http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: جامع المسائل [آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (2، 3، 4، 5، 9، 13، 17، 18، 29)]المؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661 – 728 هـ) تحقيق: جـ 1 – 6، 8 (محمد عزير شمس)، جـ 7 (علي بن محمد العمران)، جـ 9 (عبد الرحمن بن حسن قائد) راجعه: جـ 1 – 4، 7 (سليمان بن عبد الله العمير، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 5، 6 (سليمان بن عبد الله العمير، جديع بن محمد الجديع، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 9 (سليمان بن عبد الله العمير، على بن محمد العمران) الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الثانية (للمجموعات من 1 – 9)، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الأجزاء: 9 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
وأما الأموال السلطانية؛ فإن الله تعالى جعلها لمن يجلب للمسلمين المنفعة في دينهم ودنياهم، ويدفع عنهم المضرَّة في دينهم ودنياهم، ولذوي السوابق والحاجات من المسلمين.
فأهل المنفعة مثل: ولاة الأمور، [و] ولاة الحرب، وولاة الحكم، وولاة الديوان، والمشايخ والعلماء، وأئمة المساجد والمؤذِّنين، وكل من تولى في مصلحة المسلمين. ومثل الجند المقاتلة الذين ينصرونَ الله ورسولَه، ويجاهدون في سبيل الله بسيوفهم.
وذوو (1) السوابق مثل: بني هاشم، وبني [ق 4] المطَّلِب من أقارب النبيّ – صلى الله عليه وسلم -.
ومثل أولاد الجُنْد الصغار الذين مات آباؤهم [أ] وقُتلوا، فإنه يجب أن يُرْزَق أولاد الجندية حتى يبلغوا ويصيروا من المقاتلة، أو يخرجوا عن ذلك، ويُنْفَق على النساء حتى يتزوجن.
وذوو الحاجات هم: فقراء المسلمين، فإذا كان الرجل فيه الحاجة والمنفعة للمسلمين كان استحقاقه أوكد.
_________
(1) الأصل: “وذو”.
(7/234)
وأما الحكم بين الناس فهو في الحدود والحقوق:
فالحدود؛ كلُّ من تعدَّى حدودَ الله فإنه يُعاقَب بما شرعه الله ورسوله، مثل إقامة الحدود على قُطَّاع الطريق، وشُرَّاب الخمور، والمعلنين بالفواحش المحرَّمة، والمظهرين للبدع المخالفة للكتاب والسنة.
والحقوق؛ مثل ما بين الناس من الدِّماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحو ذلك.
والمقصود بذلك كلّه أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله تعالى يقول في كتابه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].
ولهذا أوجب على المسلمين أن يقاتلوا من خرج عن شريعة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإن ادعى الإسلام، كما قاتل أبو بكر الصديق وأصحابُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مانعي الزكاة.
وقال عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ لأبي بكر الصديق ــ رضي الله عنه ــ: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أُمِرْت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله”. فقال له أبو بكر: فإن الزكاة مِنْ حقِّها. قال
(7/235)
عمر: فوالله ما هو إلا أنْ رأيتُ الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمتُ أنه الحق (1).
واتفق الصحابة على قتال أقوام كانوا يصلّون ويصومون شهر رمضان إذا خرجوا عن بعض شرائع الإسلام، وقد تواتر في الصحاح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه ذكر الخوارج فقال: “يَحْقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه من صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السَّهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قَتْلهم أجرًا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل (2) عاد” (3). وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الصحابة.
فإذا كان هؤلاء مع كثرة صومهم وصلاتهم وقراءتهم قد أمر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بقتالهم، لخروجهم عن شرائع المسلمين [ق 5] …… (4)
[{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ] [ق 6] لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]. وقال
_________
(1) أخرجه البخاري (1399)، ومسلم (20) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) الأصل:”قتلة”.
(3) أخرجه البخاري (3611)، ومسلم (1066) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وتقدم.
(4) سقطت ورقة [5] من الأصل.
(7/236)
تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
فالمسلم يفعل ذلك إيمانًا واحتسابًا؛ إيمانًا بأنَّ الله تعالى أمرَه بذلك، واحتسابًا بالأجر على الله، كما قال عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ: “لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حِسْبة له” (1).
فإن الإنسان إذا أطاع ذا سلطان (2) أو نصح الأمة؛ للرغبة إلى الخلق والرهبة منهم= كان عبد السوط والدرهم. كما ثبت في “الصحيح” عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “تَعِسَ عبدُ الدرهم، تَعِسَ عبد الدينار، تَعِس عبد الخميصة، تَعِس عبدُ القطيفة، تَعِس وانتكس، وإذا شِيْك فلا انتقش، إن أُعْطيَ رضي، وإن لم يُعْطَ سَخِط” (3).
والخميصة: كساء يُلبس. والقطيفة: ما يُجْلس عليه.
فدعا على من يكون عبد النفقة والكسوة، وإنما المؤمن عبد الله،
_________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في “التقوى” ــ كما في كنز العمال: 16/ 155 ــ بإسناد منقطع، كما في جامع العلوم والحكم: (1/ 69 – 70) ــ لابن رجب. وأخرجه البيهقي عن أنس مرفوعًا في “الكبرى”: (1/ 41)، والخطيب في “الجامع”: (693)، وغيرهما. قال الحافظ في “التلخيص”: (1/ 150): “في سنده جهالة”. وله شاهد من حديث أبي ذر عند الديلمي.
(2) “أطاع ذا سلطان” غير واضحة، ولعلها ما أثبت.
(3) أخرجه البخاري (2887) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7/237)
يعبد الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. وإذا كان ذا (1) ولاية عَدَّ ما يفعله من العدل والإحسان عبادةً لله تعالى يتقرَّب بها إليه. وإن كان من الرعية عدّ طاعتَه في طاعة الله، ونصيحتَه عبادة (2) لله يَتَقرَّب بها إلى الله، وذلك كله داخل في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
وإذا كان الله تعالى قد أمر ولاة الأمور بأداء الأمانات والحكم بالعدل؛ والأمانات هي: الولايات والأموال، فالأصل في الولايات القوة والأمانة، وإذا تعذَّر ذلك عمل الممكن، فإن الله لا يكلِّف نفسًا إلا وُسْعها، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إذا أمرتكم بأمرٍ فاتوا منه ما استطعتم” (3).
وأصلُ ذلك أن يولِّي الرجلُ أصلحَ من يقدر عليه، وإن لم يوجد الأصلح إلا وفيه نوعٌ من العجز أو الفجور؛ فهذا هو الواجب، بخلاف من قدَّم المفضول لجهلٍ أو هوى. قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من قلَّدَ رجلاً عملاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين” رواه الحاكم في “صحيحه” (4).
_________
(1) الأصل: “ذو”.
(2) “عبادة” ملحقة في الهامش.
(3) أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337) وتقدم.
(4) سبق تخريجه (ص 231 ــ 232).
(7/238)
وأما الأموال المشتركة كلها؛ من مال الفيء، والصدقات المفروضة، والصدقات الموقوفة، والأموال التي يقبضها الولاة لبيت المال من أموال الرعية بتأويل أو ظلم وتعذَّر ردُّها إلى مستحقّيها.
فمالُ الفيء الذي أفاء الله على رسوله من أهل القرى، مثل أكثر الأرض السلطانية الداخلة في الإقطاعات وما لها من خراجٍ قديم أو جديد هو مثل الحَكْر، ومثل مال الجِزْية، وما [ق 7] يُقبض من أموال أهل الحرب بصلح أو بتجارة.
والصدقات مثل عُشور الغلَّات، وزكاة الماشية التي قد كتبها العدَّاد، وزكاة أموال التجار التي تُؤخذ من المسافرين بِدُور الزكاة.
وسائر الأموال السلطانية معروفة، والأموال الموقوفة التي يتقلّدها غالبًا الحاكم أو ناظر حاضرٌ، كأوقاف المساجد والمدارس، والرُّبُط والزوايا، وما يطلق أيضًا من بيت المال لهذه الجهات.
كل (1) هذه الأموال المشتركة تُسْتحقُّ بأحد ثلاثة أسباب: منفعة الرجل للمسلمين، أو حاجته، أو سابقته (2).
_________
(1) هنا تعليق في الهامش لم يظهر كاملاً.
(2) جعلهم المصنف هنا ثلاثة أقسام، وفي “السياسة الشرعية” (ص 72) جعلهم أربعة، إذ جعل هنا (منفعة الرجل للمسلمين) قسمًا واحدًا شاملًا للرجل وغنائه والرجل وبلائه، وهناك جعلهما قسمين: من يغني عن المسلمين في جلب المنافع كالساسة والعلماء، ومن يبلي حسنًا في دفع الضرر عنهم، كالمجاهدين والأجناد.
(7/239)
وقد ذكر عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ــ رضي الله عنه ــ ذلك فقال: “إنه ليس أحدٌ بأحقّ بهذا المال من أحدٍ، إنما هو الرجلُ وغَناؤه، والرجلُ وبلاؤه، والرجلُ وفاقته، والرجلُ وسابقته” (1). فهذا ذَكَرَه في مال الفيء ونحوه من الأموال السلطانية.
فالرجلُ وبلاؤه؛ هم المقاتِلَة في سبيل الله حُمَّال السلاح، يُرْزقون من مال الله تعالى ــ مال الفيء وغيره ــ ما أعطاهم اللهُ ورسولُه.
والرجلُ وغَناؤه؛ مثل ولاة الأمور، [و] ولاة الحرب، مثل نُوَّاب السلطان، ووالي الشرطة، الذين يقيمون الحدود، ويخلِّصون الحقوق، ويحفظون الطرقات، ويدفعون ظلم الظالم عن المظلوم، وهم الشادّون لأمر الله ورسوله الذي جاء به الكتاب والسنة.
ومثل ولاة الأموال من الكُتَّاب والجُباة وغيرهم من العُمَّال، كما ذكرهم الله تعالى في كتابه.
ومثل ولاة الحكم والقضاة الذين يَفْصِلون الخصومات، ويتولون ما يتولونه من العقود والفسوخ، وحفظ أموال اليتامى والغائبين، والنظر في الأوقاف وإجرائها على شروط واقفيها، وغير ذلك من مصالح المسلمين.
_________
(1) أخرجه أحمد (292)، وأبو داود (2950)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى: (6/ 346). وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على “المسند”: (1/ 281). وفي إسناده مقال.
(7/240)
وكذلك أمر المساجد والمؤذنين (1)، والمُفْتون والمعلِّمون، ومُقْرئو القرآن، ومبلِّغو الأحاديث النبوية، والمشايخ الذين يؤدِّبون الناس، ويأمرونهم بما أمر الله به ورسولُه= كلُّ هؤلاء لهم غَناء عن المسلمين، لقيامهم في مصالح دينهم ودنياهم.
والقسم الثاني: الفقراء والمحاويج، والغارمون، وأبناء السبيل، وغيرهم، فيُعْطَون لحاجتهم وفقرهم.
والثالث: ذوو السابقة الذين استحقوا بالنسب، كاستحقاق ذوي القُرْبى، قربى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الخمس والفيء. واستحقاق ذرية الأجناد إذا مات أباؤهم، فإنه يُنفَق على صغار ولده، حتى يبلغ ذَكَرُهم وتتزوَّج أُنثاهم، وعلى امرأته حتى تتزوج.
ومثل الوقف الموقوف على بني فلان، [ق 8] إما رجل وقف على ذرّيته أو ذرّية غيره، كرجل صالح أو صاحب له أو غير ذلك.
فأهل الزكوات إما من يأخذ لحاجته كالفقراء والغارمين وابن السبيل، أو لمنفعته كالعامل والغازي.
وكذلك أهل الأوقاف الحكمية، مستحقّها إما صاحب منفعة كالإمام والمؤذن والمدرِّس، وإما محتاج كالمُوْقَف على الفقراء والمساكين، وكذلك أموال الفيء وغيره من المصالح.
_________
(1) كذا في الأصل، ولعلها: “أئمة المساجد والمؤذنون”.
(7/241)
هذا هو الأصل الذي دلَّ عليه الكتابُ والسنة، وهو الذي يعتمده ولاة الأمور في أداء الأمانات إلى أهلها. وبذلك تنتظم مصلحتهم في الدنيا والآخرة، وما لا يُدْرَك كلُّه لا يُترَك كُلّه.
فهذه قاعدة كليّة جامعة لولاة أمور المسلمين، فإنَّ جميع هذه الأمور داخلة في حُكم الكتاب والسنة، وسنة الخلفاء الراشدين.
وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يتولى بنفسه في المدينة المصالح العامة؛ من تعليم (1) العلم، والقضاء والجهاد، واستيفاء الحساب على العمال، حتى ثبت عنه في “الصحيح” (2) أنه استعمل رجلًا على الصدقة، فلما رجع حاسبه، وهو استيفاء الحساب.
وكان له من هو بمنزلة صاحب الشرطة؛ ففي “الصحيح” (3) عن أنس بن مالك ــ رضي الله عنه ــ قال: كان قيس بن سعد بن عُبادة من النبي – صلى الله عليه وسلم – بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير.
وكان له الكُتَّاب يكتبون الوحي والعلم، ويكتبون العهود والشروط، ويكتبون الرسائل والعطايا والولايات. كتب له أبو بكر رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه، وعثمان وعلي رضي الله عنهما، وزيد بن ثابت،
_________
(1) الأصل: “تعلم”.
(2) أخرجه البخاري (1500)، ومسلم (1832) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.
(3) البخاري (7155). وفيه “صاحب الشّرَط”.
(7/242)
ومعاوية وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
فكُتَّاب الوحي يُشْبِههم من بعض الوجوه كُتَّاب العلم في هذا الزمان. وكُتَّاب العهود والشروط يُشبِهُهم كُتَّاب الشروط التي بين الناس عند الحكام وغيرهم. وكُتَّاب الرسائل والعطايا والولايات يُشْبِههم كُتّاب الإنشاء.
وكان يؤمِّر الأمراء على البلاد، فلما انتشرت الرعيّة في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ وضَعَ الديوان ديوان العطايا والنفقات، وديوان الخراج الأول مثل ديوان المجاهدين، وديوان الذرِّية الذين ليسوا بمجاهدين من النساء والصبيان، وديوان الخراج الذي يجمع الأموال المستخرجة.
وجعل له على المِصْر ثلاثة ولاة: والي الحرب، ووالي المال، ووالي الحكم. كما استعمل على الكوفة ثلاثة؛ فولى عمار بن ياسر على الحرب. وأمير الحرب هو الذي كان يصلي بالناس. وعبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال، وعثمان بن حنيف على الخراج، وهو المال. وكان زيد بن ثابت على ديوان [ق 9] الجيش والعطاء.
وهذه الولايات الثلاثة هي قوام الأمة، لكن دخل في ذلك زيادة ونقصان وتغيير، تارةً بحسب الرأي والمصلحة، وتارةً بحسب الهوى والشهوة، وتارةً بمجموعهما.
(7/243)
فالله تعالى يوفِّق ولاة أمور المسلمين وعامتهم لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويعينهم على مصالح الدنيا والآخرة.
وحامل هذه التحية الشيخ القدوة تقيّ الدين ابن الشيخ محمد بن الشيخ الكبير الشيخ عثمان .. (1) هو وإخوته أهل بيت خير ودين ومنفعة للناس في دينهم ودنياهم، وقد لزمهم بسبب حاجتهم وبسبب خدمتهم للناس ديونٌ، ولهم حقٌّ في الأموال المشتركة الثلاثة، تارةً من جهة حاجتهم، وتارة من جهة منفعتهم، وتارة من جهة سابقتهم. فإذا عُومل هؤلاء بما لهم وأوصِلَ إليهم ما يستحقونه= كان ذلك مما يجلب لصاحبه الدعاء المستجاب، والثناء المستطاب، وجزيل الأجر والثواب، فخير المعروف ما وافق محلّه.
والله هو المسؤول أن يعين ولاة الأمور وسائر المسلمين على مصالح الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتبه لنفسه محمد بن أحمد بن علي الخطيب (2) في رابع عِشْري شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبعمائة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليمًا.
_________
(1) كلمة لم أتمكن من قراءتها، وكتب في الهامش مقابلها كلمة لم تتضح.
(2) غير واضحة في الأصل، لكنها واضحة في رسالة أخرى بخط الناسخ نفسه ستأتي هنا.
(7/244)
صورة كتاب عن
ابن عربي والاعتقاد فيه
(7/245)
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
وما توفيقي إلا بالله
صورة كتاب كتبه شيخ الإسلام وقدوة الأنام، فريد عصره، وإمام وقته، أنموذج الطِّراز الأول، ومَن عليه في زمانه المُعوَّل، الإمام العلامة، مفتي الفِرَق، تقيّ الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، فسح اللهُ في مدَّته للمسلمين، ونفع ببركته الطالبين، وجمع بيننا وبينه في دار كرامته آمين.
وذلك بسبب كلام وقع في الاعتقاد بين جماعةٍ من الفقراء من أهل مدينة بعلبكّ في الاتحاد الذي أشار إليه ابن العربي في كلامه، وابن سبعين، وابن الفارض، وغيرهم ممن يعتقد مذهبهم ويوافقهم عليه، وذلك بحضرة جماعة من مشايخ دمشق، في مجلس الشيخ تقي الدين بدمشق.
واجتمع رأيُهم جميعهم على أنَّ القول بهذا الاتحاد إلحادٌ وكفر. وسألوا الشيخ ــ رضي الله عنه ــ أن يكتب بذلك (1) كتابًا إلى أهل بعلبكّ، ليعرفوا الحقّ فيتّبعوه، والباطل ويجتنبوه.
_________
(1) طمس جزء من الكلمة، وتحتمل “لهم بذلك” أو “في ذلك”.
(7/247)
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
من الدّاعي أحمد ابن تيمية إلى السادة الأجلّاء الأكابر (1) من أهل بعلبك ومن حولها، جمع الله قلوبَهم [ق 2] على الهدى والرشاد، وأعانها على الصلاح والسداد، وجعلهم معتصمين بحبله المتين، متَّبعين لشريعة نبيّهم خاتم المرسلين، وأصلح لهم أمرَ الدنيا والدين.
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كلّ شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وإمام المتقين، محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد؛ فإنه حضر إلى دمشق المشايخ السادة: الشيخ الكبير أبو القاسم، وأخوه الشيخ محمد، والشيخ هارون المقدسي، واجتمعوا بمجلسٍ فيه أعيان المشايخ السَّادة الذين يُقتدى بهم، مثل سيدنا الشيخ عماد الدين الحزّامي، والشيخ القدوة الشيخ محمد بن قِوام البالسي، والشيخ العارف عبد الله الجزري، والشيخ تاج الدين الفارقي، والشيخ شهاب الدين ابن جبارة، وغيرهم من المشايخ.
وجرى الكلام فيما وقع الخوض فيه من أمر الاتحاديّة (2)، كابن
_________
(1) آخر الكلمة مطموس، ولعلها ما أثبت.
(2) غير واضحة، ولعلها ما أثبت.
(7/248)
العربي والتلمساني وابن سبعين ونحوهم، وأُحْضر كتاب “فصوص الحكم” لابن العربي، وقُرِئ منه فصول متعددة، وقُرِئ أيضًا بعض ما (1) كُتِب من بيان حقيقة أمرهم، وكشف سرّ مذهبهم.
وظهر للجماعة حقيقة أمره، وأن حقيقة مذهبه: أنّ وجود الكائنات ــ حتى وجود الكلاب والخنازير، والأنتان والعَذِرات، والكفار والشياطين ــ هي عين وجود الحق، وأنَّ أعيان الكائنات ثابتة في القِدم، لم يخلقها الله ولم يُبدعها، بل ظهر وجوده فيها، ولا يمكن أن يظهر وجوده إلا فيها، فهي غذاؤه بالأحكام، وهو غذاؤها بالوجود، وهو يعبدها وهي تعبده.
وأن عين الخالق هو عين المخلوق، وعين الحق المُنزَّه هو عين الخلق المُشبَّه، وأن الناكح هو المنكوح، والشاتم هو المشتوم، وأن عُبَّاد الأصنام ما عبدوا إلا الله، ولا يمكن أن يُعبد إلا الله.
وأن قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] أي: حَكَم وقدَّر، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فما عُبِد غير الله في كلّ معبود، وأن عُبَّاد الأصنام وقع تقصيرهم من حيث عبدوا بعض المجالي الإلهية، ولو عبدوا كلَّ شيءٍ لكانوا عارفين كاملين، وأن العارف الكامل يعلم ما عَبَد وفي أيِّ صورة ظهر حتى عُبِد، وأن نوحًا ــ عليه السلام ــ أثنى على قومه بلسان الذمّ، وأن أعيان المخلوقات هي نفس الخالق.
_________
(1) “بعض ما” مطموسة، فلعلها ما أثبت.
(7/249)
وأن الشخص الذي ادعاه أنه خاتم الأولياء هو أكمل من خاتم الأنبياء محمد من بعض الوجوه؛ فخاتم الأنبياء موضع لبنة، وخاتم الأولياء [ق 3] موضع لبنتين، وأنه أعلم من خاتم الأنبياء، وهو يأخذ من المعدِن الذي يأخذ منه المَلَك الذي يوحي إلى خاتم الأنبياء، وأن موسى ما عَتَبَ على هارون لمَّا ذمَّ قومه على عبادة العجل إلا لضيق هارون حيثُ لم يعرف أنهم إنما عبدوا الله!
وأنَّ السحَرَة عرفوا صدق قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. إلى أنواعٍ من هذه المقالات التي لا يعتقدها المسلمون ولا اليهود ولا النصارى ولا الصابئون ولا المشركون، وإنما هي قول المُعطِّلة الذين ينكرون وجود الصانع، وينكرون أن الله رب العالمين، وأنه خالق الخلق، وهو حقيقة قول فرعون والقرامطة الباطنية الجاحدين لربّ العالمين.
وكذلك يُقرُّ أعيان هؤلاء أنّ قولهم هو قول فرعون، ووقفوا على قوله (1): إن عُبِد الله ما له حقيقة، وأن أهل النار لا يتألمون فيها، بل يتنعَّمون في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة!
فلما وقفوا على ذلك، اجْتَمعت كلمتُهم واتفقت قلوبُهم على أن هذا كفرٌ وإلحاد، وأنهم بُرآءُ إلى الله تعالى من أهل الحلول والاتحاد، سواء
_________
(1) أي: ابن عربي.
(7/250)
قالوا بالحلول أوالاتحاد في شيء معيَّن، كما تقوله النصارى في المسيح، والمغالية في عليّ وبعض أهل البيت، وكما تقوله طائفة في الحلَّاج، أو الحاكم بمصر، أو يونس (1)، أو غير هؤلاء. أو قالوا: إن ذات الله حالَّة في كلّ مكان، كما تقوله طوائف من الجهمية. أو قالوا بمقالة هؤلاء الذين يقولون: إنه عين الموجودات، وليس للعالم خالق متميِّز عنه، ولا ربّ له وجودٌ غير وجود الخلق، بل ينكرون الصانع ويعطلون الخالق.
واتفقت كلمتُهم على أنّ ثناء من يُثني على بعض هؤلاء ممن سمع عنه أنه رجل صالح أو أنه عارف، أو وقف على بعض كلامه الذي هو حسن؛ مثل بعض كلام ابن العربي في “الفتوحات”، وبعض كلامه في “مطالع النجوم”، وبعض حكاياته في “الدُّرَّة الفاخرة” ونحو ذلك. فإن من سمع ذلك أو رآه، ولم يقف على حقيقة قوله في “الفصوص”، ولم يعرف سرَّ مذهبه= فإنه لم يوافقه على قوله، بل لمَّا تبين له كلامه بالباطل تبرَّأ إلى الله من هذه المقالات الكفرية التي في “الفصوص” ونحوه، وممن يعتقدها.
كما قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ
_________
(1) يعني شيخ الطائفة اليونسية، يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني المخارقي (ت 619). ترجمته في “السير”: (22/ 178)، و”وفيات الأعيان”: (7/ 256). وللشيخ قاعدة في أحواله. ذكرها ابن عبد الهادي في ترجمته (ص 65).
(7/251)
عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ [ق 4] فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
وأما نفس المتكلّم بهذا الكلام مثل ابن العربي وغيره، فيمكن أنه قد تاب منه، ويمكن أنه ما تاب منه. فإن كان مات مؤمنًا بالله ورسوله فهو من المؤمنين، وإن كان على غير ذلك فهو من المنافقين، والله أعلم بسريرته، وإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.
ثم إنه بعد ذلك حصل بينهم من الاتفاق والائتلاف، والطيب ومكارم الأخلاق، والتواصي بالحق والصبر، والتعاون على البر والتقوى، كما أمرهم الله تعالى به في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102 – 103].
وقد كُتِب هذا الكتاب بحضرة المشايخ وبأمرهم، وهم جميعًا يأمرون بما أمر الله به ورسوله، من الاعتصام بالكتاب والسنة، ولزوم الجماعة، والنهي عن التفرّق والاختلاف، قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
(7/252)
إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 105 – 107].
قال ابن عباس: تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفُرْقة (1).
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 159].
وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 31 – 32].
وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ (2) الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]، فأخبر سبحانه أنّ مبدأ التفرّق هو البغي. وقد قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحُجُرات: 9 – 10].
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره: (3/ 729).
(2) الأصل: (وما تفرق) ولا آية بهذا السياق، وفي سورة الشورى سياق قريب منه: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الشورى: 14].
(7/253)
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “عليكم بالجماعة فإنّ يدَ الله على الجماعة” (1).
وقال: “ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف [ق 5] والنهي عن المنكر؟ ” قالوا: بلى يا رسول الله. قال: “صلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين” (2).
وقال – صلى الله عليه وسلم -: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا وشَبَّك بين أصابعه” (3).
_________
(1) بهذا اللفظ أخرجه الطبراني في “الكبير”: (11/ 78) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وروي نحوه عن عمر بن الخطاب أخرجه الترمذي (2165) وقال: “حسن صحيح غريب”، والنسائي في “الكبرى” (9181). ومن حديث أبي الدرداء عند النسائي (847) وغيره، وعن معاذ بن جبل عند أحمد (22029) وغيره. رضي الله عنهم.
(2) إلى قوله: ” … هي الحالقة” أخرجه أحمد (27508)، وأبو داود (4919)، والترمذي (2509)، وابن حبان (5092) وغيرهم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال الترمذي: “حديث صحيح”. وصححه ابن حبان.
أما قوله: “لا أقول تحلق … ” فهو جزء من حديث أخرجه أحمد (1430)، والترمذي (2510)، والطيالسي (190)، وغيرهم من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. ولفظه: “دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين … “. قال الترمذي: حديث صحيح.
(3) أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(7/254)
وقال: “مَثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائر الجسد بالحُمّى والسّهَر” (1).
وقد قال الله تعالى في كتابه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 – 3].
فهذا الذي أمر الله به ورسولُه، وما كان من الأهواء المفرِّقة والأغراض الفاسدة؛ فهي مما حرَّمه الله ورسوله، حتى إن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – كان مرةً في بعض مغازيه فتنازع رجلان فقال أحدهما: يا للمهاجرين، وقال الآخر: يا للأنصار! فغضب النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال: “أبِدَعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها فإنها مُنْتِنة” (2).
وقال: “مَنْ سمعتموه يتعزَّى بعزاء الجاهلية فأعِضُّوه بِهَنِ أبيه ولا تكنوا” (3). فسمع أُبيُّ بن كعب ــ الذي قرأ عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – سورة (لم
_________
(1) أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (4905)، ومسلم (2584) من حديث جابر رضي الله عنه.
(3) أخرجه أحمد (21256)، والبخاري في “الأدب المفرد” (963)، والنسائي في “الكبرى” (8813)، وابن حبان (3153) والطبراني في “الكبير” (532) وغيرهم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. والحديث صححه ابن حبان، وقال الهيثمي في “المجمع”: (3/ 3): رجاله ثقات.
(7/255)
يكن) ــ سَمِعَ رجلاً يقول: يا آل فلان، فقال: اعُضُضْ أيْرَ أبيك! فقالوا: يا أبا المنذر! ما كنت فحَّاشًا، فقال: بهذا أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يدٌ على من سواهم، ويسعى بذمّتهم (1) أدناهم” (2). وقال: “المسلم أخو المسلم لا يُسْلمُه ولا يظلمُه” (3). وقال: “انصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا” قيل: يا رسول الله انصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: “تمنعه من الظلم، فذاك نصرُك إيَّاه” (4).
فالواجب على المسلمين أن يكونوا مجتمعين على طاعة الله ورسوله، واتباع كتابه وسنة رسوله، واتباع سبيل السابقين الأوَّلين، وأن يكونوا مع المُحِقِّ على المُبْطل، ومع المُهْتدي على الضال، ومع الراشد على الغاوي؛ يُعَظِّمون ما عظَّمه الله ورسوله، ويوجبون ما أوجبه الله ورسوله، ويحرِّمون ما حرّم الله ورسوله، ويحبّون ما أحبّه الله ورسوله، ويبغضون ما أبغضه الله ورسوله، ويكْرِمون مَن أكرمه اللّهُ ورسولُه.
_________
(1) الأصل: “بدمهم”. والمثبت من المصادر.
(2) أخرجه أحمد (959)، وأبو داود (4530)، والنسائي (4734) عن علي رضي الله عنه. وأخرجه أحمد (6796)، وأبو داود (2751)، والحاكم: (2/ 141) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهو صحيح بشواهده.
(3) أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4) أخرجه البخاري (2443، 6952) من حديث أنس رضي الله عنه.
(7/256)
وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجُرات: 13].
وقد وصف [ق 6] الله أولياءه بذلك فقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ (1)} [يونس: 62 – 63].
فأخبر ــ سبحانه ــ أنَّ نَعْت الإيمان (2): الإيمان والتقوى، والتقوى هي ما سنَّه بقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
جمع الله لكم ولسائر المسلمين خيرَ الدنيا والآخرة، وأسبغ عليكم نعمَه الباطنة والظاهرة، وتولَّاكم في جميع الأمور، وصرف عنكم كلَّ محذور، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والحمد لله وحده، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
_________
(1) الأصل: “والآخرة”.
(2) كذا ولعله: “الأولياء”.
(7/257)
وكتب الشيخ تقي الدين ــ رضي الله عنه ــ صورة المجلس الذي حضر فيه المشايخ عنده في دار الحديث السُّكَّريَّة التي بالقصَّاعين بدمشق، وهي سكن الشيخ تقي الدين ــ أدام الله علوَّ قدره ــ يومئذٍ في نسختين، أحدهما (1) أخذها الشيخ أبو القاسم ابن الشيخ الشهيد عبد الله بن محمد ابن الشيخ عبد الله اليونيني. والأخرى أخذها الشيخ هارون المقدسي، وهو المنكور عليه في الاعتقاد.
وهذه صورة المحضر وصورة خطوط المشايخ مرقومة فيه:
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
يقول أحمد ابن تيمية: إني حضرت بمجلس اجتمع فيه جماعةٌ من الشيوخ وغيرهم، بسبب النظر في قضيَّة جرت لكلام ابن العربي، فلما قُرِئ كلامه المذكور في “فصوص الحكم”، وعُرف معناه وما انطوى عليه مِن اعتقادِه: أنَّ الله هو وجود الكائنات، وأن أعيانها ثابتة في القِدَم، وأنَّ الخالقَ هو المخلوق، والناكح هو المنكوح، والمتكلِّم هو المستمع.
وتفضيله خاتم الأولياء الذي ادَّعاه على خاتم الرسل من بعض الوجوه، وإنكاره حقيقة العذاب في الآخرة، وما يلزم قوله من أن الله لم يخلق شيئًا، وليس هو ربّ العالمين.
_________
(1) كذا في الأصل.
(7/258)
وأنه نفس الكلاب والخنازير، وتصريحه بأن عُبَّاد الأصنام ما عبدوا إلا الله، ولا يمكن أن يُعبد إلا الله، وغير ذلك من أنواع الكفر.
= اجتمعوا على أن هذه المقالات وما أشبهها كفرٌ وإلحادٌ، وتبرَّأوا إلى الله [ق 7] تعالى من أنواع الحلول والاتحاد. وامْتَحَى بذلك ما كان يظنه من يظن أنَّ ابن العربي من أولياء الله، حيث تبيَّن لهم أنّ كلامه شرٌّ مِن كثير مِن كلام اليهود والنصارى.
وجمع الله قلوبهم على ذلك، وأنا موافقٌ لهم على ذلك. في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الآخر سنة أربع وسبعمئة.
***
صورة خطوط المشايخ تحت خطِّ الشيخ ــ رضي الله عنهم أجمعين ــ
– كذلك يقول أبو القاسم بن عبد الله اليونيني، وكتب في التاريخ المذكور (1).
– كذلك يقول هارون بن إبراهيم المقدسي، وكتب في التاريخ.
– كذلك يقول الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن سُونج عفا الله عنه في تاريخه.
– كذلك يقول محمد بن عوض اللخمي.
_________
(1) كتب تحته بخط أصغر: “هو الشيخ أبو القاسم ابن اليونيني”.
(7/259)
– كذلك يقول أحمد بن محمد بن جُبارة (1).
– كذلك يقول محمد بن قوام، وكتبه في التاريخ، والحمد لله وحده (2).
– كذلك يقول أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي، كتبه في التاريخ المذكور (3).
– وكذلك يقول عبد الله بن موسى الجزري (4)، وكُتِبَ عنه بإذْنِه وحضوره.
– وكذا أقول، وكتبه محمود بن عبد الكريم الفارقي (5).
– كذلك أقول، كتبه محمد بن الشهيد عبد الله اليونيني (6).
– أشهد (7) أن قائل هذه المقالة كَفَر بها وافترى على الله عز وجل، وحاد عن سواء السبيل، وأبْرأ إلى الله تعالى منها ومن مُعْتقدها. كتبه أحمد بن محمد الدّشْتي في التاريخ المذكور.
_________
(1) كتب تحته بخط أصغر: “هو الشيخ شهاب الدين بن جبارة المفتي، ووالده أيضًا كان مفتي المسلمين”.
(2) كتب تحته بخط أصغر: “هو الشيخ محمد بن قوام رحمه الله”.
(3) كتب تحته بخط أصغر: “هو الشيخ عماد الدين الحزّامي”.
(4) كتب تحته بخط أصغر: “هو الشيخ عبد الله الجزري”.
(5) كتب تحته بخط أصغر: “هو الشيخ تاج الدين الفارقي”.
(6) كتب تحته بخط أصغر: “هو الشيخ محمد بن اليونيني”.
(7) كتب فوقها في أول الصفحة: “تتمة صورة المحضر”.
(7/260)
تم الكتاب والمحضر والخطوط، وذلك يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى من شهور سنة أربع وسبعمئة. والحمد لله وحده وصلواته وسلامه على محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
(7/261)
مسألة فيمن يقول: إن عليَّ بن أبي طالب
أولى بالأمر من أبي بكر وعمر
(7/263)
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
ولا حول ولا قوة إلا بالله
مسألة سئل عنها شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية ــ رضي الله عنه ــ فيمن يقول: إن عليّ بن أبي طالب أولى بالأمر من أبي بكر وعمر ــ رضي الله عنهما ــ وأنهما لم يلياه إلا مُغالبةً. هل هو مصيب أم مخطئ؟ وماذا يجب على من يعتقد ذلك؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، بل هذا القائل مخطئ مُبْتدع ضالٌّ، مخالف لكتاب الله، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإجماع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، بل هو مفترٍ افتراءً ظاهرًا، يُعْرَف كذبه فيه علمًا ضروريًّا بالنقل المتواتر، وبغير ذلك من الأدلة.
بل إذا قال مثل هذا القول في عثمان وعليّ كان مفتريًا ضالًّا زاريًا على المهاجرين والأنصار، بل على أمة محمد مطلقًا.
قال أيوب السختياني، وأحمد بن حنبل، والدارقطني، وغيرهم: من قدَّم عليًّا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار (1). فكيف من
_________
(1) هذا القول مشهور عن سفيان الثوري، أخرجه ابن الأعرابي في “معجمه” (1554)، وأبو نعيم في “الحلية”: (7/ 27) وغيرهما. وجاء عن عمار بن ياسر، أخرجه الطبراني في “الأوسط” (832). وجاء عن النخعي، أخرجه أحمد في “فضائل الصحابة” (309). وروي عن أحمد بن حنبل كما في “تاريخ دمشق”: (39/ 508).
وقوله: (والأنصار) كُتبت فوق السطر وعليها آثار ضرب، وهي ثابتة في كل الآثار المروية عن الأئمة، وكذا في كتب المصنف الأخرى. انظر “الفتاوى”: (3/ 162)، و”المنهاج”: (1/ 367).
(7/265)
قدَّمه على أبي بكر وعمر؟ فكيف بمن طعن في خلافة عثمان؟ فكيف بمن طعن في خلافة أبي بكر وعمر؟!
ولم يكن أحد من سَلَفِ الأمة ــ لا مِن [ق 2] شِيعة عليّ ولا غيرهم ــ يطعنون في خلافة أحدٍ من الثلاثة، لكن أنكر بعضُهم على عثمان بعضَ الأشياء في آخر خلافته؛ فأما السّنَة الأولى من خلافته فلم ينكروا عليه شيئًا.
ولم يكن بين الشيعة الأولى نزاعٌ في تقديم أبي بكر وعمر على عليٍّ وعثمان، وإنما كان يتنازع بعضُهم في عثمان وعليّ.
وقد رُوي [من] أكثر من ثمانين وجهًا عن عليّ بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ أنه قال: “خيرُ هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر” (1).
_________
(1) أخرجه أحمد في “المسند” (833، 834، 835، 836، 837) وغيره من طرق عن عليّ. وذكر المصنف أن هذا متواتر عن علي رضي الله عنه. انظر “منهاج السنة”: (2/ 37)، (6/ 81).
(7/266)
وقد رواه البخاري في “صحيحه” (1) من حديث محمد بن الحنفية أنه قال لأبيه علي بن أبي طالب: يا أبتِ، مَنْ خير الناس بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: عمر.
وهذا روته هَمْدان ــ وهم من شيعة عليّ ــ عن ابنه محمد بن الحنفية: أن أباه قاله له. فامتنعَ أن يكون قال ذلك تقيَّةً لابنه، مع أن الله قد نزَّهه عن الكَذِب والنفاق الذي تسميه الرافضة: تقيَّة!
بل قال: لا أوتَى بأحدٍ يفضِّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حدَّ المفتري (2). ولا يُجْلَد ظهر المسلم إذا قال الصِّدْقَ، وأسماه (3) مفتريًا.
وظهور فضيلة أبي بكر وعمر على غيرهما في العلم والدين، والشجاعة والكرم أظهر من أن تحتاج إلى بسط عند من كان له أدنى خبرة بأحوال القوم. ولهذا اتفق العلماء المعتبرون على أن أبا بكر أعلم الأمة وأدْيَنها وأشْجعها وأكْرَمها، لكن وقعت لبعضهم شُبهة في عثمان وعليّ لتقاربهما.
وقد أجمع السلف على تقديم عثمان. فإنه قد ثبت في “صحيح البخاري” (4) وغيره خبر مَقْتل عمر (5)، وجَعْله الأمر شورى في ستة
_________
(1) (3671).
(2) أخرجه أحمد في “الفضائل”: (1/ 83)، وابنه عبد الله في “السنة”: (2/ 562).
(3) هكذا قرأتها وتحتمل غير ذلك.
(4) (7207).
(5) بعده في الأصل كلمة لكن محاها الناسخ.
(7/267)
وتقديمهم عثمان. وهذا مما تواتر عند الخاصة والعامة. وقد رواه البخاري وغيره مفصَّلاً.
ومُلَخَّصُه: أنّ عمر جعل الخلافة شورى في ستة؛ عثمان وعلي، وطلحة والزبير، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقَّاص، ولم يُدْخِل فيها ابنه عبد الله ولا ابن عمه سعيد بن زيد، مع أنه من العشرة المشهود لهم بالجنة. فلمَّا دُفِن عمر اجتمع الستة في المسجد، فقال طلحة: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعثمان. وقال الزُّبير: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعليّ. وقال سعد: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعبد الرحمن بن عوف (1)، يخرج أحدنا ويولي أحد الرجلين، وعليه عَهْد الله وميثاقه أن يولي أفضلهما، فسكت عثمان وعليّ، فقال عبد الرحمن: أنا أخرج وعلَيَّ عَهْد الله وميثاقه أن أولِّي أفضلهما، فرضيا بذلك وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليهما يشاور الأمة. وكان بالمدينة خيار الأمة من المهاجرين والأنصار وأمراء الأمصار.
قال المِسْوَر بن مَخْرمة: [ق 3] طرَقني عبد الرحمن بعد ثلاث فقال: وإنك لنائم! إن لي ثلاثًا ما اغتمضتُ بنوم، ثم قال: ادع لي عليًّا، فدعوته فناجاه طويلاً، ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته، فناجاه طويلاً، ثم لما صلوا الفجر بعد ثلاث حلف صهيب قال عبد الرحمن: إني قد شاروت الناس حتى الأعراب والعذارى في خُدُورهن، فرأيتهم لا يعدلون
_________
(1) كلمة ممحوّة هنا.
(7/268)
بعثمان، فبايعه عليٌّ (1) وعبد الرحمن وسائر الصحابة بيعةَ طَوْعٍ واختيار، بعد مشاورةٍ واتفاق، لا بسوطٍ ولا نوطٍ ولا بذلِ عطاء.
فإن لم يكن عثمان هو الأولى بالخلافة وقدَّموا غيره، كانوا إما جاهلين بحقِّ الأفضل، وإما ظالمين بتولية مَنْ غيرُه أولى بالخلافة، كيف وفي الحديث الذي رواه الحاكم في “صحيحه” (2): “أنه مَنْ قلَّد رجلاً عملًا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين”.
وقد ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “خير القرون القرن الذي بُعِثْتُ فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم” (3).
وهذه القصَّة كانت بعد موت النبي – صلى الله عليه وسلم – ببضع عشرة سنة، فذلك القرن الأول الذي هو أفضل قرون هذه الأمة، وقدموا عثمان، فإن كانوا مخطئين أو ظالمين كان خيار هذه الأمة مخطئين في الإمامة أو ظالمين فيها.
والرافضة تقول (4): إنما قدَّموا غيرَه لأحقادٍ جاهلية وأضغان كانت في القلوب عليه لأجل جهاده في سبيل الله. فإن كانوا كذلك فهم من
_________
(1) الأصل: “عليًا”.
(2) “المستدرك”: (4/ 92 – 93) وقد تقدم تخريجه (ص 231 ــ 232).
(3) أخرجه البخاري (2651) مسلم (2535) وقد سبق (ص 27).
(4) الأصل: “يقول”.
(7/269)
[شرّ] (1) الخلق، وإذا كان خير هذه الأمة كذلك لم تكن هذه الأمة خير أمة أُخرجت للناس، بل تكون هذه الأمة من شرار الأمم! وهذا حقيقة قول الرافضة، وهذا خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.
وقد قال العلماء: إن الذي ابتدع الرفض كان زنديقًا قَصْده إفساد دين الأمة، قالوا: وكان يهوديًّا فأسلم اسمه عبد الله بن سبأ، وإليه تُنسب السبئيّة.
وقد رُوي أن عليًّا طلبَ قتلَه وهربَ منه. فإن عليًّا ــ عليه السلام ــ مذهبه عقوبة أصناف الشيعة الغالية: بالقتل، والمُفضِّلة: بالجلد، والسَّبَّابة: قد رُوي عنه فيهم القتل. وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع (2).
وأما خلافة أبي بكر وعمر وثبوت فضلهما على عثمان وعلي وغيرهما؛ فدلائله أكثر من أن تُحصر، فقد ثبت في “الصحيح” أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعائشة: “ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناسُ من بعدي”. ثم قال: “يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر” (3).
وهذا الحديث المفسَّر يبين [ق 4] مراده بالحديث الآخر الصحيح
_________
(1) مشطوبة في الأصل، وخرج لها في الهامش لكن لم تظهر أيضًا.
(2) انظر “الصارم المسلول”: (3/ 1055 ــ 1114)، و”مجموع الفتاوى”: (3/ 405 وما بعدها).
(3) أخرجه مسلم (2387).
(7/270)
وهو قوله: “ائتوني بدواة وقرطاس حتى أكتب لكم كتابًا لن (1) تضلوا بعده أبدًا” (2).
وفي “الصحيح” (3) أن امرأة جاءته فقالت: أرأيت إن جئتُ فلم أجدك؟ كأنها تعني الموت. قال: “ائتي أبا بكر”.
وفي “السنن” (4) أنه قال: “اقتدوا باللَّذَيْنِ مِنْ بعدي” يعني أبا بكر وعمر.
_________
(1) الأصل: “لم” والتصويب من مصادر الحديث.
(2) أخرجه البخاري (114)، ومسلم (1637) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) أخرجه البخاري (3659)، ومسلم (2386) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(4) أخرجه أحمد (23276)، والترمذي (3662)، وابن ماجه (97)، وابن حبان (6902)، والحاكم: (3/ 79 – 80). من طريق رِبعي بن خراش عن حذيفة رضي الله عنه. قال الترمذي: “هذا حديث حسن”، وقال العقيلي في “الضعفاء”: (4/ 94 – 95): “يروى عن حذيفة بأسانيد جياد تثبت”، وصححه ابن حبان، وقال الحاكم: “هذا حديث من أجلِّّ ما روي في فضائل الشيخين، وقد أقام هذا الإسناد عن الثوري … فثبت بما ذكرنا صحة هذا الحديث، وإن لم يخرجاه” اهـ. وحسَّنه ابن الملقن في “البدر المنير”: (9/ 578).
وله شاهد من حديث ابن مسعود أخرجه الترمذي (3805)، والبزار “الكشف” (2679)، والطبراني في “الكبير” (8458)، و”الأوسط” (3828)، والحاكم: (3/ 80). قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، ويحيى بن سلمة يضعف في الحديث” اهـ، وقال الحاكم: بإسناد صحيح.
(7/271)
وفي “الصحيح” (1) أنه قال: “رأيت كأني أنزع على قليب فجاء ابن أبي قُحافة فنزع ذَنوبًا أو ذَنوبين وفي نَزْعه ضَعْف، والله يغفر له، ثم أخذها ابنُ الخطَّاب فاستحالت غَرْبًا، فلم أر عبقريًّا يفري فَرِيَّه حتى صَدَر الناسُ بعَطَن”.
قال الشافعي: أراد بضعف نَزْعِه: قِصَر مدّته لا ضعف هِمَّته (2).
وقد ثبت في الصحاح من غير وجه أنه قال: “لو كنتُ متخذًا من أهل الأرض [خليلاً] لاتخذت أبا بكر خليلاً” (3).
وفي لفظ: “ولكن أخوَّة الإسلام، لا يبقينَّ في المسجد خَوخَة إلّا سُدَّت إلا خَوخَة أبي بكر” (4).
فقد ثبت بهذا النص المتواتر عند الخاصة أنه لم يكن عنده من أهل الأرض أرفع درجةً من أبي بكر.
وثبت في “الصحيح” (5) عن عليّ أنه قال لما مات عمر: والله إني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحِبَيْك، فإني كنتُ كثيرًا ما أسمع النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – يقول: “دخلتُ أنا وأبو (6) بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر”.
_________
(1) أخرجه البخاري (2664)، ومسلم (2392) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) بنحوه في “الأم”: (2/ 317 – 318).
(3) أخرجه البخاري (3656) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) أخرجه البخاري (467)، ومسلم (2382) عن حذيفة رضي الله عنه.
(5) أخرجه البخاري (3685)، ومسلم (2389) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(6) الأصل: “أبا”، خطأ بدليل ما بعده.
(7/272)
وقال الرشيد لمالك: يا أبا عبد الله أخبرني عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته. فقال: شفيتني يا مالك (1).
والواجب على من قالَ القولَ المذكور أن يُعاقب عقوبةً بليغةً بعد الاستتابة، إما بالقتل في أحد قولي العلماء، وإما بما دونه في القول الآخر. والله تعالى أعلم.
تمت بحمد الله وعونه، والحمد لله رب العالمين (2).
_________
(1) أخرجه أبو القاسم التيمي في “الترغيب والترهيب” (1083)، وابن عساكر في “اتحاف الزائر” (271). ووجدته من قول علي بن الحسين زين العابدين. أخرجه أحمد في “الفضائل” (223)، والدينوري في “المجالسة” (1411) وغيرهما.
(2) بعده في الأصل: “فائدة: مسند أهل البيت رضي الله عنهم وهم خمسة: الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. عقيل ابن أبي طالب رضي الله عنه، جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه. عبد الله بن جعفر رضي الله عنه، رووا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – نحو خمسة وعشرين حديثًا أو سبعة وعشرين حديثًا”.
(7/273)
مسألة في
تفسير قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ .. }
وتفسير آيات أخرى
(7/275)
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
مسألة من كلام شيخ الإسلام وقدوة الأنام، تقي الدين ــ عُرِف بابن تيمية ــ في قول الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
الجواب:
الحمد لله.
قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} نزلت في سياق الأمر بالجهاد والترغيب فيه، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} الآية [النساء: 77 – 78].
فأخبر ــ سبحانه ــ أنَّ كلَّ أحدٍ لا بدَّ أن يموت، ولو كان في بروجٍ مشيَّدة، ولا ينفع الفرار من الموت والجهاد.
ثم قال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78].كان المنافقون إذا
(7/277)
أصابهم نصر ورزق يقولوا: هذا من عند الله، وإن أصابتهم محنة تنقص في الرزق أو تخوّف من العدوّ قالوا: هذه من عندك يا محمد بشؤمِ الذي جئتَ به، فإنّك أمرتنا بمعاداة الناس وغير ذلك مما يوجب الضرر؛ فقال الله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} أي: لا يفقهون القرآن الذي أُرسلتَ به، وما فيه من الخير والهدى والشفاء (1) والبيان، وأنه لا شرَّ فيه (2).
ثم قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} أي: من نصر ورزق ونحو ذلك {فَمِنَ اللَّهِ} نعمةً أنعم بها عليك. {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} من خوفٍ ونقص رزقٍ واستيلاء عدوٍّ {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي: بذنبك، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]. وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] ونحو ذلك.
فالمراد بالسيئات والحسنات هنا: النِّعَم والمصائب، كما قال
_________
(1) لم يظهر آخر الكلمة وهكذا استظهرتها.
(2) انظر “معالم التنزيل”: (1/ 564) للبغوي.
(7/278)
تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف: 168]. وكما قال: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120]، والله أعلم.
***
مسألة من كلام الشيخ تقيّ الدين ابن تيمية في قوله تعالى عن سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي (1) مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]. وسليمان كان مُنَزَّهًا عن الدنيا لم يتناول منها شيئًا، فلِمَ تمنَّى الملك؟
الجواب: الحمد لله.
قد قيل: إنّ سليمان ــ عليه السلام ــ إنما سأل ذلك معجزةً وآيةً لنبوّته، كما أنّ من الأنبياء من كانت آيته الناقة، ومنهم من كانت آيته العصا، والحيَّة، وفَلْق البحر، وغير ذلك. ومنهم من كانت آيته إحياء الموتى، وإبراء الأكْمَه والأبرص، وغير ذلك. فكذلك آية سليمان هي الملك (2).
وقيل: إنّ سليمان سأل ذلك ليتمكَّن به من طاعة الله تعالى.
وقيل: إنَّ ذلك من باب المباح إذا لم يكن فيه معصية، كما أنّ نبينا
_________
(1) الأصل: (رب هب لي).
(2) انظر “مفاتيح الغيب”: (26/ 209) للرازي.
(7/279)
– صلى الله عليه وسلم – خُيِّر بين أن يكون عبدًا رسولًا، وبيَّن أن يكون ملكًا نبيًّا، فاختار أن يكون عبدًا نبيًّا، وهذا أعلى. وسليمان اختار أن يكون نبيًّا ملكًا، قيل له فيه: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39]. فهذا جائز والأول أفضل، وهي حال نبينا – صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم (1).
***
مسألة (2) من كلام الشيخ تقيّ الدين ابن تيمية في تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]. هل هذا اسم رجلٍ كان على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ وما معنى (3) قوله: (نصوحًا)؟
الجواب:
الحمد لله.
قال عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة والتابعين: التوبة النصوح: أن يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود إليه (4).
_________
(1) انظر “الجامع لأحكام القرآن”: (15/ 133) للقرطبي.
(2) هذه المسألة في “الفتاوى”: (16/ 57 – 59).
(3) (ف): “وأيشٍ معنى”.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (35632)، والطحاوي في “شرح المشكل”: (4/ 290). وأخرجه ابن أبي شيبة (35702)، والبيهقي في “الشعب” (6635) عن ابن مسعود رضي الله عنهما.
(7/280)
ونصوح: هو صفة للتوبة، وهو مشتقٌّ من النُّصْح والنصيحة.
وأصل ذلك هو الخلوص، يقال: فلان ينصح لفلان، إذا كان يريد له الخير إرادةً خالصة لا غشّ فيها. وفلان يغشّه إذا كان باطنه يريد السوء، وهو يظهر إرادة الخير، كالدرهم المغشوش.
ومنه قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]. أي: أخلصوا لله ورسوله قصدَهم وحبَّهم.
ومنه قوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: “الدّينُ النصيحةُ، الدّين النصيحة” (1)، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: “لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم” (2).
فإنَّ أصلَ الدّين هو حُسْن النية وإخلاص القصد (3)؛ ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم -: “ثلاثٌ لا يغلّ عليهنّ قلبُ مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ ولاة الأمور، ولزومُ جماعة المسلمين، فإنَّ دعوتهم تُحيط مِن ورائهم” (4). أي هذه الخصال الثلاث لا يحقد عليها قلب المسلم، بل
_________
(1) (ف): “الدين النصيحة ثلاثًا”.
(2) أخرجه مسلم (55) من حديث تميم الداري رضي الله عنه. بدون تكرار قوله: “الدين النصيحة” وبتكرارها أخرجه أحمد (7954) وغيره.
(3) كتبها أولًا: “القلب” ثم أصلحها.
(4) أخرجه أحمد (21590)، وأبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230)، وابن حبان (680)، وغيرهم، كلهم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن. وصححه ابن حبان.
وله شاهد من حديث أنس أخرجه أحمد (13350)، وابن ماجه (236).
(7/281)
يحبّها ويرضاها.
فالتوبة النصوح: هي الخالصة من كلِّ غشّ. وإذا كانت كذلك كانت ثابتةً (1)، فإنَّ العبدَ إنّما يعود إلى الذنب لبقايا في نفسه، فمتى (2) خرج من قلبه الشبهة والشهوة لم يَعُد إلى الذنب. فهذه التوبة النصوح. وهي واجبة كما (3) أمر الله تعالى.
ولو تاب العبد ثم عاد إلى الذنب قَبِل الله توبتَه الأولى، ثم إذا عاد استحقّ العقوبة، فإن تاب تاب الله عليه أيضًا. ولا يجوز للمسلم إذا تاب ثم عاد أن يصرّ، بل يتوب ولو عاد في اليوم مائة مرة. فقد روى الإمام أحمد فى”مسنده” (4) عن عليٍّ عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إنّ الله يحبّ العبدَ
_________
(1) (ف): “كذلك كائنة”.
(2) (ف): “فمن”.
(3) (ف): “بما”.
(4) (605)، وفي “فضائل الصحابة” (1191)، وأبو يعلى في “مسنده” (483) من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا. وفي إسناده عبيدة بن عبد الرحمن أبو عمرو البجلي، قال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات، لايحل الاحتجاج به. “المجروحين”: (2/ 199)، وانظر”تعجيل المنفعة”: (2/ 515). والمفتّن ــ بتشديد التاء ــ يعني: الممتَحَن بالذنب.
(7/282)
المُفَتَّن التوَّاب”، وفي حديث آخر: “لا صغيرةَ مع إصرار، ولا كبيرةَ مع استغفار” (1). وفي حديث آخر: “ما أصرَّ من استغفر ولو عاد في اليوم مائة مرة” (2).
ومن قال من الجهّال: إنّ (نصوحًا) اسم رجل كان على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أُمِرَ الناسُ أن يتوبوا كتوبته، فهذا رجل مفترٍ كذَّاب جاهل بالحديث والتفسير، جاهل باللغة ومعاني القرآن، فإنّ هذا امرؤٌ لم يخلقه الله تعالى، ولا كان من (3) المتقدّمين أحد اسمه (نصوح)، ولا ذَكَر هذه القصة أحدٌ من أهل العلم. ولو كان كما زعم الجاهل لقيل: توبوا إلى الله توبةَ نصوحٍ، وإنما قال: {تَوْبَةً نَصُوحًا}. فالنصوح هي التوبة لا التائب (4).
_________
(1) روي مرفوعًا وموقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما، فأخرج المرفوع ابنُ أبي الدنيا في “التوبة” (166)، والقضاعيُّ في “مسند الشهاب” (795). وأخرج الموقوف البيهقي في “الشعب” (6882).
(2) أخرجه أبو داود (1516)، والترمذي (3559) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال الترمذي: “هذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث أبي نُصَيرة، وليس إسناده بالقوي”. والبزار (93) وفيه: “سبعين مرة”. وقال: “وهذا الحديث لا نحفظه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من وجه من الوجوه إلا عن أبي بكر بهذا الطريق … وأبو نصيرة ومولى أبي بكر فلا يعرفان”. وروي من حديث ابن عباس عند الطبراني في “الدعاء” (1797).
(3) (ف): “في”.
(4) (ف): “والنصوح هو التائب”.
(7/283)
ومن قال: إن المراد بهذه الآية رجل أو امرأة اسمه (نصوح)، وأنه كان على عهد عيسى عليه السلام أو غيره؛ فإنه كاذب يجب عليه أن يتوب من هذا، فإن لم يتب وجب عقوبتُه بإجماع المسلمين، والله أعلم.
تمت.
***
مسألة من كلام شيخ الإسلام وعلامة الزمان تقي الدين ابن تيمية الحراني في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90].
الجواب:
الحمد لله.
الخمر: هي المُسكر، كما ثبت في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “كلُّ مُسْكر خمر وكلُّ خمر حرام” (1)، وقال: “كلُّ مُسكر خمر وكلُّ مسكر حرام” (2). وقال: “كل شراب أسكر فهو حرام” (3).
فكلُّ ما أسكر كثيرُه فقليله حرام وهو خمر، سواء كان من العنب أو التمر أو الحنطة أو الشعير أو العسل أو لبن الخيل أو غير ذلك.
_________
(1) رواه مسلم (2003/ 75).
(2) رواه مسلم (2003/ 74). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3) أخرجه البخاري (242)، ومسلم (2001) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(7/284)
وأما المَيسِر: فهو القِمار، وهو يجمع معنيين:
أحدهما: أكْل المال بالباطل، كبيع الغرر، فإنه من الميسر.
والثاني: الأعمال التي فيها مغالبة بلا منفعة، تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع العداوة والبغضاء، سواء كانت بعِوَض أو بغير عِوَض؛ كاللعب بالنَّرْد والشِّطْرنج ونحوهما، فإن ذلك كله من الميسر، كما فسَّر الآيةَ بذلك علماءُ السلف من الصحابة والتابعين.
وأما الأنصاب: فهي ما يُنْصب من التماثيل التي تُعبد من دون الله.
وأما الأزلام: فهي ما يُسْتَقْسَم به، أي يَطلب العبدُ عِلم ما قَسَم الله له به، كما كانت العرب تستقسم بالحصى وبالقِداح، وهي نُشّاب لا نصل (1) له ولا ريش. وكما يستقسم ناسٌ بالقرعة المأمونية المكتوب عليها (أب ج د) فإن خرج الفرد غالبًا قالوا: (سَعْد)، وإن خرج الزوج غالبًا قالوا: (نَحْس).
وهذا من فروع النجوم، فإن الكواكب إذا اتصلت على شكل مثلَّث أو مسدَّس، بأن يكون بين الكوكبين ستون درجة أو مئة وعشرون درجة= جعلوا ذلك علامة على السعادة.
وإن كان على شَفْع، مثل أن يكون بينهما تسعون درجة= فيقولون:
_________
(1) رسمها في الأصل: “أصل” والصحيح ما أثبت.
(7/285)
“ربعة”، أو مئة وثمانون درجة، فيقولون: “قابلة” (1).
أو يكونان على درجة واحدة، فيقولون: “قارنة”، جعلوا ذلك بخلاف الوتر، حتى إذا كتب أحدهم: (ورنة) (2) قَطَعَ حَرْفَها لتصيرَ مثلَّثة، فهذا من الاستقسام بالأزلام.
وكذلك الضرب بالشعير والحصى لطلب علم ما يكون. وكذلك النظر في الألواح. فهذا وشِبْهه من الاستقسام بالأزلام. وهذه الأربعة كما قال تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}.وقد أمرنا تعالى باجتناب هذا الرجس بقوله: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] والله أعلم (3).
***
مسألة من كلام الشيخ تقي الدين ابن تيمية في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى قوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3].
الجواب:
الحمد لله.
_________
(1) انظر “الفتاوى”: (6/ 548 ــ الرسالة العرشية).
(2) غير واضحة في الأصل.
(3) انظر “مجموع الفتاوى”: (23/ 67 – 68)، (35/ 171 – 172).
(7/286)
الميتةُ: ما مات حتف أنفه.
والدم: هو الدم المسفوح يحرم أكله.
ولحم الخنزير: أُريد به تحريم أكل الخنزير، ولهذا ذَكَر اللحم، فإنه لو قيل: (والخنزير) لظن أنه أريد تحريم قتله وأكله، كما في قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [المائدة: 96].
والمنخنقة: وهي الشاة والعنز ونحوهما تنخنق بالحبل وغيره.
والموقوذة: وهي البهيمة والطائر يضرب بمُثَقَّل، كالحجر والطُّومار (1) ونحو ذلك مما يَقْتل بثقله لا بحدِّه.
والمتردية: هي الدابة تتردَّى من مكان عالٍ، كرأس الجبل والسطح.
والنطيحة: الدابة تنطحها أخرى، فتموت من النطح.
وما أكل السّبُع: هي الدابة يأكلها ذئب ونحوه، فلا يُباح ما بقي منها إذا ماتت بأكله.
فإن كان في شيءٍ من ذلك حياةٌ مستقرَّة، فذُكِّي، فجرى دَمُه وتحرّك بعضُ أعضائه أُبيح.
_________
(1) الطومار: هو مجموعة الورق الكاملة، يكون لها ثقل قد تقتل به. “مآثر الإنافة”: (1/ 325)، و”اللسان”: (4/ 502).
(7/287)
والأزلام: قد فُسِّرت في جواب الآية الأخرى (1). والله أعلم (2).
_________
(1) (ص 283).
(2) بعد الفتوى ذكر الناسخ أو غيره حديثًا عن رطن (كذا والمعروف: رتن) الهندي يرويه عن النبي – صلى الله عليه وسلم -!! وقد علق أحد القراء في الهامش بقوله: رتن هذا كذاب ظهر بعد الستمئة ببلاد الهند وادعى الصحبة ووضع أحاديث رواها عن النبي – صلى الله عليه وسلم -. وقد ساق الصفدي في الجزء الثامن من “تذكرته” قصة رؤيته للنبي، لكن الحفاظ الثقات لا يثبتونه اهـ. ثم كتب اسمه: “لمحرره أحمد الخضر”. وانظر كلام الذهبي عنه في “الميزان”: (2/ 45).
(7/288)
مسألة في
قوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا عدوى ولا طِيَرة … “
وتسع مسائل أخرى
(7/289)
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
* سئل الشيخ الإمام العالم العلامة، الورع الزّاهد أبو العباس أحمد ابن تيمية عن قوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا عَدْوى ولا طِيَرة، ولا هامةَ ولا صَفَر” (1) مع ضبطهما.
* وهل حديث: “مَنْ كذبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مَقْعَدَه من النّار” (2) متواتر اللفظ والمعنى؟
* وهل القرآن متواتر بأحرفه؟
* وهل قراءة هؤلاء القرَّاء المشهورين متواترة أم لا؟
* وهل قراءة أبي جعفر ويعقوب متواترة؟
* وهل تُبْطِل الصلاةَ القراءةُ بالشاذِّ؟
* وهل لو حلف رجلٌ بالطلاق أن مذهبَ الشافعي خيرٌ من المذاهب الأربعة، وكذا المالكي والحنفي والحنبلي، كلٌّ منهم حَلَف أن مذهبه خير من المذاهب الأربعة، فهل يحنث واحدٌ من هؤلاء أم يحنثوا جميعًا؟ وما الحكم فيهم؟
_________
(1) أخرجه البخاري (5707)، ومسلم (2220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (110)، ومسلم (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد رواه جمع غفير من الصحابة أكثر من سبعين، وهو حديث متواتر كما قال المصنف.
(7/291)
* وهل النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى ربَّه سبحانه وتعالى ليلةَ أُسْريَ به بعيني رأسه أم بعين قلبه، ومع ذلك جَمْع اختلاف العلماء فيه بمذاهبهم؟
* وهل تجوز اللعنة على اليهود والنصارى والرّافضة وأهل البدع؟ وهل تجوز لعنة كلّ شخص من هؤلاء بعينه واسمه؟
أجاب:
الحمد لله.
* لفظ الحديث: “ولا هامَةَ ولا صَفَرَ” (1). ويجوز في إعرابه ما يجوز في إعراب: “ولا طِيَرة”. إن شئت قلت: “ولا هامةَ ولا صَفَرَ”، وإن شئت قلت: “ولا هامةٌ ولا صَفَرٌ”.
والهامة: ما كان بعض الجاهلية يعتقده من أن الميّت إذا لم يُؤخَذ ثأرُه من قاتله يخرج من قبره هامة (2). فنفى النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك في بيان ما نفاه من اعتقادات الجاهلية، وهو العدوى والطِيَرة. وكذلك قوله: “ولا صَفَر ولا غُول” (3).
وفي “الصَفَر” وجهان:
أحدهما: أنه الشيء الذي كان أهلُ الجاهلية يفعلونه، فيؤخِّرون
_________
(1) كتب بعدها في النسخة: “وإن شئت قلت” ثم ضرب عليها.
(2) انظر هذا التفسير وغيره في “فتح الباري”: (10/ 241).
(3) هذا اللفظ أخرجه مسلم (2222) من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه.
(7/292)
المحرّم إلى صفر.
والثاني: أنه داء من الأدواء يصيب بطن الإنسان (1).
* وأما قوله: “من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعدَه من النار” فمتواتر لفظًا ومعنى، لكنه متواتر عند الخاصّة، وهم أهل العلم بالحديث، كما تواتر عندهم سجود السهو، وفرائض الصلوات ونُصُبُها، ونحو ذلك.
بخلاف الصلوات الخمس وعدد ركعاتها، وتعيُّن البيت المحجوج إليه، والشهر المفروض صومه، ونحو ذلك= فإنّ هذا من التواتر العام. كما تواتر أنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – كان بمكة، وهاجر إلى المدينة، ومات بها، ونحو ذلك.
* فصل (2): والقرآن الذي بين لوحي المصحف متواتر، فإنّ هذه المصاحف المكتوبة اتفق عليها الصحابة، ونقلوها قرآنًا عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وهي متواترة من عهد الصحابة، فعُلِم (3) علمًا ضروريًّا أنها ما غُيِّرت.
_________
(1) ذكر مسلم بعد روايته للحديث تفسير الصَّفَر عن ابن جريج قال: “وسمعت أبا الزبير يذكر أن جابرًا فسَّر لهم قوله: “ولا صَفَر”. فقال أبو الزبير: الصفر: البَطْن. فقيل لجابر: كيف؟ قال: كان يقال: دوابّ البَطْن. قال: ولم يفسِّر الغول. قال أبو الزّبير: هذه الغول التى تغوّل”. وانظر “فتح الباري”: (10/ 171).
(2) هذا الفصل في “الفتاوى”: (12/ 569 – 570).
(3) (ف): “نعلم”.
(7/293)
والقراءة المعروفة عن السلف الموافِقة للمصحف تجوز القراءةُ بها بلا نزاع بين الأئمة، ولا فرق عند الأئمة بين قراءة أبي جعفر ويعقوب وخَلَف، وبين قراءة حمزة والكِسائي وأبي عَمْرو و [ابن أبي] (1) نعيم.
ولم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها: إن القراءة مختصَّة بالقرَّاء السبعة، فإن هؤلاء إنما جمع قراءاتِهم أبو بكر بن مجاهد (2) بعد ثلاثمئة سنة من الهجرة، واتّبعه الناسُ على ذلك، وقَصَد أن ينتخب قراءة سبعة من قرَّاء الأمصار. ولم يقل هو ولا أحدٌ من الأئمة: إنَّ ما خرج عن هذه السبعة فهو باطل، ولا إن قولَ النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “أُنْزِل القرآنُ على سبعة أحرف” (3) أُريد به قراءة هؤلاء السبعة. ولكن هذه السبعة اشتهرت في أمصار لا يعرفون غيرَها كأرض المغرب، فأولئك لا يقرؤون بغيرها لعدم معرفتهم باشتهار غيرها (4).
_________
(1) الأصل و (ف): “ونعيم” والصواب ما أثبت. وهو: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي المدني المقرئ (ت 169) أحد القراء السبعة.
(2) هو: أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد أبو بكر البغدادي، صاحب كتاب “السبعة”. (ت 324). ترجمته في “معرفة القراء”: (1/ 333 – 337)، و”غاية النهاية”: (1/ 139 – 142).
(3) أخرجه البخاري (2419)، ومسلم (818) من حديث عمر رضي الله عنه. وهو معدود في الأحاديث المتواترة، انظر “قطف الأزهار”: (ص 163).
(4) حتى قال ابن الجزري في “منجد المقرئين” (ص 99): “بلغنا عنهم (أي بلاد المغرب والأندلس) أنهم يقرؤون بالسبع من طرق الرواة الأربعة عشر فقط، وربما يقرؤون ليعقوب الحضرمي، فلو رحل إليهم أحد من بلادنا لأسدى إليهم معروفًا عظيمًا”.
(7/294)
فأما من اشتهرت عندهم هذه كما اشتهر غيرها، مثل (1) أرض العراق وغيرها، فلهم أن يقرؤوا بهذا وهذا (2).
* والقراءةُ الشاذَّةُ، مثل ما خرج عن مصحف عثمان، كقراءة من قرأ (الحيّ القيَّام) [البقرة: 255]، و (صراط مَنْ أنعمتَ عليهم) [الفاتحة: 7]، و (إن كانت إلا زَقْيَةً واحدة) [يس: 29]، (والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * والذكر والأنثى) [الليل: 1 – 3]، وأمثال ذلك= فهذه إذا قُرِئ بها في الصلاة ففيها قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد (3):
أحدهما: تصحّ الصلاة بها؛ لأن الصحابة الذين قرؤوا بها كانوا يقرؤونها في الصلاة ولا يُنكر (4) عليهم.
والثاني: لا؛ لأنها لم تتواتر إلينا. وعلى هذا القول، فهل يقال: إنها كانت قرآنًا فنُسِخ، ولم يَعرِف الذي قرأ بها الناسخَ. أو لم تُنسَخ ولكن كانت القراءة بها جائزة لمن ثبتت عنده دون من لم تثبت، أو لغير ذلك؟
_________
(1) الأصل: “غيره من” والمثبت من (ف).
(2) انظر “مجموع الفتاوى”: (13/ 389 – 403)، و”منجد المقرئين”: (ص 92 – 99، 108 – 110، 213 – 222 – بتحقيقي) لابن الجزري.
(3) انظر “المغني”: (2/ 166)، و”الإنصاف”: (2/ 43). وذكر في الأخير أن القول بصحة الصلاة اختيار شيخ الإسلام، وقال: إنه أنصّ الروايتين.
(4) كتبت في الأصل: “ينكرو” ثم ضرب على الواو فيما ظهر لي.
(7/295)
هذا فيه نزاع مبسوط في غير هذا الموضع.
* وأما من قرأ بقراءة أبي جعفر ويعقوب ونحوهما، فلا تبطل الصلاة بها باتفاق الأئمة، ولكن بعضُ المتأخِّرين من المغاربة ذكر في ذلك كلامًا وافقه عليه بعضُ من لم يعرف أصل هذه المسألة.
* فصل (1): وأما حَلِف كلِّ واحد أن أفضل المذاهب مذهب فلان، فهذا إن كان كلٌّ منهم يعتقد أن الأمر كما حلف عليه؛ ففيها قولان، أظهرهما: لا يحنث واحدٌ منهم، والثاني: يحنثون إلا واحدًا منهم، فإنَّ حنثه مشكوك فيه، لجواز أن يكون صادقًا، ولجواز كونهم سواء فيحنثون كلهم.
وإذا حَنِثوا إلا واحدًا منهم وقد وقع الشكُّ في عينه؛ فهل هو كما لو قال أحدُ الرجلين (2): إن كان غرابًا فزوجته طالق، وقال الآخر: إنْ لم يكن غرابًا فزوجته طالق، وهذه فيها قولان في مذهب أحمد وغيره (3):
أحدهما: لا يقع بواحد منهما طلاق، وهو مذهب الشافعي وغيره، لكن يكفّ كلٌّ منهما عن وطء زوجته، قيل: حتمًا، وقيل: ردعًا.
_________
(1) وهو في “مجموع الفتاوى”: (20/ 205 – 206).
(2) (ف): “فهي كما لو قال أحد الزوجين” خطأ.
(3) انظر “المغني”: (10/ 518)، و”الإنصاف”: (9/ 106 – 107). وذكر أن اختيار شيخ الإسلام وقوع الطلاق. و”روضة الطالبين”: (8/ 100).
(7/296)
والقول الثاني: أنه يقع بأحدهما، كما لو كان الحالف واحدًا وأوقعه بإحدى زوجتيه، وعلى هذا فهل تخرج المطلّقة بالقُرْعة، أو يقف الأمر؟ على قولين أيضًا في مذهب أحمد، والوقف قول الشافعي. والصحيح: أن من حلف على شيء يعتقده كما (1) حلف عليه فتبيَّن بخلافه؛ فلا طلاق عليه.
وأما مالك فإنه يُحنِّث الجميع ولو تبين صدق الحالف، بناء على أصله فيمن حلف على ما لا يعلم صحته (2)، كما لو حلف أنه يدخل الجنة. والنزاع فيها كالنزاع في أصل تلك المسألة.
وجمهور العلماء لا يوقعون الطلاق لأجل الشكّ، ومالك يوقعه لعدم علم الحالف بما حلف عليه، فهذه كما لو حلف واحد على ما لا يعلمه ولم يناقضه غيره، مثل أن يحلف أن مذهب فلان أفضل، وهو غير عالم بذلك.
* فصل (3): وأما الرؤية؛ فالذي ثبت في “الصحيح” (4) عن ابن عباس أنه قال: رأى محمدٌ ربَّه بفؤاده مرتين. وعائشة أنكرت الرؤية (5)،
_________
(1) (ف): زيادة “لو” وهي تفسد المعنى.
(2) انظر: “تهذيب المدونة”: (2/ 360).
(3) وهو في “مجموع الفتاوى”: (6/ 509 – 511).
(4) أخرجه مسلم (175/ 285).
(5) أخرجه البخاري (4855)، ومسلم (177).
(7/297)
فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد. والألفاظ الثابتة عن ابن عباس هي مُطْلقة أو مقيَّدة بالفؤاد، تارة يقول: رأى محمد ربَّه، وتارة يقول: رأى محمد. ولم يثبت عن ابن عباس لفظ صريح بأنه رآه بعينه.
وكذلك الإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: رآه بفؤاده، ولم يقل أحدٌ إنه سمع أحمد يقول: رآه بعينه، لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعضَ كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعضُ الناس مطلق كلام ابن عباس ففهم منه رؤية العين.
وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب والسنة ما يدلُّ على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدلُّ، كما في “صحيح مسلم” (1) عن أبي ذر قال: سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: “نورٌ أنَّى أراه”.
وقد قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. ولو كان قد أراه نفسَه بعينِه لكان ذِكْر ذلك أولى.
_________
(1) (178).
(7/298)
وكذلك قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 12]، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ولو كان رآه بعينه لكان ذِكْر ذلك أولى.
وفي “الصحيحين” (1) عن ابن عباس في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60] قال: هي رُؤيا عينٍ أُرِيَها رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة أُسريَ به.
وهذه رؤيا الآيات؛ لأنه أخبر الناسَ بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم حيث صدَّقه قومٌ وكذَّبه قوم، ولم يخبرهم بأنه رأى ربَّه بعينه، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذِكْر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذَكَره كما ذَكَر ما هو دونه.
وقد ثبت بالنصوص الصحيحة واتفاق سلف الأمة: أنه لا يرى الله أحدٌ في الدنيا بعينه (2)، إلا ما نازع فيه بعضُهم من رؤية نبينا – صلى الله عليه وسلم – خاصة. واتفقوا على أنَّ المؤمنين يرون الله يوم القيامة عيانًا كما يرون الشمس والقمر.
