيرهم.
وقال البخاري: حديث أبي صالح، عن معاوية، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا أصحُّ من حديث أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -.
ورجَّح الدارقطني في العلل (10/ 91) روايةَ معاوية بن أبي سفيان وأنها هي المحفوظة.
وصححه ابن حبان (10/ 295)، والحاكم (4/ 414).
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (34/ 219) عندما سئل عن قتل شارب الخمر: نعم؛ له أصل، وهو مرويٌ من وجوه متعددة، وهو ثابت عند أهل الحديث.
انظر: شرح العلل (1/ 4)، نصب الراية (3/ 346)، السلسلة الصحيحة (3/ 347/ ح 1360).

(1/185)


بشخص أكثر من الشرب ولم يقتله (1)، وقيل له – صلى الله عليه وسلم – عن طائفة لم ينتهوا. قال: «فاقتلوهم» (2).
ومن الناس من ظن الإجماع على ترك حديث المصرَّاة (3).
_________
(1) جاء عن جماعةٍ من الصحابة؛ فقد أخرجه البخاري (6780) من حديث عمر بن الخطاب، وأخرجه أبو داود (4485) من حديث قبيصة بن ذؤيب. كما أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 379) من حديث أبي هريرة. وأخرجه النسائي في الكبرى (5283، 5284) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (29/ 567 – 571)، وأبو داود في سننه (3683) من حديث ديلم الحميري.
(3) أخرجه البخاري (2151)، ومسلم (1524) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
وانظر: مجموع الفتاوى (4/ 532 وما بعدها)، (29/ 426 وما بعدها)، وحاشية ابن عابدين (5/ 44).

وينظر في المسألة بحث الدكتور/ ذيب بن مصري القحطاني في مجلة الجامعة الإسلامية في عددها (81 – 82). وانظر ما سيأتي (ص 774 – 775).

(1/186)


ومنهم من ظن الإجماع على أن شهادة العبد لا تقبل، وأنس (1) بن مالك قد ذكر الإجماع على أنها مقبولة (2).
ومن الناس مَنْ ظَنَّ الإجماع على أَنَّ فسخ الحج الذي أمر به النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه – رضي الله عنهم – في حجة الوداع لا يجوز، مع أَنَّ طائفةً من السلف والخلف يقولون: لا يجوز الحج بدون سوق الهدي إلا للمتمتع إما مبتدئًا وإما فاسخًا (3)؛ ومثل هذا كثير.
* * * *
_________
(1) وضع الناسخ هنا علامة اللحق، وفي الهامش وضع حرف (ظ).
(2) مجموع الفتاوى (20/ 247 وما بعدها)، رفع الملام (ص 32)، النبوات (1/ 479)، الطرق الحكمية (1/ 442 وما بعدها)، الصواعق المرسلة (2/ 583)، بدائع الفوائد (1/ 9). وانظر ما سيأتي (ص 775).
(3) مجموع الفتاوى (22/ 336)، (26/ 49، 54، 67)، الفتاوى الكبرى (3/ 261، 284)، جامع المسائل (1/ 365 وما بعدها)، منهاج السنة (4/ 183 وما بعدها)، شرح العمدة (2/ 501 وما بعدها).
وانظر: شرح علل الترمذي (1/ 331).

(1/187)


فصلٌ
قال:
(قال أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا عارم بن الفضل، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: قال أبي: حدثنا بكر بن عبد الله، أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها محرر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية إنْ لم تُطَلِّق امرأتك أو تفرِّق بينك وبين امرأتك. قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة ــ وكانت إذا ذُكِرَت امرأة [بالمدينة] (1) فقيهة ذكرت زينب ــ. قال: فأتيتها، فجاءت يعني إليها. فقالت: في البيت هاروت وماروت؟! قالت: يا زينب؛ جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مالٍ لها [52/ ب] هدي، وهي يهودية وهي نصرانية. فقالت: يهودية ونصرانية! خَلِّ بين الرجل وبين امرأته، يعني: وكفري عن يمينك. [فأتيت حفصة أم المؤمنين، فأرسلت إليها فأتتها، فقالت: يا أم المؤمنين؛ جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها محرر وكل مالٍ لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية. فقالت: يهودية ونصرانية؟! خلي بين الرجل وبين امرأته] (2) فأتيت عبد الله بن عمر فجاء ــ يعني إليها ــ فقام على الباب فَسَلَّمَ. فقالت: بِيَبِي أنت وَبِيَبِي أبوك (3). فقال: أمن حجارةٍ أنتِ أم من حديد (4)؟ أم من أي شيء أنت؟ أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين
_________
(1) زيادة من «التحقيق».
(2) إضافة يقتضيها السياق التالي، أثبتها من القواعد الكلية (ص 464 – 465).
(3) في «التحقيق»: (سي أنت وسي أبوك) بدون نقط، وفي الأصل نقط الباء الثانية. وهي لغة في «بأبي». انظر: الزاهر لابن الأنباري (1/ 233)، والبيان والتبين (1/ 182).
(4) في الأصل زيادة: (أنت). وليست في «التحقيق».

(1/188)


فلم تقبلي فتياهما. قالت: يا أبا عبد الرحمن؛ جعلني الله فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية. فقال: يهودية ونصرانية! كَفِّرِي عن يمينك، وَخَلِّ بين الرجل وبين امرأته.
قال: قلتُ: هذا الأثر عمدته في النقل عن هؤلاء الصحابة، والكلام عليه في أمرين:
أحدهما: في إثبات الحلف بالعتق فيه، وسيأتي الكلام في ذلك عند كلام الإمام أحمد عليه، وأجمع طرقه ــ إن شاء الله تعالى ــ.
والثاني: على تقدير صحته فنقول: إنَّ لفظ زينب وابن عمر (1) كما رأيت كل منهما صدَّر فتياه بقوله يهودية ونصرانية؟! فيحتمل أن يكون اقتصر في الجواب على هذه اليمين؛ لعظمها عند المستفتية، وتوهمها أن لا مُخَلِّصَ منها، وأنَّ مقتضاها الخروج من الدين الذي لا شيء عند المسلم أخوف منه، وسكت عن العتق والصدقة لسهولة أمرهما عليها (2)، وفي تصدير كل منهما فتياه بذلك إشعار بما قلناه، وإن لم يكن ظاهرًا فهو محتمل، وكأنه قال: كفري عن يمينك [هذه.
وفي الرواية عن زينب نظرٌ آخر، وهو: أنَّ الراوي قال عنها: خلِّ بين الرجل وبين امرأته؛ يعني: كفري عن يمينك] (3)؛ فزينب لم تقل: وكفري يمينك، فلعل ذلك فَهْمٌ من الراوي؛ فمن أين أن مراد زينب ذلك؟ ولعلهما أرادا أن التفريق بين الزوجين حرام، وهذه اليمين معصية، فَخَلِّ بين الرجل وبين امرأته، وَإِنْ أَوجَبَ
_________
(1) وكذلك أم المؤمنين حفصة؛ كما تقدم.
(2) في الأصل: (عليهما)، والمثبت من «التحقيق».
(3) زيادة من «التحقيق».

(1/189)


الحنثُ ما أَوجب؛ ومع هذين الاحتمالين لا يجوز نسبة هذا القول إليها.
والقائل: يعني: وكفري عن يمينك؛ لا أعلم مَنْ هو مِنَ الرواة، والظاهر أنه المصنف، فإني لم أقف على هذه اللفظة في شيء من طرق الحديث، بل بعضهم لا يتعرض للتكفير البتة، وكذلك رواه ابن حزم (1) بإسقاط التكفير من فتيا زينب وحفصة مستدلًا به على عدم وجوب شيء لا كفارة ولا غيرها، وبعضهم يَذْكُرُ عنها الأمر بالتكفير، وأما لفظ (2): (يعني) فما رأيته (3)، وسنجمع في آخر [53/ أ] الفصل طرق هذا الأثر ــ إن شاء الله تعالى ــ (4)).
والجواب:
أن هذا الذي ذكره من أن ابن عمر وزينب – رضي الله عنهما – إنما أفتيا في قوله هي يهودية ونصرانية دون العتق والصدقة = من أظهر القول الباطل؛ وهو خلاف ما أجمع الناس عليه في هذه القضية؛ فإنَّ جميع العلماء الذين ذكروا قصة ليلى بنت العجماء هذه اتفقوا على أنهم أفتوها في الحلف بالصدقة وغيرها مما ذكرته، لم يقل أَحَدٌ أنهم أفتوها في بعض ما ذكرته دون بعض، وَمَنْ عَرَفَ أَنَّ فيها ذكر العتق قال: إنهم أفتوها في الحلف بالعتق، لم يقل أحدٌ إنه كان في كلامها من الأيمان ما لم يجيبوها عنه؛ فهذا الذي قاله مخالفٌ لإجماع العلماء قاطبة بلا ريب.
فلا يُعْرَف أحد من المسلمين حمل هذه القضية على ما ذكره، مع العلم بأنَّ هذا الأثر ما زال يتداوله العلماء قديمًا وحديثًا، وهو مما اعتمد عليه
_________
(1) في المحلى (ص 991).
(2) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (لفظة).
(3) كذا في الأصل، وفي «التحقيق»: (رأيتها).
(4) «التحقيق» (35/ ب ــ 36/ أ).

(1/190)


الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي وأبو بكر بن المنذر ومحمد بن جرير والطحاوي وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم، وعامة أصحاب الشافعي وأحمد، متقدميهم ومتأخريهم، من زمن الإمامين إلى هذا الوقت؛ فكل من ذكر هذا الأثر منهم ــ كالشيخ أبي حامد الإسفراييني والقاضي أبي الطيب والماوردي، وكأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وغيرهم ــ يذكرون أن الصحابة أجابوا ليلى بنت العجماء فيما ذكرته من الأيمان سواءً وافقوا هذا الأثر أو خالفوه، لكن نقل الأقوال أمانة.
والذين لم يقولوا بهذا الأثر من أصحاب أبي حنيفة ومالك لم يَطعن أحدٌ منهم في صحته، ولا تأولوه على ما ذكره هذا المعترض من أن الجواب كان عن غير الصدقة والعتق، بل عارضوا ذلك بحديث عثمان بن حاضر الذي اعتمد عليه المعترض.
وذكر أبو جعفر الهِنْدُواني (1): (إن القول بلزوم النذر المحلوف به هو قول العبادلة) (2)،
ومستنده حديث عثمان بن حاضر، وطعن في ذلك
_________
(1) محمد بن عبد الله بن محمد، أبو جعفر الهندواني، نسبةً إلى محلةِ باب هندوان، فقيه حنفي، كان يقال له من كمال فقهه: (أبو حنيفة الصغير)، توفي سنة (362).
انظر: الجواهر المضية (3/ 192)، تاج التراجم في طبقات الحنفية (2/ 74)، سير أعلام النبلاء (16/ 131)، تاريخ الإسلام (8/ 207).
(2) نقل كلام أبي جعفر الهندواني: الماوردي في الحاوي (15/ 459)، والمجيب في قاعدة العقود (2/ 328 مهم)، وسيعيد هذا النقل مرة أخرى في (ص 260 – 261).

والمراد بالعبادلة هنا: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير ــ كما في قاعدة العقود (2/ 328)، وما سيأتي (ص 260 – 261) ــ، وهذا خلاف ما ذكره عبد القادر القرشي في الجواهر المضية في طبقات الحنفية (4/ 531): (كثيرًا ما يقول أصحابنا الحنفية في كتبهم: وهو قول العبادلة. والمراد بهم عندنا: ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر؛ هكذا ذكره صاحب المُغْرِب. وذكر صاحب الهداية في الحج في مسألة أشهر الحج (شوال وذو القَعدة وذو الحجة) كذا رُوي عن العبادلة الثلاثة وابن الزبير).

(1/191)


أصحاب الشافعي وأحمد كالشيخ أبي حامد [53/ ب] والقاضي أبي يعلى وأتباعهما قالوا: إنَّ هذا لا يُعرف.
وأما حديث ليلى بنت العجماء فلم يطعن فيه أحد من العلماء، ولا حَرَّفَ معناه ــ كما حرف معناه هذا ــ أحد من العلماء، فما ذكره هذا المعترض من التعليل له والتحريف لمعناه= قول ابتدعه لم يسبقه إليه أحد من علماء المسلمين، لا الموافقين لهذا الأثر ولا المخالفين له، ولكن من يريد أن يخالف الحق الذي جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – فلا بُدَّ له من تكذيب المنقول الصحيح أو تحريف الكلم عن مواضعه، كما يفعل سائر أهل البدع، فمن جعل السنة بدعة والبدعة سنة = كان أحق بأن يجعل قوله كذلك.
ثم مما يُبَيِّنُ غلط ما ذكره: أَنَّ هؤلاء الصحابة أمروها أَنْ تُخَلِّيَ بين الرجل وبين امرأته، وذموها على إصرارها على التفريق بينهما، فإنْ لم يجيبوها عن الحلف بجميع أيمانها لم يحصل المقصود، فإنها لو كان مماليكها يعتقون وكل مالها هدي لَبَيَّنُوا لها ذلك، ولو عَرَفَتْ ذلك؛ فالأظهر أنها لا تجيبهم إلى ذلك، فإنه يَعِزُّ عليها عتق مماليكها وجعل مالها هديًا.
وقولهم لها: (يهودية ونصرانية؟!) إنكارٌ عليها أَنْ تحلف بهذه اليمين، فإنَّ الحلف بالكفر يمين منكرة بخلاف الحلف بالعتق والنذر، ولهذا قال

(1/192)


– صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حلف بملة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال» (1) فهذا وعيدٌ شديدٌ.
والناس متنازعون في اليمين الغموس إذا حلف هل يَكْفُر أم لا يَكْفُر؟ وظاهر الحديث يقتضي كفره ولكن كنظائره، مثل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] قال ابن عباس وطاووس وأحمد وغيرهم: كفر دون كفر (2)، ومثله قوله: «كُفْرٌ بالله تبرؤٌ من نسب» (3)،
وقوله: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر؛ فقد باء به
_________
(1) تقدم تخريجه (ص 42).
(2) ما ورد عن ابن عباس: أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 342)، والبيهقي في السنن الكبير (16/ 147/ح 15951). وقال الحاكم: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقد روي عنه تفسير الآية بألفاظ مختلفة.
وما ورد عن طاووس: أخرجه الثوري في تفسيره (ص 101) ــ ومن طريقه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (2/ 522)، والخلال في السنة (4/ 160) ــ وغيرهم بلفظ: (ليس بكفرٍ ينقل عن الملة).
وما ورد عن الإمام أحمد: نقله إسماعيل الشالنجي ــ كما في فتح الباري لابن رجب (1/ 139) ــ حيث ذكر له قول ابن عباس المتقدم وسأَلَهُ: ما هذا الكفر؟ قال: هو كفرٌ لا ينقل عن الملة. مثل الإيمان بعضه دون بعض؛ فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمرٌ لا يُختلف فيه.
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (11/ 592)، وابن ماجه (2744) وغيرهما عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 379): وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه ابن الجعد في مسنده (ح 2785)، والدارمي (4/ 1890)، والبزار (1/ 139) وغيرهما من حديث أبي بكر الصديق – رضي الله عنه -.

قال البزار: وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا عن أبي بكر عنه. ورواه عن أبي بكر قيس بن أبي حازم بهذا الإسناد. ورواه أبو معمر عن أبي بكر، واختلفوا في رفع حديث أبي معمر: فرواه جماعة عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن أبي معمر، عن أبي بكر موقوفًا، وأسنده بعضهم، والذي أسنده فليس بالحجة في الحديث، والسري بن إسماعيل ليس بالقوي، وقد حَدَّثَ عنه الزهري، وجماعة كثيرة واحتملوا حديثه. قال ابن حجر في إتحاف المهرة (8/ 217): أبو معمر لم يسمع من أبي بكر. وقد قال البزار: إنَّ بعض أصحاب حماد رفعه عن الحجاج عن الأعمش، والحفاظ يوقفونه. وقال الدارقطني: والموقوف أشبه بالصواب.
وقال الإمام أحمد في أصول السنة ــ كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 175) ــ بعد أن ذكر جملةً من الأحاديث: ونحوه من الأحاديث مما قد صحَّ وحُفِظَ.
انظر: العلل للدارقطني (1/ 254، 262)، السلسلة الصحيحة (7/ 1111/ ح 3370)، تنبيه الهاجد (1/ 592/ ح 494).

(1/193)


أحدهما» (1)، وقوله: «لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كُفْرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم» (2)، وقوله: «أَيُّمَا عبدٍ أَبَقَ من مواليه فقد كفر» (3) وهذا ظاهره كفر، لكن يقولون: هو كفر دون كفر.
وفي الحديث المتفق على صحته: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (4)، فقد
_________
(1) أخرجه البخاري (6103) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(2) أخرجه البخاري (6830) من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -.
وقد أخرج البخاري (6768) ومسلم (62) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – بلفظ: «لا ترغبوا عن آبائكم؛ فمن رغب عن أبيه فهو كفر».
(3) أخرجه مسلم (68) من حديث جرير بن عبد الله – رضي الله عنه -.
(4) أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58) من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه -.

(1/194)


يكون [54/ أ] في الرجل شعبة من النفاق والكفر، وإن كان معه من الإيمان ما يخرج به من النار ولا يخلد فيها، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الإيمان ما يزن ذرة» (1).
ومذهب أهل السنة والحديث: أن الإيمان يَتبعَّض؛ فبعضه يمنع الخلود في النار، وبعض الكفر والنفاق يقتضي دخول النار كسائر الكبائر.
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «فهو كما قال» مع أن الحالف لم يقصد أن يكون كافرًا، لا يستلزم أن يكون من حلف يمينًا غموسًا بنذر أو طلاق أو عتاق، لأنَّ هذا من باب الوعيد (2) [54/ ب] كقوله – صلى الله عليه وسلم -: «من حلف يمينًا فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم؛ لقي الله وهو عليه غضبان» (3) ثم غضبه عليه إذا لقيه يزول بالتوبة وبالحسنات الماحية وبغير ذلك؛ فكذلك كونه «كما قال» هو ــ أيضًا ــ وعيد يزول بالتوبة وبالحسنات الماحية.
وأما كونه مُطلِّقًا ومعتقًا وناذرًا فهو مشروط بقصد المتكلم بأسباب ذلك، أو بقصد حكم ذلك لأجل النزاع في الهازل، والحالف بذلك لم يقصد واحدًا منهما فلا نثبت حكم ذلك في حقه ــ كما أَنَّ المكره على ذلك لا يثبت في حقه حكم ذلك ــ ولكن هو داخل تحت الوعيد.
فقوله: «لقي الله وهو عليه غضبان» فهذا الوعيد لكل من حلف يمينًا فاجرة من أيمان المسلمين ولو كانت بنذر أو طلاق أو عتاق، ولهذا من
_________
(1) أخرجه البخاري (44)، ومسلم (193) من حديث أنس – رضي الله عنه – بلفظ مقارب.
(2) باقي الورقة قام الناسخ بشطبها، لأنها إعادة لما ورد في الصفحة التي قبلها.
(3) أخرجه البخاري (2356)، ومسلم (138) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -.

(1/195)


حلف يمينًا غموسًا بالكفر لم يُجعل مرتدًّا كسائر المرتدين الذين تباح دماؤهم بالردة لأنهم بدلوا دينهم، فلزوم الطلاق والعتاق والنذر له عند كذبه في الغموس وحنثه في غيرهما بمنزلة جعله مرتدًّا عند كذبه وحنثه وهذا باطل؛ فكذلك الأول.
وأيضًا؛ فقول الصحابة لها: كَفِّرِي يمينك، ينصرف إلى اليمين التي ذَكَرَتْها لهم، وهي قولها: كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية إِنْ لم تفرق بينك وبين امرأتك، وهي يمين واحدة عَلَّقَتْ فيها الهديَ والعتقَ والكفرَ، ولهذا لما أخذ أحمد بهذا الأثر، جعل كفارة واحدة تجزئ في هذا كُلِّهِ، فقال فيمن قال: إنْ فعلتُ كذا فمالي هدي وعليَّ الحج وأنا يهودي ونصراني: تجزئه كفارة يمين واحدة (1)، واستدل بهذا ــ أيضًا ــ على أَنَّ الحلف بالكفر فيه الكفارة عند هؤلاء الصحابة، واتبعهم في ذلك إذ لم يخالفهم غيرهم، فإنه لو لم تكن يمينًا مُكَفَّرَة لأفتوها بالكفارة فيما يُكَفَّر، وقالوا في الباقي: لا كفارة فيه.
وأما قوله: (إنه ليس في قول زينب: خَلِّ بين الرجل وبين امرأته؛ أمرًا بالتكفير).
فيقال: إِنْ كانت زينب وحفصة لم يأمرا بالتكفير، بل جعلا هذه يمينَ لغوٍ، فهذا يصلح أَنْ يحتج به مَنْ رأَى ذلك يمينًا غير منعقدة، فلا يقع عتق ولا نذر ولا كفارة في ذلك، وهذا مذهب ابن جرير [55/ أ] وداود وأصحابه كابن حزم، واحتج هؤلاء بهذا.
_________
(1) مسائل الإمام أحمد لابنه صالح (2/ 484).

(1/196)


وَطَرَدَ داود وأصحابه أصلهم في الطلاق، فقالوا: هو يمين غير منعقدة، فلا يلزم به طلاق ولا كفارة؛ فعلى هذا التقدير يكون هؤلاء الصحابة قد جعلوا هذه أيمانًا غير منعقدة، وهو خلاف قول المعترض وأمثاله: إنها ليست أيمانًا أو إنها أيمانٌ تُلْزِمُ الحالف فيها ما التزمه. وإذا كانوا يقولون: إِنَّ الحالف بالعتق لا يلزمه العتق ولا كفارة فيه= ثبت النزاع في العتق؛ وحينئذٍ فنقيم الدليل على أَنَّ هذه أيمان ليست كالتعليقات التي يلزم فيها المعلَّق.

وأما كونها يمينًا مكفَّرة أو غير مكفَّرة فهو مقام آخر، والقول بالتكفير ثابت (1) عن السلف لا ريب فيه، يُقِرُّ بِهِ هؤلاء الذين قالوا إنها أيمان غير منعقدة كابن جرير وداود وابن حزم، وقد تقدم نقل ابن جرير وابن حزم للنزاع في ذلك عن الصحابة والتابعين، فلا يمكن أحدًا منهم دعوى الإجماع على عدم التكفير، وإنما النزاع في كونها من جنس أيمان المسلمين أو من جنس أيمان الكفار، فتبين أَنَّ ما ذكره المعترض يضره لا ينفعه.
قال أبو محمد ابن حزم (2): (وكذلك من أخرج نذره مخرج اليمين فقال: عليَّ المشي إلى مكة إِنْ كلمت فلانًا وإن زُرْتُ (3) فلانًا؛ فهذا (4) لا يلزم الوفاء بِهِ ولا كفارة فيه إلا الاستغفار فقط).
ثم قال (5): (وقولنا هو قول طائفة من السلف؛ كما روينا من طريق
_________
(1) كررها الناسخ.
(2) في المحلى (ص 988).
(3) في الأصل: (فرق)، والمثبت من المحلى، مع وجود سقط يسير هنا.
(4) كذا في الأصل، وفي المحلى: (فكل هذا).
(5) المحلى (ص 991).

(1/197)


عبد الرزاق، عن المعتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه، عن بكر بن عبد الله المزني قال: أخبرني أبو رافع قال: قالت لي مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية أو نصرانية إن لم تطلق امرأتك، فأتيت زينب بنت أم سلمة ــ أم المؤمنين ــ فجاءت معي إليها، فقالت: يا زينب ــ جعلني الله فداك ــ إنها قالت: كل مملوك لها حر وهي يهودية. فقالت لها زينب: يهودية ونصرانية! خَلِّ بين الرجل وامرأته، فكأنها (1) لم تقبل، فأتيت حفصة ــ أم المؤمنين ــ فأرسلت ــ يعني: إليها ــ، فقالت: يا أم المؤمنين ــ جعلني الله فداك ــ إنها قالت: كل مملوك لها حرٌ وكل مالٍ لها هدي وهي يهودية ونصرانية، فقالت أم المؤمنين: يهودية ونصرانية! خَلِّ بين الرجل وبين امرأته).
قال (2): (ومن طريق عائشة [55/ ب] ــ أم المؤمنين ــ فيمن قال لغريمه: إِنْ فارقتك فمالي عليك في المسلمين (3) صدقة، ففارقه؛ أَنَّ هذا لا شيء يلزمه فيه).
قال (4): (وَصَحَّ هذا عن الحَكَم بن عُتيبة، وحماد بن أبي سليمان من طريق شعبة عنهما.
وهو قول الشعبي، والحارث العكلي، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وأبي سليمان وأصحابنا).
_________
(1) في الأصل: (فإنها)، والمثبت من المحلى.
(2) المحلى (ص 991).
(3) في المحلى: (المساكين).
(4) المحلى (ص 991).

(1/198)


قال (1): (فإن قالوا: فقد أفتى ابن عمر في ذلك بكفارة يمين.
قلنا: نعم؛ وقد اختلف الصحابة – رضي الله عنهم -؛ فما الذي جعل قول بعضهم أولى من قول بعض بلا برهان؟!).
قال (2): (وصحَّ عن عائشة وأم سلمة ــ أمَّيِ المؤمنين ــ.
وعن ابن عمر أنه جعل في قول ليلى بنت العجماء: كل مملوكٍ لها حر وكل مالٍ لها هدي وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امرأتك كفارةَ يمين واحدة، وعن عائشة ــ أم المؤمنين ــ – رضي الله عنها – أنها قالت فيمن قال في يمينٍ: مالي ضرائب في سبيل الله، أو قال: مالي كله في رتاج الكعبة: كفارة يمين.
وعن أم سلمة وعائشة ــ أمي المؤمنين ــ فيمن قال: عليَّ المشيُ إلى بيت الله إن لم يكن كذا: كفارة يمين، من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث الحمراني، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع عنهما.
وَرُوِّينَا عن جابر بن عبد الله: النذر كفارته كفارة يمين.
وعن ابن عباس مثل هذا.
وعن [عمر بن الخطاب] (3) نحوه.
_________
(1) المحلى (ص 991).
(2) المحلى (ص 991).
(3) في الأصل: ابن عمر بن الخطاب، وهو خطأ، والتصويب من المحلى (ص 991) ومما تقدم (ص 143).

(1/199)


وعن عكرمة والحسن فيمن قال: مالي كله في رتاج الكعبة: كفارة يمين).
قال (1): (وصحَّ عن طاووس وعطاء؛ أما طاووس فقال: الحلف بالعتاق ومالي هدي وكل شيء لي في سبيل الله وهذا النحو: كفارة يمين، وأما عطاء فقال: فيمن قال عليَّ [ألف] (2) بدنة أو قال عليَّ ألف حجة أو قال مالي هدي أو قال مالي في المساكين: كل ذلك يمين).
قال (3): (وهو قول قتادة، وسليمان بن يسار، وسالم بن عبد الله بن عمر.
قال أبو محمد: كل هذا خلافٌ لقول أبي حنيفة ومالك والشافعي، لأنَّ الشافعي أخرج من ذلك العتق المعين) (4).
فهذا ابن حزم يعترف بصحة النقل عن الصحابة والتابعين فيمن قال: إن فعل فكل مملوك لي فهو حر بإفتائه بكفارة يمين، وأثبت ذلك عن ابن عمر ــ في حديث ليلى بنت العجماء ــ وعن عائشة وأم سلمة، ثم أعاده عن أم سلمة وعائشة من طريق أشعث [56/ أ] عن بكر، ولكنه ادعى أن زينب وحفصة أفتيا بسقوط الكفارة حيث لم يكن ذلك مذكورًا في رواية معتمر عن أبيه، كما لم يذكرها عارم عن معتمر، ولا ذكرها عبد الرزاق، فيما ذكره ابن حزم.
_________
(1) المحلى (ص 991).
(2) زيادة من المحلى.
(3) المحلى (ص 991).
(4) هنا انتهى النقل من المحلى.

(1/200)


وأما ابن عبد البر فذكر أَنَّ في رواية عبد الرزاق (1) عن معتمر: ذكر الكفارة عن الثلاثة، ولذلك لم يذكره يحيى بن سعيد من رواية التيمي، وضم إلى ذلك رواية عائشة.
فقال: ليس في الحديث أنهما أسقطتا الكفارة، وإنما في الحديث عدم ذكرها، وقد جاء ذكرها من طريق آخر، وأَنَّ الثلاثة أفتوها بكفارة يمين، بل وفي غير هذا الطريق أَنَّ غير هؤلاء الثلاثة من الصحابة كعائشة وأم سلمة [وابن عمر] (2) أفتوها بكفارة يمين (3).
قال البخاري في تاريخه ــ ونقله منه أبو بكر البيهقي ــ: (حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إياس بن أبي تميمة ــ أبو مخلد صاحب البصريين (4) ــ، حدثنا عبدالرحمن بن أبي رافع، عن أبيه أنه كان مملوكًا لابنة عم عمر بن الخطاب، فحلفت أَنَّ مالها في المساكين صدقة، فقال ابن عمر: كَفِّرِي يمينك) (5).
قال: (وحدثني محمود، عن النضر، أخبرنا أشعث، عن بكر بن عبد الله،
_________
(1) في الأصل: (ابن عبد الرزاق)، والصواب ما أثبتُّ.
(2) في الأصل طمس مقدار كلمة، ولعله ما أثبتُّ.
(3) لم أجد كلام ابن عبد البر بالنص، وإنما بمعناه في الاستذكار (15/ 107 وما بعدها). مع أني أخشى أن يكون نقل ابن تيمية إنما هو من (الأجوبة المستوعبة من المسائل المستغربة) لابن عبد البر؛ ففي الحديث العشرين وقع سقطٌ في المخطوط، والموجود منه هو آخر الكلام، وفيه ما يُشير إلى أنه يتعلق بمسألة اليمين على الأهل.
(4) عند البخاري والبيهقي: البصري.
(5) التاريخ الكبير (1/ 435)، السنن الكبير (20/ 173/ ح 20065).

