http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: جامع المسائل [آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (2، 3، 4، 5، 9، 13، 17، 18، 29)]المؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661 – 728 هـ) تحقيق: جـ 1 – 6، 8 (محمد عزير شمس)، جـ 7 (علي بن محمد العمران)، جـ 9 (عبد الرحمن بن حسن قائد) راجعه: جـ 1 – 4، 7 (سليمان بن عبد الله العمير، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 5، 6 (سليمان بن عبد الله العمير، جديع بن محمد الجديع، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 9 (سليمان بن عبد الله العمير، على بن محمد العمران) الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الثانية (للمجموعات من 1 – 9)، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الأجزاء: 9 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
وقال تعالى في حق الذين كانوا يدعون الملائكةَ والنبيين: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} (1).
وقال: (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2).
وردَّ على من اتخذ شفعاءَ من دونه فقال: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)) (3).
وقال: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَى (31)) (4).
وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (5).
وقال تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ
__________
(1) سورة الإسراء: 56 – 57.
(2) سورة آل عمران: 80.
(3) سورة الزمر: 43 – 46.
(4) سورة التوبة: 31.
(5) سورة البقرة: 255.
(3/111)
أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)) (1).
وقال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (2).
وقال: (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (3).
وكُتُبُ الله من أولها إلى آخرها تأمر بإخلاص الدين لله، لاسيما الكتاب الذي بُعِثَ به محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو الشريعة التي جاء بها، فإنها كملت الدين، قال تعالى: (اليَومَ أَكَملتُ لَكُم دِينَكُم) (4)، وقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)) (5).
وقد جعل قِوامَ الأمر بالإخلاص لله والعدلِ في الأمور كلها، كما قال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) (6).
ولقد خَلَّص للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – التوحيدَ من دقيقِ الشرك وجليلِه، حتى قال: “مَن حَلَفَ بغير الله فقد أشرك”. رواه الترمذي وصححه (7).
وقال: “إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا
__________
(1) سورة النجم: 26.
(2) سورة الأنبياء: 28.
(3) سورة سبأ: 23.
(4) سورة المائدة: 3.
(5) سورة الجاثية: 18.
(6) سورة الأعراف: 29 – 30.
(7) أخرجه أحمد (2/ 34، 58، 60، 69، 86، 125) وأبو داود (3251) والترمذي (1535) عن ابن عمر.
(3/112)
فليحلف بالله أو ليصمت”. وهذا مشهور في الصحاح (1).
وقال: “لا يقولنَّ أحدُكم ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثمَّ شاءَ محمد” (2).
وقال له رجل: ما شاءَ الله وشِئتَ، فقال: “أجَعلتَني لله نِدًّا؟ بل ما شاء اللهُ وحدَه” (3).
ورُوِي عنه أنه قال: “الشركُ في هذه الأمة أخفَى من دبيب النمل” (4).
ورُوِيَ عنه أن الرياء شرك (5).
وقال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)) (6).
وعَلَّمَ بعضَ أصحابه أن يقول: “اللهم إني أعوذ بك من أن أُشرِكَ بك وأنا أعلم، وأستغفرَك لما لا أعلم” (7).
ومن هذا الباب الذين يسألون الصدقةَ أو يُعطُونها لغير الله، مثل
__________
(1) أخرجه البخاري (6646 ومواضع أخرى) ومسلم (1646) عن ابن عمر.
(2) أخرجه أحمد (5/ 72، 398) وابن ماجه (2118) والدارمى (2702) عن الطفيل بن سخبرة، وهو حديث حسن.
(3) أخرجه أحمد (1/ 214، 283، 347) والنسائي في “عمل اليوم والليلة” (988) عن ابن عباس.
(4) أخرجه الحاكم في “المستدرك” (4/ 291) عن عائشة، وصححه هو والألباني في “صحيح الجامع” (3730).
(5) أخرجه الحاكم في “المستدرك” (1/ 4) عن معاذ بن جبل بلفظ “اليسير من الرياء شرك”، وصححه.
(6) سورة الكهف: 110.
(7) أخرجه البخاري في “الأدب المفرد” (716) عن معقل بن يسار.
(3/113)
من يقول: لأجلِ فلان، إما بعض الصحابة أو بعض أهل البيت، حتى يتخذَ السؤالَ بذلك ذريعةً إلى أكل أموالِ الناس بالباطل، ويَصير قومٌ ممن يَنتسِبُ إلى محبة آل البيت يُعطِي الناسَ، وآخرون ممن ينتسب إلى السنة يُعطِي الآخرين، والشيطانُ قد استحوذَ على الجميع، فإن الصدقة وسائر العبادات لا يُشْرَعُ أن تُفْعَلَ إلا لله، كما قال تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)) (1).
وقال تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)) (2).
وقال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) (3).
وقال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا (9)) (4).
وقال تعالى كلمة جامعة: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)) (5).
__________
(1) سورة الليل: 17 – 21.
(2) سورة الروم: 39.
(3) سورة البقرة: 265.
(4) سورة الإنسان: 8 – 9.
(5) سورة البينة: 4 – 5.
(3/114)
وعبادتُه تَجمعُ الصلاةَ وما يَدخُل فيها من الدعاء والذكر، وتَجمع الصدقةَ والزكاةَ بجميع الأنواع من الطعام واللباس والنقد وغير ذلك.
والله يجعلنا وسائرَ إخواننا المؤمنين مخلصين له الدين، نعبده ولا نشرك به شيئًا، معتصمين بحبله، متمسكين بكتابه، متعلمين لما أنزل من الكتاب والحكمة، ويَصرِف عنّا شياطينَ الجن والإنس، ويُعِيذُنا أن تفرّق بنا عن سبيله، ويهدينا الصراطَ المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا.
***
(3/115)
مسألة في قصد المشاهد المبنية على القبور للصلاة عندها والنذر لها وقراءة القرآن وغير ذلك
(3/117)
مسألة
ما يقول سيدنا الإمام العلامة تقي الدين -أيَّده الله تعالى- في مشهدٍ فيه شريف مدفون من أولاد زين العابدين، والناس يقصدونه ليصلُّوا عنده الصلواتِ الخمسَ، وينذرون له، ومنهم من يَقصِد البركة، ومنهم من يعتقد أن الصلاة عنده أفضل مما سواه من المساجد. فهل هم مصيبون أم مخطِئون؟ وهل لهم أجر أم لا؟ وهل يُثابُ من يَتصدَّق أو يَبَرُّ قَيِّمَ المشهد المذكور أو الفقراءَ الذين يقعدون عند المشهد المذكور؟ وأيضًا يَقعُد في المشهد قُرَّاء يقرأون القرآن العظيم بلا أجرةٍ من العشاء إلى بكرة، فهل يُؤجَرون على ذلك أم لا؟ وهل للميِّت أجر باستماعِه القرآن أم لا؟ والذين يقرأون القرآن في التُّرَبِ بالأجرة وفي الختم التي يعملونها، مثل الذي يسمونه الثالث والسابع وتمام الشهر وتمام الحول، ويُنشِدون الأشعارَ الفراقيات ليبكي أهل الميت، وينقطوه بالفضة، والوعاظ أيضًا والذين يقرأون القرآن في الطرقات والأسواق حتى يتصدق عليهم، فما حكمهم؟ والحديث الذي يُذكَر فيه أن الميت يُعذَّبُ ببكاء أهلِه عليه، وقول عائشة: إنما كانت يهودية، وقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن الله لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحُزْنِ القلب، ولكن بهذا” وأشار إلى لسانه. وإذا كان أحدٌ يَتحدَّث في عليم أو صلاةٍ أو ذِكرٍ أو حديثٍ مباح، أو ينام، فهل يجوز لأحدٍ أن يجهر بالقرآن ليُشَوِّش عليهم؟
أفتونا مأجورين، رضي الله عنكم.
أجاب -رضي الله عنه-
الحمد لله. اتفق أئمة المسلمين -رضي الله عنهم أجمعين- على
(3/119)
أن المشاهد المبنية على القبور، سواء كان قبر بعض الصالحين أو بعض الصحابة أو بعض أهل البيت، أو قبر نبي من الأنبياء أو غير ذلك، سواءٌ كان عُلِمَ أنه قبر الميت المسمَّى أو عُلِمَ أنه ليس قبره أو جُهِلَ الحال-: اتفقوا كلُّهم على أن الصلاة فيها ليست أفضلَ من الصلاةِ في المساجد، بل ولا في سائر البقاع التي تجوز الصلاةُ فيها، وأنه لا يُشرَع لأحدٍ أن يَقصِدَها لأجل الصلاة عندها، لا الصلوات الخمس ولا غيرها. بل قصدُها للصلاة عندها والتبرك بالصلاة هناك خصوصًا لم يأمر الله به ولا رسولُه، وولا أحدٌ من الصحابة ولا من أئمة المسلمين، لا أهل البيت ولا غيرهم، ولا ذكروا أن في ذلك ثوابًا أو أجرًا أو قُربةً.
بل قد استفاضت السنن عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – والصحابة والتابعين بالنهي في ذلك، وصرَّح غير واحدٍ من أئمة المسلمين أن النهي عن اتخاذ المساجد على القبور نهي تحريم، كما في الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نُزِل برسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – طفق يَطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفَها عن وجهه، فقال وهو كذلك: “لعنةُ اللهِ على اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد” يُحذِّر ما صنعوا.
وفي الصحيحين (2) عن أبي هريرة أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “قاتل الله اليهود اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد”. وفي صحيح مسلم (3) عن جُندب بن عبد الله البجلي قال: سمعتُ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قبل أن يموت بخمسٍ
__________
(1) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531).
(2) البخاري (437) ومسلم (530).
(3) برقم (532).
(3/120)
وهو يقول: “إني أَبْرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ، فإن الله قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيمِ خليلًا، ولو كنتُ متخذًا من أمتي خليلا لاتخذتُ أبا بكير خليلًا. أَلاَ وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبورَ أنبيائهم مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك”.
وعن أبي مَرثد الغنوي أن رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “لا تجلسوا على القبور ولا تُصلُّوا إليها”. رواه مسلم (1).
وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج. رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة أبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي (2)، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: صحيح.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في مرضه الذي لم يقم منه: “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”، لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا (3).
والأحاديث والآثار في هذا عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأصحابه وسلفِ الأمة وأئمتِها وسائرِ علماء الدين كثيرة. فمن اعتقد أن الصلاة عندها فيها فضيلة على غيرها، أو أنه ينبغي أن يُقصَد الصلاة عندها [و] أن في ذلك أجرًا ومثوبةً، فهو مخطئٌ ضالّ باتفاقِ أئمة المسلمين.
__________
(1) برقم (972).
(2) أحمد (1/ 229، 287، 324، 337) وأبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/ 94) وابن ماجه (1575).
(3) سبق تخريجه.
(3/121)
وكذلك العكوف عندها والمجاورة عندها ليس مشروعًا باتفاق المسلمين ولا واجبًا ولا مستحبًّا، بل ذلك من البدع المذمومة المنهيّ عنها. وإنما تكون البقعة التي يُشرَع العكوف فيها والمجاورة فيها: المساجد، كما قال الله تعالى: (تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) (1). وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يعتكف في مسجدِه في العشر الأواخر من رمضان (2)، واعتكف مرةً عشرين يومًا (3)، وترك مرةًا لاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فقضاه في شوال (4). وهذا هو المشروع للمسلمين.
وزيارة القبور جائزةٌ على الوجه المأذون فيه، فإن كان الميت كافرا فيُزَار للاعتبار بالموت ولا يُدعَى له، كما في صحيح مسلم (5) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “استأذنتُ ربي في أن أزور قبرَ أمّي فأَذِنَ لي، واستأذنتُه في أن أستغفر لها فلم يُؤذَن لي، فزوروا القبور، فإنها تُذكّركم الآخرة”. وإنما زار قبرَ أمّه دون أبيه لأنها كانت على طريقِه عامَ فتح مكة، فاجتاز بقبرها عند مكة فزارَها، ورُوِي أنه زارَها في ألف مقنع، فبكَى وأَبكَى مَن حولَه (6). وأما أبوه فلم يمرّ بقبره.
__________
(1) سورة البقرة: 187.
(2) متفق عليه من حديث ابن عمر وعائشة، انظر صحيح البخاري (2025، 2026) ومسلم (1171، 1172).
(3) أخرجه البخاري (2044) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاري (2033) ومسلم (1173) عن عائشة.
(5) برقم (976).
(6) أخرجه أحمد (5/ 355، 357، 359) وابن حبان (791 – موارد) والحاكم في “المستدرك” (1/ 376) والبيهقي في “السنن الكبرى” (4/ 76) من حديث بريدة.
(3/122)
ولم يأذن ربُّه له في الاستغفار له لأن الاستغفار إنما يكون للمؤمنينِ، قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (1)، ثم قال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) (2). فإن إبراهيم استغفر لأبيه بقوله فيما ذكر الله عنه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) (3)، ووعده بذلك في قوله: (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)) (4). فشرع له القدوة بإبراهيم إلا في ذلك بقوله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) (5).
ولما نَهى المؤمنين عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى فاحتج بعض الناس بإبراهيم، فبيَّن سبحانَه الجواب بقوله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)، فإن أباه مات كافرًا. ومن قال “إنه مات مؤمنًا” من الرافضةِ الجهّالِ أو غيرِهم فقد خالفَ الكتابَ والسنة والإجماع.
وكذلك أبو النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وعمُّه أبو طالب، وفي صحيح مسلم (6) أن
__________
(1) سورة التوبة: 113.
(2) سورة التوبة: 114.
(3) سورة إبراهيم: 41.
(4) سورة مريم: 47.
(5) سورة الممتحنة: 4.
(6) برقم (203) عن أنس.
(3/123)
رجلًا قال: يا رسولَ الله! أين أبي؟ فقال: “إنّ أباك في النار”. فلما أدبَر دعاه فقال: “إنّ أبي وأباك في النار”. وفي الصحيحين (1) أنه لما حَضرتْ أبا طالب الوفاة دخلَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إليه وعنده أبو جهلٍ وعبد الله بن أمية، فقال: “يا عمِّ! قل لا إله إلا الله، كلمةً أُحَاجُّ لك بها عند الله”. فقالا: يا أبا طالبٍ! أترغبُ عن ملَّة عبد المطلب؟ فكان آخر شيء قاله: على ملة عبد المطلب. فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك”، فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (2).
وفي الصحيح (3) أن العباس قال: يا رسولَ الله! عمُّك الشيخ الضالُّ كان يَحُوطُك ويصنع لك، فهل نَفَعْتَه بشيء؟ فقال: “وجدتُه في غمرةٍ من النار، فشَفَعتُ فيه، فجُعِلَ في ضَحضاحٍ من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار”، أو كما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذه الأحاديث الصحيحة توافق ما اتفق عليه أئمة المسلمين في أنه ماتَ كافرًا، وتُبيِّن كَذِبَ من ادَّعَى من الجهّال الرافضة وغيرِهم أنه مات مؤمنًا. ويحتج بما ذكر ابن إسحاق في “السيرة” (4) من أنه جعل يُهَمْهِمُ عند الموت، وأن العباس قال للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه قد قال الكلمة التي تطلبها أو نحو ذلك. فإنَّ الذي في الصحيح بيَّن أن العباس لم
__________
(1) البخاري (4675) ومسلم (24) عن المسيب.
(2) سورة التوبة: 113.
(3) البخاري (3883، 6208، 6572) ومسلم (209).
(4) انظر سيرة ابن هشام (1/ 417). وتكلم ابن كثير في “البداية والنهاية” (4/ 307 وما بعدها) على هذه الرواية.
(3/124)
يكن حاضرًا، وأن العباس علم أنه مات ضالًا، وأنه سألَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هل نفَعَه نَصرُه لك مع كفره، فأخبره النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن ذلك نفعَه، بشفاعة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في تخفيفِ العذاب لا في رفعِه، ولو كان قد مات على الإيمان لم يكن في العذاب، ولم يُنْهَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن الاستغفار له، ولقُرِنَ ذكره بذكر حمزة والعباس، ولكان قد صلى عليه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وابنُه عليّ. بل الاستغفارُ للمنافقين الذين يُظهِرون الإسلامَ ويُبطِنون الكفرَ غيرُ نافع لهم ولا جائز إذا عُلِمَ حالُهم، كما قال تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (1)، وقال تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)) (2).
وأما زيارة قبور المؤمنين فجائزة بل مستحبة، كما سنَّها رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن الزيارة نوعان: شرعية وبدعية، والشرعية السلامُ على الميت والدعاء له، بمثل أن يقال (3): “السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، اللهم لا تحرمنا أجرَهم ولا تَفْتِنّا بعدهم، واغفر لنا ولهم”. فالزيارة المشروعة من جنس الصلاة على الجنازة، وكلاهما المقصود به الدعاء للميت، والله تعالى يرحم الميت بدعاء المسلمين، ويرحم الداعين له أيضًا، فيُثيبُ هذا وهذا كما يُثيب المصلين على الجنازة، فمن صلَّى على جنازة إيمانًا واحتسابًا كان له قيراط من الأجر، ومن شيَّعَها حتى تُدفن
__________
(1) سورة المنافقين: 6.
(2) سورة التوبة: 84.
(3) سبق تخريجه.
(3/125)
كان له قيراطان (1).
والله تعالى يَقبل شفاعة المؤمنين ودعاءهم للميت، كما جاء في الحديث الصحيح (2) أنه إذا شفع فيه مئة من المؤمنين شفعهم الله فيه، وفي حديث آخر في الصحيح (3): إذا شفع فيه أربعون، وفي حديث آخر (4): إذا كانوا ثلاثة صفوف. ولهذا كانوا يستحبون أن لا تنقص صفوف الجنازة عن ثلاثة.
والمؤمنون مأمورون بدعاءِ بعضهم لبعض، حتى يدعو الفاضلُ للمفضول وبالعكس، قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح (5): “إذا سمعتمٍ المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صَلُّوا عليَّ، فإنه من صلَّى عليَّ مرة صلّى الله عليه عشرًا، ثمَّ سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له شفاعتي يوم القيامة”. وقال: “ما من مؤمن يَدعُو لأخيه بظهر الغيب بدعوةٍ إلا وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلَّما دعا لأخيه بدعوة قال الملك: ولك بمثلٍ” (6).
وأما الزيارة البدعية فمثل التمسُّح بالقبر أو تقبيله أو قصده للصلاة عنده والدعاء وطلب الحوائج من الميت، وأمثال ذلك مما هو من
__________
(1) كما في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري (47، 1325) ومسلم (945).
(2) مسلم (947) عن عائشة.
(3) مسلم (948) عن ابن عباس.
(4) أخرجه أحمد (4/ 79) وأبو داود (3166) والترمذي (1028) وابن ماجه (1490) عن مالك بن هبيرة.
(5) أخرجه مسلم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(6) أخرجه مسلم (2732) عن أبي الدرداء.
(3/126)
جنس فعل المشركين والنصارى، ولهذا قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فيما رواه مالك في الموطأ (1): “اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد، اشتدَّ غَضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد”.
وقد ذكر غير واحدٍ من السلف (2) أن أصل عبادة الأصنام كان ذلك، فقالوا في قوله (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)) (3): إن هذه أسماء قوم كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمّ صوَّروا تماثيلهم، وهذه الأصنام صارت إلى العرب، حتى بعث الله رسوله بأن يُعبَد الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك من عبادة الأوثان وغير ذلك، وبيَّن أن أصل الدين أن يعبد الله لا يُشرك به شيئًا.
وفي الصحيح (4) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال لمعاذ بن جبل: “يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ ” قال: الله ورسوله أعلم، قال: “أن يَعبدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، أتدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ ” قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “أن لا يُعذِّبَهم”.
وفي الصحيحين (5) عنه أنه قال: “الإيمان بضع وستون أو وسبعون شعبةً، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”.
__________
(1) 1/ 172 عن عطاء بن يسار مرسلًا. قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث.
(2) انظر تفسير الطبري (29/ 62) وابن كثير (4/ 455).
(3) سورة نوح: 23.
(4) البخاري (2856، 7372) ومسلم (30).
(5) مسلم (35) عن أبي هريرة. ورواه البخاري (9) مختصرًا.
(3/127)
وفي الترمذي (1) عنه أنه قال: “أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله”.
وفي الموطأ (2): “أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير”.
وفي الصحيحين (3) عنه أنه قال: “من قال في يومٍ مئةَ مرة: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير”، كانتْ له عِدْلَ عَشْرِ رِقابٍ، وكُتِبَ له مئةُ حسنةٍ، وحُطَّ عنه مئةُ سيئةٍ، وكانت له حِرْزًا من الشيطان يومَه ذلك حتى يُمسِيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا رجلٌ قال مثل ما قال أو زاد عليه. ومن قال في يوم: “سبحان الله وبحمده” مئة مرةٍ حُطَّتْ عنه خطاياه ولو كانت مثلَ زبَدِ البحر”.
وأما النذر لها فينبغي أن يُعلَم أن أصل النذر مكروه منهيٌّ عنه بلا نزاع أعلمه بين الأئمة، لما في الصحيحين عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه نهى عن النذر وقال: “إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستخرج به [من] البخيل” (4).
وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه قال: “إن النذر يَرُدُّ ابنَ آدم إلى القدر، فيُعطِي على النذر مالا يُعطي على غيرِه” (5).
فبيَّن – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن النذر لا يَجلِب خيرًا ولا يَدفَع شرًّا، ولكن يقع مع
__________
(1) برقم (3383) عن جابر. ورواه أيضًا النسائي في “عمل اليوم والليلة” (831) وابن ماجه (3800).
(2) 1/ 422 عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلًا.
(3) البخاري (3293، 6403) ومسلم (2691) عن أبي هريرة.
(4) سبق تخريجه.
(5) سبق تخريجه.
(3/128)
النذر ما كان واقعًا بدون النذر، فيبقَى النذرُ عديمَ الفائدة، لكنه يَستخرِج من البخيل، فإنه يُخرِج بالنذر مالا يُخرِجه بدونه، ونهى عن النذر لأن فيه التزام شيء لم يكن لازمًا، وقد لا يَفعَلُه فيبقَى متلومًا، كما قال تعالى:) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) (1).
ولهذا يجب الوفاء بالنذر إذا كان المنذور طاعةً، وإن كان نفس النذر منهيًّا عنه، كما أن العبد منهيٌّ عن الظهار، وإذا ظَاهَرَ لزمتْه الكفارة، فالمنهي عنه إن كان فيه إيجاب أو تحريمٌ لزمَ المنهي عقوبةً له، وإن كان فيه إباحة لم تبح، لأن المنهي عنه معصية، والمعصية لا تكون سببًا للمنعة الشرعية. وفي صحيحِ البخاري (2) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “من نَذر أن يُطيع الله فليُطِعه، ومن نذر أن يَعصِيَه فلا يعصِه”. وعلى هذا اتفق أهلُ العلم، اتفقوا على أن المنذور إذا كان طاعةً -كالصلاة الشرعية والحج الشرعي وِالصيام الشرعي والصدقة الشرعية والعتق الشرعي ونحو ذلك- فإنه يُوفى به، وإذا كان المنذور معصيةً لم يجز الوفاء به، لكن هل عليه كفارة يمينٍ؟ على قولين للعلماء، أحدهما: لا شيء عليه، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي؟ والثاني: عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما في الصحيح (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “كفارة
__________
(1) سورة التوبة: 75 – 77.
(2) برقمي (6696، 6700).
(3) مسلم (1645) عن عقبة بن عامر.
(3/129)
النذر كفارة يمين”. وفي السنن (1) عنه: “لا نذرَ في معصية، وكفارتُه كفارةُ يمين”.
وإذا كان كذلك فمن نَذَر زيتًا لقبرٍ ليُسْرَج عليه أو للعاكفين عند القبر وسَدَنةِ القبر ونحوهم فهذا نذرُ معصيةِ، فإن الإيقادَ على القبور منهيٌّ عنه، والعكوف عند القبور والمجاورةُ عندها منهي عنه، والإعانة على ذلك إعانة على الإثم والعدوان. ولا يشك أحد من العلماء أنه ليس بطاعةٍ ولا بِرٍّ، وإذا لم يكن كذلك فلا يجب الوفاء بهذا النذر باتفاق المسلمين، فإن الوفاء إنما يجب بنذر الطاعة، لا بنذر المباح ولا المكروه ولا المحرم، بل تنازع العلماء: هل يجب بنذرِ كل طاعةٍ أو نذرِ ما كان جنسه واجبًا بالشرع؟ فقال الأكثرون كمالك والشافعي وأحمد بالأول؟ وقال أبو حنيفة بالثاني، ولهذا لا يجب عنده الوفاء إذا نذرَ إتيانَ مسجدِ المدينة أو مسجدِ بيت المقدس، لأن جنس ذلك ليس واجبًا بالشرع بخلاف إتيان مكة للحج والعمرة، فإن الوفاء بذلك لا نزاعَ فيه، لأن جنس الحج والعمرة واجب بالشرع؛ وعلى قول الجمهور يُوفَى بالنذر في إتيان مسجد المدينة والمسجد الأقصى لمن يقصِد الصلاةَ هناك أو الاعتكافَ، لكن إذا أتَى الفاضلَ أغنى عن المفضول، فمن أتى في نذره ذلك المسجد الحرام أغناه عن الآخرَينِ، ومن أتَى مسجد المدينة أغناه عن الأقصى، وأما المسجد الحرام فهو أفضل المساجد، لا يقوم غيرُه مقامَه، به الطواف، وإليه الصلاة والحج.
__________
(1) أخرجه أبو داود (3290) والترمذي (1524) والنسائي (7/ 26، 27) عن عائشة. قال الترمذي: هذا حديث لا يصح، لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة.
(3/130)
ولا ثوابَ على إعانة العاكفين على القبور والمجاورين عندها بصدقةٍ ولا غيرِها، لا من العوام والفقراء ولا غيرهم. ولا يَصلُح قصدُ المقابرِ للاجتماع على صلاةٍ ولا قراءةٍ ولا غيرها، فإن هذا أعظمُ من صلاة الآحاد عندها، وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فيما رواه أبو داود في سننه (1): “لا تتخذوا قبري عيدًا”. وهذا اتخاذ القبر عيدًا يُعادُ إليه فيجتمع عنده. ولم يقل أحدٌ من علماء المسلمين أن الاجتماع هناك لقراءة القرآن أفضلُ من الاجتماع للقراءة في المساجد والبيوت، بل اتفق المسلمون على أن الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد والبيوت أفضل من الاجتماع لقراءتهِ في مشاهد القبور. وفي الصحيح (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “ما اجتمِع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويتدارسونه بينهم إلا غشِيَتْهم الرحمةُ، ونزلتْ عليهم السكينةُ، وحفَّتْهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده”.
ولم يقل أحدٌ من أئمة الدين أن الميت يُؤجَر على استماعِه للقرآن، وإن قال ذلك بعض المتأخرين الذين ليسوا أئمة، فإنه ثبت في الصحيح (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إذا ماتَ ابنُ آدمَ انقطعَ عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية أو علمٍ يُنتَفع به أو ولدٍ صالح يدعو له”.
فقد أخبر أن عملَه ينقطع من سوى المسمَّى، والاستماع الذي يُؤجَر عليه من الأعمال، والميت يسمع بلا ريبٍ، كما ثبتَ ذلك بالنصوصِ واتفاقِ أهل السنة، كما في الصحيح (4) أنه “يسمع خَفْقَ نعالِهم حتى
__________
(1) برقم (2042) عن أبي هريرة. ورواه أيضًا أحمد (2/ 367)، وإسناده حسن.
(2) مسلم (2699) عن أبي هريرة.
(3) مسلم (1631) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه أحمد (2/ 445) عن أبي هريرة بهذا اللفظ. وهو متفق عليه من حديث أنس.
(3/131)
يُولُّون عنه مُدبرِين”، وأنه لما خاطبَ أهلَ قليب بدرٍ قال (1): “ما أنتم بأسمَعَ لما أقول منهم”. ولهذا أمر الزائر أن يُسَلِّم على الميت، ولولا أنه يسمع السلام لم يُؤمَر بالسلام عليه. وقد قال ابن عبد البر (2): ثبت عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “ما من رجلٍ يَمُرُّ بقبرِ رجلٍ يعرفُه في الدنيا فيُسَلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلامَ”. لكن الإدراك لا يستلزم أن يكون مما يُؤجَر عليه ويُثَابُ عليه، وإن كان الميت يَتنعَّم ببعض ما يسمعه، كما يُعذَّب بالنياحة عليه. وليس تعذيبُه عِقابًا على النياحة، لأنها ليست من عمله، وإنما هي من جنس الآلام التي تَلْحَق العبدَ من غير عملِه، كشَمِّ الروائح الخبيثة وسَمْع الأصواتِ المنكرة ورؤية الأشياء المروِّعة. ولو كان هذا الاستماع مما يُؤجر عليه لكان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين أحقَّ بعمل ذلك.
ولم يكونوا يجتمعون عند القبر لختم القرآن عنده، كما يفعل ذلك بعضُ المتأخرين، بل تنازع العلماء في القراءة عند القبر: فكرهَها أبو حنيفة ومالك وأحمد في أكثر الروايات عنه، ورخَّص فيها في الرواية الأخرى لما بلغَه عن ابن عمر أنه وصَّى أن يُقرأ عند دفنِه بفواتح البقرةِ وخواتمها. والرخصة إمّا مطلقًا وإمّا حالَ الدفنِ خاصةً، ولكن اتخاذ ذلك سنةً راتبةً لم يذهب إليه أحد من أئمة المسلمين.
فإذا كان هذا حال من يقرأ القرآن محتسبًا فكيف من يقرؤه بالكراء، فإن العلماء قد تنازعوا في جواز الاستئجار على تعليم القرآن والفقه والحديث والإمامة في الصلاة والأذان والحج عن الغير، فقيل: يجوز ذلك، كما هو في مذهب الشافعي ومالك قريب منه، وقيل: لا يجوز،
__________
(1) البخاري (3976) ومسلم (2874، 2875) عن أبي طلحة.
(2) في “الاستذكار” (1/ 234). وقد سبق ذكر الحديث والكلام عليه.
(3/132)
كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو أشهر الروايتين عن أحمد. وفيها قول ثالث في مذهب أحمد وغيره: إنه يجوز مع الحاجة دون الغِنَي، كما في وليّ اليتيم (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (1).
ومنشأ النزاع أن الأعمال التي يختصّ فاعلها أن يكون من أهل القربة هل يجوز إيقاعُها على غير وجهِ التقرب؟ فمن قال: لا يجوز ذلك، لم يُجوِّز الإجارة، لأنها بالعوض تقعُ غيرَ قربةٍ، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والله لا يَقبل من العمل إلا ما أريد به وجهُه. ومن جوَّز الإجارة جوَّز إيقاعَها على غير وجه التقرب، ولا تصح الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر، فأما الاستئجار للتلاوة فليس من هذا الباب.
والعلماء متفقون على أنَّ الصدقةَ تَصِل إلى الميت، وكذلك العتق ونحوه من العبادات المالية. وأما العبادات البدنية كالقراءة والصيام والصلاة فلهم فيها قولان مشهوران، ومن جوَّز إلا هذا فلابدّ أن يكون ثواب عمل صالح، وهو ما أُرِيد به وجهُ الله، فإذا وقعت العبادةُ لمجرّد العوض -مثل أن يعطيه عوضًا على صلاته أو صيامه أو قراءته- لم تقع قُربةً، فلا ثوابَ ولا إهداءَ، ولكن نفس حفظ القرآن ودراسته وتعلّمه وتعليمه من الأعمال المقصودة، وإنفاق المال فيها من القربات والطاعات، كإعانة المسلمين على الجهاد والصيام وغيرهما.
وقد قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “من فطَّر صائمًا فله مثل أجره” (2)، وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “من
__________
(1) سورة النساء: 6.
(2) أخرجه أحمد (4/ 114، 116) والترمذي (807) وابن ماجه (1746) عن زيد بن خالد الجهني.
(3/133)
جَهَّزَ غازيًا فقد غَزَا، ومن خَلَفَه في أهلِه بخير فقد غزا” (1). فإعانة المسلمين على تلاوة القرآن وتبليغِه بالمال ونحوه حسن مشروع.
ولهذا لمّا تغيَّر الناس وصاروا يفعلون بدعةً ويتركون شِرعةً، وفي البدعة مصلحةٌ مّا إن تركوها ذهبتِ المصلحةُ ولم يأتوا بالمشروع، صار الواجبُ أمرَهم بالمشروع المصلح لتلك المصلحة مع النهي عن البدعة، وإن لم يمكن ذلك فعِلَ ما يمكن وقُدِّم الراجح. فإذا كانت مصلحةُ الفعل أهمَّ لم يُنْهَ عنه لما فيه من المفسدة إلا مع تحصيل المصلحة، وإن كانت مفسدتُه أهمَّ نُهِي عنه.
وهذه الوقوف التي على التُّرَب فيها من المصلحة بقاءُ حفظ القرآن وتلاوته، وكون هذه الأموال معونةً على ذلك وخاصةً عليه، إذ قد يَدرُسُ حفظُ القرآن في بعض البلاد بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، وفيها مفاسدُ أُخَر: من حصولِ القراءة لغير الله، والتآكل بالقرآن، وقراءتِه على غير الوجه المشروع، واشتغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة، فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون بذلك فالواجب النهيُ عن ذلك والمنع منه وإبطالُه، وإن ظنّ حصول مفسدةٍ أكثر من ذلك لم يدفع أدنى الفسادَيْنِ باحتمال أعلاهما. لهذا جاء الوعيد في حق الشيخ الزاني والملك الكذاب والفقير المستكبر، كما في الصحيح (2): “ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ وملكٌ كذّاب وعائلٌ مستكبر”. وذلك لضعف الموجب لهذه المعاصي في حقّهم.
__________
(1) أخرجه البخاري (2843) ومسلم (1895) عن زيد بن خالد.
(2) مسلم (107) عن أبي هريرة.
(3/134)
فينبغي للمؤمن الذي يَقصِد وجهَ الله إذا أراد اللهَ يُثيبُه ويَرحمُ ميتَه أن يتصدق عنه، ويقصد بذلك من ينتفع بالمال على مصلحةٍ عامة من أهل القرآن ونحوهم، ولا يشترط عليهم إهداء القرآن إلى الميت ولا قراءته عند القبر ونحو ذلك مما يُخرِج العمل عن أن يكون خالصًا لله أو أن يكون غير مشروع، فإن في الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ أمّي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمتْ تصدَّقَتْ، فهلْ لها أجرٌ إن تصدقتُ عنها؟ قال: نعم. وفي البخاري (2) عن ابن عباس أن سعد بن عبادة توفيتْ أمُّه وهو غائبٌ عنها، فأتى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقال: يا رسولَ الله! إن أمّي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدقتُ عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أُشهِدك أنّ حائطِي المخراف صدقة عنها.
وأما الاجتماع يومَ الثالث والسابع وتمام الشهر والحول ونحو ذلك على ما ذكره فهو بدعة مكروهة من وجوه، أحدها: أن إنشاد الشعر الفراقي في المأتم من النياحة، وكذلك كلُّ ما فيه تهييج المصيبة، وكذلك الذين يتسمون الوعّاظ، وإنما هم نوَّاحون. وإذا كان النساء قد نُهِينَ عن ذلك مع ضعفِ قلوبهن فكيف بالرجال؟ مع أن النساء يُباحُ لهنّ من الغناء وضرب الدفّ مالا يباح للرجال، إلا ترى أنه رخّص فيما لا يمكن دفعُه من دمع العين وحُزنِ القلب، والنساءُ نُهِينَ عن الأسباب المهيجة للنياحة من اتباع الجنائز وزيارة القبور سدًّا للذريعة، بخلاف الرجال، فإنهم لقوة قلوبهم لم يُنهَوا عن ذلك.
__________
(1) البخاري (2760) ومسلم (1004).
(2) بأرقام (2756، 2762، 2770).
(3/135)
فتبيَّن أن الرجال أحق بالنهي عن النياحة، لأنهم أقلُّ عذرًا في ذلك من النساء، فهو بمنزلة من ينوح في المصيبة الصغيرة، فهو أحقُّ ممن ناح في مصيبةٍ كبيرة. وفي صحيح مسلم (1) عن أبي مالك الأشعري أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهنّ: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة”. وقال (2): “النائحة إذا لمِ تَتُبْ قبلَ موتها تُقامُ يومَ القيامة وعليها سِربالٌ من قَطِرانٍ ودِرع من جرَبٍ”.
والبكاء المرخَّصُ فيه هو ما كان من دمع العين وحزن القلب، ومع ذلك فلا يصلح استدعاؤه حزنًا، بخلاف البكاء للرحمة، وما كان من اللسان واليد فمنهيُّ عنه، فكيف بالإعانة عليه؟! ففي الصحيحين (3) عن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَعودُه مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وحدَه في غاشيةٍ -وفي لفظ مسلم: في غشية- فقال: “قد قضَى؟ ” قالوا: لا يا رسولَ الله، فبكى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رأى القوم بكاءَه بَكَوا، فقال: “إلا تسمعون؟ إن الله لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذِّب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يَرحَم”.
وعن ابن عباس قال: لمّا ماتت زينب بنت رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فبكت النساء، فجعلَ عمر يَضرِبهن بسوطِه (4)، فأخذ رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بيده
__________
(1) برقم (934).
(2) ضمن الحديث السابق.
(3) البخاري (1304) ومسلم (924).
(4) في الأصل: “بصوته”، وهو تحريف.
(3/136)
فقال: “مهلًا يا عمر”، ثم قال: “إياكنّ ونَعيقَ الشيطان”، ثم قال؟ “مهما كان من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان” (1).
وعن جابر بن عبد الله قال: أخذ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بيد عبد الرحمن بن عوف، فانطلق به إلى ابنه إبراهيم، فوجدَه يَجُود بنفسِه، فأخذه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فوضعَه في حجرِه، فبكَى، فقال له عبد الرحمن: أتبكي؟ أَوَ لم تكن نَهيتَ عن البكاءِ؟ قال: “لا، ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقينِ فاجرين: صوتٍ عند مصيبة خمش وجوهٍ وشَقّ جيوب ورنّة”. رواه الترمذي (2) وقال: حديث حسن، وذكر غيرُه (3) تمامَ الحديث: “وصوتٍ عند نغمة لهوٍ ولعب ومزامير الشيطان”.
وفي الصحيحين (4) عن عبد الله بن مسعود عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “ليس منّا مَن ضَرَب الخدود وشَقَّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية”.
وأما قراءة القرآن في الأسواق والجِبايةُ على ذلك فهذا منهيّ عنه من وجهين:
أحدهما: من جهة قراءته لمسألةِ الناسِ، ففي الحديث: “اقرأوا القرآن واسألوا به اللهَ قبل أن يجيء أقوامٌ يقرأونه يسألون به الناسَ” (5).
__________
(1) أخرجه أحمد (1/ 237 – 238، 335) والطيالسي في “مسنده” (2694).
وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان ويوسف بن مهران.
(2) برقم (1005).
(3) أخرجه أبو يعلى والبزار كما في “مجمع الزوائد” (3/ 17)، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ، وبقية رجاله ثقات.
(4) البخاري (1297 ومواضع أخرى) ومسلم (103).
(5) أخرجه أحمد (4/ 432 – 433، 436، 439، 445) والترمذي (2917) عن=
(3/137)
والثاني: من جهة ما في ذلك من ابتذال القرآن بقراءته لمن لا يستمع إليه ولا يُصغِي إليه.
وأما قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – “إن الميت يُعذب ببكاء أهلِه، ومن نِيْحَ عليه يُعذب بما يناحُ عليه” فهذا حديث صحيح ثابت عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من رواية عمر بن الخطاب وابنِه والمغيرة بن شعبة وغيرهم (1)، ولكن أَشْكَلَ معناه على طوائف حتى تفرَّقوا فيه:
فمنهم من طعن فيه؛ وظَنَّ أن راويَه لم يحفظْه، كما قالت عائشة ومن معها، كالشافعي في كتاب “مختلف الحديث” (2). ثم روت عائشة لفظين: أحدهما مناسبٌ معناه، وهو قوله: “إن الله يزيد الكافر ببكاء أهله عليه”، وجعلوا الموجبَ لضَعْفِه قولَه تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (3).
وأما جماهير السلف والخلف فعلموا أن مثل هذا التأويل لا يَصلُح أن يُرَدَّ به أحاديثُ ثابتةٌ عن رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وإن كانوا من صغار الصحابة كجابر وأبي سعيد، فكيف بما يرويه عمر ونحوه؟ وذلك أن قوله (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) إنما فيه أن المذنب لا يَحمِلُ ذنبَه غيرُه، وهذا حق لا يخالف معنى الحديث، فإن الحديث ليس فيه أن الميت يحمل ذنب الحيّ، بل الحيُّ النائحُ يُعاقَبُ على نياحتِه عقوبةً لا يحملُها عنه الميّتُ، كما دلَّ على ذلك القرآن. وأما كون الميّت يتألَّم
__________
=عمران بن حصين. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وانظر “الصحيحة” للألباني (257).
(1) انظر صحيح البخاري (1286 – 1292) ومسلم (927 – 933).
(2) ص 649.
(3) سورة الأنعام: 164.
(3/138)
بعمل غيرِه فهذا شيء آخر، كما أنه يَنْعَم بعمل غيرِه لشيء آخر لا ينافي قولَه (وَأَن ليَس لِلإِنسَانِ إلا مَا سَعَى) (1).
ومن الناس من تأوَّل على ما إذا لم يَنْهَ عنه مع اعتيادهم له، فيكون ذلك إقرارًا للمنكَر يُعذَّب عليه. وهؤلاء ظنُّوا أنّ عذابَ الميت عقوبةٌ، والعقوبة لا تكون إلا على ذنب، فاحتاجوا أن يجعلوا للميت ذنبًا يُعاقَب عليه، وليس كذلك، بل العذاب قد يكون عقابًا على ذنب، وقد لا يكون. قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “السفر قطعةٌ من العذاب” (2).
والنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يقل: إنه يعاقب، بل يُعذَّب.
وقد جاء ذلك مفسرًا، كما رواه البخاري في صحيحه (3) عن النعمان بن بشير قال: أُغْمِيَ على عبد الله بن رواحة، فجعلتْ أختُه تبكي واجبلاه! واكذا واكذا! تعدّ عليه، فقال حين أفاق: ما قلتِ شيئًا إلا وقد قيل لي: أنت كذلك؟ فلما مات لم تَبْكِ عليه.
وعن أبي موسى أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “إنّ الميتَ يُعذَّب ببكاء الحيّ، إذا قالت النائحةُ: واعَضُداه! واناصراه! واكاسياه! جُبذَ الميتُ وقيل له: أنت عضدها؟ أنتَ ناصرُها؟ أنت كاسيها؟ “. رواه الإمامَ أحمد في المسند (4).
وروى الترمذي (5) عن أبي موسى أن رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “ما من
__________
(1) سورة النجم: 39.
(2) أخرجه البخاري (1804، 3001، 5429) ومسلم (1927) عن أبي هريرة.
(3) برقم (4267).
(4) 4/ 414. وأخرجه أيضًا الحاكم في “المستدرك” (2/ 471). وفي إسناده زهير بن محمد، هو أبو المنذر الخراساني الشامي، وهو ضعيف. ولكن تابعه عبد العزيز الدراوردي عند ابن ماجه (1594).
(5) برقم (1003).
(3/139)
ميِّتٍ يموتُ فيقومُ باكيهم فيقول: واجَبَلاه! واسنداه! أو نحو ذلك إلا وُكِّلَ به ملكان يَلْهَزَانِه أهكذا أنت؟ “. قال الترمذي: حديث حسن غريب.
وفي سنن أبي داود (1) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال لنسوةٍ في جنازةٍ: “ارجعنَ مأزوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ، فإنكنّ تَفْتِنَّ الحيَّ وتُؤذِيْنَ الميتَ”.
فهذا ونحوه هو تعذيب الميت بالنياحة. والحيُّ في الدنيا قد يُعذَّب بما يراه ويسمعه ويَشَمُّه من أمورٍ منفصلةٍ عنه، وهو التعذيب الذي يلحق من جنس سائر ما يلحقه من هولِ الفتنة والضغطة وهول القيامة وغير ذلك من أنواع الآلام. والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضع (2).
وأما قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – “إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم” (3) وأشار إلى لسانه، فهذا أيضًا حق، وهذا كقوله: “ما كان من اليد واللسان فمن الشيطان، وما كان من العين والقلب فمن الله” (4). والميت إنما يعذّب بما نُهِيَ عنه لا بما أبيح له، ولهذا جاء مفسَّرًا أنه النياحة، وهو البكاء بالمدّ، فإن من الناس من يقول: البكاء بالمدّ هو الصوت، وأما بالقصر فهو الدمع، زيادة اللفظ كزيادة المعنى، ويُنشدون:
__________
(1) لم أجده فيه، وقد أخرجه ابن ماجه (1578) والبيهقي (3/ 77) من حديث علي، وهو ضعيف. انظر الكلام عليه في “الضعيفة” (2742).
(2) انظر “مجموع الفتاوى” (24/ 369 – 378).
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق.
(3/140)
بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكَاهَا … وما يُغنِي البُكاءُ ولا العَوِيلُ (1)
وأما من يكون في المسجد من مُصَلٍّ وقارئ ومحدِّث ومُفتٍ ونحوهم من يفعل في المسجد ما بُنِيَ له المسجد، فليس لبعضهم أن يُؤذي بعضًا، ففي السنن (2) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَرج على أصحابه وهم يُصلُّون ويجهرون بالقرآن، فقال: “أيها الناسُ! كلكم يُناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة”. فنهى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – المصلِّين أن يجهر بعضُهم على بعضٍ بالقراءة. ومن هذا أن يكون القوم قد صَلَّوا وهم يذكرون الله بعد صلاة الفجر وغيرِه، فيقوم بعضُ من يُصلي منفردًا أو مسبوقًا، فيرفع صوتَه عليهم بالقراءة حتى يَشغَلَهم.
والمنفرد لا يُستحبُّ له الجهر عند كثير من العلماء، كأحمد في المشهور عنه وغيره، فإن الجهر إنما يُشْرَع للإمام الذي يُسمِع المأمونين، ولهذا قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “وإذا قرأ فأنصتوا” (3). ومن استحبَّ الجهر للمنفرد فإنه ينهاه عن جهرٍ يرفعُ به صوتَه على غيرِه كما نهى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل يَجهر جهرًا خفيًّا أو يَدَعُه، لما فيه من إيذاء الغير الذي يُنهَى عن إيذائهم. ألا ترى أن استلامَ الحجر وتقبيله مستحب، فإذا كان هناك زحمة وفي ذلك إيذاءٌ للناس فإنه يُنهَى عنه، كما نهى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
__________
(1) البيت نُسِب لكعب بن مالك في “لسان العرب” (بكا) ولعبد الله بن رواحة في “تاج العروس” (بكى) ولحسان بن ثابت في “جمهرة اللغة” (ص 1027). وانظر الخلاف في نسبته في “شرح شواهد شرح الشافية” (ص 66).
(2) لأبي داود (1332) من حديث أبي سعيد.
(3) أخرجه أحمد (2/ 420) وأبو داود (604) وابن ماجه (846) من حديث أبي هريرة. قال أبو داود: “وهذه الزيادة (وإذا قرأ فأنصتوا) ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد!. ومنهم من صحح هذه الزيادة، والكلام في هذا الحديث طويل.
(3/141)
عمر عن ذلك، ففي المسند (1) عن عمر أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال له: “يا عمر! إنك رجل قوي، لا تُزاحِم على الحجر فتُؤذي الضعيف، إن وجدتَ خلوةً فاستلمْه، وإلاّ فاستقبلْه وهَلِّلْ وكبِّرْ”. وعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حين فرغنا من الطواف بالبيت: “كيف صنعتَ يا أبا محمد في استلامِ الركن؟ “، قلت: استلمتُ وتركتُ، قال: “أصبتَ” رواه أبو حاتم ابن حبّان في صحيحه (2) والطبراني في معجمه (3).
وهذا كما أن رفع الصوت بالتلبية والأذان ونحو ذلك سنة، ثم لما كان رفعُ المرأةِ صوتَها مفسدةً نُهِيَ عَمَّا فيه المفسدة، وجُعِلَ جهرُها بالتلبية بقدرِ ما تَسْمَع رفيقتُها. وأمثال ذلك في الشريعة كثير، والله أعلم.
قاله أحمد بن تيمية أيّده الله تعالى.
__________
(1) 1/ 28.
(2) كما في “موارد الظمآن” (999).
(3) لم أجده في المطبوع منه.
(3/142)
فتوى فيمن يُعظِّم المشايخ ويستغيث بهم ويزور قبورَهم
(3/143)
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في قومٍ يُعظِّمون المشايخ، بكون أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرَّعون إليهم، ويزورون قبورَهم ويُقبِّلونها ويتبرَّكون بترابها، ويُوقِدون المصابيح طولَ الليل، ويتخذون لها مواسم يقدمون عليها من البعد يسمونها ليلةَ المَحْيَا، فيجعلونها كالعيد عندهم، وينذرون لها النذور، ويُصلُّون عندها.
فهل يَحِلُّ لهؤلاء القوم هذا الفعلُ أم يَحرُم عليهم أم يُكْرَه؟ وهل يجوز للمشايخ تقريرُهم على ذلك أم يجب عليهم منعُهم من ذلك وزَجْرُهم عنه؟ وما يجب على المشايخ من تعليم المريدين وما يُوصُونهم به؟ وهل يجوز لهم أن يكتبوا لهم إجازاتٍ بالمشيخة على بلادٍ أخرى؟ وهل يجوز تقريرهم على أخذ الحيّات والنار وغير ذلك أم لا؟ وماذا يجب على أئمةِ مساجدَ يحضرون سَماعَهم ويوافقونهم على هذه الأشياء؟ وما يجب على وليّ الأمر في أمرِهم هذا؟ أفتونا مأجورين.