* واللعنة تجوز مطلقًا لمن لعنه الله ورسوله، وأما لعنة المُعَيَّن فإن
_________
(1) كذا في الأصل و (ف) ولم أجده إلا في البخاري (3888). وعزاه المصنف للصحيح في “جامع المسائل”: (1/ 213).
(2) “بعينه” كانت في الأصل مقدمة على “في الدنيا”، وعليها علامة (مـ) إشارة إلى تقديمها. وانظر ما سيأتي (ص 312) في الدليل على ذلك، ونقل الإجماع.
(7/299)
عُلِم أنه مات كافرًا، جازت لعنته.
وأما الفاسق المعيَّن فلا تنبغي لعنته؛ لنَهْي النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أن يُلْعن عبدُ الله حمارٌ الذي كان يشرب الخمر (1)، مع أنه قد لعن شارب الخمر عمومًا. مع أن في لعنة المعيَّن إذا كان فاسقًا أو داعيًا إلى بدعة نزاعًا (2). وهذه المسألة قد بُسِط الكلامُ عليها في غير هذا الموضع (3)، ولكن هذا ما وسعته الورقة، والله أعلم.
_________
(1) أخرجه البخاري (6780) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) الأصل: “نزاع”.
(3) انظر “منهاج السنة”: (4/ 344 ــ 347) و”مجموع الفتاوى”: (3/ 412).
(7/300)
مسألة في الرَّمي بالنُّشَّاب
(7/301)
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية تغمَّده الله برحمته:
مسألة في الرّمي بالنُّشَّاب (1) والبُندُق (2)، وما اصطلحوا عليه من الرسوم في الأستاذية:
الجواب: الحمد لله رب العالمين.
الرمي بالنُّشّاب من الأعمال الصالحة التي أمر الله بها ورسوله، قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
وثبت في «صحيح مسلم» (3) عن عقبة بن عامر عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنه قرأ هذه الآية على المنبر وقال: «ألا إنّ القوَّة الرمي»، وفي «الصحيح» أيضًا أنه قال: «ارموا واركبوا، وأن ترموا أحبّ إليّ [من] أن تركبوا، ومَن تعلَّم الرمي ثم نسيه فهي نعمةٌ جَحَدَها» (4)، وقال – صلى الله عليه وسلم -: «كلّ لهوٍ يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته، فإنهنَّ
_________
(1) النُّشّاب: السهم الذي يُرمى به عن القِسِي الفارسية. انظر «الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي» (ص 414).
(2) البندق: كرة في حجم البندقة يُرْمَى بها في القتال والصيد. «المعجم الوسيط».
(3) رقم (1917).
(4) تقدم تخريجه (ص 127) والتنبيه على ما وقع في لفظه من دمج حديثين في حديث واحد.
(7/303)
من الحقّ» (1). وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابُه يرمون بالنُّشَّاب.
فصل: ويجوز فيه الرّهان، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا سَبَق إلا في ثلاث: خُفٍّ أو حافرٍ أو نصلٍ» (2).
وأما الرّمْي بالبُنْدق، ويسمى الرمي بالجُلاهِق (3)، فلم (4) يكن السلف يفعلونه، ولكن أحدثه بعضُ الناس في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فنهى عنه أميرُ المؤمنين (5).
وذكر بعضُ العلماء أنه من أعمال قوم لوط (6).
وما قَتَله البندق فهو وقيذ، وقيل: لا يحلّ أكله باتفاق الأئمة الأربعة،
_________
(1) قطعة من حديث عقبة بن عامر السالف.
(2) أخرجه أبو داود (2574)، والترمذي (1700)، والنسائي (3585)، وابن ماجه (2878)، وابن حبان (4690)، والبيهقي: (10/ 16) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان، وابن القطان، وابن دقيق العيد. انظر «البدر المنير»: (9/ 418 – 422).
(3) بضم الجيم، البندق المعمول من الطين، الواحدة جلاهقة، وهو فارسي. «المصباح المنير»: (ص 41).
(4) الأصل: «ولم».
(5) أخرجه ابن عساكر: (39/ 228).
(6) جاء ذلك عن عليّ عند ابن أبي الدنيا في «ذم الملاهي» (146)، وعن الحسن مرفوعًا عند ابن عساكر: (50/ 322). ولايصح شيء منها. وانظر «السلسلة الضعيفة»: (1233).
(7/304)
بخلاف ما قتله النُّشّاب، فإنه إذا سمَّى الله وقَتل به حلّ أكلُه باتفاق علماء المسلمين.
والأمور التي ابتدعها رماةُ البندق من الأيمان التي يسمّونها أيمان البندق= من البدع التي لا أصل لها في الشريعة، لاسيّما ما يُذكر عنهم أنهم يحلفون بالله ويكذبون، ويحلفون بأيمان البندق ويصدقون، فإن هذا ليس من فِعْل من يؤمن بالله واليوم الآخر. (1) لاسيّما إذا حكم حاكمهم ــ حاكم الجاهلية الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ــ إذا حلف بالله يمينًا فاجرةً لا يهدّدونه، وإذا حلف بالبندق يمينًا كاذبةً يهدّدونه. وهذا حكم من لا يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر.
وكذلك القوانين التي وضعوها بمنزلة الشريعة، ويقدّمون فيها أكابرهم، يسألونهم فيفتوهم (2)، ويحكمون بينهم بغير ما أنزل الله، بل يحكم بجهالته، من جنس يساق (3) التتر، وسوالف الأعراب، وشرّ من ذلك. وقد قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
وحكّامهم يحكمون بالجهل وبغير ما أنزل الله، يرفعون من لم يأمر الله ورسوله برفعه، ويخفضون من لم يأمر الله ورسوله بخفضه،
_________
(1) بعدها في الأصل «وقال رسول» ولعلها سبق قلم.
(2) الأصل: «فيقنوهم».
(3) تحرفت في الأصل إلى: «فساق»، واليساق أو الياسق سيأتي التعريف به (ص 439).
(7/305)
ويُسقطون ويجرِّمون (1) من خالف بعض قوانينهم المبتدعة (2).
ولم يكن السلف يرمون بالبندق، ولا يفعلون شيئًا من هذه البدع؛ لأن الاجتماع على رمي البندق كثيرُ الشرّ والضرر، قليلُ الخير والمنفعة؛ فإنه لم يُهزم عدوٌّ [ق 47] برمي البندق، ولا فُتِحَت به مدينة، ولا قام به دين، وقتيله (3) لا يحلّ أكله، لاسيّما وأكثر ما يرمونه من الطير لا يحلّ أكله.
والمقصود بالرمي عدوٌّ يقتله أو صيدٌ يأكله، وهذا (4) لا يُقْصَد به عدوّ يقتله ولا صيد (5) يأكله، بل الافتخار بالباطل الذي [لا] (6) ينفع.
وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن يُتَّخَذ شيء فيه الرّوح غَرَضًا (7)، ولعن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – من يفعل ذلك (8)، فنهى أن يُجعل الطير والبهيمة غَرَضًا يُقصَد برمي الأغراض التي تُنْصب للرمي (9)، فإنّ ذلك تعذيب للحيوان
_________
(1) الأصل بحاء مهملة، ولعل صوابه ما أثبته.
(2) وانظر «مجموع الفتاوى»: (35/ 407 – 408)، (11/ 451).
(3) بعده في الأصل: «وقيل» ولعلها مقحمة أو سهو.
(4) في الأصل «ولهذا».
(5) الأصل «صيدًا».
(6) سقطت من الأصل.
(7) أخرجه مسلم (1957) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(8) أخرجه مسلم (1958) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(9) الأصل: «الرمي».
(7/306)
بغير مصلحةٍ راجحة، وهذا لا يجوز، فإنَّ الله تبارك وتعالى إنما أباحَ تعذيبَ الحيوان بالذبح والركوب، لما في ذلك من مصلحة بني آدم، فإذا جُعل الطيرُ هدفًا يُرمى إليه، كان ذلك تعذيبًا له بغير مصلحةٍ راجحة.
ورُماة البندق لا يقصدون بالرّمي ذكاة الطير ليؤكل، وإنما يقصدون الإصابة، من جنس ما [يتخذ] لرمي الأغراض والأهداف (1)، وهذا لا يجوز. بل لو قَصد قومٌ أن يرموا الطير بالنُّشّاب لمجرّد إصابة الطير من غير قصد الذكاة لم يجز ذلك.
وقد رُوي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «من قتل عصفورًا بغير حقه جاء يوم القيامة وأوداجه تشخب دمًا» (2). ولفظه: «من قتل عصفورًا عبثًا جاء يوم القيامة وله جؤار إلى الله يقول: يا رب سل هذا فيمَ قتلني» (3)، وفي لفظ: «من قتل عصفورًا بغير حقه سأله الله عنه يوم القيامة». رواه أحمد (4)،
_________
(1) العبارة في الأصل محرفة: «لا يقصدون للرمي ذكاة … يقصدون الأصنام من جنس ما الرمي … » ولعل صوابها ما أثبت.
(2) لم أقف عليه بهذا اللفظ.
(3) بنحوه أخرجه أحمد (19470)، والنسائي (4446)، وابن حبان (5894) وغيرهم من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه. وفي سنده صالح بن دينار، لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه إلا واحد.
(4) (6550) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. وأخرجه النسائي (4445)، والحاكم: (4/ 233)، قال الحاكم: صحيح الإسناد. وأعلّه ابن القطان بصهيب مولى ابن عامر، فقال: لا يُعرف حاله. «بيان الوهم والإيهام»: (4/ 590).
(7/307)
وروي عنه – صلى الله عليه وسلم -: «أنه نهى عن قتل الحيوان لغير مأكَلَة» (1).
وهؤلاء يقتلون الطير لغير مأكلة وبغير حقه، بل عبثًا ولعبًا بالباطل.
وثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – في «الصحيح» (2): أنه نهى عن الخذف وقال: «إنه لا يصيد صيدًا ولا ينكأ عدوًّا، ولكن يفقؤ العَيْنَ ويكسر السنّ»، فدلّ ذلك على أن ما كان من الرمي لا يُقصد به الصيد ولا يُنكأ به عدوّ= فهو ينهى عنه. ورَمْي البندق لا يقصد به نِكاية عدوّ، فإنّ غالب ما يقتلونه بالبندق لا يحل أكلُه، ولا يُعرف أنه فتح مدينة برمي البندق، ولا هُزِمَ به عدوّ، ولا قام به دين، وإنما يقصد أصحابه (3) التقدّم بأمر لا منفعة فيه للمسلمين لا في دينهم ولا دنياهم.
وأيضًا فرمي البندق تُنفق فيه الأموال لا في مصلحة دين ولا دنيا،
_________
(1) لم أجده بهذا اللفظ مرفوعًا، وروي موقوفًا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولفظه: « … ولا تعقرنّ شاة ولا بعيرًا إلا لمأكَلَة». أخرجه مالك (1292)، وابن أبي شيبة (33793)، وسعيد بن منصور (2/ 149).
وقال ابن الملقن في «البدر المنير»: (6/ 771): «هذا الحديث أقرب ما رأيت فيه رواه أبو داود في «مراسيله» (316) من حديث عمرو ابن الحارث، عن عثمان بن عبد الرحمن، عن القاسم مولى عبد الرحمن قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لا تحرقن نخلة … » إلى أن قال: «ولا تقتل بهيمة ليست لك بها حاجة».
(2) أخرجه البخاري (6220)، ومسلم (1954) من حديث عبدالله بن مغفل رضي الله عنه.
(3) الأصل: «أصحاب».
(7/308)
ويصدّهم ذلك عما (1) ينفعهم في الدين والدنيا، ويوقع بينهم الشرَّ، ويجرّهم إلى الاختلاء لفعل الفواحش وفساد الأولاد المسلمين، قلّ من يصحبهم من الأحداث إلا كان عند المسلمين معيبًا ناقص الحُرْمة، من جنس المجتمعين بقاعات العلاج (2)، فإن سيرة الطائفتين مذمومةٌ عند عامة المسلمين. والله أعلم.
_________
(1) في الأصل: «فما».
(2) كذا في الأصل، ومثله في «الاختيارات» (ص 212 ــ ضمن مجموعة فتاوى) وفي بعض نسخه الخطية، ووقع في نسخٍ أخرى «قاعات البغايا». «الاختيارات» (ص 518 ط الخليل) ونص الاختيارات: «ومن دخل قاعات البغايا، فتح على نفسه باب الشرّ، وصار من أهل التُّهَم عند الناس؛ لأنه اشتهر عمن اعتاد دخولها وقوعه في مقدّمات الجماع المحرم أو فيه، والعِشْرة المحرمة، والنفقة في غير الطاعة. وعلى كافل الأمرد منعه منها، ومِن عِشْرة أهلها ولو لمجرَّد خوف وقوع الصغائر، فقد بلغ عمر رضي الله عنه: أن رجلًا تجتمع إليه الأحداث فنهى عن الاجتماع به بمجرد الريبة» اهـ.
(7/309)
مسألة في قوله تعالى:
{فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}
ومسائل أخرى مختلفة
(7/311)
مسألة (1):
* قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، هل استقرار الجبل ممكن أم لا؟
* وهل هذا الكلام محظور (2) أم لا؟ ومن قال: إن استقرار الجبل ممكنٌ، هل تلزمه عقوبة أم لا؟
* وعلى من قال: السماع بالدفّ والشّبابة وما هو الغالب [ق 48] على الناس، هو على الناسِ حرامٌ وعليَّ حلالٌ، هل يفسق أم لا؟ وهل يكون قليل المروءة ساقط العدالة أم لا؟
* وصلاة الرغائب والمعراج وألفية نصف شعبان وغيرها من صلوات الأيام والليالي، هل وردَ فيها حديثٌ صحيح أو ضعيف، وهل هي سنة أو بدعة؟
* وهل يُسنّ تخصيص الجمعة بقيام أم لا؟
* وهل إذا مات ضفدع في (3) مائع كالعسل والدبس ونحوه (4) أم هو مما لا نفس له سائلة؟
_________
(1) في هذه المسألة ثمانية أسئلة، ثلاثة منها أجوبتها في «مجموع الفتاوى» (11/ 603، 23/ 134، 33/ 169) وهي على التوالي: الكلام على السماع بالدف والشبابة، وصلاة الرغائب، ومن قال: أنت طالق ..
(2) الأصل: «محظورًا».
(3) الأصل: «إلى» ولعله ما أثبت.
(4) كذا ولعله سقط «ينجس».
(7/313)
* ومن قال: أنت طالق إن دخل زيد الدار، فدخل زيدٌ ناسيًا، هل تطلق أم لا؟
* وإذا باعه غرارة حنطةٍ بثمنٍ نسيئةً، فعند حلول الأجل هل له أن يأخذ حنطةً بالثمن أكثر مما أعطى أم لا؟
* وهل قبل الجمعة سنة أم لا؟ فإنَّا نرى الروياني ذكر في «الحِلية» أن قبل الجمعة سنة، وذكرها صاحب «المنهاج» في منهاجه، رواها أبو محمد البغوي في «تفسيره»: أن ابن عمر كان يصلي قبل الجمعة ركعتين. ورفع الحديث. أفتونا مأجورين رضي الله عنكم.
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه فقال:
الحمد لله رب العالمين.
* إن كان مراد القائل: على أن يجعل الجبل مستقِرًّا، وأن يُري نفسه لموسى، فالله قادر على ذلك. وإن كان مراده أن الجبل استقرّ وأن موسى رأى ربه، فهذا كاذب مفترٍ، مخالفٌ الكتابَ والسنةَ والإجماع، يستتاب فإن تاب وإلا قُتِل.
وقد أجمع سلف الأمة على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، وقد أجمعوا على أنهم لا يرونه في الدنيا بعيونهم، وثبت في «الصحيح» (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر ابن صياد (169). وانظر ما سبق (ص 297).
(7/314)
ربَّه حتى يموت».
* ومن ادّعى أنّ المحرَّمات تحريمًا عامًّا كالفواحش والظلم والملاهي، حرامٌ على الناس حلالٌ له، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قُتِل. وإن ادعى في الدفوف أنها حرامٌ على بعض الناس دون بعض، فهذا مخالف للسنة والإجماع ولأئمة الدين، وهو ضالٌّ من الضُّلّال، وإن أصرَّ على اتباع هواه كان فاسقًا.
* وصلاة الرغائب بدعةٌ باتفاق أئمة الدين، لم يسنّها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا أحدٌ من خلفائه الراشدين، ولا استحبَّها أحدٌ من أئمة الدين كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم، والحديث المرويّ فيها كذبٌ بإجماع أهل المعرفة بالحديث (1).
وكذلك الصلاة التي تُذكر أول ليلة الجمعة من رجب، وفي ليلة المعراج، وألفية نصف شعبان، وكذلك الصلوات التي تذكر في يوم الأحد والاثنين وغيرهن (2) أيام الأسبوع. وإن كان قد ذكر هذه الصلاة
_________
(1) حديث صلاة الرغائب أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (1008) وقال: «هذا حديث موضوع على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وقد اتهموا به ابن جهضم ونسبوه إلى الكذب، وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ يقول: رجاله مجهولون، وقد فتشت عليهم جميع الكتب فما وجدتهم».
(2) كذا، ولعلها: «وغيرها [من]»، وفي «الفتاوى»: «وغير هذا من».
(7/315)
طائفةٌ من المصنفين في الرقائق والفضائل والفقه، فلا نزاع بين أهل المعرفة بالحديث أن أحاديثها موضوعة، ولا نزاع بين أهل المعرفة بالفقه أن هذه لم يستحبَّها أحدٌ من أئمة الدين، وفي «صحيح مسلم» (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لا تخصّوا ليلةَ الجمعة [ق 49] بقيام ولا يوم الجمعة بصيام». والأحاديث التي تُذكر في إحياء ليلة الجمعة وليلة العيدين كذبٌ على النبي – صلى الله عليه وسلم – (2).
* والضفدع إذا مات في ماءٍ قليل، فإن كان لها دمٌ يسيل، ففي نجاسته نزاع بين العلماء، فمذهب أبي حنيفة: لا ينجس، ومذهب الشافعي وأحمد: ينجس.
وليس هذه مسألة مالا نفس له سائلة لم ينجس (3) عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد، وهو أحد قولي الشافعي، فإن كان هذا في العسل ونحوه لم ينجسه، وأما الأول إذا كان في العسل فإن كان جامدًا ألقي وما حوله، وإن كان مائعًا ففيه قولان للعلماء وإحدى الروايتين عن
_________
(1) رقم (1144). ولفظه: «لا تختصوا يوم الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام … ».
(2) انظر «الموضوعات»: (2/ 427، 445، 450) لابن الجوزي. وللمصنف عدة أجوبة في صلاة الرغائب وغيرها من الصلوات المبتدعة في «الفتاوى»: (23/ 132 – 135، 414).
(3) كذا العبارة، فلعل فيها سقطًا.
(7/316)
أحمد ومالك، فإنّ حكم المائعات حكم الماء، وهذا هو الأظهر في الدليل.
* وإذا قال لامرأته: إن دخلت الحجرة (1) فأنت طالق، ودخلت ناسيةً، لم يقع الطلاق في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب أهل المدينة، كعَمْرو بن دينار وابن جريج وغيرهما، وهو أظهر قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد.
* فأما إذا باع حنطة إلى أجل واعتاض عن ثمنها بحنطة، فهذا فيه نزاع، فمذهب مالك وأحمد أنه يجوز، والأظهر أنه إذا كان في ذلك رفق بالمشتري، مثل أن لا يكون عنده إلا حنطة يحتاج أن يبيعها ويوفّي ثمنها، وإعطاءُ الحنطة أرفق به جاز، وإن لم يكن أرفق وإلا فلا (2).
* وليس قبل الجمعة سنةٌ راتبة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ركعتان معدودة في وقت مخصوص، بل الذي جاءت به السنة: أن يصلي قبلها ما تيسَّر من حين يدخل المسجد. ومذهب مالك لا سنة لها، وكذلك الذي عليه الشافعي وجمهور أصحابه، وكذلك المشهور عن أحمد، ولكنَّ القول
_________
(1) تحرفت في الأصل إلى «العمرة». والذي في «الفتاوى»: «الدار». لكن نص السؤال كان: «من قال: أنت طالق إن دخل زيد الدار، فدخل زيد ناسيًا … » فلعله ذهولٌ عن نصّ السؤال.
(2) كذا، وهو أسلوب درج عليه المؤلف، وبحذف «وإلا» يستقيم السياق. وتقدم التنبيه على مثله.
(7/317)
عن أبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: أن قبلها سنة، قيل: ركعتان، وقيل: أربع.
ومن روى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يصلي يوم الجمعة بعد الزوال وقبل الصلاة سنة فقد كذب عليه. فإن الثابت الصحيح أنه كان لا يؤذَّن على عهده إلا أذانه على المنبر، وقبل ذلك لا أذان، ولم يصلّ سنةً قبل الخروج. والله أعلم (1).
_________
(1) انظر «مجموع الفتاوى»: (24/ 188 ــ 200)، و «زاد المعاد»: (1/ 417 ــ 425)، وللبرهان ابن القيم رسالة مفردة في المسألة، ومثلها للشيخ المعلمي. وانظر «الأجوبة النافعة» (ص 21 ــ 28) للألباني.
(7/318)
[مسائل فقهية مختلفة]
مسألة في أهل الذمة إذا أظهر أحدٌ منهم الأكل في رمضان، وأكلَ بين المسلمين، هل يُنْهون عن ذلك أم لا؟
الجواب: بل يُنهون عن ذلك، فإنَّ هذا من المنكرات في دين الإسلام، كما ينهون عن إظهار شرب الخمر وأكل الخنزير، والله أعلم.
***
مسألة: في الدّعاء بعد الصلوات (1) الخمس للإمام والمأمومين جميعًا هل هو مشروع أم لا (2)؟
الجواب: الحمد لله.
دعاء الإمام والمأمومين جميعًا بعد الصلوات الخمس ليس مأمورًا به في الكتاب والسنة، ولا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يفعله، ولا استحبَّه أحدٌ من الأئمة الأربعة. لكن لو دعا الإنسانُ في نفسه عقيب الصلاة جاز ذلك، سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا.
والدعاء قبل السلام في الصلاة هو الأفضل، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، فإن المصلّي يناجي ربّه، فإذا دعا حال إقباله كان خيرًا مِن دعائه [ق 50] بعد انصرافه.
_________
(1) الأصل: «الصلاة».
(2) وللمصنف عدة فتاوى في هذه المسألة في «مجموع الفتاوى»: (22/ 492، 512 – 514).
(7/319)
والسنة بعد السلام أن يذكر الله تعالى، كما جاءت به الأحاديث، مثل أن يسبِّح ثلاثًا وثلاثين ويختم بالتوحيد. والله أعلم.
***
مسألة: في وقوع الفأرة في اللبن الحليب واللبن المجمَّد والزيت وغيره من المائعات هل ينجس أم لا؟
الجواب: الحمد لله.
إذا وقع الفأر الميت أو غيره من النجاسات في الأطعمة والأشربة ونحو ذلك غير الماء، فإن كان جامدًا ألقاه وما حوله ــ باتفاق الأئمة ــ وأكَلَ الباقي، وإن كان مائعًا ففيه قولان، أحدهما: أنه ينجس جميعه، والثاني: أنه كالماء فإن كان كثيرًا ألقاه وما حوله وأكل الباقي. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وإحدى الروايتين عن مالك، وهذا هو الذي دلت عليه سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فإنه ثبت عنه في «الصحيح» (1): أنه سئل عن فارة وقعت في سمن؟ فقال: «ألقوها وما حولها وكلوا سَمْنكم». ولم يفرّق بين أن يكون جامدًا أو مائعًا.
والحديث الذي ورد فيه حديثٌ ضعيف (2)، كما بُسِطَ في
_________
(1) أخرجه البخاري (235) من حديث ميمونة رضي الله عنها.
(2) يعني حديث أبي هريرة: «إذا وقعت الفأرة فى السمن فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها وإن كان مائعًا فلا تقربوه». أخرجه أبو داود (3844)، والترمذي (1798)، والنسائي (4260)، وغيرهم. قال الترمذي: غير محفوظ، ونقل عن البخاري أنه خطأ، وأعله أبو حاتم وأبو زعة في «العلل» (1507).
(7/320)
موضعه (1)، وإن كان المائع قليلًا فقد قيل: إنه طاهرٌ أيضًا، وقيل: إنه يضمّ إليه كثيرًا، فإذا كان الكلّ قنطارًا فالجميع طاهر. والله أعلم.
***
مسألة: في الكلب إذا ولغ في اللبن أو غيره ما الذي يجب في ذلك؟
الجواب: الحمد لله.
الكلبُ تنازع فيه العلماء على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه طاهر حتى ريقه، وهذا مذهب مالك.
والثاني: نجس حتى شعره، وهذا مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد.
والثالث: أن شعره طاهر وريقه نجس، وهذا هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين. وهذا أصح الأقوال.
فإذا أصاب الثوب أو البدن رطوبة شعره لم ينجس بذلك، وإذا ولغ في الماء أُرِيق الماء. وإن ولغ في اللبن ونحوه: فَمِن العلماء من يقول: يؤكل ذلك الطعام كقول مالك وغيره. ومنهم من يقول: يراق، كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. فأما إن كان اللبن كثيرًا فالصحيح أنه لا ينجس، كما تقدم، والله أعلم.
***
_________
(1) انظر «جامع المسائل»: (3/ 39 – 41)، و «الفتاوى»: (20/ 519، 21/ 490).
(7/321)
مسألة: في الحيّة والعقرب وذوات السّموم إذا وقعت في المجمدات والمائعات، هل تنجس أم لا؟
الجواب: الحمد لله.
إذا وقعت هذه الحيوانات في ماءٍ أو مائعٍ وخرجت حيّةً لم تنجِّس ذلك، في المشهور من مذاهب الأئمة. وقد قال بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره: إنه ينجس لملاقاة أدبارِها لذلك، وهذا ضعيفٌ، فإن الحيوان إذا وقع في الماء ضمَّ دُبرَه، لكن قال الأطباء: إن في ذلك سمًّا يضرّ، تُرِكَ لأجل الضرّر، وإلا فلا نجاسة فيه، والله أعلم.
***
مسألة: في لحوم الخيل هل فيها كراهيةٌ أم لا (1)؟
الجواب: الحمد لله.
لحوم الخيل حلال عند جمهور العلماء كالشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد، وقد ثبت في «الصحيح» (2): أنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أباحَ عامَ خيبر لحومَ الخيل، وحَرَّم لحومَ الحُمُر الأهلية. وثبت أنّ الصحابة نحروا على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرسًا وأكلوا لحمه (3).
_________
(1) وانظر في المسألة: «مجموع الفتاوى»: (35/ 208).
(2) البخاري (4219)، ومسلم (1941) من حديث جابر رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري (5510)، ومسلم (1942) من حديث أسماء رضي الله عنها.
(7/322)
[ق 51] وأما الوضوء من لحمها كالوضوء مما مسّته النار، وهذا ليس بواجب عند الأئمة الأربعة لكنه مستحبٌ في أصحّ القولين، والله أعلم.
***
مسألة: في التوضؤ من لحوم الإبل هل يجب أم لا؟ وما العلة في ذلك؟
الجواب: الحمد لله.
في «الصحيح» (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم»، قيل: أنصلي في أعطان الإبل؟ قال: «لا»، قيل: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ»، قيل: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم».
فأمر بالوضوء من لُحْمانها ونهى عن الصلاة في أعطانها؛ لأنها شياطين الأنعام، وعلى كلّ ذِرْوة بعير شيطان، فأعطانها مأوى الشياطين أو الشيطان، ومن أكل لحمها ولم يتوضَّأ يبقى فيه قوةٌ شيطانية تورثه الحقد وغير ذلك من مساوئ الأخلاق، فإذا توضَّأ زال شرُّها. والله أعلم (2).
***
_________
(1) أخرجه مسلم (360) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
(2) وانظر «شرح العمدة ــ الطهارة» (ص 331).
(7/323)
مسألة: هل تُفعل تحية المسجد في أوقات النهي أم لا؟
الجواب: الحمد لله.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (1)، فإذا دخل [وقتُ] (2) نهيٍ فهل يصلي؟
على قولين للعلماء، لكن أظهرها أنه يصلي؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى (3) عن الصلاة بعد الفجر، وبعد العصر قد خُصّ منه صورٌ كثيرة، وخُصّ من نظيره، وهو وقت الخطبة، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا دخل أحدُكم المسجد والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي» (4). فإذا أُمِر بالتحية في وقت الخطبة ففي هذه الأوقات أولى. والله أعلم.
***
مسألة: في مباشرة المصلي بجبهته هل يجب أم لا؟
الجواب: الحمد لله.
_________
(1) أخرجه البخاري (1163)، ومسلم (714) من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه.
(2) زيادة من الهامش. وليس عليها علامة اللحق.
(3) كذا العبارة في الأصل، وكتبت «نهى» على طرة النسخة وليس عليها علامة اللحق. ولعل صحة العبارة: «أظهرهما أنه … فإن النهي عن … » كما اقترحه (العمير).
(4) أخرجه البخاري (1166)، ومسلم (875) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
(7/324)
إن كان له عُذْر كبرد الأرض أو حَرِّها أو غدد بجبهته يحتاج معه إلى العصابة ونحو ذلك= كان له أن لا يباشر المصلَّى، ولا ينبغي تركه، والله أعلم.
***
قال شيخ الإسلام بحر العلوم تقيّ الدين ابن تيمية رحمه الله في «القاعدة الشرعية»:
– لم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يجهر بالبسملة، وليس في الصّحاح ولا في السنن حديثٌ صحيح صريح، والأحاديث الصريحة كلها ضعيفة بل موضوعةٌ.
– وقال أيضًا: لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – يداوم على صلاة الضّحى باتفاق أهل العلم بسنّته، ومن زعم من الفقهاء أن ركعتي الضحى كانتا واجبتين عليه، فقد غلط، والحديث الذي يذكرونه: «ثلاثٌ هنّ عليّ فريضة وهنّ لكم تطوع: الوتر والتحيّة وركعتا الضحى» (1). حديث موضوعٌ.
– العارية مضمونة في حال: وهو أنّ الشخص إذا اكترى بهيمة
_________
(1) أخرجه أحمد (2050)، والحاكم: (1/ 300)، والبيهقي: (2/ 468) وضعفه. قال الذهبي: سكت الحاكم عنه، وهو غريب منكر، وأبو جناب الكلبي ضعّفه النسائي والدارقطني. وانظر «نصب الراية»: (2/ 115).
(7/325)
وأعارها (1)، ثم تلفت أنه يضمن (2)، حكاه بعضهم.
– حديث: «الحمية رأس الدّواء، وعوّدوا كلّ جسد بما اعتاد». هذا حديث موضوع وليس هو من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من كلام بعض أطباء العرب، وهو الحارث بن كلَدَة. بفتح [اللام] (3) والدال (4).
– وقد روى عبد الرحمن بن مهدي قال: ما رأيت أحدًا أنزع للآية من كتاب الله عز وجل من مالك، سأله رجل عن اللعب [ق 52] بالشِّطْرَنج؟ فقال: أمِن (5) الحقّ هو؟ قال: لا. قال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (6) [يونس: 32]. وعن علي رضي الله عنه: الشِّطْرنج ميسر العجم (7). وأنّ ابن عباس رضي الله عنه وليَ مالَ يتيمٍ فأحرقها (8).
_________
(1) الأصل: «وعارها».
(2) الأصل: «لا يضمن» خطأ، وانظر «مجموع الفتاوى»: (30/ 313 ــ 316).
(3) الأصل «الألف» سبق قلم.
(4) انظر «زاد المعاد»: (4/ 104)، و «المقاصد الحسنة» (ص 389) للسخاوي، و «الأسرار المرفوعة» (ص 309 – 310) للقاري.
(5) مطموسة في الأصل.
(6) أخرجه الخلال في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (ص 83).
(7) أخرجه البيهقي: (10/ 212)، وفي «الآداب» (ص 416). وجاء أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه. أخرجه أحمد (4263)، والبيهقي: (10/ 215) وغيرهما.
(8) أخرجه ابن أبي الدنيا بلاغًا عن مالك عنه في «ذم الملاهي» (96)، والبيهقي: (10/ 212).
(7/326)
– وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: رجلٌ صالحٌ ولا يأخذ بالحديث! فقال أبي: لا يقال لهذا صالح ولا كرامة (1).
– ذكر إسحاق بن منصور أنه قال لأبي عبد الله: نمرُّ على قوم وهم يلعبون بالنَّرْد والشِّطرنج نُسَلِّم عليهم؟ قال: ما هؤلاء بأهلٍ أن يُسَلَّم عليهم (2).
_________
(1) لم أجده في المسائل المطبوعة.
(2) «مسائل الكوسج»: (9/ 4704). ووقع في الأصل: «تمرّ … تسلم»، والصواب ما أثبت من المصدر.
(7/327)
مسألة في باب الصفات
هل فيها ناسخ ومنسوخ أم لا؟
(7/329)
[ق 111] مسألة: في آيات الصفات هل فيها ناسخٌ ومنسوخٌ أم لا؟ وإذا تكلم فيها الإنسان عليه إثمٌ أم لا؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين.
ليس فيها ناسخٌ ولا منسوخٌ باتفاق المسلمين، وفي سائر ما أخبر الله به عن مخلوقاته، كقَصَص الأنبياء، ومن آمن بهم واتبعهم، وأمثال ذلك من الأخبار. فإن الخبر عن ذلك لو دَخَله نسخٌ لكان كذبًا، والله سبحانه وتعالى مُنَزَّه عن ذلك سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
ولكنَّ النسخ يدخل في الأمر والنهي، والخبر الذي في معنى الأمر والنهي، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ونحو ذلك.
وأما الخبر الذي هو بمعنى الوعيد كقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فقد تنازع الناس هل يدخل فيه النسخ كما نُقِل عن كثير من السلف والخلف أو (1) لا يدخله كما قاله طائفة من الناس؟ على قولين.
ولكن آيات الصفات فيها ما قد يَفْهم بعضُ الجُهّال منه خلافَ مراد الله ورسوله، مثل من يفهم مِنْ قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] أن الله
_________
(1) الأصل: “و”.
(7/331)
ممتزج بالخلق، أو يفهم من: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] أن الله في جوف الأفلاك، أو يفهم من قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] أنه مفتقرٌ إلى العرش لحمله، أو يفهم من صفاته ما هو مُماثل لصفات المخلوقين، مثل أن يفهم من قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] أنه كسَمْع المخلوق وبصره، أو في قوله: {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (1) [المجادلة: 14] أنه غَلَيان دم القلب لطلب الانتقام (2). وأمثال ذلك مما قد يظنّ بعض الناس أن هذا هو مدلول الخطاب وظاهره.
فيجب أن يُنسخ من قلب هذا الجاهل ما ألقى الشيطانُ في نفسه من القول الباطل الذي ظنّ أنّه مدلول كتاب الله، ثم يُبيَّن له أن هذا ليس هو مراد الله من كتابه، ولا هو مدلول خطابه، ولا مدلول هُداه وبيانه. قال الله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52]فمن كان في نفسه اعتقاد باطل (3) من آيات الصفات، وجَبَ أن ينسخَ من قلبه ذلك الاعتقاد الفاسد، ويُبيَّن له أنّ كتابَ الله هدًى وشفاء ونورٌ وبيان، لم يدلّ على ذلك المعنى الفاسد.
_________
(1) الأصل: “عضب عليهم”.
(2) تحرفت في الأصل إلى: “الاستعانة” والصواب ما أثبت، وانظر “الفتاوى”: (3/ 17، 5/ 353، 569 وغيرها).
(3) الأصل: “اعتقادًا باطلا” خطأ.
(7/332)
ومن تكلم بآيات الصفات كما جاءت على طريقة سلف الأمة وأئمتها فلا شيء عليه، ومن تكلم فيها بالباطل؛ إما بالتحريف والتعطيل، وإما بالتكييف والتمثيل، فإنه يُنْهى عن ذلك، فإن لم ينته (1) وإلا عوقب (2) على ذلك حتى ينتهي. إذ الواجب في ذلك أن يُوصفَ الله بما وصف به نفسَه وبما وصفَه به رسولُه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
قال نُعيم بن حماد الخزاعي: من شبَّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جَحَد ما وصف الله به نفسَه فقد كفر، وليس ما وصفَ الله به نفسَه ولا رسولُه تشبيهًا (3).
فمذهب السلف بين مذهب الجهمية المعطِّلة النافية للصفات، وبين مذهب الممثِّلة التي تمثِّل الخالق بالمخلوقات.
والله تعالى بعثَ رُسُله يخبرون عنه بإثبات مفصَّل ونفي مُجمل، وأعداء الرسل من المتفلسفة ونحوهم يصفونه بنفيٍ مفصَّل وإثبات مجمل.
كما أخبر الله في كتابه: أنه {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}،
_________
(1) الأصل: “ينتهي”.
(2) كذا، وهذا الأسلوب جرى عليه الشيخ رحمه الله، وبحذف “وإلا” يستقيم السياق، وسبق التنبيه على مثله.
(3) أخرجه اللالكائي في “شرح الاعتقاد”: (3/ 532). ووقع في الأصل: “لما” والمثبت من المصدر، و”الفتاوى”: (2/ 126، 5/ 110، 196).
(7/333)
وأنه {غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وأنه {عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وأنه {سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، وأنه {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، وأنه كلم موسى تكليمًا، وأنه يحبّ المتقين، ويغْضَب على الكافرين، وأمثال ذلك من آيات الإثبات.
وقال تعالى في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] وأمثال ذلك.
وأما أعداء الرسل فيقولون: ليس بكذا ولا كذا ولا كذا، ثم يقولون في الإثبات: إنه موجودٌ مطلقٌ لا يتميز عن (1) غيره بصفةٍ ولا نعت، أو ذات بلا صفات.
والعقل الصريح يعلم أنّ الوجود المطلق أو الذات المجرَّدة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج عن الذهن، ولا يُتصوّر وجود شيء مطلق، لا آدمي ولا فرس مطلق ولا حيوانٌ مطلق! فمن قال: إنّ الربّ سبحانه وتعالى هو وجودٌ مطلق، فقد عَطَّله وأبطل أن يكون سبحانه وتعالى موجودًا، وكان في الحقيقة موافقًا لفرعون الذي قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]. وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع (2)، والله أعلم.
_________
(1) تكررت في الأصل.
(2) انظر “مجموع الفتاوى”: (3/ 5 ــ وما بعدها) و (6/ 66).
(7/334)
مسألة: في قول أبي حنيفة
في “الفقه الأكبر” في الاستواء
(7/335)
مسألة: فيمن أورد مسألة من “الفقه الأكبر” (1) لأبي حنيفة رحمه الله، أن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ينفي أنّ الله فوق السموات فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دلَّ على أنه نفسَه فوق العرش. فأنكروا عليه وقالوا: هذا كفرٌ. وأيضًا: لا يجوز أن يقال عن الله “نفسه” فيكون تشبيهًا، فهل هو كفرٌ أم لا؟
الجواب: الحمد لله.
[ق 112] من كفَّر أبا حنيفة ونحوه من أئمة الإسلام الذين قالوا: إن [الله] فوق العرش، فهو أحقّ بالتكفير؛ فإنَّ أئمة الإسلام الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، ولهم في الأمة لسان صدق من الصحابة والتابعين وتابعيهم، كالخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر [وعثمان] وعلي، وابن مسعود وابن عباس ونحوهم، ومثل سعيد بن
_________
(1) نص المسألة في الكتاب (ص 25 – طبعة قطر مع شرح السمرقندي): “من قال: لا أعرف الله في السماء أم في الأرض فقد كفر، قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] فإن قال: أقول بهذه الآية ولكن لا أدري أين العرش في السماء أم في الأرض؟ فقد كفر أيضًا، وهذا يرجع إلى المعنى الأول في الحقيقة لأنه إذا قال: لا أدري أن العرش في السماء أم في الأرض، فكأنه قال: لا أدري أن الله تعالى في السماء أم في الأرض”. ونقله المصنف بنحوه في “درء التعارض”: (6/ 263). وانظر بحثًا في الكلام على نسبة كتاب “الفقه الأكبر” لأبي حنيفة في كتاب “براءة الأئمة الأربعة” (ص 46 – 70) للحميدي.
(7/337)
المسيب والحسن البصري وإبراهيم النَّخَعي وعطاء بن أبي رَباح، ومثل مالك والثوري والليث بن سعد والأوزاعي وأبي حنيفة، ومثل الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد، وأمثال هؤلاء= من كَفَّرهم فقد خالف إجماع الأمة وفارق دينها، فإنَّ المؤمنين كلهم يعظِّمون هؤلاء ويحسنون القولَ فيهم، وتكفيرُهم هو مِن جنس قول الرافضة الذين يكفِّرون أصحابَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا نفرًا قليلًا، ومِن جنس الخوارج الذين يكفِّرون عثمان وعلي بن أبي طالب ومَن والاهما من المسلمين، فيقتلون أهل الإسلام ويَدَعون عبَدَة الأوثان.
وهؤلاء قد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – الحديث فيهم من غير وجهٍ، قال فيهم: “يحقر أحدُكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجِرَهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهمُ من الرَّميّة، أينما لقيتموهم [فاقتلوهم] فإنّ في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة” (1).
وهذا القول المذكور عن أبي حنيفة هو قول سائر أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن سمَّيناهم ومن لم نسمِّهم، كلهم متفقون على أنَّ الله فوق سماواته على عرشه. لم يقل أحدٌ منهم: إن الله بذاته في الأرض، ولا أنه ليس فوق العرش.
_________
(1) أخرجه البخاري (6930)، ومسلم (1066) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وتقدم.
(7/338)
والقرآن والسنة المتواترة قد دلَّت على مثل ما أجمع عليه هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم، والعُقول والفطرة تشهد بذلك؛ فإن الله سبحانه كان قبل أن يخلق السموات والأرض ثم خلقهما، ولا يجوز أن يكون خَلَقهما ثم دخل فيهما؛ فإنه سبحانه مقدَّسٌ عن ذلك. فعُلِمَ أنه خَلَق الخلق ولم يدخل فيهم، بل هو بائنٌ عن الخلق، وهو عليم بأحوالهم، كما قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 5]قال ابن عبد البر: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين أُخِذَ عنهم تفسير القرآن على أن معنى الآية: أنه مع الخلق بعلمٍ وهو فوق العرش، وما خالفهم في ذلك أحدٌ يُحتجُّ بقوله (1).
وأمّا قول القائل: لا يجوز أن يقال عن الله: “نفسه” فيكون تشبيهًا.
فهذا ضالٌّ مفترٍ، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قُتِل؛ فإن الله تعالى قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ} [الأنعام: 54] وقال لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] وقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 30] وقال المسيح عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]_________
(1) “التمهيد”: (7/ 138 – 139).
(7/339)
وقد ثبت في “الصحيح” عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يقول: “سبحان الله عَدَد خلقه، سبحان الله زِنَة عرشه، سبحان الله رِضا نفسه” (1). وفي “الصحيح” عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “ما أحدٌ أحبّ إليه المدح مِن الله، مِن أجل ذلك مدحَ نفسَه” (2).
وفي “صحيح مسلم” (3) أيضًا عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يقول في سجوده: “اللهم إني أعوذُ برضاك من سَخَطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسك”.
وفي “الصحيحين” (4) أيضًا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “يقول الله: أنا عند ظنّ عبدي المؤمن، وأنا معه إذا ذَكَرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم، وإن تقرَّبَ إليّ شبرًا تقربتُ إليه ذراعًا وإن تقرب إليّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة”.
وفي “صحيح مسلم” (5) عن أبي ذرّ الغِفاري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: “يا عبادي إني حرمتُ الظلمَ على نفسي وجعلته بينكم محرَّمًا فلا تَظَالَموا”.
_________
(1) أخرجه مسلم (2726) من حديث جويرية رضي الله عنها.
(2) أخرجه البخاري (4634)، ومسلم (2760) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) (486).
(4) البخاري (7405)، ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) (2577).
(7/340)
وفي “الصحيحين” (1) عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “لمَّا خلقَ الله الخلقَ كتب كتابًا على نفسه فهو موضوعٌ عنده فوق العرش: أن رحمتي تغلب غضبي”. وجاء هذا من أحاديث لا تحصى. [وأمثال ذلك مما لا يحصى وهذا مما اتفق عليه المسلمون] (2).
وقد ذهب طائفةٌ من المنتسبين إلى السنة: أن النفس لله كسائر الصفات الخبرية، والمشهور عند أهل السنة وجمهور الناس: [أن] نفسَه هو سبحانه، فإذا قال: (الاستواء) دلّ على أنه نفسَه فوق العرش، فلم يُرِد بهذا (3) اللفظ معنًى آخر بل هو سبحانه نفسه، والعرب تقول: رأيت فلانًا نفسَه، وفلانًا عينهَ، فيكون ذلك توكيدًا له، أي رأيته هو ولم أر غيره. فإذا قال: “على أنه نفسَه فوق العرش” كان توكيدًا للكلام، أي هو فوق العرش ليس الذي فوق [ق 113] العرش غيرُه.
وهذا لا ينازع فيه مسلم، فمتى قال: “إن الله فوق العرش” [أراد] أنه نفسه فوق العرش، لم يقل: إن الذي فوق العرش شيء غيره. وقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
_________
(1) البخاري (7404)، ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) ما بين المعكوفين جاء في الأصل بعد قوله: “وجمهور الناس .. ” وليس هذا مكان هذه العبارة قطعًا، فإما أن يكون في النص سقط ما، أو وقع سهو من الناسخ في النقل. وتكرر في الأصل قوله: “وهذا مما اتفق”.
(3) الأصل: “هذا”.
(7/341)
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3] والذي خلق السموات هو الذي استوى على العرش، والذي خلق هو نفسُه، والذي استوى هو نفسُه.
وقد ذكر غيرُ واحدٍ إجماعَ أهل السنة والجماعة على أنّ الله نفسه استوى على عرشه موافقًا لما قاله أبو حنيفة. ومَنْ (1) ينازع في ذلك وزعم أن محمدًا – صلى الله عليه وسلم – لم يعرج به إلى ربه، وزعم أنه ليس فوق السموات ربٌّ يُعبَد، ولا إله يُصلَّى له ويُسْجَد، وأنه ليس هناك إلا العدم المحض والنفي الصِّرْف. وهذا قول الجهمية الضالة الذين يؤول قولهم إلى جَحْد الصانع وإنكار الخالق. تعالى الله عما يقول الظالمون عُلوًّا كبيرًا.
وأما قول الجاهل: إن هذا تشبيه. فيقال له: التشبيه المنفيّ عن الله ليس هو بالموافقة في الأسماء، فإن الله تعالى قد سمى نفسه وسمى بعض عباده فقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] وقال: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70] وسمى نفسه: سميعًا بصيرًا، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ (2) … سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] وسمى الإنسان: سميعًا بصيرًا فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] وسمى نفسه
_________
(1) لم يأت جواب الشرط في الجملة، ولعل الفاصل طال على المؤلف فذهل عنه، وهو يُفهم من قوله: “يؤول قولهم إلى جحد الصانع … “.
(2) “كان” سقطت من الأصل.
(7/342)
بالرؤوف الرحيم فقال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65] وسمى نبيه – صلى الله عليه وسلم – بالرؤوف الرحيم فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] [وكذلك سمى نفسه عليمًا حليمًا] وسمى بعضَ [عبادِه] (1)
بالعليم وبالحليم كما قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] وفي موضع: {بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53] وسمى نفسه الملك فقال: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ} [الحشر: 23] وسمى بعض خلقه بالملك فقال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 50] وسمى نفسه بـ {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23] وسمى بعض خلقه العزيز: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [يوسف: 51] وسمى نفسه بـ (المؤمن)، وسمى بعض خلقه بالمؤمن، فقال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ} [غافر: 28] وأمثال هذا.
ومعلومٌ أن هذا باتفاق المسلمين لا يقتضي أن يكون مثل خلقه؛ لأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 – 4]،
_________
(1) ما بين المعكوفات يقتضيه السياق، واستدركناه من كتب المصنف، انظر: “مجموع الفتاوى ـ التدمرية”: (3/ 11)، و”الجواب الصحيح”: (4/ 422 – 423) ..
(7/343)
{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]فإذا كانت هذه الأسماء دالة على الصفات لا توجب ما يُنفى عنه من التشبيه بخلقه، فكيف اسم “النفس” يوجب التشبيه المنفي عنه!؟
وليس في هذا الاسم من الدلالة (1) على الصفات ما في تلك الأسماء؛ فإن هذا الاسم يقال لكلِّ موجود، لو قال: هذا الكون نفسه، وهذا الكوكب نفسه، وهذا الإنسان نفسه، فهو بمنزلة الذات والشيء ونحو ذلك من الأسماء العامة.
ومعلومٌ أن التشبيه بالأسماء التي تكون لبعض الأحياء أولى منه بالأسماء العامة التي تُطلق على كلِّ شيء، فإذا كانت الأسماء الخاصة لا يقع بالموافقة فيها من التشبيه ما يجب نفيه عن الله تعالى، فكيف بالأسماء العامة؟ والمسلمون نفوا التشبيه عن الله، مثل الشيء يجوز عليه [ما يجوز عليه]، ويجب له ما (2) يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه؛ فلو كان لله مِثْلٌ للزم أن يجب لكلٍّ منهما القِدَم والحدوث والإمكان والوجوب والعدم، وذلك جمعٌ بين النقيضين وهو (3) محال.
فوجب نفي التشبيه عن الله لأنه محالٌ في العقل، والله سبحانه وتعالى قد تنزَّه عنه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]_________
(1) الأصل: “الدال” ولعله ما أثبت.
(2) الأصل: “مما”. وما بين المعكوفين زيادة يستقيم بها السياق.
(3) الأصل: “وهي”.
(7/344)
وأما التشبيه بأسمائه التي سمى بها نفسه، وإن تسمَّى بها بعض (1) المخلوقين، فهذا ليس بمحال في شرع ولا عقل. ومن قال: إنّ هذا تشبيهٌ يجبُ نفيه عن الله؛ فهو كاذبٌ مفترٍ ضالٌ باتفاق سلف الأمة وأئمتها. والله أعلم.
_________
(1) هكذا كانت العبارة في الأصل، ثم أصلحها إلى: “وإن تسمّى بعضها”، وسياقها الأول أولى.
(7/345)
مسألة في العلو
(7/347)
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
صورة فتيا سُئل عنها شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية الحراني رضي الله عنه:
ما تقول السادة أئمة الدين في رجلَين اختصما على مسألة العلو، قال أحدهما: إن الله عز وجل فوق العرش. وقال الآخر: مَن قال: إنّ الله في السماء، فقد كَفَر. بينوا لنا الصواب مع مَن هو؟ بكلام بسيط مفسّر بحجج وأدلة، وماذا يجب على كل واحدٍ منهما؟ الجواب يرحمكم الله.
الجواب: نقله الإمام شمس الدين محمد بن المحب من خط الشيخ تقي الدين (1).
الحمد لله.
أما القائل الأول فقد أصاب فيما قال، ولا إنكار عليه باتفاق سلف الأمة وأئمتها، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد، وشيوخ المسلمين، كالفُضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني والجُنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التُّسْتَري وغيرهم.
اللهم إلا أن يقرن (2) بذلك مِنَ الاعتقاد أو القول ما لا يجوز؛ مثل
_________
(1) ديباجة السؤال والجواب من (ك)، ولم نشر إلى خلافها مع (ب).
(2) (ب): “يقترن”.
(7/349)
أن يعتقد أن الله مفتقر (1) إلى العرش ومحتاج إليه، أو يُمثِّل استواءَه باستواء المخلوقين، فمن قال ما يوجب افتقار الله إلى شيء من المخلوقات، فهو ضالٌّ مخطئ مخالفٌ للشرع والعقل.
والله سبحانه وتعالى قد خلق المخلوقات وجعل بعضَها فوق بعضٍ [ق 114] ولم يجعل عاليها مفتقرًا إلى سافلها، فإنه خلق السماء فوق الأرض، وليست السماء مفتقرة إلى الأرض، وخلق العرش فوق السموات، وليس هو مفتقرًا (2) إلى السموات، بل جعل العرش فوق الجنة كما ثبت في “الصحيح” عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إذا سألتم (3) الله فسلوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن” (4). فكيف يكون ربّ السموات ورب الأرض ربّ العرش مفتقرًا إلى العرش أو إلى السموات؟
بل قد جاء في الحديث: إن الله لما خلق العرش وأمر الملائكة بحمله، قالوا: ربنا كيف نحمل عرشَك وعليه عَظَمَتُك؟ فأمرهم أن يقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فأطاقوا حمل العرش (5).
_________
(1) (ب): “مفتقرًا”. وسيأتي مثلها بعد أسطر.
(2) (ب): “مفتقرٌ”.
(3) (ب): “سألتموا”.
(4) أخرجه البخاري (2790) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) وهو أثر يرويه معاوية بن صالح. أخرجه الدارمي في “الرد على المريسي” (ص 253).
(7/350)
فالملائكة الذين أخبر الله عنهم أنهم يحملون العرش، كما قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7] وهم لا يطيقون حمله إلا بقوة الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه ربُّ كلّ شيء ومليكُه وخالقُه، وكلُّ ما سواه ــ العرش (1) فما دونه ــ مفتقر إليه. وهو سبحانه القيّوم الصمد، الغني (2) عن كلِّ ما سواه مع أنه بائنٌ عن مخلوقاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، بل هو فوق (3) سماواته على عرشه بائنٌ من خلقه.
ولذلك من قال: إن استواءه على العرش كاستواء المخلوق على المخلوق، فإنه بمنزلة من يقول: إن سمعه كسمع المخلوق، وبصره كبصر المخلوق، وكلامه مثل كلام المخلوق، ويده مثل يد المخلوق. وهذا كلام أهل التشبيه والتمثيل، ومن يقوله (4) أهل الأباطيل.
وأما الذي قال: من قال: “إن الله في السماء” فقد كفر. فقد أخطأ بإجماع سلف الأمة وأئمتها؛ فإنهم متفقون على أنه لا يُكَفَّر أحدٌ بإطلاق هذا القول. فإن هذا قد ثبت إطلاقه في الكتاب والسنة، واتفق على ذلك
_________
(1) تكررت في (ب).
(2) في (ب): “القيوم”.
(3) (ب): “ليس هو في مخلوقاته، بل هو فوق … ” وفيها سقط عدة كلمات.
(4) (ب): “وهم من أهل … “.
(7/351)
سلف الأمة، قال الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16 – 17] وقد ثبت في الصحيح والسنن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال للجارية: “أين الله”؟ قالت: في السماء، قال: “مَنْ أنا”؟ قالت: رسول الله. قال: “أعتِقْها فإنها مؤمنة” (1).
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – لما قالت الجارية (2): “إن الله في السماء”، شهد لها بالإيمان؛ فمَنْ شهد لقائل ذلك بالكفر، فقد شاقّ الرسولَ مِنْ بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (3) [النساء: 115]. وثبت عنه في “الصحيح” (4) أنه قال: “ألا تأمنوني وأنا أمين مَنْ في السماء”. وصحّ عنه أنه قال: “الرّاحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء” (5). ونظائر هذا كثير.
_________
(1) أخرجه مسلم (537)، وأبو داود (931). من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.
(2) من (ب).
(3) في (ك) بدلًا من الآية: “فيوله الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرًا” ..
(4) أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5) أخرجه أحمد (6494)، وأبو داود (4943)، والترمذي (1924)، والحاكم: (4/ 159) وغيرهم. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم.
(7/352)
ولكن إن كان مَن قال: “إن الله في السماء”، ويَقْرِن (1) بذلك اعتقادًا فاسدًا أو قولًا باطلًا أنكر ذلك (2)، مثل أن يظن أن معنى ذلك أن الله في السماء كما أن الشمسَ والقمر في السماء والأفلاك تحيط به وتحوزه (3)، فمن اعتقد أن معنى قول الله ورسوله والمؤمنين: “إن الله في السماء” أنه في جوف الأفلاك= فهو ضالٌّ مخطئٌ؛ فإنه قد ثبت بالمنصوص والمعقول أن الله فوق العرش، فكيف تكون السماء التي تحت العرش تحيط به وتحويه؟
وقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وثبت في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يهزهنَّ ويقول: أنا الملك أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ” (4). وفي رواية: ” أنه يدحوها كما تُدْحى الكُرة” (5).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السموات السبع والأرضون
_________
(1) (ب): “يقترن”.
(2) “أنكر ذلك” ليست في (ب).
(3) (ب): “محيطة به ونحوه”.
(4) أخرجه البخاري (4812)، ومسلم (2787) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وسقط من (م) من قوله: “وثبت في … بيمينه”.
(5) أخرجه بنحوه ابن جرير: (20/ 247)، وابن منده في “الرد على الجهمية” (57) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(7/353)
السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلةٍ في يد أحدكم (1). وقد قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] أي: لا يُثْقِله ولا يُكْرِثُه (2).
فإذا كان الكرسيُّ قد وَسِع السموات والأرض ــ وقد جاء في الحديث: أن الكرسي في العرش كحَلْقةٍ ملقاةٍ بأرض فلاة، والله فوق العرش (3) ــ فكيف تحويه السموات وتحصره وتحوزه!؟
وقد قال تعالى: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 137] وقال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] وقال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26] ومع هذا فهؤلاء ليسوا في جوف الأرض ولا جوف الجذوع، بل هم عليها وفوقها.
ولفظ “السماء” يراد به العلوّ مطلقًا، ويراد به الأجسام المخلوقة، والله تعالى فوق المخلوقات. فقول المسلمين (4): “إن الله في السماء”، أي في العلوّ فوق العرش، ليس معناه أن المخلوقات تحوزه وتحيط به، بل هو العليُّ الأعلى، وهو العليّ العظيم، وهو أعظم من كل شيء، وأكبر
_________
(1) أخرجه ابن جرير: (20/ 246).
(2) تحرفت في (ب): “يُكرهه” وينظر “تفسير الطبري”: (4/ 543) فقد أخرج نحوه عن مجاهد. و”الفتاوى”: (2/ 187، 3/ 36).
(3) أخرجه ابن حبان (361) من حديث أبي ذر رضي الله عنه في حديث طويل.
(4) (ب): “يقول المسلمون” تصحيف.
(7/354)
من كل شيء، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
ومن كَفَّر مَن قال: “إن الله في السماء” من غير أن يقرن هذا القائل بقوله كفرًا؛ فهذا المكفِّر أحقّ بالتكفير؛ فقد نصَّ الأئمةُ الكبار على كفر من أنكر ذلك، كما قد نصّ على ذلك أبو (1) حنيفة في كتاب “الفقه الأكبر” (2)، وقال: “من أنكر أن الله في السماء فقد كفر”.
وقال الإمام أبو بكر بن خزيمة ــ وهو أجَلُّ من يَعْتَمد عليه أصحابُ الشافعي في السنّة والحديث ــ قال: من لم يقل: إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، فإنه يُستتاب فإن تاب وإلا قُتِل، وألقي على مزبلةٍ؛ لئلا يتأذَّى بِنَتَن رِيحِه أهلُ القبلة ولا أهلُ الذمة (3).
وكلامُ السلف والأئمة في تكفير من ينكر أن الله فوقَ العرش ونحو ذلك، كثير مشهورٌ منتشر، ولم ينكر أحدٌ منهم ذلك فضلًا عن تكفير قائله.
لكن إذا كان المُنكِر لذلك أو المكفِّر لقائله ممن يُعذَر بالجهل لعدم علمه بما في ذلك من النصوص والإجماع وكلام السلف والأئمة، أو كونه ظنّ أن ذلك يقتضي نقصًا في حق الله لاحتياجه إلى المخلوقات،
_________
(1) الأصل: “أبي”.
(2) (ص 25 ــ مع شرح السمرقندي).
(3) أسنده عن ابن خزيمة أبو عبد الله الحاكم في “معرفة علوم الحديث” (ص 285 – 286 – ابن حزم).
(7/355)
وكونها أعظم منه وأكبر ونحو ذلك، فلا يكَفَّر مثل هذا حتى تُبيَّن له الحُجّة التي يَكْفُر مخالفها، فإنّ المسلم قد يخطئ ويغلط في فهم القرآن والسنة، أو في إنكار ما لم يبلغه من ذلك، وليس كلُّ من أخطأ وغلط بكافرٍ. والله سبحانه أعلم.
صورة خطه رضي الله عنه: كتبه أحمد بن تيمية
(7/356)
36 معنى حديث: «من تقرَّب إليَّ شِبرًا … »
(7/357)
وأما قوله – صلى الله عليه وسلم – فيما يروي عن ربّه: «من تقرّب إليَّ شِبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، ومن تقرّب إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» (1).
فجوابه من وجوه (2):
أحدها: أن يُعلَم (3) أولًا أنّ هذا الحديث ليس فيه إخبارٌ مطلق عن الله بمشيٍ وهرولةٍ، وإنما هو معلّقٌ بفعل العبد، مذكورٌ على سبيل الجزاء والمقابلة، فقال: «من تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، ومن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة».
فتقرُّب العبد إلى ربّه [لو كان] (4) مقدّرًا بالمساحة متضمِّنًا للمشي، أمكن أن يقول القائل: فظاهر هذا الحديث أن تقرّب الرّب كذلك، وإن كان العبد يعلم أن تقرّبه إنما هو [بإيمانه] (5)، وعمله الصالح، فكيف يظنّ في تقرّب الربّ ما لا يظنه في تقرّبه بنفسه؟!
والغرض اقتراب أحد المتقرّبين بالآخر، أو ذِكْره لأحدهما على
_________
(1) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) انظر أيضًا «بيان تلبيس الجهمية»: (8/ 164 – 205)، و «مجموع الفتاوى»: (5/ 464 – وما بعدها).
(3) الأصل: «أنه فليعْلَم».
(4) بياض بمقدار كلمتين، فلعله ما أثبتّ.
(5) بياض بالأصل. فلعله ما أثبتّ.
(7/359)
سبيل الجزاء على الآخر والثواب له، وأن الأول شرطٌ لغوي (1)، وهو سبب معنوي، والمسبّب من جنس السبب.
فهذا التركيب والتأليف يوجب أن لا (2) يدلّ الثاني ولا يُفْهِم ما يُعْلَم أنّ الأوّل لم يدلّ عليه ولم يُفْهِمه. فكيف يُظنّ أن يكون ظاهر ما حكاه عن ربّه هو ما يُنزِّه نفسَه عنه؟!
الوجه الثاني: أنا نحن فقد (3) قدّمنا (4) تقرُّب الله من عبده وقربه منه، وأن ذلك جائز عند السلف وأكثر الخلف من أهل الحديث والفقهاء ومتكلِّميهم، والأشعري وغيرهم (5)، وذكرنا بعض الألفاظ في ذلك، وإتيانه ومجيئه ونزوله ودنوّه وغير ذلك، فلم يكن القُرْب عليه ممتنعًا، [وهو] (6) عندهم في الجملة حقّ.
وإذا كان كذلك سلكوا الجوابَ المركَّب، فقالوا: أيّ نصّ فُرِض، فإما أن يكون (7) ظاهره يدلّ على القرب، أو لا يكون ظاهره يدلّ على
_________
(1) ترك الناسخ بعده مقدار كلمة.
(2) كان في الأصل: «أن لا يكون»، ثم ضرب على «يكون».
(3) كذا في الأصل. و «نحن» كتبت فوق السطر.
(4) لم يتقدم في هذه الرسالة شيء، فلعل هذا المبحث فصل من كتاب، وانظر المقدمة. وانظر الإحالة السالفة على «بيان التلبيس».
(5) الأصل: «وغيرهما».
(6) زيادة يستقيم بها السياق.
(7) الأصل: «كان» والصواب ما أثبته.
(7/360)
القرب، فإن كان الأول، لم يكن حَمْله على ظاهره ممتنعًا، ولم يكن صَرْفه واجبًا. وإن كان ظاهره لا يدلّ على قربه بنفسه، لم يكن أيضًا محتاجًا إلى الصرف عن الظاهر الذي يسمونه: التأويل، فلا يَرِد عليهم نقض (1) على التقديرين.
فيقال: هذا الحديث إن كان ظاهره قُرْب الرّب بنفسه، فذاك ممكن، فإن لم يكن هذا ظاهره، فلا حاجة إلى صرفه عن ظاهره.
ثم كثير منهم يقولون: ليس ظاهره القرب بنفسه، وإنما هو مَثَلٌ ضربه؛ لأن (2) جزاءه أعظم من عمل العبد. وأخرج ذلك على وجه المقابلة فقال: «من تقرَّب إليّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا» والذراعُ ضِعْف الشّبْر. «ومن تقرّب إليَّ ذراعًا تقرَّبت إليه باعًا» والباع ضعف الذراع. «ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» والهرولة ضعف المشي.
قالوا: ومعلومٌ أنَّ إتيان العبدِ ربَّه وتقرّبه إليه لا يحتاج إلى مشيه، فقد يكون بإيمانٍ وعِلْم. وهذا قول كثير ممن يفرّ عن هذا الحديث، ويقول: هذا الحديث معناه ظاهر ليس من أحاديث الصفات.
ومنهم من يخالف هؤلاء (3).
_________
(1) الأصل: «نقضًا».
(2) الأصل: «لأنه».
(3) كتب الناسخ في هامش الصفحة: «إلى هاهنا نقلته ووجدته من خط شيخ الإسلام رحمه الله، في .. خامس جمادى الأولى … ». ثم ترك نصف الصفحة فارغًا، وابتدأ الورقة الأخرى بما سيأتي.
(7/361)
ومن أهل العلم والكلام الناصرين للسنة من يقول في هذا الحديث ونحوه: إنه مصروفٌ عن ظاهره، كما ذكره عبد العزيز المكي في «الرد على الجهمية الزنادقة» (1).
قال عبد العزيز: باب الأحاديث التي نزعوها من القرآن وجهلوا معناها. فمن ذلك ما رُوي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مما حُمِل على أليق المعاني به، ولم يُحْمَل على ظاهره: قوله – صلى الله عليه وسلم -: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (2)، قال: فلم يُحْمَل على ظاهره؛ لأن العرب تَعْقل أنَّ الفراشَ لا ولد له ولا والد، لكن المعنى فيه عندنا (3): أن الولد لصاحب الفراش، لا يشكّ فيه أحدٌ.
ومثله ما رُوي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «يقول الله تعالى: لو أتاني عبدي بقراب الأرض خطيئة أتيته بقرابها ــ أي ملئها ــ مغفرة ما لم يشرك بي شيئًا، ومن دنى منِّي شبرًا دنوت منه ذراعًا، ومن دنا مني ذراعًا دنوت منها باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» (4). فعقلوا ما خاطبهم به النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنّ العبد لا يمشي إلى ربّه، وربّه لا يهرول إليه، وإنما أريد بذلك:
_________
(1) وهذا الكتاب نقل منه شيخ الإسلام فصولاً طويلة في كتبه، انظر «بيان تلبيس الجهمية»: (1/ 30 ــ 35)، و «درء التعارض»: (6/ 115 ــ 119). وهو غير كتابه الآخر «الحيدة». وانظر «موارد شيخ الإسلام العقدية» (ص 43) للبراك.
(2) أخرجه البخاري (6749)، ومسلم (1457) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) الأصل: «عندها».
(4) تقدم تخريجه.
(7/362)
من دنا منّي بالعمل الصالح بقدر شبرٍ أتيته بالثواب قدر ذراع، والذراع أكثر من الشبر وكذلك من الباع. وقال: «من أتاني يمشي»، يقول: يسارع إليّ بالعمل الصالح، أسرعتُ إليه بالثواب. يريد بالهرولة الثواب، لا أن الهرولة أسرع من المشي، يقول: ثوابي أكثر من عمله.
فهذا مما لا يُحْمَل على ظاهره وما كان مثله؛ فمن الحديث ما يكون معناه في باطنه، ومنه ما يكون معناه في ظاهره.
فهذا الذي قاله في معناه تقوله طائفةٌ من الناس وتُنازِعُهم فيه طوائف، فيجعلون معنى الحديث قدرًا زائدًا على الثواب، كما تقدم في القُرْب.
وأما كون ذلك وَفْق الظاهر أو خلاف الظاهر ففيه أيضًا نزاع، كما تنازعوا في أن ما ظهر معناه في العقل هل يقال: إنه خلاف الظاهر؟ كما في قوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، كما ظهر معناه بالتركيب والسياق.
كذلك ما ذكره من حديث الفراش، فإنه قد ثبت في «الصحيح»: «الولد لصاحب الفراش» (1)، وأحد اللفظين يفسّر الآخر، والمعنى من الحديث ظاهر، بل نصٌّ لا يحتمل معنيين، ولكن بعض الفقهاء اعتقد أن الفراش اسم للزوج خاصة، حتى أخرجَ السيدَ المتسرّي، وجمهور
_________
(1) البخاري (6750) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7/363)
الفقهاء على العموم لهما، كما جاء ذلك منصوصًا في تنازع سعد بن أبي وقاص وعَبْد بن زَمْعة في ابن وليدة زمعة، فأشهر الأحاديث وأصحها التي قال فيها النبي – صلى الله عليه وسلم -: «الولد للفراش»، كان في سيّدٍ واطئ وليدةٍ لا في زوج، فلا يجوز إخراج ذلك من الحديث.
ولكن وجه دلالة اللفظ على المعنى هل هو من باب حذف المضاف أو من باب الاستعارة وتسمية صاحب الفراش: فراشًا، كما تسمى المرأة: إزارًا، ويسمى كلٌّ من الزوجين لباسًا للآخر؟
أو أن تكون الإضافة على ظاهره، وإضافته إلى الفراش تقتضي أن يكون لصاحبها؟ هذه الأمور مما تكلم الناس فيها من غير أن يكون ظاهر الحديث الذي يظهر للمستمعين: أنّ الفراشَ وَلَدت الولدَ.
وفي الجملة فتَنازُع الناس في مثل هذه المعاني هل هو مخالفٌ للظاهر أو موافقُه معروف؟ فإن كانت مخالفة للظاهر، فلا بدَّ أن يكون في الأدلة الشرعية ما يدلُّ على المعنى الصحيح.
وقد قدمنا غير مرة: أن ما تُرِكَ ظاهرُه من القرآن والحديث بقرآنٍ أو حديثٍ، فهذا مما لا (1) نزاع فيه، وهو مما تسميه السلف: الناسخ والمنسوخ، فهذا هذا. والله أعلم.
***
_________
(1) الأصل: «لا فيما» ولعله ما أثبت.
(7/364)
قال الناسخ: نُقِل من خط الشيخ الإمام شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين أحمد ابن تيمية بحضور ترجمانه ولسان قلمه: الشيخ شمس الدين أبي عبد الله بن رُشَيِّق (1)، والمقابلة عليه وهو مُمْسِك بأصل الشيخ رحمه الله، والشيخ سليمان يقرأ، وذلك في ثالث شهر جمادى الأولى من شهور سنة ست وثلاثين وسبعمائة.
_________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد سِبْط ابن رُشيّق المالكي (ت 749) قال ابن كثير: «[كان] أبصر بخط شيخ الإسلام منه، إذا عزب شيءٌ منه على الشيخ استخرجه أبو عبد الله هذا، وكان سريع الكتابة لا بأس به، دينًا عابدًا كثير التلاوة حسن الصلاة، له عيال وعليه ديون، رحمه الله وغفر له». انظر ترجمته في مقدمة «الجامع لسيرة ابن تيمية» (ص 59 – 61).
(7/365)
مسألة في إثبات التوحيد والنبوات
بالنقل الصحيح والعقل الصريح
(7/367)
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
سئل الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رحمه الله ورضي عنه عن العقل قبل ورود الشرائع (1)، هل هو حجة أم لا؟ وإذا لم يكن حجة فبم تثبت النبوات؟ وبم استدل إبراهيم عليه السلام حين قال: {هَذَا رَبِّي}؟
فأجاب عنه: الحمد لله رب العالمين.
العقلُ يُراد به الغريزة التي جعلها الله في الإنسان، ويراد به العلوم والأعمال التي تُستفاد بهذه الغريزة. والعقل شرطٌ في الإيمان بالله ومعرفة كتبه ورسله، لا يحصل العلم والإيمان بدون العقل، ولكن الحجة التي يعذّب الله من خالفها تثبتُ بالرسل، كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8 – 9]. فقد أخبر تعالى أن كلَّ مَن ألقي في النار جاءه نذير.
_________
(1) كتبها الناسخ أولاً “الشرع” ثم غيرها إلى ما هو مثبت.
(7/369)
والرسُل صلوات الله عليهم وسلامه إذا بلّغوا الناسَ رسالات ربهم، فإنه بما جعل الله (1) في الناس من العقول، وبما أُتوا به من الآيات يُعرف صدق الرسل ويحصل الإيمان بهم (2)، وبمجرّد العقل قد يعرف الإنسان أن له خالقًا، ويعرف بعضَ صفاته، وأما التفاصيل التي جاءت بها الرسل فلا تُعرف إلا من جهتهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50].
ومحمد صلوات الله عليه وسلامه كان أكمل الناس عقلًا، وكان مُقرًّا بربه عزّ وجل قبل النبوّة، ومع هذا فقد قال: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50]، وقال الله تعالى له: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] وهو الإيمان بالغيب الذي جاء به جبريل عليه السلام، الذي لم يكن يعرفه قبل هذا.
وتعريف الرسل على وجهين: تارة تُنبّه القلوب وترشدها وتذكّرها بما فيها، فيعلم الإنسان بعقله ونظره واستدلاله الذي دلَّه عليه الرسول وأرشده إليه ما أخبره به الرسول، ولا يكون في هذا مقلِّدًا للمخبر ولا
_________
(1) هنا إشارة إلى لحق في الهامش، لكن لم يظهر إلا بعض كلمة.
(2) الأصل: “به”.
(7/370)
مستفيدًا له بمجرد خبره، بل بالنظر والاستدلال العقلي الذي أرشده إليه الرسول، كما بيَّن الله تعالى في القرآن الدلائل الدالة على وحدانيته، وصِدْق رُسله، وإمكان المعاد، وإثبات [ق 183] صفاته.
والرسل صلوات الله عليهم وسلامه لمَّا جاءوا بالآيات والبراهين عُرِف صدقهم بالنظر والاستدلال بالعقل.
والتعريف الثاني: أن تخبرهم الرسل بما (1) لا تهتدي إليه عقولُهم، بهذا يعرفونه بإخبار الرسول؛ لكونهم استدلوا بالعقل على صدق الرسول بالآيات الدالة على صدقه (2). وإبراهيم عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء والرسل استدلوا بالدلائل العقلية والبراهين اليقينية، وكانوا مرشدين للناس إلى الاستدلال بها، وهو الطريق الأول من طريق تعريف الرسل عليهم السلام.
فقول القائل في العقل: هل هو حجة؟ إن أراد به هل يُعْرف بالعقل شيءٌ من العلوم الإلهية وغيرها بدون الرسل، فلا ريبَ أن العقول يُعرَف بها كثير من العلوم مع قطع النظر عن الشرائع.
وإن أراد به هل تقوم الحجة على العباد بمجرّد عقولهم، فيعاقبهم الله على كفرهم لمخالفتهم مجرّد العقل، من غير أن يبعث الله إليهم رسولًا؟ فالذي عليه جمهور المسلمين: أن الله تعالى لا يعذِّب أحدًا
_________
(1) الأصل: “لما”.
(2) كذا العبارة في الأصل، وهي غير محررة. ولعلها: “فهذا يعرفونه … لكنّهم استدلوا”.
(7/371)
حتى يبعث إليه رسولًا، كما نطق بذلك الكتاب والسنة. وإذا جاء الرسول بالآيات ثبتَ الوجوب، ولزم العباد أن يؤمنوا به، واستحقّوا الذمَّ والعقاب إذا لم يؤمنوا، سواء نظروا أو لم ينظروا، فالوجوب لا يتوقف على النظر باتفاق الناس، وشرط العقاب التمكّن من العلم والعمل. والعبد متمكِّن من معرفة صدق الرسول، فإذا لم ينظر ولم يعلم كان مفرّطًا مستحقًّا للعقاب.
وقول السائل: بِمَ تثبت النبوات؟
فثبوتها في نفس الأمر بإنباء الله للأنبياء وإرساله الرسل. وأما ثبوتها في أنفسنا وعلمنا بها بالآيات والبراهين التي جاءت بها الأنبياء عليهم السلام، فاستدللنا بعقولنا بتلك الأدلة والآيات على صدقهم، كما يُستدلّ بكلّ دليل صحيح على مدلوله.
وقوله: بِمَ استدل به إبراهيم عليه السلام؟
فيقال: استدلّ بالأدلة العقلية، لكنه استدلَّ بالأفول ــ الذي هو الاحتجاب والمغيب ــ على أنَّ مَنْ كان كذلك لا يصلح أن يُتخذ ربًّا، فإن قومَه كانوا يعبدون الكواكب والأصنام لظنهم أن ذلك ينفعهم، وكانوا يشركون بالله، ولم يكونوا منكرين للصانع.