(1/201)


عن أبي رافع، عن ابن عمر وعائشة وأم سلمة قالوا: تكفر يمينها) (1).
وقال: (حدثنا حجاج، عن حماد، عن علي بن زيد (2)، عن أبي رافع، عن زينب ــ امرأة من المهاجرات ــ وعبد الله بن عمر وحفصة بنت عمر نحوه (3).
وعن حماد، عن ثابت، عن أبي رافع [نحوه] (4).
وعن حماد، عن حميد، عن بكر بن عبد الله، عن أبي رافع نحوه) (5).
ولفظ البخاري ــ فيما عندنا من تاريخه الكبير (6) ــ: (قال موسى، حدثنا إياس بن أبي تميمة، حدثني عبد الرحمن بن أبي رافع، عن أبيه أنه كان مملوكًا لابنة عم عمر بن الخطاب [فحلفت أنَّ مالها في المساكين صدقة] (7)، فقال ابن عمر: كَفِّرِي يمينك.
وقال: حجاج: حدثنا حماد، عن علي بن زيد (8)، عن أبي رافع أَنَّ ليلى
_________
(1) التاريخ الكبير (1/ 435)، السنن الكبير (20/ 174/ ح 20066).
(2) في الأصل: (يزيد)، وكتب الناسخ في الهامش ما هو مثبت، وعليها حرف (ظ) أي هو الظاهر، وهو الصواب الموافق لما في التاريخ الكبير والسنن، ولما سيأتي قريبًا.
(3) التاريخ الكبير (1/ 435)، السنن الكبير (20/ 173/ ح 20067).
(4) زيادة من التاريخ الكبير والسنن.
(5) التاريخ الكبير (1/ 435)، السنن الكبير (20/ 174/ ح 20069).
(6) التاريخ الكبير (5/ 281).
(7) إضافة من الموضع الأول (1/ 435) كما تقدم، وليس في مطبوع التاريخ الكبير في هذا الموضع.
(8) في الأصل: (يزيد)، وكتب الناسخ في الهامش ما هو مثبت، وعليها حرف (ظ) أي هو الظاهر، وهو الصواب الموافق لما في التاريخ الكبير والسنن ولما سيأتي قريبًا.

(1/202)


حلفت فأتت (1) زينب من المهاجرات، وقالت حفصة بنت عمر وعبد الله بن عمر: كفري يمينك.
وعن ثابت، عن أبي رافع نحوه.
وقال محمود: حدثنا النضر، حدثنا أشعث، عن بكر بن عبد الله، عن أبي رافع حلفت مولاةُ أبي رافع فسألت عائشة وأم سلمة وابن عمر فأمروها أن تكفر.
وقال إسحاق: عن معتمر، عن أبيه، عن بكر، عن أبي رافع [قال: حلفت] (2) مولاتي ليلى بنت [العجماء] (3) فأتت زينب بنت أم سلمة ــ وكانت ذات فقه بالمدينة ــ، فقالت: كَفِّرِي، وقال ابن عمر: كَفِّرِي) (4).
فهذه ثلاث طرق عن حفصة وزينب أنهما قالتا: تكفِّر، وفيها طريق حماد، عن حميد، عن بكر، عن أبي رافع؛ وهي طريق صحيحة، وطريقان متابعة لبكر؛ أحدهما: طريق حماد، عن ثابت، عن أبي رافع وهي طريق صحيحة، وحديث حماد بن سلمة عن ثابت البناني من أصح الحديث، وثابت ثابت مثل بكر بن عبد الله، وقد وافقا عليَّ بن زيد عن أبي رافع؛ قالوا ثلاثتهم: عن أبي رافع أنهم قالوا مثلما في حديث أشعث: تُكَفِّر يمينها؛ كما في رواية ابن أبي رافع عن أبيه ذكر ابن عمر وحده أنه قال: كفري يمينك،
_________
(1) في الأصل: (فأتتها)، والمثبت من التاريخ الكبير.
(2) في الأصل: (قالت)، والمثبت من التاريخ الكبير.
(3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
(4) انتهى النقل من التاريخ الكبير (5/ 281).

(1/203)


وفي رواية أشعث: عن بكر عن أبي رافع أنَّ ابن عمر وعائشة وأم سلمة قالوا: كفري يمينك.
وهذه الطرق التي ذكرها البخاري لم يستوعبها غيره كما استوعبها، ومع هذا فلم يذكر حديث معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه، ولم يذكر غير الصدقة، لأنه اختصرها ومقصوده ذكر الرجال، ومع هذا فلم يذكر اختلافًا عنهم في ذكر الكفارة، بل جعل رواية المُشَبَّهِ كرواية المشبَّهِ به أنهم قالوا: كفِّري يمينك.
وقال أبو عمر بن عبد البر (1): (وروى ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن ثابت البناني وبكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع ــ وكان أبو رافع عبدًا لليلى بنت العجماء، ابنة عمةٍ لعمر بن الخطاب ــ: أَنَّ سيدته قالت: مالها هدي، وكل شيء لها في رتاج الكعبة، وهي مُحْرِمَةٌ بحجة، وهي يومًا يهودية ويومًا نصرانية ويومًا مجوسية إِنْ لم تطلق امرأتك، فانطلقتْ إلى حفصة زوج رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثم إلى زينب بنت أم (2) سلمة، ثم إلى عبد الله بن عمر؛ وكلهم يقول: كَفِّرِي عن يمينك، وخَلِّي (3) بين الرجل وامرأته.
قال أبو عمر: ليس في رواية ابن وهب لهذا الخبر: وكل مملوك لها حر، وهو من رواية سليمان التيمي وأشعث الحمراني عن بكر بن عبد الله
_________
(1) الاستذكار (15/ 110).
(2) كذا في الأصل، وفي المطبوع من الاستذكار: (أبي).
(3) في الأصل: (خَلِّ)، والتصويب من الاستذكار.

(1/204)


المزني في هذا الحديث.
قال: وفي رواية أشعث في هذا الحديث: ابن عباس وأبو هريرة [وابن عمر] (1) وحفصة وعائشة وأم سلمة، وإنما [57/ أ] هي زينب بنت أم سلمة) (2).
فهذه عن ثابت البناني وبكر جميعًا، وفيها أن الثلاثة يقولون (3) لها: (كَفِّرِي عن يمينك، وَخَلِّي بين الرجل وامرأته)، وكذلك أشعث وغيره ذكروا قول الثلاثة لها: (كَفِّرِي عن يمينك، وَخَلِّي (4) بين الرجل وامرأته) مع ذكرهم العتق.
ورواه الأوزاعي: حدثنا جسر بن الحسن، حدثني بكر بن عبد الله المزني، حدثني رُفيع (5) قال: كنتُ أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الأنصار، فَحَلَفَتْ بالهدي والعتاق أَنْ تُفَرِّقَ بيننا، فأتيت امرأة من أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكرت لها، فأرسلت إليها أَنْ كَفِّرِي يمينك، فَأَبَتْ، ثم أتيتُ زينب ابنةَ (6) أم سلمة فذكرت ذلك لها، فأرسَلَت إليها أَنْ كَفِّرِي يمينك فَأَبَتْ، فأتيت ابن عمر فذكر ذلك له فأرسل إليها أَنْ كَفِّرِي يمينك فَأَبَتْ، فقام ابن عمر فأتاها،
_________
(1) زيادة من الاستذكار.
(2) انتهى النقل من الاستذكار (15/ 110 – 111).
(3) في الأصل: (يقول)، ولعل الأقرب ما أثبتُّ.
(4) في الأصل: (خَلِّ)، والصواب ما أثبت.
(5) عند أبي العباس الأصم في جزئه: رافع أو رفيع.
(6) في إعلام الموقعين (4/ 437): (و) وفي بعض النسخ (أو) وليس فيه (ابنة)، والمثبت من الأصل ومن جزء حديث أبي العباس الأصم.

(1/205)


فقال: أرسلتْ [إليكِ] (1) فلانة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – وزينب أَنْ تكفري يمينك فأبيتِ؟! قالت: يا أبا عبد الرحمن حلفتُ بالهدي والعتاقة. قال: وإِنْ كُنْتِ حَلَفْتِ [بهما].
وقد رواه أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجُوزجاني (2) في كتاب (المترجَم) له (3) ــ الذي شرح فيه مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي (4) (5)
_________
(1) زيادة من إعلام الموقعين، ومثلها ما في آخر الأثر.
(2) أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، نسبة إلى جوزجان من كور بلخ بخراسان، له عن أحمد مسائل مشهورة في جزءين، وكان الإمام أحمد يكاتبه، توفي سنة (256) أو (259).
انظر: طبقات الحنابلة (1/ 257)، البداية والنهاية (14/ 544)، تاريخ دمشق (7/ 278).
(3) وقد ساق إسناده المجيب في (1/ 305)، وكذلك ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 437) فقالا: وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في (المترجم) له: حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي به.
وأخرجه أبو العباس الأصم في الثاني من حديثه (ح 18) قال: أخبرنا عقبة، عن الأوزاعي به.
(4) إسماعيل بن سعيد الكسائي الشالنجي، فقيه، صنَّف كتاب (البيان في الفقه) على مذهب أبي حنيفة، أثنى عليه الإمام أحمد فقال: (كان من الإسلام بمكان، كان من أهل العلم والفضل). توفي سنة (230)، وذكره ابن الجوزي في وفيات سنة ست وأربعين ومائتين.
انظر: الجرح والتعديل (2/ 587)، طبقات الحنابلة (1/ 273)، تاريخ الإسلام (5/ 533)، الجواهر المضية (1/ 406)، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (11/ 341).
(5) هذه المسائل لا أعلم عن وجودها شيئًا وأظنها مفقودة، إلا أنَّه كتاب عظيم يثني عليه ابن تيمية كثيرًا؛ فقد قال في الفتاوى الكبرى (5/ 111): (ومسائل إسماعيل بن سعيد هذا من أَجَلِّ مسائل أحمد … ).
وانظر: مجموع الفتاوى (21/ 511)، (30/ 403)، (34/ 114)، جامع المسائل (3/ 402)، بيان الدليل (ص 13)، شرح عمدة الفقه (1/ 363). وانظر ما سيأتي (ص 859 – 680).

(1/206)


عن أحمد بن حنبل ــ وسليمان بن داود الهاشمي (1)
وابن أبي شيبة. ففي هذه الطرق كلها أَنَّ الثلاثة أفتوها بكفارة (2).
ورواه الدارقطني (3) ــ ومن طريقه البيهقي (4) ــ: (5) عن أبي بكر النيسابوري، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا أشعث، حدثنا بكر بن عبد الله، عن أبي رافع أَنَّ مولاته أرادت أَنْ تُفَرِّقَ بينه وبين امرأته، فقالت: هي يومًا يهودية ويومًا (6) نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها في سبيل الله وعليها المشي إلى بيت الله إِنْ لم تُفَرِّق بينهما، فسألت عائشة وابن عمر وابن عباس وحفصة وأم سلمة
_________
(1) سيلمان بن داود الهاشمي العباسي، إمام حافظ من كبار الأئمة، توفي سنة تسع عشرة ومائتين.

انظر: طبقات ابن سعد (7/ 343)، التاريخ الكبير (4/ 10)، سير أعلام النبلاء (10/ 625).
(2) قاعدة العقود (1/ 294 – 297).
(3) في كتابه السنن (5/ 288).
(4) في السنن الكبير (20/ 174/ ح 20070).
وأخرجه البخاري ــ ومن طريقه البيهقي ــ كما تقدم قريبًا مختصرًا.
(5) في الأصل زيادة: (رواه الدارقطني) ولا حاجة لها.
(6) لم تظهر الكلمة كاملة، وبإثباتها يستقيم الكلام.

(1/207)


– رضي الله عنهم – فكلهم قال لها: أتريدين أَنْ تكوني مثل هاروت وماروت؟! وأمروها أَنْ تُكَفِّرَ يمينها وتخلي (1) بينهما.
وقال محمد بن نصر المروزي: حدثنا الأنصاري ــ يعني: محمد ــ، عن الأشعث، عن بكر بن عبد الله، عن أبي رافع أَنَّ مولاته حلفت بالمشي إلى بيت الله وكل مملوك لها حر وهي يومًا يهودية ويومًا [57/ ب] نصرانية وكل شيء لها في سبيل الله إن لم تفرق بينه وبين امرأته فكلهم يقولون: كَفِّرِي يمينك، وَخَلِّي (2) بينهما ففعلت (3).
وقد تقدم قول ابن عبد البر في رواية أم سلمة إنما هي زينب بنت أم سلمة (4)؛ ففي هذه الرواية أَنَّ حفصة ــ أيضًا ــ أفتتها بكفارة يمين وكذلك زينب على قول ابن عبد البر، وإن كانت (5) استفتت أم سلمة ــ أيضًا ــ، فهي ــ أيضًا ــ ممن أفتاها بكفارة يمين كحفصة وابن عمر وابنتها زينب.
ففي هذه الروايات المتعددة التي يُصَدِّقُ بعضها بعضًا ــ وأكثرها على شرط الصحيح ــ أن الثلاثة أفتوها بكفارة يمين، وهذا هو الذي نقله عامة العلماء عن هؤلاء؛ كما نَقَلَ ذلك: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وابن المنذر وابن عبد البر
_________
(1) في الأصل: (وتخلِّ)، والمثبت من السنن.
(2) في الأصل: (وَخَلِّ)، والصواب ما أثبت.
(3) اختلاف الفقهاء (ص 492)، وهو نفس الإسناد السابق الذي أخرجه الدارقطني والبيهقي.
(4) في (ص 205).
(5) في الأصل: (كان)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/208)


وأمثالهم من أهل العلم = نَقَلُوا عن هؤلاء أنهم أفتوها بكفارة يمين.
وابن حزم قد سَلَّمَ أَنَّ هذا صحيح عن ابن عمر وعن عائشة وأم سلمة؛ فابن جرير يصحح أَنَّ أم سلمة أم زينب هي ممن أفتى بكفارة يمين، وابن عبد البر يقول: بل زينب هي التي أفتت بذلك، فإن كانت كلاهما أفتت بذلك فحسن، وإِنْ كانت المفتية بذلك إحداهما (1)، فلا ريب أنها زينب، كما جاء ذلك في الروايات الثابتة، وفيها أنها أفتت بكفارة يمين.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ عدمَ ذكر ذلك في الرواية المذكورة عن سليمان لا يدل على شيء أصلًا، ولو لم ينقل أنهم أفتوها بكفارة يمين، فليس في قول القائل: (خَلِّي (2) بين الرجل وامرأته) ما يدل على أنه لا كفارة عليها، بل فيه أَمْرٌ لها بأنْ لا تُصِرَّ على اليمين بل تحنث فيها، ولم يَنْقُلْ أحدٌ أنهم أفتوها بلزوم ماحلفت به لا في العتق ولا في غيره، فالروايات المعروفة الصحيحة لم يعارضها شيء أصلًا، بل قد تبيَّن أنهم أفتوها بكفارة يمين؛ كما قاله جماهير العلماء الناقلين للإجماع والاختلاف.
وابن جرير قبل ابن حزم، وهو موافق له على ألا كفارة في ذلك، لكن هو معترف بأن هؤلاء الصحابة إنما أفتوها بكفارة يمين.
وقد تقدم قوله (3) لمن ادعى إجماعًا أَنَّ القائل: كل مملوك [له] (4) حُرٌّ
_________
(1) في الأصل: (أحدهما)، والوجه ما أثبتُّ.
(2) في الأصل، (خَلِّ)، وسبق التنبيه عليها مرارًا.
(3) أي: قول ابن جرير الطبري في كتابه (اللطيف).
(4) يحتمل وجود كلمة هنا غير ظاهرة في الأصل، تقديرها ما أثبتُّهُ.

(1/209)


إِنْ فعلت كذا يقع به العتق ولا كفارة عليه، وأنه قال: إِن ادعوا [58/ أ] في ذلك إجماعًا، قيل لهم: لا عِلْمَ لكم باختلاف أهل العلم، وقد رُوِيَ عن ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم وجماعة يَكْثُرُ عددهم من أئمة الصحابة والتابعين أنَّ في ذلك كفارة يمين (1).
وهذا النقل عن القاسم بن محمد يُعَارِضُ نَقْلَ ابن حزم عنه أنه لا شيء عليه (2)، وكذلك نَقَلَ عن ابن المسيب خلاف ما نقل عنها (3)، وما نقله ابن حزم من إثبات ذلك فهو منقول، وكذلك ما نقله ابن جرير؛ فلا يكاد القائل يغلط في الإثبات إلا قليلًا، وأكثر الغلط في النفي.
فقول (4) ابن حزم: (إنهما أسقطا الكفارة) غلطٌ بلا ريب، وما نقله عن عائشة – رضي الله عنها – من موافقة ذلك لم يذكر إسناده (5)، وقد ثبت عن عائشة من الوجوه الثابتة باتفاق أهل العلم أنها كانت تقول في مثل ذلك بكفارة يمين، وهذا معروف عنها من غير وجه (6)،
فلا يعارض بنقل لم يثبت أو لفظ لم
_________
(1) تقدمت الإشارة إلى ذلك في (ص 141).
(2) المحلى (ص 991).
(3) كذا في الأصل.
وانظر: المحلَّى (ص 991)، السنن الكبير للبيهقي (20/ 172/ ح 20064).
(4) في الأصل: (يقول)، والصواب ما أثبتُّ.
(5) حيث قال في المحلى (ص 991) بعد أنْ ساق حديث أبي رافع مع مولاته: (ومن طريق عائشة ــ أم المؤمنين ــ فيمن قال لغريمه: إنْ فارقتك فمالي عليك في المساكين صدقة ففارقه: إنَّ هذا لا شيء يلزمه فيه).
(6) رواه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 483/ ح 15987) عن ابن جريج، عن عطاء، عن صفية، عن عائشة.

ورواه البيهقي في السنن الكبير (20/ 171/ ح 20061) من طريق سلمة بن كهيل، عن عطاء، عن عائشة دون ذكر صفية.
ورواه الدراقطني في سننه (5/ 281/ ح 4320) من طريق غالب بن عبيد الله، عن عطاء، عن عائشة مرفوعًا بزيادات فيه. قال الدارقطني: غالب ضعيف الحديث.
وسيأتي ــ قريبًا ــ تفصيل الروايات عن عائشة في كلام المجيب.

(1/210)


يفهم معناه.
وأما قول القائل: (بمعنى لا يدري مَنْ هوَ) (1)، والمجيب ذكر ذلك في نقل مذاهب الصحابة، لأنه قد علم أن مرادهما ذلك بالروايات الثابتة عنهما كما قد بين في غير هذا الموضع (2)، وكما نقله سائر أهل العلم عنهما من أنَّ قولهما هو الإفتاء بكفارة يمين في هذا الجواب؛ كما نقله أحمد بن حنبل وأبو ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وابن المنذر وابن عبد البر وعامة العلماء من نقل قولهما، لم أعلم أحدًا ادعى عليهما نفي التكفير إلا ابن حزم، وقد عُلِمَ أَنَّ هذا نفي منه لما ليس معه دليل على نفيه البتة، لو لم يكن معنا إثباتٌ يناقض هذا النفي؛ فكيف وقد ثبت عنهما في القصة أنهما أفتيا بكفارة يمين؟! والروايات لَمَّا سُكِتَ في بعضها عن التكفير، وفي أكثرها ذكر التكفير عنهما= بَيَّنَ المجيب ذلك لئلا يَظُنَّ ظَانٌّ أنهما أفتيا بسقوط الكفارة كما ظنه ابن حزم.
_________
(1) هذا من كلام المعترض حيث قال (ص 189 – 190): (والقائل: يعني: (وكفري عن يمينك) لا أعلم مَنْ هو من الرواة، والظاهر أنه المصنف؛ فإني لم أقف على هذه اللفظة في شيءٍ من طرق الحديث).
(2) مجموع الفتاوى (35/ 342).

(1/211)


ومحمد بن جرير يختار أنه لا كفارة في الحلف بالنذر، وهو مع هذا معترف بأن حديث ليلى بنت العجماء إنما أفتى فيه الصحابة كلهم بالكفارة، لم يفت أحد منهم بسقوط الكفارة، وإنما أثبت النزاع [58/ ب] في ذلك بآثار ذكرها نقلها عن التابعين، وبأثرٍ نقله عن عائشة مع ذكر الاختلاف عنها.
قال (1) محمد بن جرير في كتابه (اللطيف) (2): (ويسأل القائلون: إِنَّ العتق واقعٌ بمملوكِ القائلِ: مملوكُهُ حُرٌّ إن كلم اليوم فلانًا إذا حنث في يمينه؛ أَتُسْقِطُونَ (3) عنه الكفارة؟).
إلى أَنْ قال: (فإن ادعوا أَنَّ ذلك إجماع.
قيل لهم: لا علم لكم باختلاف أهل العلم، وقد روي عن ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم وجماعة يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين أَنَّ في ذلك كفارة يمين).
إلى أَنْ قال: (إِنْ قيل: إِنَّ مِنْ أصلك أَنَّ ما كانت الحجة مُجْمِعَةٌ عليه: دينٌ لا يجوز خلافه، ولا يسع أحدًا الاعتراض فيه، وقد تركت أصلك في ذلك بإسقاط الكفارة عن الحالف بصدقة ماله والحج والاعتكاف وما أشبه ذلك من أعمال البر إذا حنث في حلفه بذلك، وتركت (4) إلزامه بالوفاء بما حلف (5) به، إذ كان الذي عليه عُظْمُ متفقهة العراق والحجاز أن على الحالف به الوفاء،
_________
(1) في الأصل: (قاله)، والصواب ما أثبتُّ.
(2) انظر ما تقدم (ص 141).
(3) في الأصل: (المسقطون)، والمثبت من قاعدة العقود (2/ 332).
(4) في الأصل: (وتركك)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(5) في الأصل: (حلفت)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/212)


وإن كان [في] (1) ذلك اختلاف بَيْنَ (2) متقدمي الأمة من الصحابة والتابعين، وتنازع بين متأخري أهل الحجاز بإيجاب بعضهم في ذلك إذا حنث صاحبه: كفارة يمين، وإيجاب بعضهم: الوفاء به.
قيل: لو وُفِّقْتَ لفهم ما نقوله في صحة الحجة القاطعة للعذر فيما نُقِلَ من الشرائع عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لعلمتَ أَنَّا من مذهبنا على سَنَنٍ واحدٍ؛ وذلك: أَنَّ الذي نقضي عليه من الأحكام فيما نقل عنه – صلى الله عليه وسلم – مما لم يأت عنه بروايته الآحاد العدول أنه حجة قاطعة عُذْرَ مَنْ بلغته= ما كان مستفيضًا علمه في علماء أمصار الإسلام منتشر فيهم خلافه قديمًا وحديثًا؛ فأما ما كان الاختلاف فيه بين الصحابة والتابعين موجودًا مستفيضًا قديمًا من غير استنكار الأمة ذلك فيه بينهم، فلا شك أن الحكم فيه كان بينهم عن اجتهاد واستخراج لا عن توقيف، وإذا كان كذلك= كان لأهل العلم: الاجتهادُ وتَخَيُّرُ الأشبه من أقوالهم بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -).
قال: (فَإِنْ قِيلَ: فاذكر بعض من قال هذا القول [59/ أ] من الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الدين ليجعله حجةً مَنْ كان باختلاف السلف وعلماء الخلف جاهلًا؟!
قيل: حدثنا عبد الحميد القَنَاد (3)، حدثنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن صفية (4) بنت شيبة، عن عائشة في الرجل يقول:
_________
(1) إضافة من يقتضيها السياق.
(2) وضع الناسخ فوق الياء علامة على كونها مشدَّدة، ولا أدري ما وجهه؟!
(3) انظر: معجم شيوخ الطبري (ص 302 وما بعدها).
(4) في الأصل: (حبيبة)، والصواب ما أثبتُّ، كما في مصادر التخريج.

(1/213)


كل مالي في رتاج الكعبة. قالت: إِنَّ هذا البيت لغني عن ماله؛ فلم تره شيئًا (1).
وحدثنا أبو كريب، حدثنا هشيم، حدثنا مطرف، عن الشعبي والحكم والحارث أنهم قالوا عن رجل قال: كل مالي صدقة في المساكين فحنث. قالوا: ليس بشيء (2).
وحدثنا أبو كريب، حدثنا أبو القاسم بن أبي الزناد، أخبرنا موسى بن هلال، سألت ابن المسيب عمن قال: عليَّ المشيُ إلى بيت الله. فقال: لا شيء عليه حتى ينذر (3).
_________
(1) أخرجه ابن الجعد (ح 2404) من طريق شريك به، وزاد: إنَّ هذا البيت يُنْفَقُ عليه من مال الله.
ثم أخرجه برقم (2315) من طريق شريك، عن جابر، عن عطاء، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة نحوه. وقالت: (يكفر عن يمينه).
(2) رواه ابن وضَّاح ــ كما في الاستذكار (15/ 111) ــ قال: حدثنا زهير بن عباد، قال: حدثنا هشيم به.
كما رواه ابن أبي شيبة ــ كما في الاستذكار (15/ 106) ــ قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن الشعبي والحارث العُكلي والحكم عن رجل جَعَلَ مالَهُ في المساكين صدقة في يمينٍ حَلَفَ بها. قالوا: (ليس بشيء).
وقد أشار إلى هذا الأثر البغوي في شرح السنة (10/ 37).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (12559) قال: حدثنا حماد بن خالد الخياط، عن محمد بن هلال به.
وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 452) عن عبد الرحمن بن حرملة بنحوه.

وجاء عن ابن المسيب خلاف هذا؛ كما في الموطأ وغيره. انظر: الاستذكار (15/ 24 وما بعدها)، وشرح السنة للبغوي (10/ 23).

(1/214)


وحدثنا ابن المثنى، أنبأنا ابن جعفر، ثنا شعبة سألت الحكم وحمادًا: عن رجل لزم غريمًا له، فقال: إِنْ فارقتُكَ فما عليك صدقة في المساكين، ففارقه. فقالا: ليس عليه شيء) (1).
قال: (وتركنا ذِكْرَ كثيرٍ من القائلين بذلك كراهة إطالة الكتاب).
قال: (فإِنْ قيل: فَإِنَّ عائشةَ قد روي عنها خلاف ذلك، وذلك فيما حدثكم به محمد بن عبد الأعلى، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: سُئلت عائشة عمن قال مالي هدي إلى الكعبة. فقالت: ليس عليه إلا كفارة يمين (2).
قيل: غير مستنكر أَنْ تكونَ قد كانت تقول بأحد هذين القولين، ثم تبين لها خطؤه وصواب الآخر، فتركته وقالت بالآخر، فَرَوَى عنها كُلَّ قولٍ في ذلك مَنْ سمعها؛ يعني: وليس في اختلاف الرواية عنها في ذلك دلالة على أَنَّ إحدى الروايتين عنها صحيحة والأخرى باطلة). هذا كلامه.
فأما هذا الذي ذكره عن عائشة؛ فمذهبها كفارة يمين في نفس المسألة التي روتها عنها صفية (3) بنت شيبة، وقد بَيَّنَ ذلك الأئمة الأثبات في هذه
_________
(1) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (20/ 89) من طريق محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر به.
قال ابن حزم في المحلى (ص 991) وصحَّ هذا ــ أيضًا ــ عن الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان.
(2) أخرجه الأثرم ــ كما نقله المجيب (ص 447) ــ من طريق حسن بن صالح، عن ابن أبي نجيح به نحوه.
(3) كذا في الأصل وفوقها (صح)، وفي الهامش: (حبيبة) ووضع بجانبها (ظ)، والذي في كتب الحديث المسندة: صفية.

(1/215)


المسألة، وذكروا أنها أفتت في ذلك بكفارة يمين في نفس هذه المسألة التي روتها صفية (1) بنت شيبة.
رواه مالك، ورواه سفيان الثوري في جامعه ــ وقد رواه البيهقي في سننه من جامع سفيان ــ عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية بنت شيبة، عن عائشة – رضي الله عنها – أنَّ رجلًا أو امرأةً سألتها عن شيءٍ كان بينها وبين ذي قرابةٍ لها، فحلفت [إنْ] (2) [59/ ب] كلمته فمالها في رتاج الكعبة. فقالت عائشة: يكفره ما يكفر اليمين (3).
ورواه ــ أيضًا ــ عن منصور: يحيى بن سعيد الأنصاري، وعنه يزيد بن هارون، وقد رواه البيهقي ــ أيضًا ــ من هذه الطريق الصحيحة ــ أيضًا ــ عن يحيى، عن منصور بن عبد الرحمن ــ رَجُلٌ من بني عبد الدار ــ، عن أُمِّهِ صفية أنها سمعت عائشة – رضي الله عنها – وإنسانٌ يسألها عن الذي يقول: كل مال له في سبيل الله أو كل ماله في رتاج الكعبة ما يُكَفِّرُ ذلك؟ قالت عائشة: يكفره
_________
(1) في الأصل: (حبيبة)، والمثبت من كتب الحديث.
(2) إضافة يقتضيها السياق.
(3) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 617) ــ ومن طريقه البغوي في شرح السنة 10/ 35 ــ عن أيوب بن موسى، عن منصور.
ومن طريق الثوري: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 483/ ح 15988)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 172/ ح 20063).
قال ابن حجر في التلخيص (4/ 171) عن رواية مالك: بسند صحيح، وصححه ابن السكن.

(1/216)


ما يكفر اليمين (1).
وأما لفظ [ما] (2) رواه إبراهيم بن مهاجر، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة في الرجل يقول: كل مالي في رتاج الكعبة. قالت: إِنَّ هذا البيت لغنيٌ عن ماله فلم تره شيئًا (3)؛ فمراده لم تَرَهُ عقدًا لازمًا، فلا يلزمه بِهِ ما التزمه من النذر.
ومثل هذا موجود في كلام الصحابة والتابعين يقولون: ليس بشيءٍ، ولم يَرَهُ شيئًا؛ يريدون نفي لزوم ذلك العقد، فإنَّ العاقد (4) السائل اعتقده عقدًا لازمًا يلزمه به ما جعله على نفسه فيريدون أَنْ يَنْفُوا هذا، فيقولون: (ليس بشيء) و (لم يره شيئًا) وهم مع ذلك موجبون للكفارة، لأنَّ الكفارة تجب بإيجاب الشارع لا بعقده.
ومثل هذا: ما رواه الإمام أحمد بإسناده ــ وهو مما نقله عنه ابنه عبد الله، وذكره أبو بكر عبد العزيز (5) في الشافي (6) ــ، قال أحمد: حدثنا محمد بن
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (12479)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 171/ ح 20062). وانظر (ص 447).
(2) إضافة يقتضيها السياق.
(3) أخرجه ابن الجعد في مسنده (ح 2404)، وسحنون في المدونة (1/ 576).
(4) في الأصل: (العاقل)، وفي الهامش: (العاقد) وعليها حرف (ظ).
(5) عبد العزيز بن جعفر بن أحمد، المعروف بغلام الخلال، فقيه حنبلي، ولد سنة (285)، وتوفي (363). انظر: طبقات الحنابلة (3/ 213)، تاريخ بغداد (12/ 229)، سير أعلام النبلاء (16/ 143).
(6) كتاب (الشافي) كتابٌ فقهي، كبيرٌ جدًا، نحو من ثمانين جزءًا، قال عنه الذهبي في السير (16/ 144): (ومن نظر في كتابه (الشافي) عرف محله من العلم، لولا ما بشَّعه بغضِّ بعض الأئمة، مع أنه ثقةٌ فيما ينقله).