أجاب الشيخ الإمام العالم العامل شيخ الإسلام بقيةُ السلف طِرازُ الخَلَف بحرُ العلوم ناصرُ الشريعة قامعُ البدعة تاجُ العارفين إمام المحققين العارف الرباني الناسك النوراني علاَّمة الوقت مفتي الفِرق تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرَّاني الحنبلي -رضي الله عنه وأرضاه، ورَزَقَه ما رَزَقَ أولياءَه-، قال:
الحمد لله رب العالمين. من استغاث بميِّتٍ أو غائب من البشر بحيثُ يدعوهُ في الشدائدِ والكُرُبات، ويَطلُب منه قضاءَ الحوائج،
(3/145)
فيقول: يا سيِّدي الشيخ فلان! أنا في حسبك وجِوارِك؟ أو يقول عند هجوم العدوِّ عليه: يا سيِّدي فلان! يَستوحِيْه ويَستغيثُ به؟ أو يقول ذلك عند مرضِه وفقرِه وغيرِ ذلك من حاجاتِه-: فإن هذا ضالٌّ جاهلٌ مشركٌ عاصٍ لله باتفاقِ المسلمين، فإنهم متفقون على أن الميت لا يُدعَى ولا يُطلَب منه شيء، سواءٌ كان نبيًّا أو شيخًا أو غيرَ ذلك.
ولكن إذا كان حيًّا حاضرًا، وطلب منه ما يَقدِرُ عليه من الدعاء ونحو ذلك، جاز، كما كان أصحاب رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يطلبون منه في حياته، وكما يُطلَب منه الخيرُ يومَ القيامة. وهذا هو التوسُّلُ به والاستغاثة التي جاءت به الشريعة، كما ثبت في صحيح البخاري (1) وغيرِه عن أنس بن مالك: أن الناس لمَّا أَجْدَبُوا استسقَى عمرُ بالعبّاس، فقال: “اللهمَّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبْنا نتوسَّلُ إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسَّل إليك بِعَمِّ نبيِّنا فَاسْقِنا”، قال: فيُسْقَون. فكان توسُّلُهم بالنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في حياته هو توسُّلهم بدعائه وشفاعتِه، فلما ماتَ توسَّلُوا بدعاءِ عمِّه العباس وشفاعتِه، لقُربِه منه، ولم يتوسَّلُوا حينئذٍ برسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا استغاثوا به، ولا ذهبوا إلى قبرِه يدعون عنده. فإنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان قد سَدَّ الذريعة في هذا الباب، حتى قال: “لا تتخذوا قبرِي عيدًا، وصَلُّوا عليَّ حيثُما كنتم، فإن صلاتكم تَبلُغني” (2). وقال: “اللهمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد” (3). وقال: “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ” يُحذِّر ما فَعَلُوا (4). وقال: “إن من كان قبلكم كانوا
__________
(1) برقمي (1010 و 3710). ورواه ابن خزيمة في “صحيحه” (1421).
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق تخريجه.
(3/146)
يتخذون القبور مساجدَ، إلا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك” (1).
فلهذا قال العلماء -رضي الله عنهم-: إنه يَحرُمُ بناءُ المساجد على القبور. فإذا كان قبورُ الأنبياء والصالحين لم تُتَّخذْ مساجدَ، والصلاةُ عندها لله تعالى قد نهى عنها رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لئلا تكون ذريعةً إلى الشرك، فكيف إذا كان صاحبُ القبر يُدعَى ويُسْأَل ويُقْسَم على الله به ويُسْجَد لقبرِه أو يُتَمسَّح به؟ فإنّ هذا شركٌ صريح.
وقد قال الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ (2). وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)) (3).
وقال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والنبيين كالمسيح وعُزَير، فقال الله تعالى: إنّ هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويتقربون إليَّ كما تتقربون إليَّ، ويخافوني كما تخافوني.
وقد قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سورة سبأ: 22 – 23.
(3) سورة الإسراء: 56 – 57.
(3/147)
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (1). فبيَّن سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا كفرٌ، وهذا إنما كان بدعائهم من دون الله، لا بأنهم اعتقدوا أنهم شاركوه في خلق السماوات والأرض، فإنّ هذا لم يَقُلْه أحدٌ.
ولهذا قال عن النصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (2). فبيَّن أن النصارى مشركون من حيث اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيحَ ابن مريم، ولم يقل أحد من النصارى أن الأحبار والرهبان شاركتِ الله في خلق السماوات والأرض. فإذا كان الداعي المستغيث بمن مات من الأنبياء مشركًا فكيف من دَعا ميّتًا غيرَ الأنبياء واستغاث به؟!
ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين: زيارة بدعية، وزيارة شرعية.
فالزيارة الشرعية مقصودُها الدعاءُ للميت كما يُصلَّى على جنازته، فيقال فيها (3): “السلامُ عليكم دارَ قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافيةَ في الدنيا والآخرة، اللهمَّ لا تَحْرِمْنا أجرَهم، ولا تَفْتِنَّا بعدَهم، واغفر لنا ولهم”. فهذا من جنس الصلاة على الميت.
__________
(1) سورة آل عمران: 79 – 80.
(2) سورة التوبة: 31.
(3) أخرجه مسلم (975) عن بريدة، دون الجزء الأخير، فهو من الدعاء في صلاة الجنازة.
(3/148)
وأما الزيارة البدعية فهي من جنس الشرك به من جنس النصارى، مثل: دعاءِ الميِّت والاستغاثة به، والإقسام به على الله تعالى، وتقبيل قبره والتسمح به، والسجود له، وتعفير الخدِّ عنده، ونحو ذلك ممَّا يتضمن طلب الحاجات منه أو بسببه. فليس شيء من هذا من جنس دين المسلمين، ولم يَشرعْ رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – شيئًا من هذا، ولا فَعَلَه أصحابُه، ولا استحبَّ ذلك أحدٌ من أئمة المسلمين، بل قد نَهَوْا عنه. حتى قد اتفق أئمةُ المسلمين على أنّ قبرَ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لا يُقَبَّل ولا يُتمسَّحُ به ولا يُسْجَد عنده. فإذا كان هذا قبره فكيف يكون قبرُ غيرِه؟ وهو أفضل الخلق وأكرمهم على الله، وأقربهم إليه وسيلةً، وأعظمهم عنده جاهًا.
والحديث الذي يرويه بعض الناس عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي” حديث موضوع (1)، لم يَروِه أحدٌ من أهل العلم، ولا ذُكِرَ في شيء من كتب المسلمين المعروفة.
وكذلك إيقادُ المصابيح وتعليقُ الستورِ على قبور الأنبياء والصالحين من أهلِ البيت وغيرِهم ليس شيءٌ من ذلك مشروعًا باتفاق المسلمين جميعًا، ولم يفعل ذلك أحدٌ من الأمَّة ولا أئمتُها، ولا استحبَّه أحدٌ من أئمة الدين. بل في السنن (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لعنَ الله زوّاراتِ القبور والمتخذين عليها السُّرُجَ والمساجدَ”. قال الترمذي: حديث حسن.
__________
(1) تكلم عليه المؤلف في مواضع من “مجموع الفتاوى” (1/ 319، 346، 24/ 335، 27/ 126)، وذكر أنه لا أصل له.
(2) لأبي داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/ 94) وابن ماجه (1575) عن ابن عباس.
(3/149)
ومن نَذَر لقبرٍ زيتًا أو شمعًا أو قناديلَ أو سِتْرًا أو نحو ذلك لم يكن هذا نَذْرَ طاعةٍ، ولم يكن على أحدٍ أن يوفيَ به، وما أعلمُ في هذا نزاعًا بين العلماء. ولكن هل عليه كفّارة يمينٍ أم لا؟ فيه قولان.
وكذلك الاجتماع عند قبرٍ من القبور لقراءةِ ختمةٍ أو دعاءٍ أو ذكرٍ أو عَملِ سَماع أو غيرِ ذلك هو من البدع المنهيِّ عنها؟ فإنّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “لا تتخذوا قبري عِيدًا”، رواه أهلَ السنن كأبي داود وغيره (1). فإذا كان قد نُهِيَ عن اتخاذِ قبرِه عيدًا، فقَبْرُ غيرِه أولى بالنهي عن ذلك. والمكان الذي يتخذ عيدًا هو أن يعتاد الناسُ للاجتماع فيه في وقتٍ معيَّنٍ، كما يعتادون الاجتماع فيه بعرفةَ ومزدلفةَ ومِنَى، وكذلك الزمان الذي يُتَّخذ عِيدًا هو الزمان الذي يعتادون الاجتماع فيه، كيومَي الفِطر والنحر.
والمشركون الذين كفَّرهم رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقاتَلَهم واستباحَ دماءَهم وأموالَهم من العرب لم يكونوا يقولون: إنَّ آلهتَهم شاركتِ اللهَ في خلق السماوات والأرض والعالم، بل كانوا يُقِرُّون بأن الله وحدَه خالق السماوات والأرض والعالم، كما قال الله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ) (2)، وقال تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) (3) الآيات إلى قوله (تُسْحَرُونَ (89)) وقد قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)) (4).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سورة لقمان: 25 وسورة الزمر: 38.
(3) سورة المؤمنين: 84 – 89.
(4) سورة يوسف: 106.
(3/150)
قال طائفة من السلف: يسألهم مَن خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم يعبدون غيره. وإنما كانت عبادتهم إيَّاهم أنهم يدعونهم ويتخذونهم وسائطَ ووسائلَ وشُفعاءَ لهم، فمن سلكَ هذا السبيلَ فهو مشرك بحسب ما فيه من الشرك.
وهذا الشركُ إذا قامت على الإنسان الحجةُ فيه ولم يَنتهِ، وَجَبَ قتلُه كقتلِ أمثالِه من المشركين، ولم يُدفَنْ في مقابرِ المسلمين، ولم يُصَلَّ عليه. وإمَّا إذا كان جاهلًا لم يَبلُغْه العلمُ، ولم يَعرِف حقيقةَ الشرك الذي قاتلَ عليه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – المشركين، فإنه لا يُحكَم بكُفْرِه، ولاسِيَّما وقد كَثُر هذا الشركُ في المنتسبين إلى الإسلام، ومن اعتقدَ مثلَ هذا قُربةً وطاعةً فإنه ضَالٌّ باتفاقِ المسلمين، وهو بعد قيامِ الحجة كافر.
والواجبُ على المسلمين عمومًا وعلى وُلاةِ الأمور خصوصًا النهيُ عن هذه الأمور، والزَّجْرُ عنها بكلِّ طريق، وعقوبةُ مَن لم ينتهِ عن ذلك العقوبةَ الشرعيةَ، والله أعلم.
فصل
والواجب على المشايخ أن يأمروا أتباعَهم بطاعةِ الله ورسوله، فيفعلوا ما أمر الله ورسولُه به، ويتركوا ما نَهى الله ورسولُه عنه، ويَتَبعوا كتابَ الله وسنةَ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكن المقصود بذلك دعوتهم إلى عبادة الله وحدَه لا شريك له وطاعة رسوله. والشيوخُ يبلِّغون عن الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لما أمر به أمته من الدين الذي أمر الله به، ويتبعون لخلفائه الراشدين، كما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنه من يَعِشْ منكم فسَيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، تَمسَّكوا بها
(3/151)
وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور، فإنّ كلَّ بدعةٍ ضلالة” (1).
والوصية الجامعة من وصية الله التي وَصَّى بها عبادَه حيث قال. (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) (2). ولما بعثَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – معاذًا إلى اليمن وصَّاه ثلاثَ وَصايا، فقال: “اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأَتْبعِ السَّيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالقِ الناسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ” (3).
وأما كتابة الإجازات فهي بمنزلة الشهادة للرجلِ أنه أهلُ المَشْيَخةِ، وبمنزلةِ أمرِ الناس بمتابعتِه وطاعتِه، وليس لأحدٍ أن يَفعلَ هذا إلا أن يكونَ عالمًا بمن يَصْلُح للقدوة والاتباع، ومن لا يَصْلُح أن يكون عدلًا فيما يقوله ويأمُر به. فمن كان جاهلًا بطريقِ الله الذي بَعثَ به رسولَه، أو كان صاحبَ غرضٍ يكتب الإجازةَ لمن يُعطِيه مالًا ويَخدِمُه، إن لم يكن مستحقًّا لذلك لم يكن لمثل هذا أن يكتب إجازة، ولا حرمةَ لمن كتبَ له مثلُ هذا إجازة، لاسيَّما إذا كان مضمون الإجازة أن يُعطوه أموالَهم. فهذه إجازةُ الشحَّاذين والسُّوَّال،
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 126) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (43 – 44) عن العرباض بن سارية.
(2) سورة النساء: 131.
(3) اختلفت الروايات في أنّ هذه الوصايا وصَى بها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أبا ذر أو معاذًا، وقد أخرجها أحمد (5/ 153، 158، 177) والدارمي (2794) والترمذي (1987).
قال وكيع: وقال سفيان مرةً “عن معاذ”، فوجدتُ في كتابي “عن أبي ذر” وهو السماع الأول. قال أحمد: وكان حدثنا به وكيع عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ، ثم رجع. وقال محمود بن غيلان بعدما رواه من حديث معاذ: والصحيح حديث أبي ذر.
(3/152)
وليس هذا من حكم طريق الله.
ومن قَبَضَ أموالَ الناسِ على أن يُعطِيَها مستحقَّها فلابُدَّ أن يكون هذا عالمًا بالمستحقين عدلًا يُعطي المالَ لمستحقِّيْه. وأما إذا أخذ أموالَ الناسِ يُطعِم بها مَن يُعاوِنُه على أغراضِه، ويأمر بغير ما أمر الله به، وينهى عن شرع الله ودينِه، فهذا من الآكلين أموالَ الناسِ بالباطلِ والصَّادِّيْنَ عن سبيل الله. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (1).
وإنما الشيوخ الذين يَستحقُّون أن يَكُونوا قدوةً متبعين هم الذين يدعون الناسَ إلى طريقِ الله، وهو شرع الله ودينُه الذي بُعِثَ به رسولُه محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ويَصرِفون الأموالَ في مَصارفِها الشرعية التي يُحِبُّها الله ورسولُه، فيكونون داعينَ إلى الله مُنفِقين الأموالَ في سبيل الله.
وكلُّ من أظهرَ هذه الإشاراتِ البدعية التي هي فُشاراتٌ، مثل إشارة الدم واللاذن والسكر وماء الورد والحيَّة والنّار، فهم أهلُ باطلٍ وضلالٍ وكذب ومحالٍ، مستحقُّون التعزيرَ البليغَ والنَّكال، وهم إمَّا صاحبُ حالٍ شيطاني، وإمَّا صاحبُ حالٍ بُهتاني، فهؤلاء جمهورُهم، وأولئك خواصُّهم. وهؤلاء يجب عليهم أن يتوبوا من هذه البدع والمنكرات، ويَلْزَموا طريقَ الله الذي بعث به رسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ليس لهم أن يكونوا قدوةً للمسلمين، وليس لأحدٍ أن يَقتدِيَ بهم.
ومن كَثَّر جَمْعَهم الباطلَ، وحَضَر سَماعاتِهم التي يفعلونها في
__________
(1) سورة التوبة: 34.
(3/153)
المساجد وغيرِها، أو حَسَّنَ حَالَهم، أو قَرَّرَ مُحالَهم من أئمة المساجد ونحوهم، فإنه مستحقٌّ التعزيرَ البليغَ الذي يَستحِقُّه أمثالُه. وأقلُّ تعزيرِه أن يُعزَل مثلُ هذا عن إمامة المسلمين، فإن هذا مُعِيْنٌ لأئمة الضلالة، أو هو منهم، فلا يَصلُح أن يكون إمامًا لأهلِ الهدى والفلاح. قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى اَلِبرِّ وَاَلتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنوُاْ عَلَى الإثمِ وَالعُدوَانِ) (1)، وقال تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)) إلى آخرها (2). وقال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)) (3). والله تعالى أعلم.
***
__________
(1) سورة المائدة: 2.
(2) سورة العصر: 1 – 3.
(3) سورة آل عمران: 104.
(3/154)
مسألة في تأويل الآيات وإمرار أحاديث الصفات كما جاءت
(3/155)
مسألة
سُئِل عنها الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد الورع أوحدُ أهلِ زمانِه شيخُ الإسلام تقي الدين أبو العباس (1) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني -رضي الله عنه وأرضاه- وهو بالديار المصرية، في قوله تعالى (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) الآية (2)، وقوله (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (3)، وقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ينزل ربنا كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا (4) … ” الحديث (5). وقد تأوَّل طائفةٌ هذه الآيات وأمثالَها من آياتِ الصفاتِ التي أنزلَها الله تعالى، ولم يتأوَّلوا هذا الحديثَ ولا أمثاله من أحاديثِ الصفات. وقد قال طائفة: إذا تأولنا هذه الآيات احتملَتْ هذه الأحاديثُ أيضًا التأويلَ. فما الحجة في تأويل الآيات وإمرارِ الأحاديث كما جاءت؟ بَيِّنوا لنا الصواب في ذلك.
أجاب رضي الله عنه
الحمد لله. الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها
أن يقال: يجب اتباعُ طريقةِ السلف من السابقين الأولين من
__________
(1) في الأصل: “أبي العباس”.
(2) سورة المجادلة: 7.
(3) سورة الحديد: 4.
(4) في الأصل: “الدنى”.
(5) أخرجه البخاري (1145، 6321، 7494) ومسلم (758) عن أبي هريرة. وفي الباب عن غيره من الصحابة.
(3/157)
المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ، فإنّ إجماعَهم حجةً قاطعة، وليس لأحد أن يخالفَهم فيما أجمعوا عليه، لا في الأصول ولا في الفروع. وحكى غيرُ واحدٍ من أهل العلم بآثارهم وأقوالِهم قالوا في قوله (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) (1) ونحوه: إنه بعِلمِه (2)، وحَكَوا إجماعَهم على إمرارِ [آيات] الصفات وأحاديثها وإنكارَهم على المحرِّفين لها.
ولهذا لا يَقدِر أحد أن يَحكِيَ عن أحدٍ من الصحابة والتابعين وغيرهم من سلف الأمَّة بنقلٍ صحيح أنه تأوَّلَ الاستواءَ بالاستيلاءِ أو نحوِه من معاني أهل التحريف، بل ينقل عنهم أنهم فسروا الآية بما يَقتضي أنه سبحانَه فوقَ عرشِه، ويُمكِنُه أن ينقلِ بالإسناد الصحيح أنهم قالوا في قوله (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) أنهم قالوا: بعلمه.
قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب “التمهيد في شرح الموطأ” (3) لمَّا شَرحَ حديث النزول، قال: هذا حديث لم يختلفْ أهلُ العلم في صحتِه، وفيه دليل [على] أن الله في السماء على العرش كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة. وهذا أشهرُ عند العامة والخاصة، وأَعرَفُ من أن يحتاجَ إلى أكثر من حكايتِه، لأنه اضطرارٌ، لم يُؤَنِّبْهم (4) عليه أحدٌ ولا أنكرَه عليهم مسلمٌ.
__________
(1) سورة المجادلة: 7.
(2) انظر: تفسير الطبري (28/ 10) و”السنة” لعبد الله بن أحمد (ص 71 – 72) و”شرح أصول اعتقاد أهل السنة” للالكائي (3/ 400 – 402) و”الشريعة” للآجري (ص 289).
(3) 7/ 128، 129، 134.
(4) في الأصل: “يوقفهم”، والتصويب من التمهيد. وينظر تمام السياق هناك.
(3/158)
وقال أبو عمر أيضًا (1): أجمعَ علماءُ الصحابة والتابعين الذين حُمِلَ عنهم التأويلُ قالوا في تأويل قوله (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ): هو على العرش، وعِلمُه في كل مكان. وما خالفهم في ذلك أحدٌ يُحتَجُّ بقوله.
وقال أيضًا (2): أهل السنة مُجمِعون على الإقرارِ بالصفاتِ الواردة في الكتاب والسنة، وحَمْلِها على الحقيقةِ لا على المجاز، إلا أنهم لا يُكَيِّفون شيئًا من ذلك. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلُّهم يُنكِرها، ولا يَحمِلُ شيئًا منها على الحقيقة، ويزعم أنّ من أقرَّ بها مُشبِّه، وهم عند مَن أقرَّ بها نَافُونَ للمعبود.
وقال الشيخ أبو بكر الآجُرِّي في كتاب “الشريعة” (3) في باب التحذير من مذهب الحلولية: الذي يذهب إليه أهلُ العلم أن الله على عرشِه فوقَ سماواتِه، وعِلمُه محيط بكل شيء، قد أحاطَ بجميع ما خلقَ في السموات العلي، وبجميع ما في سبع أرضين، يُرفَع إليه أعمالُ العباد.
فإن قال قائل: فما معنى (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) الآية التي يحتجون بها؟
قيل له: علمُه، والله على عرشِه، وعلمُه يُحيط بهم. هكذا فسَّره أهلُ العلم، والآية يدكُ أوَّلُها وآخرُها على أنه العلم وهو على عرشه. هذا قول المسلمين.
__________
(1) 7/ 138، 139.
(2) 7/ 145.
(3) ص 288.
(3/159)
وقال الشيخ أبو عبد الله بن بَطَّة في كتاب “الإبانة” (1): باب الإيمان بأن الله على عرشه بائن من خلقِه، وعِلمُه محيط بخلقه: أجمعَ المسلمون من الصحابة والتابعين أن الله على عرشِه فوقَ سماواته بائنٌ من خلقهِ. فأما قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) فهو كما قالت العلماء: عِلْمُه. وأما قوله (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) (2) معناه أنه هو الله في السماوات وهو الله في الأرض، وتصديقُه في كتاب الله: (وَهُوَ الَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِى الأَرضِ إِلَهٌ) (3). واحتجَّ الجهمي [بقول الله تعالى] (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)، فقال: إن الله معنا وفينا. وقد فسَّر العلماءُ أن ذلك علمه. ثم قال في آخرها (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)) (4).
فهؤلاء وأمثالُهم الذين هم من أعلم الناس بأقوال السلف من الصحابة والتابعين، وكلٌّ منهم له من المصنَّفات المشهورة ما فيه العلم بأقوال السلف وآثارِهم، ما يعلم أنهم أعلم بذلك من غيرهم، وقد حَكَوا إجماعَ السلف كما ترى.
الوجه الثاني
أن يقال: الكلام في الآيات والأحاديث كلِّها على طريقةٍ واحدة، والتأويل الذي ذمَّه السلفُ والأئمة هو تحريف الكلام عن مواضعه، وإخراجُ كلامِ الله ورسوله عما دَلَّ عليه وبيَّنه الله به. وقد حَدَّه طائفةٌ
__________
(1) انظر “المختار من الإبانة” (تتمة الرد على الجهمية) 3/ 136، 143، 144.
(2) سورة الأنعام: 3.
(3) سورة الزخرف: 84.
(4) سورة المجادلة: 7.
(3/160)
بأنه صَرْفُ الكلام عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بغير دليل. فقوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ونحوها من الآيات ليس ظاهرُها ولا مدلولُها ولا مقتضاها ولا معناها أن يكون الله مختلطًا بالمخلوقين ممتزجًا بهم، ولا إلى جانبهم متيامنًا أو متياسرًا، ونحو ذلك، لوجوه:
أحدها: أنه لم يَقُل أحدٌ من أهل اللغة إنَّ المعيَّةَ تقتضي الممازجةَ والمخالطةَ، ولا تُوجبُ التيامنَ ولا التياسُرَ (1) ونحو ذلك من المعاني المنفيَّةِ عن الله مع خَلْقِه، وإنما تقتضي المصاحبة والمقارنةَ المطلقةَ.
الثاني: أنه حيث ذُكِر في القرآن لفظ المعيّة فإنه لم يَدُلَّ على الممازجة والمخالطة، كما في قوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (2)، فليس معنى ذلك أن ذاتَ المؤمنين ممتزجةٌ بذاته. وكذلك قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) (3)، والمجاهد معهم ليست ذاتُه ممتزجةً بذواتهم ولا مماسَّةً لذواتِهم. وقال تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)) (4)، وليس المراد أن ذاتَه تمتزجُ بذواتهم ولا مماسَّة لها. وقال تعالى: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)) (5)، وقال تعالى: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)) (6).
__________
(1) ما بعده في الأصل غير متصل بما قبله. وقد وجدتُ ما يُكمله في الورقة (53 ب/ سطر 8).
(2) سورة الفتح: 29.
(3) سورة الأنفال: 75.
(4) سورة التوبة: 119.
(5) سورة هود: 40.
(6) سورة الشعراء: 119.
(3/161)
وهذا كثير في كتاب الله، وليس في شيء من ذلك أن معنى المعيَّة أن يكون أحدهما حالًا في الآخر ولا ممتزجًا به ولا مختلطًا به، فمن قال: إن ظاهرَ قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) ونحو ذلك أن يكون الله مختلطًا بالمخلوقين وممتزجًا بهم وحالًا فيهم أو مماسًّا لهم ونحو ذلك، فقد افترى على القرآن وعلى لغة العرب، وادَّعى أن هذا الكفر هو ظاهر القرآن، وهو كَذِبٌ على الله ورسوله بلا حجة ولا برهانٍ.
وغاية ما يُقال: أن لفظ “مع” ظرفٌ أو ظرفُ مكانٍ، فيقتضي أن يكون المتعلق بهذا الظرف مكانًا (1) من المضاف إليه، كما في قول القائل: هذا فوقَ هذا، فإن “فوق” من ظروف المكان، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون المكان عن يمين المضاف إليه أو عن شمالِه، ولا يقتضي أن يكون عن يمينه وشمالِه جميعًا، بل أكثرُ ما يَقتضي مطلقُ المكان، فإذا قُدِّر أنه (2) فوقَ المضاف إليه لم يكن هذا مخالفًا لظاهر المعية.
ومن قال: إنه لابُدَّ في المعية من أن يكون ما مع الشيء متيامنًا أو متياسرًا أو إلى جانبه ونحو ذلك، فقد غَلِطَ غَلَطًا بيِّنًا. وهذا كما أن قوله (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ليس ظاهرُه أن ذاتَه في السماوات والأرض، بل ظاهرُه أنه إله أهلِ السماءِ وإله أهل الأرض، فأهلُ السماء يَألَهُونَه، وأهلُ الأرض يألهونَه.
وكذلك قوله (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) ليس ظاهره أن نفس الله في السماوات والأرض، فإنه لم يقل: “هو في السماوات والأرض”، بل
__________
(1) في الأصل: “مكان”.
(2) في الأصل: “أن”.
(3/162)
قال: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)، فالظرفُ مذكورٌ بعدَ جملةٍ لا بعدَ مفردٍ، فهو متعلق بما في اسم “الله” من معنى الفعل، هو الله في السماوات: أي المعبود الإله في السماوات، والإله المعبود في الأرض، كقوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ)، بخلاف قوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) (1) وقوله: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) (2)، فإنه لم يذكر ما يتعلق به قوله “في السماء” غير نفسِه.
وكذلك الأثر الذي يُروَى عن ابن عباس أنه قال: “الحجر الأسودُ يمينُ اللهِ في الأرض، فمن صافحَه واستلَمه فكأنما صافحَ اللهَ وقَبَّلَ يمينَه” (3)، فمن قال: إن هذا يحتاج إلى تأويل فقد أخطأ، فإنه ليس ظاهر هذا أن الحجر هو صفةُ الله، فإنه قال: “يمين الله في الأرض”، فقيَّده بكونه “في الأرض”، وهذا بيَّن أنه ليس هو صفةَ اللهِ. ثم قال: “فمن صافحَه وقَبَّلَه فكأنما صافحَ الله وقَبَّل يمينَه”، والمشبَّه غيرُ المشبَّه به، فقد صرَّح بأن المستلم له لم يصافحِ الله، وإنما هو مشبَّهٌ بذلك.
الوجه الثالث أن يقال: إخبارُ الله في القرآن أنه مع عبادِه جاءَ عامًّا وخاصًّا، فالعام كقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)) (4)، وقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى
__________
(1) سورة الملك: 16.
(2) سورة الملك: 17.
(3) سبق تخريجه. وتكلم عليه المؤلف في “مجموع الفتاوى” (6/ 397 وما بعدها).
(4) سورة المجادلة: 7.
(3/163)
عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) (1). ففَتَحَ الكلامَ بالعلم وخَتَمه بالعلم.
وأما الخاصّ فكقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (2)، فهذا بيّن أنه ليس مع الفجّار والظّالمين، ولو كان بذاتِه في كل مكان لكان مخالفًا لهذه الآية.
وكذلك قوله لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)) (3)، فهو مع موسى وهارون دون فرعون وقومه.
وكقوله عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (4)، فهو مع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وصاحبه، لا مع الكفّار كأبي جهل وأمثالِه.
فلو كانت المعيَّةُ معناها الاختلاط والامتزاج، وكان في كل مكانٍ بذاته، لم يَجُزْ أن يكون في المعيَّةِ تخصيصٌ. فمن زَعَم أن معناها الامتزاج والاختلاط وأن ظاهرها أن يكون في كل مكانٍ فقد أخطأ، ولكن المعية وإن دلَّت على المصاحبة والمقارنة فهي في كل مكانٍ بحسب ما دلَّ عليه السياقُ. فلما كان في تلك (5) الآيتين قد افتتح الآية بالعلم وختمَها بالعلم، دَلَّ ذلك على أن من حكم المعية أنه
__________
(1) سورة الحديد: 4.
(2) سورة النحل: 128.
(3) سورة طه: 46.
(4) سورة التوبة: 40.
(5) كذا في الأصل بالإفراد، والأولى “تَينك”.
(3/164)
عليم بكل شيء. وهنا لمَّا كان السياقُ يدلُّ على أن المقصودَ الإعانةُ والنصر دل على أن من حكم المعيَّة النصر والمعونة، فقول القائل “أنا معك” معناه: أني مصاحبك ومقارِنُك، وإذا كان كذلك اقتضَى أنّي أعلم حالك، وقد يقتضِي إذًا أنِّي أُعِينك وأنصرك على أعدائك.
وقد ثبت عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه كان يقول: “اللهم أنتَ الصاحبُ في السفر، وأنت الخليفة في الأهل، اللهم اصحَبْنا في سفرِنا واخْلُفْنا في أهلنا” (1). وهذا وأمثالُه بيَّن أن لفظ المعية في القرآن ليس فيه هذا التأويل المتنازع فيه، وهو صَرْفُ اللفظ عن الاحتمال (2) الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليلٍ يَقترِن بذلك، فإن هذا إنما يكون إذا كان ظاهرُ قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) يقتضي أن يكون الله ممتزجًا بنا حَالاًّ في أجوافِنا، أو أن يكون إلى جوانبنا، وليس هذا مدلولَ لفظ المعية أصلًا، فبطل ما قال. بل يُقال:
الجواب الثاني
وهو أن قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) يَدُلُّ على نقيض قولِ الجهمية، فإنه ذكر نفسه وذكر أنه معهم، ولفظ الخطاب -إذا قيل: هم وأنتم ومعكم ونحو ذلك- يتناول ما يتناوله الاسمُ الظاهر، واسمهُم يتناول جميعَ ذاتهم وصفاتِهم فأبعاضهم، وذلك يمتنع (3) أن يكون في أحدهم شيءٌ من غيره. فإذا كان هو معهم دلَّ ذلك على أنه منفصل عنهم بائن منهم خارج عنهم، كما في نظائرِه. بل قوله “رب الناس” “ملك
__________
(1) أخرجه مسلم (1342) عن ابن عمر.
(2) في الأصل: “احتمال”.
(3) كذا في الأصل، والأولى “يمنع”.
(3/165)
الناس” و”رب العالمين” ونحو ذلك يقتضي أنه مغايرٌ للناس مباين لهم، لأنَ الربَّ مُغايرٌ للمربوب، فإذا قيل: “هو معهم أنه اقتضى أنه مغايرٌ لهم، ولمسمَّى “مع” الذي هو معنى الظرف اللفظي، فإنه إذا قيل: “هذا فوق هذا” اقتضى أنه مغايرٌ مباينٌ لما هو فوقه ولنفس المسمَّى بلفظ فوقه، ولفظُ “مع” هو من هذا الجنس ظرفٌ من الظروف، فيقتضي ذلك أن يكون المتعلق بهذا الظرف مغايرًا مباينًا له ولما أضيف إليه الظرف، ولا نزاع أن الشيء إذا كان فوق الشيء جاز أن يقال: هو معه، وقد يُجعَل الأعلى مع الأسفل، كما يقال: “هذا الحِمْلُ معي”، وقد يُجعَل الأسفل مع الأعلى، كما يقال: “هذا المركوب معي”، وقد يقال لما هو مباينٌ منفصلٌ عنه، كما يقال: “هذه الغاشية (1) معي”، وقد يقال: “سِرْنا البارحةَ والقمرُ معنا”، وأمثال ذلك مما يقتضي المباينة والانفصال.
فعُلِم بذلك أن كونه (وَهُوَ مَعَكُمْ) لا ينفي أن يكون الربّ مباينًا لهم، ولا يقتضي أن يكون على جوانبهم، بل غايتُه أن يكون بحيث هو مضافٌ إليه مما يُسمِّيه النحاةُ ظرفًا كالفوق ونحوه، فلا يكون بين قوله “فوقهم” وقوله “معهم” منافاة، بل يكون لفظ “المعية” دلَّ على مطلق أنه حيث يضاف إليهم، ولفظ “الفوقية” دلَّ على خصوص ذلك ولو معية هي فوقية، ليست تيامنًا ولا تياسُرًا.
وحقيقة الأمر أن لفظ “مع” في الأصل معناه واحدٌ، وهو المصاحبة والمقارنة والمشاركة في مسمى “مع” الذي هو معنى الظرف، وهو ظرف إضافي. فقوله “هذا معه” بمنزلة قوله “هذا مصاحبٌ له مفارقٌ له”، وهو يقتضي مطلقَ المصاحبة والمقارنة لا نوعًا منهم إلا بتفصيل وتخصيص.
__________
(1) أي الزوَّار والأصدقاء.
(3/166)
وكذلك إذا قيل: هو يقتضي مطلق الموافقة أو المشاركة فيما قد يُسمَّى مكانًا ونحو ذلك من الأسماء، فإنه لا يدلُّ إلا على مطلق هذه الموافقة، لكن قد يكون من لوازم ذلك موالاة أحدهما للآخر محبةً ونصرةً، كما يقال: فلان معي وفلان علىَّ، إذ كان من شأن المتحابين قربُ كلٍّ منهما إلى الآخر حتى يتفقا في محل واحد، وقد يكون من لوازم ذلك معرفة كل منهما بالآخر أو معاونته، إذ من شأن المجتمعين من الآدميين في محلٍّ معرفة أحدهما الآخر ومعاونته له.
وهذا كما أن لفظ “العلم” في الأصل إنما يقتضي معرفة المعلوم، ثم قد يكون من لوازم ذلك ما يقتضيه العلم من محاسبة الشخص ومجازاته ونحو ذلك، كما في قوله (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)) (1)، وكما في قوله (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) (2)، وقوله تعالى (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) إلى قوله (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (14)) (3).
وكذلك “السمع” و”البصر”، مثل قوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) (4)، وقوله: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)) (5)، وقوله:
__________
(1) سورة النساء: 108.
(2) سورة الإسراء: 47.
(3) سورة النور: 63 – 64.
(4) سورة آل عمران: 181.
(5) سورة الشعراء: 218 – 219.
(3/167)
(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عملَكمْ ورَسُولُهُ وَالمُؤمِنُونَ) (1). فهذا ونحوه وإن ذُكِر فيه لفظ “السمع” و”الرؤية” فالمقصود لوازم ذلك، من إحصاء ذلك والجزاء عليه بالثواب والعقاب، وقد يكون المقصود بذلك قبول الدعاء، كقول الخليل: (إِنَ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)) (2)، وقول المصلي “سمع الله لمن حمده”، كما يُعنَى بالنظر نظر الرحمة والمحبة، كقوله (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) (3). فهذه الأمور لما كانت من لوازم العلم والسمع والبصر، [و] من شأنه إحصاء الأعمال والجزاء عليها ونحو ذلك، صارت متضمنة لهذا المعنى. وكذلك المصاحبة لما كان لها لوازم -مثل معرفة الصاحب بحال صاحبه، وموالاته له، وموافقته له- دخلت هذه المعاني فيها حيث دلَّ عليه السياق.
ولفظ “مع” في الأصل يدل على المصاحبة، ويدل على لوازم هذا المعنى: من العلم الذي يتضمن الإحصاءَ والجزاء على الأعمال عمومًا، ومن الموالاة والمعونة والنصر الذي يختص المؤمنين ونحو ذلك، فقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)) (4) ذكر بعد أن أخبر بخلق السماوات والأرض واستوائِه على العرش أنه يعلم ما يدخل في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يصعد فيها، وأنه مع الخلق أينما كانوا، وأنه بكل شيء عليم. فدلّ هذا السياق على
__________
(1) سورة التوبة: 105.
(2) سورة إبراهيم: 39.
(3) سورة آل عمران: 77.
(4) سورة الحديد: 4.
(3/168)
أنه مع كونه استوى على العرش يعلم باطن الخلق وظاهرهم، وهو معهم لا يغيب عنه شيء من أمرهم.
وكذلك قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في حديث العباس بن عبد المطلب لما ذكر السماوات والعرش قال: “والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه” (1).
وكذلك قال عبد الله بن مسعود: “ما بين السماء إلى السماء كذا وكذا” إلى أن قال: “والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه” (2).
وكذلك ما ذكره في سورة المجادلة (3) من قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7))، فافتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم.
ومثل هذا قوله: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) (4).
وأما قوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)) (5)، وقوله لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)) (6)، وقوله
__________
(1) أخرجه أحمد (1/ 206، 207) وأبو داود (4723 – 4725) والترمذي (3310) وابن ماجه (193).
(2) أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على بشر المريسي” (ص 105) وفي “الردّ على الجهمية” (ص 21) وابن خزيمة في “التوحيد” (ص 105، 106) والطبراني في “المعجم الكبير” (9/ 228) وأبو الشيخ في “العظمة” (2/ 688، 689) مطولًا ومختصرًا.
(3) الآية 7.
(4) سورة النساء: 108.
(5) سورة النحل: 128.
(6) سورة طه: 46.
(3/169)
عن الرسول: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (1)، فقد عُلِمَ أن حكم المعية هنا ومقصودها ليس عامًا لجميع المخلوقات كالعلم والقدرة، بل مختصًّا بالمتقين المحسنين (2) دون الفجار الظالمين، وبموسى وهارون دون فرعون وقومه، وبالنبي وصديقه دونَ مشركي قومِه. فهذه الأمور التي فيها خصوصٌ وعمومٌ تضمَّنها لفظ المعية ودلَّ عليها، كما دلَّ لفظ العلم والسمع والبصر على ما تقدم، وهي في نفسها تقتضي من المصاحبة والمقارنة ما هو معناها في الأصل، ولا تقتضي ممازجة ولا مخالطة ولا تيامنًا ولا تياسرًا.
بل إذا قيل: إنها تتضمن قُربَه من خلقِه، فقربُه ثابت بنصوصٍ صريحة أصرح من لفظ المعية، كقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (3)، وقو له تعالى: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)) (4). وفي الصحيح (5) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال لأصحابه لما كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير: “أيها الناس! ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته”. وهو سبحانه قريب في عُلُوِّه عليٌ في دُنُوِّه.
وقد تكلمنا على قربه من خلقه وقربِ عبادِه منه بكلام مبسوط،
__________
(1) سورة التوبة: 40.
(2) في الأصل: “المسبحين”. والتصويب من السياق.
(3) سورة البقرة: 186.
(4) سورة سبأ: 50.
(5) البخاري (6384 ومواضع أخرى) ومسلم (2704) عن أبي موسى الأشعري.
(3/170)
وذكرنا أقوال الناس كلهم في ذلك في غير هذا الموضع (1)، وبَيَّنَّا أن قربَه لا يُنافِي عُلُوَّه.
الجواب الثالث
أن لفظ “التأويل” فيه اصطلاحات متعددة، فالتأويل الذي يتنازع فيه مُثبتة الصفات ونفاتُها المرادُ به صرفُ اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاَحتمال المرجوح، وذلك لا يجوز إلا بدليلٍ يُوجِب ذلك.
وقد يُراد بلفظ التأويل تفسير اللفظ، وإن كان التفسير يوافق ظاهره. وهذا اصطلاح ابن جرير الطبري في تفسيره وابن عبد البر ونحوهما.
وقد يُراد بلفظ التأويل ما يَؤُوْلُ إليه اللفظ، وهو الحقيقة الموجودة في الخارج التي دلَّ الكلام عليها، وبهذه اللغة جاء القرآن، كقوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (2)، وقوله تعالي: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (3)، وأمثال ذلك.
إذا عُرِف ذلك فنقول (4): أما التأويل بالمعنى الثالث والثاني فلا نزاعَ فيه بين الناس. وأما التأويل بالمعنى الأول فيقال: هو صرف اللفظ عن ظاهرِه إلى ما يخالف ظاهرَه، أو عن حقيقته أو عن
__________
(1) انظر “مجموع الفتاوى” (5/ 226 وما بعدها).
(2) سورة الأعراف: 53.
(3) سورة آل عمران: 7.
(4) انظر الكلام على معنى التأويل عند المؤلف في “مجموع الفتاوى” (13/ 288 – 294، 17/ 364 وما بعدها، 5/ 35 – 37، 3/ 55 – 57، 4/ 68 – 70).
(3/171)
الاحتمال الراجح، وحينئذٍ فالظهور والبطون من الأمور الإضافية، فإن كان الإنسان يظهر له من نصوص الصفات أن صفاتِ الخالق مماثِلةٌ لصفاتِ المخلوقات -مثل أن يظنّ أن استواءَه على العرش كاستواء الإنسان على بعيرِه أو على الفُلكِ، أو أن معيته مع الخلق تَقتضي دخولَه فيهم، أو أن قوله “الحجر الأسود يمين الله في الأرض” ظاهرُه أن صفة الله حلَّت في الأرض، وأن ذلك الحجر صفة للرب، وأنّ قوله (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (1) يقتضي أن يكون الله في جوف الأفلاك، ونحو ذلك- فمن ظنَّ أن هذه المعاني الفاسدة هي ظاهر القرآن، وأن مسماها ظاهره وحقيقته، فيجب على مثل هذا أن يعتقدَ التأويل في ذلك كلِّه، ويعلمَ أن هذه النصوص مصروفةٌ عن هذا المعنى الذي ظنَّه هو الاحتمالَ الراجحَ إلى ما يخالف ذلك المعنى. لكن عليه أن يعتقد ويعلم أن السلف والأئمة الأربعة الذين منعوا من التأويل لم يعتقدوا أن هذا المعنى الفاسد ظاهرُ هذه النصوص، ولا أنها تَدُلُّ على ذلك.
بل من فَهِم منها هذا المعنى الفاسد بَيَّنُوا له أنها لا تدلّ على هذا المعنى الفاسد، وفي كلام الله ورسوله ما ينفي عن الله هذا المعنى الفاسد.
فمن ادَّعى أن هذه المعاني الفاسدة قد دلَّ عليها القرآن كان ما في القرآن من التصريح بنفي ذلك مُثبتًا لنفي هذه المعاني الفاسدة، فإنه قد أخبر في القرآن أنه استوى على العرش، وأن كرسيه وسع السماوات والأرض، وأن الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، وأخبر بعُلُوِّه في غير موضعٍ من الكتاب. وهذه كلها نصوصٌ تنفي أن تكونَ صفاته تُشبِه صفاتِ خلقِه (2)، أو يكونَ حالًا
__________
(1) سورة الملك: 16.
(2) هنا انقطع الكلام في الأصل، وتتمته بعد 11 ورقة.
(3/172)
في المخلوقات. وأخبر بقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (1) وبقوله (وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)) (2) ونحو ذلك أن يُماثِلَه العبادُ في صفاتهم، فتكون صفاته كصفاتِ خلقه.
فهذه النصوص المفسَّرة تُبيِّن أن تلك المعاني الفاسدة ليست مرادةً، سواء سَمَّى المسمِّي ذلك تأويلًا أو لم يُسمِّه.
فقول القائل “إذا تأولنا هذه الآيات احتملت هذه الأحاديث أيضًا التأويل” حقيقته أنا إذا نفينا عن النصوص أن يُراد بها معنى فاسدٌ بيَّن الله تنزُّهَهُ عنه في موضع آخر، وجب [أن] ننفيَ عن نصوصِ أخرى معاني ونفسِّرها بأمور من غير أن يدل القرآن والسنة لا على نفي هذا ولا على إرادة هذا، ومعلومٌ أن هذا باطلٌ سواء سمَّاه تأويلًا أو لم يُسَمِّه، لوجوه:
أحدها: أن ما نفي من المعاني الفاسدة هناك نفاه القرآن، فإن بينوا في بقية (3) النصوص معنى فاسدًا نفاه القرآن وجب نفيُه أيضًا.
الثاني: أن ما فسَّروا به تلك النصوص هو تفسيرٌ يوافق سائر النصوص، لتفسيرهم لها بان الله إله من في السماء وإله من في الأرض، وأنه بكل شيء عليم، ونحو ذلك. وأما تأويلات الجهمية فهي متناقضة، منها قولهم (4): “استوى” بمعنى استولى، فإن هذا فاسد من قريب عشرين وجهًا مذكورة في غير هذا الموضع (5).
__________
(1) سورة الشورى: 11.
(2) سورة الإخلاص: 4.
(3) في الأصل: “نفيه”، وهو تصحيف.
(4) في الأصل: “كقولهما”.
(5) انظر “مجموع الفتاوى” (5/ 144 – 149) ففيه ذكر اثني عشر وجهًا.
(3/173)
وقولهم “يَنزِلُ أمرُه أو مَلَكٌ”، فان هذا فاسدٌ من وجوهٍ كثيرة، فكيف يُقاس تأويلٌ فاسدٌ على تأويل صحيح. وهذا كله إذا تنزلنا وسَمَّينا ذلك تأويلًا بحسب فهم هذا الفاهم، وإلاّ فالصواب هو:
الوجه الثالث: وهو أن يقال: إذا فهم بعضُ الناس من كلام الله معنىً فاسدًا -مثل فهمهم كونَ المعية تَقتضي المخالطةَ، وأن الحجر صفة الله، وزعم أنه ظاهره- رُدَّ عليه هذا الفهمُ، وقيل له: هذا خطأ في فهمك، وإلاّ فالنصُّ لم يدلَّ على ذلك، ولا هذا ظاهر النصّ. وظاهرُ الخطاب الذي هو مدلولُه ومعناه يُعلَم تارةً بمفرداتِ ألفاظِه وموضوعِها، وتَارةً بالتركيب وبما اقترن بالمفردات من التركيب الذي يُبيِّن المراد ويُظهِر معنى الخطاب، وتارةً بالسياق الذي سِيْقَ له الكلام.
وإذا كان كذلك لم نُسلِّم أن هذا تأويل، فإن أَصَرَّ على تسمية هذا تأويلًا كان نزاعًا لفظيًّا، وقيل له: ذلك تأويل يوافق مدلولَ النصّ ومقتضاه، وهذا تأويل يخالف مدلولَه ومقتضاه، وكل تأويل كان من القسم الأول نقول به، وإنما نردُّ التأويل الذي يخالف مدلولَ كلامِ الله ومقتضاه.
الجواب الرابع
أن الناس متفقون على أنه لا يَسُوغُ كل تأويل، من التأويلات ما هو مردود، مثال ذلك أن الأشعري يردّ تأويل المعتزلي لعلمِ الله وقدرتِه وسمعِه وبَصَرِه وتكليمِه ومشيئتِه، ويثبتُ هذه الصفاتِ حقيقةً؟ والمعتزلي يَردُّ تأويل المتفلسفِ في معاد الأبَدانِ والأكل والشرب في الجنة؛ والفيلسوف يردّ تأويل القِرمطيِّ في الصلاة والزكاة والصوم والحج؛ والقِرمطي يردّ تأويلات الجمهور الذين (1) ينازعونه فيها.
__________
(1) في الأصل: “الذي”.
(3/174)
وإذا كان كذلك قيل لكل من هؤلاء: بأيّ شيء رددتَ بعضَ التأويلات وقَبلتَ بعضَها؟ فلا يذكر شيئًا إلا عُورِضَ حتى يُبيَّن له تناقُضُه وفسادُ أصَلِه.
فمن كان من المتأولين (1) يتأوَّل المحبَّة والرضا والغضب ونحو ذلك، ويُقرِّر الإرادة ونحوها، قِيْل له: ما الفرقُ بين ما قرَّرتَه وبين ما تأوَّلتَه؟
فإن قال: لأن الغضب هو غَلَيَانُ دمِ القلب لطلبِ الانتقام، وذلك لا يليق بالله.
قيل له: هذا غَضَبُنا، وغضبُ الله ليس مثل غَضَبنا، بل يقال له: هذا هو مقتضى الغضب فينا أو موجبه، ليس هو نفس الغضب، والله تعالى لا يوصف بما نحتاج إليه نحن في ثبوت الصفات، فإنه عليم، ولا يحتاج في علمه إلى النظر والاستدلال الذي يُحصِّلُ لنا العلمَ، وهو قدير ولا يحتاج إلى مزاج وعلاج يُحصَّل له القوة، وهو بصير ولا يحتاج إلى شحمة، وهو متكلم ولا يحتاج إلى لسانٍ وشفتين. فكذلك غضبُه لا يَفتقِرُ إلى ما يفتقر إليه غَضبُنا.
فإن قال: أنا لا أعرِفُ الغضبَ إلا هكذا.
قيل له: فتأوَّلِ الإرادةَ؛ فإن الإرادة فينا هي مَيلُ القلب إلى جَلْب ما ينفعُه أو دفعِ ما يَضرُّه، والله تعالى لا يُوصَف بذلك.
فإن قال: إرادتُه ليست كإرادتنا.
قيل له: فقُلْ في الغضب كذلك، وهكذا في سائر الصفات.
__________
(1) في الأصل: “المستادين”.
(3/175)
فإن قال المعتزلي: أنا أتأوَّلُ الإرادة والكلام، وأجعلُ كلامَه ما خَلَقَه في غيرِه، وإرادتَه ما خَلَقَه في المفعولات والأصوات، أو عَرَضًا خَلَقَه قائمًا بنفسِه.
قيل له: فتأوَّلْ أسماءَه الحسنى، وهو الحيُّ العليم القدير، ولا تُثبتْ له حقائقَ هذه الأسماء كما يفعل القِرمطيُّ، قال: لأنّ ثبوتَ هذَه الأسماء يقتضي هذه المشابهة بينَه وبينَ خلقِه، ويقتضي أنه جسمٌ، إذ لا يُسمَّى بهذه الأسماء إلا جسمٌ.
فإذا قال: أنا أُثْبِتُ هذه الأسماءَ له مع الفرق بين المسمَّى والمسمَّى.
قيل له: فكذلك أَثْبِت الصفاتِ، وفَرِّقْ بين الموصوف والموصوف.
فإن قال: الصفات تقتضي التجسيمَ.
قيل له: والأسماءُ تَقتضي التجسيم.
فإن قال: التجسيم (1) إنما يلزم إذا قلتُ: هو حيٌّ بحياة عليمٌ بعلمٍ قديرٌ بقدرةٍ، وأنا أقول: حيٌّ بلا حياةٍ عليمٌ بلا عليمٍ.