ولا أراد إبراهيم بقوله: {هَذَا رَبِّي} أنّ هذا خالق السموات والأرض؛ فإن هذا لا يقوله عاقلٌ، ولم يقله أحدٌ من بني آدم، ولا استدلّ بالحركة والانتقال على انتفاء هذا المطلوب، بل ما زال الكوكب من
(7/372)
حين رآه إلى أن أفل سائرًا وهو لا يستدل بحركته على شيء، وإنما استدل بالأفول والاحتجاب.
وكان الواحد منهم يتخذ له كوكبًا يعبده يستجلب بذلك نَفْعَه، وكانت الشياطين تتنزَّلُ عليهم وتخاطبهم، كما يحصل لأهل دعوة الكواكب. فبيَّن الخليلُ عليه السلام أنّ المعبود الذي يستحقّ العبادة هو الذي يكون حيًّا قيّومًا عالمًا قادرًا مُدبّرًا لعباده في كلّ وقت، فإنه لا يُستغنى عنه في وقت من الأوقات، والآفل المُحْتجب الذي ليس بشهيدٍ على عابده، ولا بسميعٍ لأقواله، ولا قادرٍ على تدبيره= لا يصلح لذلك. فهذا ونحوه وجه حجة إبراهيم.
ولهذا لمَّا حاجّه قومُه قال: {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 80 – 82] وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} الآية [البقرة: 258].
(7/373)
وإنما حاجَّه إبراهيم بالدليل والنظر والعقل لا بمجرّد الخبر السمعي، ولا يقول عاقل: إنه يُعْلَم بخبر المخبر ما يُخْبِر به قبل أن يُعْلَم أنه صادقٌ في خبره، ولكن كثير من النظَّار يظنون أنّ الاستدلال بالكتاب والسنة، والاستدلال بسائر كلام الأنبياء إنما هو بمجرَّد خبرهم، قالوا: فلا بدّ أن نثبت بالأدلة العقلية قبل ذلك أنهم صادقون، وهذا كلام صحيح، لكنهم غلطوا من وجهين:
أحدهما: ظنهم أنّ الرسل لم تبيِّن للناس من الأدلة العقلية ما يعرفون به إثبات الصانع، وصِدْق رسله. وهذا غلطٌ عظيم، فإنّ الرسول إذا دعا قومًا إلى الله، فلا تتم دعوته إلا بأن يُبين ما يُعرف به صدقُه، ولا يُعرف صدقه إلا بأن يعرف الصانع، وتقوم الآيات على صدق رسله، فكيف يتوهّم أن الرسل إنما قادوا الناس بمجرّد أخبارٍ لا دليل على صدقها! وهل يَظنُّ هذا بالرسل إلا من هو مُفْرِطٌ في الجهل، بل الرسل بينوا للناس ما يُعرِّف صدقَهم، والقرآن مملوء من البراهين والآيات الدالة على صدق الرسل، بل وعلى إثبات الصانع، وقدرته وعلمه ووحدانيته وسائر المقدّمات التي يُظنّ أنّ العلم بصدق الرسول موقوفٌ عليها.
الوجه الثاني: أن هؤلاء سلكوا في إثبات الصانع وتصديق الرسول طرقًا مُبتدعَة ليست هي الطرق التي جاءت بها الأنبياء، فكانت تلك الطرق مبتدعَة في الدين ليست هي طرق المرسلين التي علموها للناس ودعوهم بها.
(7/374)
ثم إنّ تلك الطرق البدعيّة لها لوازم، فاحتاج من استدلّ بها أن يلتزمَ لوازمَها، فإنّ ثبوت الملزوم بدون اللازم ممتنع. وكانت لها لوازم تُناقض كثيرًا مما جاء به الرسول، فصار هؤلاء يريدون إثبات صدق [ق 184] الرسول بما يستلزم تكذيبَ الرسول. وصار كثير من الناس الذين عرفوا أنَّ طرقَهم طرقٌ مبتدعَة في الشرع، يعتقدون أنها مع ذلك طرق صحيحة تُعرف صحتها بالعقل، وإن لم تكن طرقًا شرعية. ورأوا معارضتها لكثير مما أخبر به الرسول، فصاروا حائرين إن أبطلوا (1) تلك الطرق ظنوا أنهم أبطلوا الأصول العقلية التي ثبت بها صدق الرسول، وإن صحَّحوها لزمهم تكذيب كثير مما جاء به الرسول.
فمن صحح تلك الطرق التزم إما تحريف ما جاء به الرسول، وإما الإعراض عن تدبّره وفهمه.
وأما من كان له خبرة بحقائق تلك الطرق المبتَدَعَة (2)، فإنه علم أنها ــ كما هي بدعة في الشرع فهي باطلة ــ ليست أصولًا للعلم بما جاء به الرسول، بل هي مناقضة لما جاء به الرسول، مع مناقضتها لصريح المعقول، وهم زعموا أنهم أثبتوا بها أنّ الله خالق لهذا العالم، وأنه قادرٌ عالمٌ، وأنه متكلمٌ، فيكون إرساله للرسول ممكِنًا مقدورًا.
ومن كان له خبرة بحقائق الصفات علم أن العلم بكون الرب خالقًا
_________
(1) الأصل: “بطلوا”.
(2) الأصل: “من المبتدعة” ولعله ما أثبت.
(7/375)
لهذا العالم، وأنه قادرٌ عالم متكلمٌ منزلٌ للقرآن مرسل للرسول، إمّا (1) ثبت بإبطال هذه الأصول المبتدَعَة، وإما بإبطال اعتقاد صحتها، فإنه مناقضٌ للعلم الذي هو أصول الدين، التي بها يُعلم صدق الرسول.
وهذه الجملة لها تفصيل مبسوطٌ في غير هذا الموضع. والله أعلم.
_________
(1) الأصل: “إنما” والصواب ما أثبت.
(7/376)
قاعدة مختصرة
في الحُسْن والقُبْح العقليين
(7/377)
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
وهو حسبي
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضْلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فصل في الحكم العقلي
فالأفعال إما شرعيّة وإما عقليّة، لكنَّ العقل كاشفٌ لحكمها لا مثبت له، والشارع مثبتٌ وكاشف. ومن الناس من يقول: بل هو مثبت فقط، ومنهم من يقول: بل هو كاشف فقط.
وأحكام الأفعال هي المعروفة بمسألة الحُسْن والقُبْح العقليين، فإنها من أصول المسائل التي يُفرِّعون عليها أمورًا كثيرةً. وقد اضطرب الناس فيها، فلكلٍّ من أصحاب أحمد ومالك والشافعي فيها قولان، والحنفية يقولون بها، وذكروا ذلك أيضًا عن أبي حنيفة، ولأهل الحديث فيها قولان، وقد ذكر أبو نصر السِّجْزي، وأبو القاسم سعد بن علي الزَّنجاني: أن نفيهما مما أحدثه الأشعري. وذكر أبو الخطّاب (1) أن
_________
(1) في “التمهيد في أصول الفقه”: (4/ 295). وقد نقل المصنف كلام أبي الخطاب بطوله وناقشه في مواضع منه في “درء التعارض”: (9/ 50 ــ 66).
(7/379)
إثبات ذلك قول أكثر الفقهاء والمتكلِّمين، وهو قول كثير من النُّظار المُثْبتة (1) للقدر كالكرَّامية وغيرهم، وهو قول المعتزلة وغيرهم من نُفَاة القدر ومن وافقهم من الشيعة.
وتحقيق الكلام فيها يتضمن فصولًا:
أحدها: اتصاف الأفعال بصفات لأجلها كانت حَسَنة أو قبيحة سيئة.
والثاني: أن تلك الصفات هل تُدْرك بالعقل أم لا؟
والثالث: أن ذلك هل يوجب العذابَ بدون الشرع أم لا؟
[ق 192] وأصل المسألة الذي به تنكشف حقيقتُها: معنى كون الشيء حَسَنًا وسيئًا، هل له حقيقة غير كونه ملائمًا للفاعل ومنافرًا له؟
فإنهم قد اتفقوا على أن كون الفعل حسنًا [أ] و قبيحًا سيئًا، بمعنى كونه ملائمًا للفاعل بحيث يحصل له به فرحٌ ولذَّة، أو منافيًا للفاعل بحيث يحصل له به غمٌّ وألم، وهو مما قد يُعرف بالعقل. وزاد بعضهم: كون الفعل صفة كمالٍ وصفة نقصٍ. فجعل ذلك مما يُعلم بالعقل اتفاقًا، وجعلوا مورد النزاع في كون الفعل هل يكون سببًا للذم والعقاب عاجلًا وآجلًا؟
_________
(1) الأصل: “المشبهة” سهو.
(7/380)
وإذا كان كذلك فيقال: كون الفعل يكون سببًا للذَّم والعقاب هو من أنواع كونه ملائمًا للفاعل ومنافرًا له، فإنّ حَمْد الفاعل وثوابه يلائمه، وذمه وعقابه ينافره.
فإذا قيل: الملاءمة الطبيعية والمنافرة الطبيعية قد تُعلم بالعقل باتفاق العُقلاء.
فيقال: كلُّ ملاءمة ومنافاة للإنسان إنّما (1) تعود إلى الملاءمة الطبيعية والمنافرة الطبيعية، لكن مِن الأفعال ما تكون فيه ملاءمة ولذّة، ويكون فيها منافرة وألم أرجح من ذلك. فيكون ملائمًا من وجه منافرًا من وجه، محبوبًا لذيذًا من وجهٍ بغيضًا مؤلمًا من وجهٍ.
وقد تكون اللذّةُ عاجلة والألم آجلًا، فعقل الإنسان يأمره بترجيح أحبّ الأمرين إليه وهو أصلحهما وأنفعهما وأكملهما لذَّة، ويأمره بترجيح اللذة الكاملة الآجلة على اللذة القليلة العاجلة؛ ولهذا كان جميع العقلاء يحتملون ألمًا قليلًا للذَّةٍ كثيرة، ويمتنعون عن لذَّةٍ قليلةٍ لتحصيل لذَّة جليلة، ويقولون: هذا مقتضى الهوى والطبع، وهذا مقتضى العقل والشرع.
فمن ادعى حُسْنًا أو قبحًا عقليًّا أو شرعيًّا بلا فرح ولذةٍ ولا غمٍّ وألم، فقد قال ما لا يعرف، ولم يتصوَّر ما يقول، وهو مطالبٌ بتحقيق ما يقوله، فإنّ كثيرًا مِنْ نِزاع العقلاء يكون لكونهم لم يتصوَّروا تصورًا تامًّا ما تنازعوا فيه، ولو تصوروه تصورًا تامًّا
_________
(1) الأصل: “إنما أن”.
(7/381)
لارتفع النزاع.
وكذلك قول القائل: أن يكون الفعل صفةَ كمالٍ أو صفة نقصٍ، مما يُعرف بالعقل، هو يعود إلى الملاءمة، فإن الفعل الذي يكمل به الفاعل، هو الذي يلائمه ويحصل به كمال الفرح والسرور والنعيم.
وأما الفصول المذكورة:
فالأول: أن الأفعال هل هي مشتملة على صفات لأجلها كانت حسنةً وسيئةً أم لا؟
فأكثر الناس على أنها اشتملت على صفاتٍ لأجلها كانت حسنةً وسيئةً (1)، وإلا كان أمر النزاع بأحد المتماثلين ترجيحًا بلا مرجِّح.
ونُفاة الحُسْن والقُبْح العقليين على قولين:
منهم من يقول: لم يختصّ شيء من الأفعال بما لأجله كان مأمورًا به ومنهيًّا عنه، بل الرّبّ يرجّح مِثْلًا عن مِثل بمجرد المشيئة.
وهؤلاء يقولون: عِلَل الشرع أمارات محضة، كما يقول ذلك الأشعري ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، ومَن قال من هؤلاء بالمناسبة قال: لأنّا اعتبرنا الشّرْعَ فوجدناه يثبت الحكم عند الوصف المناسب لا به.
_________
(1) بعدها في الأصل: “أم لا” وهو سبق نظر من الناسخ.
(7/382)
ومنهم من يقول: بل الشارع لم يخصّ فعلًا (1) على فعلٍ، فالأمر والنهي لا (2) لاختصاص ذلك الفعل بما يقتضي ذلك، لكن كون ذلك الفعل حسنًا مأمورًا به وقبيحًا منهيًّا عنه لا يثبت إلا بالشرع، فالشارع جعل ذلك الوصف المناسب موجبًا لكون الفعل حسنًا وقبيحًا، لا أنه كان حسنًا وسيئًا.
وهذا يقوله مَنْ نفى الحُسْن والقُبْح العقليين، ويقول: إن الشارع جعل الصفات عللًا، كما يقوله الغزالي وموافقوه، كأبي محمد بن المَنّي (3) وأبي محمد المقدسي (4) وغيرهما.
وأما الأكثرون فيقولون: بل تلك الصفات توجب كون الفعل حسنًا وسيئًا، فتوجب كون العدل حسنًا وكون الظلم سيئًا، وأنه سببٌ لمدح صاحبه وذمّه، ولكن هل يستحق صاحبه العقاب قبل إرسال الرّسل؟ على قولين:
فمنهم من يقول: إن صاحبه يستحقّ العقاب في الدنيا والآخرة بدون الإرسال، كما يقول ذلك كثير من المعتزلة والحنفية وأبو الخطَّاب وغيره.
_________
(1) كتب الناسخ أولا: “حكمًا” ثم ضرب عليها.
(2) الأصل: “إلّا” والصواب ما أثبت.
(3) الأصل: “البَنّي” تحريف، وهو نَصْر بن فتيان بن مطر النهرواني الحنبلي ابن المنّي (ت 583). ترجمته في “ذيل طبقات الحنابلة”: (2/ 354)، و”السير”: (21/ 138).
(4) هو ابن قدامة المقدسي الحنبلي صاحب “المغني” في الفقه (ت 620).
(7/383)
ومنهم من يقول: بل العذاب لا يُسْتحَق إلا بعد إرسال الرّسل، كما دلّ عليه الكتابُ والسنة، وإن كان الفعل في نفسه سيئًا قبيحًا، وهو سببٌ لذمّ صاحبه وعقابه، لكن شرط حصول العقاب هو إقامة الحجة بالرُّسل كما دلت عليه النصوص. وهذا أعدل الأقوال وعليه تدلّ نصوص الكتاب والسنة.
وقد ذكروا عن القائلين بالحُسْن والقبح العقلي، هل هذا الحكم ثابت لذات [ق 193] الفعل، أو لصفةٍ (1) قائمة به، أو في الحسن لذاته وفي القبح لصفةٍ قامت به؟ ثلاثة أقوال.
ولم يقل أحدٌ: إن الحُسْن والقُبح هو وصف لازم لذات الفعل، كما تظنه طائفةٌ نَقَلَتْ (2) قولَهم، بل يقولون: تختلف صفات الفعل باختلاف أحواله وأنواعه، فكونه حسنًا من جنس كونه محبوبًا، وكونه قبيحًا من جنس كونه بغيضًا، ويقولون: قد يقوم به المقتضي لحسنه أو قبحه، ولكن يختلف عنه مقتضاه لفوات شرط أو وجود مانع.
وهو مبنيّ على مسألة تخصيص العلة، فمن جعل العلَّة الأمرَ المستلزم للحكم لم يخصِّصها، ومن جعلها المقتضي خصَّصها. وهو نزاع لفظي.
_________
(1) الأصل: “الصفة”.
(2) الأصل: “فقلت” ولعلها ما أثبت.
(7/384)
وليس لنفاة الحُسن والقبح العقليين دليلٌ (1) أصلًا، بل جميع أدلتهم باطلة، وليس لمثبتيه دليل يدل على حُسْن وقُبْح بغير اعتبار الملاءمة للفاعل والمنافرة له، بل كلّ ما يذكرونه على إثبات حُسن وقبح بدون ذلك فهو باطلٌ.
كما أن أولئك ليس لهم دليل على أن الفاعل المختار يفعل بلا داع، وليس لهؤلاء دليل على أنه يفعل بِداعٍ لا يعود إلا إلى غيره؛ ولهذا لمّا عاد معنى الحسن والقبح إلى هذا أثبتت طائفةٌ الحُسنَ والقبحَ العقليّ في أفعال العباد دون أفعال الله. وهو اختيار الرّازي في آخر عمره.
وهو مبنيٌّ على أصلٍ، وهو مشيئة الله، وهل هي نفس محبته ورضاه وسخطه وبغضه، أو بينهما فرق؟
فذهب المعتزلة، والجهمية القدرية الجَبْريّة، والقدرية النافية إلى أن جميع ذلك بمعنى واحد، ثم قالت النفاة: قد ثبت بالنصوص المتواترة إجماع الأمة: أنّ الله لا يحبّ الكفر والفسوق والعصيان، فلا يريده ولا يشاؤه، فيكون في ملكه ما لا يشاء.
وقالت المُجْبرة: بل ثبت بالنصّ والإجماع أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكلُّ كائن فهو بمشيئته. وجهم بن صفوان [لا] (2) يثبت
_________
(1) الأصل: “دليلًا”.
(2) زيادة يستقيم بها السياق.
(7/385)
لله صفة قائمة به لا إرادة ولا محبّة، بل محبّة عبده (1) ثوابه، وبغضه عقابه، فلم يحتج أن يقول: إنه يحب (2) كل شيء (3).
وأما الأشعري ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فقالوا: لله إرادة واحدة تقوم به، وقالوا ــ في أظهر قوليهم ــ: إن إرادته هي حبّه ورضاه (4)، وكل ما في الوجود فهو مرادٌ له فيكون محبوبًا له مرضيًّا.
وذكر أبو المعالي أنّ أول من قال هذا هو الأشعري وأصحابه، وقالوا: إن بغضه وغَضَبه هو إرادته لعقاب المذنب، وهو محبّته لعقاب المذنب مع كونه محبًّا لفعله. ويقولون في قوله تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] أي: عباده المؤمنين. وقد يقولون: لا يرضاه دينًا، كما يقولون: لا يشاؤه دينًا. أي: لا يشاء أن يكون صاحبه مثابًا.
_________
(1) وقع في الأصل [ق 193 أ-ب] في هذا السطر والسطرين بعده طمس بمقدار كلمتين أو أكثر. ويغلب على الظن أنه ليس بطمس، بل هو عيب وقع في النسخة في الورقة المشار إليها، أو انتشار حبر أو نحوه، فتجاوزه الناسخ، وعند ترميم النسخة وضعت ورقة في هذا الموضع لإصلاح العيب، فظهر ما صورته صورة الطمس، وليس به؛ لأن الكلام متصل لا انقطاع فيه. والله أعلم.
(2) في هذا الموضع أيضًا وقع الطمس الذي نبهتُ عليه في الحاشية السابقة.
(3) انظر “مجموع الفتاوى”: (8/ 343).
(4) عبارة: “وقالوا في أظهر قوليهم: إن إرادته هي حبه ورضاه تقوم به” تكررت في الأصل.
(7/386)
وأما السلف والأئمة وعامّة الفقهاء وأكثر طوائف النظَّار، من الكرَّامية وغيرهم، والحنفية وأئمة المالكية والشافعية والحنبلية، وأهل الحديث، وأئمة الصوفيّة، وابن كُلّاب، وطائفة من أصحاب الأشعري، فيقولون: إنه خَلَق كلَّ شيء بمشيئته، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يحبّ الكفرَ والفسوقَ والعصيان، بل يحبّ ما أمر به.
وعلى هذا فهو إذا خلق شيئًا لحكمةٍ فهو يحبّ تلك الحكمة التي خلقه لأجلها، وإن كان هو في نفسه مكروهًا له لا يحبه.
وعلى هذا فالحَسَن في حقّه هو ما يحبّه والقبيح ما يبغضه. والفعل ــ ويراد به نفس الفعل، ويُراد به المفعول المخلوق ــ فهذا قد يكون محبوبًا له، وقد يكون مكروهًا له، وأما الأول فلا يكون محبوبًا، وهو لا يفعل إلا ما يحبّه، فلا يفعل إلا الحَسن، والحسنُ يقرّ به وينبهج به ويرضاه ويرضى عن صاحبه. والسيئ يبغضه ويمقته ويمقتُ صاحبَه، وهو منزّه (1) سبحانه أن يفعل شيئًا هو قبيح مطلقًا، بل لا يفعل إلا ما له فيه حكمة لأجلها كان مرادًا له، وإن كان يبغضه من بعض الوجوه. فالخير بيديه [ق 194] والشرُّ ليس إليه.
وعلى هذا القول: فيجب تنزيهه عن كلِّ فعل يناقض كماله، كما يجب تنزيهه عن كلّ وصف يناقض كماله، وهو منزَّه عن الظلم،
_________
(1) عند هذه الكلمات الثلاث “منزّه، إلا ما، من بعض” ما يشبه الطمس بمقدار كلمة أو كلمات، والسياق مستقيم. وتقدم في الصفحة السابقة شرح ما وقع في النسخة.
(7/387)
والظلمُ: وضعُ الشيء في غير موضعه.
وعلى قول الجهمية القدرية المجبرة ومن وافقهم: لا ينزَّه عن فعل شيء ممكن، والظلم هو الممتنع لذاته، وهو غير مقدورٍ له، فإنه إما التصرُّف في غير ملكه، وإما معصية من فوقه، وكلاهما ممتنعٌ في حقه.
وعلى قول القدرية النُّفاة من المعتزلة ومن وافقهم فما حَسُن منه حَسُن من عباده، وما قَبُح من عباده قَبُح منه، وما كان ظلمًا منهم كان ظلمًا منه، وهم مُشبّهة الأفعال.
وقد ألزمهم الناس بأنه يفعل ما يقبُح في (1) العقل، كتمكينه عباده وإمائه من الظلم والفواحش مع قدرته على المنع، واعتذروا عن ذلك بأنه (2) عرَّضهم للثواب بالتكليف.
فأجاب الناسُ عن ذلك بأنه إذا عَلِم أنه إذا أمرهم ونهاهم لم ينتفعوا بذلك ولم يطيعوا، لم يكن الأمر حسنًا من العبد، بل يجب منعهم بالقهر، أو أنه لا يتملَّك مَنْ هذا سبيله (3).
فكان قياس قولهم يقتضي أن الله يقبُح منه خلقهم وتكليفهم؛ ولهذا قال من قال من الأئمة: ناظِروا القدريّة بالعلم، فإن أقرّوا به خُصِموا، وإن
_________
(1) الأصل: “من” ولعله ما أثبت.
(2) الأصل: “فإنه” تحريف.
(3) انظر “مجموع الفتاوى”: (8/ 506)، و “منهاج السنة”: (3/ 91).
(7/388)
جحدوه كفروا (1).
وهذا من جهة العلم بعاقبة أفعال العباد يناقض خلقهم وأمرهم إذا قيل بالمخلوق.
وقد زعم طائفة: أنه من جهة أنّ العلم يوجب امتناع وقوعٍ بخلاف المعلوم، وامتناع قدرة العبد على خلاف ذلك، كما يذكره الرّازي، وليس كذلك، فإنّ العلم بما يفعله المختار لا يناقض كونه محتاطًا (2)، فإنّه يعلم أنه يفعل باختياره.
وأما العلم بالعاقبة فيناقض أنه أراد خلاف ما عُلِم من العاقبة (3) أنه لا يكون. فالعلم يناقض أن يُراد بالخلق ما عُلِم أنه لا يكون، لا يناقض القدرة.
وعلى القول الأول ــ قول السلف والأئمة والجمهور ــ فإذا خَلَق ما خلق لحكمةٍ يحبّها ويرضاها، وخلقَ ما خلقه من الشرّ فلِما (4) له في ذلك من الحكمة= لم يمتنع أن يكون فيما خلقه ضررٌ ما (5) على بعض
_________
(1) انظر “مجموع الفتاوى”: (32/ 349). وعزاه في “شرح الطحاوية” (ص 271) للإمام الشافعي.
(2) الأصل: “محتاط”. ولعلها: “مختارًا”.
(3) العبارة في الأصل: “خلاف من العاقبة ما علم أنه … “. ولعلها ما أثبت.
(4) كذا، ولعل الأصح: “لما”.
(5) الأصل:”ما ضرر”.
(7/389)
المخلوقات، إذ كان ذلك من لوازم الحكمة المرادة، وامتنع وجود الحكمة المرادة بدون ذلك. وإذا كان العبد لا يقبح منه إيلام الحيوان لحكمةٍ راجحة، فالخالق أولى أن لا يقبُح منه ذلك.
وإذا قيل: فقد كان يمكن وجود الحكمة بدون ذلك.
قيل: هذا قولٌ بلا علم، فمن أين لكم ذلك؟ وهو سبحانه وتعالى على كلِّ شيء قدير، والممتنع ليس بشيء باتفاق العقلاء، فمن أين علمتم أن ذلك ممكن غير ممتنع حين تناوله القدرة؟ وعدمُ العلم بالامتناع غيرُ العلم بعدم الامتناع، وكذلك عدم العلم بالإمكان غير العلم بعدم الإمكان، وعدم العلم بالوجوب غير العلم بعدم الوجوب. ونظائر هذا متعددة.
ولكن كثير من الناس يشتبه عليهم هذا، فإذا لم يعلم أحدهم أنَّ الشيء موجود، أو واجبٌ، أو ممكنٌ، أو ممتنعٌ، ظنَّ أنه غير موجود، أو غير واجب ممكن، أو غير ممتنع؛ فيجعلون عدم العلم علمًا بالعدم! وهذا مما نهى الله عنه بقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].
ولهذا كان النافي عليه الدليل، وأما المانع المطالب بالدليل؛ فليس عليه دليل، لأن النافي نفى وأخبر بالنفي، فليس له أن ينفي بلا علم، كما ليس له أن يُثبت بلا علم، بخلاف المانع المطالب، فإنه لم ينف ولم يثبت، بل طالب المثبت بدليل الإثبات.
(7/390)
والإنسان ليس له أن يتكلم بلا علمٍ، لا في النفي ولا في الإثبات، ولو سكت من لا يدري قلَّ الخلاف (1). فهذا هذا، والله أعلم.
وإذا قيل: خَلَق فِعل العبد ثم جازاه عليه، فإنه ظلم.
قيل: هذا غلطٌ، فإنه علم بصريح العقل واتفاق العقلاء أن مجازاة الإنسان بنظير عمله من الحكمة والعدل، وأنه لا يجوز التسوية بين العادل والظالم، والجاهل والمحسن والمسيء، بل هذا من الأمور المنزّهة المستقبحة عند العقلاء.
ولهذا قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا [ق 195] السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 – 36]، وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:19 – 22]، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18].
_________
(1) نسبت هذه الكلمة لكلثوم العتابي كما في “معجم الأدباء”: (5/ 2244 – دار الغرب). ونسبت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(7/391)
وسواءٌ قُدِّر أنّ أفعالَ العباد مخلوقةٌ لله أو لم تكن، فإنّ كون العادل يستحقّ الإكرام، والظالم يستحقّ الذّمَّ والإهانة= أمرٌ فُطِر عليه بنو آدم، مع كونهم مفطورين (1) على أنَّ الله خالق كلِّ شيء؛ ولهذا كان جماهير الأمم من العرب وغيرهم مُقِرّين بهذا وهذا، وليس في فطرة أحد رفع الذم والعقاب عن الظالم مطلقًا، لكن فعلَه مخلوقٌ (2) لله، والظلم: وضعُ الشيء في غير موضعه. فوضع العقاب على من لم يُسئ ظلمٌ، والحكمةُ: وضع الشيء في موضعه، والله لا يظلم أحدًا شيئًا، ولا يجزي أحدًا بظلم إلا بعمله.
وكونه خالقًا لأعمال العباد من كمال قدرته ومشيئته وربوبيته، وجزاؤه بعمله من كمال حكمته وعدله وربوبيته، وهو سبحانه له الملك وله الحمد، وله في ذلك من الحكمة البالغة ما لو جُمِعت عقولُ جميع العقلاء لم يدركوا غاية حكمته. وتوهّم المتوهِّم إمكان حصول كمال الحكمة بدون ذلك ظنٌّ منه، وكلامٌ بلا علم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28].
* * *
في آخر النسخة ما نصه: “قال كاتبه: إلى هاهنا وجدت في نسخة الأصل، فاعلم ذلك. والله أعلم”.
_________
(1) الأصل: “مفطورون”.
(2) الأصل: “مخلوقًا”.
(7/392)
مسألة
في عقيدة أهل گيلان
(7/393)
ذكر من شاهد بخط الشيخ الإمام المحدّث عبد الله الإسكندري ما صورته ــ وقد حدثني به غير مرة ــ:
حَضَر الشيخ شمس الدين محمد بن الرضي خطيب گيلان (1) يوم الأربعاء رابع عشر صفر سنة خمس عشرة (2) وسبعمائة بدمشق المحروسة، بعد قضاء نُسكه في عَوده إلى بلده، إلى بين يدي الشيخ ــ يعني تقي الدين أحمد ابن تيمية ــ فسلّم عليه، وفاتحه الشيخُ فيما يقولون عن أهل كيلان في نزول الربّ عز وجل إلى الأرض والطرقات؟
فقال: والله الذي لا إله غيره هذا شيءٌ (3) ما سمعته لا من خواصّ الناس ولا من عامّتهم.
ثم سأله عن النزول إلى السماء الدنيا؟
فقال: سمعنا عن شيخ الإسلام الأنصاري أنه قيل له: ما تقول في النزول؟ فقال: نزولٌ لا يعرفه الكروبيّون، أعرفه؟ وهذا جوابنا عن النزول.
_________
(1) جيلان: بالكسر اسم لبلاد كثيرة من وراء بلاد طبرستان. إحدى محافظات إيران الآن على حدود بحر قزوين. وليس في جيلان مدينة كبيرة إنما هي قرى في مروج بين جبال، ينسب إليها جيلاني وجيلي، والعجم يقولون: گيلان، وقد فرق قوم فقيل: إذا نسب إلى البلاد قيل: جيلاني وإذا نسب إلى رجل منهم قيل: جيلي. انظر «معجم البلدان»: (2/ 201).
(2) الأصل: «عشر».
(3) الأصل: «شيئًا».
(7/395)
فسأله الشيخ عن القول في المصحف؟
فقال: الورق مخلوق وكلام الله غير مخلوق.
فقال الشيخ: هكذا تقول؟
فقال: هذا اعتقادنا، نعم هكذا نقول.
فقال الشيخ: الصوت، ما تقولون فيه؟
فقال: نحن نقول: صوت القرآن غير صوت الناس.
فقال الشيخ: أنا إذا قلتُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ما هو؟
فقال: كلام الله.
فقال الشيخ: بصوتي أم بصوت الله القائم بذاته سمعت ذلك في هذه الساعة؟
فقال: سمعت القرآن بصوت القرآن.
فقال الشيخ: بل سمعت القرآن بصوتي، الكلامُ كلام الباري، والصوتُ صوت القاري. هذا هو الحق، ومن ذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «زيِّنوا القرآنَ بأصواتكم» (1).
_________
(1) أخرجه أحمد (18494)، وأبو داود (1468)، وابن ماجه (1342)، والنسائي (1015)، وابن خزيمة (1551)، وابن حبان (749)، والحاكم: (1/ 571) في صحاحهم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
(7/396)
صورة خط الشيخ عبد الله الإسكندري: نعم الأمرُ على ما ذكره شيخنا أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأواه. كتب عبد الله الإسكندري.
***
كتب بعده بخط الأصل: قال الشيخ تقيّ الدين أحمد ابن تيمية شيخنا رضي الله عنه: ليس لأحد أن يتكلّم في أحدٍ بلا علم، ولا بهوى النفس، فإن الإنسان مسؤولٌ عن ذنوب نفسه لا عن ذنوب غيره.
(7/397)
مجموعةُ فتاوى من:
الدُّرَّةِ المضِيَّة في فتاوى ابنِ تيميَّة
انتقاها ابن عبد الهادي
(7/399)
قال الشيخ الإمام العالم العلامة ابن عبد الهادي رحمه الله ورضي عنه: لما رأيت فتاوى الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام وناصر السنة فريد الوقت، وحيد الدهر، بحر العلوم، بقية المجتهدين، حجة المحققين، تاج العارفين، ولسان المتكلمين، رحلة الطالبين، إمام الزاهدين، ومنار المجاهدين، الإمام الحجة النوراني، والعالم الرباني، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية الحراني= غايةَ المقاصد، كثيرة الفوائد، سارعت فيما سهَّل الله عليَّ به منها لتكون لي عمدةً أعتمد عليها (1)، وحجةً أستند إليها (2)، ورتبتها أبوابًا على أبواب الفقه، وسمّيتها: “الدرة المضيّة في فتاوى ابن تيمية” رحمه الله، وختم لنا وله بخيرٍ بمحمدٍ وآله (3)، إنه على كل شيءٍ قدير.
_________
(1) الأصل: “عليهما”.
(2) الأصل “استدلالهما”!
(3) كذا، وهذا اللفظ من التبرك الممنوع، ولعله من كاتب النسخة.
(7/401)
[مسألة: في الجهر بالنية والتكبير والدعاء، ومسائل أخرى] (1)
مسألة: في جماعة يصلُّون بمسجد من بعض المساجد، هل على الإمام الجهر بالتكبير أو النية؟
أو على الإمام الجهر بالدعاء، أم السرّ أفضل؟
وهل المصافحة بعد العصر والصبح مستحبة، أم لا؟
وهل يجوز التبليغ خلف الإمام إذا كانوا صغيرًا وثلاثة (2)؟
وهل تعليم الصبيان جائز في المسجد أم لا؟ أفتونا.
الجواب: الحمد لله.
ليس على الإمام الجهر بتكبيرٍ ولا لفظ نية باتفاق المسلمين، ولا يستحب له ذلك أيضًا، لكن التكبير عليه أن ينطق به، وأما النية ليس عليه أن ينطق بها أيضًا باتفاق الأئمة، وليس في ذلك نزاعٌ إلا وجهٌ ضعيفٌ لبعض المتأخرين، بل أئمة الدين متفقون على أن المأموم ليس عليه أن ينطق بالنية، لا في طهارة، ولا في صلاة، ولا صيام، ولا يجوز ذلك، بل تنازع العلماء في استحباب التلفظ بالنية، فمن أصحاب أبي حنيفة
_________
(1) في الأصل كتب في أول المسائل: “باب النية”. وتركته لأني انتقيتُ من المسائل ما ليس مطبوعًا، ولأن المنتقي لم يلتزم بالترتيب الفقهي.
(2) كذا في الأصل.
(7/402)
والشافعي وأحمد من استحب ذلك، قالوا: بأنه أوكد. ومن أصحاب مالك وأحمد وغيرهما من كره التلفُّظ بالنية؛ لأنه بدعة لم يفعلها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا أصحابه، ولأن النية من أعمال القلوب فقط، ولأن ذلك من جنس العبث، وهذا أصح.
وبكل حال [65] فأكثرهم ينهى عنه (1). والمصرّ على ذلك يستحقّ التعزير. والله أعلم.
* مسألة: (2) وأما الدعاء في الصلاة، فالسنة المخافتة به إلا ما كان في ضمن القراءة في صلاة الجهر، ودعاء القنوت ــ حيث يجهر به ــ والتأمين.
وأما بعد الصلاة، فالسُّنَّة هو الذِّكْر المنقول عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وأما دعاء الإمام والمأمومين جميعًا، فلم يُنقل عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، لكن من العلماء من استحبه، ومنهم من لم يستحبه بعد الفجر والعصر، كما أنَّ منهم من كره للإمام القعود بعد الصلاة، ولم يستحب القعود [و] لا الذكر، ولا الدعاء، وكلا القولين مخالفٌ للسنة، فإن السنة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – هي الدعاء في صلب الصلاة، والذكر بعد الصلاة، والداعي يناجي ربه، فدعاؤه وهو يناجي ربه أحبّ من دعائه بعد انصرافه من مناجاته.
_________
(1) بعده في الأصل: “باتفاق العلماء” وهي مقحمة. وكتبت فوق السطر وعليه علامة التصحيح هذه الجملة: “وتكبير ما ينهى عنه باتفاق العلماء”. ولم يتبين لي وجهها.
(2) هذه المسألة بقية جواب السؤال السابق. ووقع مثله في بقية المسائل الآتية.
(7/403)
ودعاء الرجل بعد الصلاة سرًّا جائزٌ، والذين استحبوا للإمام أن يدعو بعد الصلاة قالوا: يدعو سرًّا إلا أن يكون في الجهر مصلحة لتعليم بعض المأمومين، وذلك أنَّ الأصل في الدعاء أن يكون سرًّا، كما قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]. وقال تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]. ولهذا قال مَنْ قال من السلف: رفع الصوت بالدعاء بدعة.
وأما الذِّكر فتارةً يُسَنُّ الجهر به، كالأذان والتلبية، وتارةً لا يسنّ.
* مسألة: وأما المصافحة عقيب الصلاة، فبدعةٌ لم يفعلها رسول الله ولم يستحبها أحدٌ من العلماء.
* (1) وأما التبليغ خلف الإمام لغير حاجة، فبدعةٌ (2) مكروهة باتفاق الأئمة، فإنه لم يكن بلالٌ يبلِّغ خلف النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولا كان الخلفاء الراشدون (3) يبلّغ أحدٌ خلفهم. ولهذا اتفق الأئمة على أن الإمام هو الذي يُسنّ له الجهر بالتكبير.
كما ذكروا في كتب المذهب، قالوا: إن المأموم يبلغ للحاجة، [و] استدلوا بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – في مرض موته لمَّا خرج فصلى جالسًا كان
_________
(1) قبله في الأصل: “الجواب” مقحمة.
(2) الأصل: “بدعة”. وانظر للمسألة “مجموع الفتاوى”: (23/ 400 ــ 403).
(3) الأصل: “الراشدين”.
(7/404)
أبو بكر يُسْمِع الناسَ التكبير؛ لأجل مرض النبي – صلى الله عليه وسلم -، وخفاء (1) صوته، وهذا أصل في تبليغ بعض المأمومين لحاجة.
وأما إذا أمكن الإمام أن يجهر بحيث يَبْلُغ صوته المأمومين، فهذا هو السنة، وتبليغ المأمومين حينئذٍ مكروهٌ.
وتنازع العلماء هل تبطل صلاة المبلِّغ؟ على قولين في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، لا سيما إذا كان المبلّغ لأجل ذلك يرفع صوته قبل الإمام، ويمدّ صوتَه بحيث لا يسبِّح في الركوع ولا في السجود، ولا يطمئن في الركوع والسجود والاعتدال لأجل اشتغاله بمدّ صوته، [فمن جهر] (2) لأجل هذه البدعة، فقد ترك ما أُمِر به من الطمأنينة المفروضة، ومن التسبيح الواجب في أحد القولين، ودخل في المسابقة التي قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوِّل الله رأسَه رأس حمار” (3).
وهذا مما لا يشك (4) في أن فاعله عاصٍ آثم، بل وصلاته باطلة على أصح القولين عند العلماء.
_________
(1) رسمها في الأصل: “وخفى”. والحديث أخرجه البخاري (712)، ومسلم (418) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) الأصل: “فهي تكون” تحريف، فلعل العبارة كما أثبت.
(3) أخرجه البخاري (691)، ومسلم (427) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) رسمها في الأصل: “يشد”.
(7/405)
وأما تعليم الإمام للمأمومين وغيرهم ما أمر الله به ونهاهم، فإنه (1) فرضٌ على الإمام باتفاق [66] المسلمين. وإذا غلب على ظنّ الإمام أن غيره لا يقوم بهذا الفرض صار فرض عينٍ عليه يأثم بتركه. وقد نصَّ الأئمة على مثل ذلك في الصلاة، حتى قالوا أيضًا: إذا رأى من يسابق الإمام، أو من نسي في صلاته ولم يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر صار شريكًا له في الإثم.
ولهذا جاء في الحديث: “ويلٌ للعالم من الجاهل، وويلٌ للجاهل من العالم، فويلٌ للعالم إذا سكت عن تعليم الجاهل، وويلٌ للجاهل إذا لم يقبل من العالم” (2).
والحديث: “إن الخطيئة إذا خفيت لم تضرّ إلا صاحبها، وإذا أُعْلَنت الخطيئة فلم تُنْكر ضرَّت العامة” (3).
فإذا لم يأمر بالصلاة (4) التي هي عمود الدين، وإقامة واجباتها،
_________
(1) الأصل: “فإن”.
(2) أخرجه الديلمي في “الفردوس”: (4/ 395) عن أنس رضي الله عنه. قال العراقي في “المغني”: (1/ 143): بسند ضعيف. وانظر “الضعيفة” (4756).
(3) أخرجه الطبراني في “الأوسط” (4767) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. قال الهيثمي في “المجمع”: (7/ 528): “فيه مروان بن سالم الغفاري وهو متروك”. وأخرجه البيهقي في “الشعب” (7196)، وأبو نعيم في “الحلية”: (5/ 222) وغيرهم من قول بلال بن سعد.
(4) الأصل: “الصلاة بالصلاة”.
(7/406)
استحقَّ العذاب بذلك، فإن تضييع الصلاة من أعظم المنكرات، كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 – 5].
فهؤلاء كانوا يصلون، لكن أضاعوا واجبها، ولَهَوا (1) عنها، كالوقت والطمأنينة، ومتابعة الإمام وغير ذلك، كما ثبت في “الصحيح” (2) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “تلك صلاة المنافقين، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعًا (3) لا يذكر الله فيها إلا قليلًا”. فجعله منافقًا مع كونه يصلي؛ لكونه ضَيَّع الوقت والطمأنينة.
* فصل: وأما تعليم الصبيان في المسجد بحيث يؤذي (4) المسجد؛ فيلوّثونه ويرفعون أصواتهم فيه، ويشغلون المصلّي فيه، ويضيِّقون عليه، فهذا مما يجب النهي عنه، والمنع منه، والله أعلم.
_________
(1) الأصل: “وينهو” ولعل صوابه ما أثبت.
(2) صحيح مسلم (622) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3) الأصل: “أربع”.
(4) الأصل: “لا يؤذي”، والصواب حذف “لا”.
(7/407)
[مسألة في شرائط الصلاة، وصفة صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم -، والسنن الرواتب]
مسألة: ما تقول أئمة الدين فيما يتعلق بالنية في شروط الصلاة، والشرط السابع، وما كان يصلي مع المكتوبات.
الجواب: الحمد لله.
أما شروط الصلاة، فهي الطهارة، والستارة، واستقبال القبلة. والطهارة نوعان: طهارة الحَدَث، وهي الوضوء والاغتسال إن كان جنبًا، أو كانت امرأة حائضًا (1). وطهارة الخَبَث (2) اجتناب النجاسة في بدنه وثيابه وموضع صلاته، فإن كان معذورًا مثل أن يكون قد نسيها أو جهلها فلا إعادة عليه في أصحِّ القولين للعلماء، وأما طهارة الحَدَث إذا نسيها فعليه الإعادة.
والنية محلُّها القلب، ولا يحتاج الإنسان (3) أن يتكلم بها باتفاق العلماء، وكلّ من علم ما يريد فعله فلا بدّ له من أن ينويه.
ومن العلماء من استحبَّ التكلّم بالنية، والصحيح أن ذلك لا يستحب، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه لم يكونوا يتكلمون بالنية، لا في طهارة، ولا في صيام، ولا نحو ذلك.
_________
(1) بعده في الأصل: “بالضاد” وهي إما مقحمة، أو محرفة عن “أو نفساء”.
(2) الأصل: “الجنب” تصحيف.
(3) تحرفت في الأصل إلى: “إلى بيان”!
(7/408)
والشرط السابع: هو الوقت للمكتوبات، ولا يصلي المكتوبة إلا بعد دخول الوقت.
ووقت الفجر: من طلوعه إلى طلوع الشمس.
ووقت الظهر: من الزوال إلى أن يصير ظلّ كلّ شيءٍ مثله (1) سِوى ظلّ الزوال عند جماهير الأئمة، وهذا مذهب الشافعي، وأحمد، وأبي يوسف، ومحمد، ومالك، وغيرهم من العلماء، وبذلك جاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -.
ووقت العصر: [إلى] أن تصفرّ الشمس في أصحّ قولي العلماء، وإذا صلَّاها قبل الغروب صلَّاها أداءً، وليس له أن يؤخرها إليه ــ يعني الغروب ــ.
ووقت المغرب: إلى غروب الشفَق، في أحد القولين.
ووقت العشاء: إلى ثلث الليل أو نصفه.
وأما أركان الصلاة: فالقيام، والركوع، والسجود، والذكر في أوّلها، كما يفتتح بالتكبير. وهذه أركان باتفاق الأئمة.
وكذلك قراءة الفاتحة، لكن عند أكثرهم، فمن تركها أعاد، وعند بعضهم هي واجبةٌ إن تركها أساء ولا يعيد، وهذا مذهب أبي حنيفة، والأول مذهب الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد.
_________
(1) كانت: “مثليه” ثم أصلحها إلى ما أثبت.
(7/409)
وكذلك الاعتدال إذا قام من الركوع، والقعدة بين السجدتين، والطمأنينةُ في جميع ذلك ركنٌ عند الشافعي وأحمد وغيرهما، وهو واجبٌ عند أبي حنيفة.
والقعود في آخر الصلاة، والتشهد، والسلام ركنٌ أيضًا عند الشافعي وأحمد وغيرهما.
[69] فصلٌ
وأما صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم -: فإنه كان يقرأ في الفجر بطوال المفصَّل، مثل ق، والطور، والذاريات، ونحو ذلك. ويقرأ في الظهر بمثل سورة تبارك، والسجدة، وأقلّ من ذلك، ويقرأ في العصر بأقلّ من ذلك، ويقرأ في المغرب بأقلّ من ذلك، ويقرأ في العشاء بنحو صلاة العصر. وكانت صلاته معتدلة، يتم الركوع والسجود.
وكان إذا رفع رأسه من الركوع يقوم حتى يقول القائل: قد نسي. وإذا قعد بين السجدتين يقعد حتى يقول القائل: قد نسي. ويسبِّح بنحو عشر تسبيحات، وقد ينقص من ذلك أحيانًا، ويزيد على ذلك أحيانًا، بحسب المصلحة.
ويقول في ركوعه: “سبحان ربي العظيم”. يكرِّر ذلك. ويقول في سجوده: “سبحان ربي الأعلى”. يكرر ذلك. ويقول بين السجدتين: “ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وعافني وارزقني”.
(7/410)
وكان يقول إذا رفع رأسه من الركوع: “ربّنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقّ (1) ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ”.
ويدعو في آخر صلاته فيقول: “اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال”. وكان لا يدعو دعاءً إلا ختمه بقوله: “ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار”.
مسألة: وكان يصلّي مع المكتوبات عشر ركعات، أو اثنتي عشرة (2) ركعة؛ يصلّي قبل الظهر إما ركعتين وإما أربعًا، وبعد الظهر ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ركعتين، وهما أوكد هذه الصلاة، فإنه كان يأمر بذلك، ويأمر بالوتر، وكان وتره و (3) صلاته بالليل إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة (4) ركعة، وكان مجموع ما يصليه من الفرض والنفل بالليل والنهار نحو أربعين ركعة.
_________
(1) الأصل: “حق”.
(2) الأصل: “اثني عشر”.
(3) الأصل: “هو” والصواب ما أثبت.
(4) الأصل: “أحد عشر .. ثلاثة عشر”.
(7/411)
ولم يكن يصلي قبل العصر والمغرب والعشاء شيئًا، لكنه كان يقول: “بين كلِّ أذانين صلاة” ثم قال في الثالثة: “لمن شاء” (1) كراهية أن يتخذها الناس سنة، وكان أصحابه يصلون قبل المغرب بين الأذان والإقامة ركعتين، وهو يراهم ولا ينهاهم. فمن صلّى قبل العصر أو المغرب أو العشاء، فقد أحسن، ولكن ليس ذلك بسنة راتبة.
وكان إذا نام عن صلاة الليل صلّى بالنهار بَدَل ذلك، فإنه كان إذا عمل عملًا أثبته، وكان عمله دِيمةً.
_________
(1) أخرجه البخاري (627)، ومسلم (838) من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.
(7/412)
مسألة
في زيارة القدس أوقات التعريف
(7/413)
مسألة جليلة كثيرة الفوائد، مبتلًى بها [ق 71] كثير من الناس فيمن ينوي زيارة القدس أوقات التّعْرِيف.
* مسألة:
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
ما تقول السّادةُ العلماء أئمة الدين وعلماء المسلمين رضي الله عنهم أجمعين، فيمن ينوي زيارة بيت المقدس في أوقات التعريف، ونيتُه أنها قُرْبة وطاعة؟
وفي أقوام يطوفون بصخرة بيت المقدس ويُصلّون في أماكن مشهورة هناك، مثل مهد عيسى، وقُبة المعراج [ق 73] وقُبة السلسلة، وزيارة قبر الخليل، وغير ذلك؟
وما يُستحبّ للزائر وما يحرُم عليه من ذلك ونحوه؟
وهل يستحبّ للنساء أن يزرن في أوقات التعريف مُظْهِراتٍ لزينتهنّ متطيّبات (1)، وهل على أوليائهن منعهنّ؟ أفتونا مأجورين رحمكم الله ورضي عنكم.
_________
(1) تحرفت في الأصل إلى: “يسير بهن وهن صيامًا” ولعل الصواب ما أثبت بدليل ما سيأتي في الرسالة (ص 431).
(7/415)
الجواب: الحمد لله رب العالمين.
أصل السفر إلى بيت المقدس للصلاة فيه، والاعتكاف فيه، وقراءة القرآن والدعاء والذِّكْر ونحو ذلك، هو مستحبٌّ مشروع باتفاق المسلمين.
وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في “الصحيحين” من حديث أبي هريرة (1) وأبي سعيد (2) أنه قال: “لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة (3) مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا”.
وفي حديث سليمان لمَّا بنى البيتَ ــ أي: بيت المقدس ــ سأل الله ثلاثًا، سأله مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وسأله حُكمًا يوافق حكمَه، وسأله أنه لا يأتي أحدٌ هذا البيت لا يريد إلا الصلاة إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه (4).
_________
(1) البخاري (1189)، ومسلم (1397).
(2) البخاري (1188)، ومسلم (بعد 1338).
(3) الأصل: “ثلاث”.
(4) أخرجه النسائي (693)، وابن ماجه (1408)، وأحمد (6644 م)، وابن خزيمة (1334)، وابن حبان (1633)، والحاكم: (1/ 84) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الحاكم: حديث صحيح تداوله الأئمة. وصححه النووي في “تهذيب الأسماء”: (1/ 233)، وحسنه ابن الملقن في “التوضيح”: (19/ 403).
(7/416)
ولهذا كان عبد الله بن عمر يأتي بيت المقدس، فيدخل فيصلي ركعتين، ثم يخرج ولا يشرب فيه؛ كأنه يطلب دعوة سليمان. وكان لا يأتي الصَّخرة ولا يزورها (1).
وكذلك غيره من سَلَفَ من الأمة؛ كعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وسفيان وأمثالهم، لم يكونوا يأتون شيئًا من تلك المواضع (2) التي تُزار في المسجد لا الصخرة ولا غيرها.
ولما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيت المقدس قال لكعب: أين ترى أن أبني مصلى للمسلمين أمام الصخرة أو خلفها؟ قال: خلفها. فقال: يا ابن اليهود خالطتك يهودية، بل أبنيه أمامها، إن لنا صدور المساجد (3).
ولم يكن على عهد عمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد ومروان على الصخرة هذه [القبة] (4)؛ لكن بنى تلك القبة عبدُ الملك بن مروان لمَّا كان بينه وبين ابن الزبير ما كان، وكانوا إذا حجّوا بايعوا ابنَ الزبير،
_________
(1) ذكره المصنف في “مجموع الفتاوى”: (27/ 6، 258)، والعليمي في “الأنس الجليل”: (1/ 121).
(2) الأصل: “ذلك الموضع”.
(3) أخرجه أحمد (261)، وأبو عبيد في “الأموال” (384)، والضياء في “المختارة” (241)، وابن عساكر في “تاريخه”: (2/ 171).
(4) الأصل: “الصخرة”.
(7/417)
فيقال: إنّ عبد الملك [لو] منعهم الحجّ فُضِحوا، فبنى القبَّة على الصخرة، وعظَّمَ أمرها، فجعل الناس يعتانون (1) بها.
ولو نذر إتيان بيت المقدس لزمه الوفاء بما ينذره في مذهب مالكٍ والشافعيّ، [و] في قوله الآخر لا يلزم، قالوا: لأنه لا يلزم بالنذر إلا ما كان واجبًا بالشرع، وهو إتيان مكةَ خاصة؛ فإن إتيان مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – وبيت المقدس مستحبٌّ ليس بواجب. والصحيح الأول، فإنه قد ثبت في الصحيح (2) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه “قال: من نَذَر أن يطيع الله فلْيُطِعْه، ومن نذر أن يعصيَ اللهَ فلا يعصه (3) “.
فصل: إذا عُرف هذا فليس (4) في بيت المقدس بل ولا في مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – عبادة يختصّ بها، بل العبادات المشروعة فيهما مشروعة في سائر المساجد، كالصلاة والاعتكاف والذِّكر والدعاء والقراءة ونحو ذلك. وهذا بخلاف المسجد الحرام، فإنه مشروعٌ فيه ما لا يُشْرع في غيره؛ وهو الطواف به، واستلام ركنيه اليمانيين، وتقبيل الحجر الأسود الذي فيه. فإن ذلك عبادةٌ تختصّ بالمسجد الحرام باتفاق المسلمين، ولا يُشرَع في غيره من المساجد لا طواف ولا استلام شيء من الأشياء.
_________
(1) كذا ولعلها “يعتنون أو يفتنون”.
(2) أخرجه البخاري رقم (6696) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) الأصل: “يعصيه”.
(4) الأصل: “ليس”.
(7/418)
فليس في بيت المقدس ما يُطاف به لا الصخرة ولا غيرها، بل وكذلك مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس فيه ما يُقَبَّل ويُستلَم، لا الحجرة النبوية ــ على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ــ ولا غير ذلك.
وهذا كلّه متفق عليه بين أئمة المسلمين، ليس منهم من استحبّ ببيت المقدس أو بغير المسجد الحرام من المساجد لا طوافًا ولا تقبيلًا ولا استلامًا (1) ونحو ذلك، ولا فَعَل شيئًا من ذلك رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -، ولا أئمة الأمة، ولا من يُقتدى به من السلف. بل من اتخذ الطوافَ بالصخرة عبادة أو بغير البيت فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قُتِل.
والتعبّد بها بالطواف أعظم من التعبُّد بالصلاة؛ مع أنها كانت قِبْلة في أول الإسلام، فمَنْ طاف بها كان شرًّا من الصلاة إليها. وكذلك تقبيلها أو تقبيل شيء منها، أو التمسّح بشيء من ذلك. كل ذلك بدعة وضلالةٌ.
ولا فرقَ بين الموضع [المسمى] قدَمَ النبي – صلى الله عليه وسلم – وغيره، وليس في الصلاة عندها [فضيلة] (2)، فإن خيار السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، وإن كانت قِبلة في أول الإسلام فقد نُسِخت كما نُسخ السبت، فتخصيصها بالتعظيم مع أنها قبلة اليهود فيه تخصيصُ يوم السبت بالتعظيم، ولهذا كره عمر رضي الله عنه والمسلمون أن تكون صلاة
_________
(1) الأصل: “طواف … استلام”.
(2) في العبارة نقص واضطراب، ولعل ما بين المعكوفين يستقيم به السياق.
(7/419)
المسلمين خلفها؛ لئلا يكون في ذلك تشبُّه (1) باليهود.
وليس بالمسجد الأقصى مكانٌ يُقصد بعينه إلا المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو الذي تسميه العامة “الأقصى”، وما سوى ذلك مثل الذي يقال له: قبة المعراج، [ق 73] والسلسلة، ومهد عيسى، وأمثال ذلك، فلا يستحبّ قصد شيء من هذه البقاع ولا تخصيصه بعبادة، وعامة ما يُذْكر في ذلك كذب، مثل الحَجَر الذي يقال: إنه مهد عيسى؛ فإنّ هذا كذبٌ واضح. ولكن هذا قيل إنه كان يكون فيه ماء المعمودية للنصارى لما استولوا على بيت المقدس، فإنه بقي في أيديهم مدّة.
وأما ما يفعله بعضُ الناس من السفر إلى بيت المقدس في عيد النحر، فيعرّفون هناك، ومنهم من يذبح هناك، ومنهم من يحلق رأسه، ومنهم من يطوف بها؛ فهذا كله بدعة منهيٌّ عنه، ليس شيء من ذلك مشروعًا، ولم يستحبّ أحدٌ من أئمة المسلمين قصدَها زمنَ الوقوف للتعرِيف بها، ولا فَعَل ذلك مَن يُقْتَدى به من المسلمين في دينهم.
وكذلك السفر وقت التعريف إلى غير عرفات، مثل الذين يسافرون للتعريف عند قبر المسيح، والذين يعرِّفون عند قبر محمد بن التومرت، وأمثال هذه الأسفار، فإن هذه أسفار غير مشروعة، بل منهيٌّ عنها، بل
_________
(1) الأصل: “تشبيه”.
(7/420)
محرّمة. [و] كان ذلك تعبُّدًا بدينٍ لم يشرعه الله، بمنزلة من يُحْرِم ويلبّي إذا سافر إلي بيت المقدس! ومن تعبّد بمثل هذا، فإنه يُستتاب فإن تاب وإلا قُتِل.
وإذا كان السفر للتعرِيف بها منهيًّا عنه، فالسفر إليها في مواسم الكفَّار، مثل خميس النصارى ونحوه أعظم من ذلك؛ فإنه لو عَظَّم (1) الأزمان التي يعظِّمها الكفار، كعيد الميلاد (2) وعيد الخميس، لكان ذلك من المنكرات التي يجب النهي عنها، ولو فعل ذلك في بيته. فإنه ليس للمسلم أن يعظِّم شيئًا من الأيام التي يعظِّمها الكفَّار، وليس لتعظيمها أصلٌ في دين الإسلام. ولا تعظيم البقاع التي يعظِّمها الكفار. وهذا أعظم من المواسم (3) المبتدعة في دين الإسلام، كالرّغائب ونحوها.
فإذا سافر إلى القدس في أعياد الكفار، فقد جمع عدة منكرات، بل لو خصّ الأيامَ التي يعظِّمها الكفار بأمر فيه مزيَّة لها لنُهِي (4) عن ذلك، حتى كَرِه غيرُ واحدٍ من السلف صومها، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟!
ولا يُسمى بيت المقدس حَرَمًا؛ وإنما الحرم الذي حرَّم الله صيده
_________
(1) الأصل: “أعظم”، خطأ.
(2) الأصل: “الملاه”، خطأ.
(3) الأصل: “الموسم”.
(4) الأصل: “النهي”، خطأ.
(7/421)
ونباته. والحرم الذي اتفق عليه المسلمون حرمُ مكة، وأما المدينة فلها حرم محرَّم عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد؛ كما استفاضت بذلك الأحاديثُ عن النبي – صلى الله عليه وسلم -. وما سوى ذلك فليس بحرم باتفاق المسلمين، إلا وادي وَجّ (1) الذي بالطائف، فإن الشافعي قال: إنه حرم بحديثٍ رُوي في ذلك رواه أحمد في “المسند” (2)، وأما جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد فليس ذلك بحرم عندهم، وضعّفوا الحديثَ المرويَّ في ذلك. وما سوى هذه البقاع الثلاثة فليس حرمًا باتفاق المسلمين.
والعلماء قد تنازعوا [ق 74] في تعريف الإنسان بمِصْره، مثل من يذهب عشيّة عرَفَة إلى مسجد بلده يدعو فيه ويذكر الله تعالى، فكَرِه ذلك مالك وأبو (3) حنيفة وغيرهما، ورخَّص [فيه] أحمد بن حنبل، ولكنه لم يكن يفعله ولا يأمر به، ولم يُنقل عن الشافعي فيه شيء. وأحمد إنما رخَّص فيه قال: لأنه رخَّص فيه ابنُ عباس بالبصرة،
_________
(1) الأصل: “قرج” تحريف.
(2) (1416). وأخرجه أبو داود (2034)، والبيهقي: (5/ 200) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. ومداره على محمد بن عبد الله الطائفي وليس بالقوي، قال البخاري: لا يتابع عليه، وقال أبو حاتم: لا يصح حديثه، وضعفه أحمد، والنووي والدارقطني وغيرهم. وحسنه المنذري وصححه ابن الملقن. انظر “البدر المنير”: (6/ 367 – 370).
(3) الأصل: “أبي”.
(7/422)
وعمرو بن حُرَيث (1) بالكوفة. فهذا من تعريف الإنسان ببلده.
فأما السفر إلى مدينة أخرى ليعرِّف بها، مثل أن يسافر إلى بيت المقدس أو مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – وغيرهما من المساجد ليعرّف بها= فهذا حرام ليس مشروعًا باتفاق المسلمين؛ فإنه من جنس بيتٍ يُحجّ غير البيت العتيق.
وأما السفر للتعريف عند (2) بعض القبور، فهذا أعظم من ذلك، فإن هذا بدعة وشرك؛ فإن أصل السفر لزيارة القبور ليس مشروعًا ولا استحبَّه أحدٌ من العلماء، ولهذا لو نذر ذلك لم يجب عليه الوفاء بلا نزاع بين الأئمة؛ بخلاف مَن (3) نذر إتيان بيت المقدس، فإنه يجب إتيانُه في أحد القولين ويستحبُّ في الآخر.
ولكن تنازع المتأخرون في السفر لزيارة القبور، فرخّص فيه بعضُهم، وكرهه آخرون، كابن بطة وابن عقيل وغيرهما، حتى قالوا: إنه سَفَر معصية فلا يجوز قَصْر الصلاة فيه؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا تُشدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد” (4). فلا يُشْرَع شدّ الرحال لزيارة القبور؛
_________
(1) الأصل: “عمر بن حرب” تحريف، والتصحيح من مصنف ابن أبي شيبة (14474)، و”الاقتضاء”: (2/ 150).
(2) الأصل: “عنده”.
(3) الأصل: “ما”.
(4) تقدم تخريجه.
(7/423)
ولهذا لم يكن أحد من الصحابة والتابعين ــ لا بعد أن فتحوا الشام ولا قبل ذلك ــ يسافرون إلى زيارة قبر الخليل عليه السلام ولا غيره من قبور الأنبياء التي بالشام، ولا زار النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – شيئًا من ذلك ليلة أُسري به. بل الذي ثبت في “الصحيح”: أنه صلى ليلة الإسراء، صلى ركعتين ببيت المقدس (1).
والحديث الذي قيل فيه: “هذا قبر أبيك إبراهيم فانزل فصلّ فيه، وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى انزل فصلّ فيه” (2) كذبٌ لا حقيقة له.
وأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين يسكنون الشام، أو دخلوا إليه ولم يسكنوه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره، لم يكونوا يرون شيئًا من هذه البقاع والآثار المضافة إلى الأنبياء، بل ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في سفر فرأى قومًا يتَّخذون مكانًا يصلون فيه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان (3) صلى فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فنحن نريد الصلاة فيه. فقال: ومكان صلى فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -! أتريدون أن تتخذوا (4) آثار أنبيائكم مساجد! إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من
_________
(1) أخرجه مسلم (162) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) أخرج ابن حبان في “المجروحين”: (1/ 197) وقال: وهذا شيء لا يشك عوام أصحاب الحديث أنه موضوع. وانظر “الاقتضاء”: (2/ 352) للمصنف.
(3) الأصل: “مكانًا”.
(4) الأصل: “تتخذون”.
(7/424)
أدركته الصلاة فيه فليصلّ وإلا فليمض (1).
ونبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – أفضل الخلق، ولم يتخذ (2) الصحابة شيئًا من آثاره مسجدًا، ولا يزار غير ما بناه من المساجد. ولم يكونوا يزورون غار حراء الذي [ق 75] نزل عليه فيه الوحي، ولا غار ثور المذكور في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]. ولا مكان ولادته، ولا الشِّعب الذي حُوصر فيه، وأمثال ذلك.
وكذلك إبراهيم الخليل عليه السلام؛ إنما اتخذوا من آثاره ما شَرَعه الله لهم من المناسك، ومقامه الذي قال الله فيه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] مع أنهم لم يكونوا يقبِّلون المقام ولا يتمسّحون به.
والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استلم الحجرَ الأسود: والله إني لأعلم أنك حَجَر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يُقبِّلك ما قبلتك (3).
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (7632)، وابن وضّاح في “البدع والنهي عنها” (ص 87 – 88). وصححه المصنف في “الفتاوى”: (1/ 281).
(2) الأصل: “يتخذوا”.
(3) أخرجه البخاري (1597)، ومسلم (1270).
(7/425)
هذا، و (1) الحديث والزيارة المنسوبة إلى علي رضي الله عنه ليست ثابتة.
وقد أنكر (2) السلف على من سافر لزيارة الطور الذي كلَّم الله عليه موسى، وهو الوادي المقدَّس والبقعة المباركة (3). فكيف بغيره من مقامات الأنبياء؟ حتى إن قبر النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يثبت عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – لفظٌ (4) بزيارته؛ وإنما صحّ عنه الصلاةُ عليه والسلام موافقةً لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] ولقوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي في “سنن أبي داود” (5): “ما من رجل يُسلِّم عليَّ إلّا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردّ عليه السلام”. وفي “سنن أبي دود” (6) عنه عليه السلام أنه قال: “أكثروا عليَّ مِنَ الصلاة يوم الجمعة وليلة
_________
(1) الأصل: “في” ولعلها ما أثبت.
(2) رسمها في الأصل: “أنك”.
(3) يعني في قصة أبي هريرة لما ذهب إلى الطور، فلما رجع لقي بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فقال: من أين أقبلتَ؟ فقلتُ: من الطور، فقال: لو أدركتُكَ قبل أن تخرج إليه ما خرجتَ إليه، سمعتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد .. “. أخرجه أحمد (23848)، والنسائي (1430)، وابن حبان (2772) وغيرهم.
(4) الأصل: “لفظًا”.
(5) رقم (2043) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) رقم (1049) من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه. ووقع في الأصل: “السنن أبي داود”.
(7/426)
الجمعة فإن صلاتكم معروضةٌ عليّ”. قالوا: يا رسول الله كيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرِمْتَ؟ أي: بَليتَ، قال: “إنّ الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء”.
وأما الأحاديث التي يرويها بعضُ الناس، مثل ما يروون (1) أنه قال: “من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنتُ له على الله الجنة” (2). و”من زارني وزار اليسع … ” (3) ونحو ذلك= فهي أحاديث مكذوبة موضوعة، وكذلك اللفظ فيه: “من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي ضمنتُ له على الله الجنة، ومن حجَّ ولم يزرني فقد جفاني” (4). وكلُّ هذه الأحاديث ضعيفة بل موضوعة.
وقد كره مالك وغيره من أهل العلم أن يقول القائل: زرتُ قبر النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك يبين (5) أنّ هذا اللفظ كان بدعة عند أهل المدينة، الذين هم أعلم الناس بسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأشدّهم تعظيمًا لقدره. ولهذا لم يكن
_________
(1) الأصل: “يرون”.
(2) لم أجده مسندًا، وقد سئل عنه النووي فقال: باطل موضوع. “الفتاوى” (ص 291). وانظر “تذكرة الموضوعات” (ص 76)، و”تنزيه الشريعة”: (2/ 213).
(3) لم أجده.
(4) أخرجه ابن حبان في “المجروحين”: (3/ 73)، وابن عدي في “الكامل”: (7/ 14) وغيرهما. في ترجمة النعمان بن شبل، قال ابن حبان: “يأتي عن الثقات بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات”.
(5) الأصل: “تبيين”!.
(7/427)
على عهد الصحابة والتابعين مشهدٌ يزار، لا على قبر نبيّ ولا غير نبيّ، فضلاً عن أن يُسافَر إليه؛ لا بالحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا مصر ولا المشرق، وإنما حدثت هذه الأمور بعد انقراض خيار القرون. وذلك لأنه قد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – النهي عن هذه الأمور، كما في “الصحيحين” (1) عن [عائشة] (2) [ق 76] عنه أنه قال في مرضه الذي مات فيه: “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يُحَذّر ما فعلوا”. قالت عائشة: لولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يُتَّخَذ مسجدًا.
وفي “صحيح مسلم” (3) عن جندب أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال قبل أن يموت بخمس: “إنّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد؛ ألا فلا تتخذوها مساجد فإني أنهاكم عن ذلك”.
وفي “المسند” و “صحيح أبي حاتم” عنه أنه قال: “إنّ من شِرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد” (4).
_________
(1) أخرجه البخاري (1390)، ومسلم (529) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) الأصل: “أبي حاتم”، تحريف.
(3) (532).
(4) أخرجه أحمد (3844)، وابن حبان (2325)، وابن خزيمة (789) وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال المصنف في “الاقتضاء”: (2/ 286): بإسناد جيد.
(7/428)
ولهذا لم يذكر الله تعالى في كتابه إلا المساجد دون المشاهد فقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. ولم يقل: المشاهد. وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]. وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114]. وأمثال ذلك.
وأصل دين الإسلام: أنهم ليس لهم بقعة يقصدونها بالعبادة فيها؛ إلا أن يكون مسجدًا. فليس من دينهم قصد مغارةٍ بجبل ولا أثر نبي ولا غير ذلك، ولكن جُعِلت الأرضُ كلها لهم مسجدًا. وبحكم العموم والإباحة فلهم أن يصلوا حيث شاءوا من غير قصد تخصيص بقعة إلا المواضع المنهي عنها (1) كأعطان الإبل والمقبرة والحمام.
ثم المساجد قد حرَّم الله عليهم أن يبتنوها على قبر، وأن يتخذوا القبر مسجدًا؛ فإن ذلك من أصول الشرك، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} [نوح: 23 – 24] قال طائفة من السلف: هؤلاء كانوا
_________
(1) الأصل: “عنه”.
(7/429)
قومًا في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم وصوَّروا تماثيلَهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم (1).
ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
فالزيارة الشرعية: مقصودها السلام على الميت والدّعاء إن كان الميت مؤمنًا، وتذّكر الموت سواء كان مؤمنًا أو كافرًا، كما قال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: “استأذنتُ ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور أمي فأذن لي؛ فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة” (2).
وكان يعلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: “السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين مِنّا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية” (3).
والزيارةُ لقبر المؤمن ــ نبيًّا كان أو غير نبيّ ــ من جنس الصلاة على جنازته، يُدعى (4) له إذا صُلّي على جنازته (5).
_________
(1) أخرجه البخاري (4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أخرجه مسلم (976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه مسلم (975) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
(4) كذا في الأصل.
(5) عبارة: “يدعى له إذا صلى على جنازته” تكررت في الأصل.
(7/430)
وأما الزيارة البدعية: فمن جنس زيارة النصارى المشركين، مقصودها الإشراك [ق 77] بالميت؛ مثل طلب الحوائج منه، أو التمسّح بقبره وتقبيله، أو السجود له ونحو ذلك. وهذا ونحوه لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا استحبّه أحدٌ من أئمة المسلمين، ولا كان أحدٌ من السلف يفعله لا عند قبره (1) – صلى الله عليه وسلم – ولا عند غيره.
بل قد أجدبوا واستسقوا، ولم يكونوا يأتون إلى قبر النبي – صلى الله عليه وسلم – يدعون عنده لا في ذلك الوقت ولا غيره. بل ثبت في “الصحيح” أنهم لما أجدبوا على عهد عمر رضي الله عنه استسقى بهم فقال: اللهم إنا إذا كنا أجدبنا توسّلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسَّلُ إليك بعمّ نبينا فاسقنا، فيُسقون (2).
فكانوا في حياته يتوسّلون إلى الله عز وجل بدعائه وشفاعته، فلما مات – صلى الله عليه وسلم – بقوا يتوسلون بدعاء العباس.
ولم يكونوا يُقْسمون على الله بأحد من خلقه لا نبيّ ولا غيره، ولا يسألون ميتًا ولا غائبًا، ولا يستعينون بميت ولا غائب، سواء كان نبيًّا أو غير نبي. بل كان فضلاؤهم لا يسألون غير الله شيئًا؛ تحقيقًا لقوله:
_________
(1) الأصل: “القبر”.
(2) تصحفت في الأصل إلى: “فسيقون”. والحديث أخرجه البخاري (1010) من حديث أنس رضي الله عنه.
(7/431)
{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 – 8]. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لابن عباس: “إذا سألت فاسأل الله، وإذا استغنت فاستعن بالله” (1).
وفي “المسند” (2) أن أبا بكر الصديق كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحدٍ: ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناسَ شيئًا. وكذلك كان عوف الأشجعي وغيره ممن وصّاهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: أن لا تسأل الناسَ شيئًا (3).
وهذا لأن جِماع (4) الدين أن لا يعبدَ (5) الناسُ إلا الله، وأن يعبدوه بما شرع، لا يعبدوه بالبدع، كما قال الفُضَيل بن عياض في قوله عزَّ وجلَّ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] قال الفُضَيل: أخْلَصه وأَصْوَبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وما أصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم
_________
(1) أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد (2669) وغيرهما من طرق كثيرة عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن صحيح. وحسن إسناده ابن رجب في “نور الاقتباس” (ص 31).
(2) (65).
(3) أخرجه مسلم (1043). وكذلك أوصى أبا ذر أخرجه ابن أبي شيبة (35491)، والطبراني في “الكبير”: (2/ 212). وأوصى ثوبان أخرجه أحمد (22835)، وابن ماجه (1837).
(4) الأصل: “إجماع”، تحريف.
(5) الأصل: “يعبدوا” ولها وجه، لكن ليست من أسلوب المؤلف.
(7/432)
يُقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالصُ: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنَّة (1).
وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع (2).
وأما خروج النساء إلى المساجد مظهرات الزينة، فإنّ ذلك منهيٌّ عنه باتفاق الأئمة؛ إذا كانت خارجة إلى صلاة الجماعة. وأما خروجهن في المجامع المبتدَعَة، مثل التعرِيف ببيت المقدس وأمثال ذلك مع (3) إظهار الزينة والطيب؛ فهذا منكر من وجوهٍ عدةٍ، وليس لزوجها ولا أبيها ولا نحوهما تمكينها من ذلك، بل عليهم أن يمنعوها من ذلك فضلاً عن إعانتها على ذلك.
وأما زيارة المرأة لبيت (4) المقدس في غير موسم من غير سفر (5) فلا بأس بذلك.
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في “حلية الأولياء”: (8/ 95).
(2) انظر “الاقتضاء”: (2/ 267 – 275).
(3) الأصل: “من”، والصواب ما أثبت.
(4) الأصل: “البيت”.
(5) الأصل: “سر”، ولعله ما أثبت.
(7/433)
مَسْألة في عَسْكَر المنصور المتوجِّه
إلى الثغور الحلبية سنة 715 هـ
(7/435)
مسألة في العسكر
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين، ما النية في هذه الغزوة التي يخرج فيها عسكر المنصور إلى الثغور الحلبية سنة خمس عشرة، وذكر وليّ الأمر أنها غزوة شرعية، فهل تكون النية سفر طاعة، فهل يستحب القصر فيه، أم لا؟ وهل يجوز الجمع في أوقات جدّ السير، بينوا لنا ذلك والحالة هذه؟
الجواب: الحمد لله.
نعم هو سفر طاعة يجوز فيه القصر، والقصر للمسافر سُنّة راتبة، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يصلي في سفره إلا قصرًا، لم يصلِّ (1) الظهر والعصر والعشاء في السفر أربعًا قط. فأما الجمع فهو رخصة عارضة، فإنه لم يكن يجمع في غالب الأوقات، وإنما يجمع عند الحاجة، كما جمع بعرفة ومزدلفة، وكما كان يجمع إذا جدَّ به السير (2)، وكان إذا سافر قبل أن ترتفع الشمس أخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فصلاهما جمعًا. وأما في حال نزوله في السفر فما نُقِل عنه الجمع إلا مرة واحدة.
وكان يصلي في السفر الوتر، وركعتي الفجر، وكان يصلي التطوّع
_________
(1) الأصل: “يصلي”.
(2) الأصل: “أجد بالسير”، خطأ.
(7/437)
وغيره على راحلته قِبَل أيّ وجهٍ توجّهت به، سواء جهة سيره جهة الكعبة أو غيرها.
وإنما جاز القصر في السفر لأنه ليس سفرًا محرمًا، بل من كان له فيه نية صالحة، وأراد به وجه الله، وقَصَد الجهاد الشرعي= كان ذلك من أفضل أعماله، وذلك لأن جهاد العدوّ الخارجين عن شريعة الإسلام ليكون الدين كله لله، وحتى تكون كلمة الله هي العليا= من أفضل الأعمال الشرعية.