(1/217)


جعفر، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاووس قال: سُئِلَ عن الخلع. فقال: ليس بشيء. فقال له قائل: إنك لا تزال تأتينا بشيء لا ندري ما هو؟! قال: والله لقد جَمَعَ ابن عباس بين رجل من أهل اليمن وامرأته كان قد طلقها طلقتين ثم خلعها (1).
يقول طاووس في الخلع: ليس بشيء أرادَ ليس بطلاق، فإنهم كانوا يظنونه طلاقًا محسوبًا من الثلاث تحرم به المرأة بعد طلقتين. فقال: ليس بشيءٍ نفيًا لهذا، لا نفيًا لكونه فُرْقَة شرعية؛ فإنَّ (2) مذهبه ومذهب ابن عباس وعامة المسلمين أنه فرقة بائنة، ولم يَقل أَحَدٌ من المسلمين أَنَّ وجود الخلع كعدمه، ولا يقول هذا مسلم فإن كون الخلع مشروعًا أَمْرٌ ظاهر في الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وطاووس وغيره له في ذلك من الأجوبة ما يكثر ذكره؛ كما قال الأثرم في سُننه [60/ أ]: حدثنا ابن أبي شيبة، [عن ابن عيينة] عن عمرو، عن طاووس، عن ابن عباس يعني في الخلع قال: إنما هو فُرْقَةٌ وفسخ ليس بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع بين ذلك فليس بطلاق (3). قال الله تعالى:
_________
(1) مسائل الإمام أحمد لابنه عبد الله (ص 339 – 340). وسيأتي في (ص 637 – 638).
وأخرجه الجصاص في أحكام القرآن (2/ 95) من طريق أبي الوليد قال: حدثنا شعبة به. ثم قال: (ويقال هذا مما أخطأ فيه طاووس، وكان كثير الخطأ مع جلالته وفضله وصلاحه، يروي أشياء منكرة).
(2) في الأصل: (فإنه).
(3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11771)، وابن أبي شيبة (18766) و (19566)، والبيهقي في السنن الكبير (15/ 191/ ح 14977) عن ابن عيينة به. وما بين المعقوفتين من مصادر التخريج.
وأخرجه الدارقطني في سننه (4/ 497) من طريق حبيب بن ثابت، عن طاووس به بلفظ: «الخلع فرقة وليس بطلاق». وانظر ما سيأتي (ص 638).

(1/218)


{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
قال أبو بكر عبد العزيز: قد رسمنا عن أبي عبد الله في الخلع قولين؛ أحد القولين: أنه طلاق وما أَقَلَّ من رواه عنه. والقول الآخر: أنه فسخ للعقد وما أكثر من رواه عنه، والعمل على أنه فسخ للعقد على ما قاله ابن عباس (1).
وذكر أحمد عن ابن عيينة قال: قال ابن عباس: ما كان من قِبَلِ النساء فهو خلع، وما كان من قِبَلِ الرجال فهو طلاق، يعني: الفرقة (2). أرسله كذا. قال أبو بكر عبد العزيز: لا خلاف عن أبي عبد الله أَنَّ الخلع ما كان من قبل النساء، فإذا كان من قبل الرجال فلا تنازع أنه طلاق، ولا يكون ذلك فسخٌ للعقد إنما هو طلاق (3).
والمقصود هنا: أَنَّ طاووسًا قال في الخلع: ليس بشيء؛ أي: ليس
_________
(1) مسائل إسحاق (9/ 4605 وما بعدها)، مسائل ابن هانئ (1/ 232)، مسائل أبي داود (برقم 1188)، مسائل صالح (3/ 178). وأشار للروايتين: أبو يعلى في كتابه الروايتين والوجهين (2/ 136).
وانظر للخلاف في الخلع: الفتاوى الكبرى (3/ 270).
(2) لم أجده.
(3) مسائل حرب (2/ 668). وقد ذكر ابن قدامة في المغني (10/ 288) عن أبي بكر قولَهُ: (لا خلاف عن أبي عبد الله، أنَّ الخلع ما كان من قبل النساء؛ فإذا كان من قبل الرجال فلا نزاع في أنه طلاق تملك به الرجعة ولا يكون فسخًا).

(1/219)


بطلاق مع أنه يُثبت حكمًا آخر، وهو الفرقة البائنة؛ وهكذا ذكر عبد الرزاق في مصنفه (1) عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن طاووس، عن أبيه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئًا. قلت: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري.
وقد روى هذا ــ أيضًا ــ سفيان بن عيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه، وهو من حديث ابن عيينة الذي يُروى من طريق المكيين، فقد جزم ابنه عنه أنه قال: ليس الحلف بالطلاق بشيءٍ، وتوقف هل كان يراه يمينًا أم كان لغوًا عنده؛ فدلَّ على أنَّ هذا اللفظ عندهم لا يُفهم منه عند الإطلاق أنه لغو إذ لو كان هذا مفهوم اللفظ لم يتوقف ابنه، فلو لم ينقل عن من يتكلم بهذا اللفظ منهم ــ كعائشة وغيرها ــ ما يبيِّن مرادها لتوقفنا؛ هل أرادت به أنه لغو أم أرادت نفي ما يظنه السائل؟
وهذا كما في الصحيح عن عائشة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سئل عن الكُهَّان، فقال: «ليسوا بشيءٍ». فقيل له: [إنهم يحدثونا أحيانًا بالشيء يكون حقًا. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فَيَقُرُّهَا في أُذن وليِّهِ قَرَّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة»] (2) (3)، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يُرِد بذلك أنَّ وجودهم كعدمهم، وإنما أراد نفي المقصود الذي يعتقده السائل لهم، وهو أنهم يَصْدُقُونَ في الإخبار [60/ ب] بالمغيبات، فإنَّ هذا مقصود السائل، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ليسوا بشيء»؛ أي: هذا المعتقَد فيهم باطل (4).
_________
(1) (6/ 406/ ح 11401).
(2) ما بين المعقوفتين في الأصل: (إنَّ) ثم بياض مقدار نصف سطر.
(3) أخرجه البخاري (6213)، ومسلم (2228).
(4) وقد بوَّب البخاري على هذا الحديث في صحيحه بقوله: (باب قول الرجل للشيء: ليس بشيء؛ وهو ينوي أنه ليس بحق). كما بوَّب عليه في الأدب المفرد (ص 127): (باب الرجل يقول: ليس بشيء، وهو يريد أنه ليس بحق).

(1/220)


وطاووس نفسه كان يرى الحلف بالطلاق يمينًا منعقدة، لم يكن يراها لغوًا، فالحلف بالطلاق عنده يمين منعقدة، ومع هذا قال: ليس الحلف بالطلاق بشيء؛ أي: لا يقع بها طلاق وإن وجبت فيها الكفارة، وهكذا عائشة – رضي الله عنها – الحلف بالنذر عندها يمين منعقدة، وقالت: ليس بشيء؛ أي: لا يلزمه ما التزمه من النذر، وإن كانت فيها الكفارة.
فروى سعيد بن منصور في سننه (1): حدثنا حماد بن زيد، عن ليث، عن طاووس في الرجل يقول: إنْ لم أفعل كذا فامرأته طالق إن شاء الله. قال: له ثنياه في الطلاق والعتاق.
وقال ــ أيضًا ــ (2): حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا ليث، عن عطاء وطاووس ومجاهد والنخعي والزهري أنهم قالوا في قول الرجل لامرأته: أَنتِ طالق إنْ لم تفعلي (3) كذا وكذا إن شاء الله؛ فلم تفعل= فله ثنياه.
وقال (4): حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه أنه كان يرى الاستثناء في الطلاق جائزًا.
فلو لم يكن هذا التعليق عنده يمينًا منعقدة، بل كان لغوًا لا يجب به شيء لا طلاق ولا كفارة= لم يحتج إلى استثناء.
_________
(1) (2/ 35/ ح 1812).
(2) (2/ 35/ ح 1813).
(3) في الأصل: (تفعل)، والمثبت من السنن.
(4) (2/ 35/ ح 1814).

(1/221)


وقول القائل: إِنْ لم أفعل كذا وكذا ونحوه هو مما يقصد به اليمين ليس هو في التعليق الذي جرت العادة بأن يقصد به إيقاع الطلاق عند الصفة، وهذا معروف من مذهب طاووس في التعليق الذي يقصد به اليمين أنه يمين مكفرة، وفي الحلف بالطلاق أنه يمين منعقدة أيضًا ليس لغوًا.
وقد نقل الطحاوي (1) عن طاووس وطائفة من التابعين أنهم كانوا يقولون فيمن حلف بالله أو بالطلاق أنه لا يفعل شيئًا وفعله ناسيًا ليمينه: إنه يحنث. فقولهم يُبَيِّنُ أنها يمين منعقدة عندهم، وعلم بذلك أن مذهبه أن الحالف بالطلاق إذا فعل المحلوف عليه ناسيًا= يحنث، فكيف إذا فعله عامدًا؟ وأَنَّ قوله: ليس بشيء؛ أي: ليس بطلاق.
ونظيره قول ابن عباس – رضي الله عنهما – في الحرام: ليس بشيء (2)، وهذا اللفظ في الصحيح [يُبَيِّنُ] (3) أنه يمين مكفرة عنده، ومراده: ليس بتحريم، كما ثبت عنه في الصحيح (4) أنه كان [61/ أ] يقول في الحرام: يمينٌ يكفرها، وقال ابن عباس – رضي الله عنهما -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
وفي لفظٍ آخر (5): إذا حَرَّمَ الرجلُ عليه امرأته فهي يمين يكفرها، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
_________
(1) انظر: مختصر اختلاف العلماء (3/ 260).
(2) أخرجه البخاري (5266).
(3) سواد في الأصل، وقدرته بما أثبتُّ، والله أعلم.
(4) أخرجه البخاري (4911)، ومسلم (1473).
(5) عند مسلم (1473).

(1/222)


فقد قال ابن عباس: إنَّ الحرام ليس بشيء، مع أنه لم يُختلف عنه أن فيه كفارة؛ إِمَّا الكفارة الكبرى وإِمَّا الصغرى (1)، وكذلك لم يختلف في ذلك عن الصحابة، ولم يقل أحد من الصحابة إنَّ الحرام لغو، وإنما نقل ذلك عن بعض التابعين كمسروق (2)، كما أَنَّ الصحابة لم يُنقل عنهم أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين لغو، ومَنْ طَرَدَ ذلك عن بعضهم ــ كما ظنه من قال بهذا ــ فقد غلط عليهم.
والمقصود بهذا: أَنَّ مثل هذه العبارة معروفٌ في كلام الصحابة والتابعين أنهم يعنون بها نفي الحكم الذي سئلوا عنه ــ الذي ظنه السائل لازمًا ــ وإن كانوا يجعلون في ذلك كفارة، فقول عائشة مثل قول ابن عباس وطاووس وغيرهما، وكل من نقل مذهب طاووس نَقَلَ عنه أنه كان يقول في الحلف بصيغة التعليق: إنها يمين يكفرها حتى (3) نقلوا ذلك عنه في العتق صريحًا، ثم لم يَنقل أَحَدٌ عنه في الطلاق أنه يَلزم إذا علَّقَهُ على وجه اليمين أن الحلف به لغو لا يلزم.
_________
(1) الكفارة الكبرى هي كفارة الظهار، والكفارة الصغرى هي كفارة اليمين.
(2) أخرجه عبد الرزاق (6/ 402/ ح 11375).
وقال بهذا القول أيضًا: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء، والشعبي، وداود، وجميع أهل الظاهر، وأكثر أصحاب الحديث، وهو أحد قولي المالكية، اختاره أصبغ.
انظر: مجموع الفتاوى (35/ 242 وما بعدها)، الفتاوى الكبرى (4/ 110 وما بعدها)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 535)، القواعد الكلية (ص 445 – 448)، إعلام الموقعين (4/ 450 مهم)، زاد المعاد (5/ 302).
(3) هكذا قرأتها.

(1/223)


قال ابن حزم (1): (صَحَّ عن طاووس أنه قال: الحلف بالعتاق، ومالي هدي، وكل شيء لي في سبيل الله وهذا النحو؛ كفارة يمين).
وقال ابن عبد البر (2): (وروى معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه فيمن جعل ماله في رتاج الكعبة أو في سبيل الله؛ يعني: إِنْ فَعَلَ كذا. قال: هي يمين يكفرها).
وقد نقل محمد بن نصر عن طاووس والحسن إذا قال: إذا فعلت فكل مملوك لي حر أنها يمين (3).
وأما قول طاووس في الطلاق الذي نَقَلَهُ عنه ابنه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس بشيء، فهذا لم يبلغ أبا ثور ومحمد بن نصر وابن عبد البر ونحو هؤلاء الذين لم يذكروا في الطلاق نزاعًا، ولهذا لم يذكر هذا الأثر الذي نقله عنه ابنه أحد منهم، مع أنهم لو كانوا مستحضرين له لكان مما تتوفر داعيتهم على نقله لصحة إسناده وجلالته (4) وجلالة قائله، ولو قُدِّرَ أنه شاذٌ عندهم فهم ينقلون ما هو أشذ منه.
[61/ ب] وكذلك ما نقله عن سعيد بن المسيب فيمن قال: إِنْ فعلت كذا فعليَّ المشيُ إلى مكة: أنه لا شيء عليه حتى ينذر (5). إنما أراد به سعيدٌ
_________
(1) المحلَّى (ص 991).
(2) الاستذكار (15/ 109).
(3) اختلاف الفقهاء (ص 492).
(4) كذا قرأتها.
(5) تقدم تخريجه في (ص 214).

(1/224)


ــ والله أعلم ــ أنه ليس عليه نذر حتى ينذر، لم يرد به أنه ليس عليه كفارة ولا نذر حتى ينذر؛ فإن هذا لا يقوله أحد، بل الكفارة تجب عليه بدون النذر، وقد نقلوا عن سعيد بن المسيب أَنَّ مثل هذا التعليق يوجب الكفارة، كما في الحديث الذي في سنن أبي داود: عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن عمر أنه قال: إِنَّ الكعبة لغنيةٌ عن مالك، كَفِّرْ يمينك وكَلِّم أخاك (1).
وسعيدٌ نَقَلَهُ نَقْلَ موافقٍ له لا مخالف له.
وأما السؤال الذي أورده ابن جرير على نفسه وأجاب عنه فهو مبنيٌ على أصله، وهو أنَّ مِنْ أصلِهِ أنه لا يعتد بخلاف الواحد والاثنين (2)، وأنَّ الإجماع لا يكون مستنده إلا نصًّا، فما أجمعوا عليه فهو منقول عن النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ فإذا كان الجماهير على قولٍ كان ذلك عنده نقلًا منهم لذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإذا ظَهَرَ الخلاف كان ذلك اجتهادًا منهم = فأورد على نفسه: أنَّ القول بلزوم المعلق في نذر اللجاج والغضب هو قول عظم متفقهة الحجاز والعراق ــ فإنَّ هذا قول ربيعة ومالك وجمهور أصحابهم وهم المشهورون بالفتيا في الحجاز ــ، وهو قول عثمان البَتِّي، وهو المشهور عن أبي حنيفة
_________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3272) ــ ومن طريقه البيهقي في السنن الكبير (20/ 172/ ح 20064)، وفي معرفة السنن والآثار (14/ 191) ــ.
وصححه ابن حبان (10/ 197)، والحاكم (4/ 333). وقال ابن المديني ــ كما في مسند الفاروق (1/ 552) ــ: هذا منقطع، لأنَّ سعيدًا لم يسمع من عمر إلا حديثًا عند رؤية البيت.

انظر: البدر المنير (9/ 475).
(2) انظر ما تقدم (ص 9).

(1/225)


وأصحابه كأبي يوسف وغيره من المشهورين بالفتيا في البصرة والكوفة، ولم يبلغه أنَّ أبا حنيفة رجع عن ذلك ووافقه محمد بن الحسن لشهرة العمل بهذا القول في الحجاز والعراق.
ثم قال: وإنْ كان في ذلك اختلاف بينَ متقدمي الأئمة من الصحابة والتابعين وبينَ متأخري أهل الحجاز بإيجاب بعضهم في ذلك إذا حلف كفارة يمين، وهذا يريد به خلاف الشافعي ــ رحمه الله تعالى ــ لمالك – رحمه الله – وغيره من الحجازيين؛ إذ كان الشافعي يوجب في ذلك كفارة يمين، فأثبتَ الخلاف المتقدم بين الصحابة والتابعين والمتأخرين الحجازيين، ولم يكن ابن جرير يَعْتَدُّ بخلاف المتأخرين كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبَيد وأبي ثور وغيرهم إن لم يجد في ذلك نزاعًا قديمًا، وكذلك إسماعيل بن إسحاق (1) [62/ أ] القاضي (2)
وأمثاله لا يعتدون بخلاف الشافعي ونحوه.
وأحمد بن حنبل كان لا يعتد إلا بخلاف الصحابة والتابعين بعدهم، لا يعتد بخلاف من بعدهم، ولا يكاد يذكر أقوالهم إلا على سبيل المتابعة، لأنَّ الصحابة والتابعين قد تكلموا في عامة الحوادث، قَلَّ عنده أن تقعَ واقعة إلا وقد تكلم الصحابة – رضي الله عنهم – فيها أو في نظيرها، وكان لكثرة علمه بأقوال
_________
(1) كتب الناسخ (وكذلك إسحاق) وتحت (وكذلك) كتب (إسماعيل بن) وبعدها (صح).
(2) إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الأزدي، أبو إسحاق، فقيه مالكي، قاضي بغداد، صنف تصانيف عدة في اللغة والفقه والحديث، توفي سنة (282).

انظر: تاريخ بغداد (7/ 272)، شذرات الذهب (3/ 334)، سير أعلام النبلاء (13/ 339)، الإرشاد في معرفة علماء الحديث (2/ 607).

(1/226)


الصحابة والتابعين لا يحتاج إلى أن ينقل كلام مَنْ بعدهم (1).
ولمَّا كان هذا من أصل ابن جرير؛ كان يدعي الإجماع في مسائل متعددة مع شهرة النزاع فيها بين الأئمة الأربعة (2) مثل: ادعائه الإجماع على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها، وأنَّ متروك التسمية مباح (3)، ومثل ذلك؛ حتى يتأوَّل ما نُقِلَ في ذلك من النزاع؛ كما قال في مسألة اليمين الغموس (4): (وقد علمت ما حدثكم به ابن العلاء ويعقوب، حدثنا هشيم، حدثنا حجاج، عن عطاء والحكم أنهما كانا يقولان فيمن حلفَ كذبًا متعمدًا: أنه يُكَفِّر) (5).
قال: (أما الحكم؛ فإنَّ الصحيح عندنا أنه كان يأمر في ذلك بالكفارة استحبابًا، وذلك أنَّ أبا كريب حدثنا عن ابن إدريس، عن شعبة في الرجل يتعمد الحلف على الإثم (6). قال حماد: ليس فيه (7) كفارة، وقال الحكم: الكفارةُ خير (8).
وأما عطاء؛ فإنَّ الراوي عنه حجاج، وحجاج يجب في أخبارِهِ التثبتُ لأسبابٍ كثيرة).
_________
(1) انظر (ص 137، 626 – 627).
(2) في الأصل: (والأربعة)، وما أثبتُّ هو الصواب.
(3) تقدمت الإشارة إلى ذلك في (ص 9).
(4) انظر: مجموع الفتاوى (35/ 325)، الفروع (10/ 444 – 445).
(5) أخرجه الطبري في تفسيره (4/ 39).
(6) في المصنف: (يحلف على الشيء يتعمده).
(7) في المصنف: (لهذا).
(8) وأخرجه ــ أيضًا ــ ابن أبي شيبة (12452) عن ابن إدريس به.

(1/227)


إلى أَنْ قال: (فالواجب على عطاء ومن قال بقوله في ذلك ــ إذا صحت عنه الرواية بما رواه حجاج ــ اتباع ما نَقَلَتهُ الأئمة مستفيضًا عنهم: ألا كفارة على الحالف الحانث عمدًا) (1). فلم يَعْتَدَّ بخلاف الشافعي في اليمين الغموس.
وتأمل ما نقل عن الحكم [فهو] (2) أضعف مما نقل عن عطاء، ثم [قال لهم:] (3) إنه بتقدير صحة قوله؛ فالواجب عليه وعلى من قال بقوله كالشافعي ــ فإنَّ الشافعي كان كثير الاتباع لقول عطاء (4) ــ: أَنْ يتبعوا ما نقلته الأئمة مستفيضًا عنهم ألا كفارة على الحالف الكاذب عمدًا، فجعل هذا إجماعًا مستفيضًا في الأمة نقلوه عن النبي، ومعلومٌ أنَّ جمهور العلماء تنازعوا في هذا، فلا يجعلون مثل هذا إجماعًا، ولا يجعلون كل ما ادعي [62/ ب] فيه الإجماع أنهم نقلوا ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم – كما نقلوا لفظ الحديث والقرآن، وإنْ قالوا: إنَّ القرآن أو السنة دَلَّ على موافقة الإجماع، فلا يقولون: إِنَّ كل من وافق على الحكم مستنده نص منقول عنده عن الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
وابن جرير هو ممن اعتمد المعترض ونحوه على ما ادعاه من الإجماع في وقوع الطلاق التي يدعيها، وهذا معنى كلامه في الإجماعات التي
_________
(1) إلى هنا ينتهي النقل عن الطبري، والظاهر أن المجيب ينقل من كتابه «اللطيف».
(2) في الأصل: (و)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3) في الأصل: (لكم).
(4) مجموع الفتاوى (7/ 208) (22/ 428) (35/ 254، 260)، الفتاوى الكبرى (4/ 117، 121)، قاعدة العقود (1/ 214)، الإيمان (ص 165)، منهاج السنة (7/ 530).

(1/228)


يدعيها، مثلما قال في متروك التسمية (1).
قال: (فإنْ [قال] (2) قائلٌ في ذبيحةِ الناسي ذِكْرَ اسمِ اللهِ ــ تعالى ــ على ذبيحتِهِ: حرامٌ أَكْلُ ذبيحته؛ فقوله خارجٌ من قول جميع الحجة، والثابت من خبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذي حدثني به سعيد بن عثمان التنوخي (3)، عن محمد بن يزيد بن سنان، عن معقل بن عبيد الله (4)، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس أَنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «المسلم يكفيه اسمه، فإنْ نسي أنْ يُسمي حين يذبح؛ فليسم ويذكر اسم الله ويأكل» (5)).
إلى أنْ قال: (لم يُحَرِّمْ أَكْلَ ما تُرِكَ ذكرُ اسمِ الله عليه ناسيًا أَحَدٌ، وإنما كرهه ونحن نكرهه؛ فأما تحريمه فلم يصح عن أحدٍ منهم).
_________
(1) انظر ما تقدم (ص 9).
(2) إضافة يقتضيها السياق.
(3) كتب الناسخ فوقها (أظنه)، وظنه صواب؛ كما في معجم شيوخ الطبري (ص 254).
(4) في الأصل: عبد الله، والمثبت من مصادر التخريج.
(5) وأخرجه ــ أيضًا ــ الدارقطني في سننه (5/ 535)، والبيهقي في السنن الكبير (19/ 183/ ح 18923) وفي الصغير (4/ 43) من طريق معقل به مرفوعًا.
ورواه سفيان، عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفًا بلفظ: «إذا ذبح المسلم ونسي أن يذكر اسم الله فليأكل، فإنَّ المسلم فيه اسم من أسماء الله ــ عز وجل ــ».
أخرجه سعيد بن منصور في التفسير (5/ 81/ برقم 914)، والبيهقي في السنن الصغير (4/ 43) وهذا لفظه. وهو المحفوظ.
انظر: معرفة السنن والآثار (13/ 447)، نصب الراية (4/ 182)، البدر المنير (9/ 263)، إرواء الغليل (8/ 169).

(1/229)


ثم روى عن ابن سيرين والشعبي كراهيته، قال: (ولو صح عنهما أنهما حَرَّمَا ذلك، لم يَجُزْ الاعتراض بهما على [الحجة] (1) فيما كانت عليه مجمعة؛ فكيف وإنما الرواية عنهما بالكراهة، مع اختلاف في ذلك في الرواية عن بعضِ مَن رُوِيَتْ عنه الكراهة) (2).
فهو – رحمه الله – يدعي الإجماع وثبوت الخبر عن النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ وكلاهما ضعيف.
قال البيهقي (3) في حديث ابن عباس هذا: كذا رواه مرفوعًا، ورواه غيره عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن عين (4) ــ وهو عكرمة ــ عن ابن عباس موقوفًا.
ورواه (5) من حديث سعيد بن منصور [وأبي بكر الحميدي] (6)، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر بن زيد (7)، [عن عين] (8)، عن ابن عباس قال: «إذا ذبح المسلم ونسي أن يذكر اسم الله فليأكل، فإن المسلم فيه اسم من
_________
(1) هكذا قرأتها.
(2) انظر للمجيب: مسألةٌ في التسمية على ذكاة الذبيحة والصيد؛ ضمن جامع المسائل (6/ 375).
(3) في السنن الكبير (19/ 184).
(4) في الأصل: (يحيى)! ووضع الناسخ فوقها (ظ)؛ والمثبت من السنن.
(5) أي: البيهقي في السنن الكبير (19/ 184/ ح 18924، 18925).
(6) في الأصل: (الخدري)! ووضع الناسخ فوقها (ظ)؛ والمثبت من السنن.
(7) في الأصل: (يزيد)؛ والمثبت من السنن.
(8) في الأصل: (أخبرني علي)؛ والمثبت من السنن.

(1/230)


أسماء الله» (1). وفي لفظ: «فإنَّ المسلم فيه اسم الله، وإن لم يذكر التسمية» (2).
ورواه ــ أيضًا ــ (3) من حديث عطاء، عن ابن عباس.
ورواية مثل هؤلاء الثقات تُبيِّنُ الغلط في تلك الرواية المرفوعة، لاسيما وراويها محمد بن [63/ أ] يزيد بن سنان، رواه عنه أبو حاتم ــ أيضًا ــ (4).
* * * *
_________
(1) هذا لفظ رواية سعيد بن منصور.
(2) هذا لفظ رواية الحميدي.
(3) أي البيهقي في السنن الكبير (19/ 184/ ح 18926) ولفظه: «من ذبح فنسي أنْ يُسمي فليذكر اسم الله عليه وليأكل، ولا يدعه للشيطان، إذا ذبح على الفطرة».
وأخرجه ــ أيضًا ــ عبد الرزاق في المصنف (8541)، وسعيد بن منصور في التفسير (5/ 83/ برقم 915).
(4) أخرجه الدارقطني في سننه (5/ 535)، والبيهقي في السنن الكبير (19/ 183/ ح 18923).
وتقدم تخريجه (ص 229).

(1/231)


فصلٌ
قال:
(قال المجيب: وهذا الأثر معروفٌ؛ قد رواه أحمد وغيره، وذكروا أن الثلاثة أفتوها بكفارة يمين، لكن سليمان التيمي ذكر في روايته: كل مملوك لها حر، ولم يذكر هذه الزيادة حميد، وبهذا أجاب أحمد لما فَرَّقَ بين الحلف بالعتق والحلف بغيره، وعارض ذلك بأثر آخر ذكره عن ابن عمر وابن عباس، فقال المَرُّوذي: قال أبو عبد الله: إذا قال كل مملوك له حر؛ فيعتق (1) عليه إذا حنث، لأنَّ الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة. وقال: ليس يقول: كل مملوك لها حر في حديث ليلى بنت العجماء ــ حديث أبي رافع أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب وذكرت العتق فأفتوها بكفارةٍ ــ إلا التيميُّ، وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق (2).
قال: قلت: هذا كلام أحمد الذي تقدمت الإشارة إليه في إثبات قوله: كل مملوك لها حر في هذا الأثر، وقد عَلَّلَهُ أحمد – رضي الله عنه – كما ترى بالاختلاف (3) على بكر [بن عبد الله] (4)، وأَنَّ سليمان [التيمي] (5) انفرد عنه
_________
(1) في الفتاوى: (يعتق).
(2) كلام الإمام أحمد نقله ابن تيمية في مواضع منها الفتوى المعترض عليها.
انظر: مجموع الفتاوى (33/ 190)، (35/ 261)، الفتاوى الكبرى (4/ 122)، القواعد الكلية (ص 474 – 475).
(3) في الأصل: (والاختلاف)، والمثبت من «التحقيق».
(4) زيادة من «التحقيق».
(5) زيادة من «التحقيق».