قيل له: هذا باطل من ثلاثة أوجه:
أحدُها: أن التجسيم الذي تزعُمُه يَلزم في هذا كما يلزم في هذا.
الثاني: أن إثباتَك حيًّا بلا حياة عليمًا بلا عليم قديرًا بلا قدرة مخالفٌ لصريحِ العقل أكثر من مخالفة ما فَرَرْتَ منه.
الثالث: أن خصومك من النُّفاةِ [و] المُثبتة يخالفونك في هذا الفرق، فالمثبتة للصفات يقولون: ليس في الجميع تجسيم، أو
__________
(1) انقطع الكلام هنا في الأصل، وتتمته قبل 12 ورقة.
(3/176)
التجسيم الذي نفيتَه ليس بمنتفٍ، والنفاةُ القرامطةُ يقولون: التجسيمُ في إثباتِ الأسماء كالتجسيم في إثبات الصفات.
فإن قال المتفلسف: أنا أتأوَّل هذا كلَّه، وأتأوَّل ما وردَ في معادِ الأبدان.
قيل له: فتأوَّلْ ما وردَ في معادِ الرُّوح ونعيمها، وما ورد في إثباتِ واجب الوجود وعنايتِه وإبداعِه وعلمِه الكلّي ونحو ذلك، فالخطاب الوارد فيما نفيتَه أصرحُ من الخطاب الوارد فيما أثبتَّه.
فإن قال: ما نفيتُه يَستلزِمُ تركيبَ واجب الوجود.
قيل له: وكذلك ما أثبتَّه، ولا فرق، فإن الوجود والوجوب والعناية والعقل وأمثالَ ذلك مَعانٍ متميزة في العقل كتميُّزِ ما أثبتته الصفاتيةُ.
وقيل له: فتأوَّل العباداتِ كما تأوَّلَها القِرمطي.
فإن قال: العبادات قد عُلِمَ بالاضطرار أن الرسولَ أوجَبَها، أو ليس فيها ما يُنافي العقلَ.
قيل له: منازعوك من النفاةِ والمثبتةِ يقولون لك ذلك، فالمعتزلة وغيرهم يقولون: إن معادَ الأبدان قد عُلِمَ بالاضطرار أن الرسولَ قد أخبرَ به، والصفاتية يقولون: إن إثباتَ الصفات مما عُلِمَ بالاضطرار أن الرسول أخبرَ به، ويقولون لك: ليس في العقل منافاة لما أثبته من هذه الجزئيات، كما ليس في العقل منافاة لما أثبتَه من الكليات (1).
والقرامطة ينازعونك فيما أثبتَه حتى في النفس، فيقولون: لا يُقال هو
__________
(1) في الأصل: “العمليات” تحريف.
(3/177)
لا موجودٌ ولا معدومٌ، لأن في هذا تشبيهًا له بالموجودات والمعدومات.
فإن قال (1): هذا خروج عن النقيضَيْن، وهذا خروج عن العقل، وهو مخالفٌ لما عُلِمَ بالاضطرار من السمع.
قيل له: وهكذا حال جميع النفاة، فإنهم لابُدَّ أن يجمعوا بين النقيضَيْن أو يَسْلُبوا النقيضَيْن كالقِرمطي، فمن قال: لا هو مباين ولا مُحايِثٌ ولا داخل ولا خارج، كان بمنزلة من يقول: لا قائم بنفسِه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدَث، ولا موجود ولا معدوم، ومن قال: إنه وجود مطلق ليس له حقيقة وراء الوجود المطلق. وقد تقرر في المنطق أن المطلق بشرطِ إطلاقِه لا يُوجَد في الخارج بل في الذهن، كالجسم المطلق والحيوان المطلق، فإن جَعلَ المطلقِ بشرطِ الإطلاقِ يَثبُتُ في الخارج جَمْع بين النقيضين.
وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع، وبَيَّنا أن هؤلاء أهل التأويلات المبتدعة الذين ينفون الصفات ليس لأحدٍ منهم قانونٌ مستقيم في التأويل، بل يتناقضون.
فيقال لهم: إذا تأوَّلتم هذا فتأوَّلوا هذا، أو لا تتأوَّلوا شيئًا.
فإن قالوا: ما دلَّ العقلُ على إثباتِه لم نَتأوَّلْه كالإرادة، بخلاف ما لم يَدُلَّ على إثباته كالغضب.
كان الجوابُ من وجوهٍ:
أحدها أن يقال: عَدَمُ الدليلِ ليس دليلًا على العَدَم، فهَبْ أنكم لم تعلموا بالعقلِ ثبوتَ صفةٍ أُخرى، فمن أين لكم نفيُها بلا دليلٍ
__________
(1) في الأصل: “قلت” وأثبتنا ما يناسب “قيل له” الآتي.
(3/178)
والسمعُ قد دلَّ عليها؟!
الثاني أن يقال: فهذا عَزْلٌ للرسول عن الإخبار بصفاتِ مُرسِلِه، فإنكم لم تُثبتُوا إلا ما علمتم بعقولكم، وما لم تُثبته عقولكم نفيتُموه، فبَقِي كلامُ الَرسولِ عديمَ الفائدةِ في باب أسماءِ الله وصفاتِه.
الثالث: أن يُبيَّن لهم أن العقلَ يدلُّ على ما نَفَيتُموه نظيرَ دَلالتِه على ما أثبتموه، وأن ما في الوجود من الإحسان يدلُّ على الرحمة، كما أن ما فيه من التخصيصات يدل على الإرادة، وما فيه من العقوبات للمكذبين يدلُّ على الغضب، كما قد بُسِطَ في غيرِ هذا الموضع.
فإن قال: إنما نتأوَّلُ (1) ما عُلِمَ نفيُه بدليلٍ قَطعيٍّ من العقل أو النقل.
قيل له: ونحن نُسلم لك أن ما عُلِمَ نَفْيُه بصريحِ المعقول أو صحيح المنقول فإنه يجب نفيُه عن الله، لكن دعواكم أن هذا المنصوصَ يدلُّ على ما يُخالِفُ صريحَ المعقولِ وصحيحَ المنقولِ قولٌ غير مقبولٍ.
الجواب الخامس
أن يقال: التأويل الذي هو صرفُ اللفظِ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، للمُثبِتةِ فيه ثلاثةُ مسالكَ:
أحدُها: أن يَنفُوه مطلقًا، ويقولوا: لا حاجةَ إليه، وتمام ذلك بأن يثبِتوا تَنزُّهَ القرآنِ والحديث عن الدلالةِ على المعاني الفاسدة.
المسلك الثاني: أن يقولوا بالتأويل الذي قام عليه دليلٌ شرعي، مثل أن يكون نفيُ ذلك المعنى قد بَيَّنَه الشارع في موضع آخر، فيكون هو
__________
(1) في الأصل: “تأويل”.
(3/179)
قد بيَّن كلامَه بكلامِه، فلا يكون كلامُ الله ورسوله محتاجًا في البيان إلى ما يُحدِثُه المُحدِثون.
المسلك الثالث: أن يُسلِّموا أن كل تأويل قام عليه دليلٌ سمعي أو عقليٌّ فإنه يجب قبولُه، لكن يطالبون منازعيهم بالدلائل القطعية فيما إذا [كانت] حاجةٌ إلى التأويل، ويُثبتون أن ذلك لم يُخالِفْ دليلًا قطعيًّا، لا عقليًّا ولا سمعيًّا، بل يُبيَّن أن العقل الصريح يُقرِّر ما أثبتَه السمعُ، وأن العقل الصريح لا يخالف النقلَ الصحيح أصلًا، كما يُبيَّن أن ما دلَّ عليه القرآنُ من أن اللهَ مُباينٌ لمخلوقاتِه (1) قد دلَّ عليه العقلُ، وأنّ العقلَ يُثبتُ مباينتَه للمخلوقات، والسمعُ زادَ على ذلك وأثبتَ الاستواءَ علىَ العرش، وذلك لا يُعلَم بالعقل، فالسمعُ أثبتَ ما عَلِمَ العقل وزادَ عليه وفَضَلَه، لأن الرُّسُلَ بُعِثَتْ بتكميلِ الفطرة وتقريرِها، لا بتحويلِ الفطرةِ وتغييرها. والله أعلم.
(تمت بحمد الله وعونِه وحُسنِ توفيقه، وصلواته على سيّدنا محمدٍ خيرِ خلقِه محمد (2) وآلِه وصحبِه وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا، بتاريخ خامس شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين وسبعمئةٍ).
***
__________
(1) بعده في الأصل: “إذ هو بدو العلم”، وهي عبارة غامضة، والسياق واضح بدونها.
(2) كذا في الأصل بتكرار اسم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(3/180)
مسألة فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى إلى العلوّ من جميع الجهات المخلوقة
(3/181)
مسألة
سُئِل عنها سيِّدُنا وشيخنا وإمامُنا الشيخ الإمام العالم العامل الناسك البارع المجتهد السالك المحقّق المدقّق مُفتِي الفِرق ناصرُ السنن قامعُ البدع فريدُ عصرِه وواسطةُ عِقْدِ دِهرِه، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس (1) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحرَّاني -متَعَنا الله بعلومه الفاخرة، وأسبغَ عليه نِعَمَه باطنةً وظاهرة، وأثابَه في الدنيا والآخرة- بالديار المصرية، فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى إلى العُلُوَّ من جميع الجهات المخلوقة، وأنه يُدعَى من أعلَى لا من أسفلَ، وأنه بائنٌ من خلقِه، لا يُتصوَّر ذلك في الذهن إلا إذا فرضنا أن ذاتَ الحقِّ فلكيَّةٌ محيطةٌ بالفلك؟ إذ الفلك مستديرٌ محيطٌ بالخلق. فهذا التصوُّر حقٌّ أم لا؟ وإذا لم يكن حق (2) فما الدليلُ الخاصم بحجته بما يقبله العقل الصحيح؟ أفتونا مأجورين رضي الله عنكم أجمعين.
أجاب -رضي الله عنه-
الحمد لله. بل هذا التصور باطلٌ، وأما بيانُ بطلانِه فله طرقٌ كثيرة، وذلك أنَّ هذا القائل يقول: لو كان البارئ سبحانَه فوقَ المخلوقات وهو بائن من مخلوقاتِه، لَوجبَ أن يكونَ فلكًا محيطًا بالأفلاك، لأنَّ الفلك التاسع مستديرٌ، وهو محيطٌ بسائرِ الأفلاكِ وما في جَوفِها، والمحدّد للجهات هو سَطْحُ الفلك التاسع، فلو قدَّرنا
__________
(1) في الأصل: “أبي العباس”.
(2) كذا في الأصل بالرفع.
(3/183)
شيئًا فوقَه لَلَزِم أن يكون فلكًا تاسعًا، وهو مبني على أن الأفلاك مستديرةٌ، وهذا ثابت بالسمع والعقل. وربما قال بعضهم: إنّ الأفلاك هي تحت الأرض، فلو كان فوق العالم للزم أن يكون تحت هذه الأرض … (1) تحت بعض الناس.
فهذا حقيقةُ كلامِه، وأما بيانُ بطلانِه فمن وجوهٍ:
أحدها أن يقال: لا يخلو إمّا أن يكون الخالقُ تعالى مباينًا للمخلوقات، وإما أن يكون محايثًا لها، وإما أن لا يكون لا مباينًا ولا محايثًا لها” وإن شئتَ قلتَ: إمَّا أن يكون داخلَ العالمِ، وإما أن يكون خارجَه، وإما أن لا يكون لا داخلَ العالم ولا خارجَه؛ وإن شئت قلت: هو سبحانه لما خلقَ العالم إما أن يكون دخلَ فيه أو أدخلَه في نفسِه (2)، أو لا دَخَل (3) فيه ولا أدخله في نفسه.
فإن قال: إنه داخلَ العالم مُحايثٌ له أي هو بحيث العالم، والعالم أجسامٌ قام بها أعراض هي اَلصفات، فالذي هو داخلٌ فيه محايثٌ له: إمَّا عَرَضٌ قائمٌ بأجسامه وإما بعضُ أجسامِه، وعلى القول بكون سطح الفلك محيطًا به فالقول بكون الفلك محيطًا به أبعد عن العقل والدين من كونه محيطًا بالفلك.
فإن قال: يُمكِن في العقل أن يكون داخلَ العالم ولا يكون جسمًا من أجسام العالم ولا عرضًا قائمًا به.
قيل له: فإن كان هذا جائزًا في العقل فكونُه خارجًا عن العالم
__________
(1) هنا في الأصل كلمتان مطموستان.
(2) في الأصل: “نفسًا”، وأثبتنا ما يقتضيه السياق.
(3) في الأصل: “ولا داخل”.
(3/184)
مباينًا له وكونُه عينَ الفلكِ أقربُ في العقل من كونِه فيه والعالمُ لا يحيط به. وهذا بيِّنٌ واضح.
فإن أثبت أنه في العالم ولا يحيط به العالم كان القول بأنه خارجَ العالم وليس بفلكٍ أولى في العقل.
وإن قال: إنه فيه، والعالم يُحيط به، وذلك ممكن، كان القول بأنه هو المحيط بالعالم أولى في العقل أن يكون ممكنًا (1).
فتبيَّن أنه على التقديرين أيُّ محذورٍ لَزِمَه في كونِه خارجَ العالم مباينًا له كان المحذور في كونه داخلَه محايثًا له أعظم وأقوى، فلا يجوز إثبات الأبعد عن العقل والدين بنفي الأقرب إلى العقل والدين. وأما إن قال: إنه لا داخلَ العالم ولا خارجَه، ولا مباين له ولا محايث له.
قيل له: فهل يُعقَل موجودانِ قائمانِ بأنفسهما لا يكون أحدُهما داخلَ الآخر ولا خارجَه؟ وهل يُعقَل إثباتُ خالقٍ للعالم ليس في العالم ولا مباينًا للعالم؟ وهل يُعقَل أن يكون خلقَ العالم لا في نفسِه ولا خارجًا (2) عن نفسِه؟
فإن قال: هذا معقولٌ ممكنٌ متصوَّرٌ.
قيل: فتصوُّرُ موجودٍ قائمٍ في هذا الباب يُستَعمل لثلاث معانٍ:
أحدها: أن يُراد بالمباينة المخالفة التي هي ضدُّ المماثلة، وهي بهذا الاعتبار متفقٌ عليها بين الناس، إذ لا نزاعَ بينهم أن الخالق سبحانَه
__________
(1) في الأصل: “متمكنا”.
(2) في الأصل: “خارج”.
(3/185)
مباينٌ لمخلوقاتِه بهذا المعنى، لكن هذه المباينة تَثبُت لصفاتِ الموصوف القائمةِ بمحل واحدٍ، وهي الأعراض القائمة بالجسم، كالطعم واللون والرِّيْح والحركة والسكون القائمة بالساحة مثلًا، فإن هذه الصفات تُبايِنُ بعضُها بعضًا بهذا المعنى، فإن كلَّ واحدةٍ من هذه الصفات التي تُسَمَّى أعراضًا ليست مثلَ الآخر.
والمعنى الثاني في المباينة: حدّ المحايثة، وهو أن يكون أحدُ الشيئين ليس هو محايثًا له، سواء كان ملاصقًا له مباينًا أو لم يكن كذلك، فكل شيءٍ قائمٍ بنفسِه مباينٍ لكل شيء قائم بنفسه بهذا الاعتبار، سواء مَاسَّه أو لم يُماسَّه. وهذه المباينة المذكورة في السؤال، وهي التي أرادها السلف والأئمة كعبد الله بن المبارك وغيره، حيث قالوا: نَعرِف ربَّنا بأنه فوق سماواته على عرشِه بائن من خلقِه.
وكان المتكلمة الصفاتية الذين سَلكَ مسلكَهم الأشعريُّ -كعبد الله بن سعيد بن كُلاَّب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وغيرهم- يُثبِتون هذه المباينةَ، لاعتقادِهم أنَّ الله فوقَ خلقِه وأنه مستوٍ على عرشِه، وإنكارهم على الجهمية الذين لا يُفرِّقون بين العرش وغيرِه. وكذلك ذكر الأشعري ذلك عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه هو قولُه (1)، ورَدَّ على الجهمية في (2) كُتبه المعروفة “كالموجز” و”الإبانة” و”المقالات” وغير ذلك من كتبه.
والمعنى الثالث من معاني المباينة: ما يُضادُّ المماسَّة والملاصقة، وهذه المباينة المعروفة عند الناس، وهي أخصُّ معانيها. وليس
__________
(1) انظر “مقالات الإسلاميين” (ص 290، 297).
(2) في الأصل: “من”.
(3/186)
المقصود هنا ذِكرُ هذه لا نفيًا ولا إثباتًا، فإن القائم بنفسِه لا يجب أن يكون مباينًا لكل قائم بنفسه بهذا الاعتبار، وكل مباينةٍ يجب للمخلوق مع المخلوق فالخالقُ أحقُ بها سبحانه وتعالى.
فلمَّا وجب أن يكون المخلوق مباينًا للمخلوق بالمعنى الأول والثاني كان الخالق أحق بذلك وزيادة، لامتناع مماثلتِه للمخلوق ومحايثتِه له، فإن المماثلة والمحايثةَ ممتنعانِ عليه لامتناع مساواته لخلقِه أو احتياجِه إليهم، والمماثلة والمحايثةُ تُوجِب ذلك.
والله سبحانَه له المثلُ الأعلى، كما قال تعالى: (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (1)، فكلُّ ما يُفْهَم للمخلوق من صفات كمالٍ فالخالقُ أحقُّ بها وأكمل في اقتضائه، كالعلم والقدرة والحياة والكلام ونحو ذلك. وكلُّ ما نُزِّه عنه شيء من المخلوقات من صفات النقص فالخالقُ أحق بأن يُنزَّه عن ذلك. فإذا كان أهل الجنة لا ينامون ولا يموتون، فالحيُّ القيوم أحقُّ بأن لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم. وهو الغنى المطلق عمّا سِواه، فكل ما سواه يَفتقِر إليه، وهو غنيٌّ عن كل ما سواه.
وهو سبحانه مع أنه مستوٍ على عرشِه عالٍ على خلقِه فهو الذي يُمسِك السماوات والأرض أن تزولا، وَسِعَ كرسيُّه السماوات والأرض، ولا يَؤُودُه حفظُهما. فالعرش وحَمَلَتُه هو الذي يُمسِكهم بقوتِه ومشيئتِه، بل قد جاء في الأثر (2) أن الله لما خَلَقَ العرش وأَمَر الملائكةَ بحملِه
__________
(1) سورة النحل: 60.
(2) يُروى عن وهب بن منبه بإسناد ضعيف، أخرجه أبو الشيخ في “العظمة” (3/ 956، 958) مطوَّلًا.
(3/187)
قالوا: ربَّنا! من يُطِيْق حملَ عَرْشِك وعليك عظمتك؟ فقال: قولوا: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، فبذلك أطاقوا حملَ العرش.
والله سبحانه قد جَعَلَ الأعلى من المخلوقاتِ مستغنيًا عن الأسفل، فالسماوات فوق الأرض وليست محتاجةً إلى الأرض ولا مفتقرة إلى أن تحملها، فالخالق العليُّ الأعلى كيف يَفتقر إلى العرشِ أو حَمَلَتِه فوقَ العرشِ أو إلى غيرِه من المخلوقاتِ؟ فلو كان مُحايثًا لخلقِه لكان وجودُه مشروطًا بوجود ذلك المحايث، بل كانت ذاتُه مفتقرةً إلى محايثٍ، سواء كان محايَثته من جنس محايثةِ العَرَض للعرض أو جنس محايثة العرض للجسم، أو من جنس ما يدَّعيه من يقول بمحايثة الصورة الجوهرية للمادة الجوهرية. وهذا هو المعقول من المحايثات، ولهذا كان القائلون بحلوله في المخلوقات أو اتحادِه بها من الجهمية تَعُود مقالتُهم إلى مثل هذا، فآخِرَ أمرِهم يجعلونه مع المخلوقات كالمادة مع الصورة، أو كالعرض مع الجسم، حتى قالوا: وجودُه وجودُ المخلوقات، إذ قالوا: إن الماهيات ثابتة بدونه، كما يقوله ابن عَرَبي صاحب “الفصوص” الموافق للمعتزلة في قولهم: إن المعدوم شيء، فإما أن يجعلوا الوجود صفةً للإنسان أو قائمًا بنفسِه مع الأعيان. وكلام ابن سبعين يَرجع إلى هذا، فإنه كان متفلسفًا، فيجعله مع المخلوق بمنزلة المادة والصورة.
ومن جَعَلَه الوجودَ المطلقَ، والأعيان لها التعين، فإن جعل للأعيان ماهيات ثابتة في الخارج -كما يقوله من يقوله من المتفلسفة- فقد جَعَلُوه مشروطًا بتلك الماهيات، وهو معها إمَّا كالجوهر مع الجوهر أو كالجوهر مع العرض.
وإن لم يجعل للأعيان ماهيات ثابتة، فالمطلق لا يكون في
(3/188)
الخارج إلا عينَ المشخَّص، فافتقارُه إلى الأعيان المخلوقة أعظم وأعظم، بل على هذا التقدير ليس مغايرًا لها البتَّةَ. وقول التلمساني -وهو أَحْذَقهم في مقالتهم التي هي وحدة الوجود- يرجع إلى هذا.
وعلى كلّ وجهٍ يُفْرَض من وجوه المحايثات فإنه يكون مشروطًا بوجود المخلوقات، لا يتحقق ذاتُه بدون المخلوقات، وما كان كذلك لم يكن خالقًا للمخلوقات، بل ولا يجوز أن يكون علَّةً لها، فضلًا عن أن يكون خالقًا لها؛ لأن العلَّة متقدمة بالذات على المعلول، والمشروط بالشيء لا يكون متقدمًا عليه، إذْ وجودُ المشروط المستلزم لشرطِه قبل شرطه الملازم للإيجاب، فيمتنع أن يكون علَّة. بل ولا يكون واجبَ الوجود بنفسِه، لأن نفسه لا تستغني في وجودِها، بل لابُدَّ لتحقُّقها من ذلك الشرط اللازم لها المقرون بها، فيكون وجودُها مفتقرًا إلى وجود ذلك الشرط. ولأن محايثةَ القائم بنفسه محالٌ، وما يذكره المتفلسفة من محايثةِ الصورة للمادة هو بناءً منهم على أن تصوُّرَ الأجسامِ موادَّ هي جواهرُ قائمةٌ بنفسها. وهذا باطلٌ لا حقيقةَ له.
وكذلك من قال: إن الجواهر الموجودة ماهيّاتٌ قائمةٌ بأنفسها غيرُ الموجود المعروف، فقوله باطل بما يذكرونه من الماهياتِ الثابتةِ المغايرةِ للوجودِ المحسوسِ، ومن الموادِّ القائمةِ بنفسها المغايرةِ للجسمِ المحسوس، فهو حادث في الأذهان، لا حقيقةَ لها في الأعيان، سواءً قالوا باستغناء الموادِّ عن الصُّوَر واستغناء الماهيات عن وجودِها -كما يُذكَر عن أفلاطُن وشيعتِه-، أو قالوا بافتقار المادة إلى الصورة، والماهيات إلى الوجود -كما يقوله أرسطو وشيعته-. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
فلم يبقَ إذًا محايثةُ العرض للجسم ومحايثة الصفة للموصوف،
(3/189)
وهذا ممتنعٌ لوجهين:
أحدهما: أن الموجودات القائمة بأنفسها لا تُحايثُها الأعراض، والعرض مفتقرٌ إليها محتاجٌ إليها، والعرض يمتنعَ أن يكون هذا الفاعل المبدع العلَّة لمحالِّه أو غيرِ محالِّه، وهذا معلوم ببديهة العقل وضرورته، وأدلَّتُه كثيرة، فإن الأعراض ذواتُها مفتقر [ةٌ] إلى ذواتِ محالِّها، فلا تكون واجبة الوجود ودون محالِّها، والواجب مستغنٍ عمن دونه، فلو لم تكن واجبة الوجود امتنع أن تكون مُبدِعةً لها فاعلةً لها أو محالها.
الوجه الثاني: أن كلاًّ من المتحايثَين يمتنع وجودُه دون محايث، فإن العرض لا يوجد دون الجسم، والجسم أيضًا يمتنع خُلوُّه عن جميع الأعراض، فانه لابُدَّ له من شكلٍ، والأبدانُ تكون متحركًا أو ساكنًا. ومن ظنَّ جواز خُلوِّ الأجسام عن الأعراض (1)، وإذا كان كذلك فكلُّ محايثٍ لمخلوقٍ يمتنع وجودُه بدون وجود المخلوق، ويكون مشروطًا بوجود المخلوق، ومفتقرًا في وجودِه إلى وجود المخلوق، فيمتنع حينئذٍ أن يكون هذا المبدع الفاعل له، لوجوب تقدم المبدع مع امتناع تقدم المحايث، فيجب أن يكونا (2) مفعولين لفاعلٍ ثالث، فيكون الخالق مخلوقًا والواجبُ ممكنًا، أو يكون كلٌّ منهما واجبَ الوجود بنفسه، فيمتنع جعلُ أحدِهما خالقًا والآخر مخلوقًا، فلا يكون من العالم شيء مخلوق ولا مُحدَث ولا ممكنٌ، وهذا خلاف الحسّ، فإنّا نشهد الحدوث والعَدَم يَعتقبانِ على ما شاء الله من
__________
(1) كذا في الأصل دون ذكر جواب “مَن”.
(2) في الأصل: “يكون”.
(3/190)
العالم، وما وُجد بعدَ عدَمِه وعُدِم بعد وجودِه يمتنع أن يكون واجئا بغيره مطلقًا، فضَلًا عن أن يكون واجبًا بنفسه.
ومن تدبَّر هذه المعاني وما يُشبِهها تَبيَّن له أن كل من جعلَه مُحايِثًا للمخلوقات امتنع أن يكون عنده خالفا لها أو مُبدِعًا أو عِلَّةً أو يكون غنيًّا عنها، بل يجب على قوله أن يكون مفتقرًا إليها كافتقارِها إليها، كما يُصرِّح بذلك صاحب “الفصوص” وأمثالُه من القائلين بوحدة الوجود. ومن المعلوم أن ذلك ينافي وجوبَه بنفسه وإمكان غيره، وقد عُلِم بالضرورة أن الوجود فيه من موجود واجب مستغنٍ بنفسه، ومن موجودٍ مفتقرٍ إلى غيرِه، بل فيه موجودٌ حادثٌ بعد أن لم يكن، والحادثُ لا يُحدِث نفسَه ولا يَحدُثُ بلا مُحدِثٍ، بل لابدَّ للحادث من مُحدِثٍ، فهذا هذا.
الطريق الثاني في الجواب عن السؤال المذكور أن يقال: المخلوق [يجوز] أن يكون فوق المخلوق ولا يكون فلكًا محيطًا به، والأفلاك يجوز أن يكون فوقَها شيءٌ آخر غير الأفلاك ولا يكون فلكًا محيطًا بها، مع كونه أكبرَ منها تارةً وأصغرَ منها أخرى، فكيف يَجبُ في الخالق إذا كان فوقَها أن يكون فلكًا مستديرًا؟
وذلك أن الشمس والقمر والكواكب التي هي في الفلك الرابع أو الثامن أو نحو ذلك هي فوقَ ما تحتها من الأفلاك، فالشمس التي هي في الفلك الرابع تحقيقًا أو تقديرًا لا ريبَ أنها فوقَ بقية الأفلاك، وهي فوق الأرض، ولا تزال فوقَ الأرض، وهي قدرَ الأرض أكثر من مئة وستين مرَّةً، ومع هذا فليست فلكًا محيطًا بالأرض. والقمرُ فوقَ الأرض، ويقال: إن الأرض بقدره أربعين مرة، ومع هذا فليس هو فَلكًا مستديرًا. والكواكب الثابتة منها ما يقال: إنه أكثر من مئة مرة،
(3/191)
ومنها ما هو دون ذلك. والكواكب الموجودة ستة أقدارٍ، يُقال: إنّ أصغرَها بقدر الأرض ثماني عشرَ [ةَ] مرة.
وهذا الكلام على نمط من تكلَّم باستدارةِ الأفلاك، فإنّ ذلك لما كان من علم الحساب كان هذا من توابعِه، فلهذا ذكرناه، وإن كان استدارة الأفلاك قد يُعلَم بالسمع وهذا لا يُعلَم بالسمع فلا ريبَ أنه ممكن، وليس في السمع ما يدفعُه، ولنا عنه غُنْيَةٌ، فنقول: كلُّ كوكبٍ مَرْئيّ في السماء هو فوق الأرض مطلقًا، مع العلم أنه ليس فلكًا محيطًا بها، سواءٌ لا قدَّرنا أنه أكبر من الأرض أو أصغر منها، وهذا لأن العالي على الشيء الذي هو فوقَه لا يجب أن يكون مُسَامِتًا لجميع أجزائه، بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، بل هو فوقَه. وعليه سواء كانَ أكبر منه كالسماء على الأرض … (1).
***
__________
(1) ما بعده في الأصل غير متصل بما قبله، بل هو من رسالة أخرى. ولم نجد بقية الكلام في موضع آخر من المجموع، ولم نعثر على نسخة أخرى من هذه الفتوى.
(3/192)
مسألة في العلوّ
(3/193)
سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني -رضي الله عنه وأرضاه-: ما تقول في رجلين اختلفا في الاعتقاد، فقال أحدهما: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضالٌّ، وقال الآخر: إنّ الله سبحانه لا ينحصر في مكان، وهما شافعيان. فبيِّنوا لنا ما نتبعه من عقيدة الشافعي رضي الله عنه، وما الصواب فيه؟
فأجاب
الحمد لله. اعتقاد الشافعي رضي الله عنه هو اعتقاد سلف أئمة الإسلام، كمالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدَى بهم، كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم. فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين. وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقادُ هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة.
قال الشافعي في أول خطبة “الرسالة” (1): “الحمد لله الذي هو كما وصفَ به نفسَه، وفوقَ ما يَصِفُه به خلقُه”. فبيَّن رحمه الله أن الله موصوف بما وصفَ به نفسَه في كتابه وعلى لسان رسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذلك قال أحمد بن حنبل: لا يُوصَف الله إلا بما وصفَ به نفسَه أو وصفَه به رسولُه، لاْ يتجاوَز القرآن والحديث.
__________
(1) ص 8.
(3/195)
وهكذا مذهب سائرهم أنهم يصفون الله بما وصف به نفسَه وبما وصفَه به رسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يُثبتون له ما أثبتَه لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العُلَي، ويعلمون أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإنه كما أن ذاتَه ليست كالذوات المخلوقة فصفاتُه ليست كالصفات المخلوقة. بل هو سبحانه موصوفٌ بصفات الكمال منزَّهٌ عن كلّ نقصٍ وعيب.
وهو سبحانه في صفات الكمال لا يُماثِله شيء، فهو حيٌّ قيُّومٌ سميعٌ بصير عليم قدير رؤوف رحيم، وهو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وهو الذي كلَّم موسى تكليما، وتجلَّى للجبل فجعلَه دَكًّا. ولا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فليس كعلمِه علمُ أحد، ولا كقدرته قدرة أحد، ولا كرحمته رحمةُ أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره سمعُ أحدٍ ولا بصرُه، ولا كتكليمه تكليمُ أحد، ولا كتجلّيه تجلِّي أحدٍ.
والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أن في الجنة لحمًا ولبنًا وعسلًا وماءً وحريرًا وذهبًا، وقد قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء (1). فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه المخلوقات المشاهَدة مع اتفاقهما في الأسماء، فالخالق أعظمُ علوًّا ومباينةً لخلقه من مباينة المخلوق للمخلوق وإن اتفقت الأسماء.
وقد سمَّى نفسَه حيّا عليمًا سميعًا بصيرًا ملكًا رءوفًا رحيمًا،
__________
(1) أخرجه هنّاد بن السري في “الزهد” (3، 8) وغيره، انظر “الدر المنثور” (1/ 96).
(3/196)
وسمَّى أيضًا بعض مخلوقاتِه حيًّا، وبعضَها عليمًا، وبعضها سميعًا بصيرًا، وبعضَها رءوفًا رحيمًا، وليس الحي كالحيّ، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم. قال الله تعالى (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (1)، وقال الله تعالى: (وَهُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ (2)) (2)، وقال: (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)) (3)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)) (4)، وقال: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)) (5)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ (143)) (6)، وقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (128)) (7).
وهو سبحانه وتعالى قد قال في كتابه: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي لسَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)) (8). وثبت في الصحيح (9) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال للجارية: “أين الله؟ “، قالت: في السماء، قال: “من أنا؟ “، قالت: أنت رسول الله. قال: “أَعتِقْها فإنها مؤمنة”. وهذا الحديث
__________
(1) سورة البقرة: 255.
(2) سورة التحريم: 2.
(3) سورة الذاريات: 28.
(4) سورة النساء:58.
(5) سورة الإنسان: 2.
(6) سورة البقرة: 143.
(7) التوبة: 128.
(8) الملك: 16 – 17.
(9) مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي.
(3/197)
رواه مالك (1) والشافعي (2) وأحمد بن حنبل (3) ومسلم في صحيحه وغيرهم.
لكن ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء، وأن السماوات تَحصُره وتَحوِيه، فإن هذا لم يَقُلْه أحدٌ من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاتِه شيء من مخلوقاته.
وقد قال مالك بن أنس: إن الله في السماء، وعِلمُه في كلّ مكان (4). وقالوا لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربَّنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا (5).
وقال الشافعي: خلافة أبي بكر حقّ قضاها الله في سمائه، فأجمعَ عليها قلوب أوليائه. وقال الأوزاعي (6): كنّا والتابعون متوافرون نُقِرُّ بأن الله فوقَ عرشِه، ونُؤمن بما وردت به السنة من صفاته.
فمن اعتقد أن الله في جوف السماء محصور مُحاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش أو غيرِ العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه= فهو ضال مبتدع جاهل.
__________
(1) في “الموطأ” (2/ 777).
(2) في “الأم” (5/ 280) و”الرسالة” (فقرة 242).
(3) في “المسند” (5/ 447، 448).
(4) أخرجه عنه عبد الله بن أحمد في “السنة” (ص 5) وأبو داود في “مسائل الإمام أحمد” (ص 263) والآجري في “الشريعة” (ص 289) وغيرهم.
(5) أخرجه عثمان الدارمي في “الرد على الجهمية” (ص 50) و”الرد على بشر المريسي” (ص 24، 103) وعبد الله بن أحمد في “السنة” (ص 7، 25، 35، 72). وانظر “درء التعارض” (2/ 34).
(6) أخرجه البيهقي في “الأسماء والصفات” (ص 408).
(3/198)
ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يُعبَد، ولا على العرش ربٌّ يُصلَّى له ويُسجَد، وأن محمدًا لم يُعرَج به إلى ربه، ولا نزلَ القرآن من عنده= فهو معطِّلٌ فرعوني ضالٌّ مبتدع؛ فإن فرعون كذَّب موسى في أن ربه فوق السماوات، وقال: (يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا) (1). ومحمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – صدَّق موسى في أن ربَّه في السماوات، فلمّا كان ليلة المعراج وعُرِجَ به إلى الله تعالى وفرضَ عليه ربُّه خمسين صلاةً، ذكر أنه لما رجَع إلى موسى قال له: ارجعْ إلى ربك فاسألْه التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تُطيق ذلك، فرجع إلى ربه فخفَّف عنه عشرًا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال: ارجعْ إلى ربّك فاسألْه التخفيفَ لأمتك. وهذا الحديث في الصحاح (2).
فمن وافقَ فرعونَ وخالفَ موسى ومحمدًا فهو ضالٌ، ومن مَثَّل اللهَ بخلقِه فهو ضالٌّ. قال نعيم بن حماد: من شبَّه الله بخلقِه فقد كَفر، ومن جَحَد ما وصف الله به نفسه فقد كفر. وليس ما وصف الله به نفسَه ولا رسولُه تشبيهًا.
وقد قال الله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (3)، وقال: (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) (4)، وقال: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) (5)،
__________
(1) سورة غافر: 36 – 37.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري (349، 3342) ومسلم (163) عن أبي ذر، وأخرجه البخاري (3207، 3887) ومسلم (164) عن مالك بن صعصعة، وأخرجه مسلم (162) عن أنس.
(3) سورة فاطر: 10.
(4) سورة آل عمران: 55.
(5) سورة النساء: 158.
(3/199)
وقال: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) (1)، وقال: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)) (2)، وقال تعالى: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19)) (3). فدلَّ ذلك على أن الذين عنده هم قريبون إليه، وإن كانت المخلوقات كلها تحت قدرته.
والقائل الذي قال: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضال، إن أراد بذلك من لا يعتقد أن الله في جوف السماء بحيث تَحصُره وتُحيط به، فقد أخطأ. وإن أراد بذلك من لم يعتقد ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلفُ الأمة وأئمتُها من أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، فقد أصاب. فإنه من لم يعتقد ذلك يكون مكذبًا للرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – متبعًا لغير سبيل المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطِّلًا لربِّه نافيًا له، فلا يكون له في الحقيقة إلهٌ يَعبدُه، ولا ربّ يسألُه ويَقصِدُه. وهذا قول الجهمية ونحوهم من أتباع فرعون المعطل.
والله قد فَطَر العباد عَرَبَهم وعَجَمَهم على أنهم إذا دَعَوا الله توجهتْ قلوبهم إلى العلوّ، لا يقصدونَه تحت أرجلهم. ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارفٌ قَطُّ “يا الله” إلاّ وجد في قلبه قبلَ أن يتحرك لسانه معنىً يطلب العلوَّ، ولا يلتفت يَمنة ولا يَسْرةً.
والقائل الذي قال: إن الله لا ينحصر في مكانٍ، إن أراد به أنَّ الله لا ينحصر في جوف المخلوقات أو أنه لا يحتاج إلى شيء منها= فقد
__________
(1) سورة الأنعام: 114.
(2) سورة الزمر: 1.
(3) سورة الأنبياء: 19.
(3/200)
أصاب. وإن أراد أن الله ليس فوقَ السماوات، ولا هو على العرش، وليس هناك إله يُعبَد، ومحمدٌ لم يُعرَجْ به إلى الله= فهذا جهمي فرعوني معطِّل.
ومنشأ الضلال أن يظنّ أن صفاتِ الربّ كصفاتِ خلقِه، فيظنّ أن الله سبحانه على عرشه كالملك المخلوق على سريره، فهذا تمثيل وضلال. وذلك أن الملك مفتقر إلى سريره، ولو زال سريرُه لسقَط، والله غني عن العرشِ وعن كلِّ شيء، والعرشُ وكلُّ ما سواه فقير إلى الله، وهو حامل العرش وحملة العرش، وعلوُّه عليه لا يُوجب افتقارَه إليه، فإنّ الله قد جَعَلَ المخلوقاتِ عاليًا وسافلًا، وجَعَلَ اَلعاليَ غنيًّا عن السافل، كما جعل الهواء فوق الأرض، وليس هو مفتقرًا إليها، وجعل السماء فوق الهواء، وليست محتاجةً إليه. فالعليُّ الأعلى ربُّ السماوات والأرض وما بينهما أولى أن يكون غنيًّا عن العرشِ وسائرِ المخلوقات وإن كان عاليًا عليها، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
والأصلُ في هذا الباب أنَّ كل ما ثبت في كتاب الله أو سنة رسوله وجبَ التصديقُ به، مثل عُلوِّ الربّ واستوائه على عرشه ونحو ذلك. وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات مثل قول القائل: هو في جهة أو ليس هو في جهة، وهو متحيز أو ليس بمتحيز، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس، وليس مع أحدهم نصٌّ، لا عن الرسول ولا عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أئمة المسلمين، فإن هؤلاء لم يقل أحدٌ منهم: إنّ الله في جهة، ولا قال: ليس هو في جهة؟ ولا قال: هو متحيز، ولا قال: ليس بمتحيز؟ ولا قال: هو جسم أو جوهرٌ، ولا قال: ليس بجسم ولا جوهر. فهذه
(3/201)
الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا في السنة ولا الإجماع. والناطقون بها قد يُرِيدون معنى صحيحًا، وقد يريدون معنًى فاسدًا، فمن أراد معنًى صحيحًا يوافق الكتابَ والسنة كان ذلك المعنى مقبولًا منه، وإن أراد معنًى فاسدًا يخالفُ الكتابَ والسنة كان ذلك المعنى مردودًا عليه.
فإذا قال القائل: إن الله في جهةٍ، قيل له: ما تُريد بذلك؟ أتريدُ بذلك أنه في جهة موجودة تحصرُه وتُحِيط به، مثل أن يكون في جوف السماء؟ أم تريد الجهةَ أمرًا عدميًّا؟ وهو ما فوق العالم، فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات. فإن أردتَ الجهةَ الوجوديةَ وجعلتَ اللهَ محصورًا في المخلوقات فهذا باطل، وإن أردتَ الجهةَ العدمية وأردتَ أن الله وحدَه فوقَ المخلوقات بائن منها فهذا حق، وليس في ذلك شيء من المخلوقات حَصرَه ولا أحاطَ به ولا عَلاَ عليه، بل هو العالي عليها المحيط بها، وقد قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)) (1).
وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنّ الله يقبض الأرض يومَ القيامة، ويطوي السماوات بيمينه ثم يُهزهِز، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ “. وقال ابن عباس (3): ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بيتهن في يد الرحمن إلا كخردلةٍ في يد أحدكم.
وفي حديث آخر: أنه يرميها كما يَرمي الصبيانُ الكرةَ. فمن يكون
__________
(1) سورة الزمر: 67.
(2) البخاري (4812، 6519، 7382) ومسلم (2787) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه الطبري في “تفسيره” (24/ 17).
(3/202)
جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى في هذا الصغر والحقارة كيف تُحيط به وتَحصُره؟
ومن قال: إنَّ الله ليس في جهة، قيل له: ما تُريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السماوات ربٌّ يُعبَد، ولا على العرش إلهٌ، ومحمدٌ لم يُعرَج به إلى الله تعالى، والأيدي لا تُرفَع إلى الله تعالى في الدعاء، ولا تتوجه القلوبُ إليه= فهذا فرعوني معطِّلٌ جاحدٌ لربِّ العالمين.
وإن كان معتقدًا أنَّه مُقِرٌّ به، فهو جاهل متناقضٌ في كلامه. ومن هنا دَخَل أهل الحلول والاتحاد كابن عربي، وقالوا: إنّ الله بذاته في كل مكان، وأن وجود المخلوقات هو وجودُ الخالق.
وإن قال: مرادي بقولي “ليس في جهة” أنه لا تُحيط به المخلوقات، بل هو بائن عن المخلوقات= فقد أصاب في هذا المعنى.
وكذلك من قال: إن الله متحيز، أو قال: ليس بمتحيز، إن أراد بقوله “متحيز” أن المخلوقات تَحُوزُه وتُحِيط به فقد أخطأ. وإن أراد أنه منحازٌ عن المخلوقات لا تَحوِيه فقد أصاب. وإن أراد: ليس ببائنٍ عنها، بل هو لا داخلٌ فيها ولا خارجٌ عنها فقد أخطأ.
والناس في ذلك ثلاثة أصنافٍ: أهل الحلول والاتحاد، وأهل النفي والجحود، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة.
فأهل الحلول يقولون: إنه بذاته في كلِّ مكانٍ، وقد يقولون بالاتحاد والوحدة، فيقولون: وجود المخلوقات وجودُ الخالق، كما هو مذهب ابن عربي صاحب “الفصوص” وابن سبعين ونحوهما.
(3/203)
وأما أهل النفي والجحود فيقولون: لا هو داخلَ العالم ولا خارج عنه، ولا مباينٌ له ولا حَالٌّ فيه، ولا فوقَ العالم ولا فيه، ولا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقربُ إليه شيء، ولا يدنو منه شيء، ولا يتجلى لشيء ولا يراه أحد، ونحو ذلك.
وهذا قول متكلمة الجهمية، كما أن الأول قول عُبَّاد الجهمية. فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئًا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كلَّ شيء، وكلاهما مرجعُهم إلى التعطيل والجحود الذي هو قول فرعون.
وقد عُلِم أن الله كان قبل أن يخلق السماوات والأرض، ثم خلقها، فإمَّا أن يكون دخل فيهما، وهذا حلولٌ باطلٌ وإما أن يكونَا دخَلاَ فيه، وهو أبطلُ وأبطلُ؛ وإما أن يكون بائنًا عنهما لم يدخل فيهما ولم يدخلا فيه، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة.
ولأهل الحلول والتعطيل في هذا الباب شُبُهاتٌ يُعارِضون بها كتابَ الله وسنة رسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما أجمعَ عليه سلفُ الأمة وأئمتُها، وما فَطَر الله عليه عبادَه، وما دلَّتْ عليه الدلائل العقلية الصحيحة. فإن هذه الأدلة كلّها متفقة على أن الله فوقَ مخلوقاتِه عالٍ عليها، قد فَطَر الله على ذلك العجائزَ والأعرابَ والصبيان في الكُتَاب، كما فَطَرهم على الإقرار بالخالق. وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح (1): “كل مولودِ يُولَد على الفطرة، فأبَواه يُهوِّدانِه أو يُنضِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، كما تُنتَج البهيمة بهيمةَ جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جَدعاءَ؟ “يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم (فِطرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبدِيلَ لِخَلْقِ الله).
__________
(1) البخاري (1358، 1359، 1385، 4775، 6599) ومسلم (2658) عن أبي هريرة.
(3/204)
وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتّاب، عليك بما فطره الله عليه. فإن الله فَطَر عبادَه على الحق، والرسل بُعِثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها.
وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية فيريدون أن يُغيِّروا فطرةَ الله، ويُورِدون على الناس شبهاتٍ بكلماتٍ مشتبهاتٍ لا يفهم كثير من الناس مقصودَهم بها، ولا يُحسِن أن يُجيبهم. وقد بُسِط الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
وأصلُ ضلالهم تكلُّمهم بكلماتٍ مجملةٍ لا أصلَ لها في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قالَها أحد من أئمة المسلمين، كلفظ التحيُّز والجسم والجهة ونحو ذلك، فمن كان عارفًا بحلِّ شبهاتهم بيَّنها، ومن لم يكن عارفًا بذلك فليُعرِض عن كلامهم، َ ولا يَقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، كما قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (1). ومن تكلم في الله وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة فهو من الخائضين في آيات الله بالباطل.
وكثيرٌ من هؤلاء يَنسُب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه، فينسبون إلى الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة من الاعتقادات ما لم يقولوه، ويقولون لمن اتبعهم: هذا اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طُولبُوا بالنقل الصحيح عن الأئمة تبيَّنَ كذبُهم في ذلك، كما يتبيَّن كذبُهم فيما ينقلونه عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في كثير من البدع والأقوال الباطلة.
ومنهم من إذا طُولبَ بتحقيقِ نقلِه يقول: هذا القول قاله العقلاءُ، والإمام الفلاني لا يخالف العقلاءَ. ويكون أولئك العقلاءُ طائفة من
__________
(1) سورة الأنعام: 68.
(3/205)
أهل الكلام الذين ذمَّهم الأئمة.
فقد قال الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنعال، ويُطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتابَ والسنة وأقبلَ على الكلام! فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمُه فيمن عارضهما بغيرهما؟.
وكذلك قال أبو يوسف القاضي: مَن طلبَ الدين بالكلام تزندقَ. وكذلك قال أحمد بن حنبل: ما ارتدَى أحد بالكلام فأفلح. وقال: علماء الكلام زنادقة.
وكثير من هؤلاء قرأوا كتبًا من كتب الكلام فيها شبهات أضلَّتهم، ولم يهتدوا لجوابهم، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله فوقَ الخلق للزمَ التجسيم والتحيُّز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ وما أراد بها أصحابُها.
فإن ذكر لفظ “الجسم” في أسماء الله وصفاتِه بدعة، لم ينطق بها كتاب ولا سنة، ولا قالَها أحد من سلفِ الأمة وأئمتها، لم يقل أحد منهم: إن الله جسم، ولا إن الله ليس بجسم، ولا إن الله جوهر، ولا إن الله ليس بجوهر.
ولفظ “الجسم” لفظٌ مجمل، فمعناه في اللغة هو البدن، ومن قال: إنّ الله مثل بدن الإنسان فهو مفترٍ على الله، ومن قال: إنّ الله يُماثِله شيء من المخلوقات فهو مفترٍ على الله. ومن قال: إن الله ليس بجسمٍ، وأراد بذلك أنه لا يُماثِله شيء من المخلوقات، فالمعنى صحيح وإن كان اللفظ بدعة. وأما من قال: إنَّ الله ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يُرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي، بل
(3/206)
القرآن العربي مخلوقٌ أو تصنيفُ جبريل ونحو ذلك= فهذا مفترٍ على الله فيما نفاه عنه.
وهذا أصلُ ضلالِ الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم على مذهبهم، فإنهم يُظهرون للناس التنزيهَ، وحقيقةُ كلامهِم التعطيل، فيقولون: نحن لا نُجسِّم، بل نقول: إن الله ليس بجسم، ومرادُهم بذلك نفيُ حقيقة أسمائه وصفاتِه، فيقولون: ليس لله علمٌ ولا حياةٌ ولا قدرةٌ ولا كلام ولا سمعٌ ولا بصرٌ، ولا يُرى في الآخرة، ولا عُرِجَ بالنبي إليه، ولا يَنزِل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتجلى لشيء، ولا يقرب إلى شيء، ولا يقرب منه شيء. ويقولون: إنه لم يتكلم بالقرآن، بل القرآن مخلوق، أو هو كلام جبريل، وأمثال ذلك من مقالات المعطّلة الفرعونية الجهمية.
والله تعالى يقول في كتابه (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) (1) أي لا تُحيط به، فكما أنه يُعلَم ولا يُحاطُ به علمًا، فكذلك سبحانه يُرَى ولا يُحاطُ به رؤيةً. فهو سبحانه نفى الإدراك، ولم يَنفِ الرؤية، ونَفْي الإدراك يَدُلُّ على عظمته، وأنه من عظمته لا يُحاطُ به. وأما نفي الرؤية فلا مدحَ فيه، فإن المعدومات لا تُرى، ولا مدحَ لشيء من المعدومات، بل المدحُ إنما يكون بالأمور الثبوتيه لا بالأمور العدمية، وإنما يَحصل المدحُ بالعدم إذا تضمَّن ثبوتًا، كقوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (2)، فنزَّه نفسه عن السِّنَة والنوم، لأن ذلك يتضمن كمال حياتِه وقيوميته،
__________
(1) سورة الأنعام: 103.