[79] وسَعْي المسلمين في (1) قَهْر التتار والنصارى والروافض مِنْ أعظم الطاعات والعبادات (2)، فإنَّ هؤلاء محاربون لله ورسوله، خارجون عن شريعة الله وسبيله، وإن كان التتر والروافض يتكلَّمون بالشهادتين ويتظاهرون ببعض الإسلام، فقد أمر الله ورسوله بجهاد مَنْ هو خير منهم. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة 278 – 279]. والربا أحرم ما حرَّم الله في القرآن، وكان أهل الطائف قد أسلموا والتزموا الصيام والصلاة وسائر الشريعة، إلا أنهم قالوا: لا ندع الربا، فأمر الله بجهادهم، وأخبر أنهم يحاربون الله ورسوله (3).
_________
(1) الأصل: “فيمن”، تحريف.
(2) الأصل: “في العبادات”.
(3) أخرجه أبو يعلى في “مسنده” (2668)، ومن طريقه الواحدي في “أسباب النزول” (ص 211 ــ 212).
(7/438)
فإن كانوا هؤلاء الذين لم ينتهوا عن الربا، قد أمر الله بمحاربتهم، مع أن الربا مالٌ يؤخذ برضا المتعاقدين، فكيف بمن يستحلُّ دماءَ المسلمين وأموالَهم، وإفساد دينهم ودنياهم؟ فطاعتهم (1) ودين الإسلام لا يجتمعان.
ولما توفي النبي – صلى الله عليه وسلم -[و] ارتدَّ مَن ارتدَّ قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله (2) ” فقال له أبو بكر: ألم يقل: “إلا بحقها” فإن الزكاة مِنْ حقِّها، والله لو منعوني عناقًا (3) كانوا يؤدونها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فما هو إلا أن رأيتُ أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق (4).
فقد قاتل الصحابة من كان مسلمًا لكونه لا يؤدي الزكاة، وقد ثبت في الصحاح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من غير وجهٍ أنه ذكر الخوارج فقال: “يحقر أحدُكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق
_________
(1) العبارة في الأصل: “وطاعته” ولا يستقيم بها المعنى.
(2) “إلا بحقها وحسابهم على الله” تكررت في الأصل.
(3) علق في هامش الأصل: لعله عقالاً. أقول: وهو لفظ آخر للحديث.
(4) أخرجه البخاري (1399، 1400)، ومسلم (20) من حديث عمر رضي الله عنه.
(7/439)
السهمُ من الرميَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة” (1).
فهؤلاء مع كثرة صيامهم وصلاتهم وقراءتهم أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بقتالهم؛ لكونهم خرجوا عن جماعة المسلمين، واستحلّوا دماء المسلمين وأموالهم، ولا يكفرون أبا بكر وعمر، وإنما يطعنون في عثمان وعلي. والروافضة شر من هؤلاء؛ فإنهم يعاونون اليهود والنصارى، وعاونوهم مع هلاوون (2) لما قدم إلى بغداد، فأعانوه على قتل بيت النبوة العباسيين وغيرهم من المؤمنين، وأعانوا اليهود والنصارى بالشام نوبة هلاوون وقازان، وغير ذلك، ولا ريب أن ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر التتر.
[80] وأما التتار فإنهم وإن أسلموا لم يلتزموا بسائر الشريعة، والله قد أمر بالجهاد حتى يكون الدين كله لله، فإذا كانت الطائفة الممتنعة تتشهَّد ولا تصلي، قوتلوا حتى يصلوا، ولو قالوا: نصلي ولا نصوم،
_________
(1) أخرجه البخاري (6930)، ومسلم (1066) من حديث علي رضي الله عنه. وقد تقدم.
(2) في الأصل في هذا الموضع: “أهلاوون” بهمزة في أوله، وسيأتي بدونها وهو كذلك في المصادر، والمقصود به هولاكو ملك التتار. وللمصنف “الهلاوونية [أو: الهلاكونية] جواب ورد على لسان ملك التتار”. انظر “الجامع لسيرة شيخ الإسلام” (ص 295، 355).
(7/440)
قوتلوا حتى يصوموا. ولو قالوا: نصوم (1) ولا نحج، قوتلوا حتى يحجوا البيت، ولو قالوا: نؤدي الفرائض ولا نحرِّم ما حرَّم الله ورسوله، ولا نحرم الربا أو الخمر أو الفواحش، ونحو ذلك، قوتلوا على ذلك، ولو قالوا: يُحْكَم بيننا بالياساق (2) ولا يحكم بيننا الله ورسوله، قوتلوا على ذلك. ولو قالوا: نوالي جنسنا من الكفار، ونعادي المسلمين الذين لا يطيعونا، قُوتِلوا على ذلك.
والتتار فيهم من الخروج (3) عن شريعة الإسلام أمورٌ كثيرةٌ، حتى إن ملكهم قد أظهر الرَّفْض وتزوج ببنت أخيه، ومثل هذا يوجب قتل مستحلِّه باتفاق الأئمة، بل من تزوج امرأة أبيه (4) قُتِل، كما في “السنن”: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بعث أبا بردة بن نِيار (5) إلى رجل تزوج امرأة أبيه، فأمره
_________
(1) الأصل: “أنصوم” خطأ.
(2) غير محررة في الأصل، وتحتمل: “بالياسان”. والصواب ما أثبت. وهو دستور جنكيز خان الذي كان يحكم به. ويطلق عليه أيضًا (ياسا)، وهي كلمة مغولية تأتي بمعنى حكم وقاعدة وقانون، وتكتب بصور مختلفة في الكتب العربية والفارسية، (ياسا وياسه ويساق وياساق ويسق). انظر “المغول في التاريخ” (ص 338)، و”الفتاوى”: (35/ 407 – 408)، و”البداية والنهاية”: (17/ 161 – 162).
(3) الأصل: “الخوارج”، خطأ.
(4) الأصل: “ابنه” وكذا في الموضع الثاني، والصواب ما أثبت.
(5) الأصل: “دينار” تحريف، والتصحيح من مصادر الحديث.
(7/441)
بقتله، وأن يأخذ خُمس ماله (1). فكيف بمن تزوَّج بنت أخيه؟!
ولكن الواجب في جهادهم أن تُعصَم دماء المسلمين وأموالهم وحريمهم الذين في بلادهم، ولا يقاتل إلا من كان معاونًا لهم.
ولا تجوز الإغارة على بلاد الشرق فإنهم مسلمون، كما أن أهل الشام مسلمون، ولكن يشهدهم (2) العدو، كما قهروا أهل الشام لما دخلوا عليهم، فالواجب إنقاذهم من الدولة الخارجة عن الشريعة حتى يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، ويعمل بالكتاب والسنة بحسب الإمكان، كما خرج العسكر من مصر لإنقاذ بلاد الشام منهم لما استولوا عليها.
ومَنْ أغار على المسلمين وتعرَّض لدمائهم وأموالهم بغير حقِّها، فهو ظالمٌ معتد، ولا طاعة لمن يأمر بذلك، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله. والله سبحانه وتعالى أعلم.
_________
(1) أخرجه الترمذي (1362)، وابن ماجه (2607) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه (2608) من حديث قرة بن إياس رضي الله عنه.
(2) كذا، ولعلها: “يقهرهم”.
(7/442)
صورة مكاتبة الشيخ تقي الدين
للسلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين
سنة ثمان وتسعين وستمائة
(7/443)
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
من الدّاعي أحمد ابن تيمية إلى سلطان المسلمين وولي أمر المؤمنين، نائب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أمته بإقامة فرض الدين وسنته، أيده الله تأييدًا يصلح به له وللمسلمين أمر الدنيا والآخرة، ويقيم به جميع الأمور الباطنة والظاهرة، حتى يدخل في قول الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
وفي قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “سبعة يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظله: إمام عادل، وشابّ نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ربَّ العالمين، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه” (1).
وفي قوله – صلى الله عليه وسلم -: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تَبِعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء” (2).
_________
(1) أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد تقدم.
(2) أخرجه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد تقدم.
(7/445)
وقد استجاب الله دعاء الأمة في السلطان، فجعل فيه من الخير الذي شهدت به قلوب الأمة ما فضَّله به على غيره، والله المسؤول أن يعينه، فإنه أفقر خلق الله إلى معونة الله [98] وتأييده، حتى يدفع عنه كل ضر، ويجلب إليه كلَّ خير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وصلاحُ أمر السلطان في إقامة سلطان الله، وإنفاذ مرسوم رب العالمين الذي هو كتابه، فإنه سبحانه جعل صلاح أهل التمكين في أربعة أشياء: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
فإذا أقام الصلاة في مواقيتها جميعه (1) هو وحاشيته وأهل طاعته، وأمرَ بذلك جميعَ الرعية، وعاقب من تهاون في ذلك بالعقوبة التي شرعها الله، فقد تمَّ هذا الأصل.
ثم إنه مضطر إلى الله تعالى، فإذا ناجى ربه في السحر واستغاث به، وقال: “يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث” أعطاه الله من المكنة ما لا يعلمه إلا الله (2).
ثم كلّ نفع وخير يوصله إلى الخلق هو من جنس الزكاة، فمن أعظم العبادات: سدّ الفاقات، وقضاء الحاجات، ونصر المظلوم، وإغاثة الملهوف، والأمر بالمعروف، وهو: الأمر بما أمر الله به ورسوله من العدل والإحسان، وأمر نوَّاب البلاد وولاة الأمور باتباع حكم الكتاب والسنة،
_________
(1) كذا، ولعلها: “جماعة”.
(2) انظر “زاد المعاد”: (4/ 204)، و “مدارج السالكين”: (2/ 448).
(7/446)
وتعظيم حرمات الله. والنهيُ عن المنكر: النهيُ عما نهى الله عنه ورسوله.
* ومما نهى الله عنه ورسوله: إتيان العراف والكُهّان والمنجم (1)، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من أتى عرَّفًا فسأله عن شيء لم يقبل الله له صلاة أربعين يومًا”. رواه مسلم في “صحيحه” (2).
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من اقتبس [علمًا من النجوم اقتبس] شُعبةً من السحر، زاد ما زاد”. رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح (3).
وقد تقدم إلى ولي الأمر بالشام بما يشكره الله وعبادُه المؤمنون (4) من إبطال هؤلاء ومنعهم من الجلوس بالحوانيت والطرقات، ومن منع الخمر والحشيشة المسكرة، حتى يَعْبد الخلقُ ربَّهم ويتَّكلوا عليه ويستعينوه * (5).
فإذا تقدم السلطان أيّده الله بذلك في عامة بلاد الإسلام، كان فيه من صلاح الدنيا والآخرة له وللمسلمين ما لا يعلمه إلا الله، والله يوفقه بما يحبه ويرضاه.
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) (2230) عن بعض أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم -.
(3) أبو داود (3905) وما بين المعكوفين منه. وأخرجه ابن ماجه (3726)، وأحمد (2000) وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) الأصل: “المؤمنين”.
(5) ما بين *-* ليس في “الفتاوى”.
(7/447)
[مسألة في الداء والدواء] (1)
الحمد لله (2).
سئل شيخ الإسلام رضي الله عنه وأثابه الجنة (3): ما دواء من تحكَّم فيه الداء، وما الاحتيال فيمن تسلَّط عليه الخَبَال، وما العمل فيمن غلب عليه الكسل، وما الطريق إلى التوفيق، وما الحيلة فيمن سطت عليه الحيرة؟ إن قَصَد التوجُّه إلى الله مَنَعَه هواه، وإن رام الادِّكار غلب عليه الافتكار، وإن أراد يشتغل لم يطاوعه الفشل (4).
غلب الهوى فتراه في أوقاته … حيران صاحي بل هو السكران (5)
إن رام قربًا للحبيب تفرَّقت … أسبابُه وتواصل الهجران
هجر الأقارب والمعارف عَلَّه … يجد الغنى وعلى الغناء يُعان
ما ازداد إلا حيرةً وتوانيًا … أكذا بِهِم (6) مَنْ يستجير يُهان
_________
(1) العنوان للتوضيح. وهذه المسألة في “مجموع الفتاوى”: (10/ 136 – 137) لكنها ناقصة، تبدأ من قوله: “مثل آخر الليل .. ” وسقط منها نص السؤال برمته وبعض الجواب.
(2) (ب) زيادة: رب العالمين.
(3) (ب): “أبو العباس ابن تيمية رحمة الله عليه” و (ج) بدون الاسم.
(4) (ب): “الكسل” وبعده: “وقيل في معناه”.
(5) هذا البيت ليس في (ب).
(6) (أ، ج): “الذي”، و (ب): “أكرا بهم”.
(7/448)
فأجاب رضي الله عنه:
دواؤه الالتجاء إلى الله تعالى، ودوام التضرُّع إلى الله سبحانه (1)، والدعاء بأن (2) يتعلم الأدعية المأثورة، ويتوخَّى الدعاء في مظان (3) الإجابة؛ مثل آخر الليل، وأوقات الأذان والإقامة، وفي سجوده (4)، وفى أدبار الصلوات.
ويضم إلى ذلك الاستغفار؛ فإنه من استغفر الله ثم تاب إليه [97] متَّعه متاعًا حسنًا إلى أجلٍ مسمّى.
وليتخذ وِرْدًا من الأذكار طَرَفَي النهار ووقت النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف، فإنه لا يلبث أن يؤيّده الله بروح منه، ويكتب الإيمان في قلبه. وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس بباطنه وظاهره، فإنها عمود الدين. ولتكن هِجِّيراه (5): “لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (6) “، فإنه بها يُحْمَل الأثقال، ويُكابد
_________
(1) “إلى الله سبحانه” من (ب).
(2) (ب): “وأن”.
(3) العبارة في (ب): “ويترجى … مظنات”.
(4) “في سجوده” ليست في (ب).
(5) (ب) “مجيراه” تحريف.
(6) “العلي العظيم” ليست في (ب)
(7/449)
الأهوال، وينال رفيع الأحوال (1).
ولا يسأم من الدعاء والطلب، فإن العبد يُستجاب له ما لم يَعجَل فيقول: قد دعوتُ فلم يستجَبْ لي. وليعلم أن النصرَ مع الصبر، وأنَّ الفَرَج مع الكرب، وأن مع العُسر يسرًا، ولم ينل أحدٌ شيئًا من جسيم (2) الخير ــ نبيٌّ فمَن دونه ــ إلا بالصبر.
والحمد لله رب العالمين (3).
_________
(1) “وينال رفيع الدرجات” ليست في (ب).
(2) (أ، ب): “ختم” والمثبت من (ب).
(3) خاتمة (ب): “والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأزكى تحياته، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم”.
(7/450)
رسالة في الكلام في الحلاَّج
(7/451)
تكلم في الحلاج وأمثاله شيخُ الإسلام ــ بحرُ (1) العلوم، بقية السلف الكرام، آخر المجتهدين وقدوة المتأخرين، تاج العارفين ولسان المتكلمين، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رحمه الله ورضي عنه وأثابه الجنة بفضل رحمته وإيانا أجمعين إنه على كل شيء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة [111] إلا بالله العزيز الحكيم ــ[و] على الفِرَق من الطوائف المختلفة كلامًا طويلاً، ثم قال في أثناء كلامه ــ والسياق أصله في الحلاج ــ:
فصل
وأما حكم الله في حقّ هذا المعيَّن، فلا ريب أن الأقوال التي ذُكِر أنه قُتل عليها؛ من الاتحاد، ودعوى الإلهية كفرٌ باتفاق المسلمين. فمن اعتقد في نفسه ما يعتقد النصارى في المسيح، فهو كافر بالله باطنًا وظاهرًا، ولو كان أعْبَد الناس وأزْهَد الناس؛ فإن أنواع العبادات والزهادات، وأنواع الرياضات والمجاهدات لا تُقبل إلا مع الإيمان بالله ورسوله.
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن اليهود والنصارى كفّار وإن كانوا من أعبد الناس. وأنَّ رهبان النصارى لا يقبل الله عباداتهم وزهاداتهم؛ لأنهم خارجون عن دين الإسلام، مع أن معهم من العبادات والزهد ما هو أبلغ.
_________
(1) الأصل: “تكلم شيخ الإسلام في الحلَّاج وأمثاله بحر العلوم .. ” فأصلحتها ليزول اللبس.
(7/453)
وكذلك المشركون في عبادة الأصنام؛ كعبّاد (1) الهند الذين يعبدون الأبداد (2) وغيرهم كفار بإجماع المسلمين وإن كانوا عُبَّادًا زهَّادًا.
وقد قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 – 105].
وقد سُئل (3) عن هؤلاء سعد بن أبي وقاص فقال: هم أهل الصوامع والزيارات. وسئل عنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: هم أهل حروراء. يعني الخوارج (4).
وقد ثبت في “الصحيح” (5) في الخوارج: “يحقر أحدُكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة”.
وهؤلاء قاتلهم أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأمر
_________
(1) الأصل: “كعبادة”.
(2) الأصل: “الأنداد” والصواب ما أثبت. وانظر “الاقتضاء”: (2/ 159، 167). وهو جمع (بُدّ) وهو الصنم. “القاموس” (بدد).
(3) الأصل: “قال” ولعلها ما أثبت.
(4) انظر الآثار في “تفسير الطبري”: (15/ 425 ــ 427).
(5) تقدم.
(7/454)
النبي – صلى الله عليه وسلم -، وقتلهم مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، فإذا كان هؤلاء يخرجونهم عن السنة والجماعة، فكيف بمن خرج عن أهل الدين بما ينافي التوحيد والرسالة، ودخل فيما عليه النصارى ونحوهم من الضلالة؟
ولو كان لمثل (1) هذا من خوارق العادات ماذا عسى أن يكون، فإنه [إن] لم يلتزم طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا فإنه ضالٌّ مفتون. وقد اتفق أهل طريق الله على أن خوارق العادات مع الخروج عن الكتاب والسنة (2) لا تغني عن صاحبها شيئًا، وأنَّ الرجل لو طار في الهواء [112] أو مشى على الماء، فلا تغتر به حتى تنظر وقوفه عند الأمر والنهي.
وقد ثبت في “الصحيح” (3) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إذا قعد أحدكم في التشهد فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال”.
والدجال يدَّعي أنه الله ويقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وللخِرْبة أخرجي كنوزك فيخرج معه كنوز الذهب والفضة، ويقتل الميت ثم يعيش. ومع هذا كله فهو كافر بالله العظيم. فمن اتبع أحدًا في ضلالة لأجل ما يظهر عنه من خارق؛ فقد أصابته فتنة الدجال.
_________
(1) الأصل: “كمثل” والصواب ما أثبت.
(2) العبارة في الأصل: “والسنة فإنه ضال مفتون لا تغني … ” وما تحته خط مقحم، وبحذفه يستقيم السياق.
(3) أخرجه مسلم (589) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(7/455)
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لابن صياد: “إني قد خَبَأتُ لك خبيئًا” فقال: الدُّخ، فقال: “اخسأ فلن تعدوَ قَدْرَك (1) ” (2) أي: أنت كاهن. وهذه قاعدة مبسوطة في غير هذا الموضع.
وعامة هؤلاء الخارجين عن شريعة الإسلام؛ كالسهروردي المقتول الحلبي، وابن سبعين (3) وأمثالهم كانوا يتعاطون السيمياء التي هي من السحر، وحكاياتهم في ذلك مشهورة، وهي من أنواع التخييل. وكانوا فلاسفة يميلون إلى طريقة الحلَّاج وأمثاله. ولابن سبعين خِرْقَة مجهولة الرجال متصلة بالحلَّاج.
وقد استفاض مِن نَقْل العلماء ونصوصهم أنّ الحلَّاج كانت له مخاريق، فلا يجوز لأحدٍ أن يستدلّ بمخارقه على أنه ولي لله، وأنه قُتِل مظلومًا. فإن كثيرًا من الجُهَّال من يفعل هذا، ويبني عليه ثلاث مقدمات باطلة:
أحدها (4): أنه كانت له كرامات.
والثانية: أن صاحب الكرامات التي هي خرق العادات وليّ لله.
والثالثة: وليّ الله لا يقول إلا حقًّا ولا يعمل إلا خيرًا. فهذه الثلاثة
_________
(1) تحرف النص في الأصل: “قد جنات لك حنيا .. فلن يعلو”.
(2) أخرجه البخاري (1354)، ومسلم (2930) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3) الأصل: “ابن سفين”. تحريف.
(4) كذا في الأصل.
(7/456)
باطلة في حقه وحق أمثاله.
أما الأولى، أنه (1) كانت له كرامات، فأكثر ما يُحكَى يكون كذبًا من باب الحيل والمخاريق، كما ذكر الناس (2) في أخبار الحلَّاج أنه كان صاحب مخاريق، فيكون ما يدعيه من خرق العادات كذبًا، وما كان منه صدقًا كان له من الأسباب، كالسحر والعين والأحوال الفاسدة، ما يخرجه عن أن يكون من جنس كرامات أولياء الله.
وبهذا يظهر فساد المقدمة الثانية، وهو أنه ليس كلّ من كان له خرق عادة يكون وليًّا لله، كالدجال وأمثاله.
وأما الثالثة، فليس من شرط وليّ الله أن يكون معصومًا، بل يجوز عليه الخطايا والذنوب، وكلّ واحدٍ يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وأولياء الله هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 – 63]. والتقوى هي: أداء الواجبات وترك المحرَّمات، وقد يكون معها صغيرة بلا إصرار [113] وكبيرة مع توبة واستغفار.
_________
(1) الأصل: “وإن”.
(2) الأصل: “النّا”!
(7/457)
وإذا عُرِف ذلك، فمن اعتقد ذلك، أو قال قولًا يخالف دين الإسلام؛ من الاتحاد الذي قُتِل (1) عليه الحلَّاج وأمثاله، مثل قوله: إني أنا الله، ونحو ذلك، إن عاقلًا يعلم ما يقول، وإن كان مخالفًا لدين الإسلام= فلا ريبَ أنه كافر باطنًا وظاهرًا. وإن كان قد غُلِب على عقله لفساد مزاجه أو حالٍ ورد عليه، فجُعِل كالسكران وأوقعه في الفتن والاصطلام= فهذا ارتفع عقله بسبب يُعْذَر فيه [و] لم يكن مأثومًا، فإنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “رُفِعَ القلم عن المجنون حتى يفيق” (2).
فإذا كان زوال عقله لسماع القرآن ونحوه، كان معذورًا، كما يكون المُغْمى عليه بالمرض معذورًا.
وإن كان زوال عقله بسبب محظور، كالسماع المنهيّ عنه؛ كمن زال عقله بشُرْب محرَّم كالخمر والحشيش. وهذا إذا تكلم بالكفر في تلك الحال فهل يكفر؟ على قولين مشهورين للعلماء في السكران، لكن الأظهر أنه لا يكفر.
_________
(1) الأصل: “الاتخاذ الذي قتلى”!
(2) أخرجه أحمد (24694)، وأبو داود (3998)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041)، وابن حبان (142)، والحاكم: (2/ 59) وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه ابن حبان، والحاكم على شرط مسلم. وله شواهد من حديث علي بن أبي طالب وأبي قتادة. انظر “نصب الراية”: (4/ 162)، و”الإرواء” (297).
(7/458)
ثم منهم من فرَّق بين من يزول عقله بسبب يُشْتَهى كالخمر، وسبب لا يُشتهى كالبنج، وهذا قول أصحاب أبي حنيفة، وهو المنصوص عن أحمد، [ومنهم من لم يُفرِّق] (1) كالشافعي، وهو قول طائفة من أصحاب أحمد كأبي الخطاب. وبكلِّ حال فإذا صحا من سُكْره وتاب مما قال تاب الله عليه باتفاق العلماء.
فمن خرج في سُكْره إلى شطحٍ هو كفر، وكان زوال عقله بسبب يُعْذَر فيه فلا إثم عليه. وإن كان بسبب محظور ثم تاب تاب الله عليه. وأما من أصرَّ على ذلك في حال صحوه وحضور عقله، فهذا كافر زنديق باطنًا وظاهرًا، وهذا هو الذي ثبت في حال الحلَّاج وأمثاله. وقد عُلِم أنه قُتِل على الزندقة، فإذا تاب قبل أن يموت فيما بينه وبين الله [تاب الله عليه] (2) باتفاق المسلمين، وهذا مما يُشكّ فيه في حال الحلّاج، فإنه يمكن أن يكون قبل الموت تاب فيما بينه وبين الله، ويمكن أنه لم يتب، فإن تاب قَبِل الله توبته على صالح عمله.
وأيضًا فالزندقة ليست صفة لازمةً للعبد، فقد يكون في حال مؤمنًا وفي حال منافقًا، ففي حال نفاقه متكلم بالكفر وفي حال إيمانه يتوب منه. وهذا الحال يشبه حال أبي العلاء المعرِّي وأمثاله ممن ثبت عنه أنه
_________
(1) الأصل: “عن أحمد على قوله بأن الشافعي” وما أثبته يستقيم به السياق، وانظر “مجموع الفتاوى”: (14/ 117 ــ 118).
(2) زيادة يستقيم بها السياق.
(7/459)
تكلم بكلمات كفرية، مع تكلّمه بكلمات إيمانية تنافي ذلك.
والواحد من هؤلاء قد تكون عاقبته باعتبار أحوال إيمانه (1)، ومن ذمّه فباعتبار نفاقه واستصحابٍ لحال (2) نفاقه إلى الموت، وتفاصيل أحوالهم المعيَّنة إلى الله، لكن يجب الجزم بكفر الكلام المنقول عنهم الذي يخالف دين الإسلام من مقالات [114] أهل الاتحاد (3) ونحوها.
فإذا تبيَّن هذا فالذي لا ريب فيه أن الحلَّاج بدا منه من الأقوال ما هي محرَّمة في دين الإسلام، موجِبة للقتل باطنًا وظاهرًا، وأن الرجل لم يكن على الصراط المستقيم، ولا ملازمًا (4) لطريقة الكتاب والسنة، ولا هو ممن يجوز الاقتداء به ولا اتخاذه إمامًا، ولا يجوز التعصُّب له والانتصار له بدعوى ضد ذلك بكون (5) كان له عبادات وزهادات، فيمكن أنه تاب فيما بينه وبين الله مما هو كفر، فيكون قد مات على الإيمان وهو من أهل الكبائر، ويمكن أنه لم يتب من ذلك فيكون منافقًا، ويمكن أنه تاب من الكفر والبدعة والفسوق فمات تائبًا لا ذنب له، ويمكن أنه لم يتب من ذلك فيكون حكمه (6) حكم فساق أهل الملة إن
_________
(1) الأصل: “إيمانية” ولعل الصواب ما أثبت.
(2) الأصل: “فاعتبار نفاقه واستصحا بالحال” ولعل الصواب ما أثبت.
(3) الأصل: “الاتخاذ”! وستكرر كذلك.
(4) غير واضحة في الأصل ولعلها ما أثبت.
(5) الأصل: “لكن” والعبارة غير مستقيمة، فلعلها ما أثبت.
(6) الأصل: “حكمهم”.
(7/460)
شاء الله عذَّبه وإن شاء غفر له. ويمكن أنه بقي مصرًّا على خطأ هو ذنب أو خطأ هو مغفور.= فهذه كلها أقسام ممكنة (1)، والجزم بواحد منها بلا دليل قولٌ بغير علم، [و] هو كلام فيما لا يعنينا. فإن الذي يجب علينا أن نثبت (2) ما أثبته الكتاب والسنة وننكر ما أنكره الكتاب والسنة، وهذا يظهر بذكر الحكم فيما يُنْقل عنه من الأقوال نظمًا ونثرًا.
فنقول: إنه قد نُقِل عن الحلَّاج من المقالات أنواع كثيرة لا ريب أن كثيرًا منها كذب عليه، فإنه قد صار له شهرة، فمن الناس من قد يبالغ في ذمه حتى يَنْقل عنه ما لم يقله، ومن الناس من يريد ينفق المقالات الباطلة فيحكيها عنه ليقبلها من يحسن الظن.
وهذا قد فُعِل بغير الحلَّاج من علماء الدين وأئمة الهدى، نُقِل عنهم من الكلمات المكذوبة أنواع، تارةً بغرض (3) الذمّ وتارة بغرض المدح، وتارة بغرض القبول لقول سيَّد (4) ولد آدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -! وكذلك نُقِل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الأكاذيب ما الله به عليم، وعن جعفر بن محمد الصادق، وغير هؤلاء من أئمة الهدى.
وينقل عن يزيد والحجاج وأمثالهما من الأكاذيب في الذمِّ ما لم
_________
(1) الأصل: “ممكن”.
(2) الأصل: “نفي بما”.
(3) الأصل في المواضع الثلاثة: “تعرض”، تحريف.
(4) الأصل: “لقبول القول فسيد”، والصواب ما أثبت.
(7/461)
يقولوه ولم يفعلوه، وإن كان لهما ما لهما فما الشر ما يقع مثل هذا (1).
وكذلك الحلَّاج نُقِل عنه نظمًا ونثرًا من مقالات الاتحاد ومقالات أهل الاتحاد ما (2) الله به عليم، وصار ذلك فتنةً لمن يظنه من أولياء الله المتقين، وعلوم الأسرار والحقائق (3)، بمنزلة ما نُقِل عن علي رضي الله عنه من هذه الأحاديث، وبمنزلة ما نُقِل عن أبي يزيد إما كذبًا عليه وإما غلطًا منه.
لكن إذا نُقِل عن رجل له قبول في الإسلام، كان الضلال به أكثر بخلاف [115] ما يُنقل عن الحلاج وأمثاله، فإن القائل قد قُتل على الزندقة، ومن قُتل على الزندقة سقطت حُرمة أقواله.
وينبغي أن يكون عند المسلم من هذا قاعدة عامة، وهو أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – معصوم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، لا يقول على الله إلا الحق، ولا يخرج من بين شفتيه إلا حق، وهو حجة الله على عباده. هذا قول مالك بن أنس الإمام رضي الله عنه: كلُّ (4) أحد يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. وأنه ليس لأحدٍ من المشايخ والعلماء أو
_________
(1) كذا العبارة في الأصل.
(2) الأصل: “وما”.
(3) كذا في الأصل. ولو كانت: ” … أهل الاتحاد وعلوم الأسرار والحقائق ما الله به عليم” لاستقام السياق.
(4) الأصل: “وكل”.
(7/462)
الملوك أو الأمراء أو غيرهم طريق إلى الله غير اتباعه [ومن ظنَّ أن لأحدٍ من أولياء الله طريقًا إلى الله غير متابعة محمد – صلى الله عليه وسلم – باطنًا وظاهرًا فلم يتابعه] (1) فهو كافر.
ومن زعم أن من أولياء الله (2) من يخرج عن اتباعه وطاعته كما خرج الخضر عن اتباع موسى وطاعته فإنه كافر. فإن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر بل كان نبيًّا إلى بني إسرائيل، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – رسول الله إلى جميع العالمين عربهم وعجمهم، وجنهم وإنسهم. مع أنَّ الذي فعله الخضر لم يكن خارجًا عن الشريعة، بل كان له أسباب إذا عَلِمها العبد تبيَّن له أنه جائز في الشريعة، ولهذا لما بيَّن الخضر (3) تلك الأسباب لموسى عَلِم موسى أن تلك الأفعال جائزة في الشريعة.
ومن زعم أن من [أهل] الصُّفَّة من خرج عن طاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – أو قاتَلَه (4) أو سمع ما أُلقي إليه ليلة المعراج؛ فهو ضالٌّ مفترٍ.
ولا يكون العبدُ مؤمنًا حتى يكون كما قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
_________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من الأصل، وأثبته ليستقيم المعنى. “الفتاوى”: (11/ 263).
(2) الأصل: “اسر”!
(3) الأصل: “لم يتبين للخضر”. ولعل صواب العبارة ما أثبت.
(4) الأصل: “قايله” خطأ. وانظر “الفتاوى”: (11/ 47).
(7/463)
حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]. ومثل هذا في القرآن كثير في نحو أربعين موضعًا.
فالإسلام أصلان: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله. وإذا أقرَّ بذلك فليعلم أن القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي الحق وما خالفها باطل، فإنَّ هذا نقلٌ مصدَّق عن قائل معصوم، وما يخالف هذا من أقوال أو أفعال تُحكى عن بعض المشايخ أو العلماء وغيرهم فقد يكون الناقل غير مصدَّق، وإن كان الناقل صادقًا فالقائل غير معصوم في مخالفة الناقل المصدَّق عن القائل المعصوم.
فهذا القول يجب على المؤمن أن يعتصم به، ويَزِن جميع ما يَرِد عليه [116] على هذا الأصل. فما يجده من التنازع (1) في بعض المشايخ
_________
(1) الأصل: “فيما يحده من الشارع” تحريف.
(7/464)
والعلماء والملوك أو غيرهم في حمده وذمّه، فلا يخلو إما أن يكون المراد به معرفة حقيقة ذلك الرجل عند الله، فهذا لا حاجة بنا إلى معرفته، وقد لا يمكن معرفته. وإما أن يكون المراد حُكْم ما يُذْكَر عنه من أقوال وفعال. فهذا كله معروض على الكتاب والسنة، فما وافقه فهو الحق، وإن كان ذلك القائل فاسقًا أو زنديقًا، وما خالفه فهو الباطل وإن كان ذلك القائل صالحًا بل صدِّيقًا، كما كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول في وصيته: “اقبلوا الحقَّ مِنْ كلّ مَن جاء به وإن كان كافرًا و (1) احذروا زيغة الحكيم” فقالوا: كيف نعرف أن الكافر يقول الحق؟ وأن الحكيم يزيغ؟ (2) فقال: “إن على الحقّ نورًا” (3). يريد: أن الحق معه مِنَ البرهان ما يتبين أنه حق، فهذا مقبول من كل قائل.
و (4) كثير من الناس يزن الأقوال بالرجال، فإذا اعتقد في الرجل أنه معَظَّم قَبِل أقوالَه وإن كانت باطلةً مخالفةً للكتاب والسنة، بل لا يصغي حينئذ إلى مَنْ يردّ (5) ذلك القول بالكتاب والسنة. بل يجعل صاحبه كأنه
_________
(1) الأصل: “أو”.
(2) الأصل: “الحق تزيغ” ولعل الصواب ما أثبت.
(3) أخرجه أبو داود (4613)، والحاكم: (4/ 460)، والبيهقي: (10/ 210) وصححه الحاكم على شرط الشيخين.
(4) الأصل: “أو”.
(5) الأصل: “يريد” خطأ.
(7/465)
معصوم (1). وإذا ما اعتقد في الرجل أنه غير معَظَّم ردَّ أقوالَه وإن كانت حقًّا، فيجعل قائل القول (2) سببًا للقبول والرد من غير وزن بالكتاب والسنة.
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للحارث بن حوط (3) لما قال له: يا عليّ أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل وأنت على حق؟ [فقال]: لا [يا] حارِ (4) إنه ملبوس عليك، اعرف الحق تعرف أهله، إن الحق لا يُعرف بالرجال، وإنما الرجال يُعرفون بالحق (5).
وكلّ من اتخذ شيخًا (6) أو عالمًا متبوعًا في كلّ ما يقوله ويفعله، يوالي على موافقته ويعادي على مخالفته غير رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ فهو مبتدع ضالّ خارج عن الكتاب والسنة، سواء كان من أهل العلم والدين؛
_________
(1) بعده في الأصل: “قال هو محفوظ ومعنى القولين واحد” والظاهر أنه مقحم في السياق.
(2) الأصل: “فليجعل القول إلى القول” محرفة!
(3) الأصل: “خلده” تحريف. وحوط بالحاء المهملة، وقيل بالمعجمة. انظر: “شرح نهج البلاغة”: (19/ 149).
(4) الأصل: “لا جاو” تحريف، والصواب ما أثبت، و”حارِ” ترخيم “حارث”.
(5) ذكره اليعقوبي في “تاريخه”: (1/ 192)، وابن أبي الحديد في “شرح نهج البلاغة”: (19/ 148).
(6) تحرفت في الأصل: “شيئًا”.
(7/466)
كالمشايخ والعلماء [أ] وكان من أهل الحرب والديوان؛ كالملوك والوزراء.
بل الواجب على جميع الأمة طاعة الله (1) ورسوله، وموالاة المؤمنين على قدر إيمانهم، ومعاداة الكافرين على قدر كفرهم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55 – 56]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “مَثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو واحد (2) تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر” (3). وقال: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا وشبَّك بين أصابعه” (4).
[117] وفي “الصحيح” (5) عنه أنه قال – صلى الله عليه وسلم -: “إنّ الله يرضى لكم (6) ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا
_________
(1) الأصل: “لله”.
(2) الأصل: “عضوًا واحدًا” خطأ.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.
(5) مسلم (1715) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) الأصل: “لنا”.
(7/467)
تفرقوا (1)، وأن تناصحوا من ولَّاه الله أمركم”. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 105 – 107].
قال ابن عباس: تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفرقة (2).
وهذا هو الأصل الفارق بين أهل السنة والجماعة، وبين أهل البدعة والفرقة. فإنّ أهل السنة والجماعة يجعلون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو الإمام المطلق، الذي يتبعونه في كلِّ شيء ويوالون من والاه ويعادون من عاداه. ويجعلون كتاب الله هو الكلام الذي يتبعونه كلَّه ويصدِّقون خبره كلَّه، ويطيعون أمره كلّه. ويجعلون خير الهدي والطريق والسنن والمناهج هي سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
وأما أهل البدعة فينصبون لهم إمامًا يتبعونه، أو طريقًا يسلكونه، يوالون عليه ويعادون عليه، وإن كان فيه ما يخالف السنة، حتى يوالوا
_________
(1) بعدها في الأصل: “واختلفوا”! سبق قلم إلى الآية الآتية.
(2) تقدم تخريجه.
(7/468)
مَن وافقهم مع بُعْدِه عن السنة، ويعادون من خالفهم مع قُرْبه من السنة.
فإذا عُرِف الصراط المستقيم لم يكن بنا حاجة إلى معرفة حقيقة هؤلاء الرجال الذين اشتهوا عنهم (1). وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا الله العزيز الحكيم.
آخر الفصل، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
_________
(1) كذا في الأصل، ولعلها: “اشتبه أمرهم” أو نحوها.
(7/469)
فصل
فيما يجمع كليات المقاصد
(7/471)
فصل فيما يجمع كليات المقاصد، لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد ابن تيمية الحراني رحمه الله ورضي عنه وأثابه الجنة بفضل رحمته، إنه على كلّ شيء قدير.
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
والبِرّ: ما حضّ (1) الله به من واجب ومستحب.
والتقوى: حفظ حدود الله بأن لا يتعدى الواجب والمستحب والجائز. فالبِرّ في الجنس، والتقوى في المقدار.
وضد (2) ذلك: الإثم، وهو: جنس ما نهى الله عنه، والعدوان هو ما تعدَّى الحدود في الواجب والجائز والمستحبّ. فالعدوان ضد التقوى، كما أن الإثم ضد البر.
وفي “صحيح مسلم” (3) عن النوّاس بن سمعان قال: سألت (4) رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن البر والإثم فقال: “البرّ حُسْن الخلق، والإثم ما حاك (5) في نفسك وكرهتَ أن يطلع عليه الناس”.
_________
(1) الأصل: “حظ”.
(2) الأصل: “قصد”!
(3) (2553).
(4) الأصل: “قال”، تحريف.
(5) تحرف في الأصل: “حَسَنٌ مطلقٌ … ماجاء”.
(7/473)
وقد بسطنا القول في هذا في غير هذا الموضع، والمقصود هنا أن الله أمر بالتعاون على هذا، ونهى عن التعاون على هذا. فالإنسان فيما أُمِر به ونُهي عنه لا يخلو من أربعة أقسام:
* إما أن يفعل المأمور والمحظور جميعًا، فيعين على هذا وهذا، كمن يعاون الذين يفعلون الظلم والفجور على هذا وعلى هذا، ويدخل في ذلك أعوان الظَّلَمة [118] من الأئمة والأمة إذا أعانوهم على البر وعلى الإثم.
* وإما أن يترك المأمور والمحظور جميعًا، فلا يعين على برٍّ ولا على إثم، كحال كثير ممن يتخلّى عن الناس إما كسلاً وإما بخلاً وإما زهدًا وورعًا فاسدًا، وإما لغير ذلك.
* وإما أن يعين على الإثم والعدوان دون البر والتقوى؛ كحال من يعين الظالمين والفاسقين على ظلمهم وفسقهم، ولا يعين على البر.
* وإما أن يعين على البر والتقوى ولا يعين على الإثم والعدوان. فهذا هو المؤمن التقي الذي أطاع الله ورسوله.
وهذا حالُ الناس في كل جنسٍ أمَرَ الله بأحد نوعيه (1) وحرَّم الآخر، بل حكمهم في أمر الله ونهيه؛ فمنهم من يأتي بالمأمور والمحظور،
_________
(1) الأصل: “بأخذ نوعه” ولعله ما أثبت.
(7/474)
ومنهم من يأتي بالمأمور دون المحظور (1).
وهذه الأقسام تعرض للإنسان الواحد بحسب أحواله (2)، بل تعرض له في اليوم الواحد فيأتي بالأنواع الأربعة.
فأما الذي (3) يأتي بطاعة الله دون معصيته، أو يأتي بمعصيته دون طاعته؛ فحكمهما ظاهر، وإن كان في بعض أنواعهما وأعيانهما تنازُعٌ واشتباه. لكن الجامع بين الطاعة والمعصية والتارك لهما كثيرًا ما يضطرب الناس في أمرهما. والتحقيق: أنه يوزَن ثواب طاعة الله هنا (4) مع عقاب معصيته.
وأما التارك لهما فننظر فيما تركه من طاعة، هل كان واجبًا يستحق على تركه عقابًا؟ [و] فيما تركه من المعصية، هل قصد تركه على وجهٍ يكون فيه ثواب؟ فإن كان كذلك له ثواب وعقاب كالأول. وإن لم يكن المتروك من الطاعة واجبًا ولا المتروك من المعصية بقَصْد يُثاب عليه، فهما لا له ولا عليه. فإن رجحت حسناتُ الأولين فهما خيرٌ منه، وإن رجحت سيئاته فهو خير منهما.
_________
(1) كذا في الأصل، وبقي في القسمة: “ومنهم من يأتي بالمحظور دون المأمور” فلعله سقط من النسخة.
(2) الأصل: “أقواله” ولعله ما أثبت.
(3) الأصل: “الذين”.
(4) الأصل: “هذا”.
(7/475)
والمقصود أن الله إذ (1) أوجب الإعانة على البر والتقوى، فقد دخل في ذلك فِعْل كل مأمور فإنه من البر، وحِفْظ حدود الله في كل شيء فهو التقوى.
وجِماع ذلك القسط والعدل في كل شيء، فتجبُ الإعانة على حُسْن الخلق. وكما أمر الله بالإعانة على ذلك فأمر بالتناجي به فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة: 9].
والإثم والعدوان جِماعُه الظلم؛ ظلم النفس أو ظلم العبد لنفسه أو لغيره مع نفسه، والظلم في حقّ الله. وقد قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32].
فالإعانة على هذه المحرمات هي الإعانة على الإثم والعدوان، والإعانة على الفواحش يدخل فيه الذي تسميه الناس: قيادة، مثلما كانت امرأة لوط ــ العجوز التي تُرِكت في الغابرين ــ تعينُ قومَها قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث، وكانت تدلهم على الأضياف الذين يأتون إلى لوط عليه السلام.
فالدالُّ على الفواحش [119] من الرجال والنساء، والجامع بين
_________
(1) الأصل: “إذا” ولعله ما أثبت.
(7/476)
الناس على الفواحش بكلامه أو عمله أو مكانه أو غير ذلك له نصيب من هذا، حتى من يبيع ما يستعين به على المعصية، كما لعن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الخمر عشرة، لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها (1). حتى قال الإمام أحمد: إن بيع الخبز واللحم والفاكهة لمن يستعين به على الفاحشة والإثم من هذا الباب.
والإعانة على الإثم والعدوان أعظم من السكوت عن تغيير ذلك، فإنّ السكوت عن تغيير ذلك هو ترك لإنكار (2) المنكر، والإعانة على المنكر أعظم من السكوت عن إنكاره. والله سبحانه وتعالى قد أوجب على الرجل أن يغار على أهله ويصونهم عن الفواحش، فإذا سكت عن تغيير ذلك كان ديُّوثًا، وهو الذي جاء فيه الحديث: “لا يدخل الجنة ديُّوث” (3). وهو ضد الغيور. والغيرة التي يحبها الله هي الغيرة في
_________
(1) أخرجه أحمد (4787)، وأبو داود (3674)، وابن ماجه (3380)، والبيهقي: (8/ 287) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وهو حديث يصحّ بطرقه وشواهده. انظر حاشية “المسند”: (8/ 405 ــ 406).
(2) الأصل: “الانكار”.
(3) أخرجه الطيالسي (677)، وابن خزيمة في “التوحيد” (582) من حديث عمار رضي الله عنه. قال البوصيري في “اتحاف الخيرة”: (4/ 22): هذا إسناد ضعيف، لجهالة بعض رواته، لكن المتن له شاهد في مسند أحمد (5372) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(7/477)
الريبة، فإذا لم يَغَرْ مِن فِعْل الفاحشة كان ذلك دياثة. لكن الغيرة على أهل الرجل أوجب من الغيرة على غير أهله. وكذلك الدياثة في حق أهله أعظم جرمًا. وذلك أنه مَنْع لمشاركة (1) غيره له في أهله، وذلك أمر يختصّ به ويعود (2) ضرره عليه ونفعه له بخلاف (3) فعل غيره الفاحشة.
ولهذا جعل الله [في] بني آدم وغيرهم من الحيوان النُّفْرةَ (4) من أن يُشارَك الرجل في محلّ استمتاعه بخلاف نفورهم عن فاحشة غير أهله، حتى يزني الرجل الفاجر بنساء الناس وأبناء الناس ومماليكهم، ويعظُم عليه (5) أن يرى مثل ذلك في نسائه وأولاده ومماليكه؛ لِما في النفوس من الغيرة وكراهة المشاركة في محلّ المتعة، وإن كانت النفوس عن ذلك قد (6) محرومة. والله أعلم.
_________
(1) الأصل: “المشاركة”، خطأ.
(2) الأصل: “ويفور”.
(3) الأصل: “بخلا”!
(4) هذه العبارة وما بعدها قلقة السياق، وكانت في الأصل “عن النفرة” فأضفت ما بين المعكوفين، وحذفت “عن”.
(5) الأصل: “عليهم”.
(6) كذا.
(7/478)
[مسائل فقهية مختلفة]مسألة: [70] فيمن ينوي الغسل، فتوضأ، ثم اغتسل هل يجزيه، أم يتوضأ ثانيًا بعد فراغه من الغسل؟
الجواب: الحمد لله.
قد ثبت عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنه كان إذا اغتسل من الجنابة يتوضأ أولًا، فتارةً يكمل الوضوء بغسل رجليه، ثم يغسل سائر بدنه (1). وتارةً يؤخّر غسل رجليه إلى آخر الغسل. ولم يكن يعيد وضوءًا آخر بعد الغسل، بل ولا يعيد الماء على أعضاء الوضوء، بل يكفي مروره عليها أولًا. فإذا نوى الجنب بالغسل أنه يرفع الحدثين: الأصغر والأكبر، وتوضأ أولًا، لم يحتج إلى وضوء ثاني باتفاق الأئمة رضي الله عنهم أجمعين. والله أعلم.
***
مسألة في الصلاة (2): هل تجب أن تكون [النية] مقارنةً للتكبير؟ والسؤال أن يوضَّح لنا كيفية مقارنتها التكبير، كما ذكر في الشافعي (3)؟
_________
(1) بعده في الأصل: “أو بدنه” ولا معنى لها.
(2) الفتوى في “مجموع الفتاوى”: (22/ 228 – 229) لكن سقط منها “كما هو مذهب … الصلاة لفعلوه”.
(3) يعني في مذهب الشافعي.
(7/479)
وأنه لا تصحّ الصلاة إلا بمقارنتها مع التكبير، وهذا يعسُر على الناس.
الجواب: الحمد لله، أما مقارنة (1) النية للتكبير، فللعلماء فيه قولان مشهوران:
أحدهما: لا يجب، كما هو مذهب أحمد وغيره.
الثاني: تجب، كما هو مذهب الشافعي وغيره.
والنية الواجبة محلّها القلب باتفاق الأئمة، إلا خلافًا شاذًّا، وأما بعض المتأخرين [فـ]ـأوجب اللفظَ بها، وهو مسبوقٌ بالإجماع قبله. ولكن تنازع العلماء هل يستحبّ اللفظ بها؟ كمن (2) استحبَّه من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، ولم يستحبّه آخرون من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما، وهذا أقوى؛ فإن ذلك بدعة لم يفعلها رسول الله وأصحابه، ولو كان من تمام الصلاة لفعلوه.
والمقارنة المشروطة قد تفسَّر بوقوع التكبير عقيب النية، وهذا ممكن (3) لا صعوبة فيه، بل عامّة الناس إنما يصلّون هكذا، بل هذا أمرٌ ضروري، لو كُلِّفوا تركه لعجزوا عنه.
وقد تفسَّر بانبساط آخر النية على آخر التكبير، بحيث يكون أولها
_________
(1) الأصل: “مقارنته”.
(2) الأصل: “من”.
(3) الأصل: “متمكن”.
(7/480)
مع أوّله وآخرها مع آخره، وهذا لا يصحّ؛ لأنه يقتضي عزوب كمال (1) النية في أوّل الصلاة، وخلو أول الصلاة عن النية الواجبة.
وقد تفسَّر بحضور جميع النية مع جميع أجزاء التكبير، وهذا تُنوزِع (2) في إمكانه؛ فمن العلماء من قال: إن هذا غير ممكن ولا مقدور للبشر، فضلًا عن وجوبه، ولو قيل بإمكانه فهو متعسِّرٌ، [61] فيسقط بالحَرَج (3).
وأيضًا فما يبطل هذا والذي قبله: أن المكبِّر ينبغي له أن يتدبّر التكبير ويتصوّره، فيكون قلبه (4) مشغولًا بمعنى التكبير، لا بما يشغله عن ذلك من استحضار المَنْويّ، ولأن النية من الشروط، والشروط تتقدّم العبادة، ويستمرّ حكمها إلى آخرها؛ كالطهارة وغيرها. والله أعلم.
***
مسألة (5): في رجلٍ إذا صلّى بالليل ينوي ويقول: أصلّي لله نصيب الليل. فهذا ما سمعناه من العلماء، ولا سمعنا إذا صلّى الرجل الفرائض والسنن، كقيام الليل وغيره ينوي ويقول: أصلّي لله تطوعًا. فقال له الرجل: لا، ما
_________
(1) الأصل: “كمال غروب” خطأ. والمثبت من (ف).
(2) العبارة في الأصل: “جميع اجر … يتورع” تحريف.
(3) الأصل: “بالخروج” تحريف.
(4) الأصل: “قبله” تحريف.
(5) وهي في “مجموع الفتاوى”: (22/ 257) لكن السؤال في سطر واحد. وأثبتناها ليعلم تمامه.
(7/481)
سمعنا من الفقراء والمشايخ: “نصيب الليل” (1)، فإنهم على الصواب.
الجواب: الحمد لله.
هذه العبارة: “أصلي نصيبَ الليل” لم يُنقل عن أئمة الدين وأئمتها (2)، والمشروع أن ينوي الصلاة لله، سواءٌ كانت بالليل أو بالنهار، وليس عليه أن يتلفظ بالنية، فإن تلفّظ قال: “أصلي لله صلاة الليل” و”أصلي قيام الليل” ونحو ذلك جائز، ولم يستحبّ ذلك، بل الاقتداء بالسُّنة أولى. والله أعلم.
***
مسألة: ما تقول السادة سيدنا شيخ الإسلام رضي الله عنه أحمد ابن تيمية في قوله: إنما التفريط على من لم يصل، فإذا كان العبد نائمًا (3) عن صلاة فريضة صلى حين يستقيظ بعد خروج الوقت، ينوي الأداء أو القضاء. مراده: الذي فاتته يعيدها، أم حط (4) على الصلاة المستقبلة في وقتها؟
الجواب: فقال: الحمد لله رب العالمين.
_________
(1) بعده في النسخة “لم ينقل عن أئمة الدين” وأحاطها الناسخ أو غيره بخط وكأنه أراد الضرب عليها. والظاهر أنها انتقال نظر من الجواب.
(2) كذا. وفي (ف): “سلف الأمة وأئمتها”.
(3) الأصل: “نائم”.
(4) كذا.
(7/482)
قوله – صلى الله عليه وسلم -: ” [من نام عن صلاة] (1) فليصلِّها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها، لا كفارة لها إلا ذلك” (2). ومعنى ذلك: أنه الوقت الذي عليه أن يفعلها فيه، ولهذا ذهب الجمهور كأحمد ومالك وأبي حنيفة إلى أن قضاء الفوائت على الفور، ولم يكن عليه أن يفعلها في حال النوم والنسيان. بل تنازع العلماء هل وجبت في ذمته، بمعنى أنه وجب عليه أن يفعلها إذا استيقظ [كما] يجب على المدين أن يقضي الدين إذا حلَّ، أو يقال: لم يجب في ذمته، ولكن انعقد سببُ وجوبها؟ على قولين مشهورين.
والنزاعُ في ذلك بين أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم، وجمهور العلماء على أنها قضاء، ومنهم من يقول: هي أداء، والنزاع (3) لفظي، فإن القضاء إن جُعِلَ اسمًا للعبادة المفعولة بعد خروج وقتها المقدور يقدى إمامًا (4) جاز تأخيرها. والله أعلم.
_________
(1) مكانها في الأصل: “فإذا كان كذلك”! وما أثبته لفظ الحديث.
(2) الحديث أصله في البخاري (597)، ومسلم (684) من حديث أنس رضي الله عنه. دون قوله: “فإن ذلك وقتها”، وقال ابن القيم في “كتاب الصلاة” (ص 89) عن هذه الزيادة: “هذه الزيادة لم أجدها في شيء من كتب الأحاديث، ولا أعلم لها إسنادًا، ولكن قد روى البيهقي في السنن والدارقطني من حديث أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها”. وانظر “البدر المنير”: (2/ 658).
(3) الأصل: “والنزاعين”!
(4) كذا في الأصل، وفي العبارة تحريف.
(7/483)
مسألة: في رفع الصوت بالذكر والاجتماع لذلك والأمر به، هل ذلك مشروع أو مستحب أو بدعة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين.
لا يستحب رفع الصوت بذلك، بل خفض الصوت أفضل، كما في الحديث: “خير الذِّكر الخفيّ (1)، وخير الرزق ما يكفي” (2). وقد قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الأعراف: 205]. فكذلك الدعاء خفض الصوت به أفضل كما قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]. وقال تعالى عن زكريا: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} [مريم: 3].
وقال الحسن البصري: “رفع الصوت بالدعاء بدعةٌ” (3).
وكذلك قراءة القرآن؛ ففي الترمذي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصدقة” (4). وقد
_________
(1) تحرفت في الأصل: “الحنفي”!
(2) أخرجه أحمد (1477)، وأبو يعلى (731)، وابن حبان (809)، وغيرهم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. صححه ابن حبان وأبو عوانة، انظر “المقاصد الحسنة” (ص 333)، وفي بعض رواته كلام. انظر “مجمع الزوائد”: (10/ 85).
(3) أخرج ابن أبي شيبة (8547) عن الحسن أنه كره أن يُسمع الرجل جليسه شيئًا من الدعاء. وذكره المصنف في “الاستقامة”: (1/ 323).
(4) أخرجه أبو داود (1335)، والترمذي (2919)، والنسائي (2561)، وأحمد (17368)، وابن حبان (734)، وغيرهم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب. وحسنه الحافظ في “نتائج الأفكار”: (2/ 19). ولفظ الحديث: “الجاهر … كالجاهر”.
(7/484)
قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].
ولا يستحبّ رفع الصوت بالذكر إلا في الأذان، وفي التلبية بالحج، وأما إذا قعد واحد أو جماعة أو وحده (1) يهلِّلون ويسبِّحون ويكبِّرون ويذكرون ويحمدون، فلا يشرع لهم رفع الأصوات، لاسيما إن كان رفع الصوت يشق على الإنسان، فإن فعله لذلك حينئذٍ يكون مكروهًا، ومن أمره بذلك كان مخطئًا، والله تعالى يعلم السرّ وأخفى. قال بعضهم: “وأخفى” هو حديث النفس للنفس. وقيل: ما يخطر في النفس من غير الكلام (2). والله أعلم (3).
وفي “الصحيح” (4) أن الصحابة كانوا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في سفر، وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا (5)، وإنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته”. والله أعلم.
_________
(1) (م): “قعد جماعة أو واحدة” تحريف.
(2) انظر “تفسير الطبري”: (16/ 13 ــ 15).
(3) من قوله: “قال بعضهم … ” إلى هنا سقطت من (ك).
(4) أخرجه البخاري (6483)، ومسلم (2704) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(5) الأصل: “ولا غائب توقف”! وهو إقحام غريب.
(7/485)
مسألة (1): ما تقول السادة العلماء أئمة الدين فيمن يدعو (2) الله بقلبه وبنيته الخير [78] والصواب بدعاء ملحون، فقال له قائل: الدعاءُ الملحون لا يجوز، والقرآن الملحون لا يجوز. أفتونا مأجورين مثابين.
الجواب: نعم يجوز الدعاء وإن كان الداعي يلحن في لفظه، فإن الله يعلم قصدَه ونيتَه، وإنما الأعمال بالنيات. وقول بعض الناس: إن الله لا يقبل دعاءً ملحونًا، لا أصل له. والله أعلم.
***
مسألة: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وعلماء المسلمين رضي الله عنهم أجمعين في إمام مسجد يصلي فيه دائمًا، وينوب في مسجد آخر، فصلاته الثانية تكون قضاء أم إعادة؟ وما نيّته ونية من خلفه؟ وأيضًا أن يصلي مشمّرًا عَذَبته وشعره (3)؟ وهل يجوز أن يتنفّل (4) في المحراب؟
الجواب: نسخة ما أجاب عليها شيخ الإسلام البحر مفتي الفرق، الحبر العلامة أحمد ابن تيمية رضي الله عنه فقال:
الحمد لله.
_________
(1) انظر نحو هذه الفتوى في “مجموع الفتاوى”: (22/ 488).
(2) الأصل: “يدعي إلى” والصواب ما أثبت.
(3) تحرفت العبارة في (م) إلى: “مستمرا … وسفره”. وبعده في (ك): “والعذبة هي من الموخر ومن”.
(4) (م): “ينتقل” تحريف. “وهل يجوز أن” ليست في (ك).
(7/486)
أما صلاته الثانية فهي معادة نافلة، وفي صلاة المفترضين خلفه (1) نزاعٌ معروفٌ بين العلماء. وأما كفّ الذؤابة والشعر في حال السجود فمنهيّ عنه، ونهى عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح، وقال: “أُمِرت أن أسجد على سبعة أعضاء، ولا أكف شعرًا ولا ثوبًا” (2).
وأما تنفُّل الإمام في موضع الفرض بغير (3) حاجة [81] كرهه كثير من أهل العلم بحديث المغيرة، وهو في “السنن” (4)، وفي إسناده كلامٌ ليس هذا موضعه. والله أعلم.
***
مسألة: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين في إمام مسجد نسي سجدةً من الركعة الأولى من صلاة الصبح، فمن الجماعة من نوى المفارقة، وأتى بالسجدة وأتم الصلاة وحده، ومنهم من (5) أتى بالسجدة وأتم معه،
_________
(1) من (ك).
(2) أخرجه البخاري (810)، ومسلم (490) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) (ك): “وتنفل … لغير”.
(4) أخرجه أبو داود (616) ومن طريقه البيهقي: (2/ 190)، وابن ماجه (1428). قال أبو داود عَقِبه: “عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة بن شعبة”.
وروى معناه أبو داود (1006)، وابن ماجه (1427)، وأحمد (9492) وغيرهم من حديث أبي هريرة ولفظه: “أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله”.
(5) “وأتى بالسجدة … ” إلى هنا سقط من (م).
(7/487)
وسجدوا معه سجود السهو، فأيهم لم تصح صلاته (1)؟ أفتونا.
الجواب: فقال: الحمد لله.
أما من أتى بالسجدة وتابع الإمام في الركعة الثانية فقد صحت صلاته، وإذا قعد وتشهد وسلّم تمت صلاتُه (2)، وأما الإمام نفسه فلا تسقط عنه السجدة بسجدتي السهو باتفاق الأئمة، لكن منهم من يقول: لغت تلك الركعة التي نسي سجدتها، وقامت الثانية مقامها، فعليه أن يأتي بعدها بثانية مكان الأولى. وهذا مذهب مالكٍ وأحمد.
ومنهم من يقول: بل يلغو ما فعله إلى أن يسجد في الثانية، فيتم الأولى بالسجدة الأولى من الركعة الثانية، ثم عليه أن يأتي بركعة ثانية، وهو قول الشافعي.
ومنهم من يقول: بل يسجد سجدةً قبل السلام غير سجدة السهو، وتصح صلاته، وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه.
وأما الذين نووا مفارقة الإمام فتصح صلاتُهم أيضًا في مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين.
وأما الذين لم يسجدوا كما لم يسجد الإمام، فهؤلاء حكمهم كحكمه (3) يعيدون الصلاة إذا لم يفعلوا ما ذكروا. والله أعلم (4).
_________
(1) (م): “فأيهما المصيب والمخطئ”.
(2) “وإذا قعد … صلاته” من (ك) فقط.
(3) (م): “حكم”.
(4) في آخر النسخة: صورة خطه رضي الله عنه: كتبه أحمد بن تيمية.
(7/488)
[سؤال عن حراسة المكان وقت صلاة الجمعة]سُئل رضي الله عنه عن جماعة من الفقراء مقيمون في زاوية عليها طريق اللصوص، وقد اعتادوا في يوم الجمعة أن يجعلوا منهم (1) شخصًا يحرس المكان، حيث دخل عليهم اللصوص مرة في يوم الجمعة، والمكان له أبواب جُوَّانية، لكن يغلب على الظن إذا صاروا في ساحة المكان، واستتروا بحيطان الساحة عن العيون أن لا يعسر عليهم فكّ الأقفال وقلع الأبواب وغير ذلك. فهل هذا العذر من غلبة الظن كافٍ في جواز ترك الجمعة لذلك الحارس أم لا؟
وهل يحصل للحارس احتسابًا [99] ما يحصل للحارس بحاضري الجمعة من الفضل العظيم، ولا يفوت من ذلك عليه شيء أم لا؟
وكيف الحكم إذا لم يتبرَّع أحدٌ بالحراسة وهناك حوائج للمكان وحوائج مشتركة لا بدَّ من حراستها، هل يُجْعَل لكلِّ شخص نوبة أم يقرع بينهم؟
وإذا سامحوا شخصًا بأن لا حراسةَ عليه، هل يجوز له أن يؤثر إخوانه بفضيلة الجمعة ويتبرع هو بالحراسة، قصده بذلك أن لا يوافقهم إذا جاءتهم النوبة مع شدة اعتنائه بفضيلة الجمعة والاغتباط بها؟ ثم هل يحصل له أجر الجمعة بكمالها أم لا؟ أفتونا مأجورين.
_________
(1) الأصل: “منها”.
(7/489)
أجاب رضي الله عنه:
نعم ذلك عذرٌ في حراسة بعضهم وترك الجمعة إذا لم يمكن أن يحرسه (1) من لا تجب عليه الجمعة، وإن كان الحارس ونحوه ممن ترك الجمعة لعذر، نيته أن يحضرها لولا العذر فله ما نواه، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا (2) ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم” قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: “وهم بالمدينة حبسهم العذر” (3).
والسُّنة في مثل هذا أن يتناوب الجماعةُ الحراسةَ كما كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتناوبون رعية الإبل، مع أن راعيها قد يفوته الجماعةُ والجمعة.
والأفضل لكلٍّ منهم ــ والحال هذه ــ أن يحرس ولا يتخَيَّر على أصحابه، وأجره على قدر نيته. والله سبحانه أعلم.
***
مسألة: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وعلماء المسلمين في رجل نوى في نفسه أن يطلّق زوجته، وطلّقها في نفسه ولم يتلفّظ بلسانه
_________
(1) الأصل: “يحرس”.
(2) الأصل: “سيرتم مسير” خطأ.
(3) أخرجه البخاري (4423) من حديث أنس رضي الله عنه، ومسلم (1911) من حديث جابر رضي الله عنه.
(7/490)
بطلاق، فهل يقع طلاقٌ أم لا؟ وهل إذا تلفظ وقال لمن يفتيه في ذلك: أنا طلقت زوجتي في نفسي. إذا أراد به أنه يلفظ بالطلاق، فهل يقع عليه أم لا؟ وما حكم الله في ذلك؟ أفتونا مأجورين مثابين.
الجواب: الحمد لله. لا يقع به طلاقٌ في مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وجمهور العلماء، وهو أحد القولين في مذهب مالك، والمشهور في مذهبه خلاف ذلك، ولا يقع أيضًا بإقراره بما فعل، حيث قال: أنا طلقت امرأتي في نفسي. ولم يتلفظ بلسانه بالطلاق، فإن هذا الإقرار بما فعل، والمُقَرّ به لا يقع به شيء، فلا يقع بإقراره. والله أعلم.
***
مسألة: ما يقول السادة العلماء أئمة الدين في رجل حلف بالطلاق ثلاثًا: إن لفلان على امرأتي خمسة دراهم، وعاد غيّر الحِلْفان، ونوى غير ذلك: أنها ما تدخل لي بمنزل ولا تكون لي بِمَرَةٍ. أفتونا مأجورين.
الجواب: الحمد لله. [87] إن كان أراد بحلفه أنها ما تكون له بمرأة يطلقها مرة واحدة، أو طلّقها (1) مطلقًا ولم يرد الثلاث؛ لأن المحلوف به غير المحلوف عليه، لم يقع به إلا ما نوى. والله أعلم.
***
_________
(1) الأصل: “طلاقها” ولعله ما أثبت.
(7/491)
مسألة: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين في رجلٍ حلف بالطلاق ثلاثًا من زوجته أن لا تسكن بحمائه (1) في بيته بهذه النية، فهل يجوز له أن يزورها في بستان يومين [أو] ثلاثة. أفتونا مأجورين.
الجواب: فقال: الحمد لله.
نعم يجوز أن يزورها ولو أقام أيامًا لم يضر ذلك، إذا لم تكن نيته دوام الإقامة.
***
سئل رضي الله عنه: جميع ما يُحْدِثه الناس في أعياد الكفار، مثل الميلاد والخميس الذي في آخر صوم النصارى، وعيد الصليب، والنيروز، والمهرجان، وغير ذلك من أعياد اليهود والنصارى والمجوس …
[فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله.
ما يفعله اليهود والنصارى والمجوس] (2) أو غيرهم من أنواع العادات التي فيها تخصيصٌ لذلك اليوم على غيره، فإنها من الأمور المنكرة بل المحرمة، إذا كان ذلك من جنس ما يُعَظِّمونه به. وسواء خُصَّ بإحداث أنواعٍ من الأطعمة أو الملابس أو إيقاد النيران، أو توسع النفقات أو غير ذلك.
_________
(1) الأصل: “بحماية”، ولعله ما أثبت.
(2) سقط من الأصل تتمة السؤال وصدر الجواب، فأثبت ما بين المعكوفين ليستقيم السياق.
(7/492)
ودلائل ذلك من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحابته، وكلام علماء الإسلام من جميع الطوائف كثير، ذكرنا منه جانبًا جيدًا في كتابٍ أفردناه في “بيان اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم” (1). وذكرنا فيه من دلائل هذه المخالفة وأسرارها ما يقف به البصير (2) على بعض حقيقة دين الإسلام، والله سبحانه وتعالى أعلم.
***
سئل رضي الله عنه (3): في رجل تعرَّض إلى مكان في ملك بيت المال المعمور، وأخذ أجرة المكان المذكور، وصرفه على مسجد منسوبٍ إليه إلى نفسه بغير مستندٍ شرعيٍّ، ثم توفي المذكور بعد مدة وأخذ أجرة المكان المذكور شخص من ألزامه (4) وصرف الأجرة على مصالح المسجد المذكور على عادته القديمة، فهل يجوز ذلك أم لا؟
وهل يجب استعادة ما أخذه من أجرة المكان الذي في ملك بيت المال، بحكم أنه يتناوله بغير مستند شرعيّ ممن هو الآن متحدث فيه، وقد رسم الإمام ببيع هذا المكان المذكور، فهل يجوز لوكيل بيت المال أن يمتنع من بيعه أم لا؟ وهل يجب إجباره على ذلك إذا امتنع أم لا؟
_________
(1) انظره (2/ 5 ــ 118).
(2) الأصل: “تقف به المصير”، ولعل الصواب ما أثبت، ويحتمل غيره.
(3) المسألة في “مجموع الفتاوى”: (28/ 587 – ) دون ذكر السؤال.
(4) كذا.
(7/493)
وهل يلزم وكيل بيت المال المذكور أن يستعيد أجرة المكان المذكور ممن هو الآن متحدث فيه أم لا؟
أجاب رضي الله عنه:
إذا كان أمر بيت المال مستقيمًا بحيث لا يوضع ماله إلا في حقّه ولا يُمنع مِنْ مستحقه، فمَنْ صَرَف بعض أعيانه أو منافعه في جهة من الجهات التي هي مصارف لبيت المال، كعمارة طريق ونحو ذلك بغير إذن الإمام، فقد تعدَّى بذلك؛ إذ ولايته إلى الإمام، ثم الإمام يفعل الأصلح، فان كان الأصلح للمسلمين نقض ذلك التصرّف نقَضَه، وإن كان [100] الأصلح إقراره أقره. وكذلك إن تصرّف في ملك الوقف أو اليتيم بغير إذن الناظر تصرّفًا من جنس التصرف المشروع، بأن يعمر بأعيان ماله حانوتًا أو دارًا في عرصة الوقف أو اليتيم.
وأما إذا كان أمر بيت المال مضطربًا فقال الفقهاء: مَنْ صَرَف بعضَ أعيانه أو منافعه في جهة بعض مصالحه من غير أن يكون متهمًا في ذلك التصرف، بل كان التصرّف واقعًا على جهة المصلحة، فإنه لا ينبغي للإمام نقض ذلك التصرف، ولا تضمين المتصرِّف، مع أنه لا يجوز معصية الإمام بَرًّا كان أو فاجرًا إلا أن يأمره بمعصية الله، حُكْمُه وقَسْمُه إذا وافق الحق نافذ بَرًّا كان أو فاجرًا.
فالحكم في عقد هذه الإجارة وقَبْض المال وصَرْفه في مصالح المسجد مرتّب على هذا الأصل.
(7/494)
وأما إذا تصرف الرجل تصرفًا يُتَّهم فيه، مثل أن يقبض المال لنفسه متأولًا أن لي حقًّا في بيت المال، وأني لا أُعْطى حقّي فهذا .. (1)
***
مسألة: قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه:
فصل
والتفضيل في الأشخاص والقبائل والأعمال والطرائق والأئمة قد يكون من مَوْرِد الاجتهاد، كالتنازع في الوجوب والتحريم بطريق الأولى. فإذا كان التنازع في الأمر والنهي قد يكون مجْتَهَدًا فيه، فَلَأن يكون التنازع في التفضيل من موارد الاجتهاد أولى وأحرى.
وعلى [كل] واحد من المتنازعين أن ينصف ما (2) يعتقده أنه مفضول، فأما أن يكون مع التفضيل يترك ما يجب للمفضول من الحق فهذا ظلم وتفرق واختلاف، وإنما نشأت الفتنة لأن النفوس مجبولة على طلب الأعلى والأفضل. وقد كتبتُ قبلَ هذا مواضع من القواعد: أنّ أكثر التفضيل الذي في ذوي الديانات العادية إنما هو من عداوة
_________
(1) آخر الجواب في (ف)، وفي الكلام نقص ظاهر، وبعده في الأصل مباشرة: “أي كافرًا أنه إن عاش .. “، وهذا جزء من رسالة في معنى “كل مولود يولد على الفطرة … ” وهي كاملة في “الفتاوى”: (4/ 245 – 248).
(2) الأصل: “يعترف بما” ولعله ما أثبت.
(7/495)
وهوى، لا عن علم وعدل، وأن ذلك يخرجهم إلى أنواعٍ من الظلم والتفرق والاختلاف.
وإن كثيرًا مما يتنازع الناس فيه من التفضيل قد (1) يكون الحقّ فيه استواء الأمرين من غير رُجحان لأحدهما على صاحبه. وأنّ حُكْم الشريعة في ذلك جواز اتباع ذلك كله، وأن لا ينهى أحدٌ عن شيء.
من ذلك: حروف (2) القرآن [120] والذِّكْر والدعاء المشروع، وهذا هو الذي أنكره النبي – صلى الله عليه وسلم – مِنْ تنازُعهم في حروف القرآن، وقال: “اقْرَآ فكلاكما محسن” كما ثبت في “الصحيحين” (3) عن ابن مسعود قال: سمعت رجلاً قرأ وسمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ خلافه (4) فجئتُ به النبي – صلى الله عليه وسلم – (5) فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهة فقال: “كلاكما محسن فلا تختلفوا، فإن مَنْ كان قبلكم اختلفوا فهلكوا”.
_________
(1) الأصل: “وقد”.
(2) الأصل: “الحروف”. وحروف القرآن هي القراءات.
(3) أخرجه البخاري (2410). ولم أجده في مسلم.
(4) الأصل: “خلافهما” خطأ.
(5) “يقرأ خلافهما … وسلم” تكررت في الأصل.
(7/496)
مجموعة فتاوى مختلفة
(7/497)
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
مسألة: في جماعة من النِّساء قد تظاهرنَ بسلوك طريق الفُقَرَاء، وصار منهنَّ شيخات يجتمع عندهنَّ الفُقَراء: الرِّجَال والنِّساء، ويُقِمنَ السماع، ويحضر سماعهُنَّ الرجالُ والنساء، ويرفعن أصواتهن ويقطعن ثيابهن، ويُظهرن التولُّه بين الناس، ويزورهنَّ الرجال والنساء، ومن سائر البلاد، فهل هنّ آثمات بذلك ومخطئات أم لا؟ وما يجب عليهنّ وعلى من يحضر سماعهنّ؟
ومن الناس من يعتقد زيارتهنّ والحضور معهنّ قُرْبة إلى الله تعالى، فهل يأثم بذلك؟ وماذا يجب عليه؟
وهل كانت هذه طريقة أحد من السلف الصالحين أم لا؟ وهل يجب على وليّ الأمر ردعهنّ وردع من يسعى إليهنّ أم لا؟
أجاب بحرُ العلوم وبدر النجوم، سيّد الحُفّاظ، وفارس المعاني والألفاظ، علامة الزمان وترجمان القرآن، البحر الزاخر والصارم الباتر، مفتي الأمم ومستخرجُ المعاني والحكم، بقية السلف وقدوة الخلف، مفتي الأنام وشيخ الإسلام، أبو العباس، تقي الدين، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني. قدس الله روحه ونوَّر ضريحه، وتغمده برضوانه ورحمته، وأسكنه بُحْبوحة جنته، وأقرَّ أعيننا في الآخرة برؤيته:
(7/499)
الحمد لله.
كلّ من خرج عن موجب الكتاب والسنة من الرجال والنساء والمشايخ وغيرهم، فإنه يُنهى عن ذلك ويُؤمر بمتابعة الكتاب والسنة، ولو كان مِنْ حاله ما كان، فإنّ الأحوال منها ما هو شيطانيّ، كما قال الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 ــ 222]، وهذه أحوال أهل الكذب والفجور، الذين تختلط رجالهم ونساؤهم في الرقص والغناء، والشخير والنخير، والتولُّه، وفَتْل الشعور، وكشف الروؤس، والصياح والمنكر، والرُّغاء والإزباد، وإظهار الإشارات؛ كالمسك والماورد واللاذن والجبة والنار، فهؤلاء من شرار الخلق وأبعدهم عن طاعة الله ورسوله، وليس فيهم وليٌّ لله، ولا كرامة من كرامات أولياء الله، بل هم بين حال شيطانيّ وحال بُهتاني.
وأرباب الأحوال النفسانية: قوم لهم جوع وسَهَر وخَلوة، فيحصل لهم نوع من الكشف والتأثير، وإن كانوا كفارًا، كما يحصل للرهبان.
وأما الأحوال الرحمانية، فهي لأولياء الله المتقين، الذين يتقربون إلى الله بأداء الفرائض واجتناب المحارم، ثم يتقرَّبون إليه بالنوافل حتى يحبّهم، كما ثبت في “الصحيح” (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “يقول الله تعالى: مَنْ عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرّب إليّ عبدي
_________
(1) البخاري (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7/500)
بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها؛ فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي، وبي يبطش، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، لا بد له منه”.
فهؤلاء النساء اللواتي يجتمع عندهنّ الرجال والنساء على سماع الغناء، ورفع الأصوات، وإظهار التولُّه، وغيره من المنكرات= يجب على ولاة الأمور وغيرهم منعهنّ من ذلك، وعقوبة من لم يمتنع عقوبةً بليغة تردعهنّ وأمثالهنّ مِنْ أهل الغواية والضلالة. والله تعالى أعلم.