(1/232)


بذكرها، وسائر الرواة عنه غيره لم يذكروها، وهذه عِلَّةٌ حديثية تقتضي التوقف في قبولها، إلا أن يعتضد جانب الإثبات بأمور يغلب على الظن رجحانه على جانب الإسقاط) (1).
والجواب:
أما قوله: (هذه علة حديثية تقتضي التوقف في قبولها، إلا أن يعتضد جانب الإثبات بأمور يغلب على الظن رجحانه على جانب الإسقاط) (2).
فيقال: هذه الزيادة ــ وهي: ذكر العتق فيه ــ أثبتها الذين اعتمد المعترض وغيره على نقلهم للإجماع في عدم التكفير للطلاق أو في وقوعه، فإنَّ عمدته وعمدة غيره في نقل هذا الإجماع على أبي ثور ومن وافقه؛ كمحمد بن نصر المروزي ومحمد بن جرير الطبري وابن عبد البر، ومن ذكر إجماع من يَحفظ قوله كابن المنذر؛ وهؤلاء كلهم أثبتوا هذه الزيادة، ونقلوا عن هؤلاء الصحابة وغيرهم من التابعين إثبات الكفارة في العتق إذا قال: إِنْ فعلت كذا فكل مملوك لي حر، وبَيَّنُوا ذكر العتق في حديث ليلى بنت العجماء، واتبعهم على ذلك سائر أهل العلم بعدهم، فذكروا أقوال هؤلاء الصحابة ومَنْ [63/ ب] وافقهم من التابعين في أنَّ الحالف بالعتق يجزئه كفارة يمين، وهؤلاء رووا ذلك من غير طريق سليمان التيمي التي عللها أحمد. رووه من طريق أشعث بن عبد الملك (3) عن بكر، ورواه عن أشعث: محمد بن عبد الله الأنصاري، ورواه عن الأنصاري مثل: أبي ثور
_________
(1) «التحقيق» (36/ أ).
(2) وقد أجاب في قاعدة العقود (2/ 327) عن التعليل بانفراد التيمي بجوابين.
(3) في الأصل: (سوَّار)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/233)


ومحمد بن يحيى النيسابوري، ورواه ــ أيضًا ــ روح بن عبادة، عن أشعث (1).
وهذه الطريق لم تبلغ أحمد وبلغت هؤلاء فأثبتوا بها ذكر العتق، ورواه ــ أيضًا ــ الأوزاعي عن جسر بن الحسن عن بكر بن عبد الله المزني موافقة للتيمي وأشعث (2)؛ وهي طريق ثالثة لم تبلغ أحمد.
ومعلومٌ أَنَّ علم هؤلاء بما نقلوه من النزاع الذي أثبتوه وبينوا طرقه ورووه بألفاظه = أتم وأكمل من علمهم بنفي النزاع في الطلاق؛ فإنَّ ذلك لا يمكن أن يعلمه بشرٌ بالحس، فإنَّ أحدًا من الناس لا يمكنه مشافهة كل عالم مضى وغبر من المسلمين حتى يَسْمَعَ منهم أنَّ الطلاق المحلوف به يقع، بل ولا معه نقل صحيحٌ صريحٌ بنفس (3) وقوع ذلك عن أحدٍ من الصحابة، وغاية ما عنده عن التابعين عددٌ قليلٌ نحوُ عشرة أو عشرين، لا يُسَلَّم له نقل في التعليق الذي يعلم أنه قصد به اليمين عن عشرين البتة، بل نقل الطلاق المعلق مطلقًا لا يسلم له نَقْلُهُ إلا عن نحو عشرين أو ثلاثين من التابعين؛ فمن أين يعلم أَنَّ أقوال جميع التابعين وتابعيهم كذلك؟ هذا لا يمكن أحدًا علمه، لا سيما وليس معه علم بأنَّ هذه الفتاوي اشتهرت عند كل واحد من علماء التابعين فأقروها، حتى يُحَصِّل ذلك إجماعًا إقراريًا؛ فكيف جاز له أَنْ يَحتجَّ بنقلِ هؤلاء بمثل هذا الإجماع، وتَرَكَ نقلهم للنزاع في العتق؛ ونَقْلُهُم لذلك أصح؟!
_________
(1) انظر: (ص 237 وما بعدها).
(2) انظر (ص 139).
(3) غير واضحة في الأصل، والمثبت هو أقرب ما تقرأ به الكلمة.

(1/234)


وإن كان يحتج بتعليل أحمد لرواية التيمي؛ فيقال له أحمد ــ رحمة الله عليه ــ طَعْنُهُ في إجماع هؤلاء أشهر وأظهر من تعليله لرواية التيمي، والنقل بذلك عنه مستفيض؛ فأحمد ينكر دعوى هؤلاء للإجماع، ويجزم بخطأ من جَزَمَ بهذا الإجماع أعظم مما يجزم بانفراد سليمان التيمي وبعدم حفظه لهذه الزيادة؛ فإنَّ أحمد ــ أيضًا ــ ليس معه علم جازمٌ بأنَّ هذه الزيادة لم يروها إلا التيمي، ولا معه جزم بأنه غلط فيها، وأحمد أعلم [64/ أ] وأتقى لله من أن يقول مثل هذا، وهو ينكر على غيره دعوى ما لا علم له به من النزاع.
وقولنا: لم يروه إلا فلان، مثل قولنا: لم ينازع في هذا أحد؛ وإذا قُدِّرَ أنه لم يروه غيره، فهو لا يجزم بغلطه فيما أثبته مع جلالة قدره وفقهه وحفظه، وغيره لم يخالفه فلم ينف هذه الزيادة، بل سكت عن ذكرها، وغيره لو نفاها لكان الإثبات مقدمًا على النفي إذا لم يكن مع النافي حجة ترجح جانبه؛ فكيف إذا كانت هذه الزيادة لم ينفها أحد من الرواة؟
ولكن أحمد لما جَوَّزَ غَلَطَ التيمي فيها لظنه انفراده بها، وانضم إلى ذلك ما روي عنهما من أن العتق يلزم = صارَ هذا مرجحًا عنده للزوم العتق (1)، ولو قيل لأحمد: هذه الزيادة قد تابع التيمي عليها: أشعث الحمراني وجسر بن الحسن= لم يقل انفرد بها التيمي؛ فكلام أحمد يقدحُ فيما احتج به هؤلاء من الإجماع أعظم مما يقدح فيما احتج به غيرهم من إثبات أقوال الصحابة.
فإن قالوا: قول أحمد ليس بحجة علينا إلا بدليل.
_________
(1) قاعدة العقود (1/ 293).

(1/235)


قيل: وليس هو حجة لكم إلا بدليل.
وحينئذٍ؛ فالنزاع في شيئين:
أحدهما: في ثبوت هذا النقل عن الصحابة، وأنهم أفتوا في الحلف بالعتق بكفارة يمين.
والثاني: في نفي قول أحد من علماء المسلمين إن الطلاق المحلوف به لا يلزم أو لا يُكَفَّر.
ومعلوم أن حجج الإثبات في كل واحد من [هذين] (1) راجحةٌ ثابتةٌ على حجج النفي؛ فالأدلة المثبتة لإفتاء الصحابة بالتكفير لا يعارضها أدلة قوية، والعمل واجب بالدليل السالم عن المعارض المقاوم؛ فكيف بالأدلة المتعددة؟!
وكذلك الأدلة المثبتة لوقوع النزاع في الحلف بالطلاق وتكفيره هي ــ أيضًا ــ سالمة عن المعارض المقاوم، والكتاب والسنة والقياس الجلي تُوجب أن هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين والمعلَّق فيها حق لله وحده= هي أيمان ليست إيقاعات، بل هي أيمان من أيمان المسلمين يجب فيها ما يجب في أيمان المسلمين، وهو مما بيَّنه الله في كتابه وسَنَّه رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وهذه الأدلة لا يعارضها إلا عدم العلم ببعض ما روي من الآثار، وعدم العلم بأقوال العلماء، وعدم العلم بدلالة الكتاب والسُّنة والاعتبار، وعدم العلم [64/ ب] لا يعارض العلم؛ بل العلم يجب تقديمه على عدم العلم.
* * * *
_________
(1) بياض مقدار كلمة، تحتمل ما أثبتُّ.

(1/236)


فصلٌ
وأما قوله:
(وقد يرجَّح جانب الإسقاط بعدد راويه (1)، وبالرواية عن ابن عمر في فتياه بخلاف ذلك التي رواها عنه عثمان بن حاضر ــ كما سيأتي ــ، وفي جانب الإثبات هاهنا ما يرجحه، وهو جلالة سليمان التيمي وفضله، فهذا ترجيح بالكيفية، والترجيح الأول بالعدد ترجيح (2) بالكمية، وفي مثل ذلك يجب على المجتهد الموازنة بين الظنين، والعمل بما ينقدح في نفسه رجحانه، وقد انضاف إلى الترجيح العددي هنا فتيا ابن عمر المعارضة للإثبات ههنا، مع أن حميدًا ليس منحطًّا عن فَضْلٍ وإنْ كان دون سليمان) (3).
فيقال: الجواب من وجوه:
أحدها: أَنَّ الإثبات للعتق وتكفيره ــ كما ذكر ــ رواه سليمان التيمي ــ الإمام الفقيه الصالح ــ، ورواه ــ أيضًا ــ أشعث بن عبد الملك الحمراني، ورواه جسر بن الحسن.
ورواها عن سليمان التيمي: ابنه المعتمر بن سليمان، ويحيى بن سعيد القطان؛ وهذان من أعظم أئمة زمانهما في الثقة والإتقان والعلم والدين.
ورواية أشعث رواها عنه: محمد بن عبد الله الأنصاري ــ قاضي البصرة ــ،
_________
(1) في هامش الأصل: (رواية) وفوقها حرف (خ) و (ظ)، وهو كذلك في «التحقيق».
(2) في الأصل: (وترجيح)، والمثبت من «التحقيق» وهو الصواب.
(3) «التحقيق» (36/ أ).

(1/237)


ورَوح بن عبادة.
ورواية جسر بن الحسن رواها عنه: الأوزاعي؛ وهؤلاء أئمة من أَجَلِّ حملةِ العلم وأوعيته، وغيرُ هؤلاء لم ينفها أحدٌ منهم، ولكن لم يذكرها حميد الطويل، ولا ذكرها غَالِبٌ عن بكر فيما بلغنا (1)، ولا ذكر المعترض طريقًا فيها ذكر لفظ التيمي بأشياء متعددة إلا عدة الطرق.
وأما البخاري – رحمه الله – فهو في تاريخه (2) اختصر الروايات لم يسقها بألفاظها؛ فإنَّ مقصوده ذكر الرجال الذين رووا هذا الأثر، لم يكن مقصوده ذكر لفظه؛ ولهذا لم يذكر في لفظه إلا الحلف بصدقة المال؛ فإن النزاع في الحلف بصدقة المال أكثر وأشهر من النزاع في جميع صور التعليقات، ولهذا كان للعلماء فيه أقوال كثيرة. قيل: بلزوم جميع المال، وقيل: المال الزكوي، وقيل: ثلث المال، وقيل: ربع عشر المال (3).
وإذا كان كذلك؛ فقول القائل: (إنَّ جانب الإسقاط يرجح بعدد راويه (4))؛ إنما يصح إذا ثبت أن الذين لم يذكروا هذه الزيادة أكثر، وهذه دعوى مجردة.
_________
(1) في الأصل: (لم يبلغنا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) في الأصل (في صحيحه)؛ والصواب ما أثبت. وقد عزاه المجيب للتاريخ في مواضع متقدمة ولاحقة، ولعله سبق قلم من الناسخ.
انظر: التاريخ الكبير (1/ 435).
(3) قد بسط أقوال أهل العلم وأدلتهم على هذه المسألة ابن المنذر في الأوسط (12/ 109 – 115).
(4) في الأصل: (رواية)، والمثبت أصح.

(1/238)


فإنْ قيل: هو كتب هذا لما وقف على الجواب [65/ أ] المختصر الذي كان المجيب ذكره أولًا، وليس فيه إلا متابعة جَسر بن الحسن للتيمي.
فيقال: هب أنَّ الأمر كذلك؛ فهذان إمامان أثبتا الزيادة ولم يذكرها حميد وبكر، فمن أين علم أنَّ من لم يذكرها أكثر؟
وأحمد لم يكن بلغه أنه ذكرها إلا التيمي، وقد بلغه رواية حميد وغالب ولم يذكراها. فقال: وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق؛ فأحمد تعارض عنده كثرة العدد مع جلالة سليمان فناسبه أن يقف، وأما من علم أن غير (1) سليمان تابعه فلا يجوز له أن يسلك هذا المسلك؛ فكيف وقد تابعه اثنان؟ (2)
الوجه السادس: أنه لو سُلِّمَ أنه لم يُثْبِتِ الزيادة إلا سليمان التيمي، فالباقون لم ينفوها البتة، فلو نفوها لكان هذا تعارضًا (3) يوجب ترجيح أحدهما، ثم قد يقال: المثبت مقدم على النافي، والتيمي أَجَلُّ وأثبت ممن خالفه، لكن أولئك لم يخالفوا التيمي، فإنَّ عدم الذكر ليس ذكرًا للعدم، ومثل هذا موجود في عامة الأحاديث يذكر أحد المحدثين من الزيادة ما لا يذكره الآخر مع اتفاق أهل العلم بالحديث والفقه على إثبات تلك الزيادة، ومثل هذا لا يحصى.
وقد تنازع العلماء في الزيادة من الثقة إذا لم يخالف المزيد إذا كان
_________
(1) في الأصل: (عن)، والصواب ما أثبتُّ.
(2) بعد هذا يوجد علامة اللحق إلا أنه لا يظهر في الورقة شيء، غير أنَّ السقط ظاهر في هذا الموضع حيث ذكر المؤلف – رحمه الله – (الوجه السادس) مع أنه لم يتقدم قبله إلا (الوجه الأول)، مما يدل على سقوط الوجه الثاني والثالث والرابع والخامس.
(3) في الأصل: (تعارض)، والجادة ما أثبتُّ.

(1/239)


الذين تركوها أكثر مع التساوي في الحفظ؛ وفيه قولان لأصحاب أحمد وغيرهم، ويذكر روايتان عن أحمد (1).
وأما إذا خالفت المزيد فهذا مقام تعارض، مثل: أن يذكر أحدُهما أَنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – هو المسؤول المجيب، ويذكر الآخر أَنَّ المسؤول المجيب هو ابن عباس في قصة واحدة؛ فهذا تعارض وليس هذا بزيادة لا تُناقِضُ المزيد؛ كما في حديث القلتين: روى بعضهم عن ابن عمر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سئل عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» (2)، وروى بعضهم أن ابن عمر هو الذي سئل وأجاب بهذا الجواب (3)؛ فإذا كانت القصة واحدة فهذا تعارض.
وأما إذا ذكر بعضهم زيادة حفظها (4) لم يذكرها غيره= فهذا ليس
_________
(1) المسودة (1/ 588).
(2) أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67)، والنسائي في سننه (52)، وابن ماجه (517) وغيرهم.
وصححه ابن خزيمة (92)، وابن الجارود (44)، والحاكم (1/ 225)، وأعلَّه بعض أهل العلم بالاضطراب في سنده ومتنه، وبوقفه على ابن عمر.
انظر: مجموع الفتاوى (20/ 520، 21/ 35)، المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 17).
انظر: علل الدارقطني (12/ 434)، تعليقة على علل ابن أبي حاتم (ص 13)، نصب الراية (1/ 104)، البدر المنير (1/ 404)، تهذيب السنن لابن القيم (1/ 152 وما بعدها «مهم»).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (1537)، والبيهقي في السنن الكبير (1/ 396) وغيرهما. وانظر التعليق السابق.
(4) لم يظهر من الكلمة إلا الثلاثة الأحرف الأولى، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/240)


بتعارض، ولكن متى كان التاركون لها أكثر صار هذا علة توجب اختلاف العلماء في قبول هذه الزيادة.
مثال [65/ ب] ذلك في هذا الأثر: أن في عامة رواياته أَنَّ المسؤول هو: ابن عمر وحفصة وزينب بنت أم سلمة، ولم يذكر أم سلمة وعائشة إلا أشعث عن (1) بكر بن عبد الله، وفي بعضها عن بكر (2) أشعث ذكر ابن عباس ــ أيضًا ــ مع عائشة وأم سلمة، وقال غالب عن بكر: أن المسؤول أم سلمة وابن عمر، وأما سليمان التيمي وجسر بن الحسن وحميد فلم يذكروا إلا الثلاثة.
فمن يطلق القول بأن الزيادة من الثقة مقبولة ولا ينظر إلى العدد والإتقان فجعل هذا فتيا سبعة من الصحابة ابن عمر وابن عباس (3) وثلاثة من أمهات المؤمنين عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب ربيبة النبي – صلى الله عليه وسلم -.
وأما من ينظر نظرًا خاصًا في عدد الذاكر والتارك وإتقانهم، فإنه يجزم بأن في المسؤولين ابن عمر وحفصة وزينب ربيبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثم قد يقول: أشعث وحده لا يقاوم في العدد والحفظ هؤلاء الذين لم يذكروا إلا هؤلاء الثلاثة مثل: التيمي وجسر بن الحسن وغالب، وقد يقول: إنَّ غالبًا اشتبه عليه أم سلمة بابنة أم سلمة وغيره أحفظ منه؛ يبيِّن أن المسؤولة هي زينب بنت أم سلمة لا أم سلمة.
_________
(1) في الأصل: (و)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) هنا علامة لحق، ولم يظهر في هامش الأصل إلا حرف (ظ) الدَّالِّ على أن الناسخ استظهر شيئًا إلا أن التصوير لم يسعف في ظهوره.
(3) بعدها علامة لحق وكتب في الهامش (وا).

(1/241)


قيل: هذا ترجيح قول ابن عبد البر على قول ابن حزم وغيره ممن جعل المسؤولة هي زينب فقط، وأما آخرون مثل: محمد بن نصر وابن حزم وابن المنذر ونحوهم فيثبتون هذا كله، ويقولون هذه زيادة من الثقة فتكون مقبولة، وفي هذا نزاع مشهور، وفيه لأصحاب أحمد وغيره قولان، وقد تختلف ــ أيضًا ــ باختلاف القضايا فقد يُعلم من حفظ الرجل وإتقانه في قصةٍ ما لا يعلم من حفظ غيره وإتقانه فيها.
والمقصود: أنَّ ما ذكره من الترجيح بالعدد يذكره العلماء في مثل هذا، ويرجح جانب الإسقاط بأن الذين لم يذكروا إلا الثلاثة أحفظ وأتقن من أشعث، وإن كان أشعث أفقه منهم؛ فالفقيه ضبطُهُ لمعاني الخبر أعظمُ من ضبطه لرواته، بخلاف المحدث فإنه يضبط أسماء الرواة أكثر مما يضبط معانيه، وذلك بحسب المواضع.
ولهذا لما كان مقصود (1) البخاري في تاريخه ذكر من رواه لم يتعرض لذكر ألفاظه، بل ذكر [66/ أ] طرقه وذكر منها ما لم يذكره غيره.
وأما ذكر العتق؛ فسليمان التيمي أجل قدرًا وأفقه وأحفظ ممن لم يذكره، وقد تابعه أشعث وجسر بن الحسن، وترك ذكره حميد وبكر؛ فلو قُدِّرَ التعارض بالإثبات والنفي بين سليمان وحميد، فأثبت سليمان ما نفاه حميد، لرجحت رواية سليمان بلا ريب، ثم أشعث وجسر أرجح من غالب؛ فكيف إذا لم يتعارضا؟ بل ليس فيه إلا زيادة لم ينفها الآخر.
ومما يبين ذلك: أنَّ ألفاظ اليمين المذكورة في هذه القضية يَذكر فيها
_________
(1) في الأصل: (المقصود)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/242)


هذا ما لا يذكره هذا، وهي قصة ثابتة بلا ريب.
ففي حديث سليمان التيمي: هي يهودية وهي نصرانية وكل مملوك لها محرر وكل مال لها هدي إن لم تطلق امرأته.
وفي حديث أشعث: هي يومًا يهودية ويومًا نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مالٍ لها في سبيل الله وعليها المشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما.
وفي حديث غالب عن بكر: كل مالها في رتاج الكعبة وهي يومًا يهودية ويومًا نصرانية ويومًا مجوسية إنْ لم تفرق بينك وبين امرأتك.
وفي حديث حميد الطويل عن ثابت وبكر: مالها وكل شيء لها في رتاج الكعبة وهي محرمة بحجة وهي يومًا يهودية ويومًا نصرانية ويومًا مجوسية إن لم تطلق امرأتك.
وفي حديث جسر: أنها حلفت بالهدي وبالعتاقة لم يذكر غير ذلك.
والبخاري لم يذكر إلا الحلف بالصدقة بقولها (1): مالي في المساكين صدقة (2).
ولا ريب أنَّ بعض هؤلاء الرواة روى بالمعنى، وبعضهم اقتصر على بعض ما ذكر، وقد يذكر أحدهم لفظًا بدل لفظ لاعتقادهم أنَّ معناهما سواء، وقد يكون نسي اللفظ فرواه بالمعنى الذي فهمه حين سمع؛ وهذا كقول بعضهم: عليَّ المشي، وقول الآخر (3): وأنا محرمة؛ فإنَّ كلاهما حالف
_________
(1) في الأصل: (فقولها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) في التاريخ الكبير (1/ 435): (حلفت أنَّ مالها في المساكين صدقة).
(3) في الأصل: (الحر)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/243)


بالحج، وقول بعضهم: مالها هدي، وقول بعضهم: في رتاج الكعبة، ومالها في سبيل الله، ومالها في المساكين صدقة؛ فإنَّ هذا كله حلف.
فإخراج المال والحلف بالكُفْر ذكره أكثرهم، [والغضبان] (1) يَحلف عند الغضب بهذا كله وبأكثر منه وبأقل منه، وهو كله حلف يتعلق [66/ ب] بقصده اليمين، ولهذا تجد من يذكر مثل هذا يذكر مثالًا أو مثالين، ثم يقول: ونحو ذلك أو أشباه ذلك؛ كما قال طاووس.
قال ابن حزم (2): (وصح عن طاووس أنه قال: الحلف بالعتاق ومالي هدي وكل شيء لي في سبيل الله وهذا النحو: كفارة يمين).
وأما ما ذكره (3) من فتيا ابن عمر المعارِضة لهذا في حديث عثمان بن حاضر (4)؛ فيقال: تلك الرواية إما أن تكون ثابتة أو غير ثابتة؛ فإن لم تكن ثابتة فلا حجة فيها، وإن كانت ثابتة فليس فيها إلا التسوية بين الحلف بالعتق وغيره من لزوم المعلَّق الذي ألزمه نفسه، ليس فيه التفريق بين العتق وغيره؛ فمن نقل عن ابن عمر أو غيره من الصحابة أنه فرق بين الحلف بالعتق وغيره بمثل هذا= فقد كذب عليهم، مع تصريحهم بالتسوية بينه وبين غيره إما في لزوم الجميع وإما في تكفير الجميع، ولم ينقل أَحَدٌ لا عن ابن عمر ولا عن غيره من الصحابة أنه قال: العتق يَلزم والنذر يجزئ فيه كفارة يمين، ولا قالوا
_________
(1) كلمة لم أستطع قراءتها لم يظهر منها إلا الأحرف الأولى والحرف الأخير، ولعلها ما أثبتُّ أو نحو ذلك.
(2) في المحلَّى (ص 991).
(3) يحتمل أنَّ الضمير يعود لابن حزم، حيث ذكر هذه الفتوى في المحلى (ص 991).
(4) قاعدة العقود (2/ 327).

(1/244)


أيضًا: أن الطلاق والعتاق يلزم، وفي الباقي يجزئ كفارة يمين؛ فكل من هذين القولين لم ينقل عن الصحابة بإسناد، واستثناء الطلاق وحده لم ينقل عن أحد من السلف لا بسندٍ (1) صحيح ولا ضعيف، وأما استثناء الطلاق والعتاق فهو منقول عن بعض التابعين، كما نُقِلَ عن الحسن في رواية مع اختلافٍ عنه في ذلك (2).
وأما نقل ذلك عن عائشة؛ فباطل لم يعرف أن أحدًا نقله بإسناد لا صحيح ولا ضعيف، بل المروي عنها بالإسناد نقيض ذلك، فقد روي أنها أحد المفتين في حديث ليلى بنت العجماء وفيها ذكر العتق.
وإذا كان كذلك؛ فنحن لم نذكر قول أحد من الصحابة والتابعين والعلماء للاحتجاج به، بل قصدنا ذكر مذاهب المسلمين في هذه المسألة، وقد تبين أن النزاع في العتق ثابت عن غير واحد من الصحابة والتابعين، وأنَّ هذا مما يَنقله عامة أهل العلم الناقلين لمذاهب السلف، منهم من وافقه ومنهم من خالفه، وأنهم جزموا بصحة ذلك عنهم، وأن الإسناد الذي فيه هذا النقل من أصح الأسانيد التي يروى بها العلم، ورجالُها من أعلى رجال الصحيحين [67/ أ] وأثبتهم نقلًا، وأن الحجة فيه مع من أثبت العتق. وإذا قُدِّرَ أَنَّ ابن عمر وغيره أفتوا مرة أخرى، بأن (3) مثل هذه الحالفة يلزمها ما حلفت به من عتق وهدي وصدقة وحج؛ فغاية هذا: أن تكون المسألة في
_________
(1) في الأصل: (لإسناد)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) انظر: (ص 721 – 722، 754 – 755).
(3) في الأصل: (فإن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/245)


الصحابة على القولين، والاختلاف المذكور هو عن ابن عمر، وأما حفصة وزينب فلم يختلف عنهما (1) في ذلك؛ فلا يَنقل أحد عن الصحابة بإسناد مقبول أن ذلك يلزم إلا ونقل عنه بالإسناد الذي هو أثبت منه أنه لا يلزم بل تجزئ فيه كفارة يمين.
وابن حزم وموافقوه يَدَّعون أَنَّ للصحابة فيها قولًا ثالثًا، وهو: أنه لا يلزم ولا كفارة يمين، وابن حزم يجعل فيها للصحابة ثلاثة أقوال، وأَنَّ مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي لا يوافق واحدًا منها؛ فمذهب أحمد كمذهب الشافعي، وأما أصحاب الشافعي وأحمد فلا يجعلون للصحابة في ذلك إلا قولًا واحدًا وهو التكفير إلا في العتق، وهم لم ينقلوا عنهم في العتق قولًا بالفرق بينه وبين غيره، بل هذا القول المنقول عنهم يقتضي لزوم جميع ما حَلَفَ به، ولكن فيه أن في المال زكاته، وهذا لو وافق لم يوافق إلا قول من يلزم الحالف ما حلف به، كما يقوله مالك وأبو حنيفة في الرواية المشهورة المتقدمة عنه، لكن هما لا يقولان بربع العشر، فلم يكن عن الصحابة حجة لأحد ممن يقول باللزوم، ولا من يقول بالفرق بين الطلاق والعتاق وغيرهما، وأما الفرق بين الطلاق وغيره فلم يُنْقَل عن أحدٍ من المسلمين قبل أبي ثور لا بإسناد صحيح ولا ضعيف.
* * * *
_________
(1) في الأصل: (عنها).

(1/246)


فصلٌ
قال:
(قال ــ يعني: المروذي ــ: وسألتُ أبا عبد الله عن حديث أبي رافع قصة امرأته وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين. قلت: فيها المشي؟ (1) قال: نعم؛ أَذهبُ إلى أن فيه كفارة يمين.
قال أبو عبد الله: ليس يقول فيه (كل مملوك) إلا التيمي.
قلتُ: فإذا حلف بعتق مملوكه [فحنث] (2).
قال: يعتق؛ كذا روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: الجارية تعتق. ثم قال: ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر.
قلتُ: فأيُّ شيءٍ إسناده.
[67/ ب] قال: معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن عثمان بن حاضر، عن ابن عمر وابن عباس. وقال إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى، وهما مكيان (3).
_________
(1) استظهر محقق القواعد الكلية (ص 475) أنَّ صواب العبارة: شيء، وليس بظاهر بدليل ما في آخر الفصل هنا.
(2) أصاب هذا الموضع سواد لم تتضح من خلاله الكلمة، والمثبت من «التحقيق» والقواعد الكلية.
(3) نقل ابن تيمية سؤال المرُّوذي في عدة مواضع. انظرها في: مجموع الفتاوى (33/ 190، 193)، (35/ 261)، والفتاوى الكبرى (4/ 122)، والقواعد الكلية (ص 474 وما بعدها).

(1/247)


قلتُ: هذا الأثر المعارض للأثر الأول في فتيا ابن عمر، وهو مما يرجح جانب الإسقاط ــ كما تقدم ــ، وقد عَلَّلَهُ المصنف بعد ذلك بورقتين بأنَّ الأثر الأول أثبت، ورجاله من أئمة العلم والفقهاء الذين يعلمون ما يروون، وهذا الأثر فيه غربة (1) ولم يثبت (2) لنا لفظه؛ فإنْ صَحَّ كان في ذلك نزاع بين الصحابة) (3).
والجواب:
أن الإمام أحمد قد أثبت (4) أن في حديث ليلى بنت العجماء المشي إلى مكة.
قال المَرُّوذي: سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع قصة امرأته وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين. قلت: فيها المشي؟ قال: نعم؛ أَذهبُ إلى أن فيه كفارة يمين. قال أبو عبد الله: ليس يقول فيه: (كل مملوك لي حر) إلا التيمي إلى آخره.
والمشي هو مذكور في حديث أشعث، وفيه ذكر قوله: (كل مملوك لها حر) ولم أقف على طريقٍ فيها ذكر المشي دون العتق لكن الطرق كثيرة،
_________
(1) كذا في الأصل و «التحقيق» في هذا الموضع، وفي مجموع الفتاوى (33/ 193): (تمويه). وانظر (ص 596).
(2) كذا في الأصل و «التحقيق» في هذا الموضع، وفي مجموع الفتاوى (33/ 193): (يضبط). وانظر (ص 596).
(3) «التحقيق» (36/ أـ ب).
(4) في الأصل: (ثبت)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/248)


ومعلومٌ أنَّ الذين تركوا ذكر المشي أكثر بكثير ممن ذكره؛ فكيف يجوز إثبات هذا في الحديث مع أَنَّ أكثر الرواة لم يذكره ولا يثبت العتق والذين ذكروه أثبت وأكثر ممن ذكر العتق؟! لكنَّ أحمد لم يبلغه إلا طريق التيمي.
* * * *

(1/249)


فصلٌ
وأما قوله:
(إنما يتم ترجيح الأثر الأول على هذا بجلالة رواته وشهرته لو سَلِمَ من الاختلاف، أما إذا لم يسلم فيصلح هذا ــ مع ثقة (1) رجاله ــ مرجِّحًا لأحد وجهي الاختلاف في الأثر الأول) (2).
فالجواب:

بعد أَنْ يقال أَثَرُ ليلى لم يختلف الرواة فيه، فلم ينف أحدهما العتق مع إثبات الآخر له، بل سكت عن ذكره، وليس هذا باختلاف، بل هذا باتفاق العلماء يُستدل به، إذ لو كان اختلافًا لكان اختلافًا في كل موضع، ولكن هذا قد يورث رِيْبَةً قد يظن أَنَّ ذاكر الزيادة غلط؛ كالشاهدين إذا شهد أحدهما بعشرة آلاف وشهد الآخر بعشرة آلاف وخمسمائة.
[68/ أ] ثم الريبة يُبحث عنها؛ فإنْ لم يظهر قدحها في (3) الدليل لم يلتفت إليها، وقد تبين أنها لا تقدح في الدليل من أوجه:
أحدها: أَنَّ أثر عثمان لم يُفَرَّق فيه بين العتق وغيره، بل سَوَّى بين الجميع في اللزوم؛ فهو لا يعارض رواية من ذكر العتق وحده، بل يعارض رواية الجميع الذين نقلوا عن ابن عمر وغيره من الصحابة أنهم أفتوا بكفارة يمين في صورة من الصور، وكذلك ابن عباس ثبت عنه أنه أفتى بكفارة يمين
_________
(1) في الأصل: (رفقة)، والتصويب من «التحقيق».
(2) «التحقيق» (36/ ب).
(3) في الأصل: (من)، والصواب ما أثبتُّ.