(2) سورة البقرة: 255.
(3/207)
كما قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (1)، فهو سبحانه حيّ لا يموتُ، قيومٌ لا ينامُ. وكذلك قوله تعالي: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)) (2)، فنزَّه نفسَه المقدسة عن مسَّ اللغوب -وهو الإعياء والتعب- ليتبيَّن كمال قدرته.
فهو سبحانه موصوفٌ بصفات الكمال منزَّهٌ عن كل نقصٍ وعيبٍ، موصوف بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، منزَّهٌ عن الموت والجهل والعجز والصَّمَم والعمى والبكَم، وهو سبحانَه لا مِثلَ له في شيء من صفاتِ الكمال، وهو منزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، فإنه قدُّوس سَلامٌ يمتنع عليه النقائصُ والعيوب بوجهٍ من الوجوه، وهو سبحانه لا مثلَ له في شيء من صفاتِ كمالِه، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحدٌ.
ولهذا كان مذهب سلفِ الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصفَ به نفسه وبما وصفَ به رسولُه، من غير تحريفٍ ولا تعطيل، ومن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيل، فيُثبِتون له ما أثبتَه لنفسِه من الأسماء والصفات، ويُنزِّهونه عمَّا نزَّه عنه نفسَه من مماثلة المخلوقات، إثباتٌ بلا تمثيل، وتنزيهٌ بلا تعطيل. قال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) (3)، فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) رد على الممثِّلة، وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) رد على المعطِّلة.
قال بعض العلماء: المعطِّلُ يَعبُد عَدَمًا، والممثل يعبد صنمًا،
__________
(1) سورة الفرقان: 58.
(2) سورة ق: 38.
(3) سورة الشورى: 11.
(3/208)
المعطِّل أعمى، والممثل أعشى، ودينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وقد قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (1). والسنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فأهل السنة وسطٌ في الصفات بين أهل التمثيل وأهل التعطيل، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم بفضله ورحمته، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.
__________
(1) سورة البقرة: 143.
(3/209)
قاعدة شريفة في الرضا الشرعي وما يحبّه الله من الرضا، وبيان أن الله لا يرضى بالكفر ولا يحبُّه ولا يشرعه، ولا يرضى بالمعاصي ولا يحبُّها ولا يُثيب فاعلها
(3/211)
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل
فيما يحبّه الله ويرضاه من رِضا العبدِ، وما لا يحبّه من ذلك ويرضاه، فإن هذا الباب مما كثُر فيه اضطراب كثيرٍ من المتأخرين، فإنهم سمعوا لفظ الرضا بالقضاء وأن ذلك محمودٌ من العبد يُثَابُ عليه بل يؤمن به، وأنه من أعلى مقامات اليقين وأحوال الصديقين، وظنّوا أن المراد بذلك أن كلّ ما كان مخلوقًا للربّ فينبغي أن يُرضىَ ذلك المخلوقُ. ثم صاروا حِزبَيْن:
حِزبًا قالوا إذا كان القضاء والرضا متلازمين، فمعلومٌ إلا مأمورون ببغض ما نهى الله ورسولُه عنه وسخطه، فلا يكون بقضاءٍ وقدر.
وحزبًا قالوا: إذا كانا متلازمين، وقد دُعِينا إلى الرضا، فنحن نرضى بكل ما يقع من الكفر والفسوق والعصيان.
وكلٌّ من هذين الحزبين مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمَّة وأئمتها، فالحزب الأول علموا أن الله لا يرضى الكفر والفسوق والعصيان، قالوا: فلم يَخْلُق ذلك ولم يقدرْه ولم يَقتضِه، بل ذلك واقعٌ في الوجود بغير مشيئتِه ولا قدرتِه ولا خَلْقِه، ومنهم من قال: ولا عَلِمَه قبل أن يقع. وهؤلاء القدرية المكذِّبون بقدر الله من المعتزلة وغيرهم. ومن أعظم حُجَجهم على ذلك أن قالوا: الرضا
(3/213)
بالقضاء من أعظم المقامات، وربّما ادَّعوا إجماع المسلمين على أن الرضا بالقضاء من أفضل المقامات، فلو كانت المعاصي بقضائه لكان ينبغي أن يُرضَى بها. والرضا بالكفر والفسوق والعصيان لا يجوز باتفاق المسلمين، فعُلِم أن هذه ليست بقضائه.
ولما أوردوا هذه الحجة أجابهم أهلُ الإثبات للقدر، كل طائفة بجوابٍ بحسب أصولهم، فإن من يقول: إن رِضاه هو إرادتُه، وإنّ كلَّ ما قدَّره فقد رضيه وأحبَّه وأرادَه، كما يقول ذلك الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام والتصوف وغيرهم، فله جواب على أصله.
وهؤلاء يقولون: أراد الكفر قبيحًا مُعاقَبًا عليه، وكذلك رَضِيَه وأحبَّه قبيحًا مُعاقَبًا عليه. ومعنى “قبيحًا” عندهم أي منهيًّا عنه، فهم يقولون: أرادَه ورضيه وأحبَّه ومع ذلك نَهى عنه ونهانا أن نَرضَى به، فحقيقة قولهم أن الله يحبّ أمورًا ويرضاها مع نهيه لنا عنها أن نُحبَّها ونرضاها. ومن هؤلاء أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.
فمن هؤلاء من قال: إنما نرضى بقضائه الذي أمرنا أن نريده ونرضاه، ولا نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به. وهذا جواب طائفة كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما.
وقد يقولون: نرضى بالقضاء على الجملة، ولا نُطلِقه على التفصيل. هذا حكاية لفظهم.
ومنهم من قال ما ذكره أبو حامد والرازي وغيرهما، قالوا: نَرضَى بالقضاء ولا نرضَى بالمقضي.
قالت الطائفة الأولى كالقاضيين -وهذا لفظ أبي بكر، فإنه الأسبق
(3/214)
إلى هذا الجواب، قال (1) -:
فإن قال: أفترضون بقضاء الله وقدره؟
قيل له: نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه، الذي أمرنا أن نريده ونرضاه، ولا نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به، ولا نتقدم بين يدي الله ولا نعترض على حكمه.
وجواب آخر، وهو أنا نقول: نرضَى بقضاء الله في الجملة على كل حال.
فإن قال: أفترضَون الكفر والمعاصيَ التي هي من قضاء الله؟
قيل له: نحن نطلق الرضا بالقضاء في الجملة، ولا نطلقه على التفصيل لموضع الإبهام، كما يقول المسلمون كافةً: الأشياءُ لله، ولا يقولون في التفصيل: الولد والصاحبة والشريك لله، وكما يقولون: الخلق يَفنَون ويبيدون، ولا يقولون: حجج الله تفنَى وتَبيد، في نظائر لهذا من القول الذي يُطلَق من وجهٍ ويُمنَع من وجهٍ.
ثم يقال لهم: أَوَ ليس قد قَضَى بموتِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعَجْزِ المسلمين عن دفع الكفار، والاستيلاء على ثغورهم وسَبْي نسائهم، وقَضَى إعانةَ الفراعنة والشياطين وسائر الكفار، وبقاءَهم واستظهارهم على المؤمنين؟
فإذا قالوا: أجَلْ.
قيل لهم: أفترضَون بذلك أجمع؟
__________
(1) “التمهيد” للباقلاني (ص 368 – 369).
(3/215)
فإن قالوا: نعم.
قيل لهم مثله فيما سألونا عنه، وخرقوا الإجماع في ركوب هذا الإطلاق. وإن قالوا: لا.
قيل لهم مثله فيما طالبونا به (1).
قلت: وقد بسطوا هذا القول أكثر، فقالوا -واللفظ للقاضي أبي يعلى-: قلتُ: أما تفصيل القول في الرضا بأن بعضَ المخلوق نرضى به وبعضَه لا نرضى به فصوابٌ، لكن لم يثبتوا ما هو الذي نرضِى به، فإن قولهم “الذي أمرنا أن نريده ونرضاه” إن كان مرادهم نرضى بما أمرنا أن نفعله وهو الذي أمرنا بإرادته، فالرضا أعم من ذلك، فإنه ينبغي الرضا بأمورٍ غير أفعالنا التي أمرنا بها؟ وإن كان مقصودهم بكل ما أمرنا أن نريده ونرضاه وإن لم يكن من فعلنا.
قلتُ: فهذا جواب حسن، لكن لا يستقيم على أصل أتباع أبي الحسن في قوله الذي خالف به المتقدمين واتبع فيه الجهمية والقدرية، حيث قال معهم: إن المحبة والرضا هي الإرادة، وفرَّعوا على ذلك أن الله لا يجوز أن يُحَبّ ذاتُه، كما لا يجوز أن تُراد ذاتُه، فإن الإرادة إنما تتعلق بالمتجدد، وهو ما كان معدومًا فأريد حدوثُه.
قال أبو المعالي: ومما اختلف أهل الحق في إطلاقه ومَنْع إطلاقه: المحبة والرضا، فصار المتقدمون إلى أنه سبحانه لا يحبّ الكفر ولا يرضاه، وكذلك كل معصية. وقال شيخنا أبو الحسن: المحبَّة هي
__________
(1) هذا آخر كلام الباقلاني.
(3/216)
الإرادة نفسُها، وكذلك الرضا والاصطفاء، فيقول: إنه سبحانه يريد الكفر ويرضاه كفرًا قبيحًا مُعاقَبًا عليه، ويحبّ أن يكون على ما هو عليه. وليس معنى قوله “إنه يحبه ويرضاه” أنه يراه حسنًا أو يُثنِي على صاحبه بفعلِه، بل يذمُّه بفعلِه ويلعنُه ويعاقبُه عليه.
قال أبو المعالي: ومن أصحابنا من قال: نأخذ هذه الإطلاقات بالشرع، فما لم يَرِد الشرعُ بإطلاقه لا نُطلِقُه، وهذا هو الأولى، وربما يقول هذا القائل: المحبَّة من الله صفة خبرية، يتبع في ذلك الخبر.
قال أبو المعالي: وإذا ثبت أن المحبة هي الإرادة فيترتَّبُ على ذلك أن يُعلَم أنه سبحانه لا تتعلق به المحبة على الحقيقة، فإنها هي الإرادة، والإرادةُ لا تتعلق إلا بمتجدد.
قلت: وهذا القول الذي قاله أبو الحسن هو اختيار القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى في أحد قوليه الذي يقول فيه: إن الإرادة والرضا والمحبة واحد، كما قاله في “المعتمد” (1). وهذا خلاف المعروف عن المتقدمين من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، كأبي بكر بن عبد العزيز وغيره، فإنهم يفرِّقون بين المحبّة والرضا (2).
***
__________
(1) ص 75.
(2) انتهى الكلام هنا في الأصل.
(3/217)
فصل الأقوال نوعان
(3/219)
الأقوال نوعان:
أقوال ثابتة عن الأنبياء، فهي معصومة، يجب أن يكون معناها حقًّا، عرفَه من عرفه وجَهِله من جهله. والبحث في ذلك إنما هو عن معرفة ما أرادتْه الأنبياء بأقوالهم. ومَن طلب تفسير كلامهم وتأويلَه، ومقصودُه معرفةُ مرادِهم من الوجه الذي به يُعرَف مرادُهم فقد سلكَ طريقَ الهدى؟ ومن كان مقصودُه أن يجعل ما قالوه تبعًا له، فإن وافقَه قَبلَه وإلاَّ ردَّه، وتكلَّف له من التحريف ما يُسمِّيه تأويلًا، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيرًا من ذلك أو أكثره لم تُرِدْه الأنبياءُ= فهذا مُحرَّفٌ للكلم عن مواضعه، لا طالبٌ لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في العلم.
والنوع الثاني: ما ليس منقولًا عن الأنبياء، فقد عُلِم أن مَن سِواهم ليس بمعصوم، وحينئذٍ فلا يُقبَل كلامُه ولا يُرَدُّ إلا بعد تصورِ مرادِه ومعرفةِ صلاحِه من فسادِه، فمن قال من أهل الكلام والجدل: إنه لا يفعل الأشياء بالأسباب، بل يفعل عندها لا بها، ولا يفعل لحكمة، وإنه لا يجعل في الأعيان صفاتٍ وطبائعَ وخواصَّ يُميَّز بها بين موصوف وموصوف، وباعتبارها يحصل ما يحصل من آثارها الموجودة في العالم، ولا خصَّ الأفعال المأمور بها بما لأجله كانت حسنةً مأمورًا بها، ولا المنهيَّ عنها بما لأجله كانت سيئاتٍ منهيًّا عنها، وإنه ليس لشيء من القُوَى والقُدَر التي في الحيوان والإنسان وغيره وفي النبات والمعادن والعناصر الأربعةِ تأثيرٌ في شيء، بل لا فرقَ بين الماء والنار، تُخلق الحرارة عند ملاقاتها لا بقوة فيها،
(3/221)
والماء يُخلَق الريُّ عنده لا بسبب عذوبةٍ وقوةٍ فيه، وأمثال ذلك= فهذا مخالفٌ لنصوصِ القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة.
ولم يقل هذا القول أحدٌ من سلف الأمة وأئمتها، وأول من قال هذا القول في الإسلام الجهم بن صفوان الذي أجمع الأمة على ضلالته، فهو أول من أنكر الأسباب والطبائع، كما أنه أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات وخلق كلام الله وإنكار رؤيته وغير ذلك، ونصوص الكتاب والسنة وكلام السلف في إبطال هذا الأصل كثيرة جدا، مثل قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح (1) لأشجِّ عبد القيس: “إن فيك لخُلُقينِ يحبُّهما الله: الحلم والأناة”، فقال: أخُلُقَينِ جُبلتُ عليهما أمِ تخلَّقتُ بهما؟ فقال: “بل جُبلتَ عليهما”، فقال: الحمدَ لله الذي جَبَلني على ما يُحِبُّ. وقال تعالىَ: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)) (2).
ومما يدلُّ على ذلك قوله تعالى في قصة إبراهيم: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)) (3)، فسَلَبَ النارَ طبيعةَ الحرارة التي بها تَسخُن، وجعلَها بردًا وسلامًا، ولو كان ما يَحصُل عند ملاقاتِها لا أثرَ لها فيه لم يحتج إلى ذلك، بل كان يكفي أن لا يخلق الأثر عند الملاقاة. بل قوله “بردًا وسلامًا” يَقضِي أنه جعل فيها ما تُوجِب برودتَه
__________
(1) أخرجه البخاري في “خلق أفعال العباد” (28) وفي “الأدب المفرد” (975) وأبو داود (5225) عن زارع العبدي. وأخرجه أحمد (4/ 205) والبخاري في “الأدب المفرد” (584) وفي “خلق أفعال العباد” (27) عن الأشج نفسه. وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وابن عباس.
(2) سورة المعارج: 19 – 21.
(3) سورة الأنبياء: 69.
(3/222)
وسلامتَه. والأدلة في ذلك كثيرة تُخبِر أنه يخلق الأسباب والحكم، كقوله عز وجل: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)) (1)، وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ) الآية (2). وقال تعالى: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) الآية (3). وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا … ) (4)، فذكر أن الرياح تُقِلُ السحابَ أي تَحمِلُه، فجعلَ هذا الجماد فاعلًا بطبعه.
وقال تعالى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)) الآيات (5). وقال: (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)) (6)، وقال: (وَتَرَى اَلأَرض هَامِدَةً) الآية (7). وقال تعالى: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) (8). وقال تعالى (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (9). وقال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) (10)، فوصف السرابيل بأنها تقي الحرَّ والبأس. وقال تعالى: (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)) (11)،
__________
(1) سورة النبأ: 14 – 16.
(2) سورة ق: 9 – 11.
(3) سورة البقرة: 164.
(4) سورة الأعراف: 57.
(5) سورة الذاريات: 1 وما بعدها.
(6) سورة الزلزلة: 2.
(7) سورة الحج: 5.
(8) سورة الإنعام: 99.
(9) سورة الكهف: 33.
(10) سورة النحل: 81.
(11) سورة الواقعة: 69.
(3/223)
أخبر أنه أنزل الماء من المزن، وهو السحاب، كما أخبر أنه أنزله من المعصرات، وهو المراد بقوله (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ) في مواضع أخر (1)، وبيَّن أنه لو شاء لجعله أجاجا، كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) (2)، وقال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) (3)، فبيَّن أن كلا من البحرين جعل فيه صفة قائمة به، عذوبة هذا وملوحة هذا، وامتنّ على عباده بذلك، وأنه لو شاء لجعل العذب أجاجًا، فدلَّ على أن المياه المشروبة مخصوصة بصفة جعلَها بها تُشرب، وأنه لو جعلَه أُجاجًا لما شرِب، وبيَّن أن أحد الجسمين يختصه بصفة يَحصُل بها الانتفاع ويختص أحدهما بقوة يكون بها الفعل.
وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)) (4)، وقال تعالى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)) (5) (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (6)، وقال تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)) (7)، وقال تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)) (8) أي صنف كريم، وهو الكثير المنفعة.
__________
(1) سورة المؤمنون: 18، سورة الفرقان: 48، سورة لقمان: 10.
(2) سورة الفرقان: 53.
(3) سورة فاطر: 12.
(4) سورة النبأ: 13 – 16.
(5) سورة الفرقان: 48.
(6) سورة الحديد: 25.
(7) سورة آل عمران: 138.
(8) سورة لقمان: 10.
(3/224)
فمن قال من أهل الجدل والكلام: إنه يحدث النبات عند المطر لا به، فقد خالف نصَّ الرسول، مع مخالفته صريح المعقول، وكذلك في سائر ما يقوله، كقولهم: يحدث الشبع عند الأكل [لا] به، والزهوق عند القتل لا به، والهدى عند سماع القرآن لا به، فهذا النفي مخالف للكتاب والسنة والميزان للشرع، قال تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (1)، وقال تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) (2)، وقال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) (3)، وقال: (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) (4).
وكما أخبر أنه يخلق الأشياء من موادِّها، في مثل قوله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (5)، وقوله تعالى: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)) (6)، وقال: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)) (7).
وأخبر سبحانه أنه قائم بالقسط وأنه لا يظلم الناس شيئا، فلا يضع شيئا في غير موضع، ولا يُسويّ بين مختلفين ولا يُفرِّق بين متماثلين، فقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (8) الآية. وقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) سورة المائدة: 16.
(2) سورة البقرة: 26.
(3) سورة التوبة: 14.
(4) سورة التوبة: 52.
(5) سورة الأنبياء: 30.
(6) سورة الرحمن: 14 – 15.
(7) سورة نوح: 17 – 18.
(8) سورة الجاثية: 21.
(3/225)
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)) (1)، وقال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)) (2) الآية. وقال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20)) (3) الآية. وقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ) (4) الآية. فدلَّ في هذه الآية وغيرها على أن ما أمرهم به هو معروف في نفسه تعرفه القلوب، فهو مناسب لها مُصْلِحٌ لفسادِها، ليس معنى كونه معروفًا أنه مأمور به، إذْ هذا قدر مشترك بينه وبين كل آمرٍ حتى الشيطان، فإنه يأمر بما يأمر به، فعُلِم أنّ ما يأمر به الرسول مختصٌّ بأنه معروف، وما ينهى عنه مختصٌ بأنه منكر، وما يُحِلّه مختصٌّ بأنه طيب، وما يُحزَمه مختصٌّ بأنه خبيث. ومثل هذا كثير في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور. والله سبحانه أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما.
***
__________
(1) سورة ص: 28.
(2) سورة القلم: 35.
(3) سورة فاطر: 19 – 20.
(4) سورة الأعراف: 157.
(3/226)
قاعدة في شمول آي الكتاب والسنة والإجماع أمرَ الثقلَين الجنِّ والإنسِ، وما يتعلق بهم من الخطاب وغيره
(3/227)
قال سيدنا وشيخنا شيخُ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني رحمه الله:
قاعدة شريفة
ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أمرُ الثقلين: الجن والإنس، كما أخبر به في سورة الأنعام في قولهَ تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (1)، وبقوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (2).
وثبتَ أن محمدًا رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رسولٌ إلى الثّقَلين جميعًا، كما أخبر به في سورة الرحمن (3)، وقل أوحي (4)، والأحقاف (5)، وكما في الأحاديث المشهورة، مثل حديث ابن مسعود (6) وغيره.
وثبت بالسنة والإجماع مع ما دلَّ عليه القرآن أنَّ القلمَ مرفوعٌ عن الصبيِّ حتى يَبْلُغَ، وعن المجنون حتى يُفِيقَ، وعن النائم حتى يَستيقظ، كما في حديث علي بن أبي طالب وعائشة وغيرهما: “رُفِعِ القلمُ عن ثلاثة” (7)، مع قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ
__________
(1) الآية 130.
(2) سورة هود: 119.
(3) الآيات 31 – 39.
(4) هي سورة الجن: 1 وما بعدها.
(5) الآيات 28 – 32.
(6) أخرجه مسلم (450).
(7) حديث علي أخرجه أحمد (1/ 154، 158) وأبو داود (4401، 4402) وابن خزيمة (1003، 3048) وغيرهم. وحديث عائشة أخرجه أحمد (6/ 100، 101، 144) وأبو داود (4398) والنسائي (6/ 156) وابن ماجه (2041) وغيرهم.
(3/229)
الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) إلى قوله (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (1)، وقوله: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (2)، وقوله: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) في غير موضع (3)، مع ما ثبتَ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من نهيِه عن قتل النساء والصبيان، وأنه استعرضَ قريظةَ فمن أَنبتَ قَتَلَه، ومَن لم يُنبت لم يَقْتُله. وما رُوِي من الأحاديث التي فيها: “ثلاثة كلهم يُدلي عَلى الله بحجته” (4).
فأما قوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)) (5) ونحو ذلك، فإنما يتناول من لا يَعقِل من الأطفال والمجانين، فأما الصبي المميِّز فتكليفُه ممكنٌ في الجملة، ولهذا يصحح أكثر الفقهاء تصرفاتِه تارةً مستقلاًّ كإيمانِه، وتارةً بالإذن كمعاوضاتِه الكبيرة.
واختلفوا في وجوب الصلاة على ابن عشرٍ، وفي وجوب الصوم على من أطاقَه. والخلاف فيه معروفٌ في مذهب أحمد، حتى اختُلِف في صحة شهادته وأمانه وإمامتِه وولايتِه في النكاح وعتقِه.
وهنا مسائل:
__________
(1) سورة النور: 58 – 59.
(2) سورة النساء: 6.
(3) سورة الأنعام: 152؛ سورة الإسراء: 34.
(4) أخرجه ابن أبي عاصم في “السنة” (404) عن أبي هريرة بلفظ: “أربعة … “.
ورواه أحمد (4/ 24) عن الأسود بن سريع بنحوه. وانظر “الصحيحة” (1434).
(5) سورة الإسراء: 15.
(3/230)
المسألة الأولى
أن من نتائج التكليف: العقاب والثواب، عقاب العاصي وثواب المطيع.
فأما العقاب: فما علمتُ أحدًا من أهلِ القبلةِ خالفَ في أن الكافر مُعذَّبٌ في الجملة، وإن اختلفوا في تفاصيل عذابه. ونصوصُ القرآن متظاهرة بعذاب الكافرين، وكذلك الذي عليه عامة المسلمين من جميع الطوائف عقوبةُ فُجَّارِ أهل القبلة في الجملة: إمّا في الدنيا بالمصائب والحدود؟ وإما في الآخرة. وأما غلاة المرجئة فرُوِيَ عنها أنها نَفَتْ ذلك، كما أن الخوارج والمعتزلة جَزَمتْ بوقوع ذلك على جميع الفاسقين وخلودِهم في النار.
وأما الثواب: فاتفقت الأمة على ثواب الإنس على طاعتهم. واختلفوا في الجن هل يُثَابُون أو لا ثوابَ لهم إلا النجاة من العذاب؟ على قولين: الأول قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنبلية وأبي يوسف ومحمد وغيرهم. والثاني مأثورٌ عن طائفة، منهم أبو حنيفة.
وقد اختُلِف في أصولِ الفقه: هل من شرطِ الوجوب العقابُ على الترك؟ على قولين. وأما الثواب على الفعل فهو واجب، إمّا بالسمع، وإما بمجرد الإيجاب.
المسألة الثانية
أن مَن لا تكليفَ عليه هل يُبعَثُ يومَ القيامة؟
فأما الإنس والجن فيُبعَثون جميعًا باتفاق الأمة، ولم يختلفوا
(3/231)
-فيما علمتُ- إلا فيمن لم يُنفَخْ فيه الروحُ: هل يُبعَث؟ على قولين. وبَعْثُه اختيارُ القاضي وكثير من الفقهاء، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه.
وأما البهائم فهي مبعوثةٌ بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)) (1)، وقال تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (2)، والحديثُ في قول الكافر (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)) (3) معروف (4). وما أعلمُ فيه خلافًا.
لكن اختلف بنو آدم في مَعَاد الآدميين على أربعة أقوال:
أحدها -وهو قولُ جماهير من المسلمين أهل السنة والجماعة، وجماهير متكلميهم، وجماهير اليهود والنصارى والمجوس وجمهور غيرهم- أن المعاد للروح والبدن، وأنهما يُنَعَّمان ويُعذَّبان.
والثاني -وهو قول طائفة من متكلمي المسلمين من الأشعرية وغيرهم- أن المعاد للبدن، وأن الروح لا معنى لها إلا حياة البدن، فيحيا البدن ويُنعَّم ويُعذَّب. وأما معادُ روع قائمةٍ بنفسِها ونعيمها وعذابها فينكرونه.
والثالث: ضدّ هذا، وهو قول الإلهيين من الفلاسفة وطائفة ممن يُبطِن مذهبهم من بعض متكلمي أهل القبلة ومتصوفتهم، أنّ المعاد للروح دون البدن.
__________
(1) سورة الأنعام: 38.
(2) سورة التكوير: 5.
(3) سورة النبأ: 40.
(4) انظر تفسير الطبري (30/ 17 – 18).
(3/232)
الرابع: أنه لا معادَ أصلًا، لا لروع ولا لبدنٍ، وهو قولُ أكثر مشركي العرب، وكثيرٍ من الطبائعيين والمنجِّمين وبعض الإلهيين من الفلاسفة.
فعلى هذين القولين يُنكَر حَشْرُ البهائم، وعلى القول الأول يقبل الخلاف.
المسألة الثالثة
أن من لا تكليفَ عليه -بل قد رُفِع عنه القلم- هل يُعذب في الآخرة؟
وهنا مسألة أطفال المشركين، فمن قال من أصحابنا وغيرِهم: إنهم يُعذَّبون تبعًا لآبائهم، قال بعذاب غيرِ المكلَّف تبعًا؟ ومن قال: يدخلون الجنة من أصحابنا وغيرهم، قَال بتنعيمهم.
والصواب الذي دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يُعذَّبون جميعُهم ولا يُنعَّمُون جميعُهم، بل فريق منهم في الجنة وفريقٌ في السعير كالبُلَّغ. وهذا مقتضى نصوص أحمد، فإن أكثر نصوصِه على الوقف فيهم، بمعنى أنه لا يُحكَم لأحدٍ منهم لا بجنة ولا بنارٍ، فدلَّ على جواز الأمرين عنده في حقّ المعيَّن منهم. وأما تجويز الأمرين في حقّ مجموعهم فلا يلزمه، وهذا قول الأشعري وغيره.
وبهذا أجاب رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لما سُئِل عنهم فقال: “الله أعلم بما كانوا عاملين” (1)، فبيَّن أن الأمرَ مردودٌ إلى علمِ الله بما كانوا يعملون لو بلغوا.
__________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة وابن عباس، انظر: البخاري (6597، 6598) ومسلم (2659، 2660).
(3/233)
وقد ثبتَ عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في البخاري (1) أنه رأى حول إبراهيم عند الجنّةِ أطفال المسلمين والمشركين. وثبت عنه في صحيح مسلم (2) أن الغلام الذي قتله الخضر طُبعَ يومَ طُبعَ كافرًا، مع أنه قُتِلَ قبل الاحتلام. قال ابن عباس لنَجْدَةَ الحَروري لما سأله عن قتل الغلمان، فقال: إن كنتَ تَعلَم منهم ما علمه الخضر من الغلام الذي قتلَه فاقتُلْهم، وإلاّ فلا تقتلهم. هذا مع أن أبويه كانا مؤمنين. وفي الصحيحين (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه سُئِل عن أهل الدار من المشركين يُبَيَّتون لِيُصاب من صبيانهم، فقال: “هم منهم”.
ويجوز قتل الصبي إذا قاتلَ، وإذا صالَ ولم تندفعْ صولتُه إلاّ بالقتل، وكذلك المجنون والبهيمة. فقد يجوز قتلُ الصبي في بعض المواضع. وحديث عائشة في قولها: عصفورٌ من عصافير الجنة، فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “أو غيرَ ذلك يا عائشة؟! فإن الله خَلَق للجنة أهلًا، خَلَقَها لهم وهم في أصلابِ آبائهم، وخَلَقَ للنار أهلًا، خَلَقَها لهم وهم في أصلاب آبائهم” (4).
ولهذا قال أصحابنا: لا يُشهَد لأحدٍ بعينِه من أطفالِ المؤمنين أنه في الجنة، ولكن يُطلَق القولُ: إن أطفال المؤمنين في الجنة.
وقد رُوِي بأحاديثَ حسانٍ (5) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن من لم يُكلّف في
__________
(1) برقم (7047) عن سمرة بن جندب.
(2) برقم (2661) عن أبي بن كعب.
(3) البخاري (3012) ومسلم (1745) عن الصعب بن جثامة.
(4) أخرجه مسلم (2662).
(5) أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد، وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل، انظر “فتح الباري” (3/ 246).
(3/234)
الدنيا من الصبيان والمجانين، ومن مات في الفترة- يُمتَحنون يومَ القيامة، فمن أطاعَ دخلَ الجنة، ومن عَصَى دخلَ النار. وهذا التفصيل هو الصواب، فإن الله قال في القرآن (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)) (1)، فأقسم سبحانَه أنه لابدّ أن يملأ جهنم من إبليسَ وأتباعِه، وأتباعُه هم العصاةُ، ولا معصيةَ إلا بعد التكليف، فلو دخلَها الصبي والمجنون لدخَلَها مَن هو من غير أتباعِه، فلم تَمتلئْ منهم.
وأيضًا فقد قال سبحانه: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (65)) (2)، وقال سبحانه: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (3)، وقال سبحانه: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ) الآية (4)، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن الله لا يُعذب إلا من جاءه نذير وأتاه رسولٌ، والطفلُ والمجنون ليسا كذلك كالبهائم.
وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) إلى قوله (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (5).
فأخبر سبحانه أنه استخرج ذرياتهم، وأشهدَهم على أنفسِهم، لئلاّ يقولوا: أتُهلِكنا بما فعل المبطلون، فعُلِم أنه لا يُعاقِبُهم بذنبِ غيرِهم.
وأما البهائم فعامةُ المسلمين على أنه لا عقابَ عليها، إلا ما يُحكَى عن التناسخية بأنهم مكلَّفون، فيستحقون العقابَ، وهذا نظيرُ قولِ من يقول: لا تُحشَر. لكن هنا:
__________
(1) سورة ص: 85.
(2) سورة الإسراء: 15.
(3) سورة النساء: 158.
(4) سورة الملك: 8 – 9.
(5) سورة الأعراف: 172 – 173.
(3/235)
المسألة الرابعة
وهو ما يُشرَع في الدنيا من عقوبة الصبيان والمجانين والبهائم على الذنوب، مثل ضرب الصبي على ترك الصلاة لعشرٍ، وما يفعلُه من قبيح؛ وكذلك ضرب المجنونِ لكَفِّ عدوانِه؛ وضرب البهائم حضا على الانتفاع بها كالسَّوْق، ودفعًا لمضرَّتها كقتلِ صائلِها، وما جاء في الحديث (1) أنه يُقتَصُّ في الآخرة للجمَّاءِ من القَرناءِ. فهذه الأمورُ عقوبات لغير المكلفين، وهي نوعان: أحدهما ما كان عقوبةً في الدنيا لمصلحة، والثاني ما كان لأجل حق غيرِه.
فأما النوع الأول فمشروعٌ في حق الصبي والمجنون، فإنه يُضرَب الصبي على ترك الصلاة ليفعلها ويَعتادَها، ويُضرَب المجنونُ إذا أَخَذَ يُؤذِيْ نفسَه، ليَكُفَّ عن إيذاءِ نفسِه. ويجوز أيضًا مثلُ هذا في حق البهائم: أن تُضرَب لمصلحتها، وهذا غير الضرب لحقّ الغير، وذلك أن العقوبة لمنفعة المعاقب هي بمنزلة سَقْي الدواءِ للمريض، فإن المطلوبَ دفعُ ما هو أعظمُ مَضَرَّةً من الدواء.
النوع الثاني: العقوبة لأجل حق الغير، وهذا قسمان:
قسم لاستيفاءِ المنفعةِ المباحةِ منه، كذَبْحِ البهائم للأكل وضَربِها للمشي، فإن مالا يَتمُّ المباحُ إلا به فهو مباحٌ.
والقسم الثاني: العقوبة لأجل العدوان على الغير، مثل قَتْل الصائل من المحاربين والبهائم، وضرب المجانين والصبيان والبهائم إذا اعتدى بعضهم على بعض، أو اعتدوا على العقلاء في أنفسهم وأموالِهم.
__________
(1) أخرجه أحمد (2/ 363) من حديث أبي هريرة.
(3/236)
فهذا النوع إن كان لدفع ضررهم جاز بلا خلاف، مثل قتل الصائل لدفع صوله، وقَتْل الكلب العَقُور الذي يُخَافُ من ضَررِه في المستقبل، وقَتْل الفواسقِ الخمس في الحِل والحرم.
وأما إن كان على وجه الاقتصاص، مثل أن يَظلم صبيٌّ صبيًّا، أو مجنون مجنونًا، أو بهيمةٌ بهيمة، فيُقتَصّ للمظلوم من الظالم. وإن لم يكن في ذلك زجرٌ عن المستقبل، لكن لاستيفاءِ المظلوم وأخذِ حقَّه، فهذا الذي جاء فيه حديثُ الاقتصاص للجمّاء من القرناء، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “لَتُؤَدَّى الحقوقُ إلى أهلها حتى يُستَوفَى للجَمَّاءِ من القَرْنَاءِ” (1).
وهذا موافق لأصول الشريعة، فإن القصاصَ بين غير المكلفين ثابتٌ في الأموال باتفاق المسلمين، فمن أتلفَ منهم مالًا أو غَصَبَ مالًا أُخِذَ من مالِه مثلُه، سواءٌ في ذلك الصبي والمجنون، والناسي والمخطئ. وكذلك في النفوس، فإن الله تعالى أوجبَ دية الخطأ، وهي من أنواع القصاص بحسب الإمكان، فإن القَوَدَ لم يُمكِن إيجابُه، لأنه لا يكون إلا ممن فَعَلَ المحرَّم، وهؤلاء ليسوا مكلفين، ولا يُخاطَبون بالتحريم، بخلاف ما كان من باب دفع الظلم وأخذِ الحقّ، فإنه لا يُشتَرط فيه الإثمُ. ولهذا تُقَاتَلُ البُغَاةُ وإن كانوا متأوّلين مغفورًا لهم، ويُجلَد شاربُ النبيذ وإن كان متأوِّلًا مغفورًا له.
فتبيَّنَ بذلك أن الظلْم والعدوان يُؤدِّى فيه حقُّ المظلومِ، مع الإثم والتكليف ومع عدمِ ذلك، فإنه من باب العدل الذي كتبه الله تعالى على نفسِه، وحَرَّمَ الظلمَ على نفسِه وجَعَلَه محرَّمًا بين عباده.
__________
(1) سبق تخريجه.
(3/237)
المسألة الخامسة دار التكليف
فالدنيا دارُ تكليفٍ بلا خلافٍ، وكذلك البرزخُ وعَرصةُ القيامة، وإنما ينقطع التكليف بدخولِ دار الجزاء، وهي الجنة أو النار، كما صَرَّح بذلك مَن صَرَّح من أصحابنا وغيرِهم، مستدلِّين بامتحانِ منكرٍ ونكرٍ للناس في قبورِهم وفتنتهِم إيَّاهم؟ وبأنّ الناسَ يوم القيامة يُدعَون إلى السجود، فمنهم من يستطيع، ومنهم من لا يستطيع؟ وبأن من لم يُكلّف في الدنيا يُكلَّفُ في عرصاتِ القيامة.
وهذا ظاهر المناسبة، فإن دار الجزاء لا امتحانَ فيها، وأما الامتحان قبل دار الجزاء فممكن لا محذورَ فيه، والامتحان في البرزخ لمن كان مكلَّفًا في الدنيا، إلا النبيين، ففيهم قولان لأصحابنا وغيرهم.
وأما امتحانُ غيرِ المكلفينَ في الدنيا -كالصبيان والمجانين- ففيهم قولان لأصحابنا وغيرهم:
أحدهما: لا يُمتَحنون، وعلى هذا فلا يُلَقَّنون. وهذا قول القاضي وابن عقيل.
والثاني: يُمتَحنون في قبورِهم ويُلَقَّنون. وهو قول أكثرِهم، حكاه ابن عبدوس” عن الأصحاب، وذكره أبو حكيمِ وغيره، وهو أصحُّ، كما ثبتَ عن أبي هريرة، ورُوِي مرفوعًا أنه صلَّى على طفلٍ لم يَعملْ خطيئةً قَطُّ، فقال: “اللهمَّ قِهِ عذابَ القبر وفتنةَ القبر” (1).
__________
(1) أخرجه أحمد (3/ 491) وأبو داود (3202) وابن ماجه (1499) عن واثلة بن الأسقع.
(3/238)
وهذا الاختلاف في امتحانهم في البرزخ يُشبه الاختلاف في امتحانهم في العرصة، وقولُ من يقول بامتحانهم أقرَبُ إلى النصوص والقياس من قولِ مَن يقول: يُعاقَبون بلا امتحان.
المسألة السادسة
أن غير المكلَّف قد يُرحَم، فإن أطفالَ المؤمنين مع آبائهم في الجنة، كما دلَّ عليه قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) الآية (1)، وكما في الصحيحين (2) من حديث أبي هريرة وأنس عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “احتجَّت الجنَّةُ والنارُ، فقالتِ الجنةُ: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين؛ وقالت النار: يدخلني الجبّارون المتكبرون. فقال الله للجنة: إنما أنتِ رحمتي أرحمُ بكِ مَن شِئتُ، وقال للنار: إنما أنتِ عذابي أعذِّبُ بكِ من شِئتُ، ولكلِّ واحدة منكما مِلْؤُها”. فأما النار فلا يزال يُلقَى فيها وتقول: “هل من مزيد”، حتى يضع ربُّ العزَّة فيها -وفي روايةٍ: عليها- قَدَمَه، فيَنزوي بعضُها إلى بعضٍ وتقولُ: قَط! قَط. وأما الجنَّة فيَفضُل فيها فَضْلٌ، فيُنشِئُ اللهُ لها خلفا آخر”. فهذا الحديث المستفيض المتلقَّى بالقبولِ نصٌّ في أنَّ الجنَّة يُنْشَأُ لها في الدار الآخرة خَلْق يدخلونَها بلا عمل، وأنّ النارَ لا يدخلُها أحدٌ بلا عملٍ.
وقد غَلِطَ في هذا الحديث المعطِّلةُ الذين أوَّلوا قوله “قدمه” بنوع من الخلق، كما قالوا: الذين تقدَّم في علمِه أنهم أهل النار. حتى قالوا
__________
(1) سورة الطور: 21.
(2) البخاري (4850، 7449) ومسلم (2846) عن أبي هريرة. أما حديث أنس فبغير هذا اللفظ، أخرجه البخاري (4848، 6661، 7384) ومسلم (2848).
ويوافق حديثَ أبي هريرة حديثُ أبي سعيد الخدري الذي أخرجه مسلم (2847).
(3/239)
في قوله “رجله”: كما يقال: رِجْل من جَرادٍ. وغَلَطُهم من وجوهٍ:
فإنَّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “حتى يضع”، ولم يقل: حتى يُلقي، كما قال في قوله: “لا يَزَال يُلقَى فيها”.
الثاني: أن قوله “قدمه” لا يُفْهَم منه هذا، لا حقيقةً ولا مجازًا، كما تَدُلُّ عليه الإضافة.
الثالث: أن أولئك المؤخرين إن كانوا من أصاغر المعذَّبين فلا وجهَ لانزوائِها واكتفائها بهم، فإنّ ذلك إنما يكون بأمرٍ عظيمٍ، وإن كانوا من أكابر المجرمين فهم في الدرك الأسفلِ، وفي أوّلِ المعذَّبين لا في أواخرِهم.
الرابع: أن قوله “فينزوي بعضُها إلى بعض” دليلٌ على أنها تَنضمُّ على من فيها، فتضيقُ بهم من غيرِ أن يُلقَى فيها شيء.
الخامس: أن قوله “لا يزال يُلقَى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يَضَعَ فيها قدمَه” جَعَلَ الوضعَ الغايةَ التي إليها ينتهي الإلقاءُ، ويكون عندها الانزواءُ، فيقتضي ذلك أن تكون الغايةُ أعظمَ مما قبلَها.
وليس في قول المعطِّلةِ معنًى للفظ “قدمه” إلا وقد اشترك فيه الأول والآخر، والأوّل أحقُّ به من الآخر.
وقد يَغْلَط في الحديث قومٌ آخرون مُمثِّلةٌ أو غيرُهم، فيتوهَّمون أن “قَدمَ الربِّ” تَدخُلُ جَهنَّم. وقد توهَّم ذلك على أهل الإثبات قومٌ من المعطِّلة، حتى قالوا: كيف يَدخُل بعضُ الربِّ النَّارَ واللهُ تعالى يقول: (لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا) (1)؟.
__________
(1) سورة الأنبياء: 99.
(3/240)
وهذا جهل ممن توهَّمه أو نَقَلَه عن أهل السنة والحديث، فإنّ الحديث: “حتى يضع ربُّ العزّة عليها -وفي رواية: فيها-، فينزوي بعضُها إلى بعضٍ، وتقول: قط قط وعزَّتِك”، فدلَّ ذلك على أنها تضايقت على من كان فيها فامتلأتْ بهم، كما أقسم على نفسه إنّه ليملأنَّها من الجثة والناس أجمعين، فكيف تمتلئ بشيء غيرِ ذلك من خالقٍ أو مَخلوق؟. وإنما المعنى أنه تُوضَع القدمُ المضافُ إلى الربِّ تعالى، فتَنزوي وتَضِيقُ بمن فيها. والواحدُ من الخلق قد يَركُضُ متحركًا من الأجسام فيسكن، أو ساكنًا فيتحرك، ويَركضُ جبلًا فيتفجَّر منه ماءٌ، كما قال تعالى: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)) (1)، وقد يضع يَدَه على المريض فيبرأ، وعلى الغضبان فيرضى.
المسألة السابعة
أنَّ التكليفَ بالأمر والنهي ثابت بالشرع باتفاق المسلمين، وفي ثبوته بالعقل اختلافٌ بين العلماء من أصحابنا وغيرِهم، والمسألة مشهورة، مسألة التحسين والتقبيح ووجوب الواجبات وتحريم المحرمات، هل ثبتتْ بالعقل؟ ومسألة وجوب معرفة الله وشكره، ومسألة الأعيان قبل السَّمع. وفي المسألة تفصيل كتبته في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا النكت المستغربة.
وأما الثواب والعقاب فمعلوم بالسمع بلا خلافي بين المسلمين، وهل يُعلَم بالعقل؟ مبنيٌّ على المعاد، فإنّ المعادَ معلوم بالسمع بلا ريب، وهل يُعلَم بالعقل؟ قد اختُلِفَ فيه:
فذهب كثير من أهل الكلام وذهب أكثر الناس إلى أن المعاد من
__________
(1) سورة ص: 42.
(3/241)
الأمور السمعية التي لا تُعلَم إلاَّ بالسمع، وهو قول كثير من أصحابنا والأشعرية وغيرهم.
وذهبَ طوائفُ إلى أنه يُعلَم بالعقل، ثُمَّ تنوعت مسالكُهم:
منهم من بناه على وجوب العدل، وأن ذلك يَقتضي معادًا غيرَ هذه الدار، يُجزَى فيها الظالموَن بظلمهم، أو يُعَوَّض المعذَّبون على عذابهم. وهذا مسلك كثير من المعتزلة وغيرهم.
ومنهم من بناه على أن الروح غير البدن، وأنها باقيةٌ بعده، وأن لها من النعيم والعذاب الروحانيينِ ما لا يُفارِقُها. وهذا مسلك كثير من المتفلسفة ومن نحا نحوَهم، ومن هؤلاء من يثبِتُ معادَ الأرواح العالمةِ دون الجاهلة، وفيهم من يُنكِر المعادَيْنِ.
والصواب أنَّ معرفتَه بالسمع واجبةٌ، وأمَّا بالعقل فقد تُعرَف وقد لا تُعرَف، فليست معرفتُه بالعقل ممتنعةً، ولا هي أيضًا واجبةٌ. وأما المتفلسفةُ فتُثبتُ المعادَ بالعقلِ، وتُثبِت التكليفَ العقلي، وأما ما جاء به السَّمع من المعاد والشرائع فلها فيه تأويلاتٌ محرَّفةٌ.
فصارت الأقسام في الإيمان باليوم الآخر وفي العمل الصالح: هل هو معلومٌ بالشرع وحدَه أو بالعقل وحدَه أو يُعلَمُ بكل منهما؟ فيه هذا الخلاف بين أهل الأرض. وإن كان الصواب أن ذلك معلومٌ جميعُه بالشرعِ قطعًا، وقد يُعلَم بعضه [بالعقل].
بل مثل هذا الخلاف ثابتٌ في معرفة الله تعالى، لكن التجاء المتكلمين هناك إلى العقل أكثر. وكثير من المتكلمين -كأكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية- لا يُعلَم عندهم وجودُ الربِّ وصفاته إلا بالعقل، كما يزعمه الفلاسفة، مع اضطراب هؤلاء وآخرين في مقابلتهم.
(3/242)
وقد كتبتُ تفاصيلَ أقوالِ الناس وبَيَّنتُ مذهبَ أئمة السنَّة والحديث في هذا الأصل في “قاعدة نفي التشبيه ومسألة الجسم”، وإنما الغرض هنا التكليف وتوابعُه.
وإنما قَرنتُ بين الأصول الثلاثة التي قال الله تعالى فيها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (1)، فأشرتُ إلى طرق الناس في معرفتها.
والحمد لله وحده أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، حمدًا كثيرًا مباركًا دائمًا بدوامِه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
(فرغتُ يوم الثلاثاء سادسَ عشرَ من شهر صفر سنة ست وستين وسبع مئة. علَّقَها العبد الفقير إلى رحمةِ ربه الغفور، وعفوِه وصفحه وجودِه وكرمِه وسترِه وبرّه ومَنِّه: عبد المنعم البغدادي الحنبلي، عفا الله عنه بمنّه وكرمِه وعن جميع المسلمين).
***
__________
(1) سورة البقرة: 62.
(3/243)
مسألة فيمن قال: إن عليًّا أشجعُ من أبي بكر
(3/245)
مسألة
في رجلين تكلما فقال أحدهما: إن عليًّا أشجع من أبي بكر، وقال آخر: [إن] أبا بكر أشجع الصحابة.
الجواب
الحمد لله. الذي عليه سلف الأمة وأئمتُها أن أبا بكر الصديق أعلم الصحابة وأدينُ الصحابة وأشجعُ الصحابة وأكرمُ الصحابة، وقد بُسِط هذا في الكتب الكبار وبُيِّن ذلك بالدلائل الواضحة. وذلك أن الشجاعةَ ليستْ [عند] أهلِ العلم بها كثرةَ القتل باليد ولا قوةَ البدن، فإن نبينا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أشجع الخلق، كما قال علي بن أبي طالب (1): كُنّا إذا احمرَّ البأسُ ولَقِيَ القومُ القومَ كُنَّا نتّقي برسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يكون أقربَ إلى القوم منا. وقد انهزمَ أصحابُه يومَ حُنَين وهو على بَغْلِه يسوقُها نحو العدوّ، ويتسمَّى بحيث لا يُخفِي نفسَه، ويقول:
أنا النبيّ لا كَذِبْ … أنا ابنُ عبد المطلبْ (2)
ومع هذا فلم يَقتُل بيده إلا واحدًا، وهو أُبيّ بن خلف، قتلَه يومَ أُحُد.
وكان في الصحابة من هو أكثر قتلًا من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وإن كان لا يفضل عليهم في الشجاعة، مثل البراء بن مالك أخي أنس بن مالك، فإنه قتلَ مئةَ رجلٍ مبارزةً غيرَ مَن شركَ في دَمِه.
__________
(1) أخرجه أبو الشيخ في “أخلاق النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ” (ص 58) ومن طريقه البغوي في “شرح السنة” (13/ 257). وهو في “المسند” (2/ 228، 343 طبعة المعارف) بنحوه.
(2) أخرجه مسلم (1775) عن البراء بن عازب.
(3/247)
ولم يقتل أحد من الخلفاء على عهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هذا العدد، بل ولا حمزةُ سيّدُ الشهداء -الذي يُقال: إنه أسدُ الله ورسولِه- لم يَقتلُ هذا العدد، وهو في الشجاعة إلى الغاية. وكذلك الزبير بن العوَّام هو في الشجاعة إلى الغاية، حتى قال فيه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح: “إن لكل نبيٍّ حواريًا، وحَوارِي الزبيرُ” (1)، ولم يَقتُل في عهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هذا العددَ.
وغزواتُ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وسراياه مضبوطة عند أهل العلم بالسيرةِ والحديث، والله تعالى كان يُبارِك لنبيّه وأصحابه في مغازيهم، فمع العمل القليل يَظهرُ الإسلام وتفشو الدعوة ويدخلون في دين الله أفواجًا. ومجموعُ من قَتَلَ الصحابةُ كلُّهم مع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لا يَبلُغون ألفَ نفسٍ، بل أقلّ من ذلك، ومع هذا ببركة الإيمان فُتِحتْ أرضُ العرب كلُّها في حياتِه.
وكان القتلُ يومَ بدرٍ، وهي أول مغازي القتال، وأسروا منها سبعين أو نحوها. وأما يومَ أحد فقُتِلَ الكفّارُ قليلًا جدًّا، وكذلك يومَ الخندق ويومَ فتح مكة، والقتلى في خيبر وحنين ليسوا بالكثير. وأعظمُ عددًا قُتِلوا جميعًا قَتْلَى قُريظةَ، فإنهم بلغوا ثلاث مئة أو أربع مئة قتلهم جميعًا.