(7/501)
[مسألة] (1)
* وأما عادم الماء إذا لم يجد ترابًا، فإنه يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه عند جمهور العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “جُعِلَت الأرض لي مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره” (2).
وكثير من الطرق التي كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يسافرون فيها قد لا يجدون بها إلا الرمال، وحَمْل التراب بدعة لم يفعله أحدٌ من السلف، فعلم أنه كان عندهم مسجدهم وطهورهم.
***
مسألة
في بلدة ليس فيها حمّام والمغتَسَل خارج البلد، وإذا طلع الرجل وقت صلاة الصبح يجد مشقَّة من البرد، وإن اغتسل بالماء البارد يخاف الضرر على نفسه، فهل له أن يتيمم ويصلي إلى حين يدفأ الوقت أو لا، وله وِرْد من الليل؟ وإن جاز له الصلاة بالتيمم، فهل عليه إعادة؟
_________
(1) من مجموعة المحمودية (ق 25 أ – 25 ب). وهذا الجواب يتضمن عدَّة مسائل، لكن لم يرد في النسخة نص السؤال.
(2) أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه.
(7/502)
الجواب: الحمد لله.
إذا كان الاغتسال في البيت يضرّه، وإذا أخر وِرْده إلى فتح الباب، فإنه مثل أن يكون له قيام بالليل، والباب لا يفتح إلى طلوع الفجر، فإنه يتيمم ويصلي ورده بالتيمم.
وإذا لم يمكنه الاغتسال للفريضة من خشية البرد، فإنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه في الصحيح من قول العلماء.
وإذا كان خروجه للاغتسال خارج البلد يضره؛ لقوة البرد، فإنه يتيمم ويصلي ولا إعادة في الصحيح، ولا يشترط في الضرر خوف الموت، بل متى خاف مرضًا جاز له التيمم، والله أعلم.
***
فصل
السفر الذي يُقْصَر فيه ويفطر فيه، فيه قولان:
أحدهما: أنه محدد.
والثاني: أنه ليس بمحدد.
والذين حددوه منهم من حدّه بثلاثة أيام، ومنهم من حدّه بيومين، ومنهم من حدّه بيوم، ومنهم من حدّه بميل بثلث فرسخ.
وليس على شيء من هذه الأقوال حجة، ولم يحدّ النبي – صلى الله عليه وسلم – له حدًّا، بل ثبت أن أهل مكة كانوا يسافرون من مكة إلى عرفة ومزدلفة ومنى،
(7/503)
ويقصرون الصلاة خلفه وخلف أبي بكر وعمر، وكان يقرُّهم على ذلك، ولم يقل لهم: أتمّوا صلاتكم إنا قوم سفر. [و] لا خليفتاه من بعده.
وإنما رُوِي أنه قال ذلك لما صلى بهم بمكة عام الفتح. وكذلك عمر قال ذلك لأهل مكة في نفس مكة.
وأما بعرفة ومزدلفة فلم ينقل أحدٌ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال ذلك، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، مع توفّر الهِمَم والدواعي على نقل مثل ذلك لو وقع. ولو كان أهل مكة يقومون حين السلام يصلون ركعتين آخرتين لكان هذا مما يظهر لكل الناس، وكان مثل هذا مما يمتنع في الشريعة والعادة أن لا ينقله أحد.
فهذه سنة معلومة قطعًا: أن المسافر يقصر في مقدار بريد، وهو أقل من يوم، والكتاب والسنة مطلق، فما كان في العادة سفرًا أفطر فيه وقصر، وإن أقام بالبلد أيامًا، فقد أقام النبي – صلى الله عليه وسلم – بمكة بعد الفتح عشرة أيام يفطر وهو في نفس مكة، وأقام نحو تسعة عشر يومًا يقصر، وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر، وبسط هذا له موضع آخر. والله أعلم.
وقال أيضًا:
وأما رفع اليدين في الصلاة مع كل تكبيرة حتى في السجود، فليست هي السنة التي كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يفعلها، ولكن الأئمة متفقة على أنه يرفع اليدين مع تكبيرة الافتتاح.
وأما رفعها عند الركوع والاعتدال من الركوع، فلم يعرفه أكثر فقهاء
(7/504)
الكوفة، كإبراهيم النخعي، وأبي حنيفة، والثوري، وغيرهم.
وأما أكثر فقهاء الأمصار وعلماء الآثار، فإنهم عرفوا ذلك؛ لما استفاضت به السنة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، كالأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد، وهو إحدى الروايتين عن مالك. فإنه قد ثبت في “الصحيحين” (1) من حديث ابن عمر وغيره أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك بين السجدتين.
وثبت هذا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في “الصحيح” من حديث مالك بن الحويرث (2)، وأبي حُمَيد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أحدهم أبو قتادة (3)، وهو معروف من حديث علي بن أبي طالب، وأبي هريرة، وعددٍ كثير من الصحابة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (4).
وكان ابن عمر إذا رأى من يصلي ولا يرفع يديه في الصلاة حَصَبه (5).
_________
(1) أخرجه البخاري (735)، ومسلم (390).
(2) أخرجه البخاري (737)، ومسلم (391).
(3) هو في البخاري (828) مختصرًا، وأخرجه مطولا أبو داود (730).
(4) انظر أحاديثهم في كتاب “رفع اليدين في الصلاة” (ص 8 – 26 – بتحقيقي) لابن القيم.
(5) أخرجه الحميدي في “مسنده” (627)، ومن طريقه البخاري في “رفع اليدين” (ص 53).
(7/505)
وقال عُقبة بن عامر: له بكل إشارة عشر حسنات (1).
***
[مسألة في إجبار البكر البالغ]من كلام الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية ــ أيضًا ــ رحمه الله:
قال: البكر البالغ في إجبار الأب لها على النكاح قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد:
أحدهما: تُجْبَر، وهو قول مالك والشافعي.
والثاني: لا تُجْبَر، وهو قول أبي حنيفة، وهو الراجح في الدليل.
وعلى الأول إذا عيَّنَتْ كفوًا وعيّن الأب كفوًا آخر، فالاعتبار بتعيينها في أظهر الوجهين من مذهب الشافعي وأحمد. فعلى هذا إذا طلبت من الأب أن يزوجها بكفؤ، واختار الأب أن يزوجها بكفؤ آخر، وجب على الأب أن يزوجها بالكفؤ الذي تختار عند أكثر العلماء، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم.
فإن امتنع الأب من تزويجها زوَّجها إما الحاكم، وإما الوليّ الأبعد. ففي مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين يزوجها الحاكم. وفي
_________
(1) ذكر الأثر الإمام أحمد في “مسائل عبدالله” (323). وأخرجه الطبراني في “الكبير” (17/ 297) بلفظ مقارب. وحسنه الهيثمي في “المجمع”: (2/ 272).
(7/506)
مذهب أبي حنيفة وأحمد ــ في الرواية المشهورة عنه ــ يزوجها الوليّ الأبعد.
وإذا زوّجها الحاكمُ بالكفؤ الذي اختارته ثم زوّجها الأبُ الآخرَ بغير إذنها، فنكاح الأب باطل عند عامة العلماء، ونكاح الحاكم نافذ، ليس لحاكم آخر ولا للأب نقضُه، بل يجب تسليم المرأة إلى زوجها بمقتضى تزويج الحاكم لها من الكفؤ الذي عيّنته.
أما على مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين فظاهرٌ؛ لأن الولاية للحاكم. وأما على قول من يجعل الولاية لغيره، فلأنّ الحاكم إذا فعل ما يسوغ فيه الاجتهاد، كان فعله حُكمًا منه في محلّ الاجتهاد في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وأظهر الوجهين في مذهب أحمد وغيره.
وفيه وجهٌ آخر في مذهب أحمد والشافعي: أنه إذا فَعَل مختَلَفًا [فيه] فهو كفعل غيره حتى يحكم هو أو حاكمٌ غيره بصحته، فلا يسوغ نقضه حينئذٍ بالاتفاق. فإذا قال الحاكم في مثل هذا: حكمتُ بصحة هذا النكاح، نفَذَ حكمُه باتفاق الأئمة، وكذلك إن لم يقل ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في الراجح من مذهبه. والله أعلم.
* * *
(7/507)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذه مجموعة جديدة من مسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وفصوله وقواعده، عثرتُ عليها في مجاميع متفرقة سيأتي وصفها، واستخرجت كثيرًا منها من مسوّدات الشيخ التي يصعب قراءتها، وبعضها من “الكواكب الدراري” ومجاميع أخرى.
وفي هذه المجموعة صيغة جديدة من “حكاية المناظرة في الواسطية” (ص 181 ــ 198) التي كانت في مصر سنة 705، وفيها فوائد وزيادات لا توجد في الصيغة الأخرى التي نُشِرت في “العقود الدرية” (ص 206 ــ 248) وفي “مجموع الفتاوى” (3/ 160 ــ 193). وكان الشيخ رحمه الله يُطلب منه مرارًا أن يكتب ما جرى في المناظرة، فيكتب كل مرةٍ ما يتذكره ويعتبره مفيدًا للسائل، كما كتب أصحاب الشيخ أيضًا حكاية هذه المناظرة، مثل أخيه: الشيخ عبد الله ابن تيمية (مجموع الفتاوى 3/ 202 ــ 210) وعلم الدين البرزالي (مجموعة الرسائل الكبرى 1/ 415 ــ 421، مجموع الفتاوى 3/ 194 ــ 201) وابن عبد الهادي (العقود ص 203 ــ 205) وابن كثير (البداية والنهاية 18/ 53 ــ 54) وغيرهم. وقال ابن كثير: “ولقد رأيتُ فصلاً من
(مقدمة 8/5)
كلام الشيخ تقي الدين في كيفية ما وقع في هذه المجالس الثلاثة من المناظرات”. فربما يكون المقصود منه ما ننشره هنا أو المنشور سابقًا.
ومما حوته المجموعة: “فصل في آية الربا” (ص 269 ــ 330)، وقد ذكره ابن رُشَيِّق في “أسماء مؤلفات الشيخ” (ص 285 من “الجامع لسيرة شيخ الإسلام”) ضمن الآيات والسور التي فسَّرها الشيخ، فقال: “وفي آيات الربا، وتكلم فيها على ربا الفضل، نحو ثلاثين ورقة”. وهو الفصل الذي ههنا. وقد استفاد منه ابن القيم في “إعلام الموقعين” (2/ 135 ــ 146) ونقل منه فقرات كثيرة دون أن ينسبها إلى شيخه، وهذا منهجه المعروف في سائر كتبه.
وذكر ابن رُشَيِّق أيضًا (ص 287) ضمن الآيات التي فسرها الشيخ قوله تعالى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} [يونس: 98]. وتفسير هذه الآية هو المنشور ههنا (ص 361 ــ 392) بعنوان “فصل في توبة قوم يونس”، وقد أطال فيه الشيخ الكلامَ على الاستثناء المذكور في الآية، وتناول آراء المفسرين بالدراسة والنقد، ورجح ما ذهب إليه بأدلة من السياق واللغة والآيات الأخرى. وهو مبحث جليل لا يوجد مثله في كتب التفسير ومعاني القرآن إلّا نادرًا.
ومما يُنشر في هذه المجموعة: “مسألة في النسبة إلى الخرقة” (ص 405 ــ 412). ويبدو لي أنها كانت أطول مما وُجِد في الأصل المعتمد، فإن الشيخ لم يُفصّل هنا في هذا الموضوع كما كان يُنتظر منه.
(مقدمة 8/6)
وقد ذكر ابن عبد الهادي (العقود الدرية ص 43) وابن رشيق (أسماء مؤلفات الشيخ ص 298) من مؤلفاته: “قاعدة في لباس الخرقة هل له أصل شرعي؟ “، ويمكن أن تكون هي المنشورة هنا بصورة مختصرة، وينبغي البحث عن نسخة تامة منها ضمن المجاميع المخطوطة.
ومما يُذكر بهذه المناسبة أن ابن ناصر الدين الدمشقي ذكر في كتابه “إطفاء حرقة الحوبة بإلباس خرقة التوبة” (كما نقل عنه يوسف بن عبد الهادي المعروف بابن المبرد في “بدء العلقة بلبس الخرقة” ص 136 طبعة عمان 1423) أن شيخ الإسلام قال: “وقد كنتُ لبستُ خرقة التصوف من طرف جماعة من الشيوخ، من جملتهم: الشيخ عبد القادر الجيلي، وهي أجل الطرق المشهورة”.
وذكر جمال الدين عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أبي العلاء الطلياني في “ترغيب المتحببين في لبس خرقة المتميزين” (الورقة 67 أ من مخطوطة جامعة برنستون 3296) أن شيخ الإسلام قال في جوابه عن المسألة التبريزية: “لبستُ الخرقة المباركة للشيخ عبد القادر، وبيني وبينه اثنان”.
هذه النصوص من كلام الشيخ تدل على أنه كان في أول حياته لبس خرقة التصوف، ولو وصلت إلينا رسالته المشار إليها كاملةً لعرفنا موقفه من لباس الخرقة، ورأيه الذي استقر عليه، وقد قال في مجموع الفتاوى (11/ 510): “إن هذه ليس لها أصل يدلُّ عليها الدلالة المعتبرة من جهة
(مقدمة 8/7)
الكتاب والسنة، ولا كان المشايخ المتقدمون وأكثر المتأخرين يُلبِسونها المريدين، ولكن طائفة من المتأخرين رأوا ذلك واستحبوه”. ثم ناقش بعض الأدلة التي يستدلون بها وقال: “هذا ونحوه غايته أن يُجعل من جنس المباحات، فإن اقترن به نية صالحة كان حسنًا من هذه الجهة. وأما جعلُ ذلك سنةً وطريقًا إلى الله سبحانه وتعالى فليس الأمر كذلك”.
ونظير هذه المسألة أن الشيخ كان في أول حياته ممن يُحسِن الظن بابن عربي ويعظّمه، كما ذكر ذلك في مجموع الفتاوى (2/ 464)، ثم لما قرأ كلامه في “فصوص الحكم” غيَّر رأيه فيه، وانتقده بشدة بل كفَّره، وألَّف في الرد عليه كتبًا عديدة.
وفي القسم الأول من هذه المجموعة فصول وقواعد من مسوَّدات شيخ الإسلام بخطه المعروف، ولم أجد عند ابن رشيق وابن عبد الهادي وغيرهما إلا ذكر رسالة واحدة منها، وهي: “قاعدة أن جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم” (أسماء مؤلفات الشيخ ص 305، العقود الدرية ص 44)، والمنشورة هنا (ص 44 ــ 48). ويكفي لصحة نسبة هذه الفصول والقواعد لشيخ الإسلام أنها مكتوبة بخط يده، وإن لم يذكرها المترجمون له.
وصف الأصول المعتمدة:
* اعتمدتُ في إخراج القسم الأول من هذه المجموعة على مجلّد يوجد بدار الكتب الظاهرية بدمشق [3805 عام]، وهو من مجاميع
(مقدمة 8/8)
المدرسة العمرية برقم 69، يضمُّ عددًا كبيرًا من الفصول والتعاليق في موضوعات مختلفة في 328 ورقة، وكله بخط شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد كتبها الشيخ في أثناء إقامته بمصر في السنوات (705 ــ 712)، كما يظهر من الورقة (146 أ) التي هي صفحة العنوان لهذه المجموعة، حيث كتب عليها: “قواعد مصرية”. ويبدو أنها جُمعت وجلّدت دون ترتيبها بعناية، فقد وقع فيها اضطراب في ترتيب الأوراق في مواضع كثيرة.
وقد طبع منه كثير من الفصول والرسائل ضمن “مجموع الفتاوى”، وقمت باستخراج بقية الفصول والقواعد ونشرها في هذه المجموعة، وإكمال بعض ما نُشِر ناقصًا في “مجموع الفتاوى”. وهذا بيان محتويات هذا القسم ومواضعها من الأصل:
1 – فصل في ذكر الله تعالى ودعائه (ق 8 أ ــ 9 أ).
2 – فصل: قرن الله بين الكتاب والصلاة … (ق 9 أ).
3 – فصل: قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا … } (ق 28 أ).
4 – فصل: حديث حكيم بن حزام المتفق عليه “إن هذا المال خضرة حلوة … ” (ق 31 أ ــ ب).
5 – فصل: احتج بعض المبطلين على جواز السجود لغير الله .. (ق 32 أ).
(مقدمة 8/9)
6 – فصل: حركات العباد بقلوبهم وأبدانهم لابدّ لها من غاية (ق 46 ب).
7 – شبه الإباحية (ق 50 ب).
8 – فصل: تقول طائفة من أهل الكلام … (ق 73 أ).
9 – فصل: قال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ … } (ق 77 أ ــ 79 أ).
10 – قاعدة: بعث الله محمدًا بالهدى ودين الحق .. (ق 80 أ).
11 – فصل جامع: أن جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم (ق 113 أ ــ ب).
12 – قاعدة في الإجبار على المعاوضات (ق 125 أ).
13 – فصل في ثواب الحسنات والسيئات (ق 129 أ ــ 130 ب).
14 – فصل: قال تعالى في سورة النساء … (ق 134 أ ــ ب).
15 – فصل: ثبت في الصحيح .. “ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس … ” (ق 144 أ ــ ب).
16 – فصل: أثبت أئمة السنة الحدَّ (ق 145 أ).
17 – فصل: الهجرة المشروعة (ق 145 ب).
18 – قاعدة في جماع الدِّين (ق 146 ب ثم 105 أ).
19 – فصل: في أن الناس اختلفوا في مسمى الإنسان (ق 147 ب).
(مقدمة 8/10)
20 – فصل: قال تعالى فيما ذكره من موعظة لقمان لابنه (ق 157 أ ثم 156 ب ثم 156 أ).
21 – فصل: قاعدة: أن النفس بل وكلّ حي له قوتان .. (ق 158 ب ــ 159 ب).
22 – فصل: باعتبار القوى الثلاث انقسمت الأمم … (ق 160 ب ثم 160 أ).
23 – فصل: المشهور عند أهل السنة أنه لا يحبط العملَ إلّا الكفر (ق 167 أ ــ ب).
24 – فصل: قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ … } (ق 195 أ).
25 – قوله في حديث الكرب الذي رواه أحمد (ق 195 ب).
26 – فصل: مما يبين أن طريقة أتباع الأنبياء .. (ق 199 أ ثم 198 ب). نشرت منه صفحتان في “مجموع الفتاوى” (6/ 66 ــ 67).
27 – فصل عظيم المنفعة في أمر المعاد (ق 223 أ ــ 225 ب).
28 – فصل: قول من يقول: “إن لله عبادًا يرضى لرضاهم ويغضب لغضبهم” حق .. (ق 235 أ).
29 – فصل: الحروف والأصوات المكتوبة والمسموعة … ثلاثة أقسام (ق 244 أ ــ 245 ب).
(مقدمة 8/11)
30 – فصل: في بعض الشرح والتقرير لقاعدة أهل السنة والجماعة … (ق 255 أ ــ ب).
31 – قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} … (ق 275 أ ــ ب).
32 – في المثل والكفو في الكتاب والسنة ولغة العرب (ق 276 أ).
33 – أصل كلي جامع [في الشهادتين] (ق 276 ب ثم 43 أ ــ 46 ب).
• وفي هذا المجموع أيضًا “حكاية المناظرة في الواسطية” (ق 261 أ ــ 262 ب ثم 297 أ ــ ب) التي سبق ذكرها.
• “فصل: أصل الإيمان والهدى ودين الحق هو الإيمان بالله ورسوله”: توجد نسخته الخطية ضمن المجلد 39 من “الكواكب الدراري” لابن عروة في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [567] (الورقة 89 ب ــ 92 أ)، وكتب هذا المجلد من الكواكب سنة 827 بخط نسخي دقيق، وناسخه إبراهيم بن محمد بن محمود بن بدر الحنبلي. والنسخة واضحة الخط، نادرة الأخطاء، ومقابلة ومصححة على الأصل المنسوخ منه.
• “فصل: وصف الله أفضلَ أهل السعادة بالإيمان والهجرة والجهاد”: يوجد ضمن النسخة المذكورة من “الكواكب” (ق 92 أ ــ 94 أ).
(مقدمة 8/12)
• “فصل في الكلام على النِّعم، وهل هي للكفار أيضًا”: توجد نسخته الخطية في دار الكتب الظاهرية بدمشق [3873 عام] (الورقة 74 أ ــ 91 ب)، وهي ضمن مجاميع المدرسة العمرية برقم 138. وهذا الفصل ينقص من أوله ورقة أو أكثر، وهو بخط مغربي، وجاء في آخره: “فرغتُ من تعليقها بالتربة مجاورة الجامع الأعظم بمدينة حُبْراص ــ عمرها الله ــ يومَ الأربعاء العاشر لربيع الثاني سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، على يدي محمد بن باصر (؟) الفقيه … “. وكتب في الهامش هناك: “بلغ مقابلةً بأصلها المنقول منه قدر الاستطاعة، والحمد لله”.
• “فصل في آية الربا”: توجد منه نسختان، الأولى في برلين برقم [3968] (الورقة 43 ــ 64) ضمن مجموعة من فتاوى ومسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولعلها من مخطوطات القرن الثالث عشر. والثانية في دار الكتب المصرية برقم [695] (الورقة 129 ــ 146) ضمن أجوبة الشيخ. وهي بخط نسخي جيد، ولا يوجد عليها تاريخ النسخ، ويبدو أنها متأخرة.
• “فصل في أنه ليس في القرآن لفظة زائدة لا تفيد معنى”: توجد منه نسختان: الأولى في مكتبة جامعة السند بباكستان برقم [36378]، وهي في 22 ورقة، بخط نسخي جيد، وهي نسخة متأخرة لعلها كُتبت في القرن الثالث عشر، وفيها بعض الأخطاء والتحريفات. والثانية في مكتبة الشيخ بديع الدين شاه الراشدي في السند بباكستان، في 15 ورقة بخط فيض محمد نظاماني، في القرن الرابع عشر. وفيها أيضًا أخطاء
(مقدمة 8/13)
وسقط في مواضع. وقد اعتمدتُ النسخة الأولى أساسًا، ولم أعدل عنها إلّا إذا كان فيها خطأ أو تحريف أو سقط. ويوجد في “مجموع الفتاوى” (15/ 276 ــ 279) من هذا الفصل قطعة صغيرة، استفدت منها في تصحيح بعض الأخطاء الموجودة في الأصل.
• “فصل في توبة قوم يونس”: نسخته الخطية ضمن المجلد 39 من “الكواكب الدراري” (الورقة 82 ب ــ 87 ب) بدار الكتب الظاهرية بدمشق [567]، وقد سبق وصفها.
• “مسألة عن رجل يزعم أنه شيخ ويتوِّب الناسَ ويأمرهم بأكل الحية .. “: توجد ضمن مجموعة فتاوى شيخ الإسلام المخطوطة في المكتبة القادرية ببغداد [491] في 193 ورقة، بخط محمد بن علي بن الملا أحمد سبته الذي فرغ من نسخها في 21 من شعبان سنة 1306.
• “مسألة في النسبة إلى الخرقة” هي ضمن المجلد 39 من “الكواكب الدراري” الذي سبق وصفه، وهذه المسألة مكتوبة بخط مختلف عن خط بقية المجلد، وهو أمرٌ مألوف في مجلدات هذا الكتاب التي يشارك أحيانًا في نسخ مجلدٍ واحدٍ منها عدةُ أشخاص بخطوطهم. وقد سبق الكلام على هذه المسألة وما يتعلق بها.
• “مسألة في الحضانة”: هي من المجلد 101 من “الكواكب الدراري” (ص 110 ــ 116) المصور على الميكروفلم برقم [7149] في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. وفي هذا المجلد رسائل
(مقدمة 8/14)
وفتاوى كثيرة للشيخ نُشر أغلبها ضمن “مجموع الفتاوى”. وقد نُسخ هذا الجزء عن أصله الموجود في المكتبة الظاهرية بدمشق، كما ذكره الناسخ في آخره: “تم هذا الجزء على يد الحقير حامد بن الشيخ أديب ابن الشيخ أرسلان الشهير لقبًا بالتقي، الأثري مذهبًا، الحسيني نسبًا في 18 ربيع الثاني سنة 1327، في المكتبة العمومية الكائنة بدمشق الشام في تربة الملك الظاهر (من فقه الحنابلة نمرة 67) “. ثم كتب: “تم مقابلةً على حسب الاستطاعة على يد حامد التقي في … جمادى الأولى سنة 1327”.
• “مسائل مختلفة”: جمعتُ تحت هذا العنوان بعض المسائل الصغيرة التي وجدتها في المجاميع، وأصولها كما يلي:
1 ـ سئل عمن تصيبه جنابةٌ والماء يضره، أو يكون مجروحًا، هل يجوز له أن يصلي بالتيمم أو يقرأ القرآن.
ضمن مجموعة بدار الكتب الظاهرية بدمشق [3874 عام] (الورقة 74). وهي من مجاميع المدرسة العمرية برقم 139، فيها فتاوى شيخ الإسلام وغيرها. انظر أهم محتوياتها في “فهرس مجاميع المدرسة العمرية في دار الكتب الظاهرية بدمشق” (ص 707 ــ 714).
2 ـ مسألة في رجل دخل في الصلاة وقد أحرم الإمام، ثم ركع الإمام، وقد قرأ الرجل بعض الفاتحة، ولم يتبع الإمام في الركوع حتى قرأ بقية الفاتحة.
(مقدمة 8/15)
توجد ضمن مجموعةٍ بدار الكتب الظاهرية بدمشق [3873 عام] (الورقة 126 أ ــ ب). وهي من مجاميع المدرسة العمرية برقم 138. انظر أهم محتوياتها في “فهرس مجاميع المدرسة العمرية” (ص 704 ــ 707).
3 ـ مسألة في رجل أدرك الصلاة مع إمام من المسلمين، فلم يصلّ معه، وقال: أنا لا أصلي إلّا خلف من يكون من أهل مذهبي، وفي رجلٍ سئل عن مذهبه فقال: مذهبي اتباع الكتاب والسنة، وفي رجل عُرِض عليه حديث صحيح، فأنكره.
أصلها في دار الكتب الظاهرية بدمشق [3873 عام] (الورقة 126 ب، 132، 129، 127، 128). وهي مضطربة الأوراق في الأصل كما نرى. والمجموعة من مجاميع المدرسة العمرية برقم 138. وآخر هذه الفتوى ناقص، ولم نجد لها نسخة أخرى.
4 ـ مسألة في جماعة حنفية لهم إمام شافعي، فهل تصحّ صلاتهم خلفه أم لا؟
هي أيضًا من المجموعة السابقة [3873 عام] (الورقة 120، 117، 131) مضطربة الأوراق.
5 ـ مسألة في إمام مدمن الخمر، هل تصحّ الصلاة خلفه؟ وما صفة مدمن الخمر؟
هي أيضًا من المجموعة السابقة [3873 عام] (الورقة 131 أ).
(مقدمة 8/16)
6 ـ مسألة عن امرأة لم تكن تعرف تصلي، أين تكون من زوجها في الآخرة؟
هي ضمن مجموعة الفتاوى المخطوطة في المكتبة القادرية ببغداد [491]، التي سبق وصفها.
7 ـ مسألة في عرب البادية الذين يكونون دائمًا في حلّ وترحال، هل يحل لهم القصر؟
ضمن المجموعة السابقة المخطوطة في المكتبة القادرية.
8 ـ مسائل متفرقة.
هي سبع مسائل صغيرة ضمن المجموعة السابقة.
وفي الختام أحمدُ الله تعالى على أنه وفقني لإخراج هذه المجموعة، وأدعوه أن يعينني على إخراج ما وصل إلينا من تراث شيخ الإسلام مما لم ينشر ضمن “مجموع الفتاوى”، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
محمد عزير شمس
بمكة المكرمة في 29/ 4/1431
(مقدمة 8/17)
نماذج من النُّسخ الخطيَّة
(مقدمة 8/19)
جامِعُ المَسائلِ
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية
(661 – 728)
(المجموعة الثامنة)
تحقيق
محمد عزير شمس
(8/1)
فصول وقواعد
(من مسوّدات شيخ الإسلام ابن تيمية)
(8/4)
فصل
في ذكر الله ودعائه
الفاتحة نصفها ثناء وذكر، ونصفها دعاء ومسألة.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114].
قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151 – 152].
وفي ذكر إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} الآيات [البقرة: 127].
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة: 186] أي ليستجيبوا لي إذا أمرتهم، وليؤمنوا أني استجبتُ لهم إذا دَعَوني. ولهذا قيل: الإجابة تحصل من كمالِ الطاعة أكثر من الاستجابة، أو كمالِ المعرفة أكثر من الإيمان.
وقال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} إلى قوله: {فَإِذَا
(8/5)
قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 198 – 200]. قال عطاء (1): كقول الصبي أَبَهْ أُمَّهْ. إلى آخر الكلام.
وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] إلى آخر السورة.
وقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} إلى قوله: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 38 – 41].
وقال: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [آل عمران: 147] الآيتين (2).
وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190] إلى آخر السورة.
وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} الآية [النساء: 103].
{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} الآية [النساء: 142].
وقال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4].
_________
(1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2/ 356).
(2) كذا في الأصل، والدعاء في آية واحدة.
(8/6)
وقال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].
وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].
وقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الآية [الأعراف: 180].
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].
وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].
وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} الآية [الأنفال: 9].
وقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} الآية [التوبة: 112].
وقال: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12].
وقال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} إلى قوله: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 2 – 3].
(8/7)
وقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
وقال: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} الآية [إبراهيم: 24].
وقال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} إلى قوله: {لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 35 – 39] وما بعده.
وقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98].
وقال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].
وقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} إلى قوله: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46].
وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} الآية [الإسراء: 56].
وقال: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67].
وقال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} الآية [الإسراء: 110].
{وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
(8/8)
وقال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 – 24].
وقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} إلى قوله: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28].
وقال: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39].
وقال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46].
وقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} إلى قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 3 – 4].
وقال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} الآية [الأنبياء: 87].
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} الآية [الحج: 28].
وقال: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ} إلى قوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 35].
وقال: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36].
(8/9)
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97].
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} إلى قوله: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} الآية [المؤمنون: 109 – 118].
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36].
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ} [الفرقان: 60 – 65] في موضعين.
{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16].
{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35].
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 – 42].
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35].
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75].
(8/10)
{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100].
{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} الآية [الزمر: 45].
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55].
{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200].
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6].
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 26].
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف: 36].
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39].
{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78].
{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8].
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3].
{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45].
(8/11)
فصل
كل واحدٍ من اسمي الذكر والدعاء يتناول الآخر، فالداعي لله ذاكرٌ له، وهذا ظاهر، والذاكر لله داعٍ له أيضًا، كما يقال: «أفضل الدعاء يومَ عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» (1)، ودعاء الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ربّ العرش الكريم» (2). وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «دعوة ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ما قالها مؤمنٌ إلا فرَّج الله عنه» (3).
وكتاب «الدعاء» للطبراني مشتمل على أنواع الأذكار، والفقهاء يسمُّون الأذكار التي في الصلاة أدعية، فيقولون ــ كابن بطة ــ: ما كان من الدعاء ثناء على الله، وما كان مسألةً للعبد.
_________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4072) عن أبي هريرة، وضعَّفه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 117) وابن عدي في الكامل (4/ 1600).
(2) أخرجه البخاري (6345، 6346)، ومسلم (2730) عن ابن عباس.
(3) أخرجه بهذا اللفظ ابن السني في عمل اليوم والليلة (344) عن سعد بن أبي وقاص بإسنادٍ ضعيف جدًّا. وأخرجه أحمد (1/ 170) والترمذي (3505) والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (565) بلفظ: «لم يدعُ بها مسلمٌ ربَّه في شيء قطُّ إلّا استجاب له». وإسناده حسن، وصححه الحاكم (1/ 505) ووافقه الذهبي.
(8/12)
وهذا كما أن لفظ «الصلاة» في اللغة بمعنى الدعاء. وقال ابن مسعود (1): ما دُمتَ تذكرُ الله فأنتَ في صلاةٍ، ولو كنتَ في السوق. فلفظ الصلاة يتضمن الثناءَ والدعاء، كما قال الله: «قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين» (2).
فأما الذكر فهو مصدر ذكَرَ يذكرُ ذِكرًا، وهذا يقال في الخبر الذي هو الثناء، وأما الطلب والسؤال فلأن فيه ذكر المسؤول المدعو فيُطلَق عليه الذكر.
وأما إطلاق لفظ الدعاء على الثناء وذكر الله فلوجوه:
أحدها: أن المُثنِي يتعرض لرحمة الله من جلب المنفعة ودفع المضرة، فصار سائلًا بحالِه وإن كان مُثنيًا بقالِه. وهذا جواب سفيان بن عيينة (3)، واستشهد بحديث مالك بن الحويرث (4) وشعر أمية بن أبي
_________
(1) ذكره الشيخ في مجموع الفتاوى (14/ 215) واقتضاء الصراط المستقيم (1/ 94)، ونسبه إلى أبي الدرداء في مجموع الفتاوى (32/ 232).
(2) أخرجه مسلم (395) عن أبي هريرة.
(3) رواه ابن عبد البر في التمهيد (6/ 43 ــ 45). وانظر: مجموع الفتاوى (10/ 245).
(4) في التمهيد (6/ 44): «مالك بن الحارث». وهو الصواب، وهو تابعي ثقة، روى عنه منصور الحديثَ القدسي: «إذا شغلَ عبدي ثناؤه عليَّ عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أعطي السائلين». وذكر سفيان إسناده إليه. أما «مالك بن الحويرث» فهو صحابي ولم يُروَ عنه حديث في هذا المعنى.
(8/13)
الصلت (1).
وتحقيق ذلك أن الثناء (2) المتضمن لمعرفة المسؤول وجوده ورحمته، يُورث اللجأَ إليه والافتقارَ إليه والرغبةَ إليه، أعظمَ بكثيرٍ مما يُوجِبُه مجردُ السؤالِ الخالي عن تلك المعرفة والحال. وهكذا الأمر من جانب المعطي، فإن معرفته بحال المُعطَى وصفاتِ استحقاقِه تُوجِب إعطاءَه أعظمَ مما يكون بمجرد السؤال باللسان. ولهذا يكون إظهارُ الفاقةِ والفقرِ إلى الله والحاجةِ والضرورةِ فقط أبلغَ من سؤال شيء معين.
فهذا في إخبار العبد بحالِ نفسِه وإقراره بذلك واعترافِه نظيرُ إخبارِه بصفات ربه وثنائه عليه ومدحِه له، وكلاهما خبرٌ يتضمن الطلب. وهذا نوع واسعٌ من الكلام، وهو الخبر المتضمن للطلب، كما أن الطلب يتضمن الخبر.
وهذا الوجه يتضمن وجهين:
أحدهما: أن الثناء والإخبار كلّه لفظُه لفظ الخبر ومعناه الطلبُ والسؤال حقيقة عرفية، كما يقول الابن لأبيه: أنا جائع، ويقول السائل
_________
(1) قوله في ديوانه (ص 332) والحماسة (2/ 395، 396):
أأطلبُ حاجتي أم قد كفاني … حياؤك إن شِيْمتَك الحياءُ
إذا أثنى عليك المرء يومًا … كفاه من تعرُّضِه الثناءُ
(2) في الأصل: «الدعاء الثناء». ولعل الشيخ نسي الضرب على «الدعاء».
(8/14)
للمسؤول: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115]، كما قد قيل: إن لفظ الخبر يكون أمرًا، وهو كثير (1).
الثاني: أن المُثنِي بنفس ثنائِه سائلٌ بحالِه، فهو جامع بين الثناء القولي والسؤال الحالي، فهو يقصد الثناء والطلب، بخلاف الأول فقصدُه الطلب فقط بلفظ الثناء.
الوجه الثالث: أن الدعاء يُراد به دعاء العبادة ودعاء المسألة، كما قد قررتُه في غير هذا الموضع وبسطتُه. فالمُثني والذاكر داعٍ دعاءَ الصلاة وإن لم يكن سائلًا، ثم يُعطَى أفضلَ مما يُعطاه غيرُه.
فالناطق بلفظ الثناء والذكر له ثلاثة أحوال: إما أن يقصد المسألةَ فقط، وإما أن يقصد اللهَ فقط، وإما أن يقصدهما. ثم إنه وإن قَصَدَ أحدَهما فلا بدَّ أن يحصل الآخر، كما أن السائل بلفظ السؤال لابدَّ أن يحصل له أيضًا تعظيمُ القلبِ ومعرفتُه وخشوعُه، لكن الذي قصد الله وعَبَدَه جعلَ ما سواه وسيلةً إليه، والذي لا يُريد إلا قضاءَ حاجته جعل الله وسيلةً إلى مقصودِه، وهو عابدٌ لله، حيثُ عَلِمَ أن الله هو النافع والضارُّ، لا إلهَ غيرُه ولا ربَّ سِواه.
_________
(1) كما في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، فقوله: {آمِنًا} خبر بمعنى الأمر، أي: أمِّنوه.
(8/15)
فصل
قرن الله بين الكتاب والصلاة في مواضع:
كقوله في أول ما أنزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، وذكر في أثنائها الصلاةَ، وختَمها بقوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق 19] (1).
وقوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].
وقوله: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45].
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [فاطر: 29].
وقرنَ بين ذكرِ الله والقرآن في مواضع:
كقوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].
وقوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16].
_________
(1) انظر ما سيأتي (ص 38، 77).
(8/16)
فصل
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، وقال تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] في سورة، وقال عن مُسْلِمة النصارى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53]. قال ابن عباس (1): مع محمد وأمته. فلما ثبت لهم وصف الشهادة بالتوسط الذي هو العدل كانوا شهداء مقبولي القول على أهل ملتهم وغير أهلِ ملتهم، بخلاف غيرهم من الملل، فإنه لا تُقبل شهادتهم على من سواهم، لأن الله جعل الشهادةَ على الناس مختصةً بهذه الأمة، وجعلَ الشهادةَ على الناس كرامةً لهم وفضيلةً امتازوا بها.
ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أصحابنا وغيرُهم عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لا تجوز شهادةُ ملةٍ على مَن سواهم إلَّا أمتي، فإنه تجوز شهادتهم على من سواهم» (2).
_________
(1) كما في تفسير ابن المنذر (521) وابن أبي حاتم (2/ 660) والمعجم الكبير للطبراني (11732).
(2) أخرجه الدارقطني في السنن (5/ 121) طبعة الرسالة، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 163) عن أبي هريرة، وضعَّفاه. وفي إسناده عمر بن راشد، قال البيهقي: ليس بالقوي، قد ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما من أئمة النقل.
(8/17)
وأهل الإسلام المحض هم أهل السنة والحديث، وهم (1) …..
_________
(1) في الأصل بعده سطر مبتور في التصوير.
(8/18)
فصل
حديث حكيم بن حزام المتفق عليه (1) لما قال له: «يا حكيم، إن هذا المال خَضِرةٌ حلوةٌ، فمن أخذه بسخاوةِ نفسٍ بُورِك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفسٍ لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يَشبَعُ، واليد العليا خير من اليد السفلى»، قال حكيم: فقلت: يا رسولَ الله! والذي بعثك بالحق لا أَرْزَأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا. فكان أبو بكر يدعو حكيمًا لِيُعطيه العطاء، فيأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم إن عمر دعاه لِيُعطيه، فيأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين ــ وفي رواية: إني أشهدكم يا معشر المسلمين ــ إني أعرِضُ على حكيم حقَّه الذي قسَم الله له في هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه. فلم يَرْزَأ أحدًا من الناس بعد النبي – صلى الله عليه وسلم -.
قلت: هذا نصٌّ في جواز عدم الأخذ إذا عُرِضَ على الرجل المالُ وإن كان حقّه، كمال الفيء. وقد سُئل أحمد مرةً عن الحجة في الردّ، فلم يحضُرْه إذ ذاك من السنة، مع كثرة ردّه.
وقوله: «لا أَرْزَأ» معناه: لا أنقُص أحدًا، وهو تنبيه على أن الأخذ ينقُص الناسَ ما في أيديهم، فيتركه كاملًا لهم. ولا ريبَ أن أخذ المال وصرفَه في مواضعه خيرٌ من تركه حيث لا ينفع، لما في الأول من
_________
(1) البخاري (2750)، ومسلم (1035).
(8/19)
الصدقة والزكاة التي هي من أفضل العمل ونفع الناس التي لا تقوم مصلحتهم بدونه، وتطهيرهم والأخذ من أموالهم، كما قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. بل هذا عمل النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه، فإنهم كانوا يأخذون الصدقة من الأغنياء، فيدفعونها إلى الفقراء، وما كان مشروعًا لم يختص بالأئمة كله، إلا إذا كانوا منهم، لكن يشرع لغيرهم حيث يُشرَع لهم بشروطه.
ثم قد يكون في الأخذ مفسدة يكون تركه أفضل، وأما أخذه للنفس فليس أفضل إلا عند الحاجة إذا لم يكن فيه مفسدة، وإلا فالغِنَى عن المال خيرٌ من أخذ الإنسان لنفسه.
فنقول: إذا بُذِل للإنسان مالٌ لنفسه فقد يتركُه استعلاءً على المعطي وارتفاعًا، وقد يتركه لئلا يَستعليَ المعطي عليه ويرتفع، فإن اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، فالأول مذموم، فإن التكبر على الناس وإرادة العلو عليهم مذمومة. وأما الثاني فلا بأس به، فإن الإنسان لا يُذَمُّ بأن يحبّ أن يعلو عليه غيره ولا بأن يحبّ أن لا يعلو عليه غيره، بل هذا يُحْمَد، فإنّ علوَّ الغير عليه فيه ذُلٌّ لدينه، ونقصٌ له، واستعبادُ غيرِ الله له. وهذه هي العزة التي قصدها من لم يقبل المالَ، كقول أحمد: دَعْنا نعيشُ في عِزِّ الغِنَى عن الناس. فإنه كما قال القائل: ما وضعتُ يدي في قصعةِ أحدٍ، إلا ذَللتُ له.
ولا ريبَ أن من نصرَكَ أو رزقك كان له سلطانٌ عليك، فالمؤمن
(8/20)
يُؤثِرُ أن لا يكون عليه سلطانٌ إلّا لله ولرسوله ولمن أطاع الله ورسوله، وقبولُ مالِ الناس فيه سلطانٌ لهم عليه، فإذا قَصَدَ دفعَ هذا السلطانِ وهذا القهر عن نفسه كان حسنًا محمودًا، يصحُّ له دينُه بذلك، وإن قصدَ الترفعَ عليهم والترؤُّس والمراآة بالحال الأولى كان مذمومًا. وقد يقصد بترك الأخذ غِنَى نفسِه عنهم وترك أموالهم لهم.
فهذه أربع مقاصد صالحة: غِنى نفسه وعزَّتها، حتى لا يفتقر إلى الخلق ولا يذلَّ لهم، وسلامة مالهم ودينهم، [فكما] (1) يتألفون بالعطاء لهم، فكذلك في إبقاء أموالهم، وقد يكون في ذلك أيضًا حفظُ دينهم، فإنهم إذا قُبِل منهم المالُ قد يطمعون هم أيضًا في أنواعٍ من المعاصي ويتركون أنواعًا من الطاعات، فلا يقبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي ذلك منافع ومقاصد أخرى صالحة، حتى لا ينقص عليهم أموالهم، فلا يُذهِبُها عنهم ولا يوقعهم بأخذها منهم فيما يُكْرَه لهم من الاستيلاء عليه، ففي ذلك منفعة له أن لا يذلَّ ولا يفتقر إليهم، ومنفعةٌ لهم أن يبقَى لهم مالُهم ودينُهم. وقد يكون في ذلك منفعة تأليف قلوبهم بإبقاء أموالهم هم حتى يقبلوا.
وأما إذا كان الأخذ يُفضِي إلى طمعٍ فيه حتى يُعاوِنه في معصية أو يمنع من طاعة، فتلك مفاسد أخرى، وهي كثيرة ترجع إلى ذلهِ وفقرِه لهم، فإنهم لا يتمكنون من منعِه من طاعة إلَّا إذا كان ذليلًا لهم أو فقيرًا
_________
(1) هنا كلمة مبتورة في التصوير، ولعلها ما أثبتُّ.
(8/21)
إليهم، ولا يتمكنون من استعماله في المعصية إلا مع ذُلِّه أو فقرِه، فإن العطاء يحتاج إلى جزاءٍ ومقابلةٍ، فإذا لم يجعل مكافأة دنيوية من مالٍ أو نفعٍ لم يبقَ إلا ما ينتظر من المنفعة الصادرة منه إليهم.
وللردّ وجوه مكروهة مذمومة:
منها: الردُّ مراآة بالتشبه بمن يَرُدُّ غنًى وعزَّةً ورحمةً للناس في دينهم ودنياهم.
ومنها: التكبر عليهم والاستعلاء، حتى يستعبدهم ويستعلي عليهم بذلك، فهذا مذمومٌ أيضًا.
ومنها: البخل عليهم، فإنه إذا أخذ منهم احتاج أن ينفعهم ويقضي حوائجهم، فقد يترك الأخذَ بخلًا عليهم بالمنافع.
ومنها: الكسل عن الإحسان إليهم.
فهذه أربع مقاصد فاسدة في الرد للعطاء: الكبر والرياء والبخل والكسل.
فالحاصل أنه قد يُترَك قبولُ المال لجلب المنفعة لنفسه، أو لدفع المضرة عنها، أو لجلبِ المنفعة للناس، أو دفع المضرة عنهم، فإن في ترك أخذه غِنى نفسِه وعزّها، وهو منفعة لها، وسلامة دينه ودنياه مما يترتب على القبول من أنواع المفاسد، وفيه نفع الناس بإبقاء أموالهم ودينهم له، ودفع الضرر المتولد عليهم إذا بذلوا بذلًا قد يضرُّهم. وقد
(8/22)
يتركه لمضرة الناس أو لترك منفعتهم، فهذا مذموم كما تقدم، وقد يكون في الترك أيضًا مضرَّة نفسِه أو ترك منفعتها، إما بأن يكون محتاجًا إليه فيضرُّه تركُه، أو يكون في أخذه وصرفِه منفعةٌ له في الدين والدنيا، فيتركها من غير معارض مقاوم. ولهذا فصلت هذه المسألة، فإنها مسألة عظيمة، وبإزائها مسألة القبول أيضًا، وفيها التفصيل، لكن الأحسن أن ترك الأخذ أجود من القبول، ولهذا يعظِّم الناس هذا الجنس النزر، وإذا صحّ الأخذ كان أفضل، أعني الأخذ والصرف إلى الناس.
(8/23)
فصل
احتجَّ بعضُ المُبطِلين في جواز السجود لغير الله من الملوك والشيوخ والوالدين بثلاث حجج:
أحدها: أنه سجودُ تحيةٍ وذلَّةٍ ومسكنةٍ، لا سجودُ عبادةٍ، ولهذا يسمُّونه تقبيلَ الأرض، فإن ذلك يُشترط له شروط الصلاة.
الثاني: أنه و إن كان في الصورة سجودًا للبشر فهو في المعنى سجودٌ لله الذي خلقه وأحياه وأقامه، كما قد قيل في قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1]: إنه قسم بربِّ الشمس. وهو بمنزلة السجود إلى الكعبة.
الثالث: أن العبد فقير يحتاج إلى الله، والكائنات قائمةٌ بالله، أو هي الله على زعم هذا المبطل، فإنه من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، فينبغي له أن يخضع لكلِّ شيء مستعينًا به مستمدًّا منه.
فانظر إلى هؤلاء الكفّار الضالين، بينما أحدهم يزعم أنه هو الله وأنه ما ثَمَّ غيرُه، ويصعَدُ فوقَ الأنبياء والصديقين، إذ جعلَ يخضعُ لكلِّ موجودٍ من الكفار والمنافقين والكلاب والخنازير وغير ذلك إذا صحَّح دليلَه وطَرَد علَّته، وإلّا بطلتْ، وتمسَّك بسجود الملائكة لآدم ويعقوب وبنيه (1)
_________
(1) في الأصل: «وبنوه».
(8/24)
ليوسف، وزعمَ على زندقته أن الملائكة هي القوى الروحانية، وإبليس والشياطين هي الأحكام الطبيعية، والإنسان هو الجامع الذي سجدتْ له القوى جميعُها.
وبطلانُ هذا الكلام ظاهرٌ، بل كفرُ صاحبه ظاهر، فإن نصوص السنة وإجماع الأمة تُحرِّم السجودَ لغير الله في شريعتنا تحيةً أو عبادةً، كنهيه لمعاذ بن جبل أن يسجد لما قدمَ من الشام وسجدَ له سجود تحية، وأخبر بها عن رؤساء النصارى، وقوله: «لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرتُ المرأة أن تسجدَ لزوجها» (1). بل قد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن قيام أصحابه في الصلاة خلفَه، وقال: «لا تُعظِّموني كما تُعظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضًا»، رواه مسلم (2). ونهى عن الانحناء وقتَ التحية (3)؛ لأنه ركوعٌ، وهو دون السجود.
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 381) وابن ماجه (1853) وابن حبان (4171) والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 293) عن عبد الله بن أبي أوفى. وهو حديث صحيح بشواهده.
(2) لم أجده عند مسلم. وهو بلفظ لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يُعظِّم بعضها بعضًا أخرجه أحمد (5/ 253) وأبو داود (5230) عن أبي أمامة، وإسناده ضعيف جدًّا. فيه أبو العدبَّس مجهول، وأبو مرزوق ضعيف، وأبو غالب ضعيف أيضًا.
(3) أخرجه أحمد (3/ 198) والترمذي (2728) وابن ماجه (3702) عن أنس بن مالك. وحسَّنه الترمذي، وفي إسناده حنظلة بن عبد الله السدوسي، وهو ضعيف. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (160) لطرقه، وانتقده شعيب في تعليقه على المسند (13044).
(8/25)
وأما تفريقه بينه وبين سجود الصلاة فلا يفيده، لأنَّ الجنس المأمور به يُشترط له شروط، وأما المنهي عنه فيُنْهَى عنه بكل حال، فإن عبادة الله وطاعته تُفعَل على وجه … (1) ألا ترى أنه يحرم السجود للشمس والقمر والطواغيت إلى الكعبة وغيرها بوضوءٍ وغير وضوءٍ؛ لأن النهي يعمُّ كلَّ ما يُسمَّى سجودًا. ثم السجود الواجب لله يشترط له شروط يكون بها أخصَّ، بل العبادة الواجبة لله يُشترط لها شروط شرعية، والعبادة لغيره محرَّمة على كلّ حال.
وهذا بابٌ واسع، فإن الجنس المنقسم إلى مأمورٍ به ومنهيٍّ عنه يختصُّ المأمورُ به بقيودٍ وشروطٍ، و يعمُّ المنهيُّ عنه كلَّ ما دخلَ في اللفظ أو المعنى. ولهذا اعتبرنا ذلك في كتاب الأيمان أيضًا، ففرَّقنا بين الفعل إذا حلفَ ليفعلنَّه أو إذا حلفَ لا يفعله.
وأما الثاني والثالث فهذيان، بل كفر صريحٌ مخالفٌ للعقل والدين. وقصة آدم ويعقوب منسوخ بشرعنا، وتفسير الملائكة والشياطين بما ذكر قرمطةٌ وزندقةٌ معروفة من الفلاسفة.
_________
(1) هنا كلمات مطموسة لم أستطع قراءتها.
(8/26)
فصل
حركات العباد بقلوبهم وأبدانهم لابدَّ لها من غاية هي المقصود، ولابدَّ لها من وسيلة إلى ذلك المقصود. فالمقصود هو الله، والوسيلة رسولُ الله، فجماع الأمر في شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله.
أما الأول فقال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فلا معبود إلّا هو، لا إله إلا هو، والمعبود الإله هو الذي يُقصَد لنفسه، فتبتغي إليه الوسيلة؛ أو تقصده لنفسك، فترجوه وتخافه، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]. فالرجاء لجلب المنفعة ودفع المضرة رزقًا ونصرًا، والخوف من حصول المضرة وزوال المنفعة. وهذا لابدَّ للبشر منه، وإذا عبدتَه لنفسه وأحببتَ ذاتَه فتلك منفعة تصل إليك، وأنت ترجوه أن يُعطِيكَها وتخاف أن يَسلُبكَها، وذلك مجتمع في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
وقد ذكرتُ في غير هذا الموضع أن العبادة متضمنةٌ للخوف، وأن الاستعانة متضمنةٌ للرجاء. وهذا صحيح باعتبار، وأما باعتبار [آخر] فالعبادة هي ابتغاء الوسيلة إليه والتقرب إليه، وأما الاستعانة ففيها رجاء
(8/27)
رحمته وخوف عذابه، لأن الراجي يأمل إعانة الله له على نيل مطلوبه ودفعِ مرهوبه. والخوف متضمن للرجاء، لأن الخائف إن لم يرجُ السلامةَ لم يكن خائفًا، بل آيسًا قانطًا، وكذلك الراجي إن لم يخف الفوتَ لم يكن راجيًا بل آمنًا. ولهذا قال: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]، وقال: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وقال: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
فثبتَ أن كل خوفٍ فإنه مستلزمٌ للرجاء، وكل رجاء فإنه مستلزمٌ للخوف، لكن قد يغلب أحدهما، والكمال هو الاعتدال. قال أحمد بن حنبل: ينبغي أن يكون خوفُ العبد ورجاؤه سواءً، فإذا زاد أحدهما على صاحبه هلك. لكن الرجاء يتعلق بالحبيب المطلوب، والخوف يتعلق بالمكروه، بمنزلة الأمر والنهي، وإن كان كلٌّ منهما مستلزمًا للآخر، إذ الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه، والنهي عن الشيء أمرٌ بما لا بدَّ لخلقه من أضداده. فكل راجٍ أو خائف يجب أن يكون مستعينًا.
وهذه العبادات القلبية هي مما يجب فيها الإخلاصُ لله، فلا يجوز أن يُفعل لا للملائكة ولا للبشر، لا للنبيين ولا للصالحين، خلاف ما عليه المشركون ومن ضَاهاهم من النصارى، وما عليه هذه الأمة من الرافضة وبعض المتصوفة والمتفقرة والمتفقهة. والله أعلم.
(8/28)
فصل
شُبَه الإباحية: اعتقادهم أن لا فائدةَ في الحسنات ولا مضرةَ في السيئات؛ لأن الله لا ينتفع ولا يتضرر.
والثانية: أنها وإن كانت منفعة أو مضرة فرحمة الله واسعة، فلا حسابَ، وينعمُ بلا عمل.
والثالثة: اعتقادهم أن الذي جاءت به الرسل فوق (1) قوى البشر، لاعتقادهم أنهم طلبوا ترك الشهوات مطلقًا فعسّروا الاعتقاد فرجعوا عنه.
الرابعة: اعتقادهم أن القدر يسوق إلى السعادة والشقاء بلا عمل، فهو حلال بالقدر العلمي.
الخامسة: اعتقادهم أن ما شاء الله وقضاه فإنه أمر به ويرضاه كما ضلَّت قريش، وهذا القدر العملي.
السادسة: اعتقاد من تعبَّد وتزهد ونال أحوالًا من الكشوف والتأثير إما صحيحة أو فاسدة أن ……. (2) لا يضر مثله، وإن ضرَّت العامة فلا يضرُّهم تركُ واجبٍ ولا فعل محرم.
_________
(1) هنا كلمة غير واضحة. ولعلها ما أثبتُّ.
(2) هنا كلمات غير واضحة.
(8/29)
السابعة: اعتقادهم أن المقصود من الشرائع قد حصل لهم لوصولهم إلى عين الحقيقة، فما بقيت الأعمال تنفعهم بل ضرتهم. والفرق بين هؤلاء وأولئك أن الأول قد يرى في فعل الحسنات وترك السيئات فائدة لهم، لكن لا يرى ذلك واجبًا، وهؤلاء لا يرون في ذلك فائدة، بل يرون فعل الواجب وترك المحرم مضرةً أو عناء.
الثامنة: إنكار ما جاءت به الرسل من الوعيد، وظنُّ أن ذلك تلبيس أو ربط للعامة.
التاسعة: ظنُّ أن العلم والعمل حجاب ووقوف مع السبب، والفقير لا يقف مع شيء.
العاشرة: اعتقاد كثير من الفلاسفة أن الشرائع لمصلحة الدنيا، إذ الإنسان مدني بالطبع، فلابد من قانون يقوم …… في معاوضته ومفاوضته، فيجعلونها بمنزلة السياسة الملكية، لكن سياسة الملك المقترنة بزمان ومكان مسلَّمة كولاية القاضي، وسياسة النبي أعم من ذلك بمنزلة فتوى الفقيه وقواعد أئمة المذاهب. وإذا كانت لمصلحة الدنيا فقط، فالمتخلي عن الدنيا لا يكثر منها، والداخل فيها إذا كان فاضلًا أمكنه أن يختص بما لا يضرُّ غيره. وعلى ذلك يتناولون يسير الخمر أو كثيرها أحيانًا، ويرتكبون بعض الفواحش سِرًّا.
فجماعهم في السمعيات على باطنٍ يخالف الظاهر، أو خصوصٍ من العموم، ولهذا يسمون الممتثلين للشريعة متمسكين بالظاهر
(8/30)
وحافظين لمرتبة العموم.
وعمدتهم إما شبه قياسية أو ذوقية، وربما قد يتأولون قياس بعض الظواهر، و حجتهم تقليد كبيرٍ في أنفسهم ذِي فضلِ علمٍ أو ذي حالٍ أو ذي سلطان. وقد صنَّف الغزالي في مخاطرهم كتابًا (1)، لكن أمرهم أكبر من أن يُكتفى فيه بمثل ذلك الكتاب، فإن الرسل إنما بُعثت إلى الخلق بعد حال هؤلاء، إذ هم أعداء الرسل، فإن الرسل بعثت بخبر وطلب، فالخبر له التصديق، والأمر له الطاعة، وهؤلاء انحلُّوا عن طاعة الرسل، وانحلّوا أيضًا عن تصديقهم في كثير مما أخبروا به أو أكثره، فهم الكفار المعادون للرسل، وأولهم إبليس، ومنهم قوم نوح وعاد وثمود وسائر أعداء الرسل، لكن كفر أكثرهم كفر المنافقين، إذ أقاموا في دولة المسلمين فيبطنون خلاف ما يظهرون. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله.
_________
(1) هو كتاب تهافت الفلاسفة.
(8/31)
فصل (1)
تقول طائفة من أهل الكلام: إن الحركة وأنواعها كالمجيء والإتيان، وكالنزول والهبوط، وكالصعود والعروج، لا تصحُّ إلّا على الأجسام دون الأعراض، فإن العرض لا يقوم بنفسه، فلو انتقل لفارقَ محلَّه وقام بنفسِه.
قلت: ليس الأمر كذلك، بل حركة كل شيء بحسبه، وكذلك إتيانه ونزوله. فكما أن الطعم واللون والريح والقدرة والصحة وغير ذلك إنما وجودها بغيرها، وذاتها لا تكون إلّا متعلقة بغيرها، فكذلك ما يَعرِض لها من الأحوال والحركات هو مشروط بمحلِّها، فإذا قيل: «جاءته العافية والصحة» فهو مجيء الأجزاء البدنية الحاملة للصحة، وتلك الأجزاء هي الحاملة للصحة، ومجيئها فيه حركة وانتقال. وكذلك «جاء النصرُ والظفرُ» هو مجيء الأعيان الحاملة للقوة والظهور التي بها اندفع العدو وضررُه. فلا بدَّ من حركةٍ فيها زوالُ أحد الضدَّين حتى يجيء الآخر.
ثم هذه الحركة والمجيء متضمنة للظهور والوضوح والتجلّي، لا كما قال بعضهم: إنها مجرد الظهور.
وكذلك إذا قيل: «جاء الشتاء» و «جاء الصيف» و «جاء الليل
_________
(1) كتب المؤلف بجواره: «تمامه ما كتبتُ بعد هذا».
(8/32)
والنهار» فهي مجيء أعراض وصفات هي الحرارة والبرودة والضياء والظلمة، وهي حركتها وانتقالها. لكن قد يكون ذلك بانتقالها من موضع آخر، وقد يكون بحدوثها وبكونها في موضعها، وهذان النوعان في الأجسام. كما يقال: جاءني الولدُ وجاءت الثمار وقد أتت الفاكهة، لا يُعنَى بذلك أنها كانت موجودة في مكانٍ آخر فانتقلت عنه، وإنما يُعنَى حدوثُها ووجودها، وهو بحركةٍ، لكنها حركة ابتدائية.
فالمقصود أن كلَّ ما يقال في مجيء الأعيان والأجسام من الأنواع يُقال في مجيء الصفات والأعراض، لكن لما كان لابدَّ لهذه من محلٍّ في ذاتها، فكذلك في أحوالها، بخلاف الأجسام، نعم الحيِّزُ للجسم كالمحلِّ للعرض، فالجسم لا يجيء إلا بحيِّز، والعرض لا يجيء إلا بمحلٍّ. والله أعلم.
(8/33)
فصل (1)
قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، كما قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17 – 18]، كما قال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]، وقال: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 1 – 2].
فحضَّ سبحانَه على تدبُّر القول كما حضَّ على استماع القول، فإن قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا} استفهام، وأدَاة الاستفهام إذا دخلت على حرف النفي كان للتقرير، كقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]، وقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6]. لكن هذا في الجمل الخبرية. فقوله:
_________
(1) كتب المؤلف بجواره: «كتبتُ نظائره في مواضع».
(8/34)
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}، إن أُجرِيَ على هذا كان المعنى أنهم قد تدبروا القول فوجدوه حقًّا، وإلا كان هذا استفهام إنكار بمعنى الأمر والتحضيض، كقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}، وهذا أشبه بالمعنى. لكن (1)
ثم القول الذي أمر بتدبره وأمر باستماعه هو القرآن، فانحرف قوم من المتكلمة فيما يتدبرونه إلى أقوال محدثة، وانحرف قومٌ من المتعبدة فيما يستمعونه متبعين له إلى سماع أقوال محدثة، وجعل بعضهم قوله تعالى: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} عامًّا لكل قول من الآيات والأبيات، فاستمعوا هذين، وربما رجَّحوا سماع الأبيات ترجيحًا حاليًّا أو اعتقاديًا أيضًا، كما أن الأولين يتدبرون وينظرون نظر انتفاع في الأقوال المشروعة والأقوال غير المشروعة، وربما رجحوا أقوال المتكلمين على قول الله ورسوله اعتقادًا أو حالًا.
والقرآن مملوءٌ من الأمر بتدبر القرآن والتفكر فيه والتذكر له وعقله، ومن الأمر باستماعه وتلاوته والبكاء والوجل واقشعرار الجلد منه. وقد وصف سماع الأنبياء وأهل العلم وأهل المعرفة وعموم المؤمنين أنه سماع آيات الله، فقال تعالى لما ذكر الأنبياء عيسى ويحيى وإبراهيم وبنيه وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
_________
(1) بعده في الأصل بياض سطرين.
(8/35)
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]. فتلاوة آيات الرحمن عليهم يعمُّ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور، فإن آيات الله نزلت بالعربي وغير العربي مع تنوع المعاني فيها.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 – 109]. فهذا إخبار عن الذين أوتوا العلم قبل القرآن إذا تُلي عليهم القرآن سجدوا وبكوا وسبحوه على إنجاز وعدِه الذي تقدم أنه يبعثُ هذا الرسولَ ويُنزِل هذا الكتاب. فهذا سماع الذين أوتوا العلم، وكان سبب ذلك من آمن من علماء اليهود.
وقال في أهل المعرفة: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82 – 83]. فهذا سماع أهل المعرفة ممن آمن من النصارى، أخبر أنهم سمعوا وبكوا وطلبوا أن يكونوا مع الشاهدين. والشاهدون كما قال ابن عباس (1): محمد وأمته، فإن لهم وصف
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 660).
(8/36)
الشهادة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]. ولهذا كان رأس دينهم شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسولُ الله. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لهم: «أنتم شهداء الله في الأرض، هذه الجنازة أثنيتُم عليها خيرًا فقلتُ: وجبَتْ لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًّا فقلتُ: وجبَتْ لها النار» (1).
وهذا تأييد لما اصطلح عليه الناس من تسمية العلماء الناظرين في الكتب المنزلة «أهل العلم»، وتسمية المشايخ العابدين المتألهين السامعين هنا «أهل المعرفة»، لما في الأولين من الموسوية المشروعة وفي الآخرين من العيسوية المشروعة، فمدح كلا الفريقين بالانقياد للمحمدية الجامعة للأمرين. ولهذا وصف الأولين بالتسبيح المتضمن تصديقهم بما جاء به الرسول لما كانوا يعلمونه، ووصف الآخرين بالدعاء والطلب لأن يكونوا مع محمد وأمته. فظهر في الأولين نعتُ العلم النافع، وهو الخبر الصادق والتصديق بالحق، وفي الآخرين نعتُ العمل الصالح، وهو الدعاء المشروع والعبادة المأمور بها، فإن العُبَّاد يُطلَب منهم الدعاءُ، والعلماء يطلب منهم الثناء، فظهر في الأولين الثناء وفي الآخرين الدعاء.
_________
(1) أخرجه البخاري (1367) ومسلم (949) عن أنس بن مالك.
(8/37)
ولذلك ذكر أن هذا سماع المؤمنين، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]، وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].
وأمر بتلاوته، والتلاوة تجمع معنى التدبر والاتباع ومعنى السماع، فقال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، فهذا أول ما نزل، أمر فيه بالقراءة والصلاة. وقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45]، وقال: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الأعراف: 170]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [فاطر: 29]، [وقال]: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1 – 2] إلى قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] إلى قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20] إلى قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ
(8/38)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل: 20]. وقال تعالى (1)
وذم الذين يُعرِضون عن سماعه وتدبُّره إلى سماع غيره، فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)} [لقمان: 6 – 7]. هذا في لقمان، وفي الجاثية: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية: 6 – 9].
وقد روي عن طائفة من الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس وجابر أنهم تأولوا آية لقمان في سماع الغناء (2). ورُوي في ذلك حديث مرفوع، رواه الترمذي من حديث أبي أمامة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (3)، وهي تعمُّ
_________
(1) بعده بياض في الأصل قدر نصف صفحة.
(2) انظر: تفسير الطبري (18/ 535 – 538) والدر المنثور (11/ 615 – 618).
(3) أخرجه الترمذي (1282، 3195). وقال: هذا حديث غريب، إنما يُروى من حديث القاسم عن أبي أمامة. والقاسم ثقة، وعلي بن يزيد يُضعَّف في الحديث. ورواه أيضًا أحمد (5/ 252) وابن ماجه (2168)، ولكن ليس عندهما تفسير الآية.
(8/39)
ذلك وغيره على ما هو مقرر في موضع آخر.
ثم ذم الذين يعرضون عن سماعه (1).
وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} إلى قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 63 – 73]. وقد روي في ذلك آثار تنصُّ أن الغناء من ذلك (2)، وكذلك الأقوال المزخرفة، كقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]. فنزَّه عباد الرحمن عن حال السماعية والكلامية المبطلين، ثم قال: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73]، فوصفهم بالبصر والسمع، ليسوا صُمًّا كالمعرضين عن سماع الآيات، ولا عُمْيًا كالمعرضين عن البصر فيها. فإن أهل السمع والإصغاء الذين لا يسمعون كلام الله ويُصغون إليه وينتفعون به وإن كانوا مُصغِين إلى سماع شيء آخر، وأهل النظر والذكاء الذين لا ينظرون في كلام الله ويبصرونه وينتفعون به= أهل عمًى وإن كان لهم نظر وبصرٌ في كلام آخر.
فتدبَّر كيف وصفهم بالإقبال على كلام الله سمعًا وبصرًا، والإعراض عن الزور واللغو سمعًا وقولًا، فمن وافقهم في النعتين فهو
_________
(1) بعده بياض قدر سطرين.
(2) انظر: تفسير الطبري (7/ 522) والدر المنثور (11/ 227).
(8/40)
المؤمن المستقيم، ومن خالفهم فيهما فهو المنافق والكافر، ومن شَرِكَهم في الحق الذي فعلوه وفعل الباطلَ الذي تركوه، كحالِ كثير من الفقهاء والمتكلمين والعبَّاد والصوفية، فهو محمودٌ بما فيه من الحقّ مذمومٌ بما فيه من الباطل، وإن كان قد يغفر له لاجتهادٍ أو تقليد.
ولما كان جماع الخير في القرآن والإيمان، كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي أخرجاه في الصحيحين (1) عن أبي موسى: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُترجَّة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب ولا طعم لها، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مرٌّ ولا ريح لها».
وضدّ ذلك النفاق والشعر والكذب، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، وقال عبد الله بن مسعود: الغناء يُنبت النفاق في القلب كما يُنبِت الماءُ البقلَ (2).
_________
(1) البخاري (5427، 7560) ومسلم (797).
(2) بعده بياض قدر نصف صفحة. ثم [79 ب] فصل: ولما أعرض … (=مجموع الفتاوى 3/ 338 – 340).
(8/41)
فصل
قاعدة: بعث الله محمدًا بالهدى ودين الحق ليُظهِره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، إلى جميعِ الخلق: أهل العلم والعبادة، وأهل الولاية والإمارة من الخاصة، وأكملَ له ولأمته الدينَ، وأتمَّ عليهم النعمةَ، ورضي لهم الإسلامَ دينًا. فالهدى يدخل فيه العلم النافع، ودين الحق يدخل فيه العمل الصالح، فعاش السلف في ذلك الهدى ودين الحق. ثم ظهرت البدع والفجور، فصار من الأمة من استمسك بالهدى ودين الحق، ومنهم من عَدلَ عن بعض ذلك، فاستمتعوا بخَلاقِهم كما استمتع الذين من قبلهم بخَلاقهم، وخاضوا كالذي خاضوا.
فالمنحرف إما المبتدع في دينه، وإما الفاجر في دنياه، كما قال الحسن البصري وسفيان الثوري وجماعات من السلف: إن من سَلِم من فتنة البدعة وفتنة الدنيا فقد سلم. وإن كانت البدع أحبَّ إلى إبليس من المعصية. ففتنة البدعة في أهل العلم والدين، وفتنة الدنيا في ذوي السلطان والمال. ولهذا قال بعض السلف (1): صنفانِ إذا صلحوا صلح الناس: العلماء والأمراء. وقد قال أبو محمد الرملي (2) عن أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: بالماضينَ ما كان أشبهَه، وعن الدنيا ما كان أصبرَه، أتتْه البدعةُ فنفاها، والدنيا فأباها.
_________
(1) هو سفيان الثوري، وقد أخرجه عنه أبو نعيم في الحلية (7/ 5).
(2) في مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 173) وسير أعلام النبلاء (11/ 198) والبداية والنهاية (14/ 407): أبو عمير بن النحاس الرملي. وهو الصواب، واسمه عيسى بن محمد بن إسحاق، انظر: ترجمته في السير (12/ 52).
(8/42)
وقد قال الله تعالى: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
وقال ابن المبارك (1):
وهل أفسدَ الدينَ إلا الملوك وأحبارُ سوءٍ ورُهْبانُها
فالأمراء من الملوك وأتباعهم يقولون لِما أَحدثوه: سياسة، ويقولون: «شرع وسياسة». والعلماء المتكلمون يقولون: عقليات وكلام، ويقولون: «العقل والشرع». والعبَّاد والفقراء والصوفية يقولون: «حقيقة وشريعة». وسياسة هؤلاء وعقليات هؤلاء وحقيقة هؤلاء أعظم قدرًا في صدورهم من كتاب الله وسنة رسولِه حالًا أو حالاً واعتقادًا.
وبإزائهم قوم من الفقهاء والمحدثين والعبَّاد والعامّة ينتسبون إ لى الكتاب والسنة والشرع، وهم لا يعلمون من ذلك ما يُحتاج إليه، بل فيهم من الجهل بحقائق ذلك أو التقليد لبعض رؤسائهم ما أوجب نقصَ الكتاب والسنة والشريعة في قلوب أولئك. فتقصيرُ هؤلاء وعدوانُ أولئك كان سببًا لذهاب ما ذهبَ من الدين، وظهورِ ما ظهر من البدع. والله أعلم.
_________
(1) انظر: شعب الإيمان (7300) وجامع البيان العلم وفضله (1/ 638) والاستذكار (2/ 184) وتفسير القرطبي (8/ 120) وسير أعلام النبلاء (12/ 213). وتمثل به ضمن أبيات: إبراهيم بن أدهم كما في تاريخ دمشق (6/ 336، 337) والبداية والنهاية (13/ 509).
(8/43)
فصل جامع
قد كتبتُ فيما تقدم في مواضع مثل بعض القواعد وآخر مسودة الفقه أن جماع الحسنات العدلُ، وجماعَ السيئات الظلم، وهذا أصل جامع عظيم.
وتفصيل ذلك أن الله خلق الخلقَ لعبادته، فهذا هو المقصود المطلوب بجميع الحسنات، وهو إخلاص الدين كله لله، وما لم يحصل فيه هذا المقصود فليس حسنة مطلقة مستوجبة لثواب الله في الآخرة، وإن كان حسنةً من بعض الوجوه له ثواب في الدنيا، وكلّ ما نهي عنه فهو زيغٌ وانحراف عن الاستقامة، ووضع للشيء في غير موضعه، فهو ظلم، ولهذا جمع بينهما سبحانه في قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29].
فهذه الآية في سورة الأعراف المشتملة على أصول الدين والاعتصام بالكتاب، وذم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله كالشرك وتحريم الطيبات، أو خالفوا ما شرعه الله من أمره ونهيه، كإبليس ومخالفي الرسل من قوم نوح إلى قوم فرعون والذين بدّلوا الكتاب من أهل الكتاب. فاشتملت السورة على ذمّ من أتى بدين باطل ككفار العرب، ومن خالف الدين الحق كله كالكفّار بالأنبياء، أو بعضه
(8/44)
ككفّار أهل الكتاب.
وقد جمع سبحانه في هذه السورة وفي الأنعام وفي غيرهما ذنوب المشركين في نوعين: أمْر بما لم يأمر الله به كالشرك، ونَهْي عما لم ينهَ الله عنه كتحريم الطيبات. فالأول شرْعٌ من الدين لما لم يأذن الله به، والثاني تحريمٌ لما لم يحرّمه الله.
وكذلك في الحديث الصحيح (1) حديث عياض بن حمار عن النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الله تعالى: “إني خلقتُ عبادي حنفاءَ، فاجتالتْهم الشياطين، فحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يُشركوا بي ما لم أُنزِلْ به سلطانًا”.
ولهذا كان ابتداع العبادات الباطلة من الشرك ونحوه هو الغالب على النصارى ومن ضاهاهم من منحرفة المتعبدة والمتصوفة، وابتداع التحريمات الباطلة هو الغالب على اليهود ومن ضاهاهم من منحرفة المتفقهة، بل أصل دين اليهود فيه آصارٌ وأغلالٌ من التحريمات. ولهذا قال لهم المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]. وأصل دين النصارى فيه تألُّهٌ بألفاظٍ متشابهة وبأفعالٍ مجملة. فالذين في قلوبهم زيغٌ اتبعوا ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله.
وما قررتُ في غير هذا الموضع ــ من أن توحيد الله الذي هو إخلاص الدين له، والعدل الذي نفعله نحن هو جماع الدين ــ يرجع إلى
_________
(1) أخرجه مسلم (2865).
(8/45)
ذلك، فإن إخلاصَ الدين لله أصل العدل، كما أن الشرك بالله ظلم عظيم، وأصل ذلك العلمُ، فإنه لا يُعلَم العدلُ والظلمُ إلا بالعلم، فصار الدينُ كلُّه: العلم والعدل. وضدُّ ذلك: الظلم والجهل، قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. ولما كان ظلومًا جهولاً، وذلك يقع من الرعاة تارةً، ومن الرعية تارةً، ومن غيرهم تارةً= كان العلم والعدل المأمور به: الصبر على ظلمِ الأئمة وجَورِهم، كما هو من أصول أهل السنة والجماعة، وكما أمر به النبي – صلى الله عليه وسلم – في الأحاديث المشهورة عنه، كما قال: “إنكم ستَلْقَون بعدي أَثَرةً، فاصبروا حتى تَلْقَوني على الحوض” (1). وقال: “من رأى من أميرِه شيئًا يَكرهُه فليصبْر عليه” (2). إلى أمثال ذلك. وقال: “أَدُّوا لهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم” (3)، ونَهى عن قتالهم ما صَلَّوا (4)؛ وذلك لأن معهم أصل الدين المقصود، وهو توحيد الله وعبادته، ومعهم حسناتٌ وتركٌ لسيئاتٍ كثيرة.
وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغٍ أو غيرِ سائغ فلا يجوز أن يُزالَ بما فيه ظلم وجور، كما هو عادةُ أكثرِ النفوس، يُزِيل الشرَّ بما هو شرٌّ منه، ويُزِيل العدوانَ بما هو أعدى منه. فالخروج عليهم
_________
(1) أخرجه البخاري (4330) ومسلم (1061) عن عبد الله بن زيد بن عاصم.