(1/250)


في غير حديث ليلى بنت العجماء.
فقد ثبت بالطرق الراجحة على طريق عثمان باتفاق أهل العلم أَنَّ الصحابة أفتوا في الحلف بالتعليق الذي يقصد به اليمين بكفارة يمين، وفي حديث عثمان بن حاضر أفتوا باللزوم؛ وحينئذٍ فلا يختلف أحدٌ من أهل العلم في وجوب تقديم تلك الروايات الثابتة على رواية عثمان بن حاضر، فإنه لا يعارض أولئك.
ولكن لو كان في حديث عثمان أنهم فَرَّقُوا بين العتق وغيره= لكان هذا يعارض رواية من روى أنهم أفتوا في العتق وغيره بكفارة يمين، ولكن رواية عثمان خالفت جميع الروايات الثابتة عن الصحابة، ولهذا طعن فيها أكثر أصحاب الشافعي وأحمد؛ كالشيخ أبي حامد والقاضي أبي يعلى وغيرهما وقالوا: لم يثبت عن الصحابة في ذلك خلاف.
الوجه الثاني: أَنَّ حديث ابن حاضر قد اختلفت ألفاظه أكثر مما اختلفت ألفاظ حديث ليلى بنت العجماء؛ وسيأتي ذكر ذلك.
الوجه الثالث: أَنَّ حديث ليلى بنت العجماء تلقاه العلماء بالقبول والتصديق، لا يعرف أحد من العلماء طعن فيه وضعفه، بل جميع أهل العلم بالحديث والفقه الموافقين له والمخالفين له يصدقونه، وأما حديث عثمان بن حاضر فقد طعن فيه كثير من العلماء، لا سيما من أصحاب الشافعي وأحمد.
الوجه الرابع: أَنَّ هذا الأثر مما انعقد الإجماع على خلافه بعد ربيعة (1)،
_________
(1) الأوسط (12/ 112)، الاستذكار (15/ 107).
وقال في الأوسط: (وقد كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول بمثل قول مالك ــ أي: يخرج ثلث ماله ويتصدق به ــ ثم صار إلى أنْ قال: زكاة ماله).

(1/251)


فلا يعرف في أهل العلم من يفتي بموجبه، بخلاف الأول فإنه لم يزل في الإسلام من يفتي بموجبه، والكتاب والسنة والقياس الجلي يدل على هذا، وذاك لا يدل على ما فيه دليل صحيح.
الوجه الخامس: أن هذا إذا ثبت إنما يصلح لمعارضة ما روي (1) [68/ ب] عن ابن عمر، أو ابن عمر وابن عباس، وأما ما روي عن حفصة وزينب وغيرهما من الصحابة فلم ينقل عن هؤلاء ما يناقض هذه الرواية.
وحينئذٍ؛ فلو قُدِّرَ أنَّ ابن عمر وابن عباس لم يَختلف قولهما بلزوم ما يحلف به لم يرفع ذلك خلاف غيرهما (2).
والمقصود: إثباتُ النزاعِ في الحلف بالعتق، فإنَّا لم نَدَّعِ إجماعًا فيه، وإذا ثبت النزاع على كل تقدير= حصل المطلوب.
* * * *
_________
(1) لم يظهر من الكلمة إلا حرف الراء، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام.
(2) قاعدة العقود (2/ 327 وما بعدها).

(1/252)


فصلٌ
قال المعترض:
(وقوله: (فإنْ صَحَّ كان في ذلك نزاع بين الصحابة)، إنما يثبت (1) النزاع بين الصحابة بِأَنْ يثبت كُلٌّ من الأثرين (2) ولا علة فيه، أما مع التعليل فيحتمل أنْ يكونا صحيحين أو الأول وحده أو الثاني وحده؛ وعلى هذين التقديرين= لا يثبت النزاع، ونحن يكفينا الاحتمال) (3).
والجواب:
أنَّ هذا كلام فاسدٌ لفظًا ومعنىً، صورةً ومادةً، فلا مقدمات صحيحة ولا نظر صحيح!
أما فساده صورة ولفظًا؛ فيقال: إنَّ المجيب قال: (إنْ صحَّ كان في ذلك نزاعٌ بين الصحابة – رضي الله عنهم -) فلم يذكر النزاع إلا على تقدير صحة هذا، لأنه قد بَيَّنَ صحة الآخر؛ فالاعتراض على هذا أنْ يُقالَ: لا نُسلِّم أنه بتقدير صحته ثبت النزاع، لأنه إنما يثبت إذا صحَّ حديث ليلى بنت العجماء، وهو (4) لم يصح أو لا نسلم صحته.
وأما أَنْ يقال: على هذين التقديرين لا يثبت النزاع؛ فالمجيب لم يثبت النزاع إلا على تقدير صحة حديث ابن حاضر، لأنه تبيَّنَ صحة الآخر فلم
_________
(1) في الأصل: (ثبت)، والمثبت من «التحقيق».
(2) في الأصل: (الأمرين)، والمثبت من «التحقيق».
(3) «التحقيق» (36/ ب).
(4) في الأصل: (وإن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/253)


يثبت النزاع إلا على تقدير صحتهما (1)، فلا حاجة إلى قوله: إنما يثبت النزاع عن الصحابة بأن يثبت كل من الأمرين ولا علةَ فيه.
ثم تناقض فقال: (أما مع التعليل فيحتمل أن يكونا صحيحين).
فيقال له: وإذا كانا صحيحين فقد ثبت النزاع وإن كان فيهما علة غير قادحة، لأنَّ العلة مع الصحة لا تكون قادحة فيه؛ فكيف في حديث فيه علة لا تقدح في صحته بل قد عُرِفَ ضعفها أو بطلانها؟ وإذا كان بتقدير صحتهما فقد ثبت النزاع بين الصحابة سواء كان فيهما علة أو لم يكن فقوله: لا يثبت النزاع بين الصحابة إلا إِنْ ثبت كل منهما ولا علة فيه = كلامٌ باطل.
[69/ أ] وأما قوله: (ونحن يكفينا الاحتمال).
فيقال له: الاحتمال المرجوح لا يقدح في الأدلة الشرعية، ولو جاز أن يكون مجرد هذا قادحًا = لم يُحَتَجَّ بالعموم ولا خبر الواحد ولا القياس. وإنما القادح هو: الاحتمال المقاوم، فإذا بَيَّنَ المعترض أن ما ذكر يحتمل أن يكون كما ذكره المستدل، ويحتمل أن يكون بخلاف ذلك؛ احتمالين متساويين= وُقِفَت دلالته، وإنْ بَيَّنَ أن احتمال الخلاف أظهر= بطلت دلالته.
ثم يقال: مثل هذا الكلام يقوله مَن يحتج بمن (2) نقل الإجماع مع العلم بأنه لا علم له بِنَفْي النزاع، وأنه قد نقل إجماعًا غير هذا وظهر فيه نزاعٌ (3) لم يطلع عليه، وأنه يحتمل أن يكون فيها نزاع لم يطلع عليه، وهذا احتمال لا
_________
(1) في الأصل: (صحتها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) تحتمل في الأصل: (لمن).
(3) في الأصل: (نزاعًا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/254)


سبيل إلى العلم بنفيه؛ ومجرد الاحتمال كافٍ في منع الجزم بالإجماع، وإن ادَّعى أن ظن الإجماع كافٍ وهو حاصل قِبَل (1) أبي ثور وأمثاله.
قيل: وظن صحة خبر ليلى بنت العجماء وذكر العتق فيه كاف وهو حاصلُ بعضِ ما ذكرناه.
وأما فساده من جهة المعنى ومادة الدليل؛ فيقال له: خبر عثمان بن حاضر إنْ كان صحيحًا فهو مخالف قطعًا لما ثبت عن الصحابة من الكفارة في الحلف بالنذر والحلف بالعتق، والنزاع في ذلك ثابت عن الصحابة بخبر ليلى وخبر غير ليلى؛ فإنَّ خبر عثمان يُسَوِّي بين العتق وغيره لا يُفرق بينهما.
وأيضًا؛ فإنه ليس فيه خلاف عن كل مَن ذُكِرَ في خبر ليلى وإنما فيه خلاف عن ابن عمر؛ وأما حفصة وزينب فلم ينقل عنهما خلافُ ما في خبر ليلى.
وحينئذٍ؛ فلا يجوز دفع ما فيه نَقْلٌ عن حفصة وزينب بما نُقِلَ عن غيرهما، بل إذا صح ما نُقِلَ عن غيرهما كان في ذلك نزاع بينهما وبين ما نقل عنهما، ولم يكن ما نقل عن غيرهما مُضَعِّفًا لما نقل عنهما.
وحينئذٍ؛ فلا يجوز أَنْ يُعَارَضَ بأثرِ عثمان ما نُقِلَ عن حفصة وزينب، وقد عُرِفَ أَنَّ ذاك نَقَلَهُ الثقات ولم يعارضه (2) شيء؛ فإن كان أثر عثمان صحيحًا فغايته أَنْ يُثْبِتَ النزاعَ بين الصحابة – رضي الله عنهم -.
* * * *
_________
(1) كذا في الأصل، والإجماع أول من نقله أبو ثور، فالنقل من قِبَلِهِ. ويحتمل أنها تصحفت على الناسخ ويكون صوابها (بقول).
(2) هكذا قرأتها، والكلمة غير واضحة.

(1/255)


فصلٌ
قال:
(وقوله: (ولم يثبت لنا [لفظه] (1))؛ عجيبٌ لأمرين:
أحدهما: أنه إنما يحسن ذلك لو كان عنده في بعض (2) [69/ ب] ألفاظ الحلف يحكم بالوقوع، فكان ينزل (3) الأثر على ذلك اللفظ، كما ذلك عندنا وعند أرباب المذاهب المشهورة كما ستعرفه؛ أما إذا كان الحلف عنده بكل لفظ غير موقع، فلا فائدة في معرفته اللفظ الذي حكم فيه ابن عمر وابن عباس بالوقوع) (4).
والجواب من وجوه:
أحدها: أَنَّ الأمر ليس كما ادعاه؛ فإنَّ صيغ التعليق التي تتضمن الحض والمنع منها ما هو إيقاع لم يقل أَحَدٌ أنه يمين مُكَفَّرَة، بل فيه نزاع هل يقع به الطلاق أو لا يقع؟ ولم يقل أحد أَنَّ فيه يمينًا.
ومنها ما هو يمين فيه الأقوال الثلاثة؛ وذلك لا يكون إلا إذا كان الجزاء مما يَكره المعلِّق وقوعه [فَعَبَّرَ به لفظة تفيد انتفاء دلالته] (5) من وجوه أخرى
_________
(1) هذه الزيادة من «التحقيق»، وهي في الأصل غير واضحة.
(2) كذا قرأتها، ويحتمل وجود كلمة بعدها لكنها غير ظاهرة، ولا يوجد كلمة هنا في «التحقيق».
(3) في «التحقيق»: (ترك).
(4) «التحقيق» (36/ ب).
(5) كذا قرأتها، وموضع الكلام فيه سواد شديد.

(1/256)


غير هذا؛ كما قد بينا ذلك لمَّا وَقَفْنَا بعد ذلك على لفظه، وبَيَّنَّا أنه ليس فيه حجة لمن فَرَّقَ بين العتق والطلاق وغيرهما؛ بل فيه ما يدل على أَنَّ قائل ذلك مخالفٌ لجميع ما نُقِلَ عن الصحابة في النفي والإثبات؛ فكان لفظه حجة للمجيب لا عليه.
والمجيب كتب هذا الجواب المختصر أولًا في قعدةٍ واحدة، ولم يكن بلغه حديث عثمان بن حاضر إلا كما ذكره أحمد ذكرًا مجملًا في جواب السائلين له، لم يروه أحد في جواب السائلين بإسناده ولفظه.
الثاني: أن لفظه حجة على المحتجِّ به المفرِّق بين العتق والنذر، وقد ذكره (1) المعترض عن مصنف عبد الرزاق، وقد ذكر أحمد أنه لم يسمعه إلا من عبد الرزاق.
فقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن عثمان بن [أبي] (2) حاضر قال: جَلَسَت (3) امرأة من أهل ذي أصبح فقالت: مالي في سبيل الله وجاريتها حرة إن لم يَفعل كذا وكذا ــ لشيءٍ كرهه زوجها ــ فحلف زوجها ألا يفعله، فسئل عن ذلك ابن عمر وابن عباس، فقالا: أما الجارية
_________
(1) في الأصل: (ذكر)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) الزيادة من الأوسط والسنن والمصنف.
تنبيه: وقع في بعض المواضع من الأصل (عثمان بن حاضر) وفي بعضها (عثمان بن أبي حاضر)، وهذا عائد إلى الاختلاف في ذلك؛ فقد غلَّط الإمام أحمد عبدالرزاق في قوله: عثمان بن أبي حاضر. وقال ابن حجر ــ أيضًا ــ: وهو وهمٌ.
انظر: التاريخ الكبير (3/ 200)، تهذيب الكمال (19/ 349)، تقريب التهذيب (4489).
(3) في المصنف: (حَلَفَت).

(1/257)


فتعتق، وأما قولها في سبيل الله: فتتصدق بزكاة مالها (1).
وقد رواه (2) البيهقي (3) من طريق عبد الرزاق ــ أيضًا ــ، وقال البيهقي: كذا في هذه الرواية؛ وقد روينا عن ابن عمر وابن عباس ما دَلَّ على جواز التكفير في الحلف بالصدقة (4).
وذكره ابن عبد البر (5) من رواية أبي القاسم البغوي عبد الله [70/ أ] بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا داود بن عمرو، حدثنا مسلم بن خالد، عن إسماعيل بن أمية، عن رجل يقال له: عثمان بن حاضر ــ قال إسماعيل: وكان رجلًا صالحًا قاصًّا (6) ــ أنَّ رجلًا قال لامرأته: اخرجي من ظهري (7)؛ فَأَبَتْ أن تخرج، فلم يزل الكلام بينهما حتى قالت: (8) هي تنحر نفسها، وكل مالها في سبيل الله إن خرجت، ثم بدا لها فخرجت. قال ابن حاضر: فأتتني فسألتني، فأخذت بيدها فذهبت بها إلى ابن عباس، فقصَّت عليه القصة. فقال ابن عباس: أما جاريتكِ فهي حرة، وأما قولك: تنحري نفسك؛ فانحري
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 485)، ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (12/ 112/ ح 8896)، والبيهقي في السنن الكبير (20/ 182/ ح 20081).
(2) في الأصل زيادة: (من طريق)؛ والصواب حذفها ليستقيم الكلام.
(3) في الأصل زيادة: (رواه)؛ والصواب حذفها ليستقيم الكلام.
(4) قوله: (في الحلف بالصدقة) ليست في السنن الكبير (20/ 173/ ح 20066).
(5) في الاستذكار (15/ 107).
(6) كذا في الأصل، وفي الاستذكار: (فاضلًا). وانظر ما سيأتي (ص 270).
(7) وفي الاستذكار: (اخرجي في ظهري).
(8) في الاستذكار زيادة: (جاريتها حُرَّة، و)، وانظر ما سيأتي في المقطع التالي.

(1/258)


بدنة، ثم تصدقي بها على المساكين. وأما قولكِ: مالي في سبيل الله؛ فاجمعي مالك كله فَأَخْرِجِي منه مثلما يجب فيه من الصدقة. قال: ثم ذهبتُ بها إلى ابن عمر فقال لها مثل ذلك، ثم ذهبت بها إلى ابن الزبير فقال لها مثل ذلك ــ قال: وأحسب أنه قال ــ: ثم ذهبتُ بها إلى جابر بن عبد الله فقال مثل قولهم. قال: وأما الثلاثة فقد أثبتهم [عن الزهري في هذه المسألة] (1).
هكذا في كتاب ابن عبد البر، وقد سقط فيه من السؤال: وجاريتها حرة (2)؛ فهذان طريقان، وقد زاد في هذا زيادة فتيا ابن الزبير وشك (3) في جابر، وفيه: أنهم أمروها في ذبح النفس: بنحر بدنة.
وقد رواه ابن حبيب (4) بطريق ثالثة بلفظ ثالث، رواه عبد الملك بن حبيب الأندلسي (5) في كتابه (الواضحة) (6) فإنه روى أَنَّ عليًّا وابن عباس
_________
(1) الزيادة من الاستذكار.
(2) وقد تقدم التنبيه على وجودها في المطبوع من الاستذكار؛ بل في جواب الصحابة ما يدلُّ على ذلك.
(3) يوجد سواد شديد، وهكذا قرأتها.
(4) يوجد سواد شديد، وهكذا قرأتها.
(5) هو عبد الملك بن حبيب بن سليمان الأندلسي القرطبي المالكي، فقيهٌ مشاركٌ في عِدَّةِ علوم، إلا أنه ضعيف في الرواية كما سيأتي، ولد سنة (174)، وتوفي سنة (238) وقيل (239).
انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 102)، الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (3/ 548)، تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي (ص 269).
(6) الواضحة في عدة مجلدات كما وصفها الذهبي، وبعضهم يزيد في اسمها (الواضحة في السنن والفقه)، وأشار الزركلي إلى أنَّ نسخةً منها مخطوطة في خزانة الرباط، وأثنى عليها جماعةٌ من المالكية كابن الفرضي حيث قال: (الواضحة لم يُؤلَّف مثلها). وتكلَّم فيها بعضهم.
سير أعلام النبلاء (12/ 103)، تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي (ص 270)، معجم المؤلفين (2/ 316)، الأعلام (4/ 157).

(1/259)


وابن عمر أفتوا فيمن نَذَرَ أنْ يهدي ابنه مائة من الإبل (1).
قال ابن حبيب: وحدثني ابن المغيرة، عن الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن عثمان بن حاضر أنهم ثلاثتهم سئلوا عن ذلك بعد ذلك، فقالوا: ينحر بدنة، فإن لم يجد فكبشًا (2).
ففي هذه الرواية ذُكِرَ عليٌّ بدل ابن الزبير، وأنهم أفتوا ببدنة، فإن لم تجد فكبشًا؛ وهذا مما يُبين وقوع الغلط في هذا الحديث قطعًا.
وهذا الأثر هو الذي اعتمد عليه أبو جعفر الهندواني وغيره من أصحاب أبي حنيفة حيث نقلوا عن العبادلة إيجاب ما عَلَّقَهُ من نذر اللجاج والغضب.
قال أبو جعفر الهندواني: ولزوم الوفاء به (3) قول العبادلة: ابن عمر
_________
(1) كلمة لم أستطع قراءتها، وفي المحلى (ص 996): (أن يهدي مائة من الإبل).
(2) ساق إسناد ابن حبيب: ابن حزم في المحلى (ص 996) وقال: وروِّينا من طريقٍ ساقطةٍ فيها ابن حبيب الأندلسي وذكرها.
وتكلَّم في روايته غيرُ واحدٍ حتى اتهم بالكذب، إلا أَنَّ الذي يظهر في ذلك ما قالَهُ الذهبي في الميزان (2/ 653): (الرجل أَجَلُّ من ذلك، ولكنه يَغلط). وقال في السير (12/ 106) بعد أنْ ذكر تضعيف ابن حزم له: (ولا ريبَ أنَّ ابن حبيب كان صحفيًا، وأما التعمُّد (أي: تعمد الكذب) فكلا).
وانظر ما سيأتي (ص 446).
(3) غير واضحة في الأصل، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام، وتقدم هذا النقل.

(1/260)


وابن عباس وابن الزبير (1). وهذا مما نقله عنه أصحاب الشافعي وأحمد، وذكره أبو الحسين القدوري (2) في شرح مختصر الكرخي (3).
[70/ ب] وقد أنكر نزاع الصحابة في ذلك مَنْ أنكره مِنْ أئمة أصحاب الشافعي وأحمد، وقالوا: إِنَّ هذا لا يُعرف في كتب الحديث؛ وفيه أنواع من العلل:
أحدها: أَنَّ ابن عمر عنه روايتان ثابتتان كل منهما تخالف ما روي عنه؛ إحداهما: قال ابن عبد البر: ذكر معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر في (4) رجل جعل ماله في المساكين إن لم يفعل كذا ثم حنث. قال: ماله في المساكين (5). فهذا فيه أنه جعل جميع المال في المساكين خلاف رواية عثمان بن حاضر.
وروي عن ابن عمر في حديث ليلى بنت العجماء أنه أفتى بكفارة يمين،
_________
(1) انظر ما تقدم (ص 191).
(2) هو أحمد بن محمد بن أحمد، المعروف بالقدوري، نسبةً إلى القدور جمع قِدْر، من فقهاء الحنفية، ولد سنة (362)، وتوفي سنة (428).
الجواهر المضية (1/ 247)، البداية والنهاية (15/ 662)، شذرات الذهب (5/ 132)، تاريخ بغداد (6/ 31).
(3) لم يظهر منها إلا الأحرف الأولى (الكر).
وقد ذكر في ترجمة القدوري أنَّ له شرحًا على مختصر الكرخي؛ وصفه ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة (5/ 28) وكحالة في معجم المؤلفين (1/ 242) بأنه في عِدَّةِ مجلدات.
(4) في الأصل: (عن)، والمثبت من الاستذكار.
(5) الاستذكار (15/ 106) وفيه أنه جعل ماله في سبيل الله.

(1/261)


وقد روي عنه أَنَّ هذه الرواية هي المتأخرة التي رجع إليها، كما روى (1) أن ابن أبي شيبة في مصنفه: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب أنَّ رجلًا جعلَ ماله في رتاج الكعبة. فقال ابن عمر: تَفِي بما قلتَ. قال: فذهب إلى عمر (2). فقال: أطعم عشرة مساكين، فرجعت إلى (3) ابن عمر، فقلت له ما قاله أبوه، فقال: [هو أعلم] (4).
وهذا الحديث معروف عن سعيد بن المسيب عن عمر؛ كما رواه أبو داود في سننه (5) من حديث يزيد بن زريع، حدثنا حبيب (6) المعلِّم، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب أنَّ أخوين من الأنصار كان (7)
_________
(1) كذا في الأصل، والذي يظهر أنَّ ابن تيمية – رحمه الله – نقلها من الاستذكار لمَّا لم يجدها في مؤلفات ابن أبي شيبة؛ فلذا قال: روى ــ أي ابن عبد البر ــ.
(2) غير واضحة، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3) كررت (إلى) مرتين.
(4) في مطبوعة الاستذكار: «هذا عِلْمٌ» وهو تحريف.
والأثر لم أجده في مصنف ابن أبي شيبة ولا في بقية كتبه التي بين يدي، وإنما رأيتُ ابن عبد البر نقله في الاستذكار (15/ 108) وقال: وذكر ابن أبي شيبة ثم ساق الأثر.
(5) برقم (3272).
وقد تقدم تخريجه في (ص 225).
(6) في الأصل تحتمل: (حسين)؛ والمثبت من مصادر التخريج.
(7) الكلام هنا غير واضح، والمثبت من السنن.

(1/262)


بينهما ميراث، فَسَأَلَ أحدُهما صاحبَه القسمة، فقال: إنْ عُدتَ تسألني القسمة، فكل مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر: إِنَّ الكعبة غنية عن مالك، كَفِّرْ عن يمينك وقاسم أخاك؛ سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك».
فقد يكون سعيد هو المفتي بقول عمر، فلما ذكر له فتيا ابن عمر أمسك عن الفتيا باللزوم وقال: هو أعلم، سواء كان ذلك في حياة عمر أو بعد موته؛ ففيه توقف عن ذلك، وتسليمٌ أَنَّ أباه أعلم بهذه المسألة منه، وأبوه أفتى بكفارة يمين.
والمقصود هنا: أن ابن عمر – رضي الله عنهما – قد ثبت عنه من عدة طرق ما يخالف حديث عثمان بن حاضر من رواية سالم عنه ورواية أبي رافع، وكل من هذين أحفظ بكثير وأفقه من عثمان بن حاضر، وقد انضم إليهما الرواية [71/ أ] الثالثة عن ابن عمر؛ فكيف يجزم عن ابن عمر بما خالفه فيه هؤلاء؟
والحلف بالعتق هو ــ أيضًا ــ في حديث ليلى الذي هو أصح باتفاق أهل العلم من حديث عثمان بن حاضر.
والعلة الثانية: أَنَّ ابن عباس قد ثبت عنه ضد ما في حديث عثمان بن حاضر؛ روي ذلك من بعض طرق حديث ليلى بنت العجماء.
وقال أبوبكر الأثرم: حدثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا عمران، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى: أَنَّ امرأةً سألت ابن عباس أَنَّ امرأة جعلت بردها عليها هديًا إِنْ لبسته. فقال ابن عباس: أفي غضبٍ أم رضا؟ قالوا: في غضب. قال:

(1/263)


إِنَّ الله لا يُتَقرب إليه بالغضب، لتكفر عن يمينها (1).
قال: وحدثني ابن الطباع، حدثنا أبو بكر بن عياش (2)، عن العلاء بن المسيب، عن يعلى بن [نعمان] (3)، عن عكرمة، عن ابن عباس سئل عن رجل جعل ماله في المساكين. فقال: أمسك عليك مالك، وأَنْفِقْهُ على عيالك، واقْضِ دينك، وكَفِّرْ يمينك (4).
وقال البخاري (5): قال ابن عباس الطلاق عن وَطَر، والعِتقُ ما ابتغي به وجه الله.
فهذه أسانيد ثابتة عن ابن عباس بخلافِ ما في حديث عثمان بن حاضر، وأنه جعل في التعليق الذي يُقصد به اليمين كفارة يمين، ولم يُلزم المعلق ما عَلَّقَهُ كما في المعلق بالوفاء وجعله لازمًا؛ ومعلومٌ أَنَّ بعض هذه علة في حديث عثمان بن حاضر؛ فكيف بمجموعها؟
وهذا أثبت عن ابن عباس من ذاك. فَإِنِ المعترضُ يجعلها روايتين عن ابن عباس.
_________
(1) لم أجد هذا النص فيما بين يدي من كتب الأثرم، إلا أنَّ المصنف نقل هذا الأثر عن الأثرم في عدة مواضع من كتبه منها: مجموع الفتاوى (35/ 256، 340)، الفتاوى الكبرى (4/ 119)، القواعد الكلية (ص 465)، وسيذكره فيما بعد.
(2) في الأصل: (عابس)، والمثبت من كتب ابن تيمية الأخرى.
(3) بياض مقدار كلمة، والمثبت من القواعد الكلية (ص 466) وغيرها.
(4) لم أجد هذا النص فيما بين يدي من كتب الأثرم، إلا أنَّ المصنف نقل هذا الأثر عن الأثرم في عدة كتب منها: مجموع الفتاوى (35/ 256، 340)، الفتاوى الكبرى (4/ 119)، القواعد الكلية (ص 466).
(5) في باب الطلاق في الإغلاق والكره … إلخ.

(1/264)


قيل: حَصَلَ المقصود؛ فإنَّا نحن نكتفي بإثبات النزاع، لم نَدَّعِ في ذلك إجماعًا، وإنما اعتمدنا في مسائل النزاع على الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة لفظًا ومعنى، وهذا الاعتبار والقياس الصحيح.
فإنْ قيل: ما ذكرتم عن ابن عمر وابن عباس من الإفتاء بالكفارة في التعليق الذي يقصد به اليمين يعارض حديث ابن حاضر في النقل عنهما، عن (1) ابن الزبير لا معارض له عنه، وكذلك في فتياه (2) إنْ كان قال ذلك.
قيل: فتيا ابن الزبير مذكورةٌ من طريق مسلم بن خالد وفيه نظر (3)، إذا ثبت ذلك عن ابن الزبير عارضه مَنْ لم يختلف النقل عنهم أنهم أفتوا في العتق بكفارة [71/ ب] مثل حفصة وزينب.
وإذا قيل: ذِكْرُ العتقِ انفردَ به سليمان التيمي.
قيل: لو انفرد به سليمان التيمي لكان الاحتجاج بانفراده عَمَّن سليمان أثبت منه (4) أولى من الاحتجاج بانفراد مسلم بن خالد عمن هو أوثق من مسلم بن خالد وهو معمر؛ وقد تابع سليمان التيمي أشعث بن عبد الملك وجسر بن الحسن.
فتبين أنه كيفما أدير الأمر؛ فالقول بأنَّ في الصحابة من أفتى في الحلف بالعتق بالكفارة أقوى من القول بأنَّ فيهم من أفتى بأنه لا كفارة فيه؛ فإنْ صَحَّا ثبت النزاع، وإنْ كان الصحيح أحدهما؛ فهو: إثبات التكفير دون نفيه ــ بلا
_________
(1) كتب الناسخ فوقها حرف (ظ)، ولعل الصواب: (وعن).
(2) في الأصل: (فتيايه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3) كما في (ص 258 – 259).
(4) قاعدة العقود (2/ 327).

(1/265)


ريب ــ بعد معرفة الطرق وأحوال رواتها ومعرفة ما نقل في ذلك عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ.
العلة الثالثة: أَنَّ في رواية معمر أنها استفتت ابن عمر وابن عباس، وأَنَّ اليمين كانت جملتين (إِن فعلت فمالي في سبيل الله وجاريتها حرة). وفي رواية مسلم بن خالد: أنها حلفت بثلاثٍ هي: (تنحر نفسها، وكل مالها في سبيل الله، وجاريتها حرة) وأنه استفتى ابن الزبير ــ أيضًا ــ وشك (1) في جابر، وهذا اختلاف في الرواية.
فإنْ قيل: أحد الروايتين أثبتت ما سكت (2) الآخر عنه.
قيل له: وهكذا في حديث ليلى بنت العجماء، فَلِمَ جَعَلَ هذا علة في حديث ليلى، ولا يكون علة في حديث هذه؟!
ونحن إذا عللنا بهذه (3) لأنَّ هذه الرواية الثالثة رواها مسلم بن خالد، وليس هو بالحافظ المتقن مثل: سليمان التيمي ومن وافقه كأشعث وجسر ابن الحسن، ومعمر أحفظ من مسلم، ولهذا لم نجزم بحفظه للزيادة، وسليمان أحفظ من حميد وقد تابعه غيره، وليس التارك بأكثر من المثبت.
العلة الرابعة: أن في هذه أن هذين الصحابيين أفتياهما من المال بزكاته، وهذا القول لا يَعرفه أهل العلم عن أَحَدٍ قبل ربيعة، وهو من رَأْيِ ربيعة الذي أنكره الناس عليه، لم يُعْرف له فيه سلف ولا تَبِعَهُ فيه خلف؛ ولو كان هذا
_________
(1) هكذا قرأتها.
(2) مقدار كلمة أو كلمتين لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ.
(3) كذا؛ أي: بهذه العلة.