وجملةُ مغازي النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بضعٌ وعشرون غزاةً، وكان القتال فيها في تسعٍ: مغازي بدر وأحد والخندق وبني المصطلق وقريظة (2) وخيبر والفتح وحنين والطائف، وأعظم ما كان مع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يومَ تبوك بَلَغوا عشراتِ ألوفٍ، ولكن لم يكن في تبوك قِتالٌ، بل أقامَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بتبوكَ عشرين يومًا يَقْصُر الصلاةَ، وكان قد جاء لقتالِ النصارى من الروم والعرب وغيرهم، فلم يُقدِمُوا على قتاله.
__________
(1) أخرجه البخاري (2846 ومواضع أخرى) ومسلم (2415) عن جابر بن عبد الله.
(2) في الأصل رسم كلمة غير واضحة، والمقصود ما أثبتُ.
(3/248)
وأما هذه المحاربات التي يذكرها الكذّابون، وكثرة القتلى التي يذكرها أهل الفِرية، فكذبُها معروفٌ عند كل عالمٍ. وإذا كان القتلى نحوًا ممن ذكروا [و] المُقاتِلةُ في الصحابة كثيرون من المهاجرين والأنصار، مثل عمر وعلي وحمزة والزبير والمقداد وأمثالهم، ومثل أبي أيوب وأبي طلحة وأبي قتادة وأبي دُجانة، ثم مثل خالد بن الوليد وأمثاله، وقَتْلُ الواحدِ من هؤلاء يُقارِبُ قتلَ عمر وعلي وغيرهما، ينقص عنه أو يزيد عنه، ولهذا لما جاء علي رضي الله عنه أخذ بسيفِه إلى فاطمة وقال: اغسليه عن دمهم، قال له النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن تكن أحسنتَ فقد أحسنَ فلان وفلان” (1) وسمَّى طائفة من المسلمين-: عُلِمَ (2) أنه لم يمتنع أن يكون أحد من الخلفاء قَتَلَ مئة من الكفار مع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما خالد بن الوليد والبراء بن مالك وأمثالهما فهؤلاء قتلَ الواحدُ منهم مئةً وأكثر، لمغازيهم بعد موت النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنهم لما غَزَوا أهلَ الردَّة وفارس والروم كان القتلى من الكفّار كثيرًا جدًّا لكثرة الجموع. والخلفاء الراشدون لم يَغزُ أحدٌ منهم بعد موتِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا باشرَ بنفسه قتال الكفّار بعده، وإنما كانوا هم أولي الأمر، فكان أبو بكر يُشاوِر عمر وعثمان وعليا وغيرهم، وكذلك عمر كان يُشاوِر هؤلاء وغيرهم، وهم عنده. ولكن الزبير بن العوَّام شَهِدَ فتح مصرَ، وسعد ابن أبي وقاص فتح العراق، وأبو عبيدة بن الجراح فتح الشام.
وإذا تبيَّن هذا فالشجاعة هي ثباتُ القلب وقوتُه، وقوَّةُ الإقدامِ
__________
(1) كما في سيرة ابن هشام (3/ 106) عن ابن إسحاق، و”دلائل النبوة” للبيهقي (3/ 215) عن موسى بن عقبة. وأورد ابن كثير في “البداية والنهاية” (5/ 449، 450) روايات أخرى في هذا الباب. وانظر “منهاج السنة” (4/ 481، 8/ 94).
(2) جواب “إذا كان القتلى … “.
(3/249)
على العدوِّ، والبعدُ عن الجزع والخوف، فهي صفة تتعلق بالقلب، وإلاَّ فالرجل قد يكون بدنُه أقوى الأبدان، وهو من أقدر الناس على الضرب والطعن والرمي، وهو ضعيف القلب جَبَان، وهذا عاجزٌ. وقد يكون الرجل يَقتُل بيده خلقًا كثيرًا، وإذا دَهَمَتْه الأمور الكبار مالتْ عليه الأعداءُ، فيضعُف عنهم أو يَخاف.
وأبو بكر الصديق كان أقوى الصحابة قلبًا وأربطَهم جَأْشًا وأعظمهم ثباتًا وأشدَّهم إقدامًا وأبعدَهم عن الجزع والضعف والجبن، ولهذا كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَصْحَبُه وحدَه في المواضع التي يكون أخوف ما يكون فيها، كما صحبه في الهجرة، وكان معه في الغار، والأعداء يطلبهما ويَبذل ديتهما لمن يأتي بهما، وكان معه في العريش يومَ بدرٍ وحدَه والكفَّارُ قاصدون الرسولَ خصوصًا. ولهذا لما مات النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ظهر من شجاعتِه وبَسَالتِه وصبرِه وثباتِه وسياستِه وتدبيرِه وإمامتِه للدين وقَمْعِه للمرتدّين ومعونتِه للمؤمنين وسَدِّ ظهورهم ما لا تَتَّسَح هذه الورقة. وكل من له بالشجاعةِ أدنى خبرة يَعلَم أَنه لم يكن منهم من يُقارِبُه في الشجاعة فضلًا أن يُشَارِيَه. وكذلك كان عمر، كان أشجعهم بعده، كما أن أبا بكر كان أعلمهم، كما ذكر الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني إجماع العلماء على أن أبا بكر أعلمُ الأمة بعد رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو مبسوط في غير هذا الموضع (1). والله أعلم.
***
__________
(1) انظر “منهاج السنة” (8/ 82 – 89).
(3/250)
تفسير أول سورة العنكبوت
(3/251)
قال شيخ الإسلام بحر العلوم مفتي الفرق أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله:
فصل
قال الله تعالى: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)) (1).
وقال الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)) (2). وقال الله تعالى لما ذكر المرتد والمكره بقوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) (3) قال بعد ذلك:
__________
(1) سورة العنكبوت: 1 – 11.
(2) سورة البقرة: 214.
(3) سورة النحل: 106.
(3/253)
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)) (1).
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إمّا أن يقول أحدهم: آمنّا، وإما أن لا يقول: آمنّا، بل يستمر على عمل السيئات. فمن قال “آمنّا” امتحنه الرب عزّ وجل وابتلاه، وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل “آمنّا” فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته، فإنَّ أحدًا لن يُعجز الله تعالى.
هذه سنته تعالى، يُرسل الرسل إلى الخلق، فيكذبهم الناس ويؤذونهم، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ) (2)، وقال تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (3)، وقال تعالى: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) (4).
ومن آمن بالرسل وأطاعهم عَادَوه وآذَوه، فابتلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم عُوقِب، فحصَلَ ما يؤلمه أعظم وأدوم. فلابد من حصول الألم لكل نفسٍ سواءً آمنت أم كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة. والكافر تحصل له النعمة ابتداءً، ثم يصير في الألم.
سأل رجل الشافعيَّ فقال: يا أبا عبد الله! أيما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يُبتلَى؟ فقال الشافعي: لا يمكَّن حتى يُبتلَى، فان الله ابتلى
__________
(1) سورة النحل: 110.
(2) سورة الأنعام: 112.
(3) سورة الذاريات: 52.
(4) سورة فصلت: 43.
(3/254)
نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامُه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكَّنَهم، فلا يظن أحدٌ أن يخلص من الألم البتَّةَ.
وهذا أصلٌ عظيم، فينبغي للعاقل أن يعرفه، وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان مدنيّ الطبع، لابدَّ له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذَّبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم.
ومن اختبر أحوالَه وأحوالَ الناس وجدَ من هذا شيئًا كثيرًا، كقومٍ يريدون الفواحش والظلم، ولهم أقوال باطلة في الدين أو شرك، فهم مرتكبون بعض ما ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33)) (1). وهم في مكان مشترك، كدارٍ جامعة أو خانٍ أو قيسرية أو مدرسة أو رباط أو قرية أو درب أو مدينة فيها غيرهم، وهم لا يتمكنون مما يريدون إلا بموافقة أولئك، أو بسكوتهم عن الإنكار عليهم، فيطلبون من أولئك الموافقة أو السكوت، فإن وافقوهم أو سكتوا سَلِمُوا من شرهم في الابتلاء، ثمَّ قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يُهِينونهم ويعاقبونهم أضعاف ما كان أولئك يخافونه ابتداءً، كمن يطلب منه شهادة الزور أو الكلام في الدين بالباطل، إما في الخبر، وإما في الأمر أو المعاونة على الفاحشة والظلم، فإن لم يُجِبهم آذَوه وعَادَوه، وإن أجابهم فهم أنفسهم يتسلطون عليه فيُهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه، وإلاّ عذب بغيرهم.
__________
(1) سورة الأعراف: 33.
(3/255)
فالواجب ما في حديث عائشة الذي بَعَثَتْ به إلى معاوية، ويُروى موقوفًا ومرفوعًا (1): “من أرضى اللهَ بسخط الناسِ كفاه الله مؤونةَ الناس -وفي لفظ: رضي الله عنه وأرضى عنه الناس-، ومن أرضى الناسَ بسخط الله لم يُغْنُوا عنه من الله شيئًا -وفي لفظٍ: عاد حامدُه من الناس ذامًّا-“.
وهذا يجرى فيمن يُعِين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يُعِين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم. فمن هداه الله وأرشده امتنع من فعلِ المحرم وصبَر على أذاهم وعداوتهم، ثمَّ تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما جرى للرسل وأتباعهم مع من آذاهم وعاداهم، مثل المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها وعُبَّادِها وتُجَّارِها ووُلاتِها.
وقد يجوز في بعض الأمور إظهار الموافقة وإبطانُ المخالفة، كالمُكْرَه على الكفر، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا أنه لابدّ من الابتلاء بما يؤذي الناس، فلا خلاصَ لأحدٍ ممّا يؤذيه البتَّة. ولهذا ذكر الله تعالى في غير موضع أنه لابدّ أن يبتلي الناس، والابتلاء يكون بالسرَّاء والضرَّاء، ولابدَّ أن يَبتليَ الإنسانَ بما يَسُرُّه ويسوؤه، فهو محتاج إلى أن يكون صابرًا شكورًا، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)) (2)، وقال تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)) (3)، وقال تعالى:
__________
(1) أخرجه بالوجهين الترمذي (2414). وأخرجه ابن المبارك في “الزهد” (ص 66) وأحمد في “الزهد” (ص 165) والحميدي في “مسنده” (1/ 129) وعبد بن حميد في “مسنده” (1524) من طرق مختلفة بألفاظ متقاربة.
(2) سورة الكهف: 7.
(3) سورة الأعراف: 168.
(3/256)
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)) (1)، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)). هذا في آل عمران (2)، وقد قال قبل ذلك في البقرة، فإن البقرة نزل أكثرها قبل آل عمران: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)) (3).
وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء، كالذهب الذي لا يخلص جيَّدُه من رديئه حتى يُفْتَنَ في كِيْرِ الامتحان، إذ كانت النفس جاهلة ظالمةً، وهي مَنْشأ كلِّ شرٍّ يَحصُل للعبد، فلا يحصل له شرّ إلا منها، قال تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (4)، وقال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (5)، وقال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)) (6)، وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (7)، (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)) (8).
__________
(1) سورة طه: 123 – 124.
(2) الآية 142.
(3) سورة البقرة: 214.
(4) سورة النساء: 79.
(5) سورة آل عمران: 165.
(6) سورة الشورى: 30.
(7) سورة الأنفال: 53.
(8) سورة الرعد: 11.
(3/257)
وقد ذكر عقوبات الأمم من آدم إلى آخر وقت، وفي كلِّ ذلك يقول: إنهم ظلموا أنفسهم فهم الظالمون لا المظلومون، وأول من اعترف بذلك أبواهم، قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)) (1)، وقال لإبليس: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)) (2)، وإبليس إنما تبعه الغواة منهم، كما قال: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (3)، وقال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (4). والغيّ: اتباع هوى النفس.
وما زال السلف معترفين بذلك كقول أبي بكر وعمر وابن مسعود (5): أقول فيها برأي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه.
وفي الحديثِ الإلهي حديثِ أبي ذر (6) الذي يرويه الرسول عن ربّه عزّ وجلّ: “يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه”.
وفي الحديث الصحيح (7) حديث سيد الاستغفار [أن] يقول العبدُ:
__________
(1) سورة الأعراف: 23.
(2) سورة ص: 85.
(3) سورة الحجر: 39 – 40.
(4) سورة الحجر: 42.
(5) انظر “جامع بيان العلم” (2/ 830، 852، 911) و”الإحكام” لابن حزم (6/ 50) و”تلخيص الحبير” (4/ 195).
(6) أخرجه مسلم (2577). ولشيخ الإسلام شرح عليه، انظرا “مجموع الفتاوى” (18/ 136 – 209).
(7) أخرجه البخاري (6306، 6323) عن شدّاد بن أوس.
(3/258)
“اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت”. من قالها إذا أصبح موقنًا بها فماتَ من يومِه دخلَ الجنَّة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنَّة”.
وفي حديث أبي بكر الصديق (1) من طريق أبي هريرة وعبد الله بن عمرو أنَّ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – علَّمه ما يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعَه: “اللهم فاطرَ السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ربّ كلّ شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنتَ، أعوذ بك من شرِّ نفسي وشرِّ الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجرّه إلى مسلم”. قُلْه إذا أصبحت وإذا أمسيتَ وإذا أخذتَ مضجعَك.
وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول في خطبته (2): “الحمد لله، نستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا”. وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إني آخذ بحُجزكم عن النار وأنتم تتهافتون تهافُتَ الفَراشِ” (3). شبَّهَهم بالفراش لجهله وخفّة حركته، وهي صغيرة النفس، فإنها جاهلة سريعة الحركة.
__________
(1) أخرجه أحمد (2/ 196) والبخاري في “الأدب المفرد” (1204) والترمذي (3529) من طريق أبي راشد الحبراني عن عبد الله بن عمرٍ وفي صحيفته. وأخرجه أحمد (1/ 14) من طريق مجاهد عن أبي بكر. وأخرجه أبو داود (5083) من طريق شريح عن أبي مالك الأشعري.
(2) أخرجه أحمد (1/ 392، 432) وأبو داود (2118) والنسائي (3/ 104) من طريق أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود. وله طرق أخرى عن ابن مسعود وشواهد جمعها الشيخ الألباني وتكلم عليها في رسالة مفردة.
(3) أخرجه البخاري (6483) ومسلم (2284) عن أبي هريرة.
(3/259)
وفي الحديث: “مثل القلب مثل ريشةٍ مُلْقَاةٍ بأرض فلاةٍ” (1). وفي حديث آخر: “لَلقلبُ أشدُّ تقلُّبًا من القِدرِ إذا استجمعتْ غَلَيانًا” (2). ومعلوم سرعة حركة الريشة والقدر مع الجهل. ولهذا يقال لمن أطاع من يُغويه: إنه استخفَّه. قال عن فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) (3). وقال تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)) (4)، فإن الخفيف لا يثبت بل يَطِيشُ، صاحب اليقين ثابت. يقال: أيقنَ، إذا كان مستقرًا، واليقين: استقرار الإيمان في القلب علمًا وعملًا، فقد يكون علم العبد جيّدًا، لكن نفسه لا تصبر عند المصائب بل تطيش. قال الحسن البصري: إذا شئت أن ترى بصيرًا لا صبرَ له رأيتَه، وإذا شئتَ أن ترى صابرًا لا بصيرةَ له رأيتَه، فإذا رأيتَ بصيرًا صابرًا فذاك. قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ (24)) (5).
ولهذا تُشبَّه النفس بالنار في سرعة حركتها وإفسادِها، وغضبُها وشهوتُها من النار، والشيطان من النار. وفي السنن (6) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، وإنما تُطفَأ النّارُ بالماء، فإذا غَضِبَ أحدُكم فليتوضأ”. وفي الحديث الآخر (7):
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 419) وابن ماجه (88) من حديث أبي موسى الأشعري.
(2) أخرجه أحمد (6/ 4) عن المقداد بن الأسود.
(3) سورة الزخرف: 54.
(4) سورة الروم: 60.
(5) سورة السجدة: 24.
(6) أخرجه أبو داود (4784) وأحمد (4/ 226) عن محمد بن عطية السعدي عن أبيه مرفوعًا. وضعفه الألباني في “ضعيف سنن أبي داود” (ص 475).
(7) أخرجه أحمد (3/ 19، 61) والترمذي (2191) عن أبي سعيد الخدري.=
(3/260)
“الغضب جمرةٌ تُوقَد في جوف ابن آدم، إلا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجِه”، وهو غليان دم القلب لطلب الانتقام. وفي الحديث المتفق على صحته (1): “الشيطان يجري من اَبن آدم مجرى الدم”.
وفي الصحيحين (2) أن رجلين استبَّا عند النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقد اشتدَّ غضبُ أحدهما، فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إني لأعلم كلمةً لو قالَها لذهبَ عنه ما يجدُ، لو قال: أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم”. وقد قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (39)) (3)، وقال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)) (4)، وقال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)) (5).
__________
=وضعفه العراقي في “تخريج الإحياء” (3/ 167).
(1) أخرجه البخاري (2035، 2038 ومواضع أخرى) ومسلم (2175) عن صفية بنت حيي.
(2) أخرجه البخاري (3282) ومسلم (2610) عن سليمان بن صُرَد.
(3) سورة فصلت: 34 – 36.
(4) سورة الأعراف: 199 – 200.
(5) سورة المؤمنون: 96 – 98.
(3/261)
مسألة في قوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ … )
(3/263)
مسألة
في قوله عز وجل (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)) الآية (1).
الجواب
الحمد لله. المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب، كما في قوله تعالى (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (2)، وقال تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) (3)، (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ) (4)، وقال تعالى عن قوم فرعون: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) (5).
وهذه الآية نزلت في سياق الأمر بالجهاد وذمّ المنافقين، فقال تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)) (6). كانوا إذا أصابهم نصرٌ ورزقٌ ونحو ذلك قالوا: هذا، من الله، وإذا أصابهم خوفٌ وقحطٌ ونحو ذلك قالوا: هذا من
__________
(1) سورة النساء: 78.
(2) سورة الأعراف: 168.
(3) سورة آل عمران: 120.
(4) سورة التوبة: 50.
(5) سورة الأعراف: 131.
(6) سورة النساء: 78.
(3/265)
محمدٍ بسبب الدين الذي جاء به، كما قال قوم فرعون في حق موسى، فقال الله تعالى: (فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78))، فإن محمدًا إنَّما جاءهم بالهدى والحق، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر.
ثم قال (1): (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) من نصرِ ورزقٍ ونحو (فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) من خوفِ وجَدْبِ وغير ذلك (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي بذنوبك، وكان ذلك بقضاء الله وقدره، ولكن القدر نؤمن به ولا نحتج به، فليس للعبد على الله حجة، بل لله الحجة البالغة.
ونظير هذا قوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)) (2)، وقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)) (3) وقوله: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (4).
وفي الصحيح (5): “إن الله يقول: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثمّ أوفيكم إياها، فمن وَجَد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه”. وفي سيد الاستغفار أن يقول العبد: “اللهُمَّ أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتَني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أَبُوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأَبُوءُ بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت”. مَن قال ذلك إذا أصبحَ موقنًا به فماتَ من يومِه دخل الجنة، ومن قاله إذا
__________
(1) سورة النساء: 79.
(2) سورة الشورى: 30.
(3) سورة الروم: 36.
(4) سورة آل عمران: 165.
(5) مسلم (2577) عن أبي ذر.
(3/266)
أمسى موقنًا به فماتَ من ليلتِه دخل الجنة. رواه البخاري (1).
وقوله “أبوءُ لك بنعمتك عليَّ” أي أَعترِف وأُقِرُّ بنعمتك، وأعترف وأُدرُّ بذنوبي. فمن قال: إنه لا يُؤاخَذ، أو إنه لم يُذنِب ولم يُخطِئْ، أو إنّ من شَهِدَ الحقيقةَ سقطَ [عنه] الأمرُ والنهيُ والعقابُ والثوابُ-: فهو مشركٌ أكفر من اليهود والنصارى، ومن قال: إن الله لم يُقدِّرْ ذلك ولم يَقضِه، فهو من مجوس هذه الأمة القدرية. ومن آمنَ بأن كلَّ شيء بقضاءِ الله وقدره، وعَلِمَ أن القدرَ يُؤمَن به ولا يُحتَجُّ به على الله، وأنه ليس للعبد على ربّه حُجَّة، بل لله الحجة البالغة، فإذا عَمِلَ حسنةً شكَرَ الله عليها، وإذا عَمِلَ سيئةً استغفر الله منها-: فهو موحِّد.
ومن قال: إن الحسنات والسيئات في هذه الآية المراد بها الطاعات والمعاصي، كما في قوله (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) (2) فهو مخطئٌ غالط، فإنّ هذا يَلزم منه تناقضُ القرآن، فإنه قد أخبرَ أن كُلاًّ من عند الله، وأخبر أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك. وأيضًا فإنه قال “ما أصابك”، ولم يقل “ما أصبتَ”، فلو أراد أفعالَ العباد لقال: “ما أصبت” أو “ما كسبتَ” أو “ما فعلتَ” ونحو ذلك. ولكن أرادَ النِّعَم والمصائب، وهي جميعُها من عند الله، لكن النعم من إنعامه وإحسانه، والمصائب بسبب ذنوب العباد، ولهذا قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (3). والله أعلم. أجاب به أحمد بن تيمية أيَّده الله تعالى.
__________
(1) برقمي (6306، 6323) عن شداد بن أوس.
(2) سورة الأنعام: 160.
(3) سورة الأنفال: 33.
(3/267)
قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات وبيان اقتران التهليل بالتكبير والتسبيح بالتحميد
(3/269)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرا دائما إلى يوم الدين.
فصل
في الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
فقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “أفضل الكلام بعد القرآن أربعٌ وهنَّ من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر”. وقد ذكرنا ما يتعلق بمعانيها في مواضع (2)، والمقصود هنا أن نقول: التسبيح مقرون بالتحميد، والتهليل مقرون بالتكبيرِ، فإن الله تعالى يذكر في غير موضع التسبيحَ بحمده، كقول الملائكة: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) (3)، وقوله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (4)، وقوله تعالى: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (5)، وقوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (6)، وقو له: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)) (7).
ولا ريبَ أن الصلاة الشرعية تتضمن ما أمر به من التسبيح بحمده، كما قد بين النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ذلك في مثل حديث جرير المتفق عليه (8) أنه
__________
(1) مسلم (2137) عن سمرة بن جندب.
(2) انظر “مجموع الفتاوى” (24/ 231 وما بعدها).
(3) سورة البقرة: 30.
(4) سورة غافر: 7.
(5) سورة البقرة: 30.
(6) سورة طه: 130.
(7) سورة الطور: 48.
(8) البخاري (7434، 7435، 7436 ومواضع أخرى) ومسلم (633).
(3/271)
نظر إلى القمر فقال: “إنكم سترون ربَّكمِ كما ترون هذا القمر لا تُضَامُّون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا” ثم قرأ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)) (1).
وأيضًا ففي صحيح مسلم (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه سُئِل أيُّ الكلام أفضل؟ قال: “ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده”. وفي الصحيحين (3) عن أبي هريرة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم”.
وأما التكبير فهو مقرونٌ بالتهليل في الأذان، فإن المؤذن يكبّر ويهلّل، وفي تكبير الإشراف: كان إذا عَلاَ نشزًا كبَّر ثلاثًا وقال: “لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعدَه، ونصَر عبدَه وأعزَ جندَه، وهزم الأحزاب وحده”. وهو في الصحيحين (4). وكذلك على الصفا والمروة، وكذلك إذا ركب دابة، وكذلك في تكبير الأعياد.
والتكبير مشروعٌ في الأماكن العالية، والتسبيح عند الانخفاض، كما في السنن عن جابر (5) قال: كنا مع رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذا عَلَونا
__________
(1) سورة ق: 39.
(2) برقم (2731) عن أبي ذر.
(3) البخاري (7563 ومواضع أخرى) ومسلم (2694).
(4) البخاري (1797 ومواضع أخرى) ومسلم (1344) عن ابن عمر.
(5) أخرجه أيضًا البخاري (2993، 2994) والنسائي في “السنن الكبرى” (6/ 139) والدارمي (2677) وابن خزيمة (2562).
(3/272)
كبّرنا، وإذا هبطنا سبَّحنا”. فوُضِعت الصلاة على ذلك، والمصلي في ركوعه وسجوده يُسبِّح، ويكبِّر في الخفض والرفع، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بمثل ذلك عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن اقتران التهليل بالتكبير قول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لعدي بن حاتم: “يا عديّ! ما يُفِرُّك؟ أيُفِرُّك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم مِن إلهٍ إلا الله؟ ما يُفِرُّك؟ أيُفِرُّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ “. رواه أحمد والترمذي (1) وغيرهما.
فنقول: التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات، نَفْي المعائب وإثبات المحامد، وذلك يتضمن التعظيم، ولهذا قال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) (2)، وقال: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)) (3). وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “اجعلوا هذه في ركوعكم، وهذه في سجودكم” (4). وقال: “أما الركوع فعظِّموا فيه الرب” (5). فالتسبيح يتضمن التنزيه المستلزم للتعظيم، والحمد يتضمن إثبات المحامد المتضمن لنفي نقائصها.
وأما التهليل والتكبير فالتهليل يتضمن اختصاصَه بالإلهية، وما يستلزم الإلهيةَ فهذا لا يكون لغيره، بل هو مختصّ به، والتكبير
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 378) والترمذي (2953، 2954) من طريق سماك بن حرب عن عبَّاد بن حبيش عن عديّ.
(2) سورة الأعلى: 1.
(3) سورة الواقعة: 74، 96 وسورة الحاقة: 52.
(4) أخرجه أحمد (4/ 155) وأبو داود (869) وابن ماجه (887) عن عقبة بن عامر الجهني.
(5) أخرجه مسلم (479) عن ابن عباس.
(3/273)
يتضمن أنه أكبر من كل شيء، فما يَحصُلُ لغيره من نوع صفات الكمال -فإنّ المخلوقَ متصفٌ بأنه موجود وأنه حيٌّ وأنه عليم قدير سميع بصير إلى غير ذلك- فهو سبحانَه أكبر من كل شيء، فلا يساويه شيء في شيء من صفات الكمال، بل هي نوعان: نوع يختصُّ به ويمتنع ثبوته لغيره، مثل كونه ربّ العالمين، وإله الخلق أجمعين، الأول الآخر الظاهر الباطن القديم الأزلي الرحمن الرحيم مالك الملك عالم الغيب والشهادة، فهذا كله هو مختصٌّ به، وهو مستلزم لاختصاصه بالإلهية، فلا إله إلا هو، ولا يجوز أن يُعبَد إلا هو، ولا يُتوكل إلاّ عليه، ولا يُرغَب إلا إليه، ولا يُخشَى إلا هو. فهذا كلُّه من تحقيق “لا إله إلا الله”.
وأما “الله أكبر” فكل اسم يتضمن تفضيله على غيره، مثل قوله: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)) (1)، وقوله: (فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)) (2)، وقوله: (وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)) (3) و (وَأَنتَ خَيرُ الغَافِرينَ (155)) (4)، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لعديّ بن حاتم: “أيُفِرُّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ “.
وأما قول بعض النحاة إن “أكبر” بمعنى كبير، فهذا غلط مخالفٌ لنصّ الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ولمعنى الاسم المنقول بالتواتر. وكذلك قول بعض الناس إنه أكبرُ مما يُعلَم ويُوصَف ويُقَال، جَعَلوا معنى “أكبر” أنه أكبر مما في القلوب والألسنة من معرفته ونَعْته، أي هو فوق معرفةِ
__________
(1) سورة العلق: 3.
(2) سورة المؤمنون: 14.
(3) سورة الأعراف: 151، وسورة الأنبياء: 83.
(4) سورة الأعراف: 155.
(3/274)
العارفين، وهذا المعنى صحيح، لكن ليس بطائل، فإن الأنبياء والرسل والملائكة والجنة والنار وما شاء الله من مخلوقاته هي أكبر مما يعرفه الناس، قال الله تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (1)، وقال تعالى: “أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خَطَر على قلبِ بشر” (2).
فبعض مخلوقاته هي أكبر في معرفة الخلق من البعض، بخلاف ما إذا قيل إنه أكبر من كل شيء، فهذا لا يشركه فيه غيرُه. وبذلك فَسَّر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هذه الكلمة في مخاطبته لعدي بن حاتم حيث قال: “أيُفِرّك أن يقال الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ “.
وعلى هذا فعِلمُه أكبر من كل علم، وقدرتُه أكبر من كل قدرة، وهكذا سائر صفاته، كما قال تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (3). فشهادته أكبر الشهادات.
فهذه الكلمة تقتضي تفضيلَه على كل شيء مما تُوصف به الأشياء من أمور الكمالات التي جعلَها هو سبحانه لها. وأما التهليل فيتضمن تخصيصَه بالإلهية، ليس هناك أحد يتصف بها حتى يقال إنه أكبر منه فيها، بل لا إله إلا الله. وهذه تضمنت معنى نفي الإلهية عمّا سواه وإثباتها له، وتلك تضمنت أنه أكبر مطلقًا، فهذه تخصيص وهذه تفضيل لما تضمنه التسبيح والتحميد من النفي والإثبات، فإنّ كل ذلك إما أن يكون مختصًّا به، أو ليس كمثله أحدٌ فيه.
__________
(1) سورة السجدة: 17.
(2) أخرجه البخاري (4780) ومسلم (2824) عن أبي هريرة.
(3) سورة الأنعام: 19.
(3/275)
ولهذا كان التكبير مشروعًا على مشاهدة ماله نوع من العظمة في المخلوقات، كالأماكن العالية، والشياطين تهرب عند سماع الأذان، والحريقُ يُطفَأ بالتكبير، فإن مَرَدَة الإنس والجن يستكبرون عن عبادته ويَعلُون عليه ويُحادُّونه، كما قال عن موسى وجاءهم رسول كريم: (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)) (1). فالنفوس المتكبرة تَذِلُّ عند تكبيره سبحانه.
والتهليل يمنع أن يُعبَد غيرُه، أو يُرجَى أو يُخَاف أو يُدعَى، وذلك يتضمن أنه أكبر من كل شيء، وأنه مستحقٌّ لصفات الكمال التي لا يستحقها غيرُه، فهي أفضل الكلمات، كما في الصحيحين عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “الإيمان بضع وسبعون شعبةً أو ستون، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق” (2).
وفي حديث “الموطأ” (3): “أفضل ما قُلتُ أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير”. وفي سنن ابن ماجه (4) وكتاب ابن أبي الدنيا (5) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله”.
وهذه الكلمة هي أساس الدين، وهي الفارقة بين أهل الجنة
__________
(1) سورة الدخان: 19.
(2) أخرجه البخاري (9) ومسلم (35) عن أبي هريرة.
(3) 1/ 422، 423 عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلًا. وصححه الألباني لشواهده في “الصحيحة” (1503).
(4) برقم (3800) عن جابر. وأخرجه أيضًا الترمذي (3383) والنسائي في الكبرى (6/ 208).
(5) كتاب الشكر (102).
(3/276)
وأهل النار، كما في صحيح مسلم (1) عن جابر عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “الموجبتان: من مات لا يُشرِك بالله شيئا دخلَ الجنَّة، ومن مات يُشرك بالله شيئًا دخل النار”. وفي الصحيح (2) عنه: “من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة”. وفي الصحيح (3) أيضًا: “لَقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله”. وهي الكلمة الطيبة التي ضربها الله مثلًا كشجرةٍ طيبة، وهيِ بُعِث بها جميعُ الرسل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)) (4)، (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)) (5).
وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم في عَقِبه: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)) (6). وهي دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينًا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ) (7)، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)) (8).
وكل خطبة لا تكون فيها شهادة فهي جَذْماء، كما في سنن الترمذي (9) عن أبي هريرة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “كل خطبة ليس فيها تشهُّدٌ فهي
__________
(1) برقم (93).
(2) مسلم (26) عن عثمان.
(3) مسلم (916) عن أبي سعيد الخدري.
(4) سورة الأنبياء: 25.
(5) سورة الزخرف: 45.
(6) سورة الزخرف: 28.
(7) سورة آل عمران: 19.
(8) سورة آل عمران: 85.
(9) برقم (1106). وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 302، 343) وأبو داود (4841).
(3/277)
كاليد الجذماء”. والحمد مفتاح الكلام، كما في سنن أبي داود (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “كل أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه بالحمد فهو أجذم”. ولهذا كانت السنة في الخُطَب أن تُفتَتح بالحمد، ويُختَم ذكرُ الله بالتشهد، ثم يتكلم الإنسان بحاجته، وبها جاء التشهد في الصلاة أوّله: “التحيات لله”، وآخره: “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه”.
وفاتحة الكتاب نصفان: نصفٌ لله، ونصفٌ للعبد، ونصفُ الربّ أوله حمد وآخره توحيد (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، ونصف العبد هو دعاء، وأوله توحيد (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)).
والتكبير والتهليل والتسبيح مقدمة التحميد، فالمؤذن يقول: “الله أكبر الله أكبر”، ثم يقول: “أشهد أن لا إله إلا الله”، ويختم الأذان بقوله: “الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله”. وكذلك تكبيرات الإشراف والأعياد تُفتَتح والتكبير وتُختَم بالتوحيد، فالتكبير بساط. وكذلك التسبيح مع التحميد “سبحان الله وبحمده”، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)، لأن التسبيح يتضمن نفي النقائص والعيوب، والتحميد يتضمن إثبات صفات الكمال التي يُحمَد عليها.
فصل
وهو في نفس الأمر لا إله غيره، وهو أكبر من كل شيء، وهو المستحق للتحميد والتنزيه، هو متصف بذلك كلّه في نفس الأمر. فالعباد لا يثبتون له بكلامهم شيئًا لم يكن ثابتًا له، بل المقصود بكلامهم تحقيق ذلك في أنفسهم، فإنهم يَسْعَدون السعادة التامة، إذا
__________
(1) برقم (4840) عن أبي هريرة. وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 359) وابن ماجه (1894).
(3/278)
صار أحدهم ليس في نفسه إله إلا الله خَلَصَ من شرك المشركين، فإن أكثر بني آدم كما قال تعالى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)) (1)، فهم يُقِرُّون أنه ربّ العالمين لا ربّ غيرُه، ومع هذا يُشرِكون به في الحبِّ أو التوكُل أو الخوف أو غير ذلك من أنواع الشرك.
وأما التوحيد أن يكون الله أحبَّ إليه من كلّ ما سواه، فلا يُحِبّ شيئًا مثل ما يُحبّ الله، ولا يخافه كما يخاف الله، ولا يرجوه كما يرجوه، ولا يُجلُّه ويُكرِمه مثل ما يُجلّ الله ويُكرمُه، ومن سَوَى بينه وبين غيره في أمَر من الأمور فهو مشركَ، إذ كان المشركون لا يُسَوُّون بينه وبين غيره في كل [شيء]، فان هذا لم يقله أحدٌ من بني آدم، وهو ممتنع لذاتِه امتناعًا معلومًا لبني آدم، لكن منهم من جَحَده وفَضَّلَ عليه غيرَه في العبادة والطاعة، لكن مع هذا لم يثبِتْه ويُسوِّ بينه وبين غيرِه في كل شيء، بل في كثير من الأشياء. فمن سوَّى بينه وبين غيرِه في أمرٍ من الأمور فهو مشركٌ، قال الله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)) (2) أي يعدلون به غيره، يقال: عَدَلَ به أي جعله عديلًا لكذا ومثلًا له. وقال تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)) إلى قوله: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)) (3) وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) (4).
__________
(1) سورة يوسف: 106.
(2) سورة الأنعام: 1.
(3) سورة الشعراء: 91 – 98.
(4) سورة البقرة: 165.
(3/279)
فلا إله إلا هو سبحانه، وما سواه ليس بإلهٍ، لكن المشركون عبدوا معه آلهةً، وهي أسماءٌ سَمَّوها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، كما يُسمِّي الإنسانُ الجاهلَ عالمًا، والكاذبَ صادقًا، ويكون ذلك عنده لا في نفس الأمر. وهؤلاء آلهة في نفوس المشركين بهم ليسوا آلهةً في نفس الأمر. ولهذا كان ما في قلوبهم من الشرك هو إفكًا، قال الله تعالى عن إبراهيم: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)) (1)، وقال أيضًا: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) (2)، وقال: (هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) (3)، وقال هود لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)) (4).
والموحِّد صادق في قوله “لا إله إلا الله”، وكلَّما كرَّر ذلك تحقَّق قلبه بالتوحيد والإخلاص، وكذلك قوله “الله أكبر”، فإنه تعالى كل ما يخطر بنفس العباد من التعظيم فهو أكبر منه، الملائكة والجن والإنس، فإنه أيّ شيء قُدّر في الأنفس من التعظيم كان دون الذي هو متصف به، كما أنه سبحانه فوق ما يُثنِي عليه العباد، كما قال أعلمُ الناس به: “لا أحصِي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك” (5).
فكلَّما قال العبد “الله أكبر” تحقَّق قلبُه بأن يكون الله في قلبه أكبر
__________
(1) سورة الصافات: 85 – 86.
(2) سورة العنكبوت: 17.
(3) سورة الكهف: 15.
(4) سورة هود: 50.
(5) أخرجه مسلم (486) عن عائشة.
(3/280)
من كل شيء، فلا يبقى لمخلوقِ على القلب ربَّانية تُساوِي ربَّانيةَ الرب، فضلًا عن أن يكون مثلَها، وهذا داخل في التوحيد لا إله إلا الله، فلا يكون في قلبه لمخلوقِ شيء من التألُّه لا قليل ولا كثير، بل التألُّه كلُّه لله، ولكن المخلوق عنده نوع من القدر والمنزلة والمحبة، وليست كقدر الخالق، والمحبّة المأمور بها هي الحبّ لله، كحبّ الأنبياء والصالحين، فهو يحبُّهم لأنّ الله أمر بحبِّهم، فهذا هو الحبّ الله. فأما من أحبَّهم مع الله فهذا مشرك، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) (1). فالحبُّ في الله إيمان، والحبُّ مع الله شرك.
وكذلك إذا قال “سبحان الله والحمد لله” فقد نزَّه الربَّ، فنزَّه قلبَه أن يصف الربَّ بما لا ينبغي له، فكلَّما سبَّح الربَّ تنزَّهت نفسُه عن أن يصف الربَّ بشيء من السوء، كما قال سبحانه: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)) (2)، وقال: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)) (3).
فهو سبحانَه سبَّح نفسَه عما يَصِفه المفترون والمشركون، فإذا سبّح الربّ كان قد زكى نفسَه. وقد سمَّى الله الأعمال الصالحة زكاة وتزكيةَ في مثل قوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (4). قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (وَيُزَكِّيهِمْ) (5) قال: يعني بالزكاة
__________
(1) سورة البقرة: 165.
(2) سورة الصافات: 180.
(3) سورة الإسراء: 43.
(4) سورة فصلت: 6 – 7.
(5) سورة البقرة: 129.
(3/281)
طاعةَ الله والإخلاص (1)، فجمعَ بين التزكية من الكفر والذنوب. وقال مقاتل بن حيّان: “يزكيكم”: يُطهّركم من الذنوب. هكذا قال في آية البقرة (2)، وقال في آية الصيف (3): يطهّرهم من الذنوب والكفر. وقال ابن جريج: يطهرهم من الشرك ويخلِّصهم منه. وقال السدّي: يأخذ زكاة أموالهم (4). ففسّروا الآية بما يعمُّ زكاةَ الأموال وغيرها من الأعمال والأفعال، فالإخلاص والطاعة وتزكيتهم من الذنوب والكفر أعظم مقصود الآية. والمشركون نجس، والصدقة من تمام التطهر والزكاة، كما قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) (5).
وكذلك قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (6) قال: هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله (7). ورُوي عن عكرمة نحو ذلك. وقال قتادة: لا يُقِرُّون بها ولا يؤمنون بها. وكذلك قال السدّي: لا يدينون بها، ولو زكَّوا وهم مشركون لم ينفعهم. وقال معاوية بن قرَّة: ليسوا من أهلها. وقد قال موسى لفرعون: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)) (8)، وقال عن الأعمى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)) (9)،
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (3/ 88).
(2) برقم 151.
(3) هي في سورة آل عمران: 164.
(4) انظر هذه الأقوال في تفسير الطبري (3/ 88) و”زاد المسير” (1/ 146).
(5) سورة التوبة: 103.
(6) سورة فصلت: 6 – 7.
(7) أخرجه الطبري (24/ 60)، وكذلك روى الآثار التي ذكرها المؤلف هنا.
(8) سورة النازعات: 18 – 19.
(9) سورة عبس: 3.
(3/282)
وقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (1)، وقال: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى) إلى قوله: (وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (2).
وكذلك الحمد، كلَّما حَمِدَ العبدُ ربَّه تحققَ حمدُه في قلبه معرفةً بمحامدِه ومحبةً له وشكرًا له. والألف واللام في قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فيها قولان (3)، قيل: هي للجنس، كما ذكره بعض المفسرين من المعتزلة، وتَبعَه عليه بعض المنتسبين إلى السنة. والثاني -وهو الصحيح-: أنها للاستغراق، فالحمد كلُّه لله، كما جاء في الأثر: “لك الحمد كله، ولك الملك كلُّه” (4). فله الحمد حمد مستقل، وله الملك ملك مستقل، ولكن هو سبحانه يُؤتي الملك من يشاء، والذي يُؤتيه هو من ملكه، وكلُّ ما تصرَّف فيه العبد فهو من ملك الربّ، وهو مستقل بالملك، ليس هذا لغيره، كذلك الحمد هو مستقل بالحمد كلِّه، فله الحمد كلُّه وله الملك كلُّه، وكلُّ ما جاء به الإذن من موجود فله الحمد عليه، وكلُّ ما يجعله للعباد مما يُحمَدون عليه فله الحمد عليه، وإذا ألهمهم الحمدَ فهو الذي جعلهم حامدين.
والمعتزلة لا يُقِرُّون بأنه جعلَ الحامدَ حامدًا والمصلّيَ مصليًا والمسلمَ مسلمًا، بل يُثبِتُون وجود الأعمال الصالحة من العبد لا من الله، فلا يستحق الحمد على تلك الأعمال على أصلهم، إذ كان ما أعطاهم من القدرة والتمكين وإزاحة العلل قد أعطَى الكفار مثله، لكن المؤمنون استقلوا بفعل الحسنات، كالأب الذي يُعطي ابنَيه
__________
(1) سورة الشمس: 9 – 10.
(2) سورة طه: 74 – 76.
(3) انظر الكشاف (1/ 8) والمحرر الوجيز (1/ 63) والانتصاف (1/ 8) والقرطبي (1/ 133).
(4) أخرجه أحمد (5/ 395، 396) بإسناد ضعيف عن حذيفة بن اليمان.
(3/283)
مالًا، فهذا يُنفِقه في الطاعة، وهذا يُنفِقه في المعصية. فهو عندهم لا يُمدَح على إنفاق هذا الابن، كما لا يُذَمُّ على إنفاق الآخر.
وأما أهل السنة فيقولون كما أخبر الله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) (1)، وقال أهل الجنة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (2) الآية. وقال الخليل: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) (3)، وقال هو وابنه إسماعيل: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (4). ويَحمدون الله حمدَ النعمة وحمدَ العبادة، كما قد بُسِط هذا في الكلام في الشكر.
وهو سبحانه جعل مَن شاء من عبادِه محمودًا، ومحمدًا سيد المحمودين، ومحمدٌ تكون صفاتُه المحمودة أكثر، وأحمدُ يكون أحمدَ من غيره، فهذا أفضل، وذاك أكثر. وهو سبحانه جعلَه محمدًا وأحمدَ. فهو المحمود على ذلك، وحمدُ أهل السماوات والأرض جزء من حمده، فإن حمدَ المصنوع حمدُ صانعِه، كما أن كلَّ ملكٍ هو جزءٌ من ملكه، فله الملك وله الحمد.
والحمد إنما يتم بالتوحيد، وهو مناط التوحيد ومقدمة له، ولهذا يُفتَح به الكلامُ، ويُثنَّى بالتشهد. وكلُّ كلام لا يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وكل خطبة ليس فيها تشهُّدٌ فهي كاليد الجذماء. وإذا كان الحمد كله له …. (5) بخلاف ما إذا أثبت جنس الحمد من غير
__________
(1) سورة الحجرات: 7.
(2) سورة الأعراف: 43.
(3) سورة إبراهيم: 40.
(4) سورة البقرة: 128.
(5) هنا بياض في الأصل بقدر كلمتين.
(3/284)
استغراق، فإن هذا لا يثبت خصائص الربّ التي بها يمتاز عن غيره، فإن الحمد إذا كان للجنس أوجب أن يكون لغيره أفرادٌ من أفراد هذا الجنس، كما تقوله القدرية. وأما أهل السنة فيقولون: الحمد لله كلُّه، وإنما للعبد حمدٌ مقيَّدٌ، لكون الله تعالى أنعمَ عليه، كما للعبد ملكٌ مقيَّدٌ. وأما الملك المستقل والحمد المستقل والملك العام والحمد العام فهو لله رب العالمين، لا إله إلا هو، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير.
وفي السنن (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “من قال إذا أصبحَ: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدَك، لا شريك لك، فلك الحمد -فقد أدَّى شكر ذلك اليوم، ومن قال مثل ذلك إذا أمسى فقد أدَّى شكر تلك الليلة”. وقال تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) (2). وقال تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)) (3) أي تجعلون شكركم على نعمة الله أنكم تضيفونها إلى غيره بقولكمِ “مُطِرنا بنَوءِ كذا وكذا”. وقال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) (4) الآية. وقال: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)) (5).
وفي حديث آخر (6): “من قال إذا أصبح الحمد لله ربي لا أشرك
__________
(1) أخرجه أبو داود (5073) والنسائي في الكبرى (5/ 6) عن عبد الله بن غنَّام.
(2) سورة النحل: 53 – 54.
(3) سورة الواقعة: 82.
(4) سورة الروم: 33.
(5) سورة غافر: 65.
(6) أخرجه البزار (كما في “كشف الأستار” 4/ 24) وابن السني في عمل اليوم=
(3/285)
به شيئًا، أشهد أن لا إله إلا الله، ظلَّ تغفر له ذنوبه حتى يُمسِيَ، وإن قالها حين يُمسِيْ ظلَّ تُغفَر له ذنوبه حتى يُصبح”. رواه أبان المحاربي عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال سعيد بن جبير: إذا قرأتَ (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) فقل “لا إله إلا الله”، وقل على أثرها: “الحمد لله رب العالمين”. ثم قرأ هذه الآية (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). وقد روي نحو ذلك عن ابن عباس. وقد ثبت في الصحيحين (1) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان يقول في دبر الصلاة: “لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون”. وهذا قد ذكره في أوائل هذه السورة، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إلى قوله (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)) (2).
وفي السنن نوعان من الدعاء يقال في كلّ منهما لمن دعا به أنه دعا اللهَ باسمه الأعظم، أحدهما (3): “اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام”. والآخر (4): “اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم
__________
=والليلة” (59) من حديث أبان المحاربي. قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (10/ 116): فيه أبان بن أبي عياش، وهو متروك.
(1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (594) فقط عن عبد الله بن الزبير.
(2) سورة غافر: 10 – 14.
(3) أخرجه أحمد (3/ 120) وأبو داود (1495) والترمذي (3544) وابن ماجه (3858) عن أنس.
(4) أخرجه أحمد (5/ 349، 350، 360) وأبو داود (1493) والترمذي (3475) وابن ماجه (3857) عن بريدة.
(3/286)
يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد”. والأول سؤال بأنه المحمود، والثاني سؤال بأنه الأحد، فذاك سؤالٌ بكونه محمودًا، وهذا سؤال بوحدانيته المقتضية توحيدًا، وهو في نفسه محمود يستحق الحمد، معبود يستحقُّ العبادة.
والنصف الأول من الفاتحة الذي هو نصف الربّ، أوله تحميد وآخرُه تعبيد، وقد بُسِط مثلُ هذا في مواضع، وبُيِّن أن التحميد والتوحيد مقرونانِ، ولابدَّ منهما في كل خطبة، فكلّ أمرٍ ذي بال لا يُبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وكلُّ خطبةٍ ليس فيها تشهُّد فهي كاليد الجذماء. والحمد مقرون بالتسبيح، ولا إله إلا الله مقرون بالتكبير، كذاك تحميدُه وهذا توحيدُه. قال تعالى: (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)) (1)، ففي أحدهما إثباتُ المحامد له، وذلك يتضمن جميعَ صفاتِ الكمال ومنع النقائص، وفي الآخر إثبات وحدانيته في ذلك، وأنه ليس له كُفُوٌ في ذلك.
وقد بيَّنّا في غير هذا الموضع أن هذين الأصلين يجمعان جميع أنواع التنزيه، فإثباتُ المحامد المتضمنة لصفات الكمال تستلزم نَفيَ النقص، وإثباتُ وحدانيته وأنه ليس له كفوٌ في ذلك يَقتضِي أنه لا مثلَ له في شيء من صفات الكمال، فهو منزَّهٌ عن النقائص ومنزَّهٌ أن يماثلَه شي بلا في صفات الكمال، كما دل على هذين الأصلين قولُه تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)) (2).
__________
(1) سورة غافر: 65.
(2) سورة الإخلاص: 1 – 4.
(3/287)
واسمُه “الله” تضمَّن جميع المحامد، فإنه يتضمن الإلهيةَ المستلزمةَ لذلك، فإذا قيل “لا إله إلا الله” تضمنت هذه الكلمة إثباتَ جميع المحامد، وأنه ليس له فيها نظير، إذ هو إلهٌ لا إله إلا هو. والشرك كلُّه إثباتُ نظيرٍ لله عز وجلِّ، ولهذا يُسبِّح نفسَه ويُعاليها عن الشرك في مثل قوله (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)) (1). وقال تعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)) (2). فان الشرك قولٌ هو وصف، وعملٌ هو قصد، فنزه نفسه عما يصفون بالقول والاعتقاد وعن أن يُعبَد معه غيره.
وأعظم آية في القرآن آية الكرسي، أولها: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (3). فقوله “الله” هو اسمه المتضمن لجميع المحامد وصفات الكمال، وقوله “لا إله إلا هو” نفي للنُّظراء والأمثال. وكذلك أول الكلمات العشر التي في التوراة: “يا إسرائيل! أنا الله لا إله إلا أنا”، جمع بين الإثبات ونَفْي الشريك، فالإثبات لردّ التعطيل، والتوحيد لنفي الشرك.