(2) أخرجه البخاري (7053) ومسلم (1849) عن ابن عباس.
(3) أخرجه مسلم (1843) عن ابن مسعود.
(4) كما في حديث أم سلمة الذي أخرجه مسلم (1854).
(8/46)
يُوجِب من الظلم والفساد أكثرَ من ظلمهم، فيصبر عليه، كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور المنهيّ في مواضع كثيرة، كقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]، وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].
وهذا عام في ولاة الأمور وفي الرعية، إذا أمروا بالمعروف ونَهَوا عن المنكر فعليهم أن يصبروا على ما أُصيبوا به في ذات الله، كما يَصبر المجاهدون على ما يُصابُ من أنفسهم وأموالهم. فالصبر على الأذى في العرض أولى وأولى؛ وذلك لأن مصلحة الأمر والنهي لا تتم إلّا بذلك، وما لا يتم الواجبُ إلّا به فهو واجب.
ويندرج في ذلك وُلاةُ الأمور، فإن عليهم من الصبر والحلم ما ليس على غيرهم، كما أن عليهم من الشجاعة والسماحة ما ليس على غيرهم؛ لأن مصلحة الإمارة لا تتمُّ إلا بذلك. فكما وجب على الأئمة الصبرُ على أذى الرعيةِ وظلمِها إذا لم تتمَّ المصلحةُ إلّا بذلك، أو كان تركه يُفضِي إلى فسادٍ أكثر منه، فكذلك يجب على الرعية الصبرُ على جور الأئمة وظلمهم إذا كان في ترك الصبر مفسدةٌ راجحة.
فعلى كلٍّ من الراعي والرعية للآخر حقوقًا (1) عليه أداؤها، كما
_________
(1) كذا في الأصل منصوبًا.
(8/47)
ذكرت بعضه في “كتاب الجهاد والقضاء” (1)، وعليه أن يصبر للآخر ويَحْلُم عنه في أمورٍ. فلابدَّ من السماحة والصبر في كلٍّ منهما، كما قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17]، وفي الحديث: “أفضلُ الإيمان: السماحةُ والصبر” (2). وفي أسماء الله: الغفور الرحيم، فبالحلم يعفو عن سيئاتهم، وبالسماحة يُوصِل إليهم المنافعَ، فيجمع جلب المنفعة ودفع المضرة. فأما الإمساك عن ظلمهم والعدلُ عليهم فوجوبُ ذلك أظهرُ من هذا، فلا حاجةَ إلى بيانه. والله أعلم.
_________
(1) لم أقف على هذا الكتاب، وتكلم الشيخ على هذا الموضوع في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 103 وما بعدها) ومواضع أخرى.
(2) أخرجه أحمد (5/ 319) عن عبادة بن الصامت، وإسناده ضعيف، فيه ابن لهيعة، ولكنه قد تُوبع، فالحديث محتمل للتحسين. انظر تعليق المحققين على المسند (22717).
(8/48)
فصل
قاعدة في الإجبار على المعاوضات إذا لم يكن فيه ضرر،
وعلى الغير بتركه ضرر
عن سمرة بن جندب أنه كان له نخلٌ في حائطِ رجلٍ من الأنصار، ومع الرجلِ أهلُه، فكان سمرة يدخل إلى النخل، فيتأذَّى به ويَشُقُّ عليه، فطلبَ إليه أن يبيعها منه فأبى، فطلب أن يُنَاقله فأبى، قال: “فهَبْها لي ولك كذا وكذا” أمرًا رغَّبَه فيه، فأبى، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أنتَ مضارٌّ”، ثم قال النبي – صلى الله عليه وسلم – للأنصاري: “اذهَبْ فاقلَعْ نَخْلَه”. رواه أبو داود (1).
فيه من الفقه أن تلك النخلة كانت ملكًا لرجلٍ، وكان بقاؤه في أرضِ الغير يَضُرُّ به، فوجب عليه أن يزيل ضررَ ربِّ الأرض، إمّا بمعاوضةٍ وإما بتبرُّعٍ، فلما امتنعَ جَوَّزَ القَلْعَ؛ لأن تَرْكَ ذلك ضِرارٌ، كما قال – صلى الله عليه وسلم -: “إنما أنت مُضارٌّ”، ثم قال للأنصاري: “اذهَبْ فاقلَعْ نخلَه”. وهذا موافق للحديث الذي رواه ابن ماجه (2) أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا ضرر ولا
_________
(1) برقم (3636). وفيه انقطاع بين أبي جعفر الباقر وسمرة، فإنه لم يسمع منه.
(2) برقم (2340)، وأحمد (5/ 326، 327) عن عبادة بن الصامت، قال البوصيري في الزوائد: “إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع؛ لأن إسحاق بن الوليد، قال الترمذي وابن عدي: لم يدرك عبادة بن الصامت، وقال البخاري: لم يلقَ عبادة. وأخرجه أحمد (1/ 313) وابن ماجه (2341) عن ابن عباس. وفي إسناده جابر الجعفي متهم. وأخرجه مالك في الموطأ (2/ 745) عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلاً. وروي هذا الحديث عن عدد من الصحابة بأسانيد ضعيفة. لكن يتقوى بعضها ببعض كما قال النووي، ووافقه الحافظ ابن رجب. انظر: جامع العلوم والحكم (2/ 207).
(8/49)
ضرار”.
فصار هذا الحديث أصلاً في أن المعصوم إذا أصابه ضررٌ لا يندفعُ إلا بمعاوضةٍ من غيرِه وجبت المعاوضةُ على ذلك الغير إذا لم يكن عليه فيها ضررٌ زائدٌ؛ لأن المعاوضة على هذا الوجه إنما فيها تبديلُ المالِ بمثلهِ، وهذا لا يضرُّه فيه، وإزالةُ الضرر عن المسلم واجبة.
وهذا نظير إيجاب الشفعة، فإن الشريك عليه بالشركة ضرر الشركة والقسمة، والبائع إذا أراد البيع فهو يأخذ الثمن، فسيّانِ أخذه من هذا أو من هذا، فتبديل مُشترًى بمشترًى سواءٌ عليه.
ومن هذا الباب إجبارُ الشريك على القسمة وإن كان فيها شوب معاوضة، لما في ذلك من زوال ضرر الشركة بنوع معاوضةٍ لا ضررَ فيها، فإن كان في قسمة العينِ ضررٌ أُجْبِرَ الممتنع على البيعِ وقَسْم الثمنِ، فإنه إجبارٌ على معاوضةٍ لا ضررَ فيها، لدفعِ ضررِ الشريك بالشركة. وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور.
ونظيره إيجاب الشريك الممتنع على العمارة في ظاهر المذهب، لأن العمارة من نوع المعاوضة، فإنه يبذل ماله ليحصل له البناء، فإجباره على العمارة نظير إجباره على البيع معه.
(8/50)
ويُشبِه ذلك من بعض الوجوه السَّراية في العتق، فإن فيها معاوضة، ويدخل في ذلك العِرْق الذي بحقّ، كالبناء والغراس الذي للمشتري والمستأجر والمستعير والبائع ولو وجد من العذاب فإنه لا يُقلع مجانًا؛ لأنه ليس بِعِرْقٍ ظالم، ولكن يُجْبَر ربُّه على المعاوضة، فلربِّ الأرض أن يبتاعه بقيمته كحديث النخلة سواءً، فإن امتنع مالك الغِراس من المعاوضة قُلِعَ مجَّانًا، كما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – الأنصاري بِقَلْعِ النخلة.
ويُستدل بالحديث على تحريم المضارَّة مطلقًا؛ حيث قال: “إنما أنت مُضارٌّ”، وهو كلُّ من كان عملُه مُضِرًّا بغيرِه من غير منفعةٍ له فيه. ويدلُّ عليه قوله: “لا ضرر ولا ضرار”، وقوله في الحديث الذي في الصحيح (1): “من ضارَّ أضرَّ الله به، ومن شاقَّ شقَّ الله عليه”.
_________
(1) لم أجده في الصحيحين. وأخرجه أحمد (3/ 453) وأبو داود (3635) والترمذي (1940) وابن ماجه (2342) عن أبي صرمة، وإسناده ضعيف، فيه لؤلؤة مولاة الأنصار مجهولة. والحديث حسن بشواهده، منها حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه الدارقطني (3/ 77) والحاكم (2/ 57 ــ 58) والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 69). وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، مع أن فيه عثمان بن محمد بن عثمان، ضعفه الدارقطني.
(8/51)
فصل
في ثواب الحسنات والسيئات
والكلام في نوعين: أحدهما في ترجيح جانب الحسنات، والثاني في مقادير الحسنات ومقادير السيئات.
أما الأول فإن الله سبحانه وتعالى كما أخبر عنه نبيُّه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “سبقتْ رحمتي غضبي ــ وفي روايةٍ: غلبتْ رحمتي غضبي ــ وقد كتب ذلك في كتاب، فهو موضوع عنده فوق العرش” (1). وأخبر عن نفسه في كتابه أنه قال: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12]، كما أخبر عنه رسوله أنه حرَّم الظلمَ على نفسه، وجعلَه محرَّمًا بين عبادِه (2).
وقد دلَّ القرآن على ذلك في مثل قوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50]، وفي مثله قوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]، فجعل المغفرة والرحمة داخلةً في أسمائه التي وصف بها نفسه، وأما شدّة العقاب وألم العذاب فإنما هو من عوارضِ مفعولاته، ولهذا ليس في أسماء الله الحسنى اسمٌ يتضمن صفة الغضب والعذاب، ولا
_________
(1) أخرجه البخاري (7553، 7554) ومسلم (2751) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر.
(8/52)
في صفاته صفة تقتضي ذلك، لكن إذا أخبر عن ذلك أتى بالقول العام الشامل له ولغيره، أو حذف فاعله، أو أضيف إلى المخلوق. وأما الرحمن والرحيم والغفور والحليم والكريم ونحو ذلك فكثير في أسمائه.
وإنما جاء في القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4]، ولم يقل: “منتقم” كما تقوله طائفة ممن تكلم في الأسماء الحسنى، واستدلوا بحديث الترمذي (1) الذي رواه الوليد بن مسلم، فإن المحققين من الحفاظ يعلمون أن ذلك العدد ليس من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو مما أدرجه الوليد بن مسلم في روايته عن شعيب (2). كما أن ابن ماجه (3) لما روى الحديث أيضًا من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة، ذكر فيه (4) من حديث عبد الرحمن
_________
(1) برقم (3507)، وقال: “وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلّا في هذا الحديث. وقد روى آدم بن أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وذكر فيه الأسماء، وليس له إسناد صحيح”. وأخرجه أيضًا من طريق الوليد بن مسلم: ابن حبان (808) والطبراني في الدعاء (111) والحاكم في المستدرك (1/ 16) والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 27).
(2) انظر الأسماء والصفات للبيهقي (ص 8) وتفسير ابن كثير (4/ 1517) وفتح الباري (11/ 215 ــ 217).
(3) برقم (3860) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
(4) برقم (3861). قال في الزوائد: إسناده ضعيف، لضعف عبد الملك بن محمد الصنعاني الراوي عن زهير بن محمد. ثم إن رواية أهل الشام عن زهير بن محمد غير مستقيمة، وعبد الملك هذا من صنعاء دمشق لا صنعاء اليمن.
(8/53)
الأعرج عن أبي هريرة عدد الأسماء على خلاف ذكر الوليد بن مسلم.
وإذا جاء في أسمائه الضار والنافع، والخافض والرافع، والمُعِزُّ والمُذِلُّ، والمعطي والمانع، فإنما تقال مقترنةً مزدوجةً، لا يُفرَدُ الضار عن النافع، ولا المانع عن المعطي؛ إذ المقصود بيان عموم فعلِه وشمولُ عدلِه وفضلِه.
وجاء في القرآن: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، وفي القرآن: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، وفي القرآن: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، وفي حديث الاستفتاح الصحيح (1): “والخير بيديك، والشرُّ ليس إليك”، فالشر في القرآن إما أن يضاف إلى الرب أو لا، فإن أضيف إليه كان بطريق العموم فقط، وإن لم يُضَف إليه فإما أن يُحذف فاعله أو يضاف إلى السبب.
فالأول كقوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام: 125]، وقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، وقوله: {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ
_________
(1) أخرجه مسلم (771) عن علي بن أبي طالب.
(8/54)
الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50]، وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ … } الآية [النساء: 13]، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ … } الآية [النساء: 14]، وقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82]. وهذا كثير، إما أن يجمع الاسم والقول العام للنوعين، وإما أن يفصل نوعي الخير والشر من الآلام وأسبابها.
وأما إضافته إلى السبب فكقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2]، وقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، وقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، وقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وقوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15] ونظائره.
وأما حذف الفاعل فكقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، وقول الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]. وهذا مثل قول الصحابة كأبي بكر وعمر وابن مسعود وغيرهم (1): “فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان،
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (19191) وسعيد بن منصور في السنن (591 ــ تفسير) وابن أبي شيبة في المصنف (11/ 415، 416) والطبري في تفسيره (6/ 475، 476) والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 223) عن أبي بكر. وأخرجه أحمد (1/ 431، 4/ 279) وأبو داود (2116) والنسائي (6/ 122، 123) عن ابن مسعود. وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (9/ 214) والبيهقي في السنن (10/ 116) عن عمر. وانظر: تلخيص الحبير (4/ 195).
(8/55)
والله ورسوله برئيانِ منه”. وكذلك قول الخضر: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}، {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا}، {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}. وهذا باب واسع ليس هذا موضعه.
وإنما المقصود هنا أن جانب الحسنات هو الراجح في خلقه وأمرِه، أما في خلقه فقد نبه عليه. وأما في أمره وشرعه وثوابه وعقابه فمن وجوه:
أحدها: أن الحسنات يُضاعَف قدرُها، والسيئة لا يضاعفُ قدرُها، قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160]، وقال تعالى في موضع آخر: {[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ] فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص: 84]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ … } الآية [البقرة: 261].
والأحاديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك متواترة، مثل قوله: “من صام رمضان وأتبعَه بستٍّ من شوال فكأنما صام الدهر” (1). وقوله: “صيام ثلاثة أيام من كل شهر يَعدِل صومَ الدهر” (2). وقوله في الصلاة: “هي
_________
(1) أخرجه مسلم (1164) عن أبي أيوب الأنصاري.
(2) أخرجه النسائي (4/ 221) عن جابر بن عبد الله، وهو حديث حسن.
(8/56)
خمس، وهي خمسون” (1). وقال: “كل عمل ابن آدمَ يُضَاعَفُ له الحسنة بعشر أمثالها” (2). وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: “أنه يجزي على الحسنة بألفَي ألفِ حسنة” (3). وقال: “من تصدَّق بِعدْلِ تَمْرةٍ من كسبٍ طيب، ولا يقبل الله إلّا الطيبَ، فإن الله يُربِّيها له كما يُربِّي أحدُكم فَلُوَّه أو فَصِيلَه، حتى تكون مثل الجبل العظيم” (4). وهذا باب واسع.
الثاني: أن الجزاء في الحسنات بأفضل أنواعها وصفاتها، بخلاف السيئات، قال تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35]، وقال تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 38]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف: 16].
الثالث: أن الهمَّ بالحسنة يُثَابُ عليه، والهمّ بالسيئة لا يُعاقَب عليه، كما في الصحيح (5) من حديث أبي هريرة وابن عباس أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:
_________
(1) أخرجه البخاري (349) ومسلم (163) عن أبي ذر، ضمن حديث الإسراء.
(2) أخرجه البخاري (1904، 1894) ومسلم (1151) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه أحمد (2/ 296، 522)، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
(4) أخرجه البخاري (1410) ومسلم (1014) عن أبي هريرة.
(5) أخرجه البخاري (6491) ومسلم (131) عن ابن عباس، وأخرجه مسلم (130) عن أبي هريرة.
(8/57)
“إذا هَمَّ العبد بحسنةٍ كُتِبتْ له حسنة واحدة، فإن عَمِلَها كتبتْ له عشرُ حسناتٍ إلى أضعافٍ مضاعفةٍ، وإذا هَمَّ بسيئةٍ لم تُكتَب عليه، فإن تركَها لله كتبتْ له حسنة، وإن عَمِلَها كتبت عليه سيئة واحدة”.
وهذا في الهمّ الذي لا يكون إرادةً جازمةً، فإنّه همُّ قادرٍ لا همُّ عاجزٍ، فلو صار إرادةً مع القدرة لوجد الفعل. قال أحمد بن حنبل: الهمُّ همَّان: همُّ خطراتٍ وهمُّ إصرار. فأما إذا أراد الفعلَ إرادةً جازمةً وإنما منعَه العجزُ فهذا فيه حديث أبي كبشة الأنماري، يقتضي أنه والفاعل سواء، رواه أحمد والترمذي (1) وصححه، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الأربعة الذين أُعطِي أحدُهم علمًا ومالاً، فهو يعمل فيه بطاعة الله، وآخر أُعطِي علمًا ولم يُعطَ مالاً، فقال: لو أنّ لي مثلَ ما لفلانٍ لعَمِلتُ فيه مثلَ ما يَعملُ فلانٌ، قال: “فهما في الأجر سواء”. وآخر أُعطِي مالاً لا علمًا، فهو يعمل فيه بمعصية الله، وآخر لم يُعطَ علمًا ولا مالاً، فقال: لو أنّ لي مثلَ ما لفلانٍ لعملتُ فيه مثلَ ما يعمل فلان، قال: “فهما في الوزرِ سواء”.
فهذا في المريد الجازم العاجز عن الفعل، كما في الحديث الصحيح (2): “إن بالمدينة لَرِجالاً ما سِرتُم مَسِيرًا، ولا قطعتم واديًا إلّا كانوا معكم”، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: “وهم بالمدينة، حَبَسَهم
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 230، 231) والترمذي (2325). وقال الترمذي: حسن صحيح.
(2) أخرجه البخاري (4423) عن أنس بن مالك، ومسلم (1911) عن جابر.
(8/58)
العُذْرُ”. ومثل هذا قوله: “المرءُ مع من أحبَّ” (1).
فإن قيل: فقد قالوا في المعصية أن لا يقدر، فإذا كان يُعذَّب على الإرادة الجازمة فسواء قدر أو لم يَقدِر، ولأن الرجل لو عزم أن يعمل مثل عمل النبيين والصِّديقين من الصحابة لم يُجْزَ مثلهم.
قلت: الإرادة الجازمة مشروطة بالعلم المفصل، فما لم يتصوره الإنسان كما ينبغي لا يريدُه إرادة جازمة مع عدم القدرة، ونحن لا يمكننا أن نتصور أحوالَ الأنبياء والسابقين من المهاجرين والأنصار.
وأيضًا فالإرادة تقوى وتضعف بحسب القدرة والعجز، فالنفس لا تطمع من المعاصي غالبًا إلّا فيما هو من جنس مقدورها، فإذا لم تقدر على المعصية فهي في الغالب لا تريدها إرادة جازمة. مع أن هذا الحديث فيه القول مع النية، وبهذا قد يُجاب أيضًا عن قوله الذي في الصحيح (2): “إن الله تجاوز لأمتي عمَّا حدَّثَتْ به أنفسَها ما لم تتكلم به أو تعمل به”.
ومن الناس من يقول: التسوية في أصل الأجر لا في قَدْرِه. وقد احتج بعضهم على الإرادة بقوله: “إذا التقى المسلمان بسيفَيْهما فالقاتل والمقتول في النار”، قيل: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بالُ المقتول؟
_________
(1) أخرجه البخاري (6168) ومسلم (2640) عن ابن مسعود، وأخرجه البخاري (6170) ومسلم (2641) عن أبي موسى الأشعري.
(2) أخرجه البخاري (6664) ومسلم (127) عن أبي هريرة.
(8/59)
قال: “إنه أراد قتلَ صاحبِه”. ورُوِيَ: “إنه كان حريصًا على قتلِ صاحبِه” (1). فهذا في مريدٍ إرادةً جازمة لم يمنعه إلا العجزُ، وقد حاولَ أسبابَ القتل. فهو يوافق حديثَ أبي كبشة من وجهٍ.
وأما الإرادة الجازمة من القادر فلا توجد إلا ويُوجَد الفعل، فإنه متى وُجِدت الإرادة التامة والقدرة التامة وجب وجودُ الفعل، فإن ذلك هو سببه التام، فيمتنع عدمُ الفعل بعد وجود سببه التامّ. وحيثُ تعذَّرَ فلخللٍ في القدرة أو في الإرادة.
الوجه الرابع: أن الحسنات يتعدى ثوابُها فاعلَها، وأما السيئة فلا يُعاقَبُ عليها إلا فاعلُها، فإن المؤمن ينفعه الله بصلاة المؤمنين عليه ودعائهم له واستغفارهم، وبما يُفعَل عنه من العبادات المالية كالصدقة والعتق والحج، وكذلك العبادات البدنية عندنا وعند الجمهور، كالصلاة والقراءة والصيام والحج وغير ذلك، كما جاء في ذلك أحاديث معروفة، قطعةٌ منها في الصحيح. وتنفعهم شفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم -، وكذلك أطفال المؤمنين تبعٌ لآبائهم.
وأما العقاب فقال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، وقال: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]. وقد قررتُ في غير هذا الموضع أن النار لا يدخلها طفلٌ ولا مجنونٌ إلّا بعد أن يَعصِيَ الله ولو في عَرصاتِ القيامة، كما جاء في
_________
(1) أخرجه البخاري (31، 6875، 7083) ومسلم (2888) عن أبي بكرة.
(8/60)
الأحاديث (1).
ومن هذا الباب أن الجنة يبقى فيها فضلٌ، فيُنشِئُ الله لها أقوامًا يُدخِلهم الجنَة بفضلِ رحمته (2)، وأما النار فإنه يُضيِّقها على من فيها مِن الجِنَّةِ والناسِ أجمعين.
الوجه الخامس … (3).
وأما المقادير فإن التفاوت في الحسنات والسيئات يقع من ثلاثة أوجه:
أحدها: العمل المباشر، وإن لم يرتب عليه في الظاهر أمر مصلحة ولا مفسدة، بل كان أثره في نفس صاحبه.
الثاني: ما تولد عن العمل من المصالح والمفاسد، وإن كان العمل قليلاً.
الثالث: من مجموع الأمرين.
فالأول كما ذكرناه من تأثير النيات والعزائم الصادقة.
والثاني كقوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ
_________
(1) انظر الأحاديث الواردة في هذا الباب والكلام عليها في: طريق الهجرتين (ص 865 ــ 872).
(2) كما في حديث أنس الذي أخرجه البخاري (7384) ومسلم (2848).
(3) هنا بياض في الأصل.
(8/61)
وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120، 121]. فذكر في الآية الأولى أنه يكتب لهم بما تولد عن عملهم عملٌ صالحٌ، وذكر في الثانية أن نفس العمل والإنفاق يكتب لهم. ولهذا كان الصواب أن العمل المتولد ليس هو خارجًا عن فعل العبد وقدرته بكل حال، كما يقوله طائفة من متكلمي أهل الإثبات، ولا هو أيضًا فعلاً للعبد محضًا، كما يقوله المعتزلة، بل هو مشترك بين العبد الذي فعل سببه وبين السبب الخارج المعين على تمامه. فالعبد فاعل بعضه، ولهذا استحق الثواب والعقاب، قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]، وقال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].
وقال – صلى الله عليه وسلم -: “من دَعَا إلى هُدًى كان له من الأجر مثلُ أجورِ من اتبعَه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعَه مِن غيرِ أن ينقص من أوزارهم شيء” (1). وقال – صلى الله عليه وسلم -: “لا تُقتَل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم كِفْلٌ من ذنبها؛ لأنه أولُ
_________
(1) أخرجه مسلم (2674) عن أبي هريرة.
(8/62)
من سَنَّ القتلَ” (1). وقال – صلى الله عليه وسلم -: “إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظنُّ أن تبلُغَ ما بلغتْ، يكتبُ الله له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ اللهِ ما يظنُّ أن تبلُغَ ما بلغتْ، يكتب الله له بها سَخَطَه إلى يومِ يلقاه” (2). قال زيد بن أسلم: كانوا يَرَون ذلك في الكلمة عند الأمراء، وذلك لعموم نفعِ الكلمة وعمومِ مضرَّتِها.
فهذا الباب كلُّه إنما الجزاءُ فيه على عمل الإنسان، وذلك المتولد من عمله وعمل غيره، أو من سببٍ غير عمل غيره، هو بمنزلةِ الولد المتولد من الأبوين، هو مشترك بينهما ويُضاف إلى كلٍّ منهما إضافةً كاملة، فإنه لا يمكن وقوعُها إلّا كذلك، لا يمكن أن تنفرد به قدرة العمل وعمله، فإن قدرته لا تُؤثِّر تأثيرًا مستقلًّا إلا في محلِّها، فلما كان هذا هو الممكن منه في مثل هذا العمل كان عاملاً كاملاً كالعازم العاجز وأولى.
فصارت المراتب الثلاثة: العازم العاجز، والعازم المعين العاجز عن الانفراد، والفاعل المستقل، وللثلاثة جزاءٌ كامل، والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا.
_________
(1) أخرجه البخاري (3335، 6867) ومسلم (1677) عن ابن مسعود.
(2) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 985) والترمذي (2320) عن بلال بن الحارث المزني. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(8/63)
فصل (1)
قال الله تعالى في سورة النساء بعد الآية التي أمر فيها بقواعد الشريعة {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ}: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 36، 37]، وقال في سورة الحديد: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الحديد: 21 ــ 24]. ففي كلا الموضعين وصف المختال الفخور بأنه يبخل ويأمر الناس بالبخل، وهذا ــ والله أعلم ــ يوافق ما رواه أبو داود (2) وغيره عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “من الخُيَلاء ما يحبُّها الله، ومن الخيلاء ما يبغضها الله، فأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل نفسه في الحرب، واختياله نفسه عند الصدقة ــ أو كما قال ــ، وأما الخيلاء التي يبغضها الله فالخيلاء في البغي والفخر”.
_________
(1) فوقه بخط المؤلف: “قد كتبت ما يتعلق بهذا فيما بعد هذه الكراسة”.
(2) برقم (2659) عن جابر بن عتيك. وأخرجه أيضًا أحمد (5/ 446) والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 156). وفي إسناده ابن جابر بن عتيك مجهول الحال. وله شاهد من حديث عقبة بن عامر الجهني عند أحمد (4/ 154)، وإسناده ضعيف، وبمجموعهما يحسَّن الحديث.
(8/64)
فإنه أخبر أن من الخيلاء ما يحبُّها الله، وهي الخيلاء في السماحة والشجاعة، ولذلك قال لأبي دُجانة يومَ أُحد لما اختالَ بين الصفَّينِ، فقال: “إنها لمشيةٌ يُبغِضها الله إلا في هذا الموطن” (1). ولهذا جوزنا في أحد القولين ما رويناه عن عمر من لُبْسِ الحريرِ في الحرب (2)، لأن الخيلاء التي فيه محبوبة في الحرب، كما دَلَّ عليه الحديثانِ. وذلك ــ والله أعلم ــ لأن الاختيال من التخيّل، والتخيل من باب التصور الذي قد يكون تصورًا للموجود، وقد يكون تصوُّرًا للمقصود، فإن كان مطابقًا للموجود ومحمودًا في القصد فهو تخيُّلٌ حقٌّ نافع، وإن كان مخالفًا للموجود ومذمومًا في القصد فهو الباطل الضارُّ. والشَجاعة والسماحة لابدَّ فيها من قوةٍ للنفس لا تتمُّ إلّا بتصُّورِ محبوبٍ يَحُضُّه على الشجاعة والسماحة، وإلّا ففي هذا بذلُ النفسِ وفي هذا بذلُ المالِ الذي هو مادة النفس، فإن لم تتصور النفسُ أمرًا محبوبًا يَعتاض به عما يَبذُله من النفس والمال لم يأتِ بالشجاعة والسماحة. فيُحِبُّ الله تخيُّلَ المقاصدِ الرفيعة والمطالبِ العالية التي تَحُضُّ على الشجاعة والسماحة، فإن الله يُحِبّ معاليَ الأخلاقِ ويكره سَفْسَافَها، ويُحبّ معالي الأمور (3).
_________
(1) أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2/ 67). وانظر البداية والنهاية (5/ 355).
(2) انظر: السنن الكبرى للبيهقي (3/ 269).
(3) وردَ فيه عدة أحاديث عن جابر وسهل بن سعد وحسين بن علي. أخرجها الطبراني. انظر مجمع الزوائد (8/ 188).
(8/65)
فهذا إذا كان تخيُّلٌ مقصودٌ، وأما إذا كان تخيُّلٌ موجودٌ فلأن الشجاعة التي مضمونُها النصرةُ ودفعُ الباطلِ والضررِ، والسماحة التي مضمونها الرزق وإقامة الحق والنفع، هما عظيمان في أنفسهما، وإليهما ترجع صفات الكمال من جلب المنفعة ودفع المضرة، فإذا كان تخيُّل الفاعل نفسه عظيمًا عند صدور ذلك منه كان مطابقًا، فكان اعتقادًا صحيحًا نافعًا، ولهذا لم يذكر أن الله يحبه إلّا في الحرب والصدقة، لأنه في هذا الموطن هو صحيح نافع، لأنه يحضُّ على المحبوب، وما أعان على المحبوب محبوب، فأما بعد صدور ذلك منه فإنه فخرٌ أو مَنٌّ، والله لا يُحبّ الفخور ولا المنّان. وصار في هذه المنزلة بمنزلة شهوة الطعام عند الأكل، وشهوةِ النكاح عند مباضعةِ الرجلِ أهله، فإن ذلك نافع، به تحصلُ المصلحةُ، بخلافِ الشهوة في حالِ الزنا وأكلِ مالِ الغير.
فلما قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الحديد: 23، 24]، والبخلُ منعُ النافعِ، قيَّد هذا بهذا.
وقد كتبتُ فيما قبلَ هذا من التعاليق الكلامَ في التواضع والإحسان والكلامَ في التكبر والبخل.
(8/66)
فصل
ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من حديث أم كلثوم أنه قال: “ليس الكذاب الذي يُصلِح بين الناس، فيَنْمِي خيرًا ويقول خيرًا”. وثبت عنه أنه قال: “الحرب خدعة” (2)، وكان إذا أراد غزوةً ورَّى بغيرها. وثبتَ عنه أنه قال: “بئسَ أخو العشيرة”، فلما دخلَ ألانَ له القول وقال: “يا عائشة، إن شرَّ الناس مَن وَدَعَه الناسُ اتقاءَ فُحشِه” (3).
قالت أم كلثوم: ولم أسمعه يُرخِّص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في الحرب والإصلاح بين الناس والرجل يُحدِّث امرأته (4).
فهذه المعاني التي جاءت بها النصوص يجمعُها نوعان: المسالمة لمن أمر الله بمسالمتِه، والمحاربة لمن أمر الله بمحاربته. فالإصلاح بين الاثنين هو من نوع المسالمة الشرعية، وإصلاح الرجل بينه وبين امرأته من أعظم الإصلاح والمسالمة الشرعية، وكذلك إصلاح الرجل بينه وبين من يؤمر بمسالمته من إخوانه ورعيته وأئمته. فإذا كان هو مأمورًا بأن يصلح بين فئتين من المؤمنين غيره، فلأن يُؤمَر أن يُصلِح بينه وبين
_________
(1) البخاري (2692) ومسلم (2605).
(2) أخرجه البخاري (3030) ومسلم (1739) عن جابر بن عبد الله.
(3) أخرجه البخاري (6032) ومسلم (2591) عن عائشة.
(4) بعده في الأصل بياض بقدر ستة أسطر. وقول أم كلثوم عند مسلم (2605) ضمن الحديث السابق.
(8/67)
إخوانه من المؤمنين أولى، فإنه إلى هذا أحوج، وهو عليه أوكدُ إيجابًا أو استحبابًا، إذ التأليف بين الناس والإصلاح بينهم فرعُ مؤالفتِه لهم وصلاح حالهِ معهم. قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96]، وقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، وقال: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
والمحاربة الشرعية أصلها ظاهرًا لأهل الحرب من الكفار، وفي الباطن وبعضِ الظاهر للمنافقين، والمرخَّص فيه هو المعاريض بالاتفاق، وقد يسمَّى كذبًا، كما قال – صلى الله عليه وسلم -: “لم يَكذِبْ إبراهيم إلّا ثلاثَ كذباتٍ كلُّهنّ في ذات الله” (1). وهذه الثلاث هي من باب المعاريض.
وأما الكذب الصريح ففيه قولان، أظهرهما أنه لا يباح، ولهذا قالت: ولم أسمعه يُرخِّص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث.
ومن الحرب المباحة دفعُ المظالم عن النفوس والأموال والأبضاع المعصومة (2).
_________
(1) أخرجه البخاري (3357، 3358) ومسلم (2371) عن أبي هريرة.
(2) بعده في الأصل بياض بقدر تسعة أسطر.
(8/68)
وإنما جاءت الرخصة في السلم والحرب خاصة؛ لأن هذين الموطنين مبناهما على تأليف القلوب وتنفيرها، فإذا تألفت فهي المسالمة، وإذا تنفَّرت فهي المحاربة، والتأليفُ والتنفير يَحصُل بالتوهُّمات كما يَحصُل بالحقائق، ولهذا يؤثِّر قول الشعر في التأليف والتنفير، بحيث يُحرِّك النفوسَ شهوةً ونفرةً تحريكًا عظيمًا وإن لم يكن الكلامُ منطبقًا على الحق، لكن لأجل تخييلٍ أو تمثيل. فلما كانت المسالمة والمحاربة الشرعية يقوم فيها التوهمُ لما لا حقيقة له، والباطنُ لم يعن إلا الحقَّ= صار ذلك صفاءً وصدقًا عند المتكلم، وموهمًا للمستمع توهُّمًا يؤلِّفه تأليفًا يحبه الله ورسولُه، أو يُنفِّره تنفيرًا يحبُّه الله ورسولُه، بمنزلة تأليفه وتنفيره بالأشعار التي فيها تخييلٌ وتمثيلٌ، وبمنزلة الحكايات التي فيها أمثال مضروبة، فإن الأمثال المنظومة والمنثورة إذا كانت حقًّا مطابقًا فهي من الشعر الذي هو حكمة، وإن كان فيها تشبيهاتٌ شديدة وتخيلات عظيمة أفادت تأليفًا وتنفيرًا.
(8/69)
فصل
أثبتَ أئمة من أهل السنة “الحدَّ”، كما قيل لعبد الله بن المبارك: بماذا نَعرِف ربَّنا؟ قال: بأنه فوقَ سماواته على عرشِه، بائن من خلقِه، قيل له: بحدٍّ؟ قال: بحدٍّ (1).
وكذلك أحمد في أشهر الروايتين عنه، وكثير من أصحابه كالقاضي وابن الزاغوني وغيرهما، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن سعيد الدارمي في ردّه على المريسي (2) وحكاه عن أهل السنة، وشيخ الإسلام الهروي (3)، وخلق كثيرين.
وأنكر ذلك آخرون من المتكلمين، كأبي المعالي الجويني وطوائف من المعتزلة والأشعرية، وبعض الحنبلية.
وفصلُ الخطاب (4): أن “الحدَّ” له عدة معانٍ تَرجِع إلى أصلين:
_________
(1) أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية (ص 39 ــ 40، 83) وعبد الله بن أحمد في كتاب السنة (1/ 111) والخلال في كتاب السنة كما في درء تعارض العقل والنقل (2/ 34) وبيان تلبيس الجهمية (2/ 605، 613) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 537، 538).
(2) (ص 70).
(3) في كتابه ذم الكلام (4/ 337، 338).
(4) انظر ما كتبه شيخ الإسلام في هذا الموضوع في: بيان تلبيس الجهمية (2/ 604 وما بعدها) و (3/ 23 وما بعدها) ودرء التعارض (2/ 34، 35).
(8/70)
منها ما هو متفق عليه بين المسلمين، ومنها ما هو متفق عليه بين أهل السنة، ومنها ما هو متنازَعٌ فيه؛ فإن “الحدَّ” يكون لحقيقة الشيء النوعية، وهو حدُّ الماهية. ويكون لعينه الذاتية، وهو حدٌّ لوجوده.
فالأول هو الحدُّ الذي يتكلم فيه المتكلمون من المنطقيين وغيرهم.
والثاني كالحدّ الذي يَنعَتُه الشروطيون (1) في حدود العقار وفي حُلَى الأشخاص.
فإذا انحصر نوعُه في شخصه كالشمس مثلاً كان له حدٌّ بالاعتبارين، وهو بالاعتبار الأول كليٌّ، لا يمنع نفسُ تصور معناه من وقوع الشركة فيه. وهو بالاعتبار الثاني عينيٌّ، يمنع تصورُه من وقوع الشركة فيه (2).
وإن قيل: إن وجود كلِّ شيء عينُ ماهيته، أو قيل بذلك في حق الله تعالى فقط، كان الحدُّ الذي هو حقيقته العينية الوجودية هو الحدّ الذي هو الماهية النوعية إذا عُنِي به حقيقةُ المحدود. وإن عُنِي بالحد القول الدالُّ على ماهية الشيء لم يكن لذلك وجودٌ إلّا في الذهن لا في الخارج. والله أعلم.
فأما الأول فقد يُعنَى بالحدّ حقيقةُ الشيء، وقد يُعنَى به القول الدال على ماهيته.
_________
(1) في الأصل: “الشروطيين”.
(2) بعدها في الأصل على الهامش عبارات غير واضحة لم أستطع قراءتها.
(8/71)
فأما الحدّ بمعنى حقيقة الشيء التي هو بها يتميز عن غيره، فلا ريبَ بين المسلمين أن الله له حقيقة وذات؛ فذلك حدُّه الذي لا يعلمه غيرُه، كما جاء في الأثر: “يا من لا يعلم ما هو إلا [هو]، ولا يبلُغ قدرتَه غيرُه” (1).
وهل يقال: له ماهيةٌ لا يعلمها غيرُه، ولا تجرِي ماهيتُه في مقال؟ أو يقال: لا ماهيةَ له؟ على قولين لأصحابنا وغيرهم. والأول قولُ أكثرهم.
وأما الحدّ بمعنى القول، فله أسماء تُميِّزه عن غيره، وله حدودٌ بخواصِّه التي تُميِّزه عن [غيره]، كقولنا: رب العالمين، وخالق السماوات والأرض، والأول الآخر، والظاهر الباطن.
وأما الحدُّ المركب من الجنس والفصل فلا يجوز في حق الله تعالى.
فأما حدّ عينه الذاتية فيُراد به: حدّ بذاته، وحدّ بصفاته، وحدّ بمقداره.
فأما الأول فهو بمعنى انفصاله عن غيره وتميُّزه عنه، بحيث لا يختلط به. وهذا داخلٌ فيما قصده ابن المبارك وغيره، خلافًا للجهمية الذين يجعلونه مختلطًا بالمخلوقات. ولهذا قال: بائنٌ من خلقِه بحدٍّ؛ فإن الحدَّ هو الفصل والتمييز بينه وبين غيره. والحدّ بهذا المعنى متفق
_________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في الفرج بعد الشدة (ص 34) عن إبراهيم بن خلاد الأزدي قال: نزل جبريل عليه السلام على يعقوب، فشكا إليه ما هو فيه، فعلَّمه هذا الدعاء.
(8/72)
عليه بين أهل السنة القائلين بأن الله فوقَ العرش، بل وعند الذين يقولون: لا داخلَ العالم ولا خارجَه أيضًا؛ فإن الأعراض المختلفة كالطعم واللون والريح إذا قامت بجسم واحدٍ كانت متميزةً بخصائصها وحدودها، وليست متميّزة بأعيانها وذواتها (1).
وأما الثاني فهو بمعنى صفاته القائمة به المميِّزة له عن غيره، كما يقال في حلية الموصوف ونُعوته، فله حدٌّ بهذا الاعتبار.
وأما الحدّ بمعنى المقدار والنهاية فهذا مورد النزاع، فقيل: لا حدَّ له ولا غايةَ ولا مقدارَ. وقيل: له حدٌّ من جانب العرش فقط. وقيل: له حدٌّ ونهاية لا يعلمها غيرُه؛ إذ لا يُعقَل موجودٌ بدُونِ ذلك. وقد يقال: إن ابن المبارك وغيره قصدوه؛ إذ لو لم يريدوا ذلك لم يكن حاجة إلى قولهم: على عرشه، بل يكفي أن يقال: هو منفصل عن خلقِه متميز عنهم.
_________
(1) بعدها في الأصل عبارات مطموسة.
(8/73)
فصل
الهجرة المشروعة كقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ} [الأنعام: 68]، وقوله: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [الصافات: 178]، وقوله: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]، وهجرة الصحابة إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وهجرة المسلم من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهجرة الناس من دار الفجور والبدعة إلى دار البر والسنة، وهجران المعلنين بالمعاصي والمظهرين للبدع، كما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بهجرة الثلاثة الذين خُلِّفوا، وأمر عمر بهجر صَبيغ بن عِسْل، وأمر الأئمة بهجران الدُّعاةِ إلى البدع بحيثُ لا يُتَّخذون حُكَّامًا ولا شهودًا ولا أئمةً ولا مفتين ولا محدِّثين، ولا يُجالَسون ولا يُخاطَبون ونحو ذلك. كل هذا له مقصودانِ:
أحدهما: اشتمال ذلك على أداء الواجبات وترك المحرَّمات، فإن هجران الذنوب تركُها، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “المهاجر مَن هجَر ما نهَى الله عنه” (1). والهجرةُ من دار الحرب ليتمكن المسلمُ من إقامة دينِه ولوائِه الجهاد. ولئلا يقع فيما هم فيه. وكذلك هجرانُ قُرناءِ السُّوءِ، لئلا يرى القبيحَ ويسمعه فيكون شريكًا لهم، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}
_________
(1) أخرجه البخاري (10) عن عبد الله بن عمرو.
(8/74)
[النساء: 140]، ولئلا يُوقِعوه في بعض ذنوبهم، فإن “المرء على دين خليله فلينظر أحدُكم من يخالل” (1). فالأول يكون بترك مخالطتهم وقتَ الذنوب، وإن خُولِطوا في غيرِها للضرورة. والثاني يكون بترك عِشْرتهم مطلقًا، فإن المعاشرة قد تَجُرُّ إلى القبيح، فمن كان مضطرًّا إلى معاشرتهم أو كان هو الحاكم عليهم دينًا ودُنيا فهذا لا يُنهَى عن المعاشرة، بخلاف ……. (2) الذين قد يُفسِدون عقلَه أو دينَه أو نحو ذلك.
المقصود الثاني: تضمُّنُها نهي المهجور وتعزيره وعقوبته فيكون جزاءً له ……. (3) له ولغيره من ضُرَبائه، كسائر أنواع التعزير والعقوبات المشروعة. فهذه الهجرة من جنس العقوبات والتعزيرات لتنكيل المهجور وغيره على ذلك الذنب، وتلك الهجرة من جنس التقوى والاحتراز عن مواقعة المحظور [ات] البدعية والفجورية، فالأولى تحقيق التقوى، والثانية تحقيق الجهاد، فالأولى من فعل الذين هاجروا، والثانية من فعل الذين جاهدوا. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72].
_________
(1) أخرجه أبو داود (4833) والترمذي (2379) عن أبي هريرة. وإسناده حسن.
(2) هنا كلمة غير واضحة.
(3) هنا كلمات مطموسة.
(8/75)
ولهذا لا يصلح …… (1) إلا مع المكنة والقدرة، كما لا تصلُح المعاقبةُ إلا للقادر المتمكن، بخلاف الأولى. ولهذا كانت الأولى مشروعة بمكة، والثانية إنما شُرِعتْ بالمدينة بعد تبوك لما كان الإسلام في غاية القوة، فإن الثانية تتضمن تركَ السلام عليه وتركَ عيادتِه وتقديمِه في شيء من المراتب الدينية، كالإمامة والحكم والشهادة والحديث والفتوى.
وهذا إذا كان ممن يؤثر في المهجور حصول المنفعة، وربما كان فيه منفعة ومضرة فيُراعَى ما غلبَ منهما، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأوقات، وتختلف فيه الاجتهادات، وقد يُستغنى عن الهجرة بالتأليف. فالغرض النهيُ عن المنكر بأقرب الطرق، وتحصيلُ المعروف على أكمل الوجه. والله أعلم.
وأهل السنة والحديث يهجرون الداعية إلى البدع من الكلام أو الرأي أو العيادة، ولهذا كان أهل السنة قد تجنبوا فيها الرواية عن الدعاة إلى البدع عندهم من أهل الكلام كعمرو بن عبيد وغيره، ومن أهل الرأي كأهل الرأي من أهل الكوفة، وهو فعل أحمد بن حنبل معهم، وهذا تفصيله مذكور في غير هذا الموضع.
_________
(1) هنا كلمة مبتورة. ولعلها “الهجر”.
(8/76)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله وحده لا شريك له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا.
قاعدة في جماع الدين
قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25]، أخبر سبحانه أنه أنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديدٌ ومنافع للناس، فالكتاب يهدي والحديد ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا.
فأول ما أنزل على الرسول الأمر بقراءة الكتاب بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
(8/77)
الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، فلما هاجر إلى دار النصر أذن له أن يقاتل بالحديد، فالكتاب هو العلم، والحديد هو القدرة، وكلاهما سلطان، والكتاب قيام الصلاة، والحديد قيام الجهاد، ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة والجهاد، وكان الأمير يتولاهما جميعًا، أمير الحرب هو إمام الصلاة، وكلاهما فيه الصف الذي يحبُّه الله، وكلاهما فيه الطاعة والجماعة. ولهذا كان أول ما نزل من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، فأول هذه السورة الأمر بالقراءة، وآخرها الأمر بالسجود {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
والصلاة أقوال وأعمال، فأفضل أقوالها القراءة، وهو أوكد أركانها القولية، وأفضل أعمالها السجود، وهو أوكد أركانها الفعلية. وقد اختلف العلماء أيهما أفضل؟ كثرة الركوع والسجود أو طول القيام؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد، أصحُّها أنهما سواء، فإن فضل الركوع والسجود يُعادِلُه فضل القراءة. ولهذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يُسوِّي بينهما، فإذا أطال أحدَهما أطال الآخر، كما في قيام الليل وصلاة الكسوف، وبالعكس.
وهذان الركنان مشروعان على سبيل الاستقلال، فإن القرآن يُقرأ خارجَ الصلاة، والسجود يُفعَل مفردًا في سجود التلاوة والشكر والسهو، وآخر السور {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، وهو تمام مقصود الجهاد.
ولهذا كان خواصُّ الأمة صنفين: العلماء أهل القرآن، والأمراء أهل السيف، وهم أولو الأمر الذين قال الله فيهم: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فهؤلاء أولو الأمر.
وأما أقسام الأمة فقد ذكرهم في سورة المزمل لما نسخَ ما كان افترضه من قيام الليل، فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ
(8/78)
وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]، فأمرهم بقراءة ما تيسَّر من القرآن، فإن من المسلمين المعذور بالمرض، ومنهم التاجر الضارب في الأرض يطلب فضل الله، ومنهم المقاتل في سبيل الله.
ولهذا كانت أصناف الأمة ثلاثة: أهل القرآن، وأهل المال، وأهل السيف، وكانوا يسمون أهل القرآن “القراء”، وهو اسمٌ يجمع عندهم لأهل العلم والدين، فإن العلماء إنما كانوا يتفقهون في القرآن، والعبَّاد إنما كانوا يتعبدون بالقرآن، فأهل العلم والكلام لهم ما أنزله الله من العلم والكلام، وأهل السماع والوجد لهم سماع القرآن والوجد به، وكان هذا الصنف في السلف شيئًا واحدًا قبل تفرق الأمة.
ويؤخذ من الآية أن المريض والمسافر والمجاهد يُكتبَ له مثل ما كان يعمل، كما ثبت في الصحيح (1) عن أبي موسى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ له من العمل مثلُ ما كان يعمل وهو صحيح مقيم”. فهذا نصٌّ في المسافر والمريض، وأما المجاهد فأمره أبلغُ من هذا، فإن في الصحيح (2) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “مثل المجاهد
_________
(1) أخرجه البخاري (2996) عن أبي موسى الأشعري.
(2) أخرجه البخاري (2787) عن أبي هريرة.
(8/79)
في سبيل الله مثل الصائم القائم القانت الذي لا يَفتُر في صلاة ولا صيام”. وقال له رجل: أخبرني بعملٍ يَعدِلُ الجهادَ في سبيل الله، قال: “لا تستطيع”، قال: أخبِرْني به، قال: “هل تستطيع إذا خرج المجاهدُ أن تصومَ لا تُفطِر وتقومَ لا تَفتُر؟ ” قال: لا، قال: “فذلك الذي يَعدِلُ الجهادَ في سبيل الله” (1). إلى أمثال هذه النصوص.
ولما تفرقت الأمةُ صار من جنس أهل القرآن سائرُ أنواع أهل العلم والدين، حتى إنه لما انتشر الأمر صار من جنسهم أهلُ التكلم في العلم والتعبُّد من أهل البدع وغيرهم. ولما ظهرت الدولة الجاهلية دولة المغل جعلوا العالم كذلك ثلاثة أقسام: أهل السيف وهم المقاتلة، وأهل المال والصناعات، ويسمونهم “الصاط” (2)، وأهل العلم والدين، ويسمونهم “دَانِشْمَنْد”، ويدخل في هذا عندهم الفقيه والزاهد، والقسيس والراهب وعلماء اليهود، والأطباء والحُسَّاب، وعلماء الصابئة والمشركين من المنجمين والنجسية (3) وغير ذلك.
وكذلك صار من جنس أهل الجهاد كل حامل سلاحٍ وأعوانهم، سواء كانوا يقاتلون في سبيل الله أو في سبيل الملوك أو القبائل أو غير ذلك. وكذلك صار من جنس التجّار وُلاة الأموال الخاصة والمشتركة من الكتَّاب والوزراء.
_________
(1) أخرجه البخاري (2785) ومسلم (1878) عن أبي هريرة.
(2) كذا في الأصل، ولم أتبين وجه الصواب.
(3) يراجع مجموع الفتاوى (13/ 219) والتحرير والتنوير (10/ 160).
(8/80)
فصل
قد ذكرتُ في غير هذا الموضع أن الناس اختلفوا في مسمى الإنسان: هل هو الجسد وهو الجملة المشاهَدة، كما يقوله أكثر أهل الكلام من أصحابنا وغيرهم، أو هو اسمٌ لمعنًى وراءَ هذه الجملة وهو الروح، كما يقوله كثير من أهل الفلسفة وطائفة من أهل الكلام، أو هو اسمٌ للمجموع؟ على ثلاثة أقوال.
والثالث هو الصواب الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، وعليه عامة أهل السنة وجمهور الناس، وإن كان الاسم عند التقييد يتناول الجسدَ فقط، أو الروح فقط، أو أحدهما بشرط الآخر، فيكون الآخر شرطًا تارةً، كما كان شَطْرًا في الأصل.
وكذلك اختلفوا في وصفه الظاهر، وهو النطق المذكور في قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، هل هو اسمٌ للحروف والأصوات فقط؟ كما هو قول المعتزلة وطائفة من أهل السنة من أصحابنا وغيرهم، أو هو اسمٌ لمعنًى قائمٍ بالنفس وراءَ الحروف والأصوات؟ كما هو قول الكلّابية والأشعرية وبعض أهل الحديث والسنة، أو هو اسمٌ لمجموع اللفظ والمعنى؟ على ثلاثة أقوال.
والثالث هو الصواب الذي عليه الأئمة، وهو منصوص أحمد
(8/81)
وغيره، حيث قد نصَّ على أن كل واحدٍ من المعاني والحروف داخلةٌ في مسمى الكلام، وهو قول جمهور الخلق، وهو مدلول الكتاب والسنة، وإن كان الكلام يقع [على اللفظ] تارةً وعلى المعنى تارةً، إما مجردًا وإما بشرطِ الآخر، وهذا في الحروف كثير، فإن إضافة الكلام والمنطق والقول إلى اللسان ووضع ذلك على الحروف والأصوات كثير.
وأما إضافة ذلك إلى النفس والقلب ووضع ذلك على المعاني فمثل قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله تجاوز لأمتي عمّا حدَّثتْ به أنفسَها ما لم تتكلَّمْ به أو تعملْ به” (1)، ومثل قول أبي الدرداء: ليحذَرْ أحدُكم أن تلعنَه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر (2)، وقوله: إنا لنكشِرُ في وجوه أقوامٍ وإن قلوبنا لَتلعنُهم (3). فأضاف اللعنة إلى القلوب، واللعنة من الدعاء الذي هو أحد نوعي الكلام. ومثل قول الحسن البصري: ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر، وبالتفكر على التذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقَتْ، فإذا لها أسماعٌ وأبصارٌ، فأورثت العلمَ ونطقت بالحكمة. ومثل قول الجنيد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب.
_________
(1) أخرجه البخاري (2528، 5269، 6664) ومسلم (127) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد في الزهد (ص 142) ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (7/ 300).
(3) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 222).
(8/82)
فصل
قال الله تعالى فيما ذكره من موعظة لقمان لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]، ويُشبهها قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
وذلك أن فعلَ الإنسانِ وسائرِ الحيوان إما حركةٌ وإما صوتٌ، وإن كان يدخل في مسمَّى الحركات والأصوات أمورٌ كثيرة، فأمر لقمان بالقصد في المشي الذي هو الحركة والعمل، وبأن يغض من الصوت، فكان في هذا دلالةٌ على كراهة ما خرجَ عن القَصْدِ والغَضِّ، مثل الصوتين الأحمقين الفاجرين عند النعمة: صوتِ الفرح بالغناء والزَّمْر، وعند المصيبة بالنَّدبِ والنوح. وقال للشيطان: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]، وصوتُ الشيطان ما يُحِبُّه ويأمرُ به وإن كان قائمًا بإنسانٍ أو جمادٍ كأصواتِ الملاهي وغيرها، فصوتُ الشيطان يَستفِزُّ الناسَ أي يُحرِّكهم ويُزعِجُهم ويُثِيرُهم. وهذا أثر الصوت وهو التحريك كما أنه صادر عن الحركة، فسببه الحركة وغايتُه الحركة.
والأصوات تؤثِّر في الحيوان بحسبها، فإذا كان الحيوان له قوتان: قوة الشهوة والجذب، وقوة الغضب والدفع، كان الصوتُ منقسمًا إلى هذين القسمين: صوت للمحبوب وصوت للمكروه. كما أن الحركة
(8/83)
تنقسم إلى هذين القسمين. ثم إما أن يكون الصوت والحركة لطلب المحبوب أو دفع المكروه أو لحصول المحبوب أو لحصولِ المكروه، فصارت الأصوات أربعة: صوت شوق، وصوت غضب، وصوت فرح، وصوت حزن. فالشوق والفرح من بابٍ، والغضب والحزن من باب.
ولهذا نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الصوتين الأحمقين الفاجرين: صوتِ الحزن وصوتِ الفرح (1)، ولهذا استُحِبَّ خفضُ الصوتِ في المواطن الثلاث: موطن الغضب والحزن وموطن الذكر، قال قيس بن عُبَاد: كانوا يستحبون خفضَ الصوتِ عند الذكر وعند الجنائز وعند التحام الحرب (2).
وقد ابتدع الناسُ عند الذكر رفعَ أصواتٍ وعند الجنائزِ أيضًا، وعند الحرب بُوقاتٍ ودَبادِبَ، وابتدعوا المكاء والتصدية المضارع للذكر، وحصل عنده أصواتٌ وحركاتٌ. ورخِّص في الصوت عند الفرح الشرعي، واستحبَّ عند النكاح لإعلانه.
فالذي يحصل من الرقص والحركات هو خلاف القصد في المشي، والذي يحصل من الغناء والمزامير خلاف غضّ الصوت، ولهذا
_________
(1) أخرجه أبو يعلى والبزار عن جابر بن عبد الله، كما في مجمع الزوائد (3/ 17)، قال الهيثمي: “في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وفيه كلام”. وانظر: شرح السنة للبغوي (5/ 431).
(2) أخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 274). وأخرج أبو داود (2656) عنه قوله: كان أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – يكرهون الصوت عند القتال.
(8/84)
يحصل بهذا خلافُ ما ذكر الله في قوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 72، 73]، فإنهم يُصغُون إلى اللغو ويخرّون عند آيات الله صمًّا وعميانًا، والصوت المطلق أو المتضمن لنوع تشويق أو تحزين أو تفريح أو تغضيب يُوجب حركةً مطلقةً، لا إلى معبود معيَّن ولا لعبادة معينة، فلذا تجد غالبَ المتنغمين للصوت المطلق أربابَ حركةٍ مطلقةٍ ضالِّين، لا يَعرِفون من يعبدون ولا بماذا يعبدون. لكن قد يحصل لهم تأثيرات شيطانية لاستفزاز الشيطان. فظهر بالانحراف اليهودي صوت الغضب بالحاجات العلمية، وبالانحراف النصاري صوت بالمطربات الجالبة الخطأ لمعترض (1).
وأما سببه فقد يكون حركة حيوان، وقد يكون حركة غير حيوان، إما طبعية وإما قَسْرية، ولكن القسرية الطبعية فرع الاختيارية، فإن الحيوان …… (2) إلا عن حيوان.
يبيِّن ذلك أنه لما حصل في المنحرفين إلى شبهٍ من النصرانية التحركُ عن الصوت المطلق، سواء كان بالآيات أو بأبيات، بل منهم من يُرجّح السماع لصوت الأبيات، لما تتضمنُه من مطلق وصف الشوق والوصل والهجر وأحوال الحبّ المطلق أو الحزن المطلق، بل قد
_________
(1) كذا في الأصل. ولم أعرف وجه الصواب.
(2) هنا في الأصل كلمات غير واضحة.
(8/85)
يُرجِّح سماعَ الصوتِ المحض الذي لا حروفَ معه، سواء كان صوت إنسانٍ بمجرده أو مقترنًا بالأبواق والصفّارات والدُّفوف المصلصلة والأوتار وغير ذلك، لما في الصوت من تحريكه وتهييجه والتذاذه به بحسب حاله، كما يُصيب المتحرك عن الشراب والطعام الجسماني من الخمر والحشيشة، أو عن العيان النفساني في الشاهد ونحوه.
وهذا الانحراف إنما وقع في النصارى من الصابئة الفلاسفة الذين هم أئمة صناعة الصوت التي يسمونها الموسيقى، دخل بسبب هذا القدر المشترك بينهم وبين الصائبة قومٌ من الصابئة في اسم التصوف ونحوه، وقرروا الانحرافات الصابئية. قال الشافعي رضي الله عنه: خلَّفتُ ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير، يصدُّون به الناسَ عن القرآن (1). فإن إحداث التغبير إنما هو من المتفلسفة الزنادقة، ولهذا قال أبو عبد الرحمن السلمي في “مسألة السماع” عن ابن الراوندي أنه قال: اختلفَ الفقهاءُ في السماع هل هو حلال أو حرام؟ وأنا أقول: هو واجب (2). وهذا قول الزنادقة كما ذكره الشافعي.
ولهذا قرَّر ابن سينا في الإشارات (3) وغيرُه من المتفلسفة أمْرَ سماع الألحان وعشْق الصور، وجعلوه من جملة الطريق التي تُوصِلُ إلى الله
_________
(1) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال (ص 299) والرد على من يحب السماع لأبي الطيب الطبري (ص 28) وتلبيس إبليس (ص 230).
(2) ذكره المؤلف في كتاب الاستقامة (1/ 238، 239).
(3) انظر (4/ 820 ــ 827) منه.
(8/86)
وتُزكِّي النفوس، وهاتان الآفتان هي التي دخل بها الشيطانُ في المتصوفة، كما قال (1): رأيتُ إبليسَ فقلت: يا عدوَّ الله، نَجَوْنا منك، فإنا تركنا الدنيا التي تصطاد بها الناس، أو كلامًا هذا معناه. فقال: ولكن بقي لي فيكم لطيفة السماع وصحبة الأحداث.
لكن العقلاء إذا وقعوا في ذلك علموا أنه من هَوَى النفوس، وأنه من الذنوب التي يجب على صاحبها التوبة والاستغفار. وأما الضالُّون فاتخذوه دينًا، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} [الأعراف: 51]، فلَهَوْا عن الحق ولعبوا بالباطل. وهذا شأن هذه السيئات المنهي عنها من الأغاني ونحوه كالخمر، فإنها تَصُدُّ عن الحسنات المأمور بها من الذكر والصلاة والعلم النافع والعمل الصالح، وتُوقِع في مفاسدَ بحسبها، كما تُوقِع الخمرُ في العداوة والبغضاء، إما في زنًا وإما في نفاق، كما قال ابن مسعود: الغناء يُنبتُ النفاقَ في القلب كما يُنبت الماءُ البقلَ (2).
فخَمرُ الجسم هي الشرابُ وتُسكِر صاحِبَها، وخمرُ النفس هي الصور والعشق، وهي تُسكِر صاحبَها، وخمرُ الأرواح الصوتُ المطرب
_________
(1) بعده بياض في الأصل قدر أربع كلمات، كأنه يريد أن يذكر اسم القائل، وهو المحترق البصري كما في تاريخ بغداد (14/ 429). وانظر الكلام على مسألة السماع لابن القيم (ص 36).
(2) سبق تخريجه (ص 41).
(8/87)
وسماعُه، وهو يُسكِر صاحبَه. ولهذا قد يَحصلُ لأهلِه مع الأحوال من العداوة والبغضاء والعَربدة، من جنسِ ما يحصُل للشَّرْبِ (1) المجتمعين على الحُمَيَّا.
وكما دخلت الصابئةُ بسبب انحراف بعض أصحابنا الصوفية إلى القدر المشترك في الصوت والصُّور، دخلوا أيضًا في الشرك من تعظيم القبور وغير ذلك، كما فعله ابن سينا وابن الخطيب وقاضي حَماة ابنُ واصل وغيرهم في تقرير الاستغاثة بالموتى، بناءً على أن الروح المفارقةَ تَعضُد الأرواحَ المستغيثةَ بها، وهذا مبدأ الشرك وعبادة الأوثان، وتعدَّت العامة ذلك إلى رسم عبادة الأصنام والأوثان، كما فعل ابن الخطيب في كتاب الطلاسم والسحر، وقصدوا أصل الشرك الذي بعث الله الرسل بتحريمه وجعله أصل الشرك، وغيَّروا بذلك ملة التوحيد التي هي أصل الدين، كما فعله قدماء المتفلسفة الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
ومن أسباب ذلك الخروجُ عن الشريعة الخاصة التي بعث الله بها محمدًا – صلى الله عليه وسلم – إلى القدر المشترك الذي فيه مشابهة الصابئين أو النصارى أو اليهود، وهو القياس الفاسد المشابه لقياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، فيريدون أن يجعلوا السماعَ جنسًا واحدًا، والتألُّه جنسًا واحدًا، ولا يميزون بين مشروعه ومبتدعه، ولا بين المأمور به والمنهي عنه.
_________
(1) الشَّرب: القوم المجتمعون على الشراب.
(8/88)
فالسماع الشرعي الديني سماعُ كتاب الله وتزيين الصوتِ به وتحبيره، كما قال – صلى الله عليه وسلم -: “زينوا القرآن بأصواتكم” (1)، وقال أبو موسى: لو علمتُ أنك تسمعُ لحبَّرْتُه لك تحبيرًا (2).
والصُّوَر: الأزواج والسراري التي أباحَها الله تعالى، والعبادة: عبادة الله وحده لا شريك له {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ} [النور: 36، 37].
وهذا المعنى يقرر قاعدة اقتضاء الصراط المستقيم مخالفةَ أصحابِ الجحيم، وينهى أن يشبه الأمر الديني الشرعي بالطبعي البدعي لما بينهما من القدر المشترك، بل يُعلَمُ أن القدر المشترك كالصوت الحسن ليس هو لوحده مشروعًا، حتى يَنضَمَّ إليه القدر المميّز كحروف القرآن، فيصير المجموع من المشترك والمميز هو اللين النافع.
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 386) وأبو داود (1468) والنسائي (2/ 179، 180) وابن ماجه (1342) عن البراء بن عازب. وإسناده صحيح.
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه (7197) والحاكم في المستدرك (3/ 466) والبيهقي في السنن (10/ 231)، وأصل الحديث بدون هذه الفقرة عند البخاري (5048) ومسلم (793).
(8/89)
فصل (1)
قاعدة: قد عُرِف أن النفس بل وكل حيّ له قوتان: قوة الحب وقوة البغض، وهاتان القوتان جنسان عاليان تحتهما أنواعٌ، ولهما توابعُ تختلف أسماؤها وأحكامُها، مثل الشهوة والغضب اللذين للحيوان مطلقًا، ومثل الطمع والرجاء والرغبة التابع للحب، والخوف والفَرَق والرهبة التابع للبغض، فإن الحي لا يرغب ويرجو إلّا ما يحبُّه ويشتهيه، ولا يخاف ولا يرهَب إلّا ما يبغضه وينفر عنه.
قال الله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]، وقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]، وقال: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90].
وكل وعد ووعيدٍ في القرآن فهو ترغيب وترهيب وتخويف وترجيةٌ، فإن النعيم محبوبٌ للحيّ، والعذاب مكروه له. والرجاء والخوف يتعلق بالمحبوب والمكروه قبل وقوعه، وكل منهما مركب من قوة علميةٍ وهو تجويز الوقوع، وعمليةٍ وهو الحب والبغض.
ومن ذلك اللذة والفرح والسرور والنعيم، فإنه متعلق بحصولِ المحبوب واندفاع المكروه، والألمُ والغمُّ والحزنُ والعذابُ فإنه متعلق
_________
(1) بجانبه بخط المؤلف: “وقد ذكرت طرفًا مما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع في الوجهة أمامه”.
(8/90)
بحصولِ المكروه واندفاعِ المحبوب. فالحبّ والشهوة كالسبب الفاعل في المطلوبات، والفرح واللذة كالعلة الغائية.
ومن ذلك أن الإرادة والرحمة والصلاة على الشيء من جنس المحبة، والكراهة والغضب واللعنة من جنس البغض. وكذلك الحسد ــ الذي هو كراهة النعمة وتمنِّي زوالِها ــ من جنس البغض، يخالف الغبطةَ التي قد تُسمَّى حسدًا، وهي محبةٌ لمثل نعمةِ الغير، فإنها من جنس المحبة، ولهذا حُرِّم الأول دون الثاني، وشُرِعَ الثاني في العلم والمال المُنْفَقَينِ في سبيل الله.
ومن ذلك أن المغفرة ودفع المكروه والرحمة فعلٌ لمحبوب، ومن ذلك أن الموالاة والمصادقة والمؤانسة والمعاشرة ونحو ذلك هي من توابع المحبة، والمعاداة والمجانبة والمواحشة والمهاجرة هي من توابع البغض. ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم -: “من أحبَّ لله وأبغض لله وأعطى لله ومنعَ لله فقد استكمل الإيمان” (1)؛ لأن هاتين القوتين في القلب الذي هو يملك الحسد والعطاء والمنع في المال، فإذا كان جميع الأفعال في النفس والمال لله صار العبد كلُّه لله، وذلك هو كمال الإيمان.
واعلم أن المقصود بالقصد الأول هو فعل المحبوب، وهو عبادة
_________
(1) أخرجه أبو داود (4681) عن أبي أمامة الباهلي، وإسناده حسن. وأخرجه أحمد (3/ 438، 440) والترمذي (2521) عن معاذ الجهني، وقال الترمذي: حديث حسن.
(8/91)
الله وحده لا شريك له، فإن الجن والإنس خُلِقوا لذلك، لكن لا يتم ذلك إلّا بدفع المكروه، والأول قوة الرزق والثاني قوة النصر، ولا غِنًى لأحدهما عن الآخر، فإن اندفاع المكروه بدون حصول المحبوب عدمٌ، إذ لا محبوب ولا مكروه، وحصول المحبوب والمكروه وجودٌ فاسدٌ، إذ قد حصلا معًا، وهما متقابلان في الترجيح، فربَّما تختار بعضُ النفوس هذا وتختار بعضُها هذا، وهذا عند التكافؤ.
وأما المكروه اليسير مع المحبوب الكثير فيترجح فيه الوجود، كما أن المكروه الكثير مع المحبوب اليسير يترجح فيه العدم. لكن لما كان المقتضي لكل واحدٍ من المحبوب والمكروه الذي هو الخير والشرّ موجودًا، وبتقدير وجودِهما يحصل الضرّ كالرزق مع الخوف، صار يعظم في الشرع والطبعِ دفعُ المكروه، أما في الشرع فبالتقوى، فإن اسمها في الكتاب والسنة والإجماع عظيم (1)، والعاقبة لأهلها والثواب لهم. وأما في الطبع فتعظيم النفوس لمن نصرهم بدفع الضرر عنهم من عدوّ أو غيره، فإن أهل الرزق معظِّمون لأهل النصر أكثر من تعظيم أهل النصر لأهل الرزق. وذلك ــ والله أعلم ــ لأن النصر بلا رزقٍ ينفع، فإن الأسباب الجالبة للرزق موجودة تعملُ عملَها، وأما الرزق بلا نصرٍ فلا ينفع، فإن الأسباب الناصرة تابعة.
وفي هذا نظرٌ، فقد يقال: هما متقابلان، فإن أهل النصر يحبون أهل
_________
(1) في الأصل: “عظيمًا”.
(8/92)
الرزق أكثر مما يحبّ أهلُ الرزق لأهل النصر، فإن الرزق محبوب والنصر معظَّم.
وقد يقال: بل النصر أعظم كما تقدم، فإن اندفاع المكروه محبوب أيضًا، وهو لا يحصل إلا بقوة الدفع التي هي أقوى من قوة الجذب، فاختص الناصر بالتعظيم لدفعه المعارضَ، وأما الرازق فلا معارضَ له، بل له موافق، فالناصر محبوب معظَّم.
وقد يُقابَل هذا بأن يقال: وثواب المحبوب مكروه أيضًا، والمحبوب لا يحصل إلا بقوة الجذب، ولا يُسلَّم أن قوة الدفع أقوى، بل قد يكون الجذب أقوى، بل الجذب في الأصل أقوى؛ لأنه المقصود بالقصد الأول، والدفع خادمٌ تابعٌ له. وكما أن الدافع دفعَ المعارضَ فالجاذبُ حصَّل المقتضي، وترجيح المانع على المقتضي غير حق، بل المقتضي أقوى بالقول المطلق، فإنه لابدَّ منه في الوجود. وأما المانع فإنما يحتاج إليه عند ثبوت المعارض، وقد لا يكون معارضٌ. فالمقتضي والمحبة هو الأصل والعمدة في الحق الموجود والحق المقصود، وأما المانع والبغضة فهو الفرع والتابع.
ولهذا كتب الله في الكتاب الموضوع عنده فوق العرش: “إن رحمتي تَغلِب غضبي” (1). ولهذا كان الخير في أسماء الله وصفاته، وأما الشرُّ ففي الأفعال كقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ
_________
(1) أخرجه البخاري (7404) ومسلم (2751) عن أبي هريرة.
(8/93)
عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50]، وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98].
يبقى أن يُقال: فلِمَ عُظِّمت التقوى؟
فيقال: لأنها هي تحفظ الفطرةَ وتمنع فسادها، واحتاج العبد إلى رعايتها، لأن المحبة الفطرية لا تحتاج إلى تحريك. ولهذا كان أعظم ما دعت إليه الرسلُ الإخلاص والنهي عن الإشراك، لأن الإقرار الفطري حاصل، لوجود مقتضيه، وإنما يحتاج إلى إخلاصه ودفْعِ الشرك عنه. ولهذا كانت حاجة الناس إلى السياسة الدافعة لظلم بعضهم عن بعضٍ، والجالبةِ لمنفعة بعضهم بعضًا، كما أوجبَ الله الزكاة النافعة وحرَّم الربا الضارَّ.
وأصل الدين هو عبادة الله، الذي أصله الحبُّ والإنابة والإعراض عمَّا سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس، وهذه المحبة التي هي أصل الدين انحرف فيها فريقٌ من منحرفة الموسوية من الفقهاء والمتكلمين، حتى أنكروها وزعموا أن محبة الله ليست إلّا إرادة عبادته. ثم كثيرٌ منهم تاركون للعمل بما أُمِروا به، فيأمرون الناسَ بالبر وينسون أنفسهم، وهذا فاشٍ فيهم، وهو عدم المحبة والعمل. وفريقٌ من منحرفة العيسوية من الصوفية والمتعبدين، حتى خلطوها بمحبة ما يكرهه، وأنكروا البغض والكراهية، فلم يُنكروا شيئًا ولم يكرهوه، أو قصَّروا في الكراهة والإنكار، وأدخلوا فيها الصور والأصوات ومحبَّة الأنداد.
(8/94)
ولهذا كان لِغُواةِ الأولين وصفُ الغضب واللعنة الناشئ عن البغض، لأن فيهم البغض دون الحب، وكان لِضُلَّالِ الآخرين وصفُ الضلال والغلو، لأن فيهم محبةً لغير معبودٍ صحيح، ففيهم طلب وإرادة ومحبة، لكن لا إلى مطلوب صحيح ولا مرادٍ صحيح ولا محبوب صحيح، بل قد خلطوا وغَلَوا وأشركوا، ففيهم محبة الحق والباطل، وهو وجود المحبوب والمكروه، كما في الآخرين بغض الحق والباطل، وهو دفع المحبوب والمكروه.
والله سبحانه يهدينا صراطَه المستقيم، فنحمد من هؤلاء محبةَ الحق والاعتراف به، ومن هؤلاء بُغضَ الباطل وإنكاره.
(8/95)
فصل
وباعتبار القوى الثلاث انقسمت الأمم التي هي أفضل الجنس الإنساني، وهم العرب والروم والفرس، فإن هذه الأمم هي التي ظهرت فيها الفضائل الإنسانية، وهم سكان وسط الأرض طولاً وعرضًا، فأما من سواهم كالسودان والترك ونحوهم فتَبَعٌ.
فغلبَ على العرب القوة العقلية النطقية، واشتُقَّ اسمُها من وصفها، فقيل لهم «عرب» من الإعراب، وهو البيان والإظهار، وذلك خاصة القوة المنطقية.
وغلبَ على الروم القوة الشهوية من الطعام والنكاح ونحوهما، واشتُقَّ اسمُها من ذلك، فقيل لهم «الروم»، فإنه يقال: رُمْتُ هذا أرومُه، إذا طلبته واشتهيته.
وغلبَ على الفرس القوة الغضبية من الدفع والمنع والاستعلاء والرئاسة، واشتُقَّ اسمُها من ذلك فقيل «فُرس»، كما يقال: فَرَسَه يَفرِسُه إذا قَهَره وغَلَبه.
ولهذا توجد هذه الصفات الثلاثة غالبةً على الأمم الثلاث حاضِرَتِها وبادِيَتِها، ولهذا كانت العرب أفضل الأمم، ويليها الفرسُ؛ لأن القوة الدفعية أرفع، ويليها الروم.
(8/96)
فصل
وباعتبار هذه القوى كانت الفضائل ثلاثًا:
فضيلة العقل والعلم والإيمان التي هي كمال القوة المنطقية.
وفضيلة الشجاعة التي هي كمال القوة الغضبية، وكمال الشجاعة هو الحِلْم كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ليس الشديدُ بالصُّرَعَةِ، وإنما الشديد الذي يَملِكُ نفسَه عند الغضب» (1). والحلم والكرم مَلْزُوزَانِ في قَرَنٍ، كما أن كمال القوة الشهوية العفة. فإذا كان الكريم عفيفًا والشجاع حليمًا اعتدلَ الأمر.
وفضيلة السخاء والجود التي هي كمال القوة الطلبية الحُبِّية، فإن السخاء يَصدُر عن اللين والسهولة ورطوبة الخلق، كما تَصدُر الشجاعةُ عن القوة والصعوبة ويُبْسِ الخلق.
فالقوة الغضبية هي قوة النصر، والقوة الشهوية هي قوة الرزق، وهما المذكوران في قوله: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]. والرزق والنصر مفسران في الكتاب والسنة وكلام الناس كثيرًا.
وأما الفضيلة الرابعة التي يقال لها العدالة فهي صفة منتظمةٌ للثلاث، وهو الاعتدال فيها. وهذه الثلاث الأخيرات هي الأخلاق
_________
(1) أخرجه البخاري (6114) ومسلم (2609) عن أبي هريرة.
(8/97)
العملية، كما جاء في حديث سعد لما قال فيه العَبْسي: إنه لا يَقْسِم بالسَّوِيَّة، ولا يَعدِل في القضية، ولا يخرج في الشهادة (1).
فصل
وباعتبار القوى الثلاث كانت الأمم الثلاث المسلمون واليهود والنصارى، فإن المسلمين فيهم العقل والعلم والاعتدال في الأمور، فإن معجزة نبيهم هي علم الله وكلامه، وهم الأمة الوسَط.
وأما اليهود فأُضعِفَت القوة الشهوية فيهم، حتى حُرِّم عليهم من المطاعم والملابس ما لم يُحرَّم على غيرهم، وأُمِروا من الشدة والقوة بما أُمِرُوا به، ومعاصيهم غالبُها من باب القسوة والشدة لا من باب الشهوات.