(1/266)


ثابتًا عن ابن عمر وابن عباس لم يكن الأمر كذلك، ولم يجعل هذا مما شَذَّ به ربيعة (1).
العلة الخامسة: أن فيه أن في (2) نحر نفسه بدنة؛ ومعروف عن ابن عباس أن في ذلك شاة أو كفارة يمين، [72/ أ] وهذا ثابت عن ابن عباس بالأسانيد الثابتة، وجمهور العلماء اتبعوا ابن عباس في ذلك؛ كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما، ومنهم من لم يوافقه كالشافعي.
وعمدة الفقهاء في ذلك: اتباع الصحابة؛ فلو كان قد ثبت عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير أو جابر أنهم قالوا في ذلك ببدنة= لكان اتباع هذا أولى، وهذا حجة على من قال: إنَّ الإفتاء باللزوم في نذر اللجاج والغضب هو قول العبادلة، وهم لا يوافقون العبادلة لا في إيجاب بدنة ولا في إيجاب زكاة المال، بل ليس من الفقهاء مَنْ عُرِفَ عنه أنه أخذ بهذا القول المنقول عن العبادلة في هذا الجواب، فإنه لم ينقل (3) عن أحدٍ أنه أفتى بوجوب الزكاة إلا ربيعة، وهو لا يوافقهم على إيجاب البدنة، والذين وافقوا على لزوم العتق كالأربعة لم يقولوا بسائره في إيجاب البدنة والاجتزاء بزكاة المال، وإيجاب البدنة تغليظ والاجتزاء بزكاة المال تخفيف؛ وهذا غير مناسب.
وأيضًا؛ فعثمان بن حاضر هذا ليس من المعروفين بضبط العلم، ولا هو مشهورًا يُعرف ضبطه بكثرة روايته، ولا روى له أصحاب الصحيح شيئًا لا البخاري ولا مسلم، ولم يرو له من أهل السنن لا النسائي ولا الترمذي،
_________
(1) قاعدة العقود (2/ 330 وما بعدها)، وقد تقدم ذكر قول ربيعة (ص 251 – 252).
(2) بياض مقدار كلمة، ولعل تقدير ذلك ما أثبتُّ.
(3) في الأصل: (لو نقل).

(1/267)


وإنما روى له أبو داود وابن ماجه (1).
وفي سنن ابن ماجه عدة أحاديث موضوعة نحو بضعة عشر حديثًا (2)؛ مثل الحديث الذي رواه في فضل قزوين (3)،
وفي رجال أبي داود مَنْ (4) لا يعتمد على ما انفرد به، بل ينفرد بما هو كذب؛ مثل الذي روى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان له كاتب اسمه السجل (5) رواه من طريق المراوزة (6)؛
وهذا مما يجزم
_________
(1) تهذيب الكمال (19/ 349).
(2) مسألة المرابطة بالثغور (ص 60)، وجامع المسائل (5/ 364).
(3) أخرجه تحت رقم (2780) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – مرفوعًا.
وحَكَمَ عليه بالوضع: ابن الجوزي (2/ 316) وقد تعجب من إخراج ابن ماجه له، والذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 20) وقال: فلقد شان ابن ماجه سننه بإدخاله هذا الحديث الموضوع فيها، وابن القيم في زاد المعاد (1/ 435)، وبرهان الدين ابن القيم في تحقيق القول في سنة الجمعة (ص 68)، والسيوطي في اللآليء المجموعة (1/ 423)، وابن عَرَّاقَ في تنزيه الشريعة المرفوعة (2/ 50)، والشوكاني في القواعد المجموعة (ص 432).

وانظر: جامع المسائل (5/ 364).
(4) في الأصل: (فإنه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(5) في الأصل: (السجيل)، والمثبت من السنن وباقي المصادر.
(6) أخرجه أبو داود (2935)، والنسائي في السنن الكبرى (11272)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 170/ ح 12790)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 1529)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (3/ 1454)، والبيهقي السنن الكبير (20/ 371/ ح 20428) وَ (20/ 372/ ح 20429) من حديث نوح بن قيس، عن يزيد بن كعب، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -.
ورواه أبو نعيم (3/ 1453) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
قال الطبري في تفسير الآية (104) من سورة الأنبياء (16/ 425) بعد أَنْ أَخرجَ هذا الأثر وغيره: وأولى الأقوال عندنا بالصواب قول مَنْ قال: السجل في هذا الموضع الصحيفة، لأنَّ ذلك هو المعروف في كلام العرب، ولا يعرف لنبينا كاتب كان اسمه السجل، ولا في الملائكة مَلَكٌ ذلك اسمُهُ.
وقال ابن عدي في الكامل (7/ 205): وهو غير محفوظ.
وقال ابن كثير في تفسيره (5/ 383): وهذا منكرٌ جدًا من حديث نافع عن ابن عمر، لا يصحُّ أصلًا؛ وكذلك ما تقدم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا يصحُّ أيضًا. وقد صرَّحَ جماعةٌ من الحفَّاظ بوضعه ــ وإنْ كان في سنن أبي داود ــ منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزي ــ فَسَحَ الله في عمره ونسَأَ في أجله وختمَ له بصالح عمله ــ وقد أفردتُ لهذا الحديث جزءًا على حِدَةٍ، ولله الحمد، وقد تَصدَّى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث وردَّهُ أتمَّ رَدٍّ …. وأمَّا مَنْ ذكر في أسماء الصحابة هذا؛ فإنما اعتمد هذا الحديث لا على غيرِهِ، والله أعلم.

وقال ابن القيم في تهذيب السنن (3/ 1467 وما بعدها): سمعتُ شيخنا أبا العباس ابن تيمية يقول: هذا الحديث موضوع، ولا يُعرف لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – كاتب اسمه (السجل) قط، وليس فيهم من اسمه (السجل)، وكُتَّاب النبي معروفون، لم يكن فيهم مَنْ يُقال له (السجل). قال: والآية مكية، ولم يكن لرسول الله كاتب بمكة، والسجل هو: الكتاب المكتوب.
وقال ابن كثير في البداية والنهاية (8/ 340): وقد عرضتُ هذا الحديث على شيخنا الحافظ الكبير أبي الحجاج المزي فأنكره جدًّا، وأخبرته أنَّ شيخنا العلامة أبا العباس ابن تيمية كان يقول: هو حديثٌ موضوعٌ وإِنْ كانَ في سنن أبي داود. فقال شيخنا المزي: وأنا أقولُهُ.
وانظر: السلسة الضعيفة (12/ 399/ ح 5676)، وضعيف أبي داود (الأم) (2/ 412)، والبداية والنهاية (8/ 339 وما بعدها)، والمصباح المضي في كُتَّاب النبي الأُمي (1/ 104).

(1/268)


بأنه كذب.

(1/269)


فقد تبين أن ألفاظ الحديث تقدح في صحته، وتدل على أنه غير محفوظ، وأنَّ الثقات الأثبات يخالفون هذا ابن حاضر فيما رواه لو كان من العلماء المعروفين بالضبط؛ فكيف ونحن لا نعلم أنه ضابط لما يرويه، كونُهُ قاصًّا (1) ورجلًا صالحًا (2) لا يوجب كونه ضابطًا، بل هو من أمارات عدم حفظه (3)؛ فإنَّ عامة القصاص الصالحين كصالح المُرِّي ومالك بن دينار وغيرهما ممن (4) [72/ ب] كان فيه صلاح وكان يقص، لا يضبطون ألفاظ الحديث، ولا يحتج بمجرد روايتهم في الأحكام، فضلًا عن أنْ يُعَارَضَ بروايتهم ما روته الثقات الضابطين الصالحين (5).
* * * *
_________
(1) لم يظهر من الكلمة إلا حرف القاف والألف، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام إن شاء الله.
(2) في الأصل زيادة: (كما)، وبحذفها يستقيم الكلام.
(3) كذا قرأتها.
(4) كذا قرأتها.
(5) مجموع الفتاوى (18/ 375)، الفتاوى الكبرى (5/ 356)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 40)، بيان تلبيس الجهمية (6/ 127 وما بعدها)، منهاج السنة (2/ 468)، المنتقى من منهاج الاعتدال (ص 95).
وانظر: تحذير الخواص من أكاذيب القُصاص للسيوطي.

(1/270)


فصلٌ
وأما قول المعترض:
(فكلامُ ابنِ عباس وابنِ عمر فيه نَصٌّ بالتفصيل لا يَحتمل التأويل، وهو يُبَيِّنُ لنا أنَّ مرادهما في أثر ليلى وفتيا ليلى بنت العجماء= أَنَّ مرادهما ما عدا العتق) (1).
فيقال له:
بل كلام ابن عباس وابن عمر ــ إِنْ صحَّ ــ فهو نص في التسوية في الحلف بالعتق والصدقة، وفي الرواية الأخرى: ونحر نفسه؛ وأنَّ الواجب في جميع ذلك اللزوم لا الكفارة.
ورواية ليلى ــ أيضًا ــ صريحةٌ في التسوية بين العتق وغيره، والمنقول عن الصحابة نفيًا وإثباتًا لا يدل إلا على التسوية بين الحلف بالعتق وغيره لا على قول مَنْ فَرَّقَ؛ فمن فَرَّقَ فقد خالف جميع ما نُقِلَ عن الصحابة، وهذا هو المخالف لإجماع الصحابة إذ لم يُعرف عن الصحابة في ذلك نزاع.
فهذا الحديث نَصٌّ على خلاف من يوجب الوفاء بالنذر المحلوف به من الفقهاء، ولم يَقُلْ بهذا أحد من الفقهاء؛ فلا أبو حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد ولا أحد من العلماء المعروفين غيرهم يقول بما في هذا الحديث؛ فهو نص في خلاف قول جميع العلماء الذين تُعرف أقوالهم، فلم يقل أحد من العلماء الذين تعرف أقوالهم أَنَّ في الحلف بصدقة المال الزكاة وفي الحلف بنحر نفسها بدنة، بل ربيعة يعرف عنه بعض هذا.
_________
(1) «التحقيق» (37/ أ).

(1/271)


وأيضًا؛ فالروايات الثابتة عن ابن عمر وابن عباس توافق حديث ليلى بنت العجماء وتناقض هذا الخبر؛ وحينئذ، فلا بُدَّ من أحد أمرين:
إما أَنْ يقال: إِنَّ الصحابة أفتوا بهذا تارة وبهذا تارة؛ فيكون عن ابن عمر وابن عباس روايتان.
وإما أَنْ يقال: بل إحدى الروايتين هي الصحيحة دون الأخرى؛ وحينئذٍ لا يستريب عالم بالمنقولات في وجوب تقديم رواية من روى التكفير عنهم في هذه الأيمان على رواية من روى لزوم ما حلف به، ولم ينقل أحد منهم استثناء العتق.
فقول [73/ أ] القائل: إِنَّ مرادهما في حديث ليلى بنت العجماء ما عدا العتق؛ قولٌ لم ينقله (1) أحدٌ عنهم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، واستدلالٌ بما لا يدل، بل يدل على نقيض ذلك من التسوية بين العتق وغيره من كلا الروايتين؛ فليتدبر اللبيب ما اعتمد عليه مَنْ يُقَوِّل الصحابة ما لم يقولوه من التفريق بين العتق وغيره، فإنه لا يدل ما يذكرونه إلا على نقيض مطلوبهم لا على مطلوبهم.
فصلٌ
وأما مَنْ ذكر في حديث ليلى من قوله: وأعتقي جاريتك؛ فهذا غلط محضٌ، لم ينقله أحد في حديث ليلى؛ كما قد بسط في موضعه (2).
_________
(1) في الأصل: (يقله).
(2) قال في المجموع (33/ 195): (وأما ما ذكره من الزيادة في حديث أبي رافع، وأنهم قالوا: (أعتقي جاريتك) فهذا غلطٌ؛ فإنَّ هذا الحديث لم يذكر فيه أحدٌ أنهم قالوا: (وأعتقي جاريتك). وقد رواه أحمد والجوزجاني والأثرم وابن أبي شيبة وحرب الكرماني وغير واحدٍ من المصنفين فلم يذكروا ذلك.
وكلام أحمد في عامة أجوبته يبيِّن أنه لم يذكر أحد عنهم ذلك، وإنما أجاب بكون الحلف بعتق المملوك إنما ذكره التيمي.
وأبو محمد نقلَ ذلك من جامع الخلال، والخلال ذكر ذلك ضمن مسألة أبي طالب ــ كما قد بيَّنَّاه ــ؛ وذلك غلطٌ على أحمد. وأبو طالب له ــ أحيانًا ــ غلطاتٌ في فهم ما يرويه؛ هذا منها).
وانظر: مجموع الفتاوى (33/ 190)، وقاعدة العقود (2/ 337 وما بعدها)، والفروع (9/ 99)، وما سيأتي (ص 859 وما بعدها).

(1/272)


فصلٌ
(قال المجيب:
قلت: فهذا الذي ذكره الإمام أحمد – رضي الله عنه – في أجوبته، ولكنَّ أصولَهُ [المنصوصة عنه في غير موضع] تقتضي أنه تجزئه كفارة يمين، فإنه قد نَصَّ في غير موضع: أَنَّ الاستثناء لا يكون إلا في اليمين المكفَّرة، ونَصَّ على أنه إذا حلف بالطلاق والعتاق كان له أن يستثني، بخلاف ما إذا أوقع الطلاق والعتاق فإنَّ مذهبَهُ أنه لا يَنفع الاستثناء قولًا واحدًا، كما نقل ذلك عن ابن عباس، وهو مذهب مالك وغيره.
وقد نَقَلَ عنه الشيخ أبو حامد الإسفراييني ومن تبعه: التفريق في الاستثناء بين الطلاق والعتاق؛ وذلك غلطٌ عليه، وإنما هو قولُ القدرية، فإنهم يقولون: إنَّ المشيئةَ بمعنى الأمر، والعتق طاعة بخلاف الطلاق، فإذا قال: عبدُهُ حر إِنْ شاء الله وَقَعَ العتق، وإذا قال: امرأته طالق إن شاء الله لم يقع

(1/273)


الطلاق، ورووا في هذا حديثًا مسندًا) (1).
والجواب:
أَنَّ هذا كلام مَنْ لم يفهم ما ذكره المجيب، ولا ما هو عادة أهل العلم من تخريج الجواب في إحدى المسألتين إلى الأخرى؛ فإنَّ المجيب لم يَدَّعِ أَنَّ أحمد سكت عن الجواب في العتق، ولا أَنَّ مذهبه المنصوص عنه هو الكفارة، حتى يقال: خاصُّ كلامِهِ يقضي على عامِّه.
بل المجيب قد ذكر أَنَّ قوله المنصوص عنه هو الفرق بين الحلف بالعتق وغيره، وهذا قول الشافعي وإسحاق وغيرهما، ومع التصريح بالفرق لا يقال إنهم صَرَّحُوا (2) بالتسوية، لكن يقال: هذا هو القول المنصوص، وقد نص أحمد في مواضعَ أُخَر على ما يناقض هذا؛ فيكون له قول آخر مخرَّج يناقض هذا القول المنصوص.
[73/ ب] كما جرت عادة أتباع الأئمة يفعلون ذلك في أجوبتهم إذا قضوا (3) في مسألتين متماثلتين على جوابين متناقضين؛ فإن لم يكن بينهما فرق يَذْهَبُ إليه مجتهد، فهم في مثل هذا متفقون على التخريج، لئلا يكون الإمام قال قولًا لا يجوز أن يذهب إليه مجتهد.
وإِنْ كان بينهما فَرْقٌ يذهب إليه مجتهد؛ فمنهم من يُخرِّج إذا رأى ذلك
_________
(1) «التحقيق» (37/ أ – ب)، وما بين المعقوفتين من «التحقيق» ومجموع الفتاوى (33/ 191).
(2) يوجد سواد شديد، وهكذا قرأت الكلمة.
(3) كذا في الأصل، ولعلها: (وقفوا).

(1/274)


الفرق ضعيفًا أو غير مناسب لأصول الإمام، ومنهم من يقر النص إذا رأى ذلك الفرق.
ثم إِنْ كان ذلك الفرق عنده قد دَلَّ الشرع عليه أبطل قول المُسَوِّي، وإن كان الفرق مما لا يمكنه الاستدلال عليه جعل قول الإمام وإن كان ضعيفًا في الشرع كما إذا صرَّحَ بالفرق؛ فإنْ كان صاحب المذهب قد نصَّ على تعليل أحد الحكمين بعلة عامة، فإنهم يقولون ــ إِنْ كان ممن يقول بتخصيص العلة ــ: لم يجز تخريج قول آخر له، وإِنْ كان ممن لا يقول بتخصيص العلة لزم التخريج طردًا لعلته؛ هكذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره (1).
وقد اختلف أصحاب أحمد في تخصيص العلة؛ وذكروا فيه قولين؛ والذي يدلُّ عليه المشهور من كلامه وكلام سائر الأئمة: أَنَّ العلة يجوز تخصيصها لفوات شرطٍ أو وجود مانع، وأما التخصيص مع تماثل الصورتين في المعاني (2) الموجبة للحكم والمانعة منه فلا، وإذا قُدِّرَ أَنَّ بعض الأئمة يجوِّزُ تخصيص العلة لا لفوات شرط ولا لوجود مانع كما ذكر
_________
(1) العدة في أصول الفقه (4/ 1386 وما بعدها)، والمسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين (ص 71)، وتهذيب الأجوبة (2/ 867)، والمسودة (2/ 938)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص 138)، وتغير الاجتهاد (3/ 151)، والتمذهب (1/ 300، 514).
وانظر ما سيأتي (ص 288 – 290).
(2) هكذا قرأتها.

(1/275)


عن القائلين بالاستحسان (1) لمجرد دليل، بلا فرق معنوي، وهو مما يستعمله كثير من الفقهاء؛ فهذا ضعيف (2).
وحينئذٍ؛ فإذا خُرِّجَ قول آخر على قول ذلك الفقيه فمعناه: أنه يلزمه أن يقوله لا أنه موجب قوله، ونحن في هذا القول الذي خرجناه من كلام أحمد قد بَيَّنَّا أنه موجب قوله الذي نص عليه في مواضع أخر، لا أنه لازم قوله، بل إِنْ صحَّ قوله في تلك المواضع لزم إجزاء الكفارة في الحلف بالعتق، فلا بُدَّ من أحدِ أمرين:
إما أنْ يُصحح قوله الذي ذكره في أَنَّ الاستثناء لا يكون إلا في يمين مكفرة، وأنَّ الحلف بالطلاق والعتاق يكفر؛ فيكون في الحلف بهما استثناء.
وإما أنْ يُصَحَّحَ قولُهُ في أَنَّ الحلف بالطلاق والعتاق لا يكفران؛ فلا يكون فيهما استثناء.
[74/ أ] وأما القول بأنهما يكفران ولا استثناء فيهما؛ فهذا مناقض لقوله: إنه لا استثناء إلا فيما يكفر، فلا يمكن الجمع بين صحة هذا القول وصحة هذا القول؛ ومن اعتقد أنه يمكن الجمع بين صحة القولين فهو مسفسط.
وقوله: (لا استثناء إلا فيما يكفر)؛ لم يذكره مذهبًا له ليقال إنه لخصوصه، بل ذكره حجة له يحتج به على من يستثني في إيقاع الطلاق والعتاق.
_________
(1) في الأصل: (بالاستحباب)، ولعل الصواب ما أثبتُّ. انظر: قاعدة في الاستحسان – ضمن جامع المسائل (2/ 186) -، وما سيأتي (ص 378).
(2) وفي هامش النسخة كتب الناسخ: حاشية من خطِّ الشيخ لفظه في أصول الفقه.
وانظر: تنبيه الرجل العاقل (2/ 369 وما بعدها)، ومباحث التخصيص عند الأصوليين (ص 85)، وأثر تخصيص العلة في الفروع الفقهية (ص 35 وما بعدها).

(1/276)


فقال أحمد: السنة إنما وردت بالاستثناء في الأيمان، وإيقاعُ الطلاق والعتاق ليس بيمين، لأنَّ اليمين لا تكون إلا مكفَّرة (1)، لأنَّ القرآن قد دَلَّ على أَنَّ كل يمين من أيمان المؤمنين مكفرة؛ فلو كان إيقاع الطلاق والعتاق يمينًا لكان فيه الكفارة؛ فإنها من لوازم اليمين، فإذا لم يكن فيها كفارة لم يكونا من الأيمان، فلا يدخلان في لفظ النص الوارد في الاستثناء ولا في معناه، لأنه إنما ورد في اليمين فلو كان ذلك يمينًا لكانَ مكفرًا، فلمَّا لم يكن مكفرًا لم يكن يمينًا، فلا يكون فيه استثناء، فإنَّ الاستثناء يستلزم التكفير، فكل ما فيه استثناء ففيه تكفير، والكفارة لازمة للاستثناء فإذا انتفت (2) الكفارة اللازمة للاستثناء انتفى الاستثناء الملزوم؛ فهذا صريح حقيقة كلام الإمام أحمد الذي استدل به على أن الطلاق والعتاق لا يكفران.
فإذا قال ــ مع هذا في إحدى الروايتين عنه ــ: إن الحلف بالطلاق والعتاق فيهما استثناء، وفرَّق بين إيقاعهما وبين الحلف بهما كما يفرق بين إيقاع النذر وبين الحلف به= فلم تختلف نصوصه، ومذهبه أن الحلف بالنذر فيه الكفارة، وفيه ــ أيضًا ــ الاستثناء= لزم من ذلك إذا جعل في الحلف بهما الاستثناء: أن يكون في الحلف بهما الكفارة كما في الحلف بالنذر، وإلا فالقول بأن فيهما الاستثناء دون التكفير يبطل قوله: (إنما يكون الاستثناء فيما يكفر) (3) حيث أثبت في الحلف بهما الاستثناء دون الكفارة.
_________
(1) مسائل الإمام أحمد للكوسج (4/ 1578 – 1579) (5/ 2447 – 2465)، زاد المسير (5/ 128).
(2) في الأصل: (انتفى)، والصواب ما أثبتُّ.
(3) نقله أبو طالبٍ عنه؛ كما ذكره ابن تيمية في الفتوى المعترض عليها (33/ 193). وانظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد (12/ 530 – 533)، وما سيأتي (ص 285، 860 – 862).

(1/277)


وإذا قيل: هذا تناقضٌ منه.
قيل: هكذا جميع الأقوال المخرَّجة للعلماء جميعهم؛ فإنَّ العالم الذي له في المسألة قولان أو ثلاثة معناه: أن له فيها قولين متناقضين، يناقض أحدهما الآخر، أو ثلاثة أقوال متناقضة، ليس المراد أنه يمكن الجمع بينهما، فإنه لو كان كذلك لم يكن (1) [74/ ب] له إلا قول واحد، ولكن العالم يتكلم باجتهاده وبحسب علمه، فيظهر له تارة رجحان أحد القولين فيفتي به، ويظهر له تارةً رجحان القول الآخر فيفتي به.
والأنبياء ــ صلوات الله عليهم ــ يدخل في شرعهم المنسوخ والناسخ، لكن الحكم المنسوخ الذي شرعه الله والناسخ كلاهما كان شرعًا لله باطنًا وظاهرًا في وقته؛ كاستقبال القبلة، فإنَّ الله ــ تعالى ــ لما أمر رسوله ابتداءً باستقبال الصخرة كان هذا شرع الله ودينه باطنًا وظاهرًا، ثم لما حَوَّل القبلة وأمر باستقبال القبلة كان هذا شرعَ الله ودينه باطنًا وظاهرًا، لا يقال: إنه كان لله في الباطن حُكْمٌ لم يعرفه النبي وقت الحكم المنسوخ، بخلاف العالم فإنه ليس بنبي يُوحَى إليه، وإنما يجتهد ليعرف الحكم الذي استقر عليه شرع الرسول، فقد يتبين له تارة قولًا وتارة قولًا يناقضه، ثم قد يكون القول الأول هو الصواب في نفس الأمر، وقد يكون الثاني هو الصواب (2).
ولهذا اختلف الناس في الإمام إذا كان له قولان متقدم ومتأخر، بل كان له قول وصرَّحَ برجوعه عنه، هل يجوز أَنْ يحكى له قولان أو لا يُحكَى عنه إلا القول المتأخر، واختلف في ذلك أصحاب أحمد على قولين؛ منهم من
_________
(1) هنا سواد في الأصل، وما أثبته احتمال يستقيم به الكلام إن شاء الله.
(2) مجموع الفتاوى (29/ 41)، الفتاوى الكبرى (4/ 27).

(1/278)


يقول: إنَّ القول القديم لا يجوز أن يجعل مذهبًا له مع رجوعه عنه لا سيما مع تصريحه بالرجوع عنه، ومنهم مَنْ يُفَرِّق بين ما صَرَّح برجوعه عنه وما لم يصرح بذلك، ومنهم من يَحكي له القولين مع تصريحه بالرجوع، ويقول: هو قال ذلك القول باجتهاده وهذا باجتهاده، وقد يكون القول المتقدم هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة (1).
والعالم ليس كالنبي الذي إذا نسخ قولًا علم قطعًا أن المنسوخ ليس بشرعٍ لله، بل قد يكون القول المتقدم الذي رجع عنه العالم هو دين الله في نفس الأمر.
قالوا: ونحن نذكر أقوال العلماء لنستدل (2) بها على شرع الله ورسوله؛ فإنهم وسائل ووسائط بيننا وبين الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وإذا جاز أن يكون قوله الأول هو قول الرسول دون الثاني، وجاز أن يكون الثاني هو قول الرسول =لم يمكنا [75/ أ] أن نجزم بأن القول الأول باطل في نفس الأمر.
وإذا قال القائل: القول المتقدم ليس هو مذهبه.
قيل له: إِنْ أردت أنه لم يكن مذهبًا له؛ فهذا غلط، بل كان مذهبًا له في بعض الأوقات، وإن أردت أنه ليس هو مذهبه الذي مات عليه؛ فهذا صحيح، لكن هذا لا يفيدنا أن يكون هو شرع الرسول في نفس الأمر، بل نحن نذكر أنه كان يذهب إلى هذا ثم ذهب إلى نقيضه، فكان هذا قولُه أولًا ثم صار هذا قوله ثانيًا، وإذا رَجَّحَتِ الأدلةُ الشرعيةُ أحدَ القولين رَجَّحْنَاه،
_________
(1) التمذهب (3/ 1195)، تغير الاجتهاد (3/ 164) والمراجع التي أحالا عليها. وانظر ما سيأتي (ص 736، 746).
(2) هكذا قرأتها.

(1/279)


وإذا كان أشبه بأصوله ونصوصه رَجَّحْنَاه في مذهبه.
ومن لم يكن مقصوده إلا تقليده المحض من غير تصرف لا في مذهبه ولا نظرٍ إلى ما قاله أصحابه وسائر العلماء فإنما يقلده في القول المتأخر، لكن هذا ينبني على جواز تقليد الميت، وفيه للناس قولان؛ والجمهور على جوازه، وليس هذا موضع بسط ذلك (1).
وأما قول المعترض: (إنَّ الدليل الذي ركبَّهُ من هاتين المقدمتين يتوقف على عموم الأولى) (2).
فيقال له: إن لم تكن تلك المقدمة عامة= بطل كلام أحمد واحتجاجه، فإنه حينئذٍ يقال له: ليس كل ما لا يكون مكفَّرًا لا يكون فيه استثناء، بل يكون الاستثناء فيما لا يكفر؛ وحينئذٍ فيمكن أن يكون الطلاق والعتاق مما فيه استثناء بدون التكفير، والتخريج من منصوص أحمد إنما هو بتقدير أن يكون كلامه صحيحًا، فإن كان كلامه صحيحًا فما ذكرناه لازم له لزومًا لا محيد عنه.
_________
(1) مجموع الفتاوى (20/ 585) (23/ 399)، الفتاوى الكبرى (2/ 329)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 558)، المسوَّدة (2/ 934)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 121 – 124)، إعلام الموقعين (6/ 201).
وانظر ما سيأتي (ص 745 وما بعدها).
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (6/ 129): (والثاني: الجواز؛ وعليه عمل جميع المقلِّدين في جميع أقطار الأرض، وخيار ما بأيديهم من التقليد: تقليدُ الأموات! ومَنْ مَنَعَ منهم تقليد الميت؛ فإنما هو شيءٌ يقولُه بلسانِهِ، وعملُهُ في فتاويه وأحكامه بخلافِهِ. والأقوال لا تموت بموت قائلها؛ كما لا تموت الأخبار بموت رواتها وناقليها).
(2) «التحقيق» (37/ ب).

(1/280)


وإِنْ قيل: بل كلامه هذا باطل.
قيل: ليس كلامه هذا بأولى من إبطال قوله: (إِنَّ الحلف بالعتاق والطلاق لا كفارة فيه)؛ وحينئذٍ فليس لقائل أن يقول: قوله هذا هو الصواب دون الأول بأولى من العكس، بل الدليل الشرعي يدل على أَنَّ هذا القول أولى بالصواب من ذاك لو تعارضا؛ فكيف إذا أمكن إقامة الدليل الشرعي على صحة كلٍّ منهما؟
وأما قوله: (إِنَّ أحمد تقدمت نصوصه الصريحة بأنَّ الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه) (1).
فيقال له: قد يقال: إن أحمد قال هذا بناء على قوله: إنَّ الحلف بالطلاق والعتاق لا استثناء فيه، كما روى ذلك عنه الأثرم، وهو (2) [75/ ب] وغيره نقلوا عنه أَنَّ الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه.
وهكذا يقول مالك في رواية ابن القاسم إنَّ هذا كله لا استثناء فيه ولا كفارة (3)، وأما على رواية ابن الحَكَم فإنَّ (4) الحلف بالطلاق والعتاق ينفع فيه الاستثناء وإن لم ينفع في [إيقاع] (5) الطلاق والعتاق.
ومعلومٌ أَنَّ أحمد إذا قال هذا وعلل ذلك بأن الاستثناء إنما يكون في اليمين المكفرة، لو قال في هذه الحال: إن الطلاق والعتاق ينفع فيه
_________
(1) «التحقيق» (37/ ب).
(2) يحتمل وجود كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها ما أثبتُّ.
(3) المدونة (1/ 469)، الفواكه الدواني (2/ 910)، حاشية العدوي (3/ 40).
(4) في الأصل: (أَنَّ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(5) إضافة يقتضيها السياق. انظر ما سيأتي (ص 285 – 287).