وهكذا التحميد والتوحيد، فالتحميد متضمن إثبات ما يستحقه من المحامد المتضمنة لصفات الكمال، وهو ردّ للتعطيل، والتوحيد ردّ للشرك، والتحميد يتضمن إثبات أسمائه الحسنى، وكلها محامد له، وهو يتضمن ذكر آياته وآلائه، فإنه محمودٌ على آلائِه كلِّها، وآياته
__________
(1) سورة المؤمنون: 91 – 92.
(2) سورة الأنبياء: 21 – 22.
(3) سورة البقرة: 255.
(3/288)
كلُّها من آلائه، كما قد بُسِط في مواضع. فهو محمود على كلّ ما خلق، له الحمد مِلْء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد ذلك، فله الحمد حمدًا يملأ جميع ما خلقه، ويملأ ما شاء خاصة بعد ذلك، إذ كان كل مخلوق هو محمود عليه، بل هو مسبِّح بحمده، كما قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)) (1).
والتوحيد يقتضي نفيَ كل نِدّ ومثلٍ ونظيرٍ، وهو كمال التحميد وتحقيقه ذاك إثباته بغاية الكمال ونفي النقص، وهذا نفيُ أن يكون له مثل أو نِدٌّ.
وقوله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) قد فسَّرها كثير من المفسرين أي فصَلِّ بحمد ربك والثناء عليه، لم يذكر ابن الجوزي غير هذا القول، قال (2): وسبّح بحمد ربك أي صل له بالحمد والثناء عليه. وتفسير التسبيح بالصلاة فيها أحاديث صحيحة وآثار كثيرة، مثل حديث جرير المتقدم.
وأما قوله (بِحَمْدِ رَبِّكَ) فقد فسّروه كما تقدم، أي بحمد ربك وشكر ربك وطاعة ربك وعبادة ربك، أي بذكرِك ربَّك وشكرِك ربَّك وطاعتِك ربَّك وعبادتِك ربَّك، ولا ريب أن حمد الربِّ والثناء عليه ركن في الصلاة، فإنها لا تتم إلا بالفاتحة التي نصفها الأول حمدٌ لله وثناءٌ عليه وتحميدٌ له، وقد شُرِع قبل ذلك الاستفتاح، وشُرِع الحمد عند الرفع من الركوع، وهو متضمن لحمد الله تعالى.
__________
(1) سورة الإسراء: 44.
(2) زاد المسير (5/ 333).
(3/289)
وذكر طائفة من المفسرين كالثعلبي وغيره قولين، قالوا -واللفظ للبغوي (1) -: “وسبّح بحمد ربك” أي صَلِّ بأمر ربك، وقيل: صلِّ له بالحمد له والثناء عليه. فهذا القول الأول الذي ذكره البغوي هو مأثور عن أبي مالك أحد التابعين الذين أخذ عنهم السُّدِّي التفسيرَ من أصحاب ابن عباس. وروى ابن أبي حاتم (2) عن أسباط عن السدّي عن أبي مالك: قوله (بِحَمْدِ) أي بأمر. وتوجيه هذا أن قوله “بحمده” أي بكونه محمودًا، كما قد قيل في قول القائل “سبحان الله وبحمده”، قيل: سبحان الله ومع حمده أسبِّحه، أو أسبِّحه بحمدي له، وقيل: سبحان الله وبحمده سبَّحناه، أي هو المحمود على ذلك، كما تقول: فعلتُ هذا بحمد الله، وصلينا بحمد الله، أي بفضله وإحسانه الذي يَستحقُّ الحمدَ عليه. وهو يرجع إلى الأول، كأنه قال: بحمدِنا الله فإنه المستحق لأن نحمده على ذلك.
وإذا كان ذلك بكونه المحمود على ذلك فهو المحمود على ذلك، حيث كان هو الذي أمر بذلك وشرعه، فإذا سبَّحنا سبَّحنا بحمده، كما قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (3) الآية. وقد يكون القائل الذي قال: “فسبح بحمد ربك” أي بأمره أراد المأمور به، أي سبّحه بما أمرك أن تُسبِّحه به، فيكون المعنى: سَبِّح التسبيحَ الذي أمركَ ربُّك به، كالصلاة التي أمرك بها. وقولنا “صليتُ بأمر الله” و”سبَّحتُ بأمر الله” يتناول هذا وهذا، يتناول أنه أمرَ بذلك ففعلتُه بأمرِه لم أبتدعْه، وأني فعلتُ بما أمرني به لم أبتدعْ.
__________
(1) معالم التنزيل (3/ 236).
(2) لا يوجد النص في تفسيره المطبوع.
(3) سورة آل عمران: 164.
(3/290)
فأما هذه الآية (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (1) في يذكر البغوي وابن الجوزي إلا أنه الصلاة كما ذكرنا، وكذلك آية “ق”، قال ابن الجوزي (2): “وسبّح بحمد ربك” أي صَلِّ بالثناء على ربك والتنزيه عما يقول المبطلون. فذكر الثناء والتنزيه عما يقول المبطلون تفسيرًا للحمد. فأما البغوي (3) فإنه قال: فصلِّ حمدًا لله. وهو ينقل ما يذكره الثعلبي في تفسيره في مثل هذه المواضع، والثعلبي يذكر ما قاله غيرُه، سواء قاله ذاكرًا أو آثرًا، ما يكاد هو يُنشئ من عنده عبارةً، وهذه عبارة طائفة قالوا: “سبح بحمد ربك” صَلِّ حمدًا لله، جعلَ نفسَ الصلاة حمدًا، كما يقال: افعلْ هذا حمدًا لله أي شكرًا.
وهذا بنَى على قول من قال: “بحمد ربك” أي بكونه محمودًا، ثم جعل المصدر يضاف إلى المفعول.
وليس المراد أن الحمد غير التسبيح، بل نفس تسبيح الله هو حمد الله. ولفظ التسبيح يُراد به جنس الصلاة، وقد يُراد به جنس الصلاة، وقد يُراد به النافلةُ خصوصًا، فإن الفرض لما كان له اسمٌ يخصُّه جعل هذا اللفظ للنافلة، كما في الحديث (4): كان رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُسبِّح على راحلته حيث توجَّهتْ به راحلتُه. وكان يُصلِّى سُبحة الضحى، ومنه ما رواه مسلم في صحيحه (5) عن حفصة قالت: ما رأيت رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – صلَّى في سبحته قاعدًا، حتى كان قبل وفاته
__________
(1) سورة طه: 130.
(2) زاد المسير (8/ 23).
(3) معالم التنزيل (4/ 226).
(4) أخرجه البخاري (1093، 1097، 1104) ومسلم (701) عن عامر بن ربيعة.
(5) برقم (733).
(3/291)
بعامٍ -وفي روايةٍ: أو اثنين- فكان يصلي في سبحته قاعدًا، وكان يقرأ فيها بالسورة فيُرتّلها، حتى يكون أطول من أطول منها. ومنه أيضًا ما أخرجاه في الصحيحين (1) عن عائشة قالت: ما رأيتُ رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُصلِّي سبحةَ الضحى قَطُّ، وإنّي لأسبِّحها، وإن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَيَدَعُ العمل وهو يُحِبّ أن يعمل به، خشيةَ أن يعمل به الناس فيُفرَض عليهم.
لكن هذا يوجد في كلام الفصحاء، تسمية التطوع سُبْحة، خصُّوه بذلك. وأما في كلام النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فيحتاج إلى نقل عنه.
ويراد بالتسبيح جنس ذكر الله تعالى، يقال: فلان يُسبِّح، إذا كان يذكر الله. ويدخل في ذلك التهليل والتحميد، ومنه سُمِّيت “السبَّاحة” للإصبع التي يشير بها، وإن كان يشير بها في التوحيد. ويراد بالتسبيح قول العبد “سبحان الله”، وهذا أخصُّ به.
وفي السنن (2): لما أنزل الله تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)) قال: “اجعلوها في ركوعكم”، ولما نزل (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) قال: “اجعلوها في سجودكم”. وفي الصحيحين (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم”. وفي الصحيحين (4) عن أبي هريرة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “من قال في يوم مئة مرة: سبحان الله وبحمده، حُطَتْ عنه خطاياه ولو كأنت مثلَ زبد البحر”.
__________
(1) البخاري (1128، 1177) ومسلم (718).
(2) أخرجه أبو داود (869) وابن ماجه (887) عن عقبة بن عامر.
(3) البخاري (6406، 6682، 7563) ومسلم (2694) عن أبي هريرة.
(4) البخاري (6405) ومسلم (2692).
(3/292)
وقد قيل: إن الصلاة إنما سُمّيت تسبيحًا لاشتمالها على القيام والقراءة، وتسمّى ركعة وسجدة لاشتمالها على الركعة والسجدة. لكن فرق بين قوله “سبح اسم ربك الأعلى” و”العظيم” -فهذه قد فُسِّرتْ بالتسبيح المجرد قول العبد في ركوعه وسجوده: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى- وبين قوله “فسبح بحمد ربك”، فان هذا إذا قيل: إن المراد بحمدك ربّك أمر بالتسبيح وبالحمد، كقوله “سبحان الله وبحمده”.
والمصلي إذا حَمِدَ ربَّه في القيام، أو في القيام والقعود، وسبَّح في الركوع والسجود، فقد جمع التسبيح والحمد، فسبَّح بحمد الله. فالصلاة تسبيح بحمد ربه، كما بيَّن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ذلك.
وقد فَسَّر طائفة من السلف قوله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)) (1) بالتسبيح بالكلام (2)، وذكروا أنواعًا: التسبيح عند افتتاح الصلاة، والتسبيح عند القيام من المجلس، فروى ابن أبي حاتم (3) عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)) قال: إذا أراد أن يقوم الرجل من مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك. هكذا رواه وكيع، ورواه أبو نعيم وقبيصة فقالا: يقول سبحان الله وبحمده.
وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد: “حين تقوم” قال: من كلّ مجلس.
وعن طلحة عن عطاء: حين تقوم من كل مجلس، إن كنتَ أحسنتَ ازددتَ خيرًا، وإن كان غير ذلك كان هذا كفارةً له.
وقال طائفة: حين تقوم إلى الصلاة، وكذلك قال الضحاك: حين
__________
(1) سورة الطور: 48.
(2) انظر تفسير الطبري (22/ 27 – 23).
(3) لا يوجد النص في النسخة المطبوعة. ورواه أيضًا الطبري (27/ 22).
(3/293)
تقوم إلى الصلاة المفروضة، وكذلك قال ابن زيد: إذا قام إلى الصلاة من ليلٍ أو نهار، وفي رواية جُويبر عن الضحاك قال: هو قول الرجل إذا استفتح الصلاة “سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إلهَ غيرُك”. وقال أبو الجوزاء: حين تقوم من منامك من فراشك. وعلى هذا فهو أمر بالصلاة إذا قام من فراشه من قائلة النهار، فهو أمر بصلاة الظهر والعصر.
و”إدبار النجوم” فسرها طائفة بركعتي الفجر (1)، وروى ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: “وإدبار النجوم” قال ابن عباس: هو التسبيح أدبار الصلاة.
قلت: لعلَّ هذا تفسير لقوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) (2)، فإنه أنسب.
وقد رُوِي عن طائفة من السلف (3) أن “أدبار السجود” الركعتان بعد المغرب، و”إدبار النجوم” ركعتا الفجر، فإحداهما تشتبه بالأخرى. فقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40))، إذا فُسِّر هذا بالتسبيح دُبُرَ الصلاة كان اللفظ دالًا على هذا. والسلف الذين فسّروها بهذا كأنهم -والله أعلم- أرادوا أن أولَ ما يُكتَب في صحيفة النهار ركعتا الفجر، وآخر ما يُرفع ركعتا المغرب، فقد رُوِي أنهما تُرفعان مع عمل النهار.
قلت: ولفظ التسبيح يتناول هذا كله، منه واجب ومنه مستحب.
(آخره، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا).
__________
(1) انظر تفسير الطبري (27/ 23 – 24) و”الدر المنثور” (7/ 636).
(2) سورة ق: 40.
(3) انظر تفسير الطبري (26/ 112 – 113) وابن أبي حاتم (10/ 3310).
(3/294)
مسألة في إخوة يوسف هل كانوا أنبياء؟
(3/295)
الذي يدلُّ عليه القرآنُ واللغةُ والاعتبار أن إخوةَ يوسف ليسوا بأنبياء، وليس في القرآن ولا عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بل ولا عن أصحابه خبرٌ بأن الله تعالى نبَّأهم. وإنما احتجّ من قال إنّهم نبِّئُوا بقوله في آيتي البقرة والنساء (وَاَلأَسْبَاطِ) (1)، وفسّر الأسباط بأنهم أولاد يعقوب، والصواب أنه ليس المراد بهم أولادُه لصلبه بل ذُرِّيّتُه، كما يقال فيهم أيضا “بنو إسرائيل”، وكان في ذريته الأنبياء، فالأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل.
قال أبو سعيد الضرير: أصل السِّبْط شجرةٌ ملتفةٌ كثيرة الأغصان (2). فسُمُّوا الأسباطَ لكثرتهم، فكما أن الأغصان من شجرة واحدة، كذلك الأسباط كانوا من يعقوب. ومثل السبط الحافد، وكان الحسن والحسين سِبْطَي رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأسباط حفدة يعقوب ذَرارِي أبنائه الاثنَي عشر. وقال تعالى: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) (3)، فهذا صريحٌ في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل، كلُ سِبْطٍ أمةٌ، لا أنهم بَنُوه الاثنا عشر. بل لا معنى لتسميتهم قبل أن تنتشر عنهم الأولاد أسباطًا، فالصواب (4) أن السِّبْطَ هم الجماعة من الناس.
ومن قال: الأسباط أولاد يعقوب، لم يُرِد أنهم أولادُه لصلبه، بل أرادَ ذريتَه، كما يقال: بنو إسرائيل وبنو آدم. فتخصيصُ الآية ببنيه
__________
(1) سورة البقرة: 136، وسورة النساء: 163.
(2) انظر “لسان العرب” (سبط).
(3) سورة الأعراف: 159 – 160.
(4) في الأصل: “فالحال”.
(3/297)
لصلبه غلط، لا يدلُّ عليه اللفظُ ولا المعنى، ومن ادّعاه فقط أخطأ خطأً بيِّنًا (1).
والصواب أيضًا أن كونهم أسباطًا إنما سُمُّوا به من عهد موسى للآية المتقدمة، ومن حينئذٍ كانت فيهم النبوة، فإنه لا يُعرَف أنه كان فيهم نبيّ قبلَ موسى إلا يوسف. ومما يؤيِّد هذا أنّ الله تعالى لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ) الآيات (2)، فذكر يوسف ومن معه، ولم يذكر الأسباط، فلو كان إخوةُ يوسف نُبِّئوا كما نبئَ يوسف لذُكِروا معه.
وأيضًا فإن الله يذكر عن الأنبياء من المحامد والثناء ما يناسب النبوة، وإن كان قبل النبوة، كما قال عن موسى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) (3) الآية، وقال في يوسف كذلك، وفي الحديث: “أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، نبيّ من نبي من نبي” (4). فلو كانت إخوتُه أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا الكرم، وهو تعالى لما قصَّ قصَّةَ يوسف وما فعلوا معه ذكر اعترافهم بالخطيئة وطلبهم الاستغفار من أبيهم، ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة، ولا شيئا من خصائص الأنبياء، بل ولا ذكر عنهم توبةً باهرةً كما ذكر عن ذنبه دون ذنبهم، بل إنما حكى عنهم الاعتراف وطلب الاستغفار. ولا ذكر سبحانه عن أحدٍ من الأنبياء -لا قبلَ النبوة ولا بعدها- أنه فعلَ مثلَ هذه الأمورِ العظيمة، من عقوق الوالد وقطيعةِ الرحم وإرقاقِ المسلم
__________
(1) انظر من قال بذلك في “الحاوي للفتاوي” للسيوطي (1/ 310).
(2) سورة الأنعام: 84 وما بعدها.
(3) سورة القصص: 14.
(4) أخرجه البخاري (3382، 3390، 4688) عن ابن عمر بنحوه.
(3/298)
وبيعه إلى بلاد الكفر والكذب البيّن وغير ذلك مما حكاه عنهم، ولم يَحْكِ شيئًا يناسب الاصطفاءَ والاختصاصَ الموجب لنبوتهم، بل الذي حكاه يخالف ذلك، بخلاف ما حكاه عن يوسف.
ثمّ إن القرآن يدلُّ على أنه لم يأتِ أهلَ مِصْرَ نبيٌّ قبلَ موسى سوى يوسف، لآية غافر (1)، ولو كان من إخوة يوسف نبيٌّ لكان قد دعا أهل مصر، وظهرت أخبار نبوته، فلما لم يكن ذلك عُلِمَ أنه لم يكن منهم نبيٌّ. فهذه وجوهٌ متعددة يُقوِّي بعضُها بعضًا.
وقد ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر، وهو أيضًا، وأوصىَ بنقله إلى الشام، فنقلَه موسى.
والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم حَصَلَ من ظَنِّ أنهم هم الأسباط، وليس كذلك، إنما الأسباط ذرّيتهم الذين قُطِّعُوا أسباطًا من عهد موسى، كل سِبْطٍ أمة عظيمة. ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال: “ويعقوب وبنيه”، فإنه أوجز وأَبْيَنُ. واختير لفظ “الأسباط” على لفظ “بني إسرائيل” للإشارة إلى أن النبوة إنما حصلتْ فيهم من حينِ تقطيعِهم أسباطًا من عهد موسى. والله أعلم.
__________
(1) الآية 34.
(3/299)
فتوى في قراءة القرآن بما يخرجه عن استقامته
(3/301)
الحمد الله رب العالمين.
ما تقول أئمةُ الدين -رضي الله عنهم أجمعين، وجعلَهم عاملين بما عَلِمُوا، مخلصين مصيبين- في قراءة القرآن بما يُخرِجُه عن استقامتِه التي أجمعَ أئمةُ القراءةِ عليها، من تمطيطٍ أو ترجيعٍ بالألحان المُطْرِبة، أو ملك مُجمَعٍ على قَصْرِه، أو قَصْرٍ مُجْمَعٍ على مَدِّه، أو إظهار ما أُجْمِع على إدغامِه، أو إدْغامِ ما أُجْمِعَ على إظهارِه، أو تَشْدِيدِ ما أجمِعِ على تخفيفِه، أو تخفيفِ ما أُجمِعَ على تشديدِه، أو بما يُزِيلُ الحرف عن مَخْرجه أو صفتِه، وما أشبهَ ذلك مما يُعَانيه بعض القراء، هل تَجُوز تلك اَلقراءةُ؟ وهل يجوزُ سَماعُها أو استماعُها؟ فإن لم تَجُزْ فهل يَلزَمُ سامعَها أن يُنكِر على قارئها؟ فإن لَزِمَه وتَرَكَ فهل يأثَمُ؟ وإن أنكَر على قارئها، ولم يَقْبَل القارئُ، فهل يجب عليه شيء أم لا؟ أَفْتُونا مأجورين، رحمكم الله، والحمد لله وحده.
أجابَ شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية:
الحمد لله. الناسُ مأمورون أن يقرأوا القرآن على الوجه المشروع، كما كان يقرأه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ، فإن القراءةَ سنةٌ يأخذُها الآخر عن الأول.
وقد تنازع الناسُ في قراءةِ الألحانِ، منهم مَن كرهَها مطلقًا بل حَرَّمها، ومنهم من رخصَ فيها (1)، وأعدلُ الأقوالِ فيها أنها إن كانت موافقةً لقراءة السَّلفِ كانت مشروعةً، وإن كانت من البدع المذمومة
__________
(1) انظر تفصيل القول في ذلك في “زاد المعاد” (1/ 466 – 475).
(3/303)
نُهِيَ عنها. والسلفُ كانوا يحسِّنون القرآنَ بأصواتِهم من غيرِ أن يتكلفوا أوزانَ الغِناء، مثلَ ما كان أبو موسى الأشعري يَفعلُ، فقد ثبت في الصحيح عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لقد أُوتِيَ هذا مِزْمازا من مَزاميرِ آلِ داودَ” (1). وقال لأبي موسى الأشعري: “مررتُ بك البارحةَ وأنتَ تقرأ، فجعلتُ أستمعُ لقراءتِك”، فقال: لو علمتُ أنك تسمعُ لَحبَّرتُه لكَ تحبيرًا (2). أي لحسَّنْتُه لك تحسينا. وكان عمر يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى، ذَكِّرْنا ربَّنَا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون لقراءته.
وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “زَيِّنُوا القرآنَ بأصواتِكم” (3). وقال: “لَلّهُ أَشَدُّ أَذَنًا إلى الرجلِ الحسنِ الصوتِ بالقرآنِ من صاحبِ القَيْنَةِ إلى قَيْنَتِه” (4). وقال: “ليس منَّا من لم يَتَغَن بالقرآن” (5).
وتفسيرُه عند الأكثرين كالشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما هو تَحْسِيْن الصوتِ به. وقد فَسَّره ابن عيينة ووكيع وأبو عبيد على الاستغناء به. فإذا حَسَّنَ الرجلُ صوتَه بالقرآن كما كان السلف يفعلونه -مثل أبي موسى الأشعري وغيره- فهذا حسن.
وأما ما أُحدِثَ بعدَهم من تكفُفِ القراءةِ على ألحانِ. الغناءِ فهذا
__________
(1) أخرجه البخاري (5048) ومسلم (793) عن أبي موسى الأشعري.
(2) أخرجه أبو يعلى كما في “مجمع الزوائد” (7/ 170)، قال الهيثمي: فيه خالد ابن نافع الأشعري، وهو ضعيف. وانظر “فتح الباري” (9/ 93).
(3) أخرجه أحمد (4/ 283، 285، 296، 304) وأبو داود (1468) والنسائي (2/ 179، 180) وابن ماجه (1342) من حديث البراء بن عازب. وصححه ابن حبان والحاكم.
(4) أخرجه أحمد (6/ 19 و 20) وابن ماجه (1340) من حديث فضالة بن عبيد.
(5) أخرجه البخاري (7527) عن أبي هريرة.
(3/304)
يُنْهَى عنه عند جمهور العلماء، لأنه بدعة، ولأن ذلك فيه تشبيه القرآن بالغناء، ولأن ذلك يُورِثُ أن يَبقَى قلبُ القارئ مصروفًا إلى وزنِ اللفظ بميزان الغناءِ، لا يَتدبَّرهُ ولا يَعقِله، وأن يَبقَى المستمعون يُصغُون إليه لأجل الصوتِ الملحّن كما يُصْغَى إلى الغناء، لا لأجلِ استماعِ القرآن وفهمِه وتدبُّرِه والانتفاع به. والله سبحانه أعلم.
(3/305)
رسالة في قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إذا دَخَل أحدكم على أخيه المسلم فأطعَمه طعامًا فليأكل من طعامه ولا يسأل عنه”
(3/307)
الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين، وسلَّم تسليما.
روى الإمام أحمد في “مسنده” (1): حدثنا حسين بن محمد، ثنا مسلم -يعني ابن خالد- عن زيد بن أسلم عن سُمَيّ عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمَه طعامًا، فليأكُلْ من طعامه ولا يسأله عنه، وإن سقاه شرابًا من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه”.
هذا حديث رواه مشهورون، ومسلم بن خالد الزنجي وثَّقه بعض الأئمة وضعَّفه بعضهم. وقد رُوِي هذا الحديث من وجهٍ آخر عن أبي هريرة، رواه ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة (2)، وقد رُوِي موقوفًا. وقد رأيت للشيخ أبي عمر بن عبد البر رسالةً (3) أملاها حين بلغَه -وهو بشاطبةَ- أن قومًا عابوه بأكلِ طعام السلاطين وقبول جوائزهم:
قُلْ لمن يُنكِر أَكْلِي … لطعامِ الأُمَراءِ
أنتَ من جهلِك هذا … في مَحلِّ السفهاءِ
لأن الاقتداء بالصالحين من الصحابة والتابعين وأئمة الدين من المسلمين والسلفِ الماضين هو ملاك الدين، فقد كان زيد بن ثابت
__________
(1) 2/ 1369. وأخرجه أيضًا أبو يعلى في “مسنده” (6358) والحاكم في “المستدرك” (4/ 126).
(2) أخرجه الحاكم في “المستدرك” (4/ 126) من هذا الطريق.
(3) هي في “نفح الطيب” (3/ 235 – 237).
(3/309)
-وكان من الراسخين في العلم- يَقْبَل جوائزَ معاويةَ وابنِه يزيد، وكان ابن عمر مع ورعه وفضله يَقبل هدايا صِهْرِه المختار بن أبي عبيد، ويأكل طعامه ويأخذ جوائزه، وكان المختار غيرَ مختار.
وقال عبد الله بن مسعود -وكان قد مُلِئَ علمًا من قَرنِه إلى مشاعبه- لرجلٍ سأله فقال: إن لي جارًا يعمل الربا، ولا يجتنب في مكسبهَ الحرامَ، يدعوني إلى طعامِه إذا جئتُ، فقال: لك المَهْنَأ وعليه المأثمُ ما لم تعلم الشيء بعينه حرامًا.
وسئل عثمان بن عفان عن جوائز السلطان فقال: لَحمُ ظَبْيٍ ذكيٍّ.
وكان الشعبي -وهو من كبار التابعين وعلمائهم- يُؤدِّب بني عبد الملك بن مروان، ويَقبل جوائزَه، ويأكل طعامَه.
وكان إبراهيم النخعي وسائر علماء الكوفة والحسن البصري -مع زهده وورعه- وسائر علماء البصرة وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبان ابن عثمان والفقهاء السبعة -حاشا سعيد بن المسيّب- يقبلون جوائز السلاطين والأمراء. وقَبِل الحسنُ والشعبي جائزة ابن هبيرة لما سألهما عن حاله مع عبد الملك. وكان سفيان الثوري مع فضله وورعه يقول: جوائزُ السلطان أحبُّ إليَّ من صِلاتِ الإخوان، لأن الإخوان يَمُنُّون والسلطان لا يَمُنُّ.
ومثل هذا عن العلماء والفضلاء كثير، وقد جمع الناس فيه أبوابًا، ولأحمد بن خالد فقيهِ الأندلس وعالِمها في ذلك كتاب حَمَلَه على جَمْعِه ووَضْعه طَعْنُ أهلُ بلادِه عليه في قبوله جوائزَ عبد الرحمن الناصر إذْ نقلَه إلى المدينة بقرطبة، وأسكَنَه دارًا من دُورِ الجامع قُرْبَه، وأَجرى عليه الرزقَ من الطعام والشراب والإدام والناضّ. وله ولمثله في بيت
(3/310)
المال حظٌّ، والمسئولُ عن التخليط فيه هو السلطان، كما قال عبد الله ابن مسعود: لكَ المَهْنَاُ وعليه المأثمُ لما لم تعلم الشيءَ بعيِنه حرامًا.
ومعنى قولِ ابن مسعود هذا قد اجتمع عليه العلماءُ ما لم تعلم الشيءَ بعينه حرامًا مأخوذًا من غير حبِّه، كالخبزة وشِبْهها من الطعام والثوب والدائة، وما كان مثل ذلك كله من الأشياء المبيعة غصبًا أو سرقةً، أو مأخوذة بظلمٍ بَينٍ لا شبهةَ فيه، فهذا الذي لم يَختلِف أحدٌ في تحريمه وسقوطِ عدالة مستحل الحلّة وأخذه وتملكه، وما أعلمُ أحدًا من علماء التابعين تورَّع عن جوائز السلطان إلا سعيد بن المسيب بالمدينة ومحمد بن سيرين بالبصرة، وهما قد ذهبا مثلا بالورع، وسلك سبيلَهما في ذلك أحمد بن حنبل وأهلُ الزهد والورع والتقشف رحمة اللهِ عليهم أجمعين.
والزهد في الدنيا من أفضل الفضائل، ولا يَحِل لمن وفَقه الله تعالى وزَهِد فيها أن يُحرم ما أباحَ اللهُ منها. والعجب من أهل زماننا يعيبون الشهواتِ وهم يستحلُّون المحرماتِ والمنكرات، ومثالُهم عندي كالذين سألوا عبدَ الله بن عمر عن المُحرِم يَقتُل القُرادَ والقملة، فقال للسائلين: مِن أين أنتم؟ فقالوا: من أهل الكوفة، فقال: تسألونّي عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي؟!
وروى عبد الله بن عمر عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “ما أتاك من غيرِ مسألة فخُذْه، وتَموَّلْه” (1).
وروى أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – معناهُ (2)،
__________
(1) أخرجه البخاري (1473، 7163، 7164) ومسلم (1045).
(2) لم أجد حديثهما، وفي الباب عن غيرهما من الصحابة، انظر “مجمع الزوائد” (3/ 100 – 101).
(3/311)
وفي حديث أحدهما: “إنما هو رزقٌ رَزَقَه الله”، وفي لفظ بعض الرواة: “فلا تَرُدَّ على اللهِ رِزقَه”.
وهذا كله عند أهل العلم مركَبٌ مبنيٌّ على ما أجمعوا عليه، وهو الحق فيمن عرفَ الشيءَ المحرَّم بعينه أنه لا يَحِلُّ له (1). والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلّم تسليما.
__________
(1) انظر في هذا الموضوع: “فتح الباري” (3/ 338، 13/ 153 – 154).
(3/312)
جواب سؤال سائلٍ سألَ عن حرف “لو”
(3/313)
الحمد لله الذي علَّم القرآن، خلق الإنسان، علَّمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الباهرُ البرهان، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوِله المبعوثُ إلى الإنس والجانّ، صلى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا يَرضى به الرحمن.
سألتَ -وفَقك الله- عن معنى حرف “لو”، وكيف يتخرج قول عمر رضي الله عنه: “نعم العبدُ صهيبٌ، لو لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِه” (1) على معناها المعروف؟ وذكرتَ أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضبت الجواب اقتضابًا أوجبَ أن أكتب في ذلك ما حضرني الساعةَ، مع بُعدِ عهدي بما بلغني مما قاله الناس في ذلك، وإني ليس يَحضُرني الساعةَ ما أراجعه في ذلك. فأقول، والله الهادي النصير:
الجواب مرتبٌ على مقدمات:
إحداها: أن حرف “لو” المسئول عنها من أدوات الشرط، وأن الشرط يقتضي جملتين إحداهما شرط والأخرى جزاء وجواب، وربما سُمِّيَ المجموع شرطًا، وسُمّيَ أيضا جزاء. ويقال لهذه الأدوات أدوات الشرط وأدوات الجزاء، والعلم بهذا كلّه ضروريٌّ لمن كان له عقلٌ وعلم بلغة العرب، والاستعمال على ذلك أكثر من أن يُحصَر،
__________
(1) لم يثبت هذا عن عمر وإن اشتهر على لسان الأصوليين وأصحاب المعاني وأهل العربية. ورُوِي معناه من حديث عمر مرفوعًا في حق سالم مولى أبي حذيفة، ونصه كما في “الحلية” (1/ 177): “إن سالمًا شديد الحبّ لله عز وجل، لو كان لا يخاف الله ما عصاه”. وسنده ضعيف، انظر “المقاصد الحسنة”: 449، و”الدرر المنتثرة”: 196.
(3/315)
كقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ) (1)، (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)) (2)، (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) (3)، (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (4)، (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) (5)، (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) (6).
الثانية: أن هذا الذي تسميه النحاة شرطًا هو في المعنى سببٌ لوجود الجزاء، وهو الذي تُسمِّيه الفقهاءُ علّةً ومقتضيًا ومُوجِبًا ونحو ذلك، فالشرط اللفظي سبب معنوي. فتَفطَّنْ لهذا، فإنه موضع غَلِطَ فيه كثير ممن يتكلم في الأصول والفقه، وذلك أن الشرط في عُرف الفقهاء ومن يجري مجراهم من أهل الكلام والأصول وغيرهم هو ما يتوقف تأثير السبب عليه بعد وجود المسبب، وعلامتُه أنه يلزم من عَدَمِه عدمُ المشروط، ولا يلزم من وجودِه وجودُ المشروط.
ثمّ هو منقسم إلى ما عُرِف كونُه شرطًا بالشرع، كقولهم: الطهارة والاستقبال واللباس شرط لصحة الصلاة، والعقل والبلوغ شرطٌ لوجوب الصلاة، فإن وجوب الصلاة على العبد يتوقَّف على العقل والبلوغ، كما تتوقف صحة الصلاة على الطهارة والستارة واستقبال
__________
(1) سورة النساء: 46.
(2) سورة النساء: 64.
(3) سورة الأنفال: 27.
(4) سورة الأنعام: 28.
(5) سورة التوبة: 47.
(6) سورة المائدة: 81.
(3/316)
القبلة، وإن كانت الطهارة والستارة أمورًا خارجةً عن حقيقة الصلاة. ولهذا يفرقون بين الشرط والركن بأن الركن جزءٌ من حقيقة العبادة أو العقد، كالركوع والسجود، وكالإيجاب والقبول؛ وبأن الشرط خارجٌ عنه، فإن الطهارة يلزم من عَدَمِها عدمُ صحةِ الصلاة، ولا يلزم من وجودِها وجودُ الصلاة.
وتختلف الشروط في الأحكام باختلافها، كما يقولون في باب الجمعة، منها ما هو شرطٌ للوجوب بنفسه، ومنها ما هو شرطٌ للوجوب بغيره، ومنها ما هو شرط للإجزاء دون الصحة، ومنها ما هو شرط للصحة. وكلام الفقهاء في الشروط كثير جدًّا، لكن الفرق بين السبب والشرط وعدم المانع إنما يتم على قول من يُجوِّز تخصيصَ العلَّةِ منهم، وأما من لا يُسمِّي علةً إلا ما استلزمَ من الحكم ولَزِمَ من وجودِها وجودُه على كل حالٍ، فهؤلاء يجعلون الشرطَ وعدمَ المانع من جملة أجزاء العلة.
وإلى (1) ما يُعرَفُ كونُه شرطًا بالعقل وإن دلَّ عليه دلائل أخرى، كقولهم: الحياة شرط في العلم والإرادة والسمع والبصر والكلام، والعلم شرط في الإرادة، ونحو ذلك، وكذلك جميع صفات الأجسام وطباعها لها شروط تُعرَف بالعقل أو بالتجارب أو بغير ذلك. وقد تُسمَّى هذه شروطًا عقلية، والأول شروطًا شرعية.
وقد يكون من هذه الشروط ما يُعرَف اشتراطُه بالعرف، ومنه ما يُعرَف باللغة، كما يُعرَف أن شرطَ المفعول وجودُ فاعلٍ، وإن لم
__________
(1) هذا القسم الثاني مما مضى في قول المؤلف: “هو منقسم إلى ما عُرِف كونُه شرطًا بالشرع”.
(3/317)
يكن شرطُ الفاعل وجود مفعول، فيلزم من وجود المفعولِ المنصوبِ وجودُ فاعلٍ، ولا ينعكس. بل يلزم من وجودِ اسمٍ منصوب أو مخفوضٍ وجودُ مرفوعٍ، ولا يلزم من وجود المرفوع لا منصوبٌ ولا مخفوضٌ، إذِ الاسمُ المرفوع -مُظْهَرًا أو مُضْمَرًا- لابُدَّ منه في كل كلام عربي، سواءٌ كانت الجملة اسميَّةً أو فعليةً.
فقد تبيَّن أن لفظ الشرط في هذا الاصطلاح يدلُّ عدمُه. على عدمِ المشروط ما لم يَخْلُفْه شرط آخر، ولا يدلُّ ثبوتُه من حيث هو شرط على ثبوت المشروط.
وأما الشرط في الاصطلاح الذي يتكلَّم به في باب أدوات الشرط اللفظية -سواءٌ كان المتكلم [نحويًّا] أو فقيهًا وما يتبعه من متكلم وأصولي ونحو ذلك- فان وجودَ الشرط يقتضي وجودَ المشروط الذي هو الجزاء والجواب، وعدمُ الشرط هل يدلُّ على عدم المشروط؟ مبنيٌّ على أن عدم العلَّة هل يقتضي عدم المعلول؟ فيه خلاف وتفصيل قد أُومِئ إليه.
الخوف (1) لو فُرِضَ عَدَمُه لكان مع هذا العدم لا يَعصي الله، لأن تركَ المعصية له قد يكون لخوف الله، وقد يكون لأمرٍ آخر: إما لنزاهة الطبع أو إجلال الله أو الحياء منه أو لعدم المقتضي إليها، كما كان يقال عن سليمان التيمي: إنه كان لا يُحسِنُ أن يَعصِيَ الله. فقد أخبرنا عنه أن عدمَ خوفِه لو فُرِضَ موجودًا لكان مستلزمًا لعدم معصية الله، لأن هذا العدم يضاف إلى أمورٍ أخرى: إمّا عدمُ مُقتَضٍ أو وجودُ مانع، مع أن هذا الخوف حاصلٌ.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل قبلها سقطًا. وهذا شرحٌ لمعنى الأثر.
(3/318)
وهذا المعنى يفهمه من الكلام كلُّ أحدٍ صحيح الفطرة، لكن لما وقع في بعض القواعد اللفظية والعقلية نوعُ توسُّع -إمّا في التعبير وإمّا في الفهم- اقتضى ذلك خَلَلًا إذا بَنى على تلك القواعد المحتاجة إلى تتميم، فإذا كان للإنسان فهمٌ صحيح رَدَّ الأشياءَ إلى أصولها، وقرَّر النظَر على معقولها، وبَيَّنَ حكمَ تلك القواعد وما وقعَ فيها من تجوُّزٍ أو توسُّع، فإن الإحاطةَ في الحدود والضوابط غير تحرير (1).
ومنشأ الإشكالِ أخذُ كلام بعض النحاة مسلَّمًا أن المنفي بعد “لو” مُثبَتٌ، والمثبتُ بعدها منفيٌّ، أو أن جواب “لو” منتفٍ أبدًا، وجواب “لولا” ثابت أبدًا، وأن “لو” حرف يمتنع به الشيء لامتناع غيره، و”لولا” حرفٌ يدلُّ على امتناع الشيء لوجود غيرِه مطلقًا. فإن هذه العبارات إذا قُرِنَ بها “غالبًا” كان الأمر قريبًا، وأما أن يُدَّعَى أنّ هذا مُقتضَى الحرف دائمًا فليس كذلك، بل الأمر كما ذكرناه من أن “لو” حرف شرط تدلُّ على انتفاء الشرط، فإن كان الشرط ثبوتيًّا فهي “لو” محضة، وإن كان الشرط عدميًّا مثل “لولا” و”لو لم” دَلَّتْ على انتفاء هذا العدم بثبوتِ نقيضِه، فيقتضي أن هذا الشرط العدمي مستلزم لجزائه، إنْ وجودًا وإنْ عدمًا، وأن العدمَ منتفٍ. وإذا كان عدمُ شيء سببًا في أمرٍ فقد يكون وجودُه سببًا في عدمه، وقد يكون وجودُه أيضًا سببًا في وجوده، بأن يكون الشيء لازمًا لوجود الملزوم ولعدمه، والحكم ثابت مع العلَّة المعينة، ومع انتفائها لوجود علة أخرى.
وإذا عرفتَ أنَّ مفهومها اللازم لها إنما هو انتفاء الشرط، وأنَ
__________
(1) كذا في الأصل.
(3/319)
فهمَ نَفْي الجزاء منها ليس أمرًا لازمًا، وإنما يُفهَم باللزوم العقلي أو العادة الغالبة، وعَطَفْتَ على ما ذكرتُه من المقدمات زالَ الإشكالُ بالكلية.
وكان يمكننا أن نقول: إن حرف “لو” دالة على انتفاء الجزاء، وقد تدلُّ أحيانا على ثبوته: إمّا بالمجاز المقرون بقرينةٍ أو بالاشتراك، لكن جَعْل اللفظ حقيقةً في القدر المشترك أقربُ إلى القياس. مع أن هذا إن قاله قائل كان سائغًا في الجملة، فإنّ الناس ما زالوا يختلفون في كثيرٍ من معاني الحروف: هل هي مَقولةٌ بالاشتراك أو بالتواطؤ أو بالحقيقة والمجاز، وإنما الذي يجب أن نعتقد بطلانَه ظَنُّ ظانٍّ ظَنَّ أنْ لا معنى لـ “لو” إلا عدمُ الجزاء والشرط، فإن هذا ليس بمستقيم البتَّةَ. والله سبحانه أعلم.
(3/320)
فصل في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع
(3/321)
هذا فصل فيما ذكره الحافظ تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية في الكلام على الإجماعات، ومن جملتها الكلام على ما ذكره الشيخ الإمام أبو محمد بن حزم.
قال أبو محمد بن حزم في كتابه المصنَّف في مسائل الإجماع: أما بعد، فإن الإجماع قاعدة من قواعد الملة الحنيفية، يُرجَع إليه ويُفزَع نحوه ويُكفَّر من خالفَه إذا قامت عليه الحجة بأنه إجماع. وإنّا أمَّلنا بعون الله أن نجمع المسائل التي صحَّ فيها الإجماع، ونفردها من سائر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين العلماء.
إلى أن قال: وقد أدخَلَ قومٌ في الإجماع ما ليس فيه، فقومٌ عدُّوا قولَ الأكثر إجماعًا، وقومٌ عدُّوا مالا يعرفون فيه خلافًا، وإن لم يقطعوا على أنه لا خلاف فيه، فحكموا على أنه إجماع، وقومٌ عدُّوا قولَ الصاحب المشهور المنتشر إذا لم يعلموا له من الصحابة مخالفًا إجماعًا، وقومٌ عدُّوا اتفاقَ العصر الثاني على أحد القولين أو أكثر كانت للعصر الأول قبله إجماعًا.
قال: وكلُّ هذه الآراء فاسدة. ويكفي من فسادِها أنهم يتركون في كثيرٍ من مسائلهم ما ذكروا أنه إجماعٌ. وإنما نَحَوْا في تسمية ما وصفنا إجماعًا عنادًا منهم وشغبًا عند اضطرار الحجة والبراهين لهم إلى تركِ اختياراتهم الفاسدة.
قال: وأيضًا فإنهم لا يُكفِّرون من خالفَهم في هذه المعاني، ومن شرطِ الإجماع الصحيح أن يُكفَّر من خالفَه بلا اختلافٍ من أحدٍ من المسلمين في ذلك، فلو كان ما ذكروه إجماعًا لكُفِّر مخالفوهم، بل
(3/323)
لكَفَّروهم لأنهم يخالفونها كثيرًا.
قلت: أهلُ العلم والدين لا يُعاندون، ولكن قد يعتقد أحدهم إجماعًا ما ليس بإجماعٍ، لكون الخلاف لم يبلغه، وقد يكون هناك إجماع لم يعلمه. فهم في الاستدلال بذلك كما هم في الاستدلال بالنصوص، تارةً يكون هناك نصٌّ لم يَبلُغْ أحدَهم، وتارةً يعتقد أحدهم وجودَ نصٍّ ويكون ضعيفًا أو منسوخًا.
وأيضًا فما وصفهم هو به قد اتصفَ هو به، فإنه يترك في بعض مسائله ما قد ذكر في هذا الكتاب أنه إجماع.
وكذلك ما ألزمَهم إيَّاه من تكفير المخالف غيرُ لازمٍ، فإن كثيرًا من العلماء لا يُكفِّرون مخالفَ الإجماع، وقوله “إن مخالفَ الإجماع يُكفَّر بلا اختلاف من أحدٍ من المسلمين” هو من هذا الباب. فلعلَّه لم يبلغه الخلافُ في ذلك، مع أن الخلاف في ذلك مشهور مذكور في كتب متعددة. والنظَّام نفسُه المخالف في كون الإجماع حجةً لا يُكفِّره ابن حزم والناس أيضًا. فمن كفَّر مخالفَ الإجماع إنما يكفِّره إذا بلغَه الإجماع المعلوم، وكثير من الإجماعات لم تبلغ كثيرًا من الناس. وكثير من موارد النزاع بين المتأخرين يدعي أحدهما الإجماع في ذلك، إمّا أنّه ظنّي ليس بقطعي، وإما أنه لم يبلغ الآخر، وإما لاعتقادِه انتفاءَ شروطِ الإجماع.
وأيضًا فقد تنازع الناس في كثير من الأنواع هل هي إجماع يُحتَجّ به؟ كالإجماع الإقراري، وإجماع الخلفاء الأربعة، وإجماع العصر الثاني على أحد القولين للعصر الأول، والإجماع الذي خالفَ فيه بعضُ أهلِه قبلَ انقراضِ عصرِهم، فإنه مبني على انقراض العصر، بل
(3/324)
هو شرطٌ في الإجماع، وغير ذلك. فتنازعُهم في بعض الأنواع هل هو من الإجماع الذي يجب اتباعُهم فيه، كتنازعهم في بعض أنواع الخطاب هل هو مما يُحتَجُّ به، كالعموم المخصوص ودليل الخطاب والقياس وغير ذلك. فهذا ونحوه مما يتبيَّن به بعضُ أعذارِ العلماء.
قال أبو محمد ابن حزم: وقومٌ قالوا: الإجماع هو إجماع الصحابة فقط، وقال قومٌ: إجماع كل عصرٍ إجماعٌ صحيح إذا لم يتقدم قبلَه في تلك المسألة خلافٌ. وهذا هو الصحيح لإجماع العلماء عند التفصيل عليه، واحتجاجهم به، وتركِ ما أصَّلُوه له.
إلى أن قال: وصفة الإجماع ما تيقَّنَ أنه لا خلافَ فيه بين أحدٍ من علماء الإسلام، ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك، مثل أن المسلمين خرجوا من الحجاز إلى اليمن، ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام، وأن بني أمية ملكوا دهرًا، ثم ملكَ بنو العباس، وأنه كانت وقعة صفِّين والحرَّة، وسائر ذلك مما يُعلَم بيقينٍ وضرورة.
وقال: إنما نُدخِل في هذا الكتاب الإجماعَ التامَّ الذي لا مخالفَ فيه البتَّةَ، الذي يُعلَم كما يُعلَم أن صلاة الصبح في الأمن والخوف ركعتان، وأنَّ شهر رمضان هو الذي بين شوال وشعبان، وأنَّ هذا الذي في المصاحف هو الذي أتى به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبر أنه وحيٌ من الله إليه، وأن في خمسٍ من الإبل شاة، ونحو ذلك. وهي ضرورة تقع في نفس الباحث عن الخبر المشرف على وجوهِ نقله، إذا تتبعها المرء في نفسه في كلّ ما جرَّبه من أحوال دنياه وجدَه ثابتًا مستقرًّا في نفسه.
(3/325)
وقال أيضًا في آخر كتابه -كتاب الإجماع هذا-: كلُّ ما كتبنا فهو يقين لاشكَّ فيه، متيقّنٌ لا يحل لأحدِ خلافُه البتَّةَ.
قلت: فقد اشترطَ في الإجماع ما يشترطُه كثير من أهل الكلام والفقه كما تقدم، وهو العلم بنفي الخلاف، وأن يكون العلم بالإجماع متواترًا. وجَعَلَ العلم بالإجماع من العلوم الضرورية كالعلم بعلوم الأخبار المتواترة عند الأكثرين. ومعلومٌ أنَّ كثيرًا من الإجماعات التي حكاها ليست قريبًا من هذا الوصف، فضلًا عن أن تكون منه، فكيف وفيها ما فيه خلافٌ معروف، وفيها ما هو نفسُه يُنكِر الإجماع فيه ويختار خلافَه من غير ظهورِ مخالف!
وقد قال: إنما نعني بقولنا “العلماء” من حُفِظ عنه الفُتيا.
وقال: وأجمعوا أنه لا يجوز التوضُّؤ بشيء من المائعات وغيرِها حاشا الماء والنبيذ.
قلت: وقد ذكر العلماء عن ابن أبي ليلى -وهو من أجل من يحكي ابن حزم قوله- أنه يُجزئ الوضوء بالمعتصَر كماء الورد ونحوه، كما ذكروا ذلك عن الأصمّ، لكنّ الأصمّ ليس ممن يعدُّه ابن حزم في الإجماع.
وقال: وأما الماء الجاري فاتفقوا على جواز استعماله ما لم تَظهر فيه نجاسة.
قلت: الشافعي في الجديد من قولَيْه وأحد القولين في مذهب أحمد أن الجاري كالراكد في اعتبار القُلَّتين، فينجس ما دون القلتين بوقوع النجاسة فيه وإن لم تظهر فيه.
(3/326)
وقال: واتفقوا على أنّ غَسْلَ الذراعين إلى منتهى المرفقين فرضٌ في الوضوء.
قلت: وزفر يخالف في وجوب غَسْلِ المرفقين. وحُكِي ذلك عن داود وبعض المالكية، اللهمّ إلا أن يعني بمنتهى المرفقين منتهاهما من جهة الكفّ.
قال: واتفقوا على أن الاستنجاء بالحجارة وبكل طاهر ما لم يكن طعامًا أو رجيعًا أو نجسًا أو جلدًا أو عظمًا أو فحمًا أو حممةً جائز.
قلت: في جواز الاستجمار بغير الأحجار قولان معروفان هما روايتان عن أحمد، إحداهما لا يُجزِئ إلا بالحجر، وهي اختيار أبي بكر بن المنذر وأبي بكر عبد العزيز.
قال: واتفقوا على أن كل إناءٍ لم يكن فضةً ولا ذهبًا ولا صُفْرًا ولا رصاصًا ولا نُحاسًا ولا مغصوبًا ولا إناءَ كتابي ولا جلد ميتة ولا جلد مالا يُؤكل لحمُه وإن ذُكِّي، فإن الوضوء منه والأكل والشرب جائز كل ذلك.
قلت: الآنية الثمينة التي تكون أغلى من الذهب والفضة كالياقوت ونحوه، فيها قولان للشافعي، وفي مذهب مالك قولان.
قال: وأجمعوا أن الحائض وإن رأتِ الطهرَ ما لم تَغسِل فرجَها أو تتوضأ فوطؤُها حرام.
قلت: أبو حنيفة يقول: إذا انقطع دمُها لأكثر الحيض أو مرَّ عليها وقتُ صلاةٍ جاز وطؤُها، وإن لم تغتسل ولم تتوضأ ولم تَغسِل فرجَها.
قال: واتفقوا أن الصلاة لا تسقط ولا يَحِلُّ تأخيرها عمدًا عن
(3/327)
وقتها عن العاقل البالغ بعذرٍ أصلًا، وأنها تُؤدَّى على قدر طاقة المرء من جلوسٍ واضطجاع، بإيماءٍ وكيفَ أمكنه.
قلت: النزاع معروف في صور، منها حالُ المسايفة، فأبو حنيفة يُوجِب التأخير، وأحمد في إحدى الروايتين يُجوِّزه. ومنها المحبوس في مصر. ومنها عادم الماء والتراب، فمذهب أبي حنيفة وأحد القولين فَّيَ مذهب مالك أنه لا يُصلِّي، رواه معنٌ عن مالك، وهو قول أصبغ، وحُكِيَ ذلك قولًا للشافعي ورواية عن أحمد. وهؤلاء في الإعادة لهم قولان هما روايتان في مذهب مالك وأحمد، والقضاء قول أبي حنيفة.