والنصارى أُضْعِفَتْ فيهم القوة الغضبية، فنُهُوا عن الانتقام والانتصار، ولم تُضعف فيهم القوة الشهوية، فلم يُحرَّم عليهم من المطاعم ما حُرِّم على من قبلهم، بل أُحِلَّ لهم بعض الذي حُرِّم عليهم، وظهر فيهم من الأكل والشرب والشهوات ما لم يظهر في اليهود، وفيهم من الرقة والرأفة والرحمة ما ليس في اليهود. فغالبُ معاصيهم من باب الشهوات لا من باب الغضب، وغالب طاعاتهم من باب النصر لا من باب الرزق.
_________
(1) أخرجه البخاري (755) عن جابر بن سمرة. وفيه: «ولا يسير بالسرية» بدل «ولا يخرج في الشهادة». وهما متقاربتان في المعنى.
(8/98)
ولما كان في الصوفية والفقراء عيسويةٌ مشروعة أو منحرفة، كان فيهم من الشهوات ووقع فيهم من الميل إلى النساء والصبيان والأصوات المُطرِبة ما يُذَمُّون به.
ولما كان في الفقهاء موسويةٌ مشروعة أو منحرفة، كان فيهم من الغضب ووقع فيهم من القسوة والكِبر ونحو ذلك ما يُذَمُّون به.
فصل
جنس القوة الشهوية: الحبُّ، وجنس القوة الغضبية: البغض، والغضبُ والبغضُ متفقان في الاشتقاق الأكبر، ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أوثق عرى الإيمان: الحبُّ في الله والبغضُ في الله» (1). فإن هاتين القوتين هي الأصل، وقال: «من أحبَّ لله وأبغضَ لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (2).
فالحبُّ والبغض هما الأصل، والعطاء عن الحبّ، وهو السخاء، والمنع عن البغض، وهو الشجاعة. فأما الغضب فقد يقال: هو خصوص في البغض، وهو الشدَّة التي تقوم في النفس التي يقترن بها غَلَيَانُ دمِ القلب لطلب الانتقام، وهذا هو الغضب الخاص ولهذا تَعدِلُ طائفة من
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 286) عن البراء بن عازب، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. ولكن الحديث له شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن، انظر تعليق المحققين على المسند (18524).
(2) أخرجه أبو داود (4681) عن أبي أمامة الباهلي. وإسناده حسن.
(8/99)
المتكلمين عن مقابلة الشهوة بالغضب إلى مقابلتها بالنفرة، ومن قابل الشهوة بالغضب فيجب أن لا يريد الغضب الخاص، فإن نسبة هذا إلى النفرة نسبة الطمع إلى الشهوة، فأما الغضب العام فهو القوة الدافعة البغضية المقابلة للقوة الجاذبة الحبيّة.
فصل
فعلُ المأمورِ به صادر عن القوة الإرادية الحبّية الشهوية، وتركُ المنهيِّ عنه صادرٌ عن القوة الكراهية البغضية الغضبية النفرية، والأمر بالمعروف صادرٌ عن المحبة والإرادة، والنهي عن المنكر صادرٌ عن البغض والكراهة، وكذلك الترغيب في المعروف والترهيب من المنكر والحضُّ على هذا والزجر عن هذا. ولهذا لا تكفُّ النفوس عن الظلم إلا بالقوة الغضبية الدفعية، وبذلك يقوم العدل والقسط في الحكم والقَسْمِ وغير ذلك، كما أن الإحسان يقوم بالقوة الجذبية الشَهوية.
فصل
قد عرف … (1).
_________
(1) هنا توقف المؤلف. وفي مجموع الفتاوى (15/ 436 ــ 439) تتمة لهذا الكلام بعد قوله: «الشهوية».
(8/100)
فصل
المشهور عند أهل السنة القائلين بعدم تخليد الفاسق ورجاء الشفاعة له والرحمة: أنه لا يُحبِطُ العملَ إلّا الكفرُ؛ فإن نصوص القرآن تقتضي حُبُوطَ العمل بالكفر في مثل البقرة والمائدة والأنعام والزمر و ق وغير ذلك. وهذا لأن ما سوى الكفر من المعاصي يثبت معه أصلُ الإيمان، ولابدَّ أن يخرج من النار من كان في قلبه ذرةٌ من إيمان. وأما الكفر فينتفي معه الإيمان الذي لا يُقبَل العملُ إلّا به، كما قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 124]، {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19]، إلى نصوص متعددة يصف فيها بطلان عمل الكافر وتحريم الجنة عليه.
وأما المعتزلة فإنهم يقولون بتخليد الفاسق الملّي، وأنه لا ينعم أبدًا، وأن من استحق العقابَ لا يستحقُّ ثوابًا بحالٍ، ومن استحقَّ الثوابَ لا يستحق العقاب؛ فالتزموا لذلك أن تَحبَطَ جميعُ الأعمال الصالحة بالفسق، كما تَحبَطُ الأعمالُ بالكفر. ثم أكثرهم يُفسِّقون بالكبيرة، فيقولون: تحبط الأعمال بالكبيرة، ومنهم من لا يُفسِّق إلا برجحان السيئات، وهي التي تُحبِط الأعمال. وهذا أقرب.
قلت: الذي يُنفَى من الإحباط على أصول أهل السنة هو حُبوط جميع الأعمال؛ فإنه لا يَحبَطُ جميعُها إلا بالكفر. وأما الفسق فلا يُحبِط
(8/101)
جميعَها، سواء فُسِّر بالكبيرة أو برجحان السيئات؛ لأنه لابدَّ أن يُثابَ على إيمانه فلم يحبط.
وأما حبوط بعضها وبطلانه إما بما يُفسِده بعد فراغه، وإما بسيئاتٍ يقوم عقابُها بثوابه، فهذا حقٌّ دلَّ عليه الكتاب والسنة، كقوله: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، فأخبر أن المنَّ والأذى يُبطِل الصدقة، كما أن الرياء المقترن بها يُبطِلها، وإن كان كلٌّ منهما لا يُبطِل الإيمان، بل يُبطِله ورودُ الكفر عليه أو اقترانُ النفاقِ به.
وقوله في الحديث الصحيح: «إن الذي تفوتُه صلاة العصر فقد حَبِطَ عملُه» (1). وقول ……… (2): «الحسد يأكلُ الحسنَاتِ كما يأكل الماء البقل» (3). وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «من كانت عنده لأخيه مظلمةٌ في عِرضٍ أو مالٍ فليأتِه، فليستحلَّ منه قبلَ أن يأتي يومٌ ليس فيه درهم ولا دينار، وإنما فيه الحسنات والسيئات» (4). وقوله: «ما تَعدُّون المفلسَ
_________
(1) أخرجه البخاري (552) ومسلم (626) عن عبد الله بن عمر، وأخرجه البخاري (553) عن بريدة.
(2) هنا بياض في الأصل بقدر كلمتين.
(3) أخرجه أبو داود (4903) من طريق إبراهيم بن أسيد عن جده عن أبي هريرة، وذكر البخاري في التاريخ الكبير (1/ 272) إبراهيم هذا، وذكر له هذا الحديث وقال: لا يصح. وأخرجه ابن ماجه (4210) عن أنس. وفي إسناده عيسى بن أبي عيسى الحناط، وهو متروك.
(4) أخرجه البخاري (6534) عن أبي هريرة.
(8/102)
فيكم؟»، قالوا: المفلس من ليس له درهم ولا دينار. قال: «ليس ذلك بالمفلس، وإنما المفلس الذي يأتي بحسناتٍ أمثال الجبال، قد أخذ مالَ هذا، وأخذ عِرضَ هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم يبقَ له حسنةٌ أُخِذَ من سيئاتهم، فأُلقِي في النار» (1).
_________
(1) أخرجه مسلم (2581) عن أبي هريرة.
(8/103)
فصل
قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108]، وهو ــ والله أعلم ــ من الردِّ بمعنى الترديد والتكرير، كقول النبي – صلى الله عليه وسلم – في القرآن: «لا يَخْلَقُ عن كثرة الردّ» (1). أي تُردَّد أيمانٌ بعد أيمانهم، ليس هو من الردّ الذي هو ردُّ اليمين، كردّ النبي – صلى الله عليه وسلم – اليمينَ على المدَّعَى عليهم في القسامة لما امتنع المدَّعون من الأنصار، وكالردِّ المختلف فيه، لأنه هنا لم يحلف الأول فردّت اليمين على الثاني، فهو رجع لليمين الأول إلى الثاني، وفي مسألة المحايدة قد حلف الأولون عند ظهور اللَّوث وحلف المدعون يمينًا ثانيةً، فهنا تكرير وهناك تحويل، لكن يشتركان في معنى الرد الأصل.
فإنه كما أن الاشتقاق بحسب الحروف ينقسم إلى أكبر وأوسط وأصغر، وهو ما اتحد فيه الحروف ……. (2)، فكذلك ينقسم بحسب المعاني إلى ما يتحد فيه المعنيان من كل وجه، أعني في القدر المشترك، كما في ضرب وضارب، وإلى ما يتحدانِ في الأصل دون
_________
(1) أخرجه الترمذي (2906) والدارمي (3331) عن الحارث الأعور عن علي. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال. وانظر علل الدارقطني (3/ 137). ورجَّح ابن كثير في تفسيره (1/ 21) وقفه.
(2) هنا كلمة مطموسة.
(8/104)
الوصف، وإلى ما يتحدانِ في الجنس دون النوع. وهذا كثير لمن تأمله، وعليه تنبني مسائل «الخصائص» و «ألفاظ القرآن» للراغب وغير ذلك ممن يحوم على أن يجعل أصل معنى الحروف شيئًا واحدًا ثمَّ يُفصِّله في تصاريفه.
فأصل «الردّ» الرَّجْع، والرجع يقتضي تصييَره إلى حالٍ ثانية كان عليها، فصار فيه معنى التثنية، وصار الترديد والترجيع يُعبَّر به عن التثنية، كما في قوله: {ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4]. فصارت (1) الرجوع تارةً يُعتبر في ذات فقط وإن اختلفت (2) محالُّه، كرد اليمين وردّ الفاضل عن الفروض. وتارةً يُعتَبر فيه المحل وهو الأصل والأول إنما يُسمَّى ردًّا بالتقييد، كقوله: ردّه على هذا. ثم تارةً يكون ردُّه ثانيًا مع بقاء الحال الأولى، وتارةً يكون مع بطلانِ الحالِ الأولى، إما الموجودة وإما المقدرة، فيكون الردّ الذي هو خلاف القول من هذا الوجه؛ لأن العمل كان قد ذهب إلى محلّ، فردَّ عن ذلك المحلّ إلى صاحبه، فمن يفهم هذا الباب يكون قد فهِمَ ارتباطَ المعاني والحقائق التي هي مدلول الألفاظ وتناسبها، كما أن فهم الأول يكون من معرفة ارتباط الحروف بعضها ببعض.
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) في الأصل: «ختلفت».
(8/105)
[فصل]قوله في حديث الكرب الذي رواه أحمد (1) من حديث ابن مسعود: «اللهم إني عبدُك ابنُ عبدِك ابنُ أمتِك، ناصيتي بيدك، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علَّمتَه أحدًا من خَلْقِك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجَلاءَ حزني وذهابَ غمِّي، إلّا أذهبَ اللهُ همَّه وغمَّه، وأبدلَه به فرحًا».
الربيع هو المطر المُنبِت للربيع، ومنه قوله في دعاء الاستسقاء: «اللهمَّ اسْقِنا غيثًا مُغِيثًا ربيعًا مَرِيْعًا» (2). وهو المطر الوسميّ الذي يَسِمُ الأرضَ بالنبات، ومنه قول [مالك بن دينار] (3): القرآن ربيعُ المؤمن.
فسأل الله أن يجعلَه ماءً يحيا به قلبُه كما تَحيَا الأرضُ بالربيع، ونورًا لصدره، والحياةُ والنورُ جماعُ الكمال، كما قال: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا
_________
(1) في المسند (1/ 391، 452)، وصححه ابن حبان (979) والحاكم (1/ 509) انظر الكلام عليه في علل الدارقطني (5/ 200، 201) وتعليق المسند (3712). وتعليق الداء والدواء (ص 22، 23).
(2) أخرجه أحمد (4/ 235، 236) وابن ماجه (1269) عن كعب بن مرة، وصححه الحاكم (1/ 328). وإسناده منقطع، فإن سالم بن أبي الجعد لم يسمع من شرحبيل بن السمط. ولفظ الحديث: «مَرِيعًا مَرِيئا».
(3) هنا بياض في الأصل، وكأنه أراد أن يذكر القائل، وهو مالك بن دينار، أخرجه عنه أحمد في الزهد (ص 319) ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (2/ 358).
(8/106)
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122]. وفي خطبة أحمد بن حنبل (1): «يُحيُون بكتاب الله الموتى، ويُبَصِّرون بنورِ الله أهل العَمَى»، لأنه بالحياة يخرج عن الموت، وبالنور يخرج عن ظلمة الجهل، فيصير حيًّا عالمًا ناطقًا، وهو كمال الصفات في المخلوق، وكذلك قد قيل في الخالق. حتى النصارى فسَّروا الأب والابن وروح القدس بالموجود الحيّ العالم. والغزالي ردَّ صفاتِ الله إلى الحيّ العالم (2)، وهو موافق في المعنى لقول الفلاسفة: عاقل ومعقول وعقل. لأن العلم يستتبع الكلام الخبري، ويستلزم الإرادة والكلام الطلبي، لأن كلَّ حيٍّ عالمٍ فله إرادةٌ وكلام، ويستلزم السمع والبصر.
لكن هذا ليس بجيد، لأنه يقال: فالحيُّ نفسه مستلزمٌ لجميع الصفات، وهو أصلها، ولهذا كان أعظم آيةٍ في القرآن: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وهو الاسم الأعظم، لأنه ما من حيٍّ إلا وهو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات. فلو اكتُفِي في الصفات بالتلازم لاكتُفِي بالحيّ. وهذا ينفع في الدلالة والوجود، لكن لا يصحُّ أن يُجعَل معنى العالم هو معنى المريد، فإن الملزوم ليس هو عين اللازم، وإلّا فالذات المقدسة مستلزمة لجميع الصفات.
_________
(1) في أول كتابه «الرد على الزنادقة والجهمية».
(2) انظر: المقصد الأسنى (ص 157 ــ 162).
(8/107)
فإن قيل: فلم جمع في المطلوب لنا بين ما يوجب الحياة والنور فقط، دونَ الاقتصار على الحياة أو الازدياد من القدرة وغيرها؟
قيل: لأن الأحياء الآدميين فيهم من يهتدي إلى الحق، وفيهم من لا يَهتدي، فالهداية كمال الحياة، وأما القدرة فشرط في التكليف لا في السعادة، ولا يضرُّ فقدُها، ونور الصدر يمنع أن يريد سواه.
ثم قوله: «ربيع قلبي ونور صدري» لأنه ــ والله أعلم ــ الحيا لا يتعدى محلَّه، بل إذا نزل الربيع بأرضٍ أحياها، أما النور فإنه ينتشر ضوؤه عن محله. فلما كان الصدر حاويًا للقلب جُعِل الربيعُ في القلب والنورُ في الصدر لانتشاره، كما قوَّته المشكاة في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35]، وهو القلب.
(8/108)
فصل
مما يُبيّن أن طريقة أتباع الأنبياء من أهل السنة هي الموصلة إلى الحق دون طريقة من خالفهم من الفلاسفة والمتكلمين: أن المقصود هو العلم، وطريقه هو الدليل، والأنبياء جاءوا بالإثبات المفصل والنفي المجمل، كإثبات الصفات لله مفصلة، ونفي الكفؤ عنه.
والفلاسفة يجيئون بالنفي المفصل: ليس بكذا ولا كذا، فإذا جاء الإثبات أثبتوا وجودًا مجملاً، واضطربوا في أول مقامات ثبوته، وهو أن وجوده هو عين ذاته أو صفة ذاتية لها أو عرضية؟ ونحو ذلك من النزاعات الذهنية اللفظية.
ومعلوم أن النفي لا وجود له، ولا يعلم النفي والعدم إلا بعد العلم بالثبوت والوجود، حتى إن طائفة من المتكلمين نفوا العلم بالمعدوم إلا إذا جعل شيئًا، لأن العلم ــ زعموا ــ لابد أن يتعلق بشيء. والتحقيق أن العلم بالعدم يحصل بواسطة العلم بالموجود، فإذا علمنا أنه لا إلاه إلا الله تصورنا إلهًا موجودًا، وعلمنا عدم ما تصورناه إلا عن الله.
وكذلك سائر ما ننفيه لابد أن نتصوره أولاً ثم ننفيه، ولا نتصوره إلا بعد تصور شيء موجود، ثم نتصور ما يشابهه، أو ما يتركب من أجزائه، كتصور بحر زئبق وجبل ياقوت وآلهة متعددة ونحو ذلك، ثم ننفيه، وإلا فتصور معدوم مبتدع لا يناسب الموجودات بوجهٍ لا يمكن العقلَ
(8/109)
إبداعُه، سواء كان من العلوم النظرية أو العملية، كتصور الفاعل ما يفعله قبل فعله، فإنه في الحقيقة تصور معدوم ليوجد، كما أن غيره تصور معدوم ممكن أو ممتنع، يوجد أو لا يوجد، فالمعدوم الفعلي وغير الفعلي لا يُبْدِعه عقل الإنسان من غير مادة وجودية، كما لا تُبدِع قدرتُه شيئًا من غير مادة وجودية، وإنما الإبداع من خصائص الربوبية، وكيف يعلم؟ وكيف يفعل؟ باب آخر.
فثبتَ بهذا أن العلم بالموجود وصفاته هو الأصل، وأن العلم بالعدم المطلق والمقيد تبع له وفرع عليه، وأيضًا فالعلم بالعدم لا فائدة للعالم به، إلا لتمام العلم بالموجود، وتمام الموجود في نفسه، إذ تصور «لا شيء» لا يستفيد به العالم صفة كمال، لكن علمه بانتفاء النقائص مثلاً عن الموجود علم بكماله.
وكذلك العلم بنفي الشركاء عنه علم بوحدانيته التي هي من الكمال، وكذلك تصور ما يراد فعله مفضٍ إلى وجود الفعل، وتصور ما يراد تركه مفضٍ إلى الترك الذي هو عدم الشر، الذي يكمل الموجود بعدمه.
وذلك أن هذا الذي ذكرته في العلم والقول يقوم مثله في الإرادة والعمل؛ فإن الإرادة متوجهة إلى الوجود بنفسه الذي هو الفعل، ومتوجهة إلى العدم الذي هو الترك على طريق التبع، لدفع الفساد عن المقصود الموجود. وإلّا فإرادةُ «لا شيء» لا يستفيد به العبد المريدُ فائدة، ولا تُحصِّل له كمالاً ولا لذةً.
(8/110)
ولهذا سألني بعض الأمراء مرةً: أيُّما أفضلُ: إيصالُ الحق إلى ربِّه أو دفعُ غيرِ ربِّه عنه؟ فقلت: أفضله هو المقصود لنفسه بالقصد الأول، وهذا مقصود لغيره بالقصد الثاني. وكذلك الورع ونفي البدع وكل ما ينفى في الاعتقاد والأقوال أو في الإرادات والأفعال، إنما يُطلَب به تحقيقُ الموجود والمقصودِ من ذلك ونفيُ الفساد عنه. ولذلك كان أهل السنة والورع أصلح اعتقادًا وعملاً من غيرِهم لنفي الفساد، مع ما يستلزم ترك الباطل من الحق الموجود والمقصود.
وأما الدليل فلابدَّ في كل دليل عقلي ــ وهو القياس الشمولي المشتمل على المقدمتين ــ من إيجابٍ وعموم، إمّا مجموعًا في مقدمةٍ وإمّا مفرقًا في المقدمتين، ولذلك كان لا قياسَ عن سالبتينِ ولا جزئيتين. فعُلِمَ أنه لابدَّ في كل دليلٍ من علم وجودي إحَاطِيٍّ، وإلّا فالعلم العدمي لا يُنتج وحدَه، ولو اجتمع منه مقدماتٌ، فلا يكون وسيلةً إلى مطلوبٍ بحالٍ.
فثبتَ أن العلم بالسلوب لا يَستقلُّ في المسائل والأحكام، ولا في الوسائل والأدلة، بل هو مفتقرٌ إلى العلم بالوجود فيهما، فمن كان الغالب على علمه وكلامه النفي والسلب كان الغالب ما لا يفيد، لا مقصودًا ولا وسيلة، ومن غلبَ على كلامه الإثباتُ والإيجاب كان الغالب عليه هو المفيد مقصودًا ووسيلةً. وهذا كلامٌ شريف برهاني، والذوق يُصدِّقُه والوجود يُحقِّقه.
(8/111)
وهذا الذي قررناه في العلم والقول في الأحكام والأدلة يجيء مثلُه في القصد والعمل في المقاصد والوسائل، فمن غلبَ عليه في ذلك الوجودُ في المقاصد والأعمال كانت طريقته أنفعَ ممن غلبَ عليه العدمُ فيهما، فالوجود راجح على العدم في نفسه وفي علمه وذكره وقصدِه والسعي إليه.
وكذلك أيضًا في القدرة والسمع والبصر وسائر الصفات، لكن لابدَّ من نفيٍ وعدمٍ يدفع عن الوجود ما يَضُرُّه ويُفسِده، وإلّا فَسَد. فهذا هذا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولهذا إذا ترك المؤمن شيئًا من المكروهات فلابدَّ أن يكون تركُه لإرادة أمرٍ موجود، فيتركه لوجهِ الله وإرادةِ ثوابه، أو للخوف من العقاب الذي يضرُّه. ولهذا اختلف الناس في المطلوب بالنهي: هل هو نفسُ العدم أو الامتناع الذي هو أمر وجودي؟ والتحقيق أن كلاهما (1) مطلوبٌ للناهي، لكن فائدة الوجود وجودية، وفائدة العدم عدمية.
وقد اتفق الفقهاء على تعليل النفي بالنفي كتعليل الإثبات بالإثبات وتعليل النفي بالإثبات، فإن الوجود قد يقتضي عدمَ أشياء. أما تعليل الوجودِ بالعدم ففيه خلاف، وأصحابنا جوَّزوه، لأن النفي يتضمن الوجود …. (2) …. وقد يقال: إرادة العدم تقتضي وجودًا ….. والله أعلم.
_________
(1) كذا في الأصل بالألف، وهو من أسلوبه المعروف في كتبه بخطه.
(2) الكلمات في مواضع النقط مبتورة.
(8/112)
فصل عظيم المنفعة
في أمر المعاد
وذلك أن مذهب أهل السنة والجماعة ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه سلفُ الأمة وأئمتُها: الإيمانُ بالقيامة العامة التي يقوم الناس فيها من قبورهم لربّ العالمين، ويَجزِي العبادَ حينئذٍ ويحاسبهم، ويُدخِل فريقًا الجنةَ وفريقًا النارَ، كما هو مبيَّن في الكتاب والسنة.
والإيمان مع ذلك بنعيم القبر وعذابه، وبما يكون في البرزخ من حينِ الموت إلى حين القيامة من نعيم وعذاب، فالإنسان منذُ تُفارِق روحُه بدنَه هو إما في نعيم وإما في عذاب؛ فلا يتأخر النعيم والعذاب عن النفوس إلى حين القيامة العامة، وإن كان كمالُه حينئذٍ، ولا تبقى النفوس المفارقة لأبدانها خارجةً عن النعيم والعذاب ألوفًا من السنين إلى أن تقوم القيامة الكبرى. ولهذا قال المغيرة بن شعبة (1): أيها الناس! إنكم تقولون: القيامة، القيامة، وإنه من ماتَ فقد قامت قيامتُه.
واسم «الساعة» في السُنة قد يَرِد ويُراد به انقراضُ القرن وهلاكُ أهلِه، كما ذكر ذلك البغوي (2) وغيره، وهو مذكور في أحاديث
_________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 468، 469) من طريق زياد بن علاقة عنه، وعزاه السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 428) إلى الطبراني.
(2) لم أجد كلام البغوي في التفسير وشرح السنة، وانظر: مفردات القرآن للراغب (ص 113) وفتح الباري (11/ 364).
(8/113)
صحيحة: «حتى تقوم الساعةُ» (1) يريد به انخرامَ ذلك القرن؛ فلهذا هو مفسَّرٌ في نفس الحديث الصحيح.
وكذلك مذهب أهل السنة والجماعة: الإقرار بمعاد الأرواح والأبدان جميعًا، وأن الروح باقية بعد مفارقة البدن منعَّمةً ومعذَّبةً.
وأما أهل الأهواء فكان كثير من الجهمية والمعتزلة ونحوهم يُكذِّب بما في البرزخ من النعيم والعذاب، ولا يُقِرُّ بما يكون في القبر، كما ينكرون أيضًا وجودَ الجنة والنار، ولا يعتقدون نعيمًا ولا عذابًا ولا ثوابًا ولا عقابًا إلّا عند القيامة الكبرى.
ثم منهم من يقول: ليست الروح شيئًا باقيًا بدون البدن. وبعض هؤلاء يُقِرُّ بعذاب القبر ونعيمه للجسد فقط دونَ روحٍ باقية دونه. وهذا كثير في مقالات طوائف من أهل الكلام، وهم يتكلمون في إحداث العالم وإفنائه. وقد يزعمون أن العالم يَفنى بجملته ثم يعاد. ومنهم من يزعم أنه يَفنَى بعد دخول الجنة والنار، وأنهما يَفنَيانِ، كما يُذكَر ذلك عن الجهم بن صفوان. وزعم أبو الهذيل أن حركاتهم تَفنَى، وأمثال هذه المقالات.
وفي مقابلة هؤلاء طوائف من الفلاسفة المشائين وغيرهم ومن قد يتبعهم من الملِّيين يُكذِّبون بالقيامة العامة، وإنما يُقِرُّون بالقيامة التي هي انقراض القرون، والطوفانات العامة، وبأن من ماتَ فقد قامتْ قيامتُه.
_________
(1) أخرجه البخاري (6511) ومسلم (2952) عن عائشة.
(8/114)
ويُقِرّون بمعاد الأرواح دون الأبدان، ولا يُقِرُّون بتغيير هذا العالم، ولا بشَقِّ السماوات وانفطارها، وتكوير الشمس والقمر، واستحالة الأجسام العلوية، كما جاءت به النصوص. بل يُحرِّفون الكلمَ عن مواضعه، ويتأولون ذلك على أنه أمثال مضروبة لحال المعاد الجزئي، وهو حال النفس عند مفارقة البدن. ولا يُقِرُّون بإحداثٍ ولا إفناء.
وقد تكلمنا من الرد على الطائفتين في غير هذا الموضع بما ليس هذا موضعه، لكن المقصود هنا أن القرآن لما كان هو كتاب الله الذي أنزله وهدى به عبادَه، وجعله تفصيلاً لكل شيء، وبيَّن فيه ما كان وما سيكون، وأخبر فيه من أمر المبدأ والمعاد والخلق والبعث بما فيه بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين= كان من بليغ ذلك أنه سبحانه يذكر في السورة الواحدة أمر المعادين جميعًا، والقيامة الكبرى مع الصغرى التي هي الموت، كما ذكر ذلك في سورة الواقعة، فإنه سبحانه في أولها ذكر القيامة الكبرى، وذكر انقسام الناس إلى ثلاثة أصناف، ثم في آخرها ذكر ذلك عند الموت، فقال في أولها: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} إلى قوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ
(8/115)
وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 1 ــ 50].
ثم ذكر من آيات المعاد ما ذكر، ثم قال في آخر السورة: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 81 ــ 96]. وهذا حال الإنسان عند الموت كما قال: فهلا تردونها، أي تردون النفس عند قبضها.
وكذلك قال سبحانه في سورة الأنعام: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2]، فالأجل المسمى هذا المحدود المقدر هو الذي يشترك فيه العباد، وهو أجل القيامة الكبرى، والأجل الأول هو الموت، ولهذا قيل: قد ينقص من هذا الأجل فتزاد هذه الروح، وقد يُزاد فيه فتنقص هذه الروح، والأجل المسمى لا يزاد ولا يُنقص، وهو وقت القيامة الذي لا يعلمه إلا الله.
ومن ذلك أنه ذكر هذين أيضًا في سورة القيامة، فقال: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1، 2]، فأقسم بالأمرين جميعًا:
(8/116)
بيوم القيامة وهو يوم الجمع ويوم القيامة الجامعة، وأقسم بالنفس وهي التي أصل القيامة الصغرى، فإن الصابئة الفلاسفة ونحوهم مدار أمرهم في هذا المعاد على إثبات النفس. وقرر أولاً سبحانه القيامة الكبرى فقال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 3 ــ 6]. والإنسان إنما ينكر وينتظر القيامة الكبرى، وأما الموت فكل أحد يعلم به. ولهذا كُره للخطباء أن يقتصروا في خطب الجمع والأعياد على التذكير بالموت ونحوه من الأمور التي لا يختص بها المؤمنون، وأحبوا أن يكون التذكير بما في اليوم الآخر مما أخبرت به الرسل.
ولهذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ في العدد من خطبه {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] لتضمنها ذلك، ويقرأ يوم الجمعة {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2]، و {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1]؛ إذ في هاتين السورتين ما يكون في الجمعة من الخلق والبعث؛ إذ فيه خُلِق آدم وفيه تقوم الساعة (1). وهاتان السورتان تضمنتا ذلك.
ثم إنه لما ذكر القيامة قال: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)
_________
(1) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (854) ومالك في الموطأ (1/ 108) ومن طريقه أحمد (2/ 486) وأبو داود (1046) والترمذي (491) والنسائي (3/ 113). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(8/117)
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 26 ــ 30]. وهذا ذِكرٌ لحال الموت. روى أبو بكر ابن المنذر في تفسيره وغيره (1) من حديث هشام الدستوائي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس: حتى إذا بلغت التراقي، قال: تُنْتَزعُ نفسُه حتى إذا كانت في تراقيه قالوا: من يَصعد بنفسه؟ ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟ فذلك قوله: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}.
وروى أيضًا (2) عن معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه قال: بلغني عن أبي العالية قال: يختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيُّهم يرقى به.
وذكر طائفة أن الراقي: الطبيب، والطبيب أيضًا إنما يُطلب في الدنيا لا في القيامة، فروى (3) عن سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن شبيب عن أبي قلابة: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قال: مَن طبيبٌ شافٍ؟
وروى أيضًا (4) عن ابن ثور عن ابن جريج وعن معمر عن قتادة في
_________
(1) أخرجه أيضًا الطبري في تفسيره (23/ 514، 515). وانظر الدر المنثور (15/ 135).
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور (15/ 136) إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.
(3) أخرجه الطبري (23/ 513)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (15/ 135) إلى عبد بن حميد وابن المنذر أيضًا.
(4) انظر تفسير الطبري (23/ 514) وتفسير عبد الرزاق (2/ 335) والدر المنثور (15/ 134).
(8/118)
قوله: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}، قال: الطبيب.
وعن سهيل عن أبي صالح: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قال: من طبيب.
وعن الضحاك بن مزاحم (1): {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قال: هو الطبيب.
وعن أبي عبيدة (2) {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}: من يرقي.
وعلى القولين فالضمير في «بلغت» للنفس، قال ابن ثور عن ابن جريج (3) في قوله: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} قال: الحلقوم.
وعن أبي عبيدة (4): {بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}: صارت النفس بين تراقيه.
ولهذا قال: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ}؛ لفراق النفس البدن، وقد روي أيضًا عن سفيان عن عمرو بن دينار أنه كان يقرأ: «وأيقن أنه الفراق».
وعن سعيد عن قتادة (5) {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ}: استيقن أنه الفراق.
وقوله: {مَنْ رَاقٍ} يجوز أن يراد به الطبيب الراقي، والراقي الذي
_________
(1) تفسير الطبري (23/ 513) والدر المنثور (15/ 135).
(2) في «مجاز القرآن» (2/ 278).
(3) انظر الدر المنثور (15/ 134).
(4) في «مجاز القرآن» (2/ 278).
(5) أخرجه الطبري (23/ 515).
(8/119)
يصعد بالنفس ويرقَى بها، إذ كلا القولين يقال، وهذا إمّا على أن اللفظ المشترك يجوز أن يُراد به معنياه، أو على أن الكلمة نزلت مرتين، فأريد بها هذا المعنى في مرة، وهذا المعنى في مرة. مع أن الراقي الذي هو الطبيب أظهر، لقوله: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}، وهذا ذكرٌ لفاعل مخلوق واستفهامٌ عن راقٍ منكَّرٍ. وهذا ظاهر من حال أهل المريض، والملائكة معلومون لله، والله هو الذي يأمرهم بقبض الروح ويعين فاعل ذلك، فلا يكون هناك من يقول: هل من راقٍ؟ ولا اختصام في ذلك.
وذكر سبحانه الراقي دون الطبيب الذي يسقي الدواء ونحوه؛ لأن تعلق النفوس بالرُّقَى أعظم، ولهذا قال في صفة المتوكلين: «هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون» (1). والروح إذا بلغت التراقي قد يتعذر عليها الطعام والشراب، فلا يبقى إلا ما تتعلق به من الاسترقاء والدعاء ونحوه، وكان ذلك أعظم الأسباب.
قال تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}، قال الوالبي (2) في تفسيره عن ابن عباس في قوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} يقول: آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلّا من رحم الله.
وروى ابن المنذر من حديث سلمة بن سابور عن عطية عن ابن
_________
(1) أخرجه البخاري (5705) ومسلم (220) عن ابن عباس.
(2) أخرجه من طريقه الطبري (23/ 516). وعزاه السيوطي في الدر المنثور (15/ 136) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم أيضًا.
(8/120)
عباس (1): {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}، قال: الدنيا بالآخرة. وكذلك قال الضحاك (2).
وعن ابن جريج عن مجاهد (3) في قوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} أمر الدنيا بأمر الآخرة، وإنما لزوم الأمر عند الموت.
ومن حديث حماد بن سلمة عن كثير بن زياد عن الحسن (4) في قول الله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: ساق الآخرة وساق الدنيا، أما سمعتم الشاعر يقول:
قد قامتِ الحربُ بنا على سَاقْ
قد تبيَّن الفتح لمن هو؟
وعن معمر عن قتادة (5) في قوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: الساق للدنيا بساق الآخرة.
وعن أبي عبيدة (6): {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: مِثل شمَّرتْ عن ساقها.
_________
(1) أخرجه الطبري (23/ 515، 516) من طريق آخر عنه.
(2) انظر تفسير الطبري (23/ 517) والدر المنثور (15/ 137).
(3) تفسير الطبري (23/ 516، 518).
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور (15/ 136) إلى عبد بن حميد.
(5) أخرجه الطبري (23/ 518).
(6) مجاز القرآن (2/ 278).
(8/121)
وفيها قول ثانٍ عن بشير قال سألتُ الحسنَ (1)، قلت: أرأيتَ قول الله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} الآية، قال: هما ساقاك إذا التفَّتا.
ومن حديث سعيد عن قتادة (2): {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال: أما رأيت إذا حُضِر ضربَ برجلِه رجلَه الأخرى.
ومن حديث شيبان عن قتادة (3): {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}: ماتَتْ ساقاه فلم تحملاه، وقد كان عليهما جوَّالًا.
وعن داود بن أبي هند عن الشعبي (4) في قول الله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}، قال: ساقا الميت.
وقد يقال: الآية تعمُّ المعنيين جميعًا.
{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} قال ابن ثور عن ابن جريج (5) في قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} قال: في الآخرة.
وقوله: «في الآخرة» لا يمنع أن يكون عند الرب، كما قال مَن قال: التفت ساق الدنيا بساق الآخرة، وهو بالموت. كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا
_________
(1) تفسير الطبري (23/ 519) والدر المنثور (15/ 137).
(2) تفسير الطبري (23/ 520) والدر المنثور (15/ 137).
(3) تفسير الطبري (23/ 520) والدر المنثور (15/ 135).
(4) انظر تفسير الطبري (23/ 519) والدر المنثور (15/ 137).
(5) الدر المنثور (15/ 138).
(8/122)
جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 61، 62]. وقد دخل عثمان على ابن مسعود في مرضه، فقال: كيف تجدك؟ فقال: أجدني مردودًا إلى الله مولاي الحقّ.
وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11]، وقال تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ــ 30]. وهذا الرد والرجوع مساقُها إلى الله، وهو هذا المعاد الذي يكون عند الموت. وقول المسترجع: «إنا لله وإنا إليه راجعون» يَعُمُّ هذا وغيره. وهذا هو التوفّي، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42]، وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11].
وقوله تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8]، و {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] ونحو ذلك يتناول هذا وهذا.
وأول ما أنزل الله على رسوله سورة «اقرأ»، ذكر فيها الإيمان بالله واليوم الآخر، وذكر فيها حالَ الإنسان بين مبدئه ومعاده المذموم وحاله الممدوح، فذكر حال الأشقياء والسعداء، إذ قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
(8/123)
خَلَقَ} إلى قوله: {الْأَكْرَمُ} [العلق: 1 ــ 3] تقريرٌ للخلق والربوبية، كما بيناه في غير هذا الموضع (1). وقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَأَىهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]، وهو لحاله المذموم، وقوله: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} ذِكرٌ للمعاد، وما بعد ذلك ذكر حال المؤمن وحاله مع الكافر.
وقد ذكرنا أنه ذكر من أول السورة: القيامةَ والنفس جميعًا، وقد أقسم بهما، كما روى ابن المنذر عن الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير (2)، وفي روايةٍ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (3) قال: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال: يقسم ربكم بما شاء من خلقه.
وعن الحسن البصري وسعيد أيضًا (4): {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال: أُقسِم.
وكذلك عن أبي عبيدة، قال (5): مجازه: أُقسِم بيوم القيامة وأُقسِم بالنفس اللوامة.
وأما النفس اللوَّامة فقد فُسِّرت بأنها التي تُلام وأنها التي تلوم،
_________
(1) انظر تفسير سورة العلق في مجموع الفتاوى (16/ 260 وما بعدها).
(2) تفسير الطبري (23/ 466) والدر المنثور (15/ 95).
(3) تفسير الطبري (23/ 467) والمستدرك (2/ 508، 509).
(4) تفسير الطبري (23/ 465، 466).
(5) مجاز القرآن (2/ 277).
(8/124)
وذلك أن صيغة «فعَّال» قد تكون للنسبة والإضافة، كما يقال: حدَّاد ونجَّار وخبَّاز وتمَّار ولبَّان وخيَّاط، أي صاحب كذا، فإذا قيل: «لوَّام» بهذا الاعتبار كان معناه صاحب لومٍ كثير، واللوم مصدر يضاف إلى الفاعل تارةً وإلى المفعول أخرى.
وقد تكون صيغة «فعَّال» توكيدَ فاعل، كعلَّام وضرَّاب وأكَّال ونحو ذلك، ومنه النفس الأمَّارة.
ولفظ «الفاعل» أيضًا يكون للنسبة، كتامرٍ ولابنٍ، وعلى هذا فما يقال: إن «فاعل» يكون بمعنى المفعول، مثل {مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] ونحوه، قد يقال: إنه من هذا الباب بمعنى النسبة والإضافة.
ففي تفسير ابن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس (1): قوله: {اللَّوَّامَةِ} يقول: مذمومة.
ومن حديث شيبان عن قتادة (2): {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال: يقسم الله بما شاء من خلقه، {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} الفاجرة، قال: يقسم بها.
وروى ابن المنذر من حديث سماك عن عكرمة عن ابن عباس (3): النفس اللوامة التي تلوم على الخير، تقول: لو فعلت كذا وكذا.
_________
(1) تفسير الطبري (23/ 470) والدر المنثور (15/ 96).
(2) تفسير الطبري (23/ 467) والدر المنثور (15/ 96).
(3) الدر المنثور (15/ 96).
(8/125)
وعن قرة بن خالد عن الحسن (1): {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قال: إن المؤمن لا تراه إلّا يلوم نفسه: ما أردتُ بكلمتي، ما أردتُ [بأكْلَتي]، ما أردتُ بحديثي نفسي، ولا تراه إلا يعاتبها، وإن الفاجر يمضي قُدُمًا لا يُعاتب نفسه.
وعن ابن ثور عن ابن جريج عن مجاهد (2) في قوله: {بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قال: تندم على ما فات وتلوم عليه.
وبه عن ابن جريج عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (3) مثل ذلك. وهذا صحيح متصل عنه موافق لرواية عكرمة، وكلٌّ منهما أصح من رواية الوالبي، فإنها منقطعة، إذ الوالبي لم يسمع من ابن عباس.
قلت: وعلى هذا فاللَّوامة نحو الندَّامة والتوَّابة، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وهذا لا ينافي القول الأول، فإنها مذمومة قبل الندم بذمها وندمها، ملومة على ذلك، وهي ممدوحة بعد توبتها ولومها لنفسها. وفي مسند الإمام أحمد (4) عن علي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله يحب العبد المفتَّن التواب».
_________
(1) الدر المنثور (15/ 97).
(2) تفسير الطبري (23/ 470) والدر المنثور (15/ 97).
(3) الدر المنثور (15/ 96).
(4) من زوائد ابنه عبد الله (1/ 80، 103). وإسناده ضعيف جدًّا، انظر تعليق المحققين على المسند (605).
(8/126)
وقد قيل: اللوم في الآخرة. روى ابن المنذر عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح (1) في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قال: ما من أحد إلا وهو لائم نفسَه يوم القيامة، مُحسِن لا يكون زادَ في إحسانه، ومُسِيءٌ لا يكون أقلعَ عن سيئاته، مما يرى من عِظَم عقوبة الله.
والآية قد تتناول هذا المعنى، وهذه صفة لازمة للنفس، فإنها لابدّ أن تأتي ما تُلام عليه، ولابدّ أن تلومَ نفسَها، فإن لم يتب وإلا لامَ نفسَه في الآخرة، مع أن كل امرئ لابد أن يلوم نفسه في الدنيا ولو لم يكن تائبًا إلى الله، إذ قد يفعل ما يندم عليه كما ندم ابن آدم القاتل على ترك دفن أخيه وإن لم يندم على قتله.
وكونها لوَّامةً قبل كونها أمَّارةً، وكثير من المتصوفة ونحوهم يجعل هذا في حال وهذا في حال، ويجعل الحال الثالثة أنها مطمئنة، ويقول: النفوس ثلاثة بهذا الاعتبار: أمَّارة ولوَّامة ومطمئنة، فالنفس المنتقلة إلى الحال الثالثة تتصف بالأوصاف الثلاثة، وأما غيرها فقد لا تكون مطمئنة.
والتحقيق: أن كونها أمَّارة ليس بملامٍ لها، فإن الله إنما أخبر عمن أخبر عنه أنه قال: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، فالنفس التي رحمها ربي ليست أمَّارة بالسوء، فالأمارة خاص،
_________
(1) لم أجد هذا الأثر. ونحوه كلام الفراء في معاني القرآن (3/ 208). ورُوي نحوه مرفوعًا عن أبي هريرة، أخرجه الترمذي (2403)، وفي إسناده يحيى بن عبيد الله، وهو متروك.
(8/127)
وكذلك المطمئنة خاص. وأما اللوامة فعند هؤلاء هي أيضًا خاص ببعض النفوس. والتحقيق: أن اللوامة إذا كانت بمعنى التوابة فكل أحدٍ توّاب إلى الممات، فتكون النفس أبدًا لوَّامةً، وإذا لم تكن لوامة فهي تُلام وتَلوم في الآخرة وفي الدنيا أو الدين، فكل نفسٍ لوَّامة، ولهذا جاءت معرَّفةً بقوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (1).
_________
(1) بعدها بياض في باقي الصفحة (ق 225 ب). ثم الأوراق (226 ــ 228) فارغة.
(8/128)
فصل (1)
قول من يقول: «إن لله عبادًا يَرضى لرضاهم ويغضبُ لغضبهم» حقٌّ، لكن هذا لا يستمرُّ في جميع أنواع رضاهم وغضبهم، فإن ذلك إنما يكون لمن لا ذنبَ له أصلاً، لكن قد يكون في غالب رضاهم وغضبهم. وذلك لأن من كان رضاه وغضبه موافقًا لرضَى الله وغضبه فإن الله يَرضَى لرضاه ويغضب لغضبِه، وهذا يقع من الطرفين، تارةً يَرضَون لرِضى الله ويغضبون لغضبه، وتارةً يَرضى الله لرضاهم ويغضب لغضبهم.
ودليل ذلك ما رواه البخاري في صحيحه (2) عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما يَروي عن ربه قال: «من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّب إليَّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمع به، وبَصَرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يَبطِشُ بها، ورِجْلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطِينَّه، ولئن استعاذني لأُعِيذَنَّه، وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدي عن قبضِ نفسِ عبدي المؤمن، يكرهُ الموتَ وأكرهُ مساءتَه، ولابدَّ له منه».
فقد أخبر أنه من عادى وليَّه فقد بارزه بالمحاربة، وفي المعاداة
_________
(1) انظر في معنى هذا الفصل: مجموع الفتاوى (11/ 515 ــ 517، 10/ 58 ــ 59).
(2) برقم (6502).
(8/129)
مغاضبةٌ ومباغضة، ثم قال: «فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه» إلى آخره، إلى أن قال: «وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعله تردُّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموتَ وأكرهُ مساءتَه، ولابدَّ له منه». فأخبرَ أنه يكره ما يكرهُ عبدُه الموت، حتى يكره مساءتَه بالموت، مع أنه لابدَّ له منه، ويُحِبّ ما يُحِبُّ. والحبّ والكراهة أصلُ الرضا والغضب.
وأيضًا ففي صحيح مسلم (1) عن معاوية بن قرة عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفرٍ، فقالوا: ما أخذَتْ سيوفُ الله من عُنُقِ عدوِّ الله مأخذَها. فقال أبو بكر: تقولون هذا لشيخِ قريش وسيِّدهم؟ فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فأخبره، فقال: «يا أبا بكرٍ لعلك أغضبتَهم، لئن كنتَ أغضبتَهم لقد أغضبتَ ربَّك»، فأتاهم، فقال: يا إخوتَاهْ! أغضبتُكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أُخَيَّ أبا بكر.
فقد أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أبا بكرٍ أنه إن كان أغضبَ أولئك المؤمنين الذين قالوا لأبي سفيان ما قالوا، وهم بلال وصهيب وسلمان ومن معهم من أهل الإيمان والتقوى، الذين أُمِرَ النبي – صلى الله عليه وسلم – (2) أن يَصبر نفسَه معهم وإن كانوا مستضعفين، وأن لا يُطيعَ من أغفلَ قلبَه عن ذكر الله واتبعَ هواه وإن
_________
(1) برقم (2504).
(2) بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
(8/130)
كان من الرؤساء= فقد أغضبَ الله. ولا ريبَ أنه لو أغضبَهم فإنه كان يكون ذلك انتصارًا لأبي سفيان لرئاستِه في قومه، وأولئك هم أولياء الله الذين يَغضَبون لله ويَرضَون له، فإغضابُهم إغضابٌ لله.
(8/131)
فصل
الحروف والأصوات المكتوبة والمسموعة ــ سواء جمعَ الوصفين كالحرف المسموع، أو أحدهما كالحرف المكتوب والصوت الذي ليس بحرف ــ إذا كانت متعلقةً بالدين فلا تخلو عن ثلاثة أقسام:
إما أن تكون سببًا للإيمان.
وإما أن تكون سببًا للكفر.
وإما أن تكون مجملةً تَصلُح لهذا ولهذا.
فالأول كلام الله وكلام رسله وأنبيائه وخلفائهم بلفظه ومعناه، فإن السامع إذا سمع القرآن كان سماعه سببًا للهدى، فيوجب الهدى إذا لم يكن مانع. وإذا نظر فيه وتدبَّره كان ناظرًا في دليلٍ هادٍ يُوصله إلى العلم والمعرفة إذا كان النظر صحيحًا. فأهل النظر من أهل العلم والكلام إذا كان نظرهم فيه وكلامهم منه اهتدَوا، وأهل السماع والوجد إذا كان سماعهم له ووَجْدُهم به رشدوا؛ ولهذا حضَّ سبحانه على تدبره وعلى سماعه، فهو أحسن الحديث وخير الكلام، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «زيِّنوا القرآن بأصواتكم» (1)، وقال: «للّهُ أشدُّ أَذَنًا إلى الرجل الحسنِ الصوتِ
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 283) وأبو داود (1468) والنسائي (2/ 179، 180) وابن ماجه (1342) عن البراء بن عازب. وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (749) والحاكم (1/ 572).
(8/132)
بالقرآن من صاحِب القَينةِ إلى قَينتِه» (1).
وأما النوع الثاني فالكلام المتضمن للكفر والنفاق، لاسيما إذا زُخرِف بالعبارات والشُّبهات، وحُسِّن باللحون والأصوات، من نظمٍ ونثرٍ، مثل كلام القرامطة والإسماعيلية، وكلام التلمساني نظمه ونثره، وكلام ابن سبعين والبلياني وغيرهم من الملاحدة؛ فإن حروفهم سبب لاعتقاد الضلال، وهو اعتقاد أن الله هو المخلوقات، وأنه ليس وراء المخلوق خالقٌ خَلَقَه متميزٌ عنه، كحقيقة قولِ فرعون والقرامطة من جحود خالقِ الخلقِ؛ لكن فرعون نفاه بقوله ظاهرًا وباطنًا، فهو أكفر من هذا الوجه، ومن جهة أنه كان معاندًا جاحدًا. وهؤلاء قد يكون أحدهم ضالًّا يعتقد أنه على هدًى. ففرعون أكفر منهم من جهة أنه نفاه مطلقًا، وأنه كان معاندًا في نفيه وجحوده مستكبرًا عليه.
وهؤلاء قد يكون أحدهم مُقِرًّا بوجوده ومعتقدًا أنه هو الذي يثبته، ويحسب أنه مهتدٍ في ذلك وأن هذا هو دين الأنبياء، لكن هؤلاء أضرُّ على الأمة من فرعون؛ لأنهم يرون أن هذا دين الأنبياء. وفرعون كان
_________
(1) أخرجه أحمد (6/ 19) والحاكم في المستدرك (1/ 570، 571) والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 230) عن فضالة بن عبيد، وإسناده ضعيف، فإن إسماعيل بن عبيد الله لم يدرك فضالة بن عبيد، فهو منقطع. وبينهما ميسرة مولى فضالة عند أحمد (6/ 20) وابن ماجه (1340) وابن حبان (754). وهو مجهول، ومع ذلك حسَّن إسناده البوصيري في الزوائد.
(8/133)
أعلم منهم، لكن علمه ضار، فإنه كان مستيقنًا بأن للعالمين رب (1)، كما قال له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102]، لكن كان مع علمه معاندًا، فهو أصحّ منهم علمًا وأعظم كفرًا وعنادًا. وهؤلاء أضرُّ منه على الأمة لكن فيهم نوع من الإيمان والإقرار. وقد يكون لما جحد فرعون فهم ضالون لا جاحدون.
وهؤلاء أقرُّوا باسمه وبالتعبد له، وجعلوه هو المخلوقات، وهي إياه، وصرَّحوا بأن من عبدَ الشمسَ والقمرَ والطواغيتَ فما عبد إلا الله، ولا يُتصور أن يُعبَد إلّا الله، وأن العابد هو المعبود ولكن دار على نفسه. وزعموا أنه هو الذي جاءت به الرسل والأنبياء وكبار العارفين، فهم من هذا الوجه أضرُّ على الناس من فرعون. كما يذكره ابن العربي في «فصوص الحكم»، ويذكره القونوي في «مفتاح غيب الجمع والوجود»، وكما يذكره العفيف في «شرح الأسماء الحسنى» وفي «شرح قصيدة ابن الفارض» وفي أشعاره. وإن كان ابن العربي يرى أن المعدوم شيء ثابت في العدم، كقول من يقول ذلك من المعتزلة والرافضة، ويرى أن عين وجود الحق فاض عليهم، فيرى أن وجود الكائنات عين وجود الحق، وأن الناكح هو المنكوح، والشاتم هو المشتوم. وكما قال بعضهم: من قال لك إن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له صاحبه: من الذي كذب؟
_________
(1) كذا في الأصل.
(8/134)
وقد يُبتلى ببعض ذلك حالًا بعض جهال المتصوفة والمتعبدة، فإنهم لما توجهوا بقلوبهم إلى الله وذكروه وأحبوه شهدت قلوبهم الوجود العام بالمخلوقات الصادر عن الحق الذي خلق السموات والأرض، فاعتقدوا أن هذا الحق المخلوق هو الحق الخالق، فأشبهوا من بعض الوجوه مَن رأى شعاعَ الشمس فظنّ أنها هي الشمس، أو رأى الظلَّ فظن أنه الشخص.
وأما صاحبه الصدر الرومي فيرى أن الله هو الوجود المطلق الساري في الكائنات، لا يفرق بين الوجود والماهية، ولا الفائض والمفيض عنه، لكن ليس هو عين كل موجود، فإن المطلق ليس هو المعيَّن. وهذا تعطيل محض، وهو حقيقة مذهب فرعون والقرامطة. وأما الأول ففيه قسط من ذلك.
وصاحبه التلمساني ونحوه لا يفرق بين مطلق ومعين، ولا بين وجود وماهية، بل عنده أن نفس الأكوان هي الله، وهي أجزاء منه وأبعاض له، بمنزلة أمواج البحر مع البحر، وأجزاء البيت من البيت.
فما البحر إلّا الموج لا شيء غيره … وإن فرَّقتْه كثرةُ المتعددِ (1)
فهؤلاء في الكفر الصريح، وهم أهل الإلحاد والاتحاد العام، بخلاف من قال بالاتحاد الخاص المقيّد في نبي أو غير نبي، كالنصارى وغالية الرافضة وغالية جهال المتعبدة من الحلَّاجية واليونسية وبعض العدوية
_________
(1) البيت في مجموع الفتاوى (2/ 169) وعزاه إلى التلمساني ومن نحا نحوه.
(8/135)
والحاكمية وغيرهم؛ فإن هؤلاء يقولون بالاتحاد المعيَّن المقيّد.
ثم مع كل فريق من أهل الاتحاد المطلق والمعين فريقًا ثانيًا (1) يقولون بالحلول، أما الحلول المطلق ــ وهو قول من يقول: إن الحق حالٌّ في الأماكن كلها ــ فهذا كفر قديم في الأمة من كفر الجهمية الذين كان السلف ينكرون قولهم، وهم الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان؛ فإن هؤلاء الحلولية إخوان هؤلاء الاتحادية. أولئك قالوا: هو في جميع المصنوعات، وهؤلاء قالوا: هو نفس المصنوعات.
وهؤلاء الاتحادية المطلقة والحلولية المطلقة إنما أوقعهم في ذلك عدم إثباتهم لما جاءت به الرسل من ربّ العالمين، الذي فوق الخلق، الذي استوى على العرش، فإنهم تجهموا في أنه ليس فوق العالم ولا داخلَه ولا خارجَه ونحو ذلك من الصفات السلبية التي رأوها منطبقةً على الوجود المطلق، وهم عُبَّاد لابدَّ لقلوبهم من شيء تعبده، فلم يجدوا ما يطابق هذه السُّلوب إلا وجود المخلوقات.
وأما المتكلمة الجهمية فإنهم في العلم والكلام …… (2)، والعلم يتناول الموجود والمعدوم، فإذا وصفوه بهذه السلوب وكانت إنما تطابق المعدوم لم يَضُرَّهم إذا كان الذي أثبتوه معدومًا، فإنهم لا يعبدون شيئًا،
_________
(1) كذا في الأصل منصوبًا.
(2) هنا كلمة غير واضحة.
(8/136)
كما أخبر السلف بذلك عنهم. فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئًا، ومتعبدتهم يعبدون كل شيء.
ولقد كان في مبدأ دولة التتار: ابن الخطيب متكلم المعطلة والجهمية والزنادقة، وابن العربي متصوفهم وعارفهم، فاتفقا على جحد ربّ العالمين الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسل، وإن كانوا قد أقروا بما ظنوا أنه هو، وحاروا فيه، فإن الحيرة ظاهرة عليهم، لما هم فيه من التناقض. واختلفا بعد ذلك. فالأول أثبت العالم لكن بالكلام الباطل، والثاني لم يثبت العالم لكن بالعقل الفاسد.
فتدبَّر هذا واجمعه مع ما قدَّمتُه من القواعد يتبيَّن لك الأمر. والله أعلم.
وكذلك أهل الحلول الخاص إخوان أهل الاتحاد الخاص، كما افترقت النصارى في المسيح، فإن النسطورية قالوا بحلول اللاهوت في الناسوت، واليعقوبية قالوا باتحاد اللاهوت والناسوت، والملكانية قالوا بالاتحاد من وجه دون وجه. الأولون شبَّهوه بالماء في الإناء، والآخرون شبَّهوه بالماء واللبن، والملكانية شبَّهوه بالنار في الحديد، فقالوا: هما جوهر واحد وأقنومان.
ثم هؤلاء أهل الاتحاد المخصوص يحتاجون أن يقولوا: إن الرب والعبد اتحدا بعد أن كانا اثنين، وأن اللاهوت اتحد أو امتزج أو اختلط أو اتصل بالناسوت بعد أن لم يكن كذلك.
وأما أهل الاتحاد المطلق فإن لفظة الاتحاد عندهم ليست مطابقة
(8/137)
لمذهبهم؛ فإنه (1) عندهم ما زال واحدًا ولا يزال، لم يكن شيئان فصار واحدًا، ولكن كانت الكثرة والتفرق في قلب الإنسان لما كان محجوبًا عن شهود هذه الحقيقة، فلما انكشف الحجاب عن قلبه شهد الأمر، فالمراتب في اعتقاده وخياله، وأما الكثرة والتفرق الموجود في الخارج فهو عندهم بمنزلة أجزاء الكلّ أو جزئيات الكلّي، كما تقدم.
وهؤلاء إذا أُنْشِد شعرُ بعضهم بصوت ملحَّن كشعر التلمساني وبعض شعر ابن إسرائيل، مثل قوله:
وما أنتَ غيرَ الكونِ بل أنتَ عينُه … ويَفْهم هذا السرَّ من هو ذائقُ (2)
وقوله:
وتلتذُّ إن مرَّتْ على جسدي يدي … لأنِّيَ في التحقيقِ لستُ سِواكمُ (3)
كان هذا من سماع الذي هو سبب الكفر.
وأما المجمل من الحروف والأصوات فمثلُ كثيرٍ من المنطق والكلام، ومثل الأشعار التي فيها ذكر الحب مطلقًا بتوابعه من الهجر والوصل والصدود والشوق، مثل كثير من شعر ابن الفارض؛ فإن تلك القصيدة يتقبلها الزنديق التلمساني ونحوه ممن يقول: إن الله هو وجود
_________
(1) في الأصل: «فإن».
(2) البيت في فوات الوفيات (3/ 384). وأورده المؤلف في مجموع الفتاوى (2/ 80).
(3) أورده المؤلف في الموضع السابق.
(8/138)
المخلوقات. وقد نقلها قوم صحيحو الاعتقاد من الصوفية، وأخذوا ما فيها من وصف الحبّ وأهله، وتنازع الفريقان قولَه:
ولي من أتمِّ النظرتينِ إشارةٌ … تنزّه عن رأي الحلول عقيدتي (1)
فأولئك المنافقون يقولون: إنه صعد عن الحلول إلى الاتحاد، بل إلى وحدة الوجود، فإن الحلول فيه حال ومحل، وهذا يثبته، وإنما الوجود شيء واحد، فهذا أراد. وهؤلاء المؤمنون يقولون: بل أراد إثباتَ عبوديته لله، وأنه لا يحلّ مخلوقاته، بل هو بائن من خلقه، كما هو مذهب المسلمين أهل السنة والجماعة.
لكن من تأمَّل بقية هذه القصيدة، وتأمَّل هذه الأبيات وما بعدها وجدها صريحةً في مذهب الاتحادية المنافقين الفرعونية القرامطة، وعلم أن نفَسَه ونفَسَ التلمساني هو نفَس ابن العربي، وأن هؤلاء كلهم قولهم كفر صريح معلومٌ فسادُه بالاضطرار العقلي والشرعي والاضطرار الذوقي أيضًا، ولكن لكثرة ما يصفونَ جنسَ الحبِّ يبقى في كلامهم إبهام.
وكذلك الأصوات المثيرة للوجد والطرب تحرِّك كلَّ قلبٍ إلى مطلوبه، فيشترك فيها: محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان، ومحب النسوان، ومحب المردان، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان. ولهذا لم تجئ الشريعة بهذا السماع، ولا فعلها القرون الثلاثة
_________
(1) البيت من تائية ابن الفارض في ديوانه ().
(8/139)
الفاضلة، بل هو مُحدَثٌ في حدود أواخر المئة الثانية، ولهذا امتنع عن حضوره أكابر العارفين وأئمة العلم وأهل الاتباع للشريعة، ونهوا عنه.
وقد حضره جماعات من المشايخ الصالحين وأهل الأحوال، لما تُثير فيهم من وَجْدهم الكامن، فيُثير العزم الساكن، ويُهيّج الوجد القاطن. وكانوا في حضوره على درجات، وشاركهم فيه جماعات من أهل البدع والضلالات، وإن كان لهم أحوالٌ فيها كشوفٌ وتأثيرات، تُنتج لهم أحوالًا غير مرضية للرحمن، مثل تحضير أهل الكفر والفسوق والعصيان، ومثل مغالبة بعضهم بعضًا، والسعي في سلب إيمانه أو حال إيمانه، أو غير ذلك من أنواع البغي والعدوان، فدخلوا بذلك في الإعانة على الإثم والعدوان، وفرَّطوا فيما أُمِروا به من الإعانة على البر والتقوى.
وصار بسبب كونه مشتركًا يشترك فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والصدّيق والزنديق، بمنزلة من بنى معبدًا مطلقًا يتعبد فيه كلُّ أهل ملة ونحلةٍ، فيجتمع فيه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس والمشركون والصابئون، كلٌّ يصلي إلى قبلته، ولا ينهى بعضهم بعضًا، وجعل لهم فيه مطاعم وملابس. فقد يتفقون لما فيه من القدر المشترك من المطعم والملبس والمسكن، ويتفاوتون لما فيه من اختلاف مقاصدهم ونياتهم ووِجَهِهم، فإنّ وِجَهَ القلوب أعظم تفاوتًا من وِجَه الأجساد.
(8/140)
ولهذا اتفقت الأنبياء والمرسلون على أن وجهة قلوبهم إلى الله وحده لا شريك [له]، كما قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111، 112].
وأما وجهة الأبدان فقد قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، وقد عمَّم حيث قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].
ثم الدخول في الحروف والأصوات المجملة والاشتراك فيها يوجب فسادين:
أحدهما: سقوط خاصية الحروف والأصوات المشروعة لنا المختصة بنا، التي وجبت علينا أو استُحِبَّتْ لنا، وفُضِّلنا بها على غيرنا.
الثاني: الخروج من المجمل المشترك إلى المفصل المختص بأهل الكفر والنفاق، كما وقع في ذلك خلائق كثيرون، حتى إنه في المجمع
(8/141)
الواحد يُنشَد البيت المجمل والبيت الكفري. والله سبحانه أعلم وأحكم.
ومما يتعلق بهذا أن أصل الصابئة الحروف والأصوات المجملة المشتركة، كما فعله ابن سينا متكلم الصابئة في الإسلام في كتبه الصابئية «كالإشارات»، فإنه افتتحها بالكلام في المجمل والمشترك وهو المنطق، وختمه بالعبادة والسماع للصوت المطلق المشترك. كما يتكلمون في علم الموسيقى، وهو الصوت المجمل المشترك، فالحروف المنطقية المجملة والأصوات النغمية المجملة هي دين الصابئة، لا تُوجِب الإسلامَ ولا تحرِّمه، ولا تأمر به ولا تنهى عنه، وقد تنفع تارةً وتضر أخرى. والأصل فيها أنها غير مشروعة ولا مأمور بها. والله أعلم.
(8/142)
فصل
في بعض الشرح والتقرير لقاعدة السنة والجماعة وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، فإن هذه الآية تتضمن الأمر بالسنة والجماعة، فإن قوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} هو الجماعة، وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} هو السنة.
قد قرَّرتُ في غير هذا الموضع أن الدين أمر ضروري لبني آدم، لا يمكن أن يعيشوا في الدنيا إلا بدينٍ يتضمن أمرًا ونهيًا؛ لأن الإنسان لابدَّ أن يَجتلِبَ إلى نفسه المنفعةَ ويدفعَ عنها المضرَّة، وهذا هو الأمر والنهي، وهو الدين العقلي الذي لا ينكره أحدٌ.
ثم إن كثيرًا من جلب منافعه ودفع مضارِّه لا يتمُّ به وحدَه، بل لابدَّ من التعاون على ذلك من بني آدم، فإن أصل جلب المنفعة له: الطعام، وأصل دفع المضرة عنه: اللباس المتصل، وهو الثياب والجُنَّة، والمنفصل وهو السكن. ولهذا امتنَّ الله في سورة النحل بنعمِه المتضمنة للمطاعم والملابس من النوعين، فقال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا} إلى قوله: {هُوَ الَّذِي
(8/143)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 5 ــ 10].
فذكر في أول السورة أصول النعم، كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]، وذكر في أثنائها من اللبن والعسل والأكنان والظلال والخيام ووقاية البأس والحرّ ما هو كمال النعم وتمامها، ولذلك قال: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]. ولهذا ــ والله أعلم ــ ذكر في أول السورة ما يُدفِئ فيدفع البرد، وذكر في أثنائها ما يدفع الحرَّ والبأسَ، فإن البرد يَقتُل والحرّ يؤذي، وقد يُمكِن الإنسانَ أن يعيش في البلاد الحارَّة بلا لباسٍ عيشًا ناقصًا، كما قد يَسلَم في الحرب بلا سرابيل، وأما البلاد الباردة فلا يعيش فيها الإنسان إلّا بما يُدفِئه. وكذلك سكن البيوت وبيوت الأنعام كل ذلك من تمام النعمة.
وإذا كان ابن آدم مضطرًّا إلى الطعام واللباس، والواحُد لا يقدر أن يصطنع جميع حاجته من الطعام واللباس، كان حاجته إلى مثله ضرورية، فيكون اجتماعُهم ضروريًّا، وإذا اجتمعوا فلابدَّ من واحدٍ يكون هو مبدأ حركتهم فيما يأتونه ويَذَرونه من جلب المنافع ودفع المضار، فكانت الإمارة فيهم ضرورية. ولهذا أوجب النبي – صلى الله عليه وسلم – في
(8/144)
السفر أن يؤمِّروا أحدهم (1)، وهو أقلُّ جماعةٍ في أدنى اجتماع، فصارت الجماعة في حقهم رحمةً والفرقةُ عذابًا.
وإذا كانت الجماعة والإمارة فيهم ضرورية لجلب المنفعة ودفع المضرة، والمنفعةُ لا تُجتلَب إلّا بأموالٍ، والمضرة لا تندفع إلا بقوة، ومن المضرة ما يُعادي بني آدم من السباع وغيرها، وفي طباع بعضهم من البَغْي والعدوان ما يُوجِب أنه إن لم يُدفَعْ وإلَّا ضرَّ الباقين= كانوا مضطرين إلى رعاية الأموال ودفع الأعداء، وكانوا أيضًا في بقاء جنسهم مضطرين إلى النكاح، وإذا مات الميتُ منهم وكلُّهم محتاجٌ إلى ماله فلابدَّ من سببٍ يُوجِب تخصيصَ أحدهم.
ولابدَّ لهم أيضًا من دينٍ وإلاهٍ تعبُده قلوبُهم، يجتلبون منه المنفعة ويستدفعون به المضرَّة، فإن هذا من الضروريات اللازمة لهم، فإن أحدهم يحتاج إلى ما هو خارجٌ عن قدرته، فلا بدَّ له من إلاهٍ يَطلُب ذلك منه.
فهذه الأمور وأمثالُها لو وُكِلَ فيها كلُّ واحدٍ إلى رأيِه (2).
_________
(1) أخرجه أبو داود (2608) والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 257) عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه أبو داود (2609) والبيهقي (5/ 257) عن أبي هريرة. وإسنادهما حسن.
(2) كذا في الأصل، ولعل المؤلف كتب العبارة وأراد أن يشطب عليه فلم يفعل، وسيأتي ما يفيد المعنى.
(8/145)
وكذلك هم متحركون بأرواحهم حركةً دائمة، فلابدَّ لهم من إ لاهٍ صمدٍ هو إلههم الذي هو معبودهم ومنتهى حركاتهم وإراداتهم.
فثبت بذلك أنهم محتاجون إلى الاجتماع، وبعضهم محتاج إلى بعض لجلب المنفعة ودفع المضرة، ومحتاجون إلى ما يطلبون منه الحوائج الخارجة عن قدرتهم، وهو ربهم، وإلى إ لاهٍ هو الغاية والنهاية التي لها يعبدون، ولها يصلون ويسجدون، وإليها يصمدون ويقصدون، وهو إلاههم.
وذلك كله لا يقوم إلّا برأسٍ يُعلِّمهم ويأمرهم، ويُقيمهم على سنة وقانون في أنواع الحاجات ومقاديرها، وأنواع المنافع ومقاديرها، فإن ذلك إن لم يُضبَط لهم وإلّا انتشر الأمرُ وفسدَتْ أحوالُهم. وهذا الأمر لما كان ضرورةً في جميع بني آدم أُلْهِمُوه كما أُلْهِموا الأكلَ والشربَ والنكاحَ. فلابدَّ لكل طائفةٍ من سيّدٍ مُطاعٍ ورئيسٍ وإمام، وإن تنوعت أسماؤه ومراتبُه، إمّا مَلِك وإما أمير وإما شيخ وإما مُفتٍ وإما قاضٍ وإما مقدَّم وإما رئيس قرية، إلى غير ذلك من الأسماء. وكل طائفة فلابدَّ لها من أن توالي أولياءها وتعادي أعداءها.
فمعلومٌ بالعلم اليقين أن السيد المطاع الذي بعثه الله وأنزل إليه من الهداية والعلم والكلام ما يَصلُح به الناسُ أحقُّ بأن يُتَّبع ويُطاع ويُوالَى وليُّه ويُعادى عدوُّه، وهم رُسُل الله المبعوثون إلينا لوجوه:
أحدها: أن هدايتهم وإرشادهم وأمرهم ونهيهم هو هداية الله
(8/146)
وإرشاده وأمره ونهيه، والله أعلم العالمين وأرحم الراحمين وأحكم الحاكمين. فالإسلام له وإسلامُ الوجهِ إليه أولى من الإسلام لغيرِه وإسلامِ الوجه إليه.
الثاني: أن هذه الهداية والرئاسة كاملة العلم، ليس فيها نقص علمي، كما يدخل النقص في سائر الرئاسات التي ….. الناس بآرائهم.
الثالث: أنها كاملة الرحمة، لا تدعُ منفعةً إلّا جَلَبْتها بحسب الإمكان، ولا مضرةً إلّا دفعتْها بحسب الإمكان، بخلاف الرئاسات التي لا تكمل فيها رحمة الخلق ومحبة الخير، بل يكون فيها كِبْرٌ وقسوةٌ. ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ستكون نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون مُلكٌ ورحمة، ثم مُلكٌ وجبريِة، ثم مُلكٌ عَضوض» (1).
الرابع: أنها كاملة الغنى، {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]، فليس فيها هوى نفسٍ، بخلاف الرئاسة التي فيها هَوًى، إما هَوى السلطان وإما هَوى المال.
الخامس: أنها كاملة القدرة والسلطان، فإن ناصرها ومؤيدها هو الله، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 273) والبزار (2796) والطبراني في الأوسط (6577) عن حذيفة بن اليمان، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 188، 189) بعد أن عزاه إليهم: رجاله ثقات. وانظر السلسلة الصحيحية (5).
(8/147)
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21].
فهذا بعض ما يُبيِّنُ أن العاقل عليه أن يجعل كل رئاسة وإمامة، سواء كانت علمية كالفقه والكلام وغيرهما، أو دينية كالفقر والتصوف والتعبد وغيرها، أو حربية كالملك والإمرة، أو مالية كالوزارة والخراج، إلى غير ذلك، يجعلها جميعَها تابعةً للكتاب والسنة، ولا يتقدم بين يدي الله ورسوله في شيء من المراتب، فذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً.
ولهذا أمر ولاة الأمر ــ وهم أرباب المراتب والرئاسات كائنةً ما كانت ــ بالردّ إلى ذلك، وبيَّن أن ذلك خير وأحسن عاقبةً في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.
وهذا الذي ذكرناه تقريرٌ لبعض مضمون هذه الآية.
(8/148)
[فصل]قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
وفي الحديث الصحيح (1) أنه لما أنزل الله {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284]، شقَّ ذلك عليهم، فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أتريدون أن تقولوا كما قال اليهود أو أهل الكتاب: سمعنا وعصينا، قولوا: سمعنا وأطعنا”، فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما ذلَّتْ بها ألسنتُهم أنزل الله الآية الأخرى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} إلى قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: قد فعلتُ. {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: قد فعلتُ. {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} كذلك إلى آخرها.
_________
(1) أخرجه مسلم (125) عن أبي هريرة، و (126) عن ابن عباس.
(8/149)
فهؤلاء المؤمنون لما سمعوا وأطاعوا خفَّف عنهم وحَطَّ عنهم الإصرَ الذي حمل على من كان قبلهم، وأولئك لما عَصَوا واعتدَوا وقالوا: قلوبنا غُلْف، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، وقال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146]، ثم قال: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 162]. إذ قد أخبر أن منهم من لا يعلم الكتاب إلا أمانيَّ، ومنهم من يحرِّفه من بعد ما عقلَه، ومنهم من يكذّب ويكتُم ويَلوِي لسانَه ويكتُب بيده، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وهؤلاء وإن ذُكِر لهم علم فليسوا براسخين في العلم، إذ الرسوخ في العلم يقتضي الثبات والاستقرار فيه، وذلك مستلزمٌ لاتباعِه والعمل به، كما قيل: العلمُ يَهتِفُ بالعمل، فإن أجابَه وإلّا ارتحلَ (1).
وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع وبيَّنّا تلازمَ العلم التام والعمل، وأنهما حيث لم يتلازما فلضعف العلم، مثل علم الرواية باللسان. وفي مراسيل الحسن (2): “العلم علمان، علم في القلب وعلم على اللسان، فعلمُ القلب العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده”.
_________
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلمِ العملَ (40، 41) عن علي رضي الله عنه ومحمد بن المنكدر.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (13/ 235) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 661) وهو مرسل كما ذكره المؤلف.
(8/150)
وقال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. وقد يحتج من يقف عند قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} كمجاهد وابن قتيبة، ويذكر رواية عن ابن عباس (1)، على ذلك بأنه سبحانه لم يقل هنا: “والمؤمنون والراسخون في العلم يقولون آمنا به” كما قال في تلك الآية: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية. فلو لم يكن المقصود بالآية إلّا الخبر عنهم بأنهم قالوا: آمنا به، لأخبرَ بذلك عن جميع المؤمنين كما في نظائره، مثل قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 ــ 125].
وقد يُجيب الجمهور الذين يقفون عند قوله: {إِلَّا اللَّهُ} وقد نُقِل هذا المعنى عن أُبيّ وابن مسعود وابن عباس وعائشة (2) والجمهور، بأن هذا الموضع كقوله في سورة الحج: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ
_________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 220).
(2) انظر تفسير الطبري (5/ 218، 219).
(8/151)
بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 ــ 54]، فإنه ذكر الذين أوتوا العلم هنا فقط، كما قال هناك: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}.
وإنما ذكر أهل العلم في هذين الموضعين لما فيه من الشبهة بما ألقاه الشيطان في أمنيته وما نزل [من] المتشابهات، فكأنّ الخبر بالإيمان وأن الجميع من عند الله عن أهل العلم دليل على بطلان الشبهة والعلم بأنه لا حقيقة له، ولا مانع أن يكون إذا قال هذا من هو راسخ في العلم أن لا يقوله غيرُه. يُبيِّن ذلك أنه على الوقفين إنما أخبر بقولهم فقط مهنئًا بهم اختصوا بعلم تأويل القرآن، وأخبر بقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} عنهم وحدهم، مع أنه قول كلّ مؤمن، إذ المقصود أن العلم يوجب هذا القول، ومن لم يقله وإن كان له نصيب من العلم فليس براسخٍ فيه. فاليهود الذين أوتوا العلم فلم يؤمنوا بمحمدٍ إيمانَهم ليسوا راسخين في العلم.
وأما تلك الآية فإنما قال: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} أي من أهل الكتاب {وَالْمُؤْمِنُونَ} هم المؤمنون من العرب وغيرهم الذين ليسوا أهل كتاب، فإن هؤلاء وإن كانوا بعد مبعث محمد صاروا أو بعضهم أرسخ في العلم من أولئك، فإنهم لم يكونوا قبل سماع القرآن أهل علم بالكتاب، كما كان عند أولئك علمٌ عَلِمُوه من غير القرآن.