(1/281)


الاستثناء، وليس هو من الأيمان المكفرة= لكان هذا تناقضًا لا يخفى على أدنى الناس، فضلًا عمن هو مثل أحمد.
وقوله: إنَّ الطلاق والعتاق لا ينفع فيه الاستثناء، لأن الاستثناء إنما يكون فيما فيه كفارة، والطلاق والعتاق لا يكفران فلا استثناء فيهما؛ فإنه إذا قيل له: ما معنى قولك: الطلاق والعتاق لا يكفران ولا استثناء فيهما؟ أي: لا يكفر إيقاعهما ولا يستثنى في ذلك، والحلف بهما ــ أيضًا ــ لا يكفر ولا يستثنى فيه = كان قد طَرَدَ قوله. وأما إذا قال: الحلف بهما يستثنى فيه، وقال مع ذلك [لا] (1) يُكَفَّرَان = كان هذا مبطلًا لأصل كلامه، بل يجب أن يقول مع ذلك: إذا كان فيهما استثناء= ففيهما كفارة.
والعام الذي يُقَدَّمُ عليه الخاص إنما يكون في الصيغ العامة، فأما المعاني والعلل والأدلة التي يستدل بها المستدل= فلا يقبل منه أن ينقضها ويخصها من غير بيان فرق بين صورة النقض وصورة الاستدلال (2)، فإذا جعل عدم التكفير مستلزمًا لعدم الاستثناء، واستدل بذلك على أن ما لا كفارة فيه لا استثناء فيه، وكان من الصور ما فيه استثناء دون الكفارة = بطلت علته ودليله ومذهبه، ولا يقبل منه أن يقول: هذا خاص وهذا عام إن لم يبين ما يوجب الفرق، ولو جاز هذا ما بطلَ دليلُ أحدٍ ولا علته؛ فمن كان يقول: الاستثناء في الأيمان المكفرة دون ما لا كفارة فيه لأن ذلك هو اليمين؛ فاليمين عنده لها لازمان: الكفارة والاستثناء، فإذا قيل: من الأيمان ما يستثنى ولا يكفر= انتقض أصله ودليله وعلته.
_________
(1) إضافة يقتضيها السياق.
(2) انظر ما سيأتي (ص 474 – 475).

(1/282)


وأحمد ــ رحمة الله عليه ــ كان يتوقف في (1) الاستثناء في الطلاق والعتاق تارة، ويجيب فيه تارة بالوقوع؛ ولهذا [76/ أ] خَرَّجَ طائفة من أصحابه كالقاضي أبي الحسين وغيره له روايتين في ذلك، وهو وإن وافق مالكًا على ذلك فقوله أوسع من قول مالك، فإنَّ أحمد لم يختلف كلامه في أن الحالف بالنذر تجزئه الكفارة، وكذلك ينفع فيه الاستثناء عنده كما ذكر ذلك أصحابه، فإنه إذا أجزأ فيه الكفارة فالاستثناء بطريق الأولى، لكن قد يقال: النذر يُخيّر فيه بين الوفاء والكفارة.
فيقال: إنما يخير إذا فعل الشرط، وأما إذا وجد الشرط ولم يوجد الجزاء= تعينت الكفارة؛ ولهذا يجب أن يقال: إن أعاد الاستثناء إلى النذر لم ينفعه، كما لو أعاد الاستثناء في تعليق الشرط إلى الطلاق.
فإذا قال: أنتِ طالق إنْ دخلتِ الدار إن شاء الله، أو أنت طالق إن شاء الله إن دخلت الدار؛ ومراده: أنك تطلقين مع الدخول إن شاء الله طلاقك؛ فهذا استثناء في الطلاق فلا ينفعه إذا قيل: لا ينفع في الطلاق المنجَّز، وأما إذا أعاد الاستثناء إلى الفعل واليمين فأراد: منعتُك وحلفتُ عليك لا تدخلين الدار إن شاء الله ألا تدخلي؛ فهذا ينفعه الاستثناء.
ولهذا كان طائفة من أصحابه كأبي محمد وأبي البركات يقولون: إِنْ أعادَ الاستثناء إلى الفعل نفعه، وإن أعاده إلى الطلاق لم ينفعه، وَإِنْ طَلَّقَ ففيه روايتان، ويقولون في صيغة القَسَم إذا قال: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ أو لا أفعل؛ نفعه الاستثناء قولًا واحدًا، وهذا جيد من جهة المعنى، لكن الصحيح
_________
(1) هنا يحتمل وجود كلمة، وتقديرها ما أثبتُّ.

(1/283)


أن النزاع عنه في الصيغتين، ولأصحابه في تحقيق النزاع فيما إذا قال: إن فعلت كذا فأنت طالق إن شاء الله طُرُقٌ ذكرت في غير هذا الموضع (1).
* * * *
_________
(1) مجموع الفتاوى (33/ 193) (35/ 283 – 286)، الفتاوى الكبرى (4/ 137 – 139)، القواعد الكلية (ص 510 – 514).

(1/284)


فصلٌ
قال المعترض:
(وقوله: إنه قال في رواية أبي طالب (1): وقد سئل عن الاستثناء. قال: الاستثناء فيما يكفر، قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] فكل يمين فيها كفارة غير الطلاق والعتاق.
قلنا: هذا صريحٌ في استثناء الطلاق والعتاق؛ فلا يجوز بعد ذلك أن يُنْسَبَ (2) إلى أحمد، ولا أَنْ يُخَرَّج على قواعده، لأنه (3) إنما يخرج على قاعدة إمام (4) ما لم يُصَرِّح بِرَدِّهِ، وفي استثنائه تصريح (5) بنفي الحكم عنه) (6).
فنقول:
لمَّا قال الاستثناء فيما يُكَفَّر، والطلاق والعتاق لا كفارة فيهما فلا استثناء فيهما [ … ] (7) [76/ ب] أَنَّ الاستثناء فيما يكفر، [و] (8) أن الاستثناء إنما هو
_________
(1) انظر ما تقدم قريبًا (ص 277).
(2) في الأصل: (وينسبه)، والمثبت من «التحقيق».
(3) في الأصل: (و)، والمثبت من «التحقيق».
(4) هنا كلمة غير واضحة في الأصل، والمثبت من «التحقيق».
(5) في الأصل: (صريح)، والمثبت من «التحقيق».
(6) «التحقيق» (38/ أ).
(7) يحتمل وجود كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها (تبيَّن) أو (دلَّ على) أو نحوهما.
(8) إضافة يقتضيها السياق.

(1/285)


في الأيمان، والأيمان فيها الكفارة، لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] فأثبت سبحانه لتعقيد الأيمان كفارة دون اللغو، والطلاق والعتاق لا كفارة فيهما ولا لغو في إيقاعهما فلا يكونان من الأيمان فلا يكفران؛ هذا معنى كلامه.
فإذا قال مع هذا: إن الحلف بالطلاق والعتاق لا استثناء فيهما ولا كفارة= اِطَّرَدَ قوله هذا، ونازعه مَنْ ينازعه في أن ذلك يمين أم لا، وإن قال مع ذلك: إنَّ الحلف بهما يجوز فيه الاستثناء ولا يجوز في إيقاعهما= صحَّ مع هذا أن يقول: إنَّ الطلاق والعتاق لا استثناء في إيقاعهما، كما أنه لا كفارة في إيقاعهما باتفاق المسلمين، فإن هذا مما لا ينازع فيه مسلم، ولزم إذا قال في الحلف بهما استثناء أن يكون في الحلف بهما تكفير، وأن يفرق في التكفير بين الحلف بهما والإيقاع لهما، كما فرق في الاستثناء بين الحلف بهما وبين الإيقاع بهما، وإلا انتقض علته ومذهبه ودليله حيث قال: الاستثناء فيما يكفر، وقيل له: الاستثناء عندك ينفع فيما يكفَّر وما لا يكفَّر، ولم يمكنه مع هذا أن يقول كل يمين فيها كفارة إلا ألزمهما مع قوله إن في اليمين بهما الاستثناء دون الكفارة.
ومما يوضح ذلك: أن أصحابه ــ كأبي محمد وغيره ــ احتجوا على جواز الاستثناء في تعليقهما على وجه اليمين، بأنَّ هذا يمين فتدخل في قوله – صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَلَفَ فقال: إن شاء الله؛ فلا حنث عليه» (1)
فيجب على هذا: أن
_________
(1) جاء هذا الحديث عن جماعةٍ من الصحابة؛ فأخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 516) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -.

وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 516) ــ ومن طريقه الترمذي في جامعه 1532) ــ من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -. وقال الترمذي: سألتُ محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث. فقال: هذا حديث خطأ، أخطأ فيه عبد الرزاق اختصره من حديث معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنَّ سليمان بن داود قال: لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة غلامًا، فطاف عليهم فلم تلد امرأة منهن إلا امرأة نصف غلام». فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لو قال: إن شاء الله؛ لكان كما قال». هكذا روي عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه هذا الحديث بطوله. وقال: سبعين امرأة. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: قال سليمان بن داود: لأطوفنَّ الليلة على مائة امرأة.
وأخرجه البزار (12/ 169) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -. وقال: وهذا الحديث لا نعلم أسنده إلا أيوب عن نافع عن ابن عمر، ورواه عبيد الله عن نافع عن ابن عمر موقوفًا إلا رجل سمعته يحدث عن أبي معاوية عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فأنكرته عليه، وهو عباس البحراني.
والحديث صححه ابن حبان (10/ 183).
انظر: علل الترمذي الكبير (برقم 455)، العلل للدارقطني (13/ 103)، نصب الراية (3/ 234، 301)، البدر المنير (9/ 453)، إرواء الغليل (8/ 196).

(1/286)


يدخل تعليقهما على وجه اليمين في قوله – صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه» (1).
قال الشيخ أبو محمد المقدسي (2).
_________
(1) أخرجه مسلم، وتقدم في (ص 26).
(2) كتبها الناسخ في الهامش، وقد وضع علامة اللحق بعد نهاية الحديث، ولم ينقل كلام ابن قدامة؛ فانظره في المغني (13/ 488).

(1/287)


فصلٌ
وأما قوله: (إنما يخرج على قاعدة [إمام] ما لم يصرح بِرَدِّهِ، وفي استثنائه تصريح (1) بنفي هذا الحكم عنه [بخصوصه]) (2).
فيقال له: التخريج على قواعد العلماء وأصولهم ومقتضى نصوصهم وتعليلهم على وجهين:
أحدهما: تخريجٌ يُجعل (3) مذهبًا له ولا (4) يجعل قولًا في مذهبه؛ فهذا يسوغ فيما لم يُصَرِّح بِرَدِّهِ، وأصحاب [77/ أ] أحمد متنازعون: هل يجعل ما يخرج على قوله مذهبًا له؟ على طريقين:
أحدهما: يجعل مذهبًا له؛ وهي طريقة الأثرم والخرقي وأبي عبد الله بن حامد والقاضي وأكثر أصحابه.
والطريقة الثانية: لا يجعل مذهبًا له؛ وَذُكِرَ ذلك عن الخلال وصاحبه.
وقد ذَكَرَ النزاعَ في ذلك: أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي أبو يعلى فيما قرراه من أصول المذهب (5)، وذكر القاضي أن هذا ينبني على مسألة تخصيص العلة.
_________
(1) في الأصل: (صريح)، والمثبت من «التحقيق».
(2) «التحقيق» (38/ أ)، وما بين المعقوفتين من «التحقيق».
(3) في الأصل: (يجعله)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(4) غير واضحة في الأصل.
(5) تهذيب الأجوبة (1/ 522 – 533).

(1/288)


وقال أبو الخطاب (1).
النوع الثاني من التخريج: أَنْ يُخرَّج له قولٌ يُخالفُ القولَ المنصوصَ عنه؛ كما يَفعل ذلك من يفعله من أصحاب أحمد والشافعي وغيرهما، حيث يقولون: قد نَصَّ في المسألة الفلانية على كذا وفي نظيرها على خلاف ذلك؛ فيُخَرَّجَ (2) له قولان، وربما قالوا: نَصَّ على كذا وقياس مذهبه كذا خلاف ما نص عليه، فإنهم يجعلون مذهبه هو القول المخرَّج دون المنصوص، ويجعلون المنصوص أفتى فيه بخلاف أصله، وهو بمنزلة غلط المحدث [و] بمنزلة الغلط في الرواية، وهذا إذا لم يكن القول (3) المنصوص يجري على أصوله الصحيحة، فإنْ أمكن تصحيحه جعلوها على قولين.
ثم إذا كانت المسألتان متماثلتين لا يجوز أن يكون بينهما فَرْقٌ يَذهب إليه مجتهد، لم يختلفوا في المسألة على روايتين (4)؛ كما إذا نصَّ على أنَّ مَنْ قال: إِنْ فعلتُ فعليَّ صدقة أنه يجزئه كفارة يمين، وإنْ قال: فعليَّ هديٌ أنه يلزمه إخراج ماله.
_________
(1) كتبها الناسخ في الهامش بعد علامة اللحق، ولم يذكر ما قاله، وإتمامًا للفائدة سأنقل ما قاله أبو الخطاب في التمهيد.
قال في التمهيد (4/ 366): (إذا نصَّ في مسألةٍ على حكمٍ وعلَّلَ بعلةٍ توجد في مسائل أُخَر؛ فإنَّ مذهبه في تلك المسائل مذهبه في المسألة المعللة، سواء قلنا بتخصيص العلة أو لم نقل).
(2) هكذا قرأتها.
(3) في الأصل: (للقول)، ولعل ما أثبتُّ هو الصواب.
(4) انظر ما سيأتي (ص 274 – 275).

(1/289)


وأما إذا كان بينهما ما قد يُظَنُّ أنه فَرْقٌ= تنازعوا في الصريح؛ ومثل هذا: إذا نَصَّ في الماء المستعمل في الوضوء على أنه طهور أو طاهر، وفي الماء المستعمل في الجنابة على خلاف ذلك؛ كان له في المسألتين قولان إذ لا فرق بينهما.
* * * *

(1/290)


فصلٌ
قال المعترض:
(قال المجيب (1): وأما كون سليمان التيمي هو الذي ذكر كل مملوك له حر؛ فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنَّ سليمان التيمي ثقة ثبت، وهو أَجَلُّ من الذين لم يذكروا الزيادة، ويشبه ــ والله أعلم ــ أَنْ يكون الذين لم يذكروا العتق هابوه (2) [لِمَا] (3) فيه من النزاع؛ يُبَيِّنُ ذلك: أَنَّ مِنَ الناس مَنْ لم يذكر [العتق في] (4) ذلك عن التيمي [أيضًا، مع] (5) أن التيمي كان يذكر العتق بلا نزاع.
قال الميموني: قال أحمد: وابن (6) [77/ ب] أبي عدي لم يذكر في حديث أبي رافع عتقًا (7).
قلتُ (8): ومحمد بن أبي عدي هو أحد (9) من رواه عن التيمي، فَعُلِمَ أَنَّ
_________
(1) مجموع الفتاوى (33/ 193).
(2) سواد في الأصل، والمثبت مما سيأتي في رَدِّ ابن تيمية على هذا الكلام (ص 293)، وهو كذلك في «التحقيق» والفتوى المعترض عليها.
(3) ما بين المعقوفتين من «التحقيق» والفتوى المعترض عليها.
(4) ما بين المعقوفتين من الفتوى المعترض عليها.
(5) سواد في الأصل، والمثبت موافق لما في «التحقيق» والفتوى المعترض عليها.
(6) لم يظهر في الأصل إلا بعض الأحرف، والمثبت موافقٌ لما في الفتوى المعترض عليها، وفي «التحقيق» بدون (واو) قبل ابن أبي عدي.
(7) في الأصل: (عتق)؛ والمثبت موافقٌ لما في الفتوى المعترض عليها. وقارن بما في زاد المسافر (4/ 471).
(8) القائل هو: ابن تيمية.
(9) في الفتوى المعترض عليها: (أجل).

(1/291)


من الرواة من كان يترك (1) ذكر هذه الزيادة مع أنها ثابتة في الحديث، ولهذا لَمَّا ثبتت (2) عند أبي ثور أخذ بها.
قلتُ (3): أما هذا الجواب الأول، وهو: أَنَّ سليمان التيمي ثقة ثبت أجل من الذين لم يذكروا الزيادة؛ فقد تقدم) (4).
والجواب أَنْ يقال:
قوله: (أما هذا الجواب الأول، وهو: أَنَّ سليمان التيمي [ثقة] ثبت أَجَلُّ من الذين لم يذكروا الزيادة فقد تقدم التعرض له، وأَنَّ ذلك يُعارض بكثرة من ذكرها، ومعارضة الأثر [الآخر] لها، وأَنَّ المدعى هو المعارضة من غير ترجيح، وأَنَّ الواجب ترجيح أقوى الظنين) (5).
فيقال: قد تقدم (6) أنه لم يترك الزيادة من يقاوم سليمان التيمي لو انفرد بها (7)، فإنما عُرِفَ أنه تركها حميد وآخر، وقد أثبتها ثلاثة أجل وأكثر ممن تركها،
_________
(1) في الأصل: (ترك)، والمثبت من «التحقيق» والفتوى المعترض عليها.
(2) في الأصل: (ثبت)، والمثبت من الفتوى المعترض عليها.
(3) القائل هنا هو: السبكي.
(4) «التحقيق» (38/ أ).
(5) «التحقيق» (38/أ) وما بين المعقوفين منه.
ومن قوله: (وأن المدعى هو المعارضة) إلى آخره بالمعنى. والذي في «التحقيق»: (أعني أثر عثمان بن حاضر، لست أدعي الآن أن جانب الإسقاط أرجح، ولكن أردت التنبيه على وجه الاحتمال، وطريق الترجيح ما تقدم من موازنة الظنين ومعرفة تقاومهما وتفاوتهما).
(6) في الأصل زيادة: (أنَّ سليمان التيمي)، وبحذفها يستقيم الكلام، ولعل هذا بسبب انتقال بصر الناسخ.
(7) انظر (ص 239 وما بعدها).

(1/292)


وأثر عثمان بن حاضر قد عرف أن الروايات الثابتة عن ابن عمر وعن ابن عباس تناقضه، وأن هذا الحديث يخالفه في غير العتق كما يخالفه في العتق، فلم يخالفه في العتق وحده، وأن هذا يوجب القطع إما بغلط راويه وإما بأنَّ الصحابة عنهم نزاع في هذا الباب، وأنه لا يمكن أحدًا أَنْ يُرَجِّح روايةَ من روى أن من الصحابة من أفتى بأن الحلف بالعتق يلزم على رواية من روى أن فيه كفارة، بل هذا مردود بعد معرفة الطرق والنظر فيها بلا نزاع بين أهل العلم بذلك.
وأحمد لم تُجْمَعْ (1) عنده طرق حديث ليلى الدالة على صحة ذكر العتق، ولا اجتمعت عنده طرق حديث عثمان بن حاضر الذي يدل على اضطرابه؛ فالكلام في صحة الحديث وضعفه (2) قد يكون من مسائل الاجتهاد التي يبحث فيها أهل العلم بذلك.
وقد عُرِفَ أن جميع العلماء الذين بلغهم طرق حديث ليلى بنت العجماء مثل: أبي ثور ومحمد بن نصر وابن المنذر وأبي جعفر محمد بن جرير وابن عبد البر وابن حزم وغير هؤلاء ممن نقل النزاع = كلهم قطعوا بأن ابن عمر وحفصة وغيرهما أفتوا في الحلف بالعتق بكفارة يمين، لم أعلم أحدًا من الناس بلغته هذه الطرق طعن فيها، وأحمد لم يعلله إلا [78/ أ] بانفراد سليمان به وقد عُرِفَ أنه لم ينفرد به.
فصلٌ
قال: (وأما قول المجيب: يشبه أن يكون الذين لم يذكروا العتق هابوه لما فيه من النزاع)؛ فإنَّ المجيب لم يجزم بهذا، بل جَوَّزَ هذا.
_________
(1) كذا في الأصل، ولعلها: (تجتمع).
(2) في الأصل زيادة: (كما)، وبحذفها تستقيم العبارة.

(1/293)


وقول المعترض: (ليس هذا عادة الرواة؛ فكم من حديث أطبق الرواة على روايته مع تنازع الفقهاء في حكمه؟ وكم من راوٍ روى ما يخالفه فيه الجم الغفير، ولم يسمع عن أحدٍ يُوثَقُ به أنه كان عنده حديث فيه حكم امتنع عن روايته هيبةً من أحد، بل إذا كان النزاعُ تَقِلُّ الهيبة، وإنما تكون الهيبة لو كانت [فيما] يخالفُ الإجماع والسواد الأعظم) (1).
فيقال له: بل من الرواة من يترك ما هو عنده إذا كان العمل المشهور بخلافه، وهذا معروفٌ مِنْ حال مالك وغيره؛ ربما روى الحديث ثم يمتنع مِنْ روايته إذا كان العمل عنده بخلافه، كما امتنع من تحديثه بحديث أم سلمة: «إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي؛ فلا يأخذ من شعره ولا بَشَرِهِ شيئًا» (2) حَدَّثَ به لشعبة (3)، ثم تركه لكون العمل عنده بخلافه، وكان إذا سئل عنه لم يحدث (4).
_________
(1) «التحقيق» (38/ أ)، وما بين المعقوفتين زيادة من «التحقيق».
(2) أخرجه مسلم (1977).
(3) في الأصل: (لسبعة)، ولعل الصواب ما أثبت، كما سيأتي في التعليق التالي من تحديث شعبة به عنه.
(4) قال ابن عبد البر في التمهيد (17/ 237): (وقد ذكر عمران بن أنس أنه سأل مالكًا عن حديث أمِّ سلمة هذا، فقال: ليس من حديثي! قال: فقلتُ لجلسائِهِ: قد رواه شعبة وحدَّث به عنه، وهو يقول: ليس من حديثي! فقالوا لي: إنه إذا لم يأخذ بالحديث قال: ليس من حديثي) اهـ.
وانظر: الاستذكار (11/ 185)، والبيان والتحصيل (17/ 315).

(1/294)


وكذلك حديثٌ أَنَّ في المِلْطَاة (1) نصف الموضحة (2)، ثم ترك روايته لَمَّا رأى العمل بخلافه (3)،
وكثير من أهل الحديث يكون عنده حديث عَمِلَ الناس بخلافه فلا يحدث به.
وأما قوله: (إذا كان الصحابة ــ كما قال المُصَنِّف ــ على وفق هذه الرواية؛ فمن أين تحصل الهيبة؟! والرواية كانت في إثر عصرهم، لأن المسقطين لها حميد وغيره من التابعين قبل حدوث المتأخرين المخالفين لها بزعمه) (4).
فيقال له: حميد لم يكن من المشهورين بالفتيا والفقه كسليمان التيمي، بل كان شيخًا مُعَمَّرًا عاش بعد سليمان التيمي [إلى] (5) سنة بضع وأربعين ومائة، وكان المشهورون بالرأي بالعراق وبالمدينة مثل: ربيعة الرأي وعثمان البَتِّي
_________
(1) الملطاة بالهاء، وبالمد دون هاء، وبالهمز؛ وهي الشَّجَّةُ التي تُسمَّى: السِّمحاق.
انظر: الغريب المصنف (1/ 238) وغريب الحديث (3/ 75) كلاهما لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم، مقاييس اللغة (5/ 251)، المخصص لابن سيده (1/ 490).
(2) لم أجده مرفوعًا، وإنما روى عبد الرزاق في المصنف (9/ 313/ ح 17345)، وابن أبي شيبة (27356)، والبيهقي في السنن الكبير (16/ 334/ ح 6293 – 6295) أنَّ عمر وعثمان قضيا في الملطاة بنصف دية الموضحة.
وذكرت بعض كتب الغريب أنَّ في الحديث: «يقضى في الملطاة بدمها». وانظر: الجامع في العلل والفوائد (2/ 450).
(3) كان مالك يحدث به ثم ترك التحديث به؛ فسئل عن ذلك فقال: (إنَّ العمل عندنا على غيره، وليس الرجل عندنا هنالك؛ يعني: يزيد بن قسيط).

انظر: المصنف لعبد الرزاق (9/ 313/ ح 17345)، ما رواه الأكابر عن مالك لابن مخلد العطار (ص 43)، وغرائب حديث مالك لابن المظفر (ص 73).
(4) «التحقيق» (38/ أ).
(5) إضافة يقتضيها السياق.

(1/295)


وأبي حنيفة وغيرهم يفتون بأنَّ فيه كفارة يمين (1)، وكان من الملوك من يكره أَنْ يُفْتَى في مثل هذا بكفارة يمين، كما هو الواقع في كثيرٍ من الأزمنة.
حتى إِنَّ مالكًا لما أفتى بأن يمين المكره لا تلزم، جَعَلَ من أراد (2) الانتقام منه هذا حجة في ضربه، وحتى شهروه وضربوه ثلاثين سوطًا (3)، وقد (4) [78/ ب] روي عن الشافعي أنه قال: إنما حقد أمير المدينة عليه لتفضيله عثمان على علي، وسئل عن ذلك. فقال: لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها (5)، ولكن الهاشمي لم يمكنه إظهار العقوبة على هذا، فجعل ذلك حجة ليقال إنه عاقبه غضبًا للمنصور، وأنه حَلَّ أيمان البيعة، واتفق هو وقاضي المدينة على هذا.
وكذلك الشافعي؛ رُوِيَ (6) أنه لمَّا قدم بغداد في زمن الرشيد نُهِيَ أن يتكلم في الحلف بالطلاق المعلق على النكاح، لكراهة الرشيد لذلك (7). وقد رأينا من ذلك في زماننا وغيره ما فيه عبرة؛ فكيف لا يقال مع ذلك: إنَّ حميدًا هاب ذكر العتق خوفًا من هؤلاء العلماء المُفَتِّنِيْنَ ومن الولاة المسلَّطين؟!
وكان الإفتاء بلزوم العتق مشهورًا بالعراق، وهذا لما اشتهر تحليف
_________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: (بأن ليس فيه كفارة يمين)، حيث سيذكر المجيب أن الإفتاء بلزوم العتق كان مشهورًا في العراق.
(2) هكذا قرأتها.
(3) انظر ما تقدم (ص 46).
(4) هكذا قرأتها، ويحتمل غير ذلك.
(5) منهاج السنة (8/ 225).
(6) في الأصل: (روى الشافعي) وقد وضع الناسخ علامة التقديم والتأخير.
(7) انظر ما تقدم (ص 46 – 47).

(1/296)


الناس بالطلاق والعتاق وإن لم يكن ذلك مشهورًا على عهد الصحابة، حتى إنه قد اِدَّعَى الإجماع على لزوم العتق المحلوف به من ادعاه من العلماء، كما ذكر ذلك ابن جرير عمن ذكره وأنكره عليه (1)، وكما ذكر إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني الإجماع على أَنَّ العتق المحلوف به والطلاق المحلوف به لا كفارة فيهما (2)؛ فلولا ظهور العمل بأن الحالف بذلك يلزمه ولا تنفعه الكفارة ما ادعى الإجماع مَنْ هو مِنْ أهل العلم.
وإذا ظهر العمل بقول في بلد أو بلاد هاب مَنْ يهاب ذكر ما يخالف ذلك، لاسيما إذا اقترن بذلك غَرَضُ بعض الولاة وعقوبتهم لمن يخالفهم، حتى إنَّ البلاد التي تظهر فيها بدعة من البدع لا يمكن أهل الحديث أن يظهروا من الأحاديث ما يخالف تلك البدعة.
ولما أظهرت محنة الجهمية امتحنوا الناس عليها، حتى كتب ابن أبي دؤاد على أستار الكعبة (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم) ولم يكتب {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]؛ حتى كانوا إذا افْتَكُّوا الأسير امتحنوه، فإنْ قال: القرآن (3) مخلوق؛ جعلوه مسلمًا فافتكوه وإلا لم يفتكوه، وقطعوا أرزاق (4) من لم يوافقهم وعزلوه، وكان في تلك المدة لا يُظهر أحد في [ … ] (5) الأحاديث المخالفة لقول الجهمية.
_________
(1) انظر ما تقدم في (ص 12).
(2) انظر: القواعد الكلية (ص 472 وما بعدها).
(3) هكذا قرأتها.
(4) هكذا قرأتها، حيث ظهر في الأصل حرف الألف والقاف.
(5) بياض في الأصل مقدار كلمة، ويحتمل أنه موضع بلد.

(1/297)


وكذلك مذهب الرافضة [79/ أ] إذا ظهر في بلد لم يُمَكِّنُوا أحدًا من رواية ما يخالف مذهبهم، حتى إنه في مدينة الرسول – صلى الله عليه وسلم – لما ظهر فيها قول الرافضة مع كثرة من يوجد فيها من أهل السنة ــ أيضًا ــ طلبوا قراءة البخاري فما أمكنهم قراءته إلا بين الحجر والحائط الشرقي في ذلك الموضع المستور، ثم لما ظهر عليهم الرافضة منعوهم حتى أظهر الله السنة بعد ذلك، حتى إنَّ بني عُبيد لما استولوا على مصر لم يمكن أحدًا من أهل الحديث أن يروي شيئًا من الحديث، حتى جرت مع إبراهيم بن سعيد الحبال صاحب عبد الغني بن سعيد قصة مع الصدفي (1).
ولما حَدَّثَ الشعبي في الكوفة بحديث فاطمة بنت قيس، وأَنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لها: «لا سكنى لكِ ولا نفقة» (2) قام بعض أكابر فقهاء الكوفة [ … ] (3) حضره، وقالوا: تُحَدِّثُ بحديثٍ أنكره عمر؟! (4) وهذا حديث صحيح. رواه مسلم في صحيحه.
وفقهاء الحديث كأحمد بن حنبل في ظاهر مذهبه وغيره يعملون به، وقد جعل بعض الحنفية هذا عِلَّة، فقالوا: إذا رَدَّ السلف الحديث لم يُعمل به؛ ومثلوه بهذا (5).
_________
(1) انظر: تاريخ الإسلام (11/ 218). ومنهاج السنة (6/ 179).
وقد حصل للخطيب البغدادي موقفٌ قريبٌ من هذا، ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (16/ 28).
(2) أخرجه مسلم (1480).
(3) بياض مقدار ثلاث أو أربع كلمات.
(4) انظر هذه الحادثة في: شرح معاني الآثار (3/ 67)، والسنن الكبير للبيهقي (15/ 541).
(5) انظر في المطاعن التي طعن بها في حديث فاطمة بنت قيس والجواب عنها: زاد المعاد (5/ 528 مهم)، أصول السرخسي (1/ 365)، كشف الأسرار (2/ 567 وما بعدها)، شرح معاني الآثار (3/ 69).