قال: واتفقوا على أن المرأة لا تَؤُمُّ الرِّجالَ وهم يعلمون أنها امرأة، فإن فعلوا فصلاتُهم فاسدة لا بالإجماع. قال: ورُوِي عن أشهب أن من ائتمَّ بامرأة وهو لا يدري حتى خرج الوقت ثم عَلِم، فصلاتُه تامَّةٌ، وكذا من ائتمَّ بكافرٍ وهو لا يعلم أنه كافر.
قلت: ائتمام الرجال الأميين بالمرأة القارئة في قيام رمضان يجوز في المشهور عن أحمد، وفي سائر التطوع روايتان.
قال: واتفقوا على أن وضع الرأس في الأرض والرجلين في السجود فرضٌ.
قلت: المنقول عن أبي حنيفة أنه لا يجب السجود إلا على الوجه، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد. ويقتضي هذا أنه لو سجد على يديه ووجهِه وركبتيه أجزأه.
قال: واتفقوا على أن الفكرة في أمور الدنيا لا تُفسِد الصلاةَ.
(3/328)
قلت: إذا كانت هي الأغلب ففيها نزاع معروف، والبطلان اختيار أبي عبد الله بن حامد وأبي حامد الغزالي.
قال: واتفقوا على جواز الصلاة في كلّ مكانٍ، ما لم يكن جوف الكعبة أو الحجر أو ظهر الكعبة أو معاطن الإبل، أو مكانًا فيه نجاسة، أو حمامًا أو مقبرة أو إلى قبرٍ أو عليه، أو مكانا مغصوبًا يَقدِر على مفارقته، أو مكانًا يُستهزَأ فيه بالإسلام، أو مسجد الضرار، أو بلاد ثمود لمن لم يدخلها باكيًا.
قلت: الصلاة في المجزرة والمزبلة وقارعةِ الطريق لا تصحُّ في المشهور عند كثير من أصحاب أحمد بل أكثرهم. والصلاة في الحُشّ كذلك عند جمهورِهم، وإن صلَّى في مكانٍ طاهرٍ منه.
قال: واتفقوا أن صلاةَ العيدين وكسوف الشمس وقيام ليالي رمضان ليست فرضًا، وكذلك التهجد على غير النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: العيدان فرضٌ على الكفاية في ظاهرِ مذهب أحمد، وحُكِي عن أبي حنيفة أنهما واجبان على الأعيان. وعن عبيدة السلماني أن قيام الليل واجب كحلب شاة، وهو قول في مذهب أحمد.
قال: واتفقوا أن كلَّ صلاةٍ ما عدا الصلوات الخمس وعلى الجنائز والوتر وما نذره المرء ليست فرضًا.
قلت: في وجوب ركعتي الطواف نزاعٌ معروف، وقد ذكر في وجوب المعادة مع إمام الحيّ وركعتي الفجر والكسوف.
قال: واتفقوا أن من أسقط الجلسةَ الوسطى من صلاةِ الظهر والعصر والمغرب والعتمة ساهيًا، أن عليه سجدتي السهو.
(3/329)
قلت: الشافعي لا يُوجِب سجودَ السهو.
قال: واتفقوا أنّ في كلّ مائتي درهمٍ خمسةَ دراهم، ما لم يكن حُلِيَّ امرأةٍ أو حِليةَ سيفٍ أو منطقة أو مصحفًا أو خاتمًا.
قلت: النزاع في كلّ حلي مباح أو حلي الخوذة والران، وحمائل السيف كالمنطقة في مذهب أحمد وغيرِه. والذهب اليسير المتصل بالثوب كالطراز الذي لا يتجاوز أربعةَ أصابع مباحٌ في إحدى الروايتين عنه، وحلية السلاح كلّه كحلية السيف في إحدى الروايتين عنه.
وللعلماء نزاع في غير ذلك من الحلية.
قال: واتفقوا على أن وقت الوقوف ليس قبل الظهر في التاسع من ذي الحجة.
قلت: أحد القولين -بل أشهرهما- في مذهب أحمد أنه يُجزِئ الوقوف قبل الزوال وإن أفاض قبل الزوال، لكن عليه دمٌ، كما لو أفاض قبل الغروب.
وقال بعد أن ذكر من محظورات الإحرام اللباس والطيب والتغطية: واتفقوا أنه من فَعل من كل ما ذكرنا أنه يجتنبه في إحرامِه شيئًا عامدًا أو ناسيًا أنه لا يَبطُل حجُّه ولا إحرامُه. واتفقوا أن من جادلَ في الحج فإن حجَّه لا يَبطُل ولا إحرامُه. واختلفوا فيمن قَتَلَ صيدًا متعمدًا، فقال مجاهد: بَطَلَ حجُّه وعليه الهدي.
قلت: وقد اختار في كتابه (1) ضدَّ هذا، وأنكرَ على من ادَّعى هذا الإجماعَ الذي حكاه هنا، فقال: الجدالُ بالباطل وفي الباطل عمدًا
__________
(1) المحلى (7/ 186).
(3/330)
ذاكرًا لإحرامه مُبطِلٌ لإحرامِه والحج، بقوله تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (1). وقال: كلُّ نسوقٍ تعمَّده المحرمُ ذاكرًا فقد أبطل إحرامه وحجه وعمرته، لقوله تعالى:: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ). قال: ومن عجائب الدنيا أن الآية وردت كما تلونا، فأبطلوا الحج بالرفث ولم يُبطِلوه بالفسوق. وقال: كلُّ من تعمَّد معصيةً أيَّ معصية كانت، وهو ذاكر لحجه منذ يُحرِم إلى أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة ورمي جمرة العقبة، فقد بَطَل حجُّه. قال: وأعجبُ شيء دعواهم الإجماع على هذا.
قلت: الإجماع فيه أظهر منه في كثير مما ذكره في كتابه.
قال: واتفقوا أن كل صدقة واجبة في الحج أو إطعام، أنه إن أدَّاه بمكة أجزأه، واختلفوا فيمن أدَّى ذلك في غير مكة، حاشا جزاء الصيد، فإنهم اتفقوا أنه لا يُجزئ إلا بمكة.
قلت: مذهب أبي حنيفة ومالك أنه يُجزئ الإطعام في جزاء الصيد في غير مكة. وكذلك عندهما تفرقة اللحم تُجزئ في غير الحرم، وإنما الواجب في الحرم عندهما إراقة الدم، بخلاف الشافعي وأحمد ومن وافقهما، فإنهم أوجبوا ذبحه في الحرم، وأوجبوا تفرقتَه في الحرم. وكذلك الصدقة تقوم مقام ذلك.
قال: واتفقوا أن من يوم النحر -وهو العاشر من ذي الحجة- إلى انسلاخ ذي الحجة وقتٌ لطواف الإفاضة ولما بقي من سنن الحج. قلت: إن أخَّره عن أيام منًى جاز في مذهب الشافعي وأحمد
__________
(1) سورة البقرة: 197.
(3/331)
والليث والأوزاعي وأبي يوسف وغيرهم، وهكذا نُقِل عن مالك.
وقال أبو حنيفة وزفر والثوري في رواية: إن أخَّره إلى ثالث أيام التشريق لزمَه دمٌ -وهو قولٌ مخرَّجٌ في مذهب أحمد- وإن أخَّره إلى المحرم فلا شيء عليه إلا عند مالك، فإنه عليه دمٌ. ولفظ المدونة: إذا جاوز أيام منى وتطاول ذلك لزمَه، ولم يوقت فيه. وأما رمي الجمار فلا يجوز بعد أيام التشريق، لا نزاع نعلمه، بل على من تركَها دمٌ، ولا يُجزِئُ رميُها بعد ذلك.
قال: واتفقوا على أن إيجاب الهدي فرضٌ على المُحْصَر.
قلت: قد نَقل غير واحدٍ عن مالك أنه لا يجب الهدي على المحصر، وهو المشهور من مذهب مالك.
قال: واتفقوا على أن من حلف لخصمِه دون أن يُحلِّفه حاكم أو مَن حكَّماه على أنفسهما، أنه لا يبرأ بتلك اليمين من الطلب.
قلتُ: قد نَصَّ أحمد على أنه إذا رضي بيمين خصمِه فحلف له، لم يكن له مطالبته باليمين بعد ذلك.
قال: وأجمعوا على أن كل من لزمه حق في ماله أو ذمته لأحدٍ، فرض عليه أداء الحق إلى من هو له عليه، إذا أمكنه ذلك وبقي له بعد ذلك ما يعيش به أيامًا هو ومن تلزمه نفقته.
قلت: مذهب أحمد أنه يترك له من مالِه ما تدعو إليه الحاجة من مسكن وخادم وثياب، وكذلك قال إسحاق. وظاهرُ مذهب أحمد أيضًا أنه إذا لم تكن له صنعة يترك له ما يتجر به لقُوتِه وقوتِ عياله، وإن كان ذا حرفةٍ ترك له آلة حرفته. وقد نقل عنه عبد الله ابنه أنه قال: يُباعُ عليه كل شيء إلا المسكن وما يواريه من ثيابه والخادم، إن كان
(3/332)
شيخًا كبيرًا أو زَمِنًا وبه حاجة إليه. فلم يستثن ما يكتسب به لقول الأكثرين.
قال: وأجمعوا أن المملوكة لا يجبر سيدها على إنكاحِها، ولا على أن يطأها وإن طلبت هي ذلك، ولا على بيعها من أجل منعه لها الوطء والإنكاح.
قلت: مذهب أحمد المنصوص المعروف من مذهبه أن الأمة إذا طلبت الإنكاح فإن سيّدها يستمتع بها، وإلاّ لزمه إجابتها، وكذلك إذا كانت ممن لا تَحِلُّ له، وكذلك مذهبه في العبد. ومذهب الشافعي -إذا كانت ممن لا تحلّ له فهل يلزمُه إجابتُها- على وجهين.
قال: واتفقوا أن التعريض للمرأة وهي في العدة حلالٌ، إذا كانت العدة في غير رجعية أو كانت من وفاةٍ.
قلت: في المعتدة البائنة بالثلاث أو بما دون الثلاث كالمختلعة ثلاثةُ أوجه في مذهب أحمد، وقولان للشافعي، أحدها: يجوز التعريض بخطبتها، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي. والثاني: لا يجوز، والثالث: يجوز في المعتدة بالثلاث، لأنها محرَّمة على زوجها، وكذلك كل محرَّمة، ولا يجوز في المعتدة بما دون ذلك، لإمكان عودِها إليه، وهو أحد قولي الشافعي.
قال: واتفقوا أن الطلاق إلى أجل أو بصفةٍ واقعٌ إن وافقَ وقتَ طلاق، ثم اختلفوا في وقت وقوعه، فمن قائلٍ الآن، ومن قائل هو إلى أجله. واتفقوا أنه إذا كان ذلك الأجل في وقت طلاقٍ أن الطلاق قد وقع.
قال: واختلفوا في الطلاق إذا خرجَ مخرجَ اليمين أيلزمُ أم لا؟
(3/333)
قال: واتفقوا على أن ألفاظ الطلاق: “طلاق” وما تصرَّف من هجائه مما يُفهم معناه، والبائن والبتة والخلية والبرية، وأنه إن نوى بشيء من هذه الألفاظ طلقةً واحدةً سنيةً لزمتْه كما قدمنا.
قال: ولا نعلم خلافًا في أن من طلق ولم يُشهِد أن الطلاق لازم، ولكنا لسنا نقطع على أنه إجماع.
قلت: فقد ذكر فيما إذا كان قصده الحلف بالطلاق أيلزم أم لا؟ قولين (1)، وذكر أن المؤجل والمعلَّق بصفةٍ -يعني إذا لم يكن في معنى اليمين- أنه يقع بالاتفاق.
وقد اختار في كتابه الكبير في الفقه “شرح المجلَّى” (2) خلافَ هذا، وأنكر على من ادَّعى الإجماعَ في ذلك. وكذلك اختار (3) أن الطلاق بالكناية لا يقع، ولا يقع إلا بلفظ الطلاق. وهذان قول الرافضة، وكذلك قولهم: إن الطلاق لا يقع إلا بالإشهاد. وقد أنكر في كتابه من ادَّعى إجماعًا في هذا وهذا وهذا، كما هو عادتُه في أمثال ذلك، مع أنه قد ذكر هنا فيه الإجماع الذي اشترط فيه الشروط المتقدمة. ومعلوم أن الإجماع على هذا من أظهر ما يُدَّعَى فيه الإجماع، لكن هو في غير موضع يخالف ما هو إجماع عند عامةِ العلماء، وينكر أنه إجماع، كدعواه وجوبَ الضجعة بعد ركعتي الفجر، وبطلان صلاة من لم يركعهما (4)، ودعواه وجوبَ الدعاء في التشهد
__________
(1) في الأصل: “قولان”.
(2) أي “المحلّى” (10/ 213).
(3) “المحلّى” (10/ 186).
(4) “المحلَّى” (3/ 196).
(3/334)
الأول (1) بقوله “اللهمَّ إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال” (2).
ونحو ذلك مما يُعلم فيه الإجماع أظهر مما يُعلَم في أكثر ما حكاه. بل إذا قال القائل: إن الأمة أجمعت أن الدعاء لا يُشرَع في التشهد الأول، كان هذا من الإجماعات المقبولة، فضلًا عن أن يقول أحدٌ: إن هذا الدعاء واجبٌ فيه، وإن صلاة من لم يَدْعُ فيه باطلة. وإنما النزاع في وجوبه في التشهد الذي يسلم فيه، وكان طاووس يأمر من لم يدعُ بالإعادة، وذكر ذلك وجه في مذهب أحمد.
قال: واتفقوا أن عدة الحرَّة المسلمة المطلقة التي ليست حاملًا ولا مستريبةً، وهي لم تحض أو لا تحيض، إلا أن البلوغ متوهّم منها= ثلاثة أشهر متصلة.
قلت: من بلغتْ من سِن المحيض ولم تَحِضْ، ففيها عن أحمد روايتان، أشهرهما عند أصحابه أنها تعتدُّ عدَّةَ المستريبة تسعة أشهر، ثم ثلاثة أشهر، كالتي ارتفع حيضُها لا تدري ما رفعه.
قال: واتفقوا على أن استقراض ما عدا الحيوان جائز، واختلفوا في جواز استقراض الرقيق والجواري والحيوان.
قلت: الاتفاق إنما هو في قرض المثليات المكيل والموزون، وأما ما سوى ذلك فأبو حنيفة لا يُجوِّز قرضَه، لأن موجب القرض المثل، ولا مثلَ له عنده، فالنزاع فيه كالنزاع في الحيوان.
__________
(1) المصدر نفسه (3/ 271).
(2) متفق عليه من حديث عائشة وأبي هريرة. وأخرجه مسلم (590) أيضًا من حديث ابن عباس.
(3/335)
قال: واتفقوا أن الوصية بالمعاصي لا تجوز، وأن الوصية بالبر وبما ليس ببرّ ولا معصية ولا تضييعًا للمال جائزة.
قلت: الوصية بما ليس ببر ولا معصية، والوقف على ذلك، فيه قولان في مذهب أحمد وغيرِه، والصحيح أن ذلك لا يصحّ، فإن الإنسان لا ينتفع ببذل المال بعد الموت إلا أن يصرفه إلى طاعة الله، وإلاّ فبذلُه بما ليس بطاعة ولا معصية لا ينفعه بعد الموت، بخلاف صرفِه في الحياة في المباحات كالأكل والشرب واللباس، فإنه ينتفع بذلك.
وقال في الجزية: واتفقوا على أنه إن أعطَى -يعني من يُقبل منه الجزية عن نفسه وحدها- أربعة مثاقيل ذهب في كل عام، على أن يلتزموا ما ذكره من شروط الذمة، فقد حرم دمُ من وفَى بذلك ومالُه وأهله وظلُمه.
قلت: للعلماء في الجزية هل هي مقدرة بالشرع أو باجتهاد الإمام أن يزيد على أربعة دنانير؟ [قولان]، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وهي مذهب عطاء والثوري ومحمد بن الحسن وأبي عبيد وغيرهم.
قال: واتفقوا أنه لا ينفَّل من ساق مغنمًا أكثر من ربعه في الدخول، ولا أكثر من ثلثه في الخروج.
قلت: في جواز تنفيل ما زاد على ذلك إذا اشترطه الإمام، مثل أن يقول: من فَعَل كذا فله نصف ما يغنم، قولان هما روايتان عن أحمد. وأما تنفيل الزيادة بلا شرط فلا أعلم فيه نزاعًا، ويمكن أن يُحمل كلام أبي محمد بن حزم على هذا، فلا يكون فيما ذكره نزاع.
قال: واتفقوا أن الحر البالغ العاقل الذي ليس بسكران، إذا أمّن
(3/336)
أهل الكتاب الحربيين على أداء الجزية على الشروط التي قدمنا أو على الجلاء، أو أمّن سائر الكفار على الجلاء بأنفسهم وعيالهم وذراريهم، وترك بلادهم، واللحاق بأرض حرب أخرى، لا بأرض ذمة ولا بأرض إسلام، أن ذلك لازم لأمير المؤمنين ولجميع المسلمين حيث كانوا.
قلت: ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يصحُّ عقدُ الذمَّة إلا من الإمام أو نائبه. وهذا هو المشهور عند أصحاب أحمد، وفيه وجه في المذهبين أنها تصحّ من كلّ مسلم كما ذكره ابن حزم.
قال: واتفقوا أن أولاد أهل الجزية ومن تناسَل منهم، فإن الحكم الذي عقده أجدادُهم -وإن بعدوا- جارٍ على هؤلاء لا يحتاج إلى تجديده مع من حدث منهم.
قلت: هذا هو قول الجمهور، ولأصحاب الشافعي وجهان: أحدهما يُستأنف له العقد، وهذا منصوص الشافعي، والثاني لا يُحتاج إلى استئناف عقد، كقول الجمهور.
قال: واتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقتٍ واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، لا في مكانين ولا في مكانٍ واحد.
قلتُ: النزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة، كأهل الكلام والنظر، فمذهب الكرّامية وغيرِهم جواز ذلك، وأن عليَّا كان إمامًا ومعاوية كان إمامًا. وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلاَّ منهما ينفذ حكمه في أهلِ ولايته كما ينفذ حكم الإمام الواحد. وأما جواز العقد لهما ابتداء فهذا لا يُفعل مع اتفاق الأمة، وأما مع تفرقتها فلم يعقد كلٌّ من الطائفتين لإمامين، ولكن كل طائفة إْمّا أن تُسالِمَ
(3/337)
الأخرى، وإما أن تحاربها، والمسالمةُ خير من محاربةٍ يزيد ضررُها على ضرر المسألة. وهذا مما تختلف فيه الآراء والأهواء.
قال: واتفقوا أنه إذا كان الإمام من ولد علي، وكان عدلًا، ولم يتقدم بيعتَه بيعةٌ أخرى لإنسانٍ حيّ، وقام عليه من دونَه، أن قتال الآخر واجبٌ.
قلت: ليس للأئمة في هذه بعينها كلامٌ يُنقَل عنهم، ولا وقع هذا في الإسلام، إلا أن يكون في قصة عليّ ومعاوية. ومعلومٌ أن أكثر علماء الصحابة لم يَرَوا القتالَ مع واحدٍ منهما، وهو قول جمهور أهل السنة والحديث، وجمهور أهل المدينة والبصرة، وكثير من أهل الشام ومصر والكوفة وغيرهم من السلف والخلف.
وقد قال: إنما أدخلنا هذا الاتفاقَ على جوازِه لخلاف الزيدية، هل تجوز إمامة غير علويّ أم لا؟ وإن كنا مُخَطِّئين لهم في ذلك ومعتقدين صحةَ بطلان هذا القول، وأن الإمامة لا تتعدى فِهْر بن مالك، وأنها جائزة في جميع أفخاذهم، ولكن لم يكن بذٌ في صفة الإجماع الجاري عند الكلّ مما ذكرنا.
قلت: قد ذكر هو أنه لا يذكر إلا خلاف أهل الفقه والحديث دون المعتزلة والخوارج والرافضة ونحوهم. فلا معنى لإدخالِ الزيدية في الخلاف وفتحِ هذا الباب، فقد ذكر في كتابه “الملل والنحل” (1) نزاعًا في ذلك، وأن طائفة ادَّعت النصَّ على العباس، وطائفة ادَّعت النصَّ على عمر.
قال: واتفقوا أن من خالف الإجماع المتيقن بعد علمه بأنه إجماع فإنه كافر.
__________
(1) “الفصل” (4/ 75).
(3/338)
قلت: في ذلك نزاع مشهور بين الفقهاء.
قال: واتفقوا أن السمن إذا وقع فيه فأر أو فأرة، فمات أو ماتت وهو مائع، أنه لا يُؤكَل.
قلت: هذا فيه نزاعٌ معروف، فمذهب طائفة أنه يُلقَى ما قرب منها ويُؤكل، سواء كان جامدًا أو مائعًا. قال البخاري في صحيحه (1): باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب. حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا الزهري أخبرني عبيد الله بن [عبد الله بن] عتبة أنه سمع ابن عباس يحدِّث عن ميمونةَ أن فأرةً وقعتْ في سمنٍ فماتت، فسئل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عنها فقال: “ألقوها وما حولها، وكُلُوه”. قيل لسفيان: فإن معمرًا يحدِّثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: سمعتُ الزهريَّ يقوله عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولقد سمعتُه منه مرارًا.
حدثنا عبدان (2) حدثنا عبد الله -يعني ابن المبارك- عن يونس عن الزهري: عن الدابة تموت في الزيت والسمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها. قال: بلغَنا أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أمر بفأرة ماتت في سمنٍ، فأمر بما قَرُبَ فطُرِحَ، ثم أكل. عن حديث عبيد الله بن عبد الله. ثم رواه من طريق مالك كما رواه من طريق ابن عيينة.
وهذا الحديث رواه عن الزهري كما رواه ابن عيينة بسنده ولفظه.
وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه، فرواه تارةً عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وقال فيه: “إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن
__________
(1) 9/ 667 وما بعدها (مع الفتح).
(2) في الأصل: “عبد الرزاق”، وهو خطأ، والتصويب من صحيح البخاري.
(3/339)
كان مائعًا فلا تقربوه”. وقيل عنه: “وإن كان مائعا فاستصحبوا به”. واضطرب عن معمر فيه.
وظنَّ طائفة من العلماء أن حديث معمر محفوظ، فعملوا به، وممن ثبَّته محمد بن يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزهري.
وأما البخاري والترمذي وغيرهما فعلَّلوا حديثَ معمر وبيَّنوا غلطه، والصواب معهم (1). فذكر البخاري هنا عن ابن عيينة أنه قال: سمعتُه من الزهري مرارًا لا يرويه إلا عن عبيد الله بن عبد الله، وليس في لفظه إلا قوله “ألقوها وما حولها وكلوا”، وكذلك رواه مالك وغيره. وذكر من حديث يونس أن الزهري سئل عن الدابة تموت في السمن الجامد وغير الجامد، فأفتى بأن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح. فهذه فتيا الزهري في الجامد وغير الجامد، فكيف يكون قد روى في هذا الحديث استواء حكم النوعين بالحديث، ورواه بالمعنى فقال: “وأمر أن يطرح وما قرب منها”؟.
وروى صالح بن أحمد في “مسائله” (2) عن أحمد قال: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل حدثنا عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة أن ابن عباس سُئِل عن فارة ماتت في سمن، قال: تُؤخذ الفأرة وما حولَها.
قلت: يا مولاي! فإن أثرها كان في السمن كلِّه، قال: عضضتَ بِهَنِ أبيك! إنما كان أثرها في السمن وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت.
ثم قال: حدثنا أبي حدثنا وكيع حدثنا عن النضر بن عربي عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فسأله عن جَرٍّ فيه زيت وقعَ
__________
(1) انظر الكلام على هذا الحديث في “فتح الباري” (9/ 668 – 669).
(2) لم نجد النصوص المقتبسة منه في مطبوعته، فإنها ناقصة الأول والآخر.
(3/340)
فيه جروٌ، فقال: خذه وما حوله، فألقِه وكُلْه.
ورُوِي نحو ذلك عن ابن مسعود -وهو إحدى الروايتين عن أحمد وإحدى الروايتين عن مالك- أن الكثير من الطعام والشراب المائع لا يُنَجِّسه يسيرُ النَّجاسة، بل هو كالماء.
قال أبو محمد: واختلفوا في بيعه والانتفاع به، واختلفوا في المائعات وفي السمن الجامد وفي كل شيء جامد.
قال: واتفقوا أن من نذر معصية فإنه لا يجوز له الوفاء بها.
واختلفوا أيلزمُه لذلك كفَّارة أم لا؟ واختلفوا في النذر المطلق الذي ليس معلَّقا بصفةٍ، وفي النذر الخارج مخرجَ اليمين، أيلزم أم لا؟ وأفيه كفارةٌ أم لا؟
قال: واتفقوا أن من نذر مالا طاعةَ فيه ولا معصية أنه لا شيء عليه.
قلت: بل النزاع في نذر المباح هل يلزم فيه كفارة إذا تركَه كالنزاع في نذر المعصية وأوكد، وظاهر مذهب أحمد لزوم الكفَّارة في الجميع، وكذلك مذهب أكثر السلف، وهو قول أبي حنيفة وغيره، لكن قيل عنه إذا قصد بالنذر اليمين.
قال: واتفقوا أن إزالة المرء عن نفسِه ظلمًا -بأن يظلم من لم يظلمه قاصدًا إلى ذلك- لا يحل، وذلك مثل أن يحلّ عدوُّ المسلمين بساحة قوم فيقول؟ أعطوني مال فلانٍ، أو أعطوني فلانًا، وهو لا حق له عنده بحًكم دين الإسلام. أو قال: أعطوني امرأة أو أمة فلان، أو افعلوا كذا لبعض ما لا يحلُّ في دين الإسلام، فإنه لا خلاف بين أحدٍ من المسلمين في أنه لا يُجابُ إلى ذلك، وإن كان في منعه اصطلام الجميع.
(3/341)
قلت: دعوى الإجماع في مثل هذا الأمر العام الذي يتناول أنواعًا كثيرة ليس مستنده نقلًا في هذا عن أهل الإجماع، ولكن هو بحسب ما يعتقده الناقل في أن مثل هذا ظلم محرَّم لا يُبيحه عالم. وفي بعض ما يدخل في هذا نزاعٌ وتفصيل. كما لو تَترَّس الكفارُ بأسرَى المسلمين وخِيف على جيش المسلمين إن لم يرموا، فإنه يجوز أن يرموا بقصدِ الكفار، وإن أفضَى إلى قتل هؤلاء المعصومين، لأن فساد ذلك دون فساد استيلاء الكفار على جيش المسلمين. وهذا مذهب الفقهاء المشهورين، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. ولو لو يُخشَ على جيش المسلمين ففي جواز الرمي قولان لهم: أحدهما يجوز، كقول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي؟ والثاني لا يجوز، كالمعروف من مذهب أحمد والشافعي. وكذلك لو أكرهَ رجلٌ رجلًا على إتلاف مال غيره، وإن لم يُتلِفه قَتَلَه، جاز له إتلافه بشرط الضمان. والعدوّ المحاصر إذا طلب مال شخص، وإن لم يدفعوه اصطلمهم العدوّ، فإنهم يدفعون ذلك المال، ويضمنونه لصاحبه. وأمثال ذلك كثيرة.
وقد ذكر -رحمه الله تعالى- إجماعات من هذا الجنس في هذا الكتاب، ولم يكن قصدنا تتبع ما ذكره من الإجماعات التي عُرِف انتقاضُها، فإن هذا يزيد على ما ذكرناه. مع أن أكثر ما ذكره من الإجماع هو كما حكاه لا نعلم فيه نزاعًا، وإنما المقصود أنه مع كثرة اطلاعه على أقوال العلماء وتبزُّزِه في ذلك على غيرِه، واشتراطه ما اشترطه في الإجماع الذي يحكيه، يظهر فيما ذكره في الإجماع نزاعات مشهورة، وقد يكون الراجح في بعضها خلاف ما يذكره في الإجماع. وسبب ذلك دعوى الإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به، ودعوى أن الإجماع الإحاطي هو الحجة لا غيره. فهاتان قضيتان لابدّ
(3/342)
لمن ادعاهما من التناقض إذا احتج بالإجماع، فمن ادعى الإجماع في الأمور الخفية بمعنى أنه يعلم عدمَ المنازع فقد قَفا ما ليس له به علم. وهؤلاء الذين أنكر عليهم الإمام أحمد. وأما من احتج بالإجماع بمعنى عدم العلم بالمنازع فقد اتبع سبيل الأئمة، وهذا هو الإجماع الذي كانوا يحتجون به في مثل هذه المسائل.
وقد ختم الكتاب ببابٍ من الإجماع في الاعتقادات، فكفَّر من خالفه، فقال: اتفقوا أنَّ الله وحده لا شريك له، خالق كل شيء غيره، وأنه تعالى لم يزل وحده، ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كلَّها كما شاء، وأن النفس مخلوقة، والعرش مخلوق، والعالم كله مخلوق.
قلت: أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل شيء فهذا حق، ولكنهم لم يتفقوا على كفر من خالف ذلك، فان القدرية -الذين يقولون: إن أفعال الحيوان لم يخلقها الله- أكثر من أن يمكن ذكرهم من حين ظهرت القدرية في أواخر عصر الصحابة إلى هذا التاريخ، والمعتزلة كلهم قدرية، وكثير من الشيعة بل عامة الشيعة المتأخرين وكثير من المرجئة والخوارج وطوائف من أهل الحديث والفقه نُسِبوا إلى ذلك، منهم طائفة من رجال الصحيحين، ولم يجمعوا على تكفير هؤلاء. بل هو نفسه قد ذكر في أول كتابه أنه لا يكفّر هؤلاء. والمنصوص عن مالك والشافعي وأحمد في القدرية أنهم إذا جحدوا العلم كفروا، وإذا لم يجحدوه لم يكفروا.
وأيضا فقد ذكر في كتابه “الملل والنحل” (1) أن الصحابة وأئمة الفتيا لا يكفرون من أخطأ في مسألة في الاعتقاد ولا فُتيا. وإن كان
__________
(1) “الفصل” (3/ 144).
(3/343)
أراد بقوله أتى المسلمون على هذا فهذا أبلغ. ومعلوم أن مثل هذا النقل للإجماع لم ينقله عن معرفته بأقوال الأئمة، لكن لما علم أن القرآن أخبر بأن الله خالق كل شيء، وأن هذا من أظهر الأمور عند الأمة، حكى الإجماع على هذا، ثم اعتقد أن من خالف الإجماع كفر بإجماع. فصارت حكايته لهذا الإجماع مبنية على هاتين المقدمتين اللتين ثبت النزاعُ في كل منهما.
وأعجب من ذلك حكايته الإجماعَ على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحدَه ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كما شاء. ومعلوم أن هذه العبارة ليست في كتاب الله ولا تنسب إلى رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل الذي في الصحيح (1) عنه حديث عمران بن حصين عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض”، وفي لفظ: “ثم خلق السماوات والأرض”. ورُوِي هذا الحديث في البخاري بثلاثة ألفاظ (2): رُوِي “كان الله ولا شيء قبله”، ورُوِي “ولا شيء غيره”، ورُوِي “ولا شيء معه” (3)، والقصة واحدة، ومعلوم أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إنما قال واحدًا من هذه الألفاظ، والآخران رُوِيا بالمعنى. وحينئذٍ فالذي يناسب لفظ ما ثبت عنه في الحديث الآخر الصحيح (4) أنه كان يقول في دعائه: “أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء”. فقوله
__________
(1) البخاري (3191، 7418).
(2) بل باللفظين الأولين فقط في الموضعين.
(3) هذا اللفظ في رواية غير البخاري. انظر “الفتح” (6/ 289).
(4) مسلم (2713) عن أبي هريرة.
(3/344)
في هذا “أنت الأول فليس قبلك شيء” يناسب قوله “كان الله ولا شيء قبله”. وقد بُسِط الكلام على هذا الحديث وغيره في غير هذا الموضع (1).
والمقصود هنا الكلام على ما يظنه بعض الناس من الإجماعات. فهذا اللفظ ليس في كتاب الله، وهذا الحديث لو كان نصًّا فيما ذكر فليس هو متواترًا، فكم من حديث صحيح ومعناه فيه نزاع كثير، فكيف ومقصود الحديث غير ما ذكر. ولا نعرف هذه العبارة عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فكيف يُدَّعَى فيها الإجماعُ ويُدَّعَى الإجماعُ على كفر من خالف ذلك؟ ولكن الإجماع المعلوم هو ما علمت الأمة أن الله بيَّنه في القرآن، وهو أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبر الله بذلك في القرآن في غير موضع (2). فإذا ادَّعى المدَّعي الإجماعَ على هذا وتكفيرِ من خالف هذا كان قولُه متوجِّهًا. وليس في خبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ما ينفي وجودَ مخلوقٍ قبلهما، ولا ينفي أنه خلقهما من مادةٍ كانت قبلهما، كما أنه أخبر أنه خلق الإنسان وخلق الجنّ، وإنما خلق الإنسان من مادَّة وهي الصلصال كالفخَّار، وخلق الجانّ من مارج من نار، فكيف وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف الذي لا يُعلَم فيه نزاع أن الله لما خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشُه على الماء قبل ذلك، فكان العرشُ موجودًا قبل ذلك، وكان الماء موجودًا قبل ذلك.
__________
(1) للمؤلف كتاب مستقل في شرح هذا الحديث، وهو ضمن “مجموع الفتاوى” (18/ 210 – 243).
(2) في سبعة مواضع أولها في سورة الأعراف: 54.
(3/345)
وقد ثبت في صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن عمرو عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشُه على الماء”.
وقد أخبر سبحانه أنه استوى إلى السماء الدنيا وهي دخان، فقال لها وللأرض: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)) (2).
وثبت عن غير واحدٍ من الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين أنه خلق السماء من بخار الماء. ونحو ذلك من النقول التي يصدِّقها ما يُخبِر به أهلُ الكتاب عن التوراة وما عندهم من العلم الموروث عن الأنبياء. وشهادة أهل الكتاب الموافقة لما في القرآن أو السنة مقبولة، كما في قوله تعالى: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)) (3). ونظائر ذلك في القرآن.
وهذا الموضع أخطأ فيه طائفتان:
طائفة من أهل الكلام من اليهود والمسلمين وغيرهم ظنُّوا أن إخبار الله بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما يقتضي أنهما لم يُخلَقا من شيء، بل لم يكن قبلهما موجود إلا الله. ومعلوم أن خبر الله مخالف لذلك، والله قد أخبر أنه خلق الإنسان والجانَّ من مادَّةٍ ذكرها. والذين يثبتون الجوهر الفرد من هؤلاء وغيرهم يعتقدون أن خلق الإنسان وغيره مما يخلقه في هذا العالم ليس هو خلقًا لجوهر قائم بنفسه، بل هو إحداثُ أعراض يحول بها الجواهر المنفردة من
__________
(1) برقم (2653).
(2) سورة فصلت: 11.
(3) سورة الرعد: 43.
(3/346)
حال إلى حالٍ. وهذا مخالف للشرع والعقل، كما قد بُسِط في موضعه، فإن هؤلاء يقولون: إنا لم نشهدْ خلقَ عين من الأعيان، بل الرب أبدع الجواهرَ المنفردة، ثم الخلقُ بعد ذلك إنما هو إحداث أعراضٍ قائمة بها.
وطائفة أخرى أبعد عن الشرع والعقل من هؤلاء، يتأولون خلق السماوات والأرض بمعنى التولد والتعليل والإيجاب بالذات، ويقولون: إن الفلك قديم أزلي معلول للرب، وأنه يوجب بذاته لم يزل ولا يزال. وقولهم بالإيجاب هو معنى القول بالتولد، فإنَّ ما حصل عن غيره بغير اختيارٍ منه فقد تولَّد عنه، لاسيَّما إن كان حيًّا. وهؤلاء يقولون بقدم عين الفلك وأنه لم يزل ولا يزال.
فهؤلاء إذا قيل: إن المسلمين أجمعوا على نقيض قولهم أو على كفرِ من قال بقولهم، كان قولًا متوجهًا، فإنه قد عُلِم بالاضطرار من دين الرسول أنه أخبر بخلق السماوات والأرض بعد أن لم تكن مخلوقة، بخلاف من ادَّعى أن الصانعَ لم يزل معطَّلا، والفعل والكلام عليه ممتنعًا بغير سبب حدث أوجب انتقاله من الامتناع إلى الإمكان، وأوجب أن يصير الربّ قادرًا على الفعل أو الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادرًا على ذلك. فهذه الدعوى وأمثالها عند جمهور العقلاء معلومة الفساد بالعقل مع فسادها في الشرع، ومعلومٌ عند من له معرفة بالكتاب والسنة والإجماع أن الشرع لم يرد بها ولا بما يدل عليها قط. ولكن ظنّ من ظن من أهل الكلام أن هذا دين أهل الملل، واستدلُّوا على ذلك بالكلام الذي أنكره السلف والأئمة عليهم من أن مالا يخلو من الحوادث فهو حادث، وكان الذي أنكره السلف والأئمة عليهم الكلام الباطل الذي خالفوا فيه الشرع والعقل.
(3/347)
وقد بُسِط الكلام على هذا في غير هذا الموضع (1)، وذُكِر منشأ غلط الطائفتين حيث لم يُفرِّقوا بين النوع والعين، وذُكِر قول السلف والأئمة: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، وإنه لا نهاية لكلمات الله، وإن وجود مالا نهاية له من كلمات الله في الماضي، كما ثبت في المستقبل وجود مالا نهاية له أيضًا، وإن كل ما سوى الله مخلوقٌ كائنٌ بعدَ أن لم يكن، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ذلك ممتنع عقلًا باطل شرعًا؛ فإن الله أخبر أنه خالق كل شيء. والقول بأن الخالق علَّة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها باطلٌ عقلًا وشرعًا، وموجبةٌ أنه يمتنع ضرورة وجود علة تامة يقارنها حدوث شيء من العالم، فإن الحوادث بعد أن لم تكن يمتنع مقارنةُ معلولها بها، بل قد بُيِّن أن القول بأن الفاعل يكون علة تامة مستلزمة للمفعول باطلٌ، وأن الفعل لا يكون إلا بإحداث شيء. لكن فرق بين حدوث الشيء المعين وبين حدوث الحوادث شيئا بعد شيء.
وقد ثبت بالدلائل اليقينية أن الرب فاعل باختياره وقدرته، وأنه إذا قيل: هو موجب بالذات، فإن أريد بذلك أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما شاءه= فهذا لا ينافي فعلَه بمشيئته وقدرته؛ وإن أريد بذلك ما يقوله دهرية الفلاسفة كابن سينا ونحوه من أن ذاتًا مجرَّدة عن الصفات أوجبت العالم بما فيه من الأمور المختلفة الحادثة= فهذا من أفسد الأقوال عقلًا وسمعًا، فإنّ إثباتَ ذاتٍ مجردةٍ عن الصفات أو إثباتَ وجودٍ مجردٍ عن جميع القيود أو مقيدٍ بالسلوب لا يختص بأمر وجودي مما لا يمكن تحقُّقه في الخارج، وإنما يقدِّره الذهن كما يقدِّر سائرَ
__________
(1) انظر “شرح حديث عمران بن حصين” الذي سبق ذكره، وانظر “منهاج السنة” (1/ 360 وما بعدها) و”درء التعارض” (8/ 287 – 290).
(3/348)
الممتنعات. ودعوى أن الصفة هي الموصوف، وأن إحدى الصفتين هي الأخرى كما يقوله هؤلاء المتفلسفة: إن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد، واللذة واللذيذ والملتذّ شيء واحد، وأن العلم والقدرة والإرادة شيء واحد، والقدرة هي القادر، والعلم هو العالم، ونحو ذلك من أقوالهم التي قد بُسِط الكلام على فسادِها وتناقضها في غير هذا الموضع= هي دعاوٍ باطلة.
والمقصود هنا الإشارة إلى ما قد يتوهمه بعضُ الناس من الإجماع لنوع من الاشتباه، فيظنُّ أمورًا داخلةً في الإجماع ولا تكون كذلك، كما يظنّ أمورًا خارجةً عنه ولا تكون كذلك، كما يصيب بعض الناس فيما يُدخلونه في نصوص الكتاب والسنة وفيما يُخرِجونه، ولهذا يذكر هؤلاء أمورًا مختلفةً فيها، وإذا نُظِر إلى مستندهم في الخلاف وُجد فيه من الخطأ أمور أخرى كذلك، إما نقل ضعيف، وإما لفظٌ مجمل، وإما غير ذلك مما قد يقع الغلط في صحته تارة وفي فهمه تارةً، كما يقع مثل ذلك فيما ينقلونه عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من الغلط، ويكون قد نشأ من الإسناد تارةً ومن فَهْمِ المتن تارةً. والله سبحانه أعلم.
(3/349)
رسالة في بيان الصلاة وما تألَّفتْ منه
(3/351)
فصل
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله:
اعلم أن الصلاة مؤلفة من أقوالٍ وأفعالٍ، فأعظم أقوالها القرآن، وأعظمُ أفعالِها الركوعُ والسجودُ. وأول ما أنزله الله من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (19)) (1)، وختمها بقوله (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (2)، فافتتحها بالأمر بالقراءة، وختمها بالأمر بالسجود، وكل منهما يكون عبادةً مستقلَّةً، فالقراءة في نفسها عبادةٌ مطلقًا إلا في مواضع، والسجود عبادة بسبب السهو والتلاوة وسجود الشكر وعند الآيات على قولٍ. فالتلاوة الخاصة سبب السجود.
وقد ذكر الله الركوعَ والسجودَ في مواضع، فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (3)، فهذا أمرٌ بهما. وقال تعالى: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) (4)، فهذا ثناء عليهم بهما، وإن كان ذكرهما منتظمًا لبقية أفعال الصلاة، كما في القراءة والقيام والتسبيح والسجود المجرد، وهو من باب التعبير بالبعضِ عن الجميع، وهو دليلٌ على وجوبه فيه. وقال تعالى لبني إسرائيل: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) (5)، فأفرد الركوع بالتخصيص بعد الأمر بإقامة الصلاة، ويُشبِهُ -والله أعلمُ- أن يكون فيه معنيان:
__________
(1) سورة العلق: 1.
(2) الآية 19.
(3) سورة الحج: 77.
(4) سورة الفتح: 29.
(5) سورة البقرة: 43.
(3/353)
أحدهما: أنهم لا يركعون في صلاتهم، فأمرهم بالركوع، إذ كانوا لا يفهمون ذلك من نفس الصلاة.
الثاني: أن قوله (مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) أمرٌ بصلاة الجماعة، ودَل بذلك على وجوبها، وأمر بالركوع معهم لأنه بالركوع يكون مدركًا للركعة، فإذا ركعَ معهم فقد فعلَ بقيةَ الأفعال معهم، وما قبلَ الركوع من القيام لا يجب فعلُه معهم، فما بعده لازم. بخلاف مالو قال “قوموا” أو “اسجدوا” لم يدلَّ على ذلك.
وقال لمريم: (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) (1) قد يكون أمرًا لها بصلاةِ الجماعة -وإن كانت امرأةً- لأنها كانت محرَّرةً منذورةً لله عاكفةً في المسجد. وقال تعالى: (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) (2)، قد قيل: إنه السجود. وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48)) (3).
وذكر السجود والقيام في قوله: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (4)، وفي قوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا (64)) (5).
وذكر السجود في قوله: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (6)، وفي قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)) (7)، وقوله: (وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ
__________
(1) سورة آل عمران: 43.
(2) سورة ص: 24.
(3) سورة المرسلات: 48.
(4) سورة الفرقان: 64.
(5) سورة الزمر: 9.
(6) سورة العلق: 19.
(7) سورة القلم: 42 – 43.
(3/354)
سُجَّدًا) (1)، وقوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)) (2)، وقوله: (فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) (3)، وقوله: (فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ) (4).
وآيات سجود التلاوة كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)) (5)، وقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)) (6)، وقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)) (7)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)) (8) الآية، وقوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)) (9)، وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ) (10) الآية، وقوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (11)، وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ
__________
(1) سورة النساء: 154.
(2) سورة الحجر: 98.
(3) سورة ق: 40.
(4) سورة النساء: 102.
(5) سورة الأعراف: 206.
(6) سورة الرعد: 15.
(7) سورة النحل: 49 – 50.
(8) سورة الإسراء: 107.
(9) سورة مريم: 58.
(10) سورة الحج: 18.
(11) سورة الحج: 77.
(3/355)
نُفُورًا (60)) (1)، وقوله: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)) (2)، وقوله: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (3)، وقوله: (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) (4) الآية. وقوله: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)) (5)، وقوله: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)) (6)، وقوله: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (7).
فآية الأعراف والرعد والنحل والحج فيها الخبر عن سجود المخلوقات، لكن في الأعراف سجودُ الملائكة، وفي الرعد سجود المخلوقات طوعًا وكرهًا، وفي النحل المخلوقات والملائكة، وفي الحج سجود المخلوقات الطوعية، ولهذا لم يَعُمَّ بني آدم. وسجود الكائناتِ مطلقًا ليس بمقيَّدٍ بركوع، فشرع السجود عند ذكره، لأن المؤمن داخل في ذلك أو متشبِّه بصاحبه. وقوله (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) (8) الآية وقوله (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ) (9) خبرٌ عن سجودٍ بسبب التلاوة، فأمرٌ بالسجود عند التلاوة. ونظيره (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21)) (10)، وقوله
__________
(1) سورة الفرقان: 60.
(2) سورة النمل: 25.
(3) سورة السجدة: 15.
(4) سورة فصلت: 37.
(5) سورة النجم: 62.
(6) سورة الانشقاق: 21.
(7) سورة العلق: 19.
(8) سورة الإسراء: 107.
(9) سورة مريم: 58.
(10) سورة الانشقاق: 21.
(3/356)
(وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (1)، وقوله (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (2) نهيٌ عن السجود لغير الله مطلقًا وأمرٌ بالسجود له، فشرع السجود المقابل للمنهيّ عنه. وقوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)) (3)، فأخبر عن امتناع الكافر عن السجود مطلقًا، فيشرع السجود المقابل له، وهو مطلق السجود هناك في مقابلة المعبود الباطل، وهنا في مقابلة الكافر الممتنع عن الحق.
وأما قوله (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (4) فلا ريبَ أنّ هذا أمر بسجود الصلاة، فلذلك جرى فيه النزاعُ، فقيل: هو أمر به، كما في قوله (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) (5)، وقيل: هذا لا يمنع أن يكون أمرًا به وبالسجود عنه بسماعه. وقوله (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)) (6) وقوله (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (7)، وذلك سجود الصلاة، فقيل: هو مختصّ به، وقيل: ذلك لا يمنع أن يكون سببًا، كما أن آيات التلاوة والسجود تتضمن السجود في الصلاة عقب سماع القرآن.
فصل
ولما كَثُر ذِكر السجود في القرآن، تارةً أمرًا به، وتارةً ذمًّا لمن
__________
(1) سورة النمل: 24.
(2) سورة فصلت: 37.
(3) سورة الفرقان: 60.
(4) سورة الحج: 77.
(5) سورة آل عمران: 43.
(6) سورة النجم: 62.
(7) سورة العلق: 19.
(3/357)
يتركه، وتارة ثناء على فاعله، وتارة إخبارًا عن سجود عُظماء الخليقة وعمومهم، كان ذلك دليلًا على فضيلة السجود. وهذا ظاهر، فإن السجود فيه غاية الخضوع والتواضع، وهو أفضل أركان الصلاة الفعلية وأكثرها، حتى إن مواضعَ الصلاة سُمِّيتْ به، فقيل “مسجد”، ولم يُقَل “مقام” ولا “مركع”، لوجهين:
أحدهما: أنه أفضل وأشرف وأكثر.
والثاني: أن نصيب الأرض منه أكثر من نصيبها من جميع الأفعال، فإن العبد يسجد على سبعة أعضاء، وإنما يقوم على رِجلين. وأما الركوع فسِيَّانِ نسبةُ الأرض إليه وإلى القيام، فلهذا قيل “مسجد”، وهو موضع السجود دون موضع الركوع. والركوع نصف سجود، والسجود شرِعَ مَثنَى مَثنَى، في كل ركعة سجدتان، ولم يُشرَع من الأركان مثنى إلا هو، حتى سجود الجبران جُعِل أيضًا مثنى، وهو سجدتا السهو. وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُسميهما “المرغمتين”، وقال في الشك: “إن كانت صلاتُه وِترًا شَفَعَتَا له صلاته، وإن كانت تامَّة كانتا ترغيمًا للشيطان” (1). فأقام السجدتين مقام ركعة في تكميل الصلاة، لأن الركن الأعظم من كل ركعة هما السجدتان.
وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعَك الله بها درجةً، وحَطَّ عنك بها خطيئةً” (2). وقال: “أَعنِّي على نفسك بكثرة السجود” (3). وقال: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد” (4).
__________
(1) أخرجه مسلم (571) عن أبي سعيد الخدري.
(2) أخرجه مسلم (488) عن ثوبان.
(3) أخرجه مسلم (489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي.
(4) أخرجه مسلم (482) عن أبي هريرة.
(3/358)
ولمّا كانت الصلاة مثنى مثنى جعل في كل ركعةٍ السجود مثنى مثنى، فكل سجدتين معقودتان بركعةٍ، فتصير وترًا، سجدتان وركوع، والركوع مقدمة أمامهما كتقدمة الوقوف على طواف الزيارة. قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:إ إذا أدركتمونا ونحن سجود فاسجدوا، ولا تَعدُّوها شيئا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك” (1)، كما قال: “الحج عرفة” (2)، فمن أدرك عرفةَ فقد أدرك الحج، ومن فاتَه التعريفُ فإنه يفعل الطواف والسعي ولكن لا يكون مدركًا للحج، لكن يكون متحللًا بعمرةٍ أو عَمِلَ عمرةً.