(8/152)
وقد يقال: الوقفان كالقراءتين، وقد يقرأ في المكان الواحد بالنفي والإثبات باعتبارين، كقراءة من قرأ {لِتَزُولَ} و {لَتزولُ مِنْهُ الْجِبَالُ}، وكالتي فيها الخبر والأمر. وعلى هذا فيكون هنا تأويلان: فتأويل يعلمه الراسخون، وتأويل لا يعلمه إلا الله، وهذا فيه جمعٌ بين أقوال الصحابة والتابعين والأئمة رضي الله عنهم.
وقد تكلمنا على هذه الآية في غير هذا الموضع (1) وذكرنا أن معنى لفظ التأويل الذي جاء به القرآن غير معناه في عرف المتأخرين، وذكرنا الاصطلاحات فيه والفرق بينه وبين التفسير. وللإمام أحمد كتاب “الرد على الزنادقة والجهمية مما تأولت فيه من متشابه القرآن”، تكلم على الآيات كلِّها وبيَّن معناها، فمعنى الخطاب وتفسيره يعلمه العلماء، وهذا يُسمَّى تأويلاً، وأما الحقائق الموجودة في الخارج مما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، كما قال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53]، فتلك لا تُعلَم إلا بمشاهدتها ……… (2) وليس لها في هذا العلم ما يناظرها من كل وجه، فلا يعلم حينئذٍ إلا من بعض الوجوه، فيجوز أن يكون لا يعلمه، قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وإن عُلِم أنها قرة أعين فإنها لا تُعلَم في الدنيا.
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (13/ 272 وما بعدها). و (17/ 391 وما بعدها، 406 وما بعدها).
(2) هنا كلمات مطموسة.
(8/153)
فنفيُ العلم من وجه وإثباته من وجهٍ حق، وعلى هذا فيصحُّ إثباتُ علم التأويل للراسخين من وجهٍ ونفيُه من وجهٍ، فيصح الوقفان (1).
وقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101]، ومعلوم أنه قد أعلمهم بنوعهم ووصفهم وأنهم من أهل المدينة والأعراب، لكن لا تعلم أعيانهم. وقال تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50]، نفى قوله أنه يعلم الغيب المطلق، وإن كان الله قد أعلمه مما غاب عن غيره شيئًا كثيرًا. وقال تعالى: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27]، وكذلك قوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقوله: {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14].
وقد قال يعقوب ليوسف: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6]، وقال: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37] أي قبل أن يأتي التأويل، وقال أولئك: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44]، ومعلوم التأويل قبل مجيئه، وإنما علمه بالوصف
_________
(1) بعدها كلمات مطموسة.
(8/154)
كما يعلم بالوصف تأويل القرآن المذكور في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}، ألا ترى أن كيفية الحدث المدركة بالعيان لم تكن معلومة بمجرد الخبر، فإن المُخْبَر ليس ….. (1).
والتأويل في خبر ابن عباس المراد به تأويل الأمر والنهي، كما قال ابن عباس: السنة تأويل الأمر والنهي. فإن الخطاب نوعان: إخبار وإنشاء، فالإنشاء كالأمر والنهي والتحليل والتحريم يعلم العلماء تأويله وتفسيره، إذ لابد من فعل المأمور به وترك المنهي عنه، وذلك لا يكون إلّا بعد علمه، بل لابدّ من علم المأمور به مفصَّلاً.
ومن هذا قول عائشة: كان يقول في ركوعه وسجوده: “سبحانك اللهم وبحمدك” يتأول القرآن (2). فقد يقال: اللام في التأويل للتأويل المعهود، وهو تأويل الأمر، وعلى هذا أيضًا قد يحمل قول جابر في حديث صفة الحج الذي في مسلم (3)، قال: ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عملَ به من شيء عَمِلْنا به، فأهلَّ بالتوحيد: “لبَّيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك له”، وأهلَّ الناس بهذا الذي يُهِلُّون به، فلم يَرُدَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عليهم شيئًا منه، ولَزِمَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – تلبيته.
_________
(1) هنا كلمة مطموسة. ولعلها “كالمعاين”، كما في مجموع الفتاوى (16/ 518) في سياق آخر.
(2) أخرجه البخاري (817) ومسلم (484).
(3) رقم (1218).
(8/155)
فقوله: “وهو يعرف تأويله” يُشبه قوله: “وعلِّمْه التأويلَ” (1)، إذ قد يقال: ظاهرهما العموم وقد يدَّعى الاختصاص بالأمر والنهي وقد خالفه التأويل. وهو مثل حديث سعد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا} الآية [الأنعام: 65]، قال: “إنها كائنةٌ، ولم يأتِ تأويلُها بعدُ” (2). لكن ليس فيه أنه كان يعلم هذا التأويل.
لكن يقال: الخبر عما كان في الدنيا مثل قصص الأنبياء ومن آمن بهم ممن لديهم عَلِمَ تأويلَها العلماءُ، إذ لم يبق لها مخبر آخر يجيء فينتظر، وإن لم يعلم معاينةً فله نظير علم منتظر، وكذلك ما سيكون في الدنيا من حوادث فإن علم تأويلها قبل كونه مثل علم تأويل تلك بعد كونه ….. (3) الأمور الحاضرة، والخبر عن الملائكة والجن والنار، فهذا من الخبر عما سيكون.
ومما ينبغي أن يُعرف أن نفس علم التأويل ليس عامًّا في الدنيا والآخرة، فإنه ما من شيء أخبرنا به في القرآن إلّا ولا بدَّ [أن] نعلمه. فقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} إذا وقف هنا لا يراد به: لا نعلمه مطلقًا؛ لأن الناس لابدّ أن يعلموه في الآخرة، حتى أن ي
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 266) عن ابن عباس. وإسناده صحيح.
(2) أخرجه أحمد (1/ 170) والترمذي (3066). وإسناده ضعيف.
(3) هنا كلمة مطموسة. ولعلها “يعاين”.
(8/156)
روا ربهم في الدار الآخرة، وهذا أكمل طرق العلم.
وأيضًا فالملائكة تعلم من أحوال أنفسها وما وُكِّلتْ من أمر الجنة والنار وغير ذلك ما هو من الأمور المخبر بها مما هو من تأويله كذلك، فصار علم تأويله حاصلاً لبعض الأصناف وفي بعض الأزمنة ……. (1) لا يعلم به، وهذا يقوي أن للمخلوق شيئًا من علم تأويله في الجملة، وإن عُدِم علم بعضهم أو العلم في بعض الأوقات فلا ينفيه مطلقًا.
وأيضًا فإن الله ذمَّ متَّبعي المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فالذم حصل بهذين الوصفين، ولو كان علم التأويل مما قد أيس منه الخلق كلهم لكان طالبه مذمومًا وإن لم يبتغ الفتنة، وكان في قلبه زيغٌ أو لم يكن. والذم إذًا وقع على من يتبعه يبتغي هذا ويبتغي هذا، ولا ريب أن هذا مذمومٌ، وذمه في ابتغاء تأويله لكونه متعذرًا من غير جهة الراسخين في العلم، وقد لا يجد الراسخين أو لا يكون منهم فلا يرى علمه.
وأيضًا فهم يتبعون المتشابه أي يتحرَّونه، كما في الحديث المتفق عليه (2) أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعائشة: “إذا رأيتِ الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذرِيْهم”. وهذا صَبِيغ بن عِسْل الذي ضربه عمر ونفاه وأمر بهَجْرِه حتى مات بعد حول (3). وقد رُوي أنه سأل عن
_________
(1) هنا كلمات مطموسة.
(2) البخاري (4547) ومسلم (2665).
(3) أخرجه الدارمي في سننه (1/ 54، 55). وانظر: الإصابة (5/ 306 ــ 308) طبعة التركي.
(8/157)
الذاريات ونحوها (1). وهذا قوي إذا جعل المتشابه من الأمور النسبية، أو قد يتشابه على هذا ما لا يتشابه على غيره. وكلام الإمام أحمد في الرد على من تأوَّل المتشابه على غير تأويله يوافق هذا، فإن الآيات المذكورة إنما تشابهت على بعض الناس، ولما تبيَّن وجهها زالَ التشابه، ومن فسر فقوله لآية بأنه من المتشابه قوبل هذا بأن القرآن كله محكم، كما قال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]، وهنا قد وُصِف بالإحكام بعضُه، كما أنه قد وُصِف كلُّه بأنه متشابه، وهنا وُصِف بالمتشابه بعضُه، فعُلِم أن لفظ المتشابه فيه نوع اشتراك وإجمال، وكذلك لفظ الإحكام، وقد قال في الآية الأخرى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}.
_________
(1) أخرجه البزار كما في كشف الأستار (2259) وابن عساكر في تاريخ دمشق (23/ 410). وانظر: الدر المنثور (13/ 664).
(8/158)
[فصل]في المثل والكفو في الكتاب والسنة ولغة العرب
قال تعالى: {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، وقال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقال: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثلٍ، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلّا مثلًا بمثلٍ” (1) وذكر الحديث.
وقال عمر بن الخطاب: لأمنعنَّ فروجَ ذواتِ الأحساب إلّا في الأكفاء (2).
وذكر الفقهاء المكافأة في النكاح وفي القصاص وفي محلل الرمي، فهناك يعتبر كون الزوج كفؤا، وفي القصاص أن يكون المقتول كفؤا،
_________
(1) أخرجه البخاري (2177) ومسلم (1584) عن أبي سعيد الخدري.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 152) وابن أبي شيبة في المصنف (4/ 418) والدارقطني في سننه (3/ 298) والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 133).
(8/159)
وفي السباق أن يكون المحلل يكافئ فرسُه فرسَهما ورميه رميهما.
وذكروا المماثلة في ضمان الأموال بالغَصْب والإتلاف، فإذا كان المال مثلها وهو المكيل والموزون ضُمِنَ بمثله، وفي غيرِه خلاف. وكذلك في الربا العلةُ التماثلُ في المشهور عندنا، فلا تُباع المثليات وهي المكيل والموزون إلا مثلاً بمثلٍ.
وقالت عائشة: مثلي يَغارُ على مِثلك يا رسول الله! (1).
وقال حسان بن ثابت:
أتهجوه ولستَ له بِمثْلٍ … فشرُّكما لخيرِكما فِداءُ (2)
[كل] هذا يدلُّ على أن الأجسام ليست متماثلةً في الكتاب والسنة ولغة العرب، وأن الهواء ليس مثل النار، ولا النبات مثل الحيوان، وأن ما اصطلح عليه بعضُ المتكلمين إما أن يكون فاسدًا في المعنى، وإما أن يكون اصطلاحًا ليس هو لغة العرب، فلا يجوز حملُ نصوص الكتاب والسنة وكلام السلف على اصطلاحٍ حادثٍ مخالفٍ لاصطلاحهم.
ويُعرف بهذا أن تسميتهم مُثبتةَ الصفاتِ مشبِّهةً أو مُمثِّلةً إنما على ما حَدُّوا به التماثل و …… (3) في الحدود التي خرجوا بها عن حدودها
_________
(1) أخرجه مسلم (2815) عن عائشة.
(2) بعده بياض بقدر أربعة أسطر. والبيت في ديوان حسان (ص 160) ط. سيد حنفي حسنين.
(3) هنا كلمة مطموسة.
(8/160)
في الكتاب والسنة وكلام السلف والعرب. وحينئذٍ فلابدَّ ……. (1) في نصوص الكتاب والسنة، فلا يصف [الله إلّا] باسم ليس في الشرع ما يذمه، فإن الذي حمدُه زَينٌ وذمُّه شَيْنٌ هو الله (2) ……..
وقوله في حديث الصورة: “لا يقولن أحدُكم: قبَّحَ اللهُ وجهَك ووجهَ من أشبَهَ وجهَك” (3) يدل على أنه ليس ممتنعًا من كل وجهٍ كما هو قول ……… (4).
_________
(1) كلمة مطموسة.
(2) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (3/ 488، 6/ 394) عن الأقرع بن حابس، وإسناده ضعيف لانقطاعه. وله شاهد من حديث البراء بن عازب أخرجه الترمذي (3267) والنسائي في الكبرى (11515)، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(3) أخرجه أحمد (2/ 251، 434) والحميدي في مسنده (1120) والبخاري في الأدب المفرد (172) عن أبي هريرة. وإسناده قوي.
(4) كلمات مطموسة في مواضع النقط.
(8/161)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا [إله إلّا الله وحده لا شريك] له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، صلى الله [عليه وعلى آله وسلم].
أصل كلّي جامعٌ أول آخر، قال الله تعالى لرسوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. أمره أن يُخبر في هذه الآية أنه رسول الله ملكِ العالمين إلى الناس جميعًا، الذي لا إله إلا هو، وأمر بالإيمان به وبرسوله الذي يؤمن بالله وبكلماته، وذلك يَعُمُّ الكلماتِ الكونية والشرعية.
وقد تضمنت هذه الآية أصلَي الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلّا الله وشهادة أن محمدًا رسولُ الله، وقد قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، ثم قال: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8، 9]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:
_________
(1) كتب المؤلف فوقه: “تلو التي تُشبهها أولها: قاعدة العلم الإلهي”.
(8/162)
21]، فأمر بعبادة الله تعالى، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، فأمر بالإيمان بالرسول، وقال تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [هود: 14]، فبيَّن أن عجزهم عن معارضة القرآن يُقرِّر العلم بالرسالة وبالوحدانية.
وهذان العلمان هما أصل الدين: العلمُ بأن ما أنزل بعلم الله، والعلم بأن لا إله إلّا هو. ثم قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} إذ الإسلام نتيجة ذلك، وهو الشهادة بأن لا إله إلا الله، وأن الذي جاء به محمدٌ هو منزلٌ بعلم الله، وهذا استفهام إنكار يقال لما …… (1) حجته من طلب وخبر.
وهذا مما تواترت به السنةُ تواترًا أبلغ من جميع التواترات، وانعقد عليه إجماع الأمة المعلومُ بالاضطرار بين عامِّها وخاصِّها، ففي الصحيحين (2) عن معاذ بن [جبل أن] رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما بعثَه إلى اليمن قال له: “إنك تأتي قومًا أهلَ كتابٍ [فليكنْ أوّ] لَ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأَعْلِمْهم أن الله افترضَ عليهم خمس صلوات” الحديثَ.
وفيهما (3) عن أبي هريرة وابن عمر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “أُمِرتُ أن أقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله”،
_________
(1) هنا كلمة مبتورة.
(2) البخاري (1496) ومسلم (19).
(3) البخاري (25، 7284) ومسلم (21، 22).
(8/163)
وفي حديث ابن عمر: “ويقيموا الصلاةَ ويُؤتوا الزكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا مني دماءَهم وأموالَهم إلّا بحقِّها، وحسابُهم على الله”. وفي حديث أنس (1): “حتى يؤمنوا بالله وبما جئتُ به”.
وقال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن (2) عن معاذ: “رأسُ الأمر الإسلام، وعَمودُه الصلاة، وذِروةُ سَنامِه الجهادُ في سبيل الله”. وهذا اللفظ أجود من اللفظ الذي يقال فيه: “رأسُ الأمر وعمودُه وذروة سنامه الجهادُ”.
وفي حديث عكرمة بن أبي جهل (3) لما أسلم أنه قال له: علِّمني ما أقوله، فقال: “يا عكرمة، قل: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله”، فقال، فأعادها عليه.
ولهذا كانت الشهادتان ركنًا في شعار الإسلام الذي هو الأذان والإقامة، وفي تشهد الصلاة التي هي عماد الدين، وفي الخطب جميعها. قال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه أبو داود (4) عن أبي هريرة
_________
(1) أخرجه البخاري (392) وأحمد (3/ 199، 224) وغيرهما، ولكن ليس فيه هذا اللفظ، وهو عند مسلم (21) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد (5/ 231) والترمذي (2616) والنسائي في الكبرى (11394) وابن ماجه (3973) عن معاذ بن جبل. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 242).
(4) برقم (4841). وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 302، 343) والترمذي (1106) وقال: هذا حديث حسن غريب. وصححه الألباني (2796، 2797).
(8/164)
قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “كل خطبة ليس فيها تشهُّدٌ فهي كاليد الجذماء” قال الترمذي: حديث حسن غريب.
وفي المسند (1) في حديث الأسود أن الله قال له: ” [{وَرَفَعْنَا لَكَ] ذِكْرَكَ}، فلا أُذكر إلّا ذُكِرْتَ معي، ولا يصح لأمتك الخطبة و [الصلاة إلّا بشهادة] أنك عبدي ورسولي”.
وهي مشروعة عند انقضاء الطهارة، فمن قالها [فُتِحت له] أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيِّهما شاء (2).
والخطبة تعُمُّ خُطبَ الجُمَع التي هي أعياد أهل الإسلام الأسبوعية، وتعمُّ خُطبَ الأعياد الحـ[ولية] كعيد الفطر والأضحى، وخُطبَ الحج، والخطبَ العارضة، مقرونةً بالصلاة كخطبة الاستسقاء، أو مفردةً عن الصلاة كخطب الأئمة والعلماء وذوي الحاجات في مخاطبة بعضهم بعضًا في أمور الدين والدنيا، كما قال ابن مسعود في الحديث الذي رواه أبو داود (3) عن ابن مسعود أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا [تشهد] قال:
_________
(1) لم أجده في المسند، وأخرج الطبري في تفسيره (24/ 494، 495) وابن حبان (3382) عن أبي سعيد الخدري نحوه، وإسناده ضعيف. وانظر الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب في: الدر المنثور (15/ 497 ــ 500).
(2) أخرجه مسلم (234) عن عقبة بن عامر.
(3) برقم (1097). وفي إسناده عبد ربه بن أبي يزيد وأبو عياض المدني، وهما مجهولان. ولكن للحديث طرق يقوى بها. انظر “خطبة الحاجة” للألباني.
(8/165)
“الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضِلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة، من يُطع الله ورسوله فقد رَشَد، ومَن يَعصِهما فإنه لا يَضُرُّ إلا نفسه ولا يضرُّ اللهَ شيئًا”.
وروى أحمد وأهل السنن (1) عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطبة الحاجة: “الحمد لله، نستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني محمدًا عبده ورسوله” ويقرأ ثلاث آيات {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
وهذه خطبة رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – التي كان يخطب بها في الجمعة، وخطب بها لما جاءه المتطبِّبُ ضِمَاد الأزدي، فروى مسلم في صحيحه (2) عن ابن عباس أن ضِمادًا قدمَ مكةَ وكان من أزد شَنُوءةَ، وكان يَرقِيْ من هذه الريح، فسَمِعَ سُفهاءَ [من أهل] مكة يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال: لو أني رأيتُ هذا [الرجل] لعل الله يَشفِيه على
_________
(1) أخرجه أحمد (1/ 392، 393) والترمذي (1105) والنسائي (3/ 104، 105، 6/ 89) وابن ماجه (1892) عن ابن مسعود. وقال الترمذي: حديث حسن، وصححه الحاكم (2/ 182، 183)، وهو كما قال.
(2) برقم (868).
(8/166)
يدي، قال: فلَقِيَه وقال: يا محمد، إني أرقي من هذه [الريح، وإن الله يَشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد”. فقال: أَعِدْ عليَّ كلماتِك هؤلاء، فأعادهن عليه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -[ثلاثَ مراتٍ، قال: فقال: لقد سمعتُ قولَ الكهنةِ وقولَ السحرةِ وقولَ الشعراء، فما سمعتُ مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوسَ البحر. قال: فقال: هاتِ يَدَك أبايِعْك على الإسلام. قال: فبايعه]، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “وعلى قومك”، قال: وعلى قومي، قال: فبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سريةً فمرُّوا بقومِه، فقال صاحبُ السرِيَّة للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئًا؟ فقال رجلٌ من القوم: أصبتُ منهم مِطْهَرةً. فقال: رُدُّوها، فإن هؤلاء قومُ ضِماد.
ولهذا رجَّحتُ أن الشهادة ركن في الخطب الواجبة، كما دلَّتْ عليه هذه النصوص وغيرها، ومن العلماء من أصحابنا وغيرهم من يقول: الواجب الصلاة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من خيَّر بين التشهُّد والصلاة. وكلا القولين ضعيف، فإن النصوص المأثورة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قولاً وفعلاً تُبيِّنُ وجوبَ اشتمالِ الخطبة على الشهادتين، وأن الاكتفاء عن ذلك بمجرد الصلاة عليه لا يُجزِئ.
وأيضًا فإن الأذكار الواجبة كالأذان والتحية يجب اشتمالها على الشهادتين، ولو عُوِّض عن ذلك بالصلاة عليه لم يَجُزْ، فكذلك هذا
(8/167)
الذكر.
وأيضًا فإن الشهادتين أصل الإيمان وفرعه، وأول واجبات الدين وأعظمها، وأما الصلاة عليه فمن فروع الشريعة التي هي زيادة في حقّه، فكيف يُجزِئ الاقتصارُ على هذا الفرع أو يكون هو الواجب في أمر الرسول دونَ الأصل الذي لا يتمُّ الإيمان إلّا به ……. ؟ ولو صلَّى الرجل عليه ولم يَشهَدْ له بالرسالةِ لم يكن مؤمنًا، ولو شهد له بالرسالة [ولم يصلِّ عليه كان] مؤمنًا.
وأيضًا فالصلاة عليه من جنس الدعاء والأعمال، لا من جنس العقائد والأصول الخبرية، ولهذا كان شَرْعها مقرونًا بالدعاء، كما في الصلاة عليه أمام الدعاء في الصلاة وفي صلاة الجنازة ونحو ذلك. فأما أصول الكلام وقواعد الخطاب فإنما تُشرَع معها الشهادتان التي هي الفارقةُ بين أهلِ الإيمان وأهلِ الكفر، وأهل الجنة وأهل النار، وبين السُّعداء والأشقياء.
ثم هل تَجبُ الصلاةُ عليه في الخطبة كما تجب في الصلاة عند من يقول بذلك؟ هذا محلُّ اجتهاد، فيحتمل أن يقال به قياسًا على الصلاة، ويحتمل أن لا يقال به قياسًا على الأذان. مع أن الخطب المنقولة عنه لم تشتمل إلّا على الشهادتين، وكذلك الخطبة التي علَّمها لأصحابه خطبة ابن مسعود، وكذلك قوله: “كلُّ خطبةٍ ليس فيها تشهُّدٌ فهي كاليد الجذماء” (1).
_________
(1) سبق تخريجه.
(8/168)
وهذا القول أقوى إن شاء الله، فإن الخطبة هي مخاطبة الخطيب للمخطوبين، ومقام المخاطبة للخلق لا يجب فيه الدعاء، وإنما يجب الدعاء في مقام مخاطبة الخالق ومناجاته، ولهذا شُرِعت الصلاةُ عليه في الصلاة دون الأذان. نعم إذا دعا الخطيب في خطبته فينبغي له أن يَقرِن دعاءه بالصلاة عليه، كما قيل بمثل ذلك في الجنازة، فتكون الصلاة عليه واجبةً مع الدعاء لا دونَه.
ولم يحضرني الساعةَ أثرٌ فيه اقترانُ الحمدِ بالصلاة عليه فقط إلّا في كتب المراسلات التي هي مأثورة عن الإمام أحمد وغيره، ففيها: “من فلانٍ إلى فلان، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهلٌ وهو على كل شيء قدير، ونسألهُ أن يُصلِّي على محمد عبدِه ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا” (1).
… (2) ففي هذه الرسائل ذكر الحمد لله والصلاة على رسول الله …… وشهادة [أن لا إله إلا الله وأن] محمدًا عبده ورسوله، …. للشهادة بالرسالة، ويوافقه الحديث المرفوع في السنن (3): “ما اجتمع قومٌ مجلسًا ثمَّ تفرَّقوا عنه، ولم يذكروا الله فيه، ولم يُصلُّوا على نبيِّهم،
_________
(1) انظر في موضوع كتابة الصلاة والسلام على النبي – صلى الله عليه وسلم – في أوائل الكتب: “صبح الأعشى” (6/ 227).
(2) مواضع النقط كلمات مطموسة.
(3) أخرجه الترمذي (3380) وأحمد (2/ 484) عن أبي هريرة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(8/169)
إلّا كان عليهم تِرةً” ففيه الجمع بين ذكر الله والصلاة على رسوله.
كما جاء في الحديث العمري موقوفًا ومرفوعًا وعن علي، ولفظه: “الدعاء موقوفٌ بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك” (1).
ولو قيل مثل ذلك في الصلاة المكتوبة لكان حسنًا، والحديث المأثور يؤيِّد ذلك.
وأصل هذا أن مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما أنه لابُدَّ في الخطبة من ذكرِ الله وذكرِ رسوله، ثم تكلموا في معنى ذكر الرسول بما فصَّلتُه. وكذلك يقال في ذكر الله أنه معنى الحمد لله، لما رواه أبو داود في السنن (2) عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “كل كلامٍ لا يُبدأ فيه
_________
(1) أخرجه موقوفًا على عمر: الترمذي (486) والإسماعيلي في مسند عمر كما في الوابل الصيب (ص 69). وفي إسناده أبو قرة، وهو مجهول. والحديث ضعفه ابن خزيمة في صحيحه (4/ 95) والسخاوي في القول البديع (ص 213). وقال ابن القيم: “وقد روي حديث الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – من حديث معاذ بن الحارث عن أبي قرة مرفوعًا، لكنه لا يثبت. والموقوف أشبه، والله أعلم”. وقد أخرجه مرفوعًا رزين بن معاوية كما في مسند الفاروق (1/ 176).
أما حديث علي فأخرجه الطبراني في الأوسط (1/ 211) والبيهقي في شعب الإيمان (4/ 206) موقوفًا عليه، وأخرجه أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (2/ 1677) والهروي في ذم الكلام (4) عنه مرفوعًا. والحديث رفعه ووقفه ضعيف جدًا، ففي إسنادهما الحارث الأعور وهو متهم. ورجح ابن القيم في الوابل الصيب (ص 132) وقفه.
(2) برقم (4840). وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 359) والنسائي في عمل اليوم والليلة (494) وابن ماجه (1894) والدارقطني (1/ 229) والبيهقي (3/ 208، 209) من طرق عن الأوزاعي عن قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقرة ضعيف.
(8/170)
بحمد الله فهو أجذم”. ورواه أحمد وغيره، وفي رواية: “كل أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم”. وكذلك خُطَب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المنقولة عنه مفتتحةٌ بحمد الله، كما افتتح الله كتابه بذلك، وجعل ذلك فاتحة الكتاب التي هي السبع المثاني.
فصل
والشهادة المذكورة هي أول الواجبات في دين الإسلام، كما دلَّت عليه السنن المتواترة، وكما أجمع المسلمون على أن من قال ذلك صار مسلمًا، وإذا ……. (1) بقلبه صار مؤمنًا، وأنه بدون ذلك لا يُقبَل منه عملٌ، وأنه …… إلى ذلك، وعليه يقاتلون.
وهذا الأمر المتواتر المعـ[روف] من دين المسلمين الذي أجمعوا عليه خلفًا بعدَ سلفٍ يُبيِّن لك خطأ مَن أوجبَ قبل ذلك شيئًا غيرَه من المتكلمة، سواء سمَّوا ذلك النظر أو القصد إليه أو الشكّ أو معرفة الله، إلى غير ذلك من المقالات المبتدعة، بل الأمر هو ما عليه الفقهاء وأهل المعرفة وعلماء الحديث وعوامُّ المسلمين، وهو الذي توارثوه عن نبيِّهم الذي تُلُقِّيَ الوجوب من جهته توارثًا معلومًا بالاضطرار، وذلك
_________
(1) مواضع النقط كلمات مبتورة.
(8/171)
عندهم أظهر وأشهر من جميع الأمور الموروثة عنه.
وإنما نشأ هذا الغلطُ من المعتزلة الذين أحدثوا الكلامَ الباطلَ في الدين، وبَنَوا ذلك على أن العقل بمجرده يُوجِب، وأنه يُوجب معرفةَ اللهِ المنعم أولاً، وأنه لا طريقَ إلى ذلك إلّا النظر، فقالوا بوجوبه، وقد بسطتُ القولَ في هذه المسألة في غير هذا الموضع (1)، وبينتُ أن المعرفة المجملة داخلةٌ في أول الواجبات، لا أنها بنفسها وحدها وجبتْ، وأنها وحدها لا بقيدٍ.
والشهادة وإن كانت هي أول الواجبات فهي أفضل العبادات، وأرفعُ العلوم والمعارف، وأجلّ القُرَبِ والطاعات، وهي قُوْتُ المؤمن في كل وقتٍ وحال، وهي للإيمان كالنية للعبادات، وإن اكتُفِي باستصحاب حكمها فاستصحابُ ذكرها هو الأصل، ويجب أن يُستصحبَ ذكرُه في المواطن التي يستزلُّ الشيطانُ الناسَ عن حقيقتها، إما بتألُّهِ غيرِ الله أو إخراج الرسولِ عن حقيقة الرسالة، ومزاحمة غيره له، من ملكٍ أو أمير أو عالم أو شيخ أو إمام أو صاحب، فإن هذا يقع فيه خلائق لا يُحصَون ممن مضى ومن غبَر، وهو يخرج عن حقيقة الإيمان وإن كان قد لا يَخرج عن أصلِه.
فصل
وخصائصُ الشهادتين وعلوُّ قدرِها وفضلها كثير جدًّا، وكذلك فضل التوحيد والتهليل كثير جدًّا في الكتاب والسنة وإجماع الأمة،
_________
(1) انظر: درء التعارض (3/ 51، 4/ 52، 107) وبيان تلبيس الجهمية (1/ 249).
(8/172)
كقوله: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24]، وقوله: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]، وقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [الأنعام: 160]، وقوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26]، وقوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40] إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب التفسير وكتب الحديث والفقه والرقاق والأذكار والأدعية، كالدعاء للطبراني وغير ذلك.
والمقصود هنا أن هذه الكلمة الطيبة العليا هي لا إله إلا الله، ففيها نفي الإلهية عما سواه وإثباتُها له. والإله مَن يُولَهُ رجاءً وخشيةً وإجلالاً وإكرامًا وعبادةً واستعانةً وغير ذلك من معاني الإلهية، وإن كان طائفة من المتكلمين يعتقدون أن الإله هو الخالق، أو هو الرب، أو هو القديم، وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع أو صنع العالم أو نحو ذلك، فهذه كلها صفاتٌ لله سبحانه، بها وجب أن يكون الإله.
والإله هو المعبود الصمد المقصود الذي إليه المنتهى، والشركُ الذي حرَّمه الله على ألسُنِ رُسلِه، وحكمَ بكُفْرِ أصحابه عبادةُ إلهٍ سواه، وإن كان العابد له يعتقد ذلك خلقًا من مخلوقاته، فإن هذا قول جميع المشركين من جميع الأمم، لم يكن من المشركين من يقول: إنّ مع الله إلهًا مساويًا له في صفاتِه أو أفعاله، أو أنه شاركه في خلق جميع المخلوقات، بل جمهور من أشرك به يُقِرُّ بأن شريكَه مملوكُه، سواء أشركوا به الملائكة أو الكواكبَ أو الأنبياء أو الصالحين أو الجنّ أو
(8/173)
الأوثان أو الأصنام أو غير ذلك. ومما كانوا يقولون في تلبيتهم: “لبيك لا شريك لك، إلّا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك” (1). ولهذا قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم: 28]. ومن لم يُقرَّ بأن شريكَه مملوكُه ــ كطائفةٍ من المجوس ــ يزعم أن الظلمة قديمة مع النور، فهم يقولون إنها ليست مثله ولا تَفعلُ كفعلِه، بل يجعلون ذلك قديمًا شريرًا ملعونًا.
وكذلك الصابئة والمتفلسفة الذين يقولون بتولُّد الأرواح التي هي العقول والنفوس، والعرب الذين كانوا يقولون: الملائكةُ بناتُ الله، والنصارى واليهود الذين يجعلون المسيحَ وعزيرًا ابنَ الله، كلُّ هؤلاء يُقرّون بأنه هو الربُّ الأعلى الفاعل المدبِّر لما جعلوه ولدَه وابنَه.
والقرآن قد اشتمل على ذمّ المشركين به والذين جعلوا له ولدًا كقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100]، وقوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111]، وقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
_________
(1) كما في حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم (1185).
(8/174)
[الإخلاص: 3، 4].
وكلُّ هؤلاء الذين وُجدوا في العالم وكفَّرهم القرآن ممن جعلَ له ولدًا أو شريكًا لم يُثبتوا من يُساويه من جميع الجهات ……. (1) وقد يعبدون ويعتقدون في هؤلاء الشركاء أنهم شفعاء إليه، أو أنهم يُقِّربونهم إليه زُلْفَى، أو أنهم ينفعونهم ويضرونهم لمعانٍ فيهم، أو يَهوَون عبادتهم، كالذي قال الله فيه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43].
وهذا الاعتقاد الذي اعتقدوه والهوى الذي أحبوه كما قال الله فيهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، فكانوا جاهلين باعتقادهم ظالمين بهواهم، أفسدوا قوَّتَي النفسِ العلمية النظرية والعملية الإرادية.
وإذا كان المقصود بالشهادة سلبَ ألوهيةِ ما سوى الله عن القلب حتى لا يَعبد الإنسانُ إلا الله وحده لا شريك له، فمن أشرك به شيئًا من مخلوقاتِه من كوكبٍ أو قمرٍ أو شمسٍ أو ملَكٍ أو نبيّ أو وثنٍ فهو مُشرِكٌ شركًا خاصًّا، ولهذا تنوع الشرك، فكل قوم من المشركين لهم إلهٌ أو آلهةٌ أشركوها به غير إله الآخرين، مثل وَدٍّ وسُوَاعٍ ويغوثَ ويعوقَ ونَسْرٍ واللاتِ والعُزَّى ومناةَ الثالثة الأخرى والكوكب والشعرى والشمس والقمر والمسيح وعُزير وغير ذلك مما ذكره القرآن بعينه أو بنوعِه.
_________
(1) هنا كلمة مطموسة.
(8/175)
ومن عبد هذه الآلهة كلَّها أو جوَّز عبادتَها فشركُه أعظمُ، ومن أنكر الله وعبدَ ما سواه فهو أكفر وأكفر، فهؤلاء الاتحادية الذين يزعمون أن الله هو الوجود هم يُشركون به جميعَ خليقتِه إن أقروا بوجودِه وزعموا أن وجودَه فاضَ عليها، وإن زعموا أنه هو الوجود المطلق، أو أنه هو عين الموجودات فهم مشركةٌ معطِّلةٌ شركًا عامًا ……. (1)، فإن من هؤلاء من يقصد عبادة الله وحده …. في معرفته، ويقصد اتباع الرسول، وإن غلط في معرفة دينه، فهم من جهة ما وافقوا فيه الرسولَ خيرٌ من الكفار، ومن جهة ما خرجوا به عن دينه قد يكون بعضهم شرًّا من بعض الكفار.
ولهذا يذكر عن ابن العربي أن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا، وقال في “الفصوص” (2) في فصِّ نوح: لما عظم قومه وذكر أنهم كانوا عارفين فقالوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من عرفه ويجهله من جهله. وفي المحمديين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] أي حكم، فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهرَ حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية
_________
(1) مواضع النقط كلمات مطموسة.
(2) فصوص الحكم (ص 36).
(8/176)
في الصورة الروحانية. فما عُبِد غيرُ الله في كلِّ معبود. فالأدنى من تخيَّل فيه الألوهية، والأعلى ما تخيَّل بل قال: هذا مجلًى إلهيٌّ ينبغي تعظيمه، فلا يقتصر. وله من هذا الجنس كلام كثير.
وحدثني ابن سالار عن ابن إسرائيل أن الحريري قال له: مذهبُ من نفَى الصانعَ مذهبٌ صحيح، فأنكرتُ ذلك، فأشارَ إلى أن الصانعَ هو الصنع، فوافقه على ذلك، وأن ابن سالار حكى ذلك للأيكي فاستحسن ذلك جدًّا، وقال له: يا ناصر الدين! من أين لك هذه الفوائد الدقيقة؟ أو كلامًا هذا معناه.
ولهذا كلاهما وطائفتهم تستحسن الغناء الذي يُنبِت النفاقَ في القلب، حتى إنهم يشتغلون به عن الصلوات في مواقيتها، مع أن هذا قد يفعله من عقيدته في التوحيد صحيحة. فأما هؤلاء فاتحاديةٌ في اعتقادهم إباحيَّةٌ في أفعالهم، أخبثُ من شِرار النصارى الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرّمون ما حرَّم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق. بل هؤلاء القوم أعظم شركًا بالله من النصارى وعبّاد الأصنام، فإن أولئك أشركوا به شيئًا معينًا من مخلوقاته، وهؤلاء أشركوا به كلَّ المخلوقات. وإذا عَبَدُوا الوجود المطلق فهو القدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات، وعبادة القدر المشترك هو عين الإشراك به، لكن زادوا على إشراك وجود كلِّ ما سواه به أنهم أنكروا حقيقتَه التي هي هو، فجمعوا بين نفيه وجحودِه وبينَ الشرك به كما بينّا.
(8/177)
وهذا قول القونوي والتلمساني وابن سبعين وغيرهم ممن لا يجعل له وجودًا متميزًا عن وجود مخلوقاته، بخلاف قول ابن العربي الذي يجعل له وجودًا متميزًا، ويقول: إن ذلك الوجود فاض على الممكنات. فهذا القول أمثل، ولهذا هو عند الاتحادية أبعد عن التحقيق. هذا إذا اقتصروا على عبادة الوجود المطلق، وأما إن عبدوا الوجود كلَّه المطلق والمعيَّن كما هو قول التلمساني والبلياني وابن سبعين فقد أشركوا به جميعَ الكائنات المطلق والمعين. وهذا القول الثالث أخسُّ أقوالهم، وهو عند غالبهم عين التحقيق.
ومن بدع ضلالهم وكفرهم أنهم يسمُّون هذا توحيدًا وحقيقةً، ويزعمون أن كبار العارفين إنما أشاروا في توحيدهم وتحقيقهم إلى ذلك، ومعلوم أن هذا جامع لكل شركٍ، فهو أعظم شركًا وأكفر كفرًا من كل شركٍ وكفرٍ.
ومنشأ التلبيس أن المُشرِك بين شيئين لابدَّ أن يُسوِّي بينهما في شيء يُشركهما فيه، فيتحدانِ فيه، كما قال الكفار: {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98]. فمن أشرك بالله شمسًا أو قمرًا أو كوكبًا جعله شريك الله في العبادة والإلهية، فاتحدا في الألوهية والعبادة فهو موحِّدٌ للقدر المشترك بينهما عنده. ولذلك كل من قاس شيئًا بشيء وشبَّه شيئًا بشيء، فلابدّ أن يتحد الفرع والأصل المشبَّه والمشبَّه به في معنًى يجمعهما، فهو يشرك فيه توحيد المشترك، ليس فيه
(8/178)
توحيد الواحد الذي أشرك به غيرَه.
وهؤلاء الفرعونية القرامطة لما أشركوا بالله سائر المخلوقات في الألوهية، وقالوا: إن ذلك الوجود المشترك هو الله وهو المعبود، صاروا موحدين الوجود المشترك قائلين بأن وحدة الوجود المشترك هي وحدة الله، وليس هذا توحيد الله الذي أشركوا به خلقَه، وإنما هو توحيدٌ للمشترك بينه وبين خلقه. وكل مشركٍ في العالم فهو موحد هذا التوحيد الشركي الكفري، لكن هؤلاء جمعوا كلَّ شرك.
وأما توحيد الله الذي يستحقه على عباده والذي بعث به رسلَه وأنزلَ به كتبَه، فهو توحيده نفسه وإخلاص الدين له، لا توحيد المشترك بينه وبين خلقه. ولهذا كان هذا التوحيد جامعًا لكل تَلْحيدٍ، فإن المسلمين سمَّوا القرامطة ملاحدة، وهؤلاء حقيقة قولهم هو قول الملاحدة الإسماعيلية النصيرية القرامطة الفرعونية النمرودية، وأما مشركو العرب والصابئة الفلاسفة ونحوهم فأحسنُ حالاً من هؤلاء، ولا حُسْنَ في شيء من الشرك، وإنما الغرض أن هؤلاء أكفرُ من ثلاثة أوجهٍ:
من جهة أنهم أشركوا به جميعَ الموجودات.
ومن جهة أنهم جعلوا المخلوقات هي إياه، وأولئك اعترفوا بأن شركاءهم ملكُه وأنهم ليسوا إياه، وهؤلاء جعلوها إياه وجزءًا منه.
ومن جهة أنهم أنكروه وكذّبوا بوجودِه، حيث جعلوه الوجود المطلق أو وجود المخلوقات.
(8/179)
وهذا الثالث لا يجيء على قول ابن عربي، فإنه يقول: إن له وجودًا وإنه فاض على الممكنات. وإنما يجيء على قول القونوي الذي يقول: هو الوجود المطلق، وعلى قول التلمساني [والبلياني] وابن سبعين الذين يقولون: هو عين الموجودات، فإن التلمساني والبلياني وابن سبعين ما عندهم وجودٌ إلّا عين الحق، فلم يفرقوا بين الوجود المطلق والمعين، ولا بين الوجود والماهيات.
وأما القونوي فيفرق بين المطلق والمعين، وعنده أن الله هو الوجود المطلق لا المعين.
وأما ابن عربي فعنده أن وجود الحق قائم بنفسه، وأن ماهيات الممكنات أزلية، كقول من يقول من المعتزلة وغيرهم والشيعة: إن المعدوم الممكن شيء. وزاد عليهم بأنه فاض عليها وجود الحق، فوجودها وجودُه، لا أن ماهيتها ماهيته.
(8/180)
حكاية المناظرة في الواسطية
(8/181)
[حكاية المناظرة في الواسطية]الحمد لله رب العالمين. لما كان يومُ الاثنين ثامن رجب طلَبني نائبُ السلطان ــ أيَّده الله وسدَّده ــ بمحضرٍ من القضاة والمفتين والمشايخ، وسألني عن اعتقادي، فقلتُ له: الاعتقاد لا يُؤخذ عنّي ولا عمَّن هو أكبرُ مني، ولكن عن كتاب الله وسنةِ رسوله وإجماع سلف الأمة. فقال: أَمْلِ علينا اعتقادَك. فأمللتُ جوامعَ من الاعتقاد، ثم قلتُ: إن بعض الناس قد بلغني أنه يَكذِبُ في هذا الباب عليَّ ويقول: إنه يَكتُم بعضَ الأمر، فنحن نطلب العقيدة التي كتبتُها من نحو سبع سنين قبل مجيء التتر، كتبتُها لقاضٍ قَدِمَ علينا من واسط (1)، وكان قد ألحَّ عليَّ في ذلك، فأحلتُه على ما كتبه الأئمة من العقائد. فقال: أُحِبُّ أن تكتب أنت، فكتبتُ له هذه في قعدةٍ بعد العصر.
وأرسلتُ من أحضَرها، وقُرئتْ من أولها إلى آخرها، قرأها غيري كلمةً كلمةً (2)، ووقع البحثُ والسؤال في مواضعَ منها.
وسألني نائب السلطان هل كتبتَ إلى مصر أو غيرها بعقيدة؟ فقلتُ له: لم أكتبْ قطُّ إلى أحدٍ بعقيدةٍ، ولم أكاتب أحدًا بها، إلّا أن ثمَّ مسائل أُسأَل عنها فأجيب، والنسخُ منها موجودة في دمشق ومصر وغيرها، لئلا
_________
(1) ولذا سُميت «الواسطية»، ألفها سنة 698. وهذا القاضي هو رضي الدين الواسطي الشافعي، كما في مجموع الفتاوى (3/ 164).
(2) زاد المؤلف هنا في أثناء السطر: «وكانت النسخ منها موجودة في مصر وغيرها، لئلا يقال: زاد فيها أو نقص». وستأتي بعد سطرين.
(8/183)
يستطيع أحدٌ أن يُغيِّر بعض النسخ.
وكان مما وقع سؤال بعض الجماعة عنه أني لما قلتُ في أولها: «إن أهل السنة يؤمنون بما وصفَ الله به نفسه وبما وصفَه به رسولُه من غير تحريفٍ ولا تعطيل ولا تكييفٍ ولا تمثيل». قال بعضهم: ما التحريف؟ فقلت: تحريف الكلم عن مواضعه، كما فعلَ بعضُ الجهمية في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، قال: أي جَرحَه تجريحًا بينابيعِ الحكمة، ونحو ذلك من تحريفات القرامطة والباطنية وغيرهم من أهل الأهواء.
ولما جاء الحديث الذي في الصحيحين (1) عن أبي سعيد: «أن الله يقول يومَ القيامة: يا آدمُ! فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوتٍ»، جرى كلامٌ في مسألة الحرف والصوت. فقلت: هذا الذي يحكيه بعض الناس عن أصحاب الإمام أحمد من أنهم يقولون: إن القرآن هو الحرف والصوت، وهو أصوات التالين ومداد الصحف، وهو القديم= هذا باطلٌ، لم يقله أحمد ولا أحدٌ من علماء أصحابه، ولا يقوله عاقل. وأحضرتُ كلامَ الإمام أحمد وغيرِه من أئمة السنة أنهم يُنكرون على من يقول: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق، كما ينكرون على من يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق. فكيف بمن يقول: إن لفظه بالقرآن قديم، أو يقول: صوته بالقرآن قديم، أو المداد قديم؟ وفساد هذا معلوم بالحسّ.
_________
(1) البخاري (7483) ومسلم (222)، وليس عند مسلم لفظ «فينادي بصوت».
(8/184)
وأنكرتُ على من ينقل هذا عن العلماء المشهورين في القرآن.
وقُرئ ما ذُكِر في العقيدة في مسألة القرآن من «أن القرآن كلام الله منزَّلٌ غير مخلوقٍ، منه بدأ وإليه يعود»، كما اتفق عليه السلف، وذكرت لفظًا أن الجمع في قولهم: القرآن هو الحرف والصوت أو ليس بحرفٍ ولا صوتٍ كلاهما بدعةٌ حدثت بعد المئة الثالثة، لم يتكلم الإمام أحمد ولا غيرُه من الأئمة بهذا التركيب نفيًا ولا إثباتًا. وذكرتُ أن لي جوابًا من سنين عن هذه المسألة (1) ……. (2) وأحضرتُه في المجلس الثاني: أن الله تكلم بالقرآن حقيقةً، وهذا لا خلافَ فيه بين المسلمين، وأن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله حقيقةً؛ لأن الكلام إنما يضاف حقيقةً إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلِّغًا مؤدّيًا. وذكر بعض الحاضرين أن هذا أول شبهةٍ كانت عندهم، وأن هذا تخليصٌ لهذا الموضع.
وفي الاعتقاد: «أن الدين والإيمان قولٌ وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح». فقال بعض الحاضرين: إذا ذُكِر أن هذا اعتقاد الفرقة الناجية كان فيه دلالة أن من لم يعتقد هذا يكون من الهالكين، وكثير من العلماء يقول: إن الإيمان هو التصديق.
فقلت: مع أن هذا السؤال لا يَرِدُ؛ لأني إنما قلت: إن الدين والإيمان
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (12/ 582 ــ 598).
(2) هنا كلمات مبتورة.
(8/185)
قول وعمل، وهذا متفقٌ عليه لا خلافَ أن مجموع الدين والإيمان قول وعمل، لكني قلتُ: أنا ذكرتُ اعتقاد السلف المنقول عن الصحابة والتابعين، ومذهبُهم الثابت عنهم أن الإيمان قولٌ وعمل. وليس من خالفَ القولَ الصحيح الذي يعتقده أهل العلم باجتهادٍ أو تأويلٍ يكون هالكًا، كسائر من يخالف بعض الأحاديث الصحيحة لاجتهادٍ سائغٍ، فإن المجتهد المصيب له أجرانِ، والمجتهد المخطئ له أجرٌ. وقد ذكرتُ في الاعتقاد أن أهل السنة لا يكفّرون أهلَ الذنوب الكبائر مع شمول نصوص الوعيد لهم، لجواز أن يغفر الله لهم ويتوبوا، أو يكون لهم حسنات ماحيةٌ، أو لشفاعة فيهم، أو رحمة الله لهم، وإن كنا نُطلق بأن أهل النجاة هم أهل طاعة الله.
وكان في الاعتقاد أن ما ذُكر في القرآن من أنه استوى على عرشه، وأنه مع عباده، كلاهما حقٌّ على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يُصانُ عن الظنون الكاذبة، وأن ما ذُكِر في الكتاب والسنة وحُكِم من قربه ومعيته لا ينافي ما ذُكِر من عُلوِّه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نُعوتِه، وهو عليٌّ في دنوِّه قريبٌ في عُلوِّه.
فأنكر بعض الجماعة لفظ الحقيقة، فقلت: قد حكى أبو عمر ابن عبد البر في «التمهيد» (1) إجماع أهل السنة على أن هذه الآيات والأحاديث تُجرى على الحقيقة لا على المجاز. وذكرتُ أيضًا ما حكاه
_________
(1) (7/ 145).
(8/186)
الخطابي (1) وأبو بكر الخطيب (2) وغيرُهما أن مذهب السلف إجراء آيات الصفات وأحاديث الصفات على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها. وذلك أن الكلام في الصفات فرعٌ على الكلام في الذات، يُحتذَى فيه حَذْوُه ويُتَّبع فيه مثالُه، فإذا كان معلومًا أن إثبات الذات إثباتُ وجودٍ لا إثباتُ كيفيةٍ، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجودٍ لا إثبات كيفيةٍ. فلا نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا أن معنى السمع العلم، ولا نُشبِّهها بأيدي المخلوقين وأسماعهم ونجعلُها جوارحَ وأدواتٍ للفعل.
وفي الاعتقاد: أنه «فوق سماواته على عرشِه، عَليٌّ على خلْقِه».
فسأل بعض الحاضرين عن لفظ الفوق، فقلت: هذا اللفظ في كلام النبي – صلى الله عليه وسلم -، وذكرتُ حديثَ العباس بن عبد المطلب (3) وهو في الاعتقاد، وفيه: «والعرشُ فوقَ ذلك، والله فوقَ عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه».
فقال بعضهم: نقول: «فوق العرش» ولا نقول: «فوق السماوات». فقلت: المعنى واحدٌ، مع أن في الحديث أيضًا «فوق السماوات».
فانقضى المجلس على أن أكتب جوابَ هذه الأسولة، ثم طُلِب تأخير ذلك إلى يوم الجمعة.
_________
(1) في معالم السنن (7/ 122).
(2) في الصفات (ص 48) ضمن مقدمة «مختصر العلو».
(3) أخرجه أبو داود (4723) والترمذي (3320) وابن أبي عاصم في السنة (577) وابن خزيمة في التوحيد (ص 101 ــ 102) من حديث العباس بن عبد المطلب، وفي إسناده عبد الله بن عميرة، قال البخاري: لا يُعلم له سماع من الأحنف. وقال الذهبي: مجهول. ومع ذلك قال الترمذي في هذا الحديث: «حسن غريب».
(8/187)
قلتُ: كلُّ من نقلَ مذهبَ السلف من أهل الحديث والمالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم، مثل أبي سليمان الخطابي (1) وأبي بكر الخطيب (2) وأبي بكر الإسماعيلي (3) وأبي عثمان الصابوني (4) والقاضي أبي يعلى (5) وأبي عمر ابن عبد البر (6) وأبي محمد البغوي (7) صاحب «شرح السنة» وأبي القاسم التيمي (8) صاحب «الترغيب والترهيب» وخلق كثير، نقلوا نحو ذلك. فلفظُ بعضهم: أن مذهب السلف إجراؤها على ظاهرِها، ولفظ بعضهم: حملُها على ظاهرِها، ولفظُ بعضهم: إمرارُها على ظاهرها. وبعضهم يقول: حملُها على الحقيقة دون المجاز. وبعضهم يصرّح عنهم بإثبات ما دلَّت عليه من الصفات، كما نقله الأشعري (9) وابن خزيمة (10) والبيهقي (11) وسيف
_________
(1) في معالم السنن (7/ 122).
(2) في الصفات (ص 48).
(3) في اعتقاد أئمة الحديث (ص 49، 50).
(4) في عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص 28).
(5) في إبطال التأويلات لأخبار الصفات (1/ 43).
(6) في التمهيد (7/ 145).
(7) في شرح السنة (1/ 170).
(8) في الحجة في بيان المحجة (1/ 91 ــ 92، 174 ــ 175، 287 ــ 288).
(9) في الإبانة (ص 8)، ومقالات الإسلاميين (ص 290، 294 ــ 295).
(10) في كتاب التوحيد.
(11) في الأسماء والصفات (ص 453).
(8/188)
الدين الآمدي (1). وقد نقل لفظ الحقيقة عن السلف وأهلِ السنة أبو عمر ابن عبد البر وأبو القاسم التيمي الأصفهاني وأبو عبد الله القرطبي في تفسيره، وقال (2): لم يُنكر أحدٌ من السلف الصالح أن الله استوى على عرشِه حقيقةً.
وكلهم يقول: «مع نفي الكيفية والتشبيه عنها»، ويقولون: إذا كانت ذات الله ثابتةً حقيقةً وأسماؤه على ظاهرها مع أنا لا نعلم كيفية ذاتِه وصفاتِه، فكذلك صفاته، إذ العلم بكيفية الصفة فرع على العلم بكيفية الموصوف، فإذا قال السائل: كيف صفاتُه؟ فقُلْ: كيف هو في ذاته؟ فإذا قال: لا أعلَمُ كيفيةَ ذاتِه، فقُلْ: لا أعلَمُ كيفيةَ صفاتِه.
ونقلَ طائفةٌ منهم القاضي عياض (3) وغيره أن مذهب السلف إمرارُها كما جاءت مع العلم أن الظاهر غير مراد.
قلتُ: يُجمَع بين النقلينِ بأن «الظاهر» لفظ مشترك، فالذي نقلَ نفيَه نفَى ما يظهر لبعض الناس من التشبيه بصفات المخلوقين، وما يقتضي نقصَ الخالق تعالى، مثل أن يقال: ظاهر قوله «في السماء» أن السماء تَحْوِيه أو تَحْمِله. ولا ريبَ أن هذا الظاهر لهذا غير مراد، فإن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى مخلوقاته ولا يَحصُره شيء، سبحانَه وتعالى. بل
_________
(1) في غاية المرام (1/ 135 ــ 136).
(2) الجامع لأحكام القرآن (7/ 219).
(3) انظر: إكمال المعلم (1/ 567، 2/ 465).
(8/189)
قد {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]، وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41]، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. فمن قال: إنه محتاج إلى ما يَحِملُه ويُقِلُّه، أو أنه في شيء يُحيط به ويُظِلُّه، فهو ضالٌّ مضلّ.
والذين نقلوا إثباتَه أرادوا به ما هو الظاهر اللائق بجلالِ الله تعالى الذي لا يقتضي نقصًا ولا حدوثًا. كما أنهم اتفقوا على أن هذا هو الظاهر في حياته وعلمه وسمعه وبصره وقدرته وإرادته، واتفقوا على أنه موجودٌ حقيقةً حيٌّ حقيقةً عليمٌ حقيقةً قديرٌ حقيقةً متكلمٌ حقيقة، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته وجرتْ بحوثٌ فيها.
وقد قيل: إن هذه الأسماء مثل لفظ الوجود وغيره هل هو يُطلق على الواجب والممكن بطريق الاشتراك اللفظي أو التشكيك أو التواطي؟
فقلت: إن المقصود يحصل على كل قول.
وقيل: لفظ العلو والفوقية لا يُفهم منه إلّا الفوقية المختصة بالمخلوق، كفوقية السلطان على السرير.
فقلتُ: بل لفظ العلو والفوقية كلفظ الحياة والعلم والسمع والبصر ونحو ذلك من الصفات، فإنه وإن وُصِف الله بها ووُصِف بها العبد وهي
(8/190)
على ظاهرها وحقيقتها في الموضعين= فالمفهوم منها في حق الله تعالى ليس هو ما يختصُّ به المخلوق.
فقيل: العلو من الأمور الإضافية بخلاف السمع والبصر ونحوهما.
فقلت: إذا كان الاشتراك في الصفة الثبوتية كالحياة أو في الصفة الثبوتية الإضافية كالسمع والبصر لا يقتضي تشبيهًا ونقصًا، فالاشتراك في الإضافة المحضة أولى أن لا يقتضي تشبيهًا ونقصًا، فإن الاشتراك في الصفات الثبوتية أولى بالمشابهة من الصفات الإضافية.
وقيل: إن …….. (1) تعالى ذلك هل هو معلوم أو غير معلوم؟
فقلت: هو معلوم من حيث الجملة غير معلومٍ من حيث التفصيل، معلوم من وجهٍ دون وجه، كما قال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وهكذا سائر ما يُعلم من معاني أسماء الله وصفاته إنما يعلمه الناس من بعض الوجوه، وأما الإحاطة بحقيقته فليست إلّا لله وحده.
قلت: وكذلك ما أخبرتْ به الرسلُ مما في الجنة والنار، بل ونفس الإنسان إنما يعلم ذلك من بعض الوجوه دون الإحاطة بحقيقته.
وقيل: إن صفة العلو هل هي صفة كمال؟
فذكرتُ أن فيها قولين:
من الناس من يقول: ليست بصفة نقص ولا كمال، كما يقوله كثير
_________
(1) هنا كلمات مبتورة.
(8/191)
من المتكلمين من الأشعرية وغيرهم في صفات الفعل مثل الخلق والرزق، إذ لو كانت صفة كمالٍ لوجب اتصافه بها في الأزل، وهو منزه عن النقائص سبحانه وتعالى.
ومنهم من يقول: بل هي صفة كمال. ثم منهم من يقول: هي قديمة وإن تأخر أثرُها، كما يقولونه في الصفات الفعلية من الربوبية وغيرها، وصفة العلو استحقاقه للعلو عند وجود المخلوق. ومنهم من يقول: هذه من الأمور النسبية الإضافية، وتجدُّد النِّسَب والإضافات جائز باتفاق العقلاء، وهي صفة كمال لا يستحق لذلك إلّا حينَ وجود المخلوق، وقبلَ وجود المخلوق يمتنع ثبوتها، فلا يقال صفة نقصٍ ولا كمال.
وقال لي نائب السلطان ــ أيَّده الله وسدَّده ــ في ضمن الكلام: هذا الذي كتبتَه تقولُه من عندك؟
فقلتُ: ليس في هذا لفظٌ واحدٌ من عندي، وإنما هو من كتاب الله وسنةِ رسوله وألفاظِ سلفِ الأمة أو ألفاظِ مَن نقلَ مذاهب سلف الأمة وأهل السنة من الأئمة الموثوق بهم.
وقلتُ أيضًا: أنا أُمهِل من خالفني ثلاثَ سنين، فإن جاء بحرفٍ واحدٍ ثابتٍ عن القرون الثلاثة الصحابة والتابعين وتابعيهم يُناقِضُ حرفًا مما قلتُه وذكرتُه عنهم رجعتُ عن ذلك.
وقال بعضهم: هذا اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل.
(8/192)
فقلت: هذا اعتقاد جميع سلف الأمة وأهل الحديث ومن سلك سبيلَهم من أتباع الأئمة الأربعة ومشايخ الصوفية وعلماء المتكلمين، وإنما الإمام أحمد بلَّغ العلمَ الذي جاء به الرسولُ، واتبعَ سبيلَ من سبقه من الأئمة، ولو جاء أحد بشيء مخالف لذلك لم يقبل. وأما المتأخرون فمنهم من يوافق السلف، ومنهم من يخالف السلف.
وقلت: من أنكر من ذلك شيئًا فليكتُب خطَّه بما ينكره، ولينقلْ ذلك عن سلف الأمة، ويذكر مستنده، أو ليكتبْ عقيدةً تُناقض هذه، وتُعرَضُ الثنتانِ على سلطان المسلمين.
وقال لي بعض الحاضرين ــ وقد أحضر كتاب الأسماء والصفات للحافظ أبي بكر البيهقي ــ: هذا قد ذكر فيه عن بعض السلف تأويل صفة الوجه.
فقلت: لعلك تعني قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115].
فقال: نعم، قد ذكر عن مجاهد والشافعي أنها قبلة الله (1).
فقلت: هذا صحيح، وليست هذه من آيات الصفات، بل سياقُ الكلام يدلُّ على المقصود حيث قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، أي فثمَّ جهةُ الله، فإن الوجه والجهة والوِجهة في مثل
_________
(1) انظر: الأسماء والصفات (ص 309).
(8/193)
هذا بمعنى واحد، كما قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] أي يستقبلها. ويقال: أيَّ وجهٍ تريد؟ أي أيَّ ناحيةٍ تُريد. فقوله: أينما تولوا، أي أينما تتولَّوا أي تتوجَّهوا وتستقبلوا فثمَّ جهةُ الله أي قبلةُ الله. وهذا ظاهر الكلام الذي يدلُّ عليه سياقُه، وقد يَغلَط بعضُ الناس فيُدخِل في الصفات ما ليس منها، كما يَغلَط بعضُ الناس فيجعلُ من التأويل المخالف للظاهر ما هو ظاهر اللفظ، كما في هذه الآية ونحوها. ومثل ذلك قوله: «الحجر الأسود يمينُ الله في الأرض، فمن صافحه واستلمه فكأنما صافحَ الله وقبَّل يمينَه» (1).
فقال لي بعض الحاضرين: فقد روي عن مالك أنه قال في حديث النزول: ينزل أمره (2).
فقلت: هذا رواه حبيب كاتبه، وهو كذاب (3).
_________
(1) أخرجه ابن عدي في الكامل (1/ 342) والخطيب في تاريخ بغداد (6/ 328) ومن طريقهما ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 85) عن جابر بن عبد الله مرفوعًا. وفي إسناده إسحاق بن بشر الكاهلي، كذَّبه أبو بكر بن أبي شيبة وغيره، وقال الدارقطني: هو في عداد من يضع الحديث. وروي موقوفًا على ابن عباس، أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة (1/ 228) والجندي كما عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (1/ 694). وتكلم عليه المؤلف في مجموع الفتاوى (6/ 397، 398).
(2) انظر: ترتيب المدارك (2/ 44).
(3) انظر: ميزان الاعتدال (1/ 452) وتهذيب التهذيب (2/ 181).
(8/194)
فقال: قد رُوي من غير طريق حبيب، من طريق مطرف.
وجواب هذه الرواية المنقولة عن مالك كجواب الرواية المنقولة عن الإمام أحمد في مثل ذلك، فإنه نُقِل عنه يومَ مناظرته للجهمية أمامَ الخليفة أنه قال في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] أنه أمره. فقيل: الراوي غلط عليه، وقيل: إنه قاله على سبيل الإلزام لهم لما احتجُّوا بمجيء القرآن على [أنه] مخلوق، فقال لهم: إنما مجيء ثوابه كما قلتم في قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]: إنه أمره.
وقيل: بل هذه رواية عنه أنه يتأول صفات المجيء والإتيان والنزول ونحو ذلك بمعنى القصد، ولا يتأوَّل غيرها. وبعضهم [جعلها] رواية مخرجة عنه في بعض أحاديث الصفات التي يجب تأويلها عند هذا القائل، وهو ابن …… (1)، فالكلام في المنقول عن مالك وأحمد سواء.
وهذا إذا كان قولاً صحيحًا ثابتًا عن السلف لم يضرَّني، لأني لم أذكر في العقيدة لفظ التأويل نفيًا ولا إثباتًا، وإنما قلت: «من غير تحريف»، والتفسير الصحيح المأثور عن السلف الذي تقوم عليه الحجة الموجبة لقبوله ليس بتحريف، بل هو مثل ما يُنقل عنهم من تفسير القرآن والحديث. فهذا إذا ثبت ليس مخالفًا لما ذكرتُه.
وقلتُ للسادة الحاضرين: هل في شيء من هذه الأقوال والكلام
_________
(1) كلمة مطموسة.
(8/195)
كفرٌ أو فسقٌ؟ فصرَّح أكثرهم بأنه ليس فيه كفرٌ ولا فسقٌ، حتى من كان يُكِثر النزاعَ قبلَ ذلك المجلس ويدَّعي الكفر اعترفَ بأنه ليس فيه كفرٌ ولا فسقٌ.
وقال بعضهم: هذا بدعة. فأنكر جمهور الحاضرين عليه هذا القول، وطلب …… الجمع بدعة أو أنه من البدع المستحسنة، وغلَّظ بعضهم الإنكار لهذا القول.
فقلت: الكتاب والسنة لا يكون بدعة، إنما البدعة مثل اعتقاد ابن التومرت (1) ونحوه، والسلف إنما كرهوا الكلام المخالف للكتاب والسنة، كما قال الشافعي رضي الله عنه: حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد ويُطافَ بهم في القبائل والعشائر، ويقالَ هذا جزاءُ من تركَ الكتابَ والسنةَ وأقبلَ على الكلام (2). فإنما عابوا على من ترك الكتاب والسنة.
فقال بعضهم: قد كره مالكٌ رواية مثل هذا.
قلت: المنقول عن مالك أنه كره لمحمد بن عجلان رواية حديث الصورة (3)، وقد تكون كراهته مخصوصةً خشيةَ ضلالِ بعض الناس به،
_________
(1) تكلم المؤلف على عقيدته «المرشدة» في مجموع الفتاوى (11/ 476 ــ 491).
(2) انظر: مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 462).
(3) انظر: ترتيب المدارك (2/ 44) وسير أعلام النبلاء (6/ 320) وميزان الاعتدال (3/ 644، 645).
(8/196)
كما قال [عبد الله بن مسعود]: ما من رجلٍ يُحدِّثُ قومًا حديثًا لا تبلُغُه عقولهم إلّا كان فتنةً لبعضهم (1). وإلّا فقد حدَّثَ به سائر الأئمة، وهو في الصحاح (2). وهذا الحديث ليس في هذا الاعتقاد، وقد روى مالك في [الموطأ] حديث النزول والضحك (3).
قلت: وأنا لم أخاطبْ عامّةً ولا دعوتُ أحدًا إلى اعتقاد، وإنما كتبت لبعض القضاة.
وبلغني أنه بعد المجلس أخرج بعضهم حديث عائشة وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم» (4).
وجوابه أن الله ذمَّ من اتبع المتشابه ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويله، لم يَذُمَّ أهلَ العلم الذين يقولون: آمنّا به كلٌّ من عند ربنا، فالذمُّ يقع [على] المنازع الذي يسأل عن الكيفية، ويطلب التأويل كما يُعلِّمه المتأولون المخالفون للنص والإجماع، ويطلب الفتنة بالتشكيك.
_________
(1) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 11) بنحوه.
(2) حديث «خلق الله آدم على صورته» أخرجه البخاري (6227) ومسلم (2612، 2841) عن أبي هريرة. وانظر الكلام عليه في: جواب الاعتراضات المصرية (ص 157 ــ 177).
(3) انظر حديث النزول في: الموطأ (1/ 214) وحديث الضحك فيه (1/ 460).
(4) أخرجه البخاري (4547) ومسلم (2665).
(8/197)
قال لي بعضهم: أتُؤمن أن الله ينادي يومَ القيامة بصوتٍ؟
فقلتُ: هذا قاله نبيُّك إن كنتَ مؤمنًا به (1)، وهكذا قال الرسول الذي أُرسِلَ إليك إن كنتَ مصدِّقًا بأنه رسولُ الله.
فقال آخر: الحديث «يُنادَى».
فقلت: أما غالبُ الرواة فإنهم قالوا: «يُنادي»، وقد رواه بعضهم «يُنادَى» كما حكاه القاضي عياض (2)، ولا منافاة، فإن الروايتين الصحيحتين في الحديث كالقراءتين الصحيحتين في القراءات، فذلك مثل قوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف: 47]، وتُسَيَّرُ الجبالُ (3).
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) انظر: مشارق الأنوار (2/ 8) وفتح الباري (13/ 460).
(3) بعده في الأصل بخط أحد القراء: «قلت: هذا المجلس كان في اليوم الثامن من شهر رجب الفرد سنة ست [الصواب: خمس، كما ذكره المؤلف نفسه في حكاية المناظرة ضمن مجموع الفتاوى (3/ 161)] وسبعمئة، وذلك قبل أن يُطلَب الشيخ رضي الله عنه إلى مصر في المحنة الأولى بقليل، فإنه خرج إلى مصر اليوم ….. من شهر رمضان المعظم من السنة المذكورة، وسبب ذلك أن الشيخ رحمه الله استشعر من الشيخ نصر وجماعة معه أنهم على مذهب الاتحادية، فكتب لهم كتابًا يذكر لهم فيه فساد مذهبهم وبطلانه».
(8/198)
فصل
أصل الإيمان والهدى ودين الحق
هو الإيمان بالله ورسوله
(8/199)
فصل
أصل الإيمان والهدى ودين الحق وما يدخل في ذلك من العلم النافع والعمل الصالح هو الإيمان بالله ورسوله، وهو أول ما أوجبَه الله على عباده وأمرهم به، وقد قررتُ ذلك فيما تقدم من القواعد، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرتُ أن أُقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها» (1). وكما قال لمعاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن: «إنك تأتي قومًا أهلَ كتابٍ، فليكن أول ما تدعوهم إليهم شهادة أن لا إله إلا الله» (2).
وكما تواتر بالنقل العام، وعُلِمَ بالاضطرار من دين الرسول، واتَّفقتْ عليه الأمة أن أصلَ الإسلام وأولَ ما يؤمر به الخلقُ شهادةُ أن لا إله إلا الله وشهادةُ أن محمدًا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلمًا، والعدوُّ وليًّا، والمباحُ دمُه ومالُه معصومَ الدم والمال. ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانهِ دونَ قلبه فهو في ظاهر الإسلام دونَ باطن الإيمان، كما قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14].
_________
(1) أخرجه البخاري (25) ومسلم (22) عن ابن عمر، وأخرجه البخاري (1399) ومسلم (21) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري (1496) ومسلم (19) عن ابن عباس.
(8/201)
وكما أن هذين (1) أصلا الدين فهما أيضًا جماعُ الدين وكمالُه وتمام فروعه، فهما الفارقانِ بين أهل الجنة وأهل النار، والسعداء والأشقياء، كما قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21]. ولما ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – درجاتٍ في الجنة عاليةً فقالوا: تلك منازل الأنبياء لا ينالها غيرهم، فقال: «بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين» (2).
وقال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 35 – 36].
وقال: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام: 31].
وقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} [الزمر: 71].
وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ
_________
(1) في الأصل: هذان.
(2) أخرجه البخاري (3256) ومسلم (2831) عن أبي سعيد الخدري.
(8/202)
عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 123 – 126].
وقال في الآية الأخرى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38، 39].
وقد أخبر في غير موضع من كتابه أن المُعذَّبين في الدنيا والآخرة هم المُعرضون عن اتباع رسل الله، كقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8 – 9]. وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]. وقال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]، وقال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
(8/203)
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} الآية [القصص: 59].
وأخبر تعالى بأنه أرسل إلى جميع خلقِه الرسلَ، فقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]. وقال: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام: 130].
وذِكرُ الإيمانِ بالله ورسله في القرآن كثير جدًّا في أنواع من الأصول، كقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19]. وقوله: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28]. وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وسورة الحديد قد ثنَّى فيها هذا الأصل مَرّةً بعد مَرَّةٍ.
وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا
(8/204)
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 8 – 9]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136]. وقال تعالى في خطابه لبني إسرائيل: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} الآية [المائدة: 12]. وقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 136 – 137]. وقال في آخر السورة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]. وقال في أول السورة: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 1 – 4].
فسورة البقرة جماعها في تقرير الرسالة، فإن تقرير الرسالة متضمنة للإيمان بجميع الكتب والملائكة الذين هم رسلٌ أيضًا، كما قال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]. ولفظ «الملَك» يقتضي الرسالة، فإنه من الأَلُوكَة، والألوكة هي الرسالة، والمأْلُك: الرسالة. وهذه المادة (أ ل ك) و (ل أ ك) تقتضي الرسالة، وقد
(8/205)
قال فيهم: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1]، وهم الملائكة في أشهر القولين، وهم رُسُل اللهِ في تنفيذ أوامرِه الكونية والدينية، والعالَمُ كلُّه قائمٌ بأمرِ اللهِ الكوني، كما أن الدياناتِ كلَّها قائمة بأمر الله الديني.
وهذا الأصل وإن كانت سورة البقرة تضمَّنته فكذلك كثير من السور بل أكثرها، مثل سورة آل عمران التي قال في أولها: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [آل عمران: 1 – 4]. وذكر في أثنائها ما ذكر من الإيمان بالله ورسله، ثم ختمها بمثل ذلك في قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199].
والفرق بين سورتي البقرة وآل عمران أن البقرة جامعة لتقرير جنس الرسالة على الكافرين، ولتقرير رسالة محمد وأصول شريعته على مَن كفر به مِن أهل الكتاب. وأما آل عمران فالمقصود الأكبر فيها تقرير رسالته على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكذلك سورة الأعراف أيضًا، مقصودها الأكبر تقرير الكتاب والرسالة، جنس ذلك وعينه، وذلك بيِّنٌ فيها، وكذلك سورة يونس وهود والرعد وإبراهيم والحجر وسبحان والأنبياء وآل طسم وآل حم ويونس والحديد وغير ذلك من السور.
(8/206)
وذلك لأن المقصود الذي خلق له هو عبادة الله الجامعة لمعرفته بأسمائه وصفاتِه، ومحبتِه والإنابةِ إليه، وإخلاصِ الدين له، والطريق إلى ذلك هم رُسُل الله تعالى، فالإيمان بالله ورسوله هما المقصود والوسيلة، وبدون أحدهما لا يحصل ذلك، فمن أقرَّ بالخالق ولم يؤمن بالرسل لم يَعْلَم ما يحبه الله ويرضاه ويأمر به، ولا ما يكرهه ويسخطه وينهى عنه، ولم يعرف أيضًا من أسمائه وصفاته ما لا يُعرف إلا من الرسل، سواء في ذلك العلوم والأعمال التي قد يعلمها الإنسان بعقله، فإن هذا القسم ليس بيِّنًا في العقول ولا ظاهرًا للناس، ولا هو مُتَّفقٌ عليه بين أرباب العقل العام، بل مَنْ لم يهتدِ بنورِ الرسالة واكتفى فيه برأيه ورأي بني جنسه فإنه يقع في الشبهات والإشكالات والاختلاف والتفرق الذي لا يُحيط به إلا الله تعالى، كما نجده في الخارجين عن اتباع حقيقة الرسالة من المشركين والمجوس، والمبدِّلين المبتدعين من الصابئين واليهود والنصارى والمسلمين، وهم الذين تفرَّقوا على الأنبياء والرسل، كما قال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث المُتَّفَق عليه (1) عن أبي هريرة: «ذَرُوني ما تركتُكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بأمرٍ فَأْتُوا منه ما استطعتم».
وقد قال سبحانه في كتابه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176]. وقال تعالى: {كَانَ
_________
(1) البخاري (7288) ومسلم (1337).
(8/207)
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 51 – 53].
وقال بعد أن ذكر قصص الأنبياء: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 92 – 93].
وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ
(8/208)
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 13 – 14].
وهذا المعنى قد ثنَّاه الله في كتابه يبيِّن فيه أن دينه واحد، وهو الإسلام العام والإيمان العام، وأنه أمر رسلَه بالاجتماع فيه والائتلاف، ونهاهم عن التفرق فيه والاختلاف، وأمر جميعَ عباده بالاجتماع فيه والائتلاف، ونهاهم عن التفرق فيه والاختلاف. وهو دين الله الذي أمر به الأولين والآخرين من عباده، فمن خرج عنه فكفر بجميع الرسالة، وهو الكفر بجميع الكتب والرسل، أو آمن ببعض الرسالة دون بعض، وهو الإيمان ببعض الكتب والرسل دون بعض، كما يدعيه أهل الكتاب من اليهود والنصارى، أو ببعض ما في الكتب والرسل كما عليه الصابئة والمبتدعون من الفلاسفة الذين في المسلمين وغيرهم، ومن سلك سبيلهم من المبتدعة أهلِ التحريف والتبديل في المسلمين واليهود والنصارى، ويَدخلُ في هؤلاء السبعون فرقةً الذين في اليهود، والإحدى والسبعون الذين في النصارى، والثنتان والسبعون الذين في المسلمين، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في أحاديث متعددة: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة» (1). وفي رواية: «هو من كان على مثل ما أنا عليه
_________
(1) أخرجه ابن ماجه (3992) وابن أبي عاصم في السنة (63) من حديث عوف بن مالك. قال الألباني في السلسلة الصحيحة (1492): إسناده جيد، ورجاله ثقات معروفون غير عباد بن يوسف وهو الكندي الحمصي، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه غيره، وروى عنه جمع. وللحديث شواهد كثيرة، منها حديث معاوية بن أبي سفيان الذي أخرجه أحمد (4/ 102) وأبو داود (4597) والدارمي (2/ 241) بنحوه، وإسناده حسن.
(8/209)