(1/298)


وقد كان أبو هريرة يحدِّث بأحاديث يقول: حفظت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جرابين؛ أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم مني البلعوم (1) (2)، وذلك الجراب وإن لم يكن فيه شيء من الأحكام وأصول الدين، وإنما فيه ذكر الملاحم والفتن.
فالمقصود: أَنَّ المحدث قد يترك التحديث بأشياء خوفًا من أذًى يلحقه، ولم نَقُلْ أَنَّ كل مسألة فيها نزاع تَرَكَ كُلُّ الناس ما روي فيها، بل يَرْوِي ما فيها مَنْ لم يخف لظهور القول بذلك، أو لكونه لا يُؤذى إذا خالف ذلك، أو لا يُنكر عليه إذا حَدَّث به ونحو ذلك.
وفي الجملة؛ فنحن لا نجزم بأنَّ الترك كان لهذه العلة، بل هذا أمر محتمل، وقد رأينا لهذا نظائر متعددة، يكون في الحديث لفظ يمنع منه بعض الناس، فيترك الراوي ذكره؛ إما مطلقًا وإما في بعض الأحوال.
وبكر بن عبد الله قد حَدَّثَ بهذا الحديث مرات؛ فلعله تارة كان يستوفيه وتارة يختصره، فإنَّ هذا يقع كثيرًا ــ أيضًا ــ؛ وإنما (3) كان يستوفيه لبعض الناس ويختصره لبعضهم.
_________
(1) أخرجه البخاري (120) بلفظ: (حفظتُ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعاءين؛ فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم).
(2) كتب الناسخ في الهامش: (حاشية: قال البخاري: البلعوم: مجرى الطعام).
ولم أجد في المطبوع من الصحيح هذه العبارة، وإنما نقلها الحميدي في الجمع بين الصحيحين (3/ 148).
(3) كلمة غير واضحة تحتمل ما أثبتُّ.

(1/299)


فصلٌ
قال المعترض:
(قال المجيب (1): يبيِّن ذلك أن من الناس من لم يذكر ذلك عن التيمي إلى [آخره] (2) [79/ ب] عجيبٌ، ومن أين له أَنَّ ابن أبي عدي معترفٌ بثبوتها مع عدم روايته لها؟!
وليس مراد أحمد بقوله: (وابن أبي عدي لم يذكر في حديث أبي رافع عتقًا) إلا أن الخلاف حاصل على (3) التيمي [بين ابن أبي عدي] وغيره، [كما أنَّ الخلاف حاصل على بكر بين التيمي وغيره]؛ فيزداد الخلاف قوة والزيادة وهنًا) (4).
والجواب:
أنَّ ابن أبي عدي لم يَنقل عنه أحدٌ إنكاره لها، بل ولا نقل عن أحد من الرواة لها عن بكر أنه أنكرها، ولا عن أبي رافع أنه أنكرها، وقد أثبتها من يعرف ابن أبي عدي بأنه أحفظ منه وأتقن، كيحيى بن سعيد القطان الذي قال أحمد: ما رأيت يعني مثله (5). وهو إمام هذا الفن على الإطلاق لا يُشَبَّهُ به ابن أبي عدي ولا أمثاله، وأثبتها معتمر بن سليمان التيمي وهو ــ أيضًا ــ
_________
(1) مجموع الفتاوى (33/ 193).
(2) كلمة مطموسة تحتمل ما أثبتُّ.
(3) في الأصل زيادة: (مرمى)! وليست في «التحقيق».
(4) «التحقيق» (38/ أ) وما أثبت بين معقوفتين منه.
(5) انظر كلام الإمام أحمد وثناءه على يحيى بن سعيد في موسوعة أقوال الإمام أحمد في رجال الحديث وعلله (4/ 114 وما بعدها).

(1/300)


أثبت في حديث أبيه بل وفي غيره من محمد بن أبي عدي (1).
وحينئذٍ؛ فلا ريب أَنَّ التيمي ذكرها، وابن أبي عدي لَمَّا لم يذكرها؛ فأحد الأمرين لازم: إما أن التيمي لم يذكرها حين حَدَّثَهُ بل اختصر الحديث لسبب من الأسباب، وإما لأنه لم يُحدِّث بها إما نسيانًا لها وإما لسببٍ آخر.
وأما قوله: (يرجح إسقاطها عن بكر لكثرة الذين لم يرووها) (2).
فيقال له: لا كثرة فيهم؛ بل الذين أثبتوها أجل وأكثر من الذين لم يثبتوها، وإن كان أحمد لم تبلغه الطرق المتعددة، وإنما بلغه طريق التيمي فقط.
وقوله: (إنا لا نجزم بثبوتها عن التيمي، وإسقاط ابن أبي عدي لها، وأنَّ هذا الجزم لا تقتضيه صناعة الحديث، ولا يدل عليه علم الفقه والنظر) (3).
فيقال له: لم نجزم بأنَّ ابن أبي عدي هو الذي أسقطها، بل المجزوم به أن التيمي ذكرها ثم تركها؛ إما لكونه هو لم يحدث بها لبعض الناس، وإما لأن الراوي أسقطها أو نسيها، ولم نجزم قط بأنه تعمد تركها لغرضٍ، بل هذا مما يجوز، وأهل صناعة الحديث وأهل صناعة الفقه والنظر كلهم متفقون على ما ذكرناه من الجزم بأنَّ التيمي ذكرها.
_________
(1) انظر ترجمة معتمر بن سليمان في تهذيب الكمال (28/ 250)، وترجمة ابن أبي عدي في تهذيب الكمال (24/ 321).
(2) «التحقيق» (38/ أ).
(3) نصُّ عبارة السبكي في «التحقيق» (38/ أ): (وأما أنَّا نجزم بثبوتها عن التيمي، ونقول: إنَّ ابن عدي أسقطها لغرضٍ من الأغراض؛ فهذا ما لا تقتضيه صناعة الحديث، ولا يدلُّ عليه علم الفقه والنظر؛ والله أعلم).

(1/301)


فأحمد ــ مع أنه لم يعمل بها ــ جَزَمَ بأنَّ التيمي ذكرها، وجَزَمَ بثبوتها عن الصحابة فضلًا عن ثبوتها عن التيمي: أبو ثور ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن جرير الطبري وأبو بكر بن المنذر وأبو عمر بن عبد البر وأبو محمد ابن حزم، ومن شاء الله من أئمة أهل الحديث وأئمة أهل الفقه والنظر.
وهذه [80/ أ] كتب الناس مملوءة بحكاية الكفارة في الحلف بالعتق عن ابن عمر وحفصة وزينب، لا يُحصى عدد مَنْ نقل هذا ممن ينقل أقوال الصحابة ويرويها، ولا يُعرف أحدٌ (1) من الناس طعن في رواية هذا (2) عن التيمي، لا من أهل صناعة الحديث، ولا من أهل الفقه والنظر، ولا يعرف أحد ممن روى طريق التيمي وأشعث طعن في هذا، بل ذَكَرَ الحلف بالعتق فيه ولا علل ذلك، بل جميع أهل العلم الذين بلغنا ذكرهم لهذا ذكروا هذه الزيادة وثَبَّتُوها ونقلوها عن الصحابة.
ثم يقال له: إذا روى اثنان ثبتان كبيران حديثًا ذكرا فيه زيادة، وترك ذكرها من هو دونهما في الحفظ والإتقان؛ فالمثبتون للزيادة أكثر عددًا وأحفظ وأتقن، والتارك لها لم ينفها بل لم يذكرها، وهذا مما يصحح ذكر الزيادة فيه أهل صناعة الحديث وأهل صناعة الفقه والنظر، وإنما يختلفون إذا كَثُرَ المسقطون أو كانوا أحفظ، وأما إذا كانوا أكثر وأحفظ فما علمتهم تنازعوا في هذا.
وقد تقدم ذكر هذه الزيادة من رواية معتمر بن سليمان عن أبيه، ورواها عن معتمر عبد الرزاق وعارم بن الفضل ــ كما ذكره الأثرم عنه ــ وغيرهما،
_________
(1) في الأصل: (أحدًا)؛ والصواب ما أثبتُّ.
(2) في الأصل: (هذه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/302)


والظاهر أنَّ أحمد ــ أيضًا ــ سمعه إما من عبد الرزاق وإما من معتمر، إذ لا بُدَّ له من إسناد في حديث التيمي.
وأما طريق يحيى بن سعيد القطان عنه؛ فذكرها أبو بكر بن زياد النيسابوري الحافظ ــ وكان له عناية بالأحاديث الفقهية وصَنَّفَ في ذلك ــ، رواها عنه: زاهر بن أحمد السرخسي، وعن زاهر: أبو حامد الإسفراييني.
ورواه البيهقي عنه (1): قال أبو بكر بن زياد، حدثنا عبد الرحمن بن بشر، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي، حدثنا بكر بن عبد الله، عن أبي رافع: أَنَّ ليلى بنت العجماء مولاته قالت: هي يهودية وهي نصرانية وكل مملوك لها محرر وكل مال لها هدي إِنْ لم يطلق امرأته إِنْ لم تفرق بينكما، فأتى زينب فانطلقت معه. فقالت: ههنا هاروت وماروت؟ قالت: قد علم الله ما قلتُ؛ كُلُّ مالٍ لي هدي وكل مملوك لي محرر وهي يهودية وهي نصرانية. قالت: خَلِّي بين الرجل وامرأته. قالت: فأتيت حفصة فأرسلت إليها كما قالت زينب قالت: خَلِّي (2) [80/ ب] بين الرجل وبين امرأته، فأتيت ابن عمر، فجاء معي فقام على الباب، فلما سَلَّمَ. قالت: بأبي أنت وأبوك. قال: أَمِنْ حجارةٍ أنتِ أم من حديد أنتِ؟ أفتتك زينب وأرسلت إليك حفصة. قالت: قد حلفت بكذا وكذا. قال: كَفِّرِي عن يمينك وخَلِّي بين الرجل وامرأته.
فلو فُرِضَ أَنَّ ابن أبي عدي نفاها، وأثبتها يحيى بن سعيد، لم يختلف
_________
(1) السنن الكبير (20/ 176/ ح 20072).
(2) لم تظهر في الأصل، والمثبت من السنن.

(1/303)


أهل الحديث أَنَّ يحيى بن سعيد أثبت فيه؛ فكيف وقد أثبتها معه: معتمر بن سليمان عن أبيه؟!
وابن أبي عدي لم ينف ذلك بل لم يذكره؛ فهل يقول عالم من علماء أهل الحديث أو من أهل الفقه والنظر أَنَّ ذلك يمنع جَزْمَنَا برواية التيمي لها؟!
* * * *

(1/304)


فصلٌ
قال المعترض:
(قال المجيب (1): الوجه الثاني: أن أبا عبد الله ــ – رحمه الله – ــ قال: بحسب ما بلغه من طرق هذا الأثر، وقد روي من وجهٍ آخر: رواه أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي في كتابه المسمى بالمترجم الذي شرح فيه مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن أحمد وغيره، وقال فيه: حدثنا صفوان بن صالح، قال: حدثنا عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي، حدثني جسر بن الحسن، حدثني بكر بن عبد الله المزني، حدثني رفيع (2). قال: كنت أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الأنصار، فَحَلَفَتْ بالهدي والعتاق أَنْ تفرق بيننا، فأتيتُ امرأةً من أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكرتُ لها ذلك، فأرسلت إليها: أَنْ كفري يمينك؛ فأبت [، ثم أتيت ابنةَ أمِّ سلمة فذكرتُ ذلك لها، فأرسلت إليها: أَنْ كَفِّرِي يمينك فَأَبَت]، فأتيت ابن عمر فذكرت ذلك له) (3) (4).
والجواب:
أَنَّ جسر بن الحسن لم نجعل روايته عمدة يحتج بها، وإنما جعلناها متابعة وشاهدًا لرواية التيمي، ولو كان الرجل فيه ضعف وهو مجروح كابن
_________
(1) لم أجد هذا الكلام في الفتوى المعترض عليها المطبوعة ضمن مجموع الفتاوى.
(2) في الأصل: (نُفيع)، وقد تقدَّم (ص 205) أنه رفيع، وهو كذلك في قاعدة العقود (1/ 296)، وإعلام الموقعين (4/ 437).
(3) وضع الناسخ علامة اللحق، وكتب في الهامش: (يتلوه الوريقة) كذا قرأتها، ولم أجد ما أشار إليه.
(4) «التحقيق» (38/ أ – ب)، وما بين المعقوفتين منه.

(1/305)


لهيعة وأمثاله لجاز أَنْ يعتضد بروايته ويعتبر بها عند أهل العلم بالحديث وغيرهم، وهذا مما لا ينبغي لعاقل أن يُنازع فيه، فإنه لا يشك عاقل أن الظن يَقْوَى (1) بمتابعة شخص آخر، إذا لم يُعْرَف غلط هذا الثاني ولا كذبه.
ولهذا كان التواتر يحصل عند كثرة المخبرين وإن كانوا كفارًا وفساقًا (2)؛ ولهذا تعتبر (3) شهادة الفساق والصبيان والنساء لوثًا عند أكثر الفقهاء (4)، والبخاري ــ صاحب (5) الصحيح ــ يذكر في صحيحه متابعة من لا يحتج به في (6) الصحيح، فإنَّ ذلك يُقَوِّي [81/ أ] الحديث ويؤيده (7).
فإذا كان جسر بن الحسن شيخًا من شيوخ البصرة لم نَعلم أحدًا جَرَحَهُ= كان الاعتضاد بروايته ومتابعته لسليمان التيمي أولى من أَنْ نعتمد في معارضة التيمي على مثل عثمان بن (8) حاضر، ولعله إما مثل جسر وإما دونه وإما قريب منه؛ فالاعتضاد بمثل هؤلاء أولى من أَنْ تُعارض بهم رواية الثقات الحفاظ.
_________
(1) الكلمة غير واضحة، وتحتمل ما أثبتُّ أو نحوها.
(2) مجموع الفتاوى (6/ 403)، (10/ 680 – 681)، (13/ 353)، (18/ 26)، المسوَّدة (1/ 468)، شرح الأصبهانية (ص 567 وما بعدها، 678).
(3) الكلمة غير واضحة، وتحتمل ما أثبتُّ.
(4) مجموع الفتاوى (15/ 299، 306)، جامع المسائل (2/ 227)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 166 من مجموع مخطوط، 5/ 201 – 206).
(5) الكلمة غير واضحة، وتحتمل ما أثبتُّ.
(6). في الأصل: (من)، والصواب ما أثبت.
(7) الفتاوى الكبرى (5/ 81)، منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها من خلال الجامع الصحيح (ص 135 وما بعدها).
(8) كتب الناسخ في الهامش (أبي) وفوقها حرف (ظ). وانظر ما تقدم (ص 257).

(1/306)


وأيضًا؛ فأشعث بن عبد الملك الحمراني قد تابع سليمان التيمي، وأشعث هذا جليل القدر، وهو أحد المجتهدين بالبصرة، وهو من أوثق الناس، لكن غالب ما يرويه هو الفقه، فلذلك قَلَّت (1) روايته في المسندات.
قال البخاري في تاريخه (2): كان يحيى بن سعيد وبشر بن المفضَّل (3) يثبتون الأشعث. قال يحيى بن سعيد: هو عندي ثقة مأمون (4). وقال ابن معين: سمعت يحيى بن سعيد يقول: لم أدرك أحدًا من أصحابنا هو أثبت عندي منه، ولا أدركت بعد ابن عون من أصحاب ابن سيرين أثبت منه (5). وقال يحيى بن معين: أشعث الحمراني ثقة (6). وقال محمد بن سعد (7): أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا أبو حُرَّةَ قال: كان الحسن إذا رأى الأشعث قال: هات ما عندك، هات هات ما عندك.
وقد رواه عن أشعث: محمد بن عبد الله الأنصاري وروح والنضر.
وأما قوله: (لفظه متردد بين أن يقول: العتق يلزمني، وبين أن يقول: عبدي حر؛ وجعله الأول من باب النذر الذي فيه الكفارة دون الثاني) (8).
فيقال: هذا غلط من أوجه:
_________
(1). في الأصل رسمت الكلمة هكذا: (بلت) بدون نقط، ولعل الصواب ما أثبت.
(2) (1/ 432).
(3) في الأصل: (وبسر بن الفضل)، والمثبت من التاريخ الكبير. وفيه زيادة: معاذ بن معاذ.
(4) الجرح والتعديل (2/ 275).
(5) الجرح والتعديل (2/ 275).
(6) تاريخ ابن معين (4/ 81 برواية الدوري).
(7) الطبقات (9/ 276).
(8) «التحقيق» (38/ ب) وما هنا مختصر بمعنى كلامه هناك.

(1/307)


أحدها: أنَّ القصة قصة واحدة ليست قصتين، فإذا كان سليمان وأشعث جزما بأنها قالت: كل مملوك لي حر، وقال جسر: حلفت بالهدي والعتاقة؛ وجب حمل رواية هذا بالمعنى على اللفظ الذي ذكره أولئك، لأنَّ الأصل اتفاق الروايات وتصادقها لا اختلافها وتناقضها.
الثاني: أنه إذا قال: فلان حلف بالعتق والهدي؛ فالمفهوم منه: أنه حلف بلزوم العتق، كقوله: إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر أو مملوك فلان حر ونحو هذا، وأما إذا قال: إن فعلت كذا فعليَّ أَنْ أُعتق، فهذا حالف بالنذر، بنذر العتق، لم يحلف بنفس العتق.
الثالث: أن الحلف (1) [81/ ب] بالعتق الذي اعتاده الناس هو الحلف بإيقاعه لا بنذره.
الرابع: أن حمله لذلك على قوله: (العتق يلزمني) حجةٌ عليه؛ فإنه قد قال في قوله: (الطلاق يلزمني)؛ أن هذا يراد به في العرف الحلفُ بوقوعِ الطلاق لا أنه يحلف بالالتزام لإيقاعه، فكذلك إذا قال: (العتق يلزمني) إنما يراد به في العرف الحلف بوقوع العتق لا الحلف بالتزام إيقاعه، لا فرق بين قول القائل: الطلاق يلزمني والعتق يلزمني.
والمعروف عند الناس إذا قال القائل: العتق يلزمني والحرام يلزمني والطلاق يلزمني وأيمان المسلمين تلزمني؛ فإن هذا كله حلف بلزوم هذه الأمور له لا نذرٌ لهذه الأمور، ولكن هذا اللفظ قد يراد به: أنه يلزمني أن أعتق، كما قد يراد به: يلزمني أَنْ أُطَلِّقَ فهذا نذر، ولكن المعنى المعروف منه
_________
(1) هكذا قرأتها.

(1/308)


عند الإطلاق إنما هو: يلزمني وقوع العتق ووقوع الطلاق، وهو بمنزلة يقع بي العتق إن فعلت كذا، أو يقع بي الطلاق إن فعلت كذا، أو وقوع الطلاق قد يلزمني إن فعلت كذا، أو وقوع العتق قد لزمني إن فعلت كذا.
الخامس: أنه لو سلم أنَّ لفظ الحالف: (إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أُعْتِقَ عبدي)؛ فسنبين ــ إن شاء الله ــ أنه ليس بين قوله (1): (فعليَّ أن أعتق)، وبين قوله: (فعبدي حر) فَرْقٌ معنوي في باب الأيمان، ولا يُعرف عن أحدٍ من الصحابة أنه فَرَّقَ بينهما، وقد ثبت النزاع في قوله: وكل مملوك لي حر، والروايةُ بالكفارة في ذلك عن الصحابة – رضي الله عنهم – أَثبتُ من الرواية بلزوم ذلك، وحينئذٍ؛ فهو حجة لنا على كل تقدير.
ونحن إنما ذكرنا أَنَّ الأوزاعي إمامٌ يَعرف معاني الحديث لنبيِّن أَنَّ ضبطه ذكر العتاقة في الحديث مع علمه بما فيه من النزاع، ومع أَنَّ قوله يخالفه= لِيُعْلَمَ؛ فيكون هذا مما يقوي ذكر العتق في الحديث.
وأما قوله: (فتمسك (2) باللفظ الذي رواه) (3).
فيقال: لا يقول عاقل إنَّ اللفظ الذي رواه ظاهره أنه يحلف بنذر العتق [كـ] (4) قوله: إن فعلت [فَعَلَيَّ] (5) أن أعتق؛ فإنَّ عاقلًا لا يقول: إنَّ هذا ظاهر روايته، بل لا يُفْهَم هذا مِنْ هذا اللفظ.
_________
(1) في الأصل: (قولها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2) في الأصل: (فمسك)، والصواب ما أثبتُّ.
(3) «التحقيق» (38/ ب).
(4) طمس في الأصل، ويحتمل ما أثبتُّ.
(5) إضافة يقتضيها السياق.

(1/309)


وحينئذٍ؛ فإما أن يكون الحديث عامًّا في الصورتين: [82/ أ] صورة الحلف بنذر العتق وصورة الحلف بالعتق، كما يدل عليه كلام المعترض حيث قال: (ولا نحمله على ما هو أخص منه) (1)، وإما أن يكون مختصًّا بإحداهما؛ فيكون اللفظ مشتركًا أو حقيقة ومجازًا.
فإنْ كان اللفظ عامًّا لهما حصل المقصود، وَدَلَّ على أنهم أفتوا بالكفارة في كليهما (2)، وذلك مثل أن تقول المستفتية للصحابة: حلفت بالهدي وبالعتاقة، وقولها: حلفتُ بالعتاقة؛ يتناول قولها: إن فعلت فمملوكي حر. وقولها (3): فعلي أن أعتق مملوكي والعتق يلزمني ونحو ذلك.
فإذا كان لفظ المستفتية يَعُمُّ هذا كله، وقد أجابها الصحابة بالكفارة في هذا= حصل مقصود المجيب، وأنهم أفتوها بالكفارة في صورة النزاع؛ إذ هي أحد أفراد اللفظ العام التي تتناولها الفتيا.
فإنْ قيل: اللفظ إنما يدل على صورة واحدة دون أخرى؛ إما بطريق الاشتراك اللفظي وإما بطريق الحقيقة والمجاز، فمعلوم أَنَّ المجاز والاشتراك على خلاف الأصل (4)؛ فَحَمْلُ اللفظ على ما ينفيهما أولى من
_________
(1) «التحقيق» (38/ ب).
(2) في الأصل: (كلاهما)، والصواب ما أثبتُّ.
(3) في الأصل: (وقوله)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(4) مجموع الفتاوى (7/ 108) (31/ 167)، الفتاوى الكبرى (4/ 333)، بيان تلبيس الجهمية (1/ 525) (4/ 423)، الجواب الصحيح (3/ 198 وما بعدها)، الإيمان (ص 90).
وانظر ما سيأتي (ص 877 – 878، 885).

(1/310)


حمله على ما يثبتهما.
وإن قيل: بل لفظ الحلف بالعتاقة يَعُمُّ، والسائلة إنما سألت بلفظٍ يدل على الخاص، ولم ينقل إلينا ذاك.
قيل: إطلاق الناقل لهذا اللفظ والجواب دليلٌ على أَنَّ مناط الحكم هو القدر المشترك العام الموجود في الصورتين لا ما يختص به إحداهما. وحينئذٍ؛ فيكون الراوي لهذا الحديث فَهِمَ ممن حَدَّثَهُ أن الصحابة الذين أجابوا يسوون بين الصورتين، فتكون هذه الرواية موافقة لتلك لا مخالفةً لها.
ولو قُدِّرَ أَنَّ هذا اللفظ محتمل، وتلك الرواية من طريقين قد بين أن السؤال كان عن قولها: (كل مملوك لي حر)، وهذا قال في روايته: (إنه حَلَفَ بالعتاقة) = كان حمل هذه الرواية على ما يوافق تلك أولى؛ فإنَّ الأصل اتفاق الرواة لا اختلافهم.
فإنَّا لو (1) حملناه على أنها حلفت بالنذر لَزِمَ تغليطُ إحدى الروايتين، مع أنه لا دليل على غلطه بوجهٍ من الوجوه، وحمله على الموافقة يتضمن [نفي الغلط، والنافي] (2) للغلط مُقَدَّمٌ على مثبته، لا سيما في حق مَنْ لم يُعْرَف غلطه، وأن الغلط في الرواية نادر جدًّا بالنسبة إلى عدمه حتى في حق المعروفين [بكثرة الغلط؛ فما] (3) [82/ ب] لا يغلطون فيه من الألفاظ أضعاف أضعاف ما يغلطون فيه. وحينئذٍ؛ فيلحق النادر بالغالب لا سيما من
_________
(1) غير واضحة في الأصل تحتمل ما أثبتُّ.
(2) غير واضحة في الأصل، وزيادة (نفي) ليست في الأصل، ولكن يقتضيها السياق.
(3) ما بين المعقوفتين غير واضح في الأصل، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(1/311)


محدث لم يعرف غلطه، وما يَحْمِل كلام المحدثين على الغلط بلا دليل أصلًا ولا شبهةِ دليلٍ إلا مَنْ هو أبعد الناس في العلم والدين (1).
ثم بتقدير غلط أحدهما؛ تغليط جسر بن الحسن أولى من تغليط التيمي وأشعث الذين رويا أنها قالت: كل مملوك لي حر؛ وجسر يحتج بمتابعته على ذكر العتق، لا على لفظه الذي خالف فيه من هو أوثق منه وأكثر منه عددًا، هذا لو صرح بما يخالف لفظهما؛ فكيف والأمر بخلاف ذلك؟
وأيضًا؛ فقد بيَّنَّا أن الحلف بالعتاقة إنما يفهم منه عند الإطلاق: الحلف بوقوعه لا بنذره [ … ] (2)، فقول المعترض: (لفظ الحلف بالعتاقة متردد بين كذا وكذا) إنْ أراد أنه بطريق أن اللفظ لا يدل إلا على أحدهما، لأن دلالته على الآخر بطريق الاشتراك أو المجاز= كان هذا مناقضًا لقوله: (لا يحمله على ما هو أخص منه)، فإنَّ هذا يدل على أنَّ اللفظ الذي رواه الأوزاعي مشترك (3) لا حقيقة ومجاز.
وإن أراد أنَّ اللفظ عام؛ فالعام لا تردد فيه، وإن أراد أنه لا يعلم ماذا وقعَ في لفظ الراوي إذا كان عامًّا= كان دليلًا على أنه فهم أنَّ المعنيين سواء عند السائل للصحابة الذين أفتوه، وأن السائل فهم عن الصحابة التسوية، وتكفي الرواية بالمعنى لا سيما ومن هو أكثر عددًا وأفضل منه حفظًا وفهمًا ذكروا لفظ الحالِفَة: (كل مملوك لي حر إِنْ فعلت كذا).
_________
(1) مجموع الفتاوى (13/ 349، 353) (18/ 26)، منهاج السنة (6/ 301).
(2) مقدار كلمة لم أستطع قراءتها، ولعلها: (وإيقاعه). ويكون صواب العبارة كاملة: (الحلف بلزومه لا بنذره وإيقاعه). وانظر (ص 308 – 309).
(3) في الأصل زيادة (و)، والصواب حذفها.

(1/312)


وأما قوله: (وقد علمنا أَنَّ مذهب الأوزاعي وقوع العتق إذا حلف به) (1).
فيقال: هذا حجة لنا؛ فإنه لمَّا رواه مع مخالفته لمذهبه دَلَّ على أَنَّ العتق محفوظ فيه مذكور في الحديث، وأما مخالفته له؛ فمعلومٌ أَنَّ المسألة فيها نزاع بين التابعين ومن بعدهم، وقد نُقِلَ النزاع فيها عن الصحابة أيضًا، وفقهاء الحديث الذين هم أعلم بالآثار وأتبع لها من الأوزاعي ــ كأحمد وإسحاق ومحمد بن نصر وغيرهم ــ رووا هذه الزيادة [من] (2) طرقٍ أثبتُ من الطريق التي رواها الأوزاعي، ثم خالفوها لمعارضة [الأثر] (3) بما عندهم؛ فالأوزاعي يخرج عن ذلك؟! (4).
وهذا مالك يروي أحاديث (5).
[83/ أ] بعض الرواة عما ذكره بعضهم، ولو نفى حميد (6) ما أثبته سليمان التيمي وأشعث لقضي لهذين على ذينك؛ فكيف إذا أثبتا ما لم يتعرض ذانك لا لنفيه ولا لإثباته؟
والمجيب لم يصحح رواية سليمان بهذه كما ادعاه المعترض (7)،
بل
_________
(1) «التحقيق» (38/ ب).
(2) طمس بالأصل، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام.
(3) طمس بالأصل، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام.
(4) كذا في الأصل، ولعل صواب العبارة: (فالأوزاعي لا يخرج عن ذلك).
(5) هنا سقطت لوحة من المخطوط حسب الترقيم الموجود في أعلى الأصل.
(6) وضع الناسخ هنا علامة اللحق، وفوقها حرف (ظ)، ولم يثبت شيئًا.
(7) في الأصل: (المجيب)، وعلَّقَ عليها الناسخ بقوله: (أظنه: المعترض)، وما ظنه هو الأقرب لسياق الكلام.

تنبيهٌ: في الأصل بعد قوله (المجيب) هذه العبارة: (بل بيَّن أنَّ سليمان لم ينفرد بهذه كما ادعاه المجيب)؛ والظاهر أنَّ هذا خطأٌ بسبب انتقال بصر الناسخ.

(1/313)


بيَّن أنَّ سليمان لم ينفرد بهذه الرواية، فلا يجوز تعليل روايته بالانفراد؛ ولو قُدِّرَ أنَّ الانفراد علة فإنه لو تابعه عليه مَنْ فيه جرح لم (1) يكن منفردًا عند أهل العلم بالحديث؛ فكيف إذا تابعه أشعث بن عبد الملك الحمراني (2) وهو إمام كبير، وجسر بن الحسن وهو شيخٌ لا نَعرف أحدًا جرحه (3) بمعلوم (4)؛ والرواية عن هذين ثابتة باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
ورواه عن الأشعث مثل: محمد بن عبد الله الأنصاري القاضي، وروح بن عبادة.
ورواه عن جسر مثل: الأوزاعي؛ هذا مما يوجب القطع بأن سليمان التيمي لم ينفرد بذكر العتق = فبطل تعليل ذكر العتق بانفراد سليمان التيمي.
وسليمان التيمي في نفسه ثقةٌ إمامٌ فقيهٌ، هو أَجَلُّ قدرًا في العلم والفقه والحفظ والدين مِن كل مَن روى هذا الحديث عن بكر بن عبد الله المزني.
فإذا قيل: قد انفرد بذكر العتق؛ فعرفنا أنه قد تابعه هذا وهذا، علمنا قطعًا أنه لم ينفرد به؛ فبطل التعليل بهذا لو كان علة. وإذا عرفت أنه لم ينفرد، وقد
_________
(1) في الأصل: (ولم).
(2) في الأصل: (أشعث بن الحسن)، وصوابه ما أثبتُّ، وتقدم على الصواب مرارًا.
(3) انظر ترجمته في: تاريخ دمشق (72/ 96)، الكامل في ضعفاء الرجال (2/ 170)، تهذيب الكمال (4/ 556).
(4) في الأصل: (فمعلوم)، ولعل الصواب ما أثبت؛ والمراد أي: بجرحٍ مفسَّر.
وقد قرر المجيب في مجموع الفتاوى (24/ 351) أنه إذا كان الج