ولهذا قيل: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) (3)، فالركوع مع السجود تقدمةٌ وتوطئةٌ وبابٌ إليه، وهو مشترك بين القيام والسجود وبرزخٌ بينهما، فالقيام قيام القراءة قبله، وأما القيام بعده فهو -والله أعلم- لأجل السجود بعده، ليكون السجودُ عن قيامٍ، وهو السجود الكامل، فالرفع منه تكميل للركوع، والخفضُ من القيام تكميل للسجود. ولهذا هو ركنٌ تامٌّ كما جاءت به السنة، وليس معادلتُه لبقيَّةِ الأركان -كما كان يفعل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: “لا يقبل الله صلاةَ من لا يُقيمُ صلبَه في الركوع والسجود” (4) – لعدم تكميلها، فإنه أيضًا إذا لم يُقِم صلبه بين السجدتين لا يكون قد أكمل الأولى برفعِها ولا الثانية بخفضِها. فالسجود إذًا شُرع في الانحناء وهو قاعد، أما إذا كان وجهه قريبًا من
__________
(1) أخرجه أبو داود (893) عن أبي هريرة، ورواه أيضًا ابن خزيمة (3/ 57 – 58) والدارقطني (1/ 346 – 347) والبيهقي (2/ 89) وضعفاه.
(2) أخرجه أبو داود (1949) والترمذي (889، 890) والنسائي (5/ 256) وابن ماجه (3015) عن عبد الرحمن بن يعمر الديلى.
(3) سورة البقرة: 43.
(4) أخرجه أحمد (4/ 119، 122) وأبو داود (855) والترمذي (265) والنسائي (2/ 183) وابن ماجه (870) عن أبي مسعود الأنصاري.
(3/359)
الأرض وأَلْصَقَه فليس هذا بسجود.
ومن هنا غَلِطَ من غلط وقال: إن الاعتدالين ليسا بركنينِ طويلينِ، لما ظنّوا أن المقصود مجرَّد الفضل، والصواب ما جاءت به السنّةُ إيجابًا للاعتدال واستحبابًا لإتمامه وتسويته بسائر الأركان، لأن هذا القيام والقعود وإن كانا تابعًا (1) من بعض الوجوه فالقعودُ في آخر الصلاة أيضًا تابعٌ من بعض الوجوه للسجود، وإنما المقصود المحض: القيامُ المشتمل على القراءة المقصودة، والسجودُ الذي هو غاية الخضوع، كما قال: (سَاجِدًا وَقَائِمًا) (2). فإذا كان بعضُ أركان الصلاة الفعلية أفضلَ من بعضٍ وأبلغَ في كونه مقصودًا لم يمنع إيجاب التابع المفضول، كالركعتين الأخْريَين مع الأوليين، وكإيجاب الطمأنينة.
وحرف المسألة أنّ إتمامَ الأركان فرضٌ، ولا يَتمُّ إلا بذلك، وإتمامُ الصلاة من إقامتها، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، فإن قوله في الخوف والسفر (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (3) -فالخوف يُبيح قَصْرَ الأفعال والسفرُ قَصْرَ الأعداد- دليلٌ على وجوب الإتمام في الأمن والطمأنينة في الطمأنينة، لقوله تعالى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (4)، وإتمامُها من إقامتها كما جاءت به السنة، حيث قال للمسيئ في صلاته: “ارجِعْ فصَلِّ، فإنك لم تُصلِّ”، وقال: “فإذا فعلتَ هذا فقد تمت صلاتك” (5)، فجعلَ من لم يُتمها لم يُصلِّ. والله سبحانه أعلم.
__________
(1) كذا في الأصل بالإفراد.
(2) سورة الزمر: 9.
(3) سورة النساء: 101.
(4) سورة النساء: 103.
(5) أخرجه البخاري (757، 793) ومسلم (397) عن أبي هريرة.
(3/360)
فتوى في أمر الكنائس
(3/361)
ورد على شيخنا استفتاءٌ في أمر الكنائس صورتُه:
ما يقول السادة العلماء -وفّقهم الله- في إقليمٍ توافقَ أهلُ الفتوى في هذا الزمان على أن المسلمين فتحوه عنوةً من غير صلحٍ ولا أمان، فهل ملك المسلمون ذلك الإقليم المذكور بذلك؟
وهل يكون الملك شاملًا لما فيه من أموالِ الكفار من الأثاث والمزارع والحيوان والرقيق والأرض والدور والبيَع والكنائس والقلايات والديورة ونحو ذلك، أو يختصّ الملك بما عدا متَعبَّداتِ أهل الشرك؟
فإن ملكَ جميعَ ما فيه فهل يجوز للإمام أن يَعقِدَ لأهل الشرك من النصارى واليهود -بذلك الإقليم أو غيره- الذمةَ على أن يَبقَى ما بالإقليم المذكور من البِيَعِ والكنائس والديورة ونحوها متعبَّدًا لهم، وتكون الجزية المأخوذة منهم في كل سنة في مقابلة ذلك بمفرده أو مع غيره أم لا؟
فإن لم يجز -لأجل ما فيه من تأخير ملك المسلمين عنه- فهلِ يكون حكم الكنائس ونحوها حكم الغنيمة يَتصرَّف فيه الإمام تصرُّفه في الغنائم أم لا؟
وإن جاز للإمام أن يَعقِد الذمَّةَ بشرطِ بقاء الكنائس ونحوها فهل يَملِك من عُقِدتْ له الذمّةُ بهذا العقد رِقابَ البيَع والكنائس والديورة ونحوها، ويزول ملك المسلمين عن ذلك بهذاَ العقد أم لا؟ لأجل أن الجزية لا تكون عن ثمن مبيع.
وإذا لم يملكوا ذلك وبَقُوا على الانتفاع بذلك، وانتقضَ عهدُهم
(3/363)
بسبب يقتضي انتقاضه، إمَّا بموتِ من وقع عقد الذمة معه ولم يُعقِبوا، أو أعقبوا، فإن قلنا: إن أولادهم يُستأنَفُ معهم عَقْدُ الذمةِ -كما نصَّ عليه الشافعي فيما حكاه ابن الصبّاغ، وصححه العراقيون، واختاره ابن أبي عصرون في “المرشد”- فهل لإمام الوقت أن يقول: لا أعقِدُ لكم الذمة إلا بشرطِ أن لا تُدخِلوا الكنائس والبيع والديورة في العقد، فتكون كالأموال التي جُهِلَ مستحقوها وأُيسَ من معرفتها، أم لا يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد الذمة، بلَ يجب عليه إدخالها في عقد الذمة؟ فهل ذلك يختص بالبيع والكنائس والديورة التي تَحقَّق أنها كانت موجودة عند فتح المسلمين، ولا يجب عليه ذلك عند التردّد في أن ذلك كان موجودًا عند الفتح، أو حدثَ بعد الفتح، أو يجب عليه مطلقًا فيما تحقق أنه كان موجودًا قبل الفتح أو شك فيه؟ وإذا لم يجب في حالة الشك فهل يكون ما وقع الشكُّ في أنه كان قبل الفتح، وجُهلَ الحالُ فيمن أحدثه لمن هو؟ لبيت المال أم لا؟
وإذا قلنا: إن من بلغ من أولاد من عُقِدتْ معهم الذمة -وإن سلفوا- ومن غيرهم لا يحتاجون أن تُعقَد لهم الذمةُ، بل يجري عليهم حكمُ من سلفَ إذا تحقَّقَ أنه من أولادهم، يكون حكم كنائسهم وبيعهم حكم أنفسهم، أم يحتاج إلى تجديد عقدٍ وذمَّة؟
وإذا قلنا: إنهم يحتاجون إلى تجديد عقدٍ عند البلوغ، فهل تحتاج [كنائسهم] وبيعهم إليه أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فُتِحتْ على عهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكعامَّة أرض الشام وبعض مدنها، وكسواد العراق إلا
(3/364)
مواضع قليلةً فُتِحتْ صلحًا، وكأرض مصر، فإن هذه الأقاليم فُتِحتْ عنوةً على خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد رُوِي في أرضِ مصر أنها فُتِحتْ صلحًا، ورُوي أنها فُتِحتْ عنوة، وكلا الأمرين صحيح على ما ذكره العلماء المتأمِّلون للروايات الصحيحة في هذا الباب (1)، فإنها فتحت أوّلًا صلحًا، ثمَّ نقضَ أهلُها العهدَ، فبعثَ عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستمدُّه، فأمدَّه بجيشٍ كثير فيهم الزبير بن العوَّام، ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوةً.
ولهذا رُوِي من وجوهٍ كثيرة (2) أن الزبير سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يقسمها بين الجيش كما سأله بلالٌ قَسْم الشام (3)، فشاورَ الصحابةَ في ذلك، فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يحبسها فيئًا للمسلمين ينتفع بفائدتها أولُ المسلمين وآخرهم. ثمَّ وافق عمر على ذلك بعض من كان خالفَه، ومات بعضهم، فاستقر الأمر على ذلك.
فما فتحه المسلمون عنوةً فقد ملّكَهم الله إياه كما ملّكهم ما استولَوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعقار. ويدخلُ في العقار معابد الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعُهم وسائرُ منافع الأرض، كما يدخل في المنقول سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد. وليس لمعابد الكفار خاصَّةٌ تقتضي خروجَها عن ملك المسلمين، فإن ما يُقَال فيها من الأقوال ويُفعَل فيها من العبادات إما أن يكون مبدلًا أو مُحدَثًا لم
__________
(1) انظر “فتوح البلدان” ص 298 وما بعدها، و”الأموال” لأبي عبيد: 186.
(2) فتوح البلدان: 300، 301.
(3) انظر “الخراج” لأبي يوسف: 23 وما بعدها.
(3/365)
يَشرعْه الله قَطُّ، أو يكون الله قد نهى عنه بعدما شرعَه.
[و] قد أوجبَ الله على أهل دينه جهادَ أهل الكفر حتى يكون الدينُ كله لله، وتكونَ كلمةُ الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بَعثَ الله به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ويُعطوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون.
ولهذا لما استولى رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم -كبني قَينقاع والنضير وقُريظة- كانت معابدُهم مما استولى عليه المسلمون، ودخلتْ في قوله (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) (1)، وفي قوله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) (2) و (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (3).
لكن وإن ملكَ المسلمون ذلك فحكم الملك متنوِّع، كما يختلف حكم الملك في المكاتب والمدبَّر وأمّ الولد والعبد، وكما يختلف حكمه في المقاتلين الذين يُؤسَرون، وفي النساء والصبيان الذين يُسْبَون، كذلك يختلف حكمُه في المملوك نفسه والعقار والأرض والمنقول. وقد أجمع المسلمون على أن الغنائم لها أحكام مختصة بها لا تُقاس بسائر الأموال المشتركة.
ولهذا لما فتح النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خيبر أقرَّ أهلها ذمة للمسلمين في مساكنهم، وكانت المزارع ملكًا للمسلمين عاملَهم عليها رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه في
__________
(1) سورة الأحزاب: 27.
(2) سورة الحشر: 6.
(3) سورة الحشر: 7.
(3/366)
خلافته، واسترجع المسلمون ما كانوا أقرُّوهم فيه من المساكن والمعابد.
فصل
وأما أنه هل يجوز للإمام عَقْدُ الذمة مع إبقاء المعابد بأيديهم؟ فهذا فيه خلاف معروف في مذاهب الأئمة الأربعة، منهم من يقول: لا يجوز تركُها لهم، لأنه إخراجُ ملكِ المسلمين عنها وإقرارُ الكفر بلا عهد قديم. ومنهم من يقول بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أهلَ خيبر فيها، وكما أقرَّ الخلفاء الراشدون الكفَّارَ على المساكن والمعابد التي كانت بأيديهم.
فمن قال بالأول قال: حكمُ الكنائس حكمُ غيرِها من العقار، منهم من يُوجب إبقاءَه، كمالك في المشهور عنه وأحمد في رواية؛ ومنهم من يُخَبِّر الإمامَ فيه بين الأمرين بحسب المصلحة، وهذا قول الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعليه دلَّت سنة رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حيث قَسَم نصفَ خيبر وتركَ نصفها لمصالح المسلمين.
ومن قال: “يجوز إقرارها بأيديهم” فقولُه أوجهُ وأظهر، فإنهم لا يملكون بهذا الإقرار رِقابَ المعابد كما يملك الرجل مالَه، كما أنهم لا يملكون ما ترك لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي، كما لم يملك أهل خيبر ما أقرَّهم فيه رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من المساكن والمعابد.
ومجرَّدُ إقرارِهم ينتفعون بها ليس تمليكًا، كما لو أقطع المسلم بعض عقار بيت المال ينتفع بغلَّته، أو سُلِّم إليه مسجدٌ أو رباطٌ ينتفع به لم يكن ذلك تمليكا له، بل ما أُقِرُّوا فيه من كنائس العنوة يجوز للمسلمين انتزاعُها منهم إذا اقتضت المصلحةُ ذلك، كما انتزعها أصحاب النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
(3/367)
من أهل خيبر بأمره بعد إقرارِهم فيها. وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس العنوة التي خارجَ دمشق، فصالحوهم على إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد، وأقرَّ ذلك عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين ومن معه في عصره من أهل العلم، فإن المسلمين لما أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه، وكانت من كنائس الصلح، لم يكن لهم أخذُها قهرًا، فاصطلحوا على المعاوضة بإقرار كنائس العنوة التي أرادوا انتزاعها، وكان ذلك الإقرار عوضًا عن كنيسة الصلح التي لم يكن لهم أخذُها عنوةً.
فصل
ومتى انتقض عهدُهم جاز أخذُ كنائس الصلح منهم فضلًا عن كنائس العنوة، كما أخذ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ما كان لقريظة والنضير لمّا نقضوا العهد، فإن ناقضَ العهد أسوأ حالًا من المحارب الأصلي، كما أن ناقضَ الإيمان بالردَّة أسوأ حالًا من الكافر الأصلي. ولذلك لو انقرض أهلُ مصرٍ من الأمصار، ولم يبقَ من دخلَ في عهدهم، فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئًا.
فإذا عُقِدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ، وكان لم يعقد لهم الذمة أن يُقرَّهم في المعابد، وله أن لا يقرهم بمنزلة ما فتح ابتداء، فإنه لو أراد الإمام عند فتحه هدمَ ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز هدمه، وإنما اختلفوا في جواز بقائه. وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئًا للمسلمين.
أما على قول الجمهور الذين لا يوجبون قَسْمَ العقار فظاهر.
وأما على قول من يوجب قَسمهْ سمه فلأن عين المستحق غير معروف،
(3/368)
كسائر الأموال التي لا يُعرَف لها مالك معين.
وأما تقدير وجوب إبقائها فهذا تقديرٌ لا حقيقةَ له، فإن إيجاب إعطائهم معابد العنوة لا وجهَ له، ولا أعلم به قائلًا، فلا يُفرَّع عليه، وإنما الخلاف في الجواز.
نعم، قد يقال في الأبناء إذا لم نَقُل بدخولهم في عهد آبائهم، لأن لهم شبهة الأمان والعهد، بخلاف الناقضين، فلو وجب لم يجب إلا ما تحقق أنه كان له، فإن صاحب الحق لا يجب أن يُعطى إلا ما عُرِف أنه حقُّه، وما وقع الشك فيه على هذا التقدير فهو لبيتِ المال. وأما الموجودون الآن إذا لم يصدر منهم نقضُ عهدٍ فهم على الذمة، فإن الصبي يتبع أباه في الذمة، وأهل داره من أهل الذمة، كما يتبع في الإسلام أباه وأهل داره من المسلمين، لأن الصبي لما لم يكن مستقلًا بنفسه جُعِل تابعًا لغيرِه في الإيمان والأمان.
وعلى هذا جرت سنة رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وخلفائِه والمسلمين في إقرارهم صبيان أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقدٍ آخر. وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديمًا قبل فتح المسلمين، أما ما أُحدِث بعد ذلك فانه يجب إزالتُه، ولا يُمكِّنون من إحداث البيع والكنائس، كما شَرطَ عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه (1): “إلَّا يُجدِّدوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولَها كنيسة ولا صومعة ولا دَيرًا ولا قلايةً”، امتثالًا لقول رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “لا تكون قبلتان ببلدٍ واحدٍ”. رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد (2)، ولما
__________
(1) ذكرها ابن القيم وشرحها في “أحكام أهل الذمة” (2/ 657 وما بعدها).
(2) أخرجه أحمد (1/ 223، 285) وأبو داود (3032) والترمذي (633، 634) من حديث ابن عباس.
(3/369)
رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “لا كنيسة في الإسلام” (1).
وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى. وما زال من يُوفّقه الله من ولاة أمور المسلمين يُنقذ ذلك ويعمل به، مثل عمر بن عبد العزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى، فروى الإمام أحمد عنه أنه كتب إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، فهدمَها بصنعاء وغيرها.
وروى الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه قال: “من السنة أن تُهدَم الكنائس التي في الأمصار، القديمة والحديثة” (2). وكذلك هارون الرشيد في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد بغداد، وكذلك المتوكل لما ألزمَ أهلَ الكتاب بشروطِ عمر استفتى علماءَ وقتِه في هدم الكنائس والبيع، فأجابوه، فبعثَ بأجوبتهم إلى الإمام أحمد، فأجابه بهدم كنائس سوادِ العراق، وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين، فمما ذكره ما رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (3): أيما مصرٍ مصَّرتْه العرب -يعني المسلمين-، فليس للعجم -يعني أهل الذمة- أن يبنوا فيه كنيسة، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا.
وأيما مصرٍ مصَّرتْه العجم ففتحه الله على العرب، فإن للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم، ولا يكلِّفوهم فوقَ طاقتهم.
__________
(1) أخرجه أبو عبيد في “الأموال”: 123.
(2) انظر “أحكام أهل الذمة”: 676.
(3) أخرجه أبو عبيد في “الأموال”: 126.
(3/370)
مسألة فيمن يسمِّي الخميس عيدًا
(3/371)
مسألة
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- فيمن يُسمِّي الخميسَ المعروفَ بعيد النصارى عيدًا؟ وفيمن يَعتقد أن مريم ابنةَ عمران -عليها السلام- تَجُرُّ ذيلَها ذلك اليوم على الزرع، فيَنْمو ويلحق اللقيس بالبكير، ويُخرِجون في ذلك اليوم ثيابَهم وحُلِيَّ النساء يَرجون البركةَ من ذلك اليوم وكثرةَ الخير، ويُكَحِّلون الصبيانَ، ويَمْغَرون الدوابَّ والشجرَ لأجل البركة، ويَصبغون البَيْضَ ويُقامِرون به ويعتقدون حِلَّه، ويَدُفُّون البخورَ ويتبخَّرون به قصدَ البركةِ.
أفتونا مأجورين.
الجواب
قال الشيخ الإمام العالم العامل مفتي الفِرَق، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني الحنبلي -رحمه الله ورضي عنه-:
الحمد لله وحدَه. كلُّ ما يُفعَل في أعياد الكُفار من الخصائص التي يعظّم بها فليس للمسلم أن يفعل شيئًا منها، قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “من تَشبَّهَ بقومٍ فهو منهم” (1)، وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ليس منَّا من تَشبَّه بغيرنا” (2). وقد شارط عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه أهلَ الكتاب أن لا يُظهِروا
__________
(1) أخرجه أحمد (2/ 50، 92) وأبو داود (4031) من حديث ابن عمر.
(2) أخرجه الترمذي (2695) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: هذا حديث إسناده ضعيف. وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة فلم يرفعه.
(3/373)
شيئًا من شعائرهم بين المسلمين، ولا شيئًا من شعائر الكفار لا الأعياد ولا غيرها، واتفق المسلمون على نهيهم عن ذلك كما شَرَطَه عليهم أمير المؤمنين.
وسواء قَصَد المسلمُ التشبُّهَ بهم أو لم يَقصِد ذلك بحكم العادة التي تعوَّدَها فليس له أن يَفعلَ ما هو من خصائصهم، وكل ما فيه تخصيصُ عيدِهم (1) بلباسِ وطعام ونحو ذلك فهو من خصائص أعيادهم، وليس ذلك من دين المسلَمين.
ومن قال: إن مريم تَجُرُّ ذيلَها على الزرع فينمو، فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلاَّ قُتِل، فإذا هذا اعتقاد الكفّار النصارى، وهو من أفسد الاعتقادات، فإنَّ من هو أفضل من مريم من الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- لا سَعْيَ لهم في إنبات النباتِ وإنزالِ القَطْر من السماوات، فكيف يكون ذلك من مريم عليها السلام؟ وإنما هذا اعتقاد النصارى فيها وفي شيوخهم القِسِّيسين أنهم ينفعونهم أو يَضُرّونهم، وهذا من شركِهم الذي ذمَّهم الله تعالى به، كما قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (2)، وقال تعالى (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) (3). فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا هو كافرٌ، فكيف مَن اتخذ مريمَ أو غيرَها من الشيوخ؟
__________
(1) في الأصل: “عندهم” تصحيف.
(2) سورة التوبة: 31.
(3) سورة آل عمران: 79 – 80.
(3/374)
وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)) (1). قال طائفة من السلف: كان قومٌ يدعون العُزَير والمسيح والملائكة، فقال الله تعالى: هؤلاء الأنبياء والملائكة الذين تدعونهم يرجون رحمتي ويخافون عذابي، كما ترجون رحمتي وتخافون عذابي، ويتقرَّبون إليَّ كما تتقرَّبون إليَّ، وأخبر أنهم لا يملكون كشفَ الضرَّ عنهم ولا تحويلًا.
فإذا كان هذا في الملائكة والنبيين فكيف بمن دونهم؟ كمريم وغيرها من الصالحين الرجال والنساء. فمن دعا غيرَ الله تعالى أو عَبَدَه فهو مشركٌ بالله العظيم، وإن كان ذلك رجلًا صالحًا (2) أو امرأةً صالحة.
وكذلك التزيُّن يومَ عيد النصارى من المنكرات، وصنعة الطعام الزائد عن العادة، وتكحيل الصبيان، وتحمير الدوابِّ. والشجر بالمغرة وغيرها، وعمل الولائم وجمع الناس على الطعام في عيدهم. ومن فعلَ هذه الأمور يتقرب بها إلى الله تعالى راجيًا بركتَها فإنه يُستتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل، فإن هذا من إخوان النصارى. كما لو عَظَّمَ الرجلُ الصليبَ، وصَلَّى إلى المشرق، وتَعَمَّد بالمعمودية، فإنّ من فعلَ هذا فهو كافر مرتدٌّ يجبُ قتلُه شرعًا وإن أظهرَ مع ذلك الإسلامَ.
وكذلك صَبْغ البيض فيه. وأما القمار فيه فإنه حرامٌ في كل وقتٍ، فيه وفي غيره. وكذلك البخور فيه ونحو ذلك.
وبالجملة فليس ليومِ عيدِهم مزيةٌ على غيرِه، ولا يُفعَل فيه شيء
__________
(1) سورة الإسراء: 56 – 57.
(2) في الأصل: “رجل صالح”.
(3/375)
مما يُميِّزونه هم به. ولكن لو صامَه الرجلُ قصدًا لمخالفتهم فقد كرهه كثيرٌ من العلماء، كما رُوِي عن أنس بن مالك والحسن البصري وأحمد بن حنبل وغيرهم رضي الله عنهم، لأنَّ في (1) تخصيصِ أعيادِ الكفار بالصومِ نوعَ تعظيمٍ لها، وإن كانوا هم لا يصومونه، فكيف إذا كان التعظيم من جنس ما يفعلونه؟
إلا ترى أن اليهود كانوا يتخذون يومَ عاشوراءَ عيدًا، فيصومونَه ويُظهِرون السرورَ فيه، وأمر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بصيامِه مرَّةً واحدةً قبلَ أن يُفرَض رمضان، فلما فُرِض رمضانُ سَقَطَ وجوبُه (2) وبَقِيَ صومُه مستحبًّا. ثمَّ إن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لما قيل له: إن اليهود والنصارى يتخذونه عيدًا قال: “لئنْ عِشْتُ إلى قابلٍ لأصومَنَّ التاسعَ” (3). فقال أكثر أهل العلم: مرادُه صوم التاسع والعاشر، لئلا يُخَصَّ يومُ عاشوراء بالصوم، كما نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم (4)، وكان يقول: “صوموا يومًا قبلَه أو يومًا بعدَه” (5). وهو – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَعَلَ هذا في عاشوراءَ بعد أن كان أمرَ بصيامه ليُخالِفَ اليهودَ، ولا يشارِكهم في إفرادِ تعظيمه.
هذا مع أن عاشوراء لم يُشرَع فيه غيرُ الصوم باتفاقِ علماء المسلمين، فكل ما يُفعَل فيه غيرُ ذلك من الاختضاب والكحل والتزين والاغتسال والتوسُّع على العيال غير العادة فيه من حبوب أو غيرها هو من البدع المحدثة في الدين، لم يستحبَّها أحدٌ من العلماء
__________
(1) في الأصل: “من”.
(2) أخرجه البخاري (2001، 2002 ومواضع أخرى) ومسلم (1125) عن عائشة.
(3) أخرجه مسلم (1134) عن ابن عباس.
(4) أخرجه البخاري (1984) ومسلم (1143) عن جابر بن عبد الله.
(5) أخرجه البخاري (1985) ومسلم (1144) عن أبي هريرة.
(3/376)
ولا السلف، بل كلُّ ما رُوِي فيها من الأحاديث المرفوعة فهي أحاديث موضوعة.
فإذا كان رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَرِه نوعًا من التشبُّه بهم في عاشوراء، فكيف بالمياليد والشعانين والخميس وغير ذلك من أعياد الكافرين؟ وقد ذهب طائفة مِن العلماء إلى كفرِ من يفعل خصائصَ عيدِهم، وقال بعضهم: مَنْ ذبَح فيه بطِّيخةً فكأنما ذَبَحَ خِنزيرًا.
فالواجب على ولاةِ الأمور نهيُ الناس عن هذه المنكرات المحرَّمة، وأَمْرُهم بملازمة شعائر الإسلام الذي لا يَقبل الله غيرَه، فـ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ) (1)، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)) (2). آخرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمدِ وآله وصحبه وسلَّم).
__________
(1) سورة آل عمران: 19.
(2) سورة آل عمران: 85.
(3/377)
فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(3/379)
فصل
قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)) (1). قال بعض السلف: هم خير أمة إذا قاموا بهذا الشرط، فمن لم يقم بهذا الشرط فليس من خير أمة.
قال: واتفق أئمة الدين على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمرٌ واجبٌ على الناس، لكنه فرضٌ على الكفاية كالجهاد وتعلُّم العلم ونحو ذلك، فإذا قام به من يُستكفَى به سقطَ عن الناس، وكان الأجر والدرجة لمن قام به. ومن كان عاجزًا عمّا أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأَرَاد أن يقوم به وجبَ على غيره أن يعاونَه، حتى يحصل المقصود الذي أمر الله به ورسولُه، كما قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (2).
فكلُّ رسولٍ أرسلَه الله وكلُّ كتابٍ أنزلَه الله يتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمعروف اسمَ جامع لكل ما يحبُّه الله ويرضاه، والمنكر اسم جامع لكل ما يكرهه ويَسخَطُه. وتَركُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لعقوبة الدنيا قبل الآخرة، فلا يَظُن الظانُ أنها تُصيبُ الظالمَ الفاعلَ للمعصية دونَه مع سكوتِه عن الأمر والنهي، بل تعمُّ الجميعَ.
__________
(1) سورة آل عمران: 110.
(2) سورة المائدة: 2.
(3/381)
وينبغي أن يكون الآمر فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهى عنه، [رفيقًا فيما يأمر به] رفيقًا فيما ينهى عنه، حكيمًا فيما يأمر به، حكيمًا فيما ينهى عنه، رفيقًا [عالمًا] قبل الأمر والنهي، رفيقًا [عالمًا] حين الأمر والنهي، حليمًا صبورًا بعد الأمر والنهي، كما قال تعالى في قصة لقمان: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)) (1)، فإن الآمر إنما هو مجاهد في سبيل الله، إذ (2) ………. أن يفعل ذلك عبادةً لله، وطاعةً لله ورسوله، وطلبًا للنجاة من عقاب الله، ونصحًا لعباد الله، لا يفعله لطلب العلوّ والرئاسة على الناس، ولا لعداوة أو حقد في نفسه على المأمور والمنهي، ولا لغرضٍ ينالُه بذلك، يكون أمره بالمعروف معروفًا غيرَ منكرٍ، ونهيُه أيضًا معروف غيرُ منكرٍ. وإلاّ فمتى أراد أن يُزِيلَ منكرًا بمنكرٍ كان كمن يريد غَسْلَ الخمر بالبول، ومن فعل ذلك فقد يكون خسرانُه أكثر من ربحه، وقد يكون أقلَّ أو أكثر. والله أعلم.
***
__________
(1) سورة لقمان: 17.
(2) ما بعدها لم يظهر في التصوير عن الأصل.
(3/382)
مسألة في تلاوة القرآن والذكر، أيهما أفضل
(3/383)
الحمد لله. سُئِلتُ أيُّ الأمرين أفضلُ: تلاوة القرآن أو الذكر؟
فأجبتُ قائلًا: الظاهر أن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال، فإن كان الشخص ممن أُوتيَ فهمًا في كتاب الله تعالى، إذا تلا متدبِّرًا لآياته ازداد في الحِكَم والأحكام، وتجلَّت له معانٍ وحقائق في أصولِ الدين وفروع الحلال والحرام، كانت التلاوة في حقّه أفضل، كيف وتلاوة القرآن من أفضل الأذكار، والنظر في أحكام الله تعالى من أفضل أعمال الأبرار. وكان عطاءٌ لا رحمه الله تعالى يقول: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تبيع وتشتري وتصلي وتصوم وتحج وتطلق ونحو ذلك.
وإن لم يكن الرجل ممن له أهلية الفهم عن كلام الله تعالى، وكان الذكر أجمع لهمته وأصفى لخاطره، كان اشتغاله بالذكر أفضل والحالة هذه.
وينبغي للسالك وطالب الزيادة من الخير أن لا يترك حطه منهما، فيذكر الله تعالى إلى أن يجد عنده سأَمةً مَّا، فينتقل إلى الذكر بتلاوة القرآن متدبِّرًّا بترتيل وتفكُّرٍ، وتعظيمٍ عند آيات التوحيد والتنزيه، وسؤالِ عند آيات الوعد والرجاء، وتضرُّع واستعاذة عند آيات الخوف والوعيد، واعتبارٍ عند آيات القصص. فإن القرآن الكريم لا يَسأمُ قارئه، لاختلاف المعاني الواردة فيه.
وعند اشتغاله بالذكر ينبغي أن لا يفوته دقيقة نبَّه عليها بعض المحققين، وهي أن يقصد مثلًا عند ذكر “لا إله إلا الله” تلاوةَ قوله تعالى في سورة محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) (1) لتُثْمِرَ له هذه
__________
(1) سورة محمد: 19.
(3/385)
الكلمة المباركة ثمرة الذكر والتلاوة، فيكون جامعًا بين الفضيلتين.
ولكلٍّ من التلاوة والذكر آدابٌ وشروط ذكرها العلماء، فينبغي له أن يتحرى في المحافظة عليها، وإن كان له شيخ يُرَبِّيه ألقَى زِمامَ أمرِه إليه، ليشير بما هو الأولى له عليه. والله أعلم.
***
(3/386)
فتوى في السماع
(3/387)
ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- هل السماع بالقضيب على المخادّ (1) مباح وحلالٌ أو حرام؟ لأنه عُدِل به عن الدفّ والشبابة، وما هو ذلك؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله تعالى.
أجاب سيدنا وشيخنا الشيخ تقي الدين ابن، تيمية- أطال الله في عمره-:
الضرب بالقضيب على المخاد هو التغبير الذي قال فيه الشافعي: خلفتُ ببغداد شيئًا أحدثتْه الزنادقة يُسمونَه التغبيرَ يَصُدُّون به الناس عن القرآن. ويذكر فيه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، ونهوا الناس عن الحضور معهم. وكان الذين يحضرونه أهل زهد وعبادة ودين، يحضرونه لما فيه من التزهيد والترقيق وتحريك القلوب بالحبّ والحزن والخوف ونحو ذلك، فعدَّه الأئمة من البدع المحدثة في الإسلام، لأن الله إنما شرع للمسلمين سماعَ القرآن، فهو سماعُ النبيين والعالِمين والعارفين والمؤمنين، كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه.
ولم يَحضُر هذا التغبيرَ أعيانُ الشيوخ المعروفين، كالفُضيل بن عِياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسرِيّ السقطى، بل ولا الشيخ العارف عبد القادر الكيلاني ولا الشيخ عديّ والشيخ أبي مَدْيَن والشيخ أبي البيان والشيخ حيا، وأمثال هؤلاء من شيوخ المسلمين، والله سبحانه أعلم. وكتبه أحمد ابن تيمية عفا الله عنه.
__________
(1) جمع مخدَّة: حديدة تُشَقّ بها الأرض.
(3/389)
مسألة في رجلٍ شتَم شريفًا
(3/391)
مسألة
في رجلٍ من أهل العلم شَتَمه شريفٌ وقال له: يا جاهل! فقال هو للشريفِ: الجاهلُ جَدُّك، ولم يعلم أنه شريف، فقال له الشريف: كَفَرتَ لأنك شَتمتَ جَدِّي رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الجواب
لا يَحِلُّ تكفيرُ المسلم بمثلِ ذلك، ومَن عُرِفَ إيمانُه لا يَقصِد بمثل هذا اللفظ لرسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن ادَّعى على معروفٍ بالخير والدين أنه قصدَ بذلك رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فإنه يُعزَّر هذا المفتري على أهل الخير والدين، كما لو ادعى على أحدٍ أنه سَرَق مالَه أو قَطَعَ الطريقَ عليه ونحو ذلك من دعاوي التُّهَم التي يعلم براءة المتَّهم فيها، فإنه يُعزَّر في قولَي العلماء من يفتري على أهل الخير بمثل ذلك.
وسواء كان المتكلم بهذا يعلم أن المخاطبَ شريفٌ أو لم يكن يعلم لا يُحمل ذلك على مرادِه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا أن تكون هناك قرينة تدلُّ على ذلك، مثل أن يكون القائل معروفًا بالنفاق والاستهزاء بالرسالة والقرآن ودينِ الإسلام ونحو ذلك، فمتى ظهرتْ هذه الكلمة ممن هو معروف بالنفاق كان ذلك قرينةً تُقَوِّي إرادتَه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيُحبَس حينئذ المتَّهَم، ويُكشَف عن بقية أحوالِه، ويُعاقَب إما بالقتل وإما بدونه، لئلاّ يجترئ أهل النفاق والزندقة على انتهاكِ حرمة الرسالة.
والجدّ المطلق يتناول أبا الأب، وقد يتناول من هو أعلى منه بقرينة، ومن الأشراف العالم والجاهل والبرُّ والفاجر والصادق
(3/393)
والكاذب، ويجب عليهم طاعةُ اللهِ ورسوله كما يجب على سائر الأمة، ويجب أن تُقامَ عليهم الحدود كما تُقامُ على غيرِهم، فإن في الصحيحين (1) أن امرأةً كانت ذاتَ شَرَفٍ سَرَقت على عهد رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بقطع يدِهما، فشقَّ ذلك على أهلها، وقالوا: من يُكلِّم فيها رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامةَ بن زيد، فكلَّمه فيها أسامةُ، فغَضِبَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقال: “يا أسامة! أتَشفَعُ في حدٍّ من حدود الله تعالى؟ إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشريف تركوه، وإذا سَرَق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ. والذي نفسُ محمدٍ بيده لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدها”.
وليس لأحدٍ أن يعتدي على أحدٍ سواء كان شريفًا أو لم يكن، ومتى اعتدى الشريف أو غيره على الناس كان لهم أن يعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليهم، فإن قال لمسلم: يا كلب يا خنزير! كان له أن يقول له: يا كلب يا خنزير!، ولو قال له: لعنَك الله، كان له أن يقول له: لعنك الله، وإن ضربَه بغير حق ضَرَبَ كما ضَربه، وإن أَخذ ماله بغير حق أَخذ من ماله بقدر ما أخذ من ماله. فإن المسلمين متفقون على أن القصاص ثابت بين الشريف وغير الشريف في الدماء ونحوها. ولو قذفَ الشريفُ رجلًا محصنًا أقيم عليه حدُّ القذف كما يقام على غيره.
وليس لأحدٍ أن يَسُبَّ من لا يَسبَّ، سواء كان شريفًا أو لم يكن، بل له أن يعاقب من ظلمه ولا يتعدى إلى غيره. وفي الصحيحين (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “من أكبر الكبائر أن يَسُبَّ الرجل والدَيْه”،
__________
(1) البخاري (3475) ومسلم (1688) عن عائشة.
(2) البخاري (5973) ومسلم (90) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(3/394)
قالوا: وكيف يَسُبُّ والديه؟ قال: “يَسُبُّ أبا الرجلِ فيسبُّ أباه، ويَسُبُّ أمَّه فيسبّ أمّه”. ومن يسبَّ من لم يَسُبَّه من الأشراف أو غيرِهم عُزِّر. ولا يُقتَل أحدٌ إلا بسَبّ نبيّ من الأنبياء، فمن يسَبَّ نبيًّا من الأنبياء وجبَ قتلُه. وفي الرافضة الذين يَسُبُّون الصحابةَ تفصيل ونزاعٌ. والله أعلم.
(هذا جواب الشيخ تقي الدين أحمد ابن تيمية، أثابه الله ورضي عنه، وجزاه عن هذه الأمة كل خير في الدنيا والآخرة).
***
(3/395)
قاعدة في حضانة الولد
(3/397)
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحرَّاني رضي الله عنه:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليما.
فصل
في مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء في حضانة الصغير المميز: هل هو للأب أو للأم؟ أو يُخير بينهما؟.
فإن عامة كتب أصحاب أحمد إنما فيها أن الغلام إذا بلغ سبعَ سنين خُيِّر بين أبويه، أما الجارية فالأب أحقُّ بها، وأكثرهم لم يذكروا في ذلك نزاعًا.
وهؤلاء الذين ذكروا هذا بلغهم بعضُ نصوص أحمد في هذه المسألة، ولم يبلغهم سائرُ نصوصِه، فإن كلام أحمد كثير منتشر جدًّا، وقَلَّ من يَضبط جميعَ نصوصه في كثير من المسائل، لكثرة كلامه وانتشاره، وكثرةِ من كان يأخذ عنه العلم. فأبو بكر الخلاّل قد طاف بالبلاد، وجمع من نصوصِه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدًا (1)، وفاتَه أمورٌ كثيرة ليست في كتبه. وأما ما جَمعه من نصوصه في أصولِ
__________
(1) ذكر الذهبي في “السير” (14/ 297) وابن القيم في “إعلام الموقعين” (1/ 28) أنها في عشرين مجلدًا أو أكثر. ولم يصل إلينا منها إلا مجلدان.
(3/399)
الدين مثل: “كتاب السنة” نحو ثلاث مجلدات، ومن أصول الفقه والحديث مثل: “كتاب العلم” الذي جمعه، ومن الكلام على علل الأحاديث مثل “كتاب العلل” الذي جمعه، ومن كلامه في أعمال القلوب والأخلاق والآداب، ومن كلامه في الرجال والتاريخ= فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه.
والمقصود هنا أن النزاع عنه موجودٌ في المسألتين كلتاهما: في مسألة البنت، وفي مسألة الابن. وفي مذهبه في المسألتين ثلاثة أقوال: هل تكون مع الأم أو مع الأب أو تُخيَّر؟ لكن في الابن ثلاث روايات. وأما البنت فالمنقول عنه روايتان: هل هي للأم أو للأب؟ وأما التخيير فهو وجهٌ مخرَّجٌ في مذهبه (1).
فعنه في الابن ثلاث روايات معروفة، وممن ذكرهن أبو البركات في “محرَّره” (2). وعنه في الجارية روايتان، وممن ذكرهما أبو عبد الله ابن تيمية في كتابه “التلخيص” و”ترغيب القاصد” (3). والروايات موجودة بألفاظها ونقلتها وأسانيدها في عدة كتب.
وممن ذكر هذه الروايات القاضي أبو يعلى في “تعليقه”، نقل عن أحمد في الغلام: أمُّه أحقُّ به حتى يَستغني عنها، ثم الأب أحقُّ به. قال في رواية الفضل بن زياد: إذا عَقَلَ الغلامُ واستغنى عن الأم
__________
(1) انظر “زاد المعاد” (5/ 417 – 418).
(2) 2/ 120.
(3) لم يصلا إلينا. ومختصره الوجيز “بلغة الساغب” مطبوع نصفُه تقريبًا، بالاعتماد على نسخة ناقصة من أثناء كتاب الفرائض (ص 337) إلى الباب السادس من كتاب الشهادات، فلا يحتوي على أبواب النكاح والطلاق والنفقات والرضاع وغيرها.
(3/400)
فالأب أحقُّ به. وقال في رواية أبي طالب: والأب أحقُّ بالغلام إذا عَقَلَ واستغنى عن الأم.
وهذا يُشبِه الذي نقله القاضي أبو يعلى والشاشي وغيرهما عن أبي حنيفة، قَال: إذا أكل وحدَه ولَبِسَ وحدَه وتوضَّأ وحدَه فالأب أحقُّ به. ونقلَ ابن المنذر أنه يُخيّر حينئذٍ بين أبويه عن أبي حنيفة وأبي ثور.
والأول هو مذهب أبي حنيفة الموجود في كتب أصحابه. وهو إحدى الروايتين عن مالك، فإنه نَقَلَ عنه ابنُ وهب: الأمُّ أحقُّ به حتَى يثْغِر. ولكن المشهور عنه: أن الأم أحقُّ به ما لم يبلُغ. وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد.
والرواية الثالثة عن أحمد أن الأم أحق بالغلام مطلقًا، كمذهب مالك. قال في رواية حنبل: في الرجل يطلِّق امرأتَه وله منها أولاد صغار، فالأمُّ أعطفُ عليهم مقدار ما يعقل الأدب، فيكون الأبُّ أحقَّ بهم ما لم تتزوَّج، فإذا تزوجت فالأب أحقُّ بولده غلافا كان أو جارية.
قال الشيخ أبو البركات (1): فهذه الرواية تدلُّ على أنه إذا كبر وصار يعقل الأدب فإنه يكون مقره أيضًا عند الأمّ، لكن في وقت الأدب -وهو النهار- يكون عند الأب.
وهذا مذهب مالك بعينه الذي حكيناه. فصار في المسألة ثلاث روايات. ومذهب مالك في “المدونة” (2) أن الأمَّ أحقُّ به ما لم يبلغ،
__________
(1) المحرر (2/ 120).
(2) 2/ 244.
(3/401)
وللأب تعاهدُه عندها وأدبُه وبعثُه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم.
قلت: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقَّه على مذهب أبي حنيفة، ثم اجتهد في مسائل كثيرة رجَّح فيها مذهب أهل الحديث، وسأل عن تلك المسائل أحمدَ وغيرَه، وشرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام دمشق. وأما الذين كانوا يسألونه مطلقًا -مثل الأثرم وعبد الله وصالح وغيرهم- فكثيرون.
وأما حضانة البنت إذا صارتْ مميَّزةً فوجدنا عنه روايتين منصوصتين، وقد نقلهما غيرُ واحدٍ من أصحابه، كأبي عبد الله ابن تيمية وغيرِه:
إحداهما: أن الأب أحقُّ بها، كما هو موجود في الكتب المعروفة في مذهبه.
والثانية: أن الأمَّ أحق بها.
قال في رواية إسحاق بن منصور: يُقضَى بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحقُّ بها.
وقال في رواية مهنّا بن يحيى: الأمّ والجدَّة أحق بالجارية حتى يتزوَّج الأب.
قال أبو عبد الله في “ترغيب القاصد”: وإن كانت جارية فالأب أحقُّ بها بغير تخيير، وعنه: الأمّ أحقُّ بها حتى تحيض.
(3/402)
وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبي حنيفة في ذلك. ففي “المدونة” (1): مذهب مالك أن الأم أحق بالولد ما لم يبلغ، سواء كان ذكرًا أو أنثى. فإذا بلغَ وهو أنثى نُظِرتْ، فإن كانت الأم في حِرزٍ ومنعةٍ وتحصينٍ فهي أحق بها أبدًا ما لم تنكح وإن بلغتْ أربعين سنة؟ وإن لم تكن في موضع حرزٍ وتحصين أو كانت غير مرضية في نفسها، فللأب أخذها منها.
وكذلك الأولياء والوصي كالأب في ذلك إذا أخذ إلى أمانة وتحصين.
ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك، قال: الأم أحقُّ بالجارية حتى تبلغ، فإن كانت الأم غير مرضية في نفسها وأدبها لولدها أُخِذَتْ منها إذا بلغتْ، إلا أن تكون صغيرة لا يُخافُ عليها.
وأما أبو حنيفة فقال: الأم والجدَّة أحقُّ بالجارية حتى تحيض، ومَن سِوَى الأم والجدة أحق بها حتى تبلغ حدًّا تشتهي. هذا هو المشهور، ولفظ الطحاوي (2): “حتى تستغني” كما في الغلام مطلقًا.
ولهذا قيل فيها كما قيل في الغلام: حتى تأكلَ وحدَها وتلبسَ وحدَها وتتوضأ وحدَها، ثم تكون مع الأب.
وأبو حنيفة أيضا يجعل الأب أحقَّ بها بعد التمييز، كما يقول مثل ذلك في الابن، لكن يستثني الأم والجدة خاصة.
وأما المشهور عن أحمد -وهو تخيير الغلام بين أبويه- فهو مذهب الشافعي وإسحاق بن راهويه. وموافقتُه للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبهُ منها بأصول غيرهما. وكان يثنِي عليهما ويُعظِّمهما ويُرجح أصولَ مذاهبهما على من ليست أصولُ
__________
(1) 2/ 244.
(2) “مختصره” (ص 226، 227).
(3/403)
مذاهبه كأصول مذاهبهما. وعندهم أصول فقهاء الحديث أصحُّ من أصول غيرِهم، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث. وجمع بينهما بمسجد الخيف فتناظرا في مسألة رباع مكة، والقصة مشهورة (1). وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحاقَ بالحَجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في موضع؛ فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحاق يمنع منهما، وكانت الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها.
وأما التخيير في الجارية فهو قول الشافعي، ولم أجده منقولًا لا عن أحمد ولا عن إسحاق، كما ونُقِل عنهما التخيير في الغلام. ولكن نُقِل عن الحسن بن حيّ أنها تُخيَّر إذا كانت كاعبًا.
والتخيير في الغلام هو مذهب الشافعي وأحمد -في المشهور عنه- وإسحاق، للحديث الوارد في ذلك، حيث خيَّر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – غلامًا بين أبويه (2)، وهي قضية معينة، ولم يرد عنه نصّ عام في تخيير الولد مطلقًا. والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف (3) مخالفٌ لإجماعهم.
__________
(1) انظر مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 213 وما بعدها) ومعجم الأدباء (17/ 293 – 298) وطبقات الشافعية للسبكي (2/ 89 – 90).
(2) أخرجه أحمد (2/ 246، 447) وأبو داود (2277) والترمذي (1357) والنسائي (6/ 185) وابن ماجه (2351) من حديث أبي هريرة، وحسَّنه الترمذي وصححه ابن حبان. وانظر: “تلخيص الحبير” (4/ 12).
(3) أخرجه أحمد (5/ 446) وأبو داود (2244) والنسائي في الكبرى كما في “تحفة الأشراف” (3594) من طريق عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رافع بن سنان. وفي سنده اختلاف كثير وألفاظ مختلفة، قال ابن المنذر: لا يُثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال. انظر: “تلخيص الحبير” (4/ 11). وسيأتي الكلام على الحديث في آخر هذه الرسالة.
(3/404)
والفرق بين تخيير الغلام والجارية أن هذا التخيير تخيير شهوة، لا تخيير رأي ومصلحة، كتخيير من يتصرف لغيره، كالإمام والولي، فإن الإمام إذا خُيّر في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمنّ والفداء فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين، ثم قد يُصيب ذلك الأصلح للمسلمين، فيكون مصيبًا في اجتهاده حاكمًا بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يُصيبه، فيثاب على استفراغ وُسعِه، ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة. كالذي ينزل أهل حصنٍ على حكمه، كما نزل بنو قريظة على حكم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما سأله فيهم بنو عبد الأشهل قال: “ألا تَرضَون أن أجعل الأمرَ إلى سيدكم سعد بن معاذ؟! فرَضُوا بذلك، وطمع من كان يحب استبقاءَهم أن سعدًا يُحابيهم، لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من الموالاة. فلما أتى سعا حكمَ فيهم أن تُقتَل مقاتلتُهم، وتُسبَى ذراريهم، وتُغنَم أموالُهم. فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات” (1). وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك لم يكن ذلك حكمًا لله في نفس الأمر، وإن كان لابدَّ من إنفاذه.
ومثل هذا ما ثبت في صحيح مسلم (2) وغيره من حديث بُريدة المشهور، قال فيه: “وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ فسألوك أن تُنزِلَهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أَنزِلْهم على حكمك وحكم أصحابك”.
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 239، 240). وأخرجه البخاري (3043، 3804، 4121، 6262) ومسلم (1768) بنحوه مختصرًا من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) برقم (1731) وأخرجه أيضًا أحمد (5/ 352، 358) وأبو داود (6212، 6213) والترمذي (1408، 1617) والنسائي في “الكبرى” كما في “تحفة الأشراف” (1929) وابن ماجه (2858).
(3/405)
ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصرَ الإمامُ حصنًا، فنزلوا على حكم حاكمٍ، جاز إذا كان رجلًا مسلمًا حرًّا عدلًا، من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا بما فيه حظٌّ للإسلام من قتلٍ أو رِقّ أو فداء. وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن، فأباه الإمام، هل يلزم حكمه أو لا يلزم؟ أو يُفرَّق بين المقاتلة والذرية؟ على ثلاثة أقوال. وإنما تنازعوا في ذلك لظنّ المنازع أن المنَّ لا حظَّ فيه للمسلمين.
والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي مصلحة، بطلب أي الأمرين كان أرضى لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في أدلة المسائل، فأيّ الدليلين كان أرجح اتبعَه.
ولكن معنى قولنا “يُخيَّر” أنه لا يتعين فعلُ واحدٍ من هذه الأمور في كل وقت، بل قد يتعين فعلُ هذا تارةً وفعلُ هذا تارةً. وقولُ الله في القرآن (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) (1) يقتضي فعلَ أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تَعيُّنَ هذا في حالٍ وهذا في حالٍ، كما في قوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) (2). فتربُّصُ أحد الأمرين لا يمنع بعينه إذا كان الجهاد فرض عينٍ علينا بعض الأوقات، فحينئذٍ يصيبهم الله بعذابٍ بأيدينا، كما في قوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) (3).
ولهذا كان عند جميع العلماء قولُه تعالى في المحاربين: (إِنَّمَا
__________
(1) سورة محمد: 4.
(2) سورة التوبة: 52.
(3) سورة التوبة: 14 – 15.
(3/406)
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (1) لا يقتضي أن الإمام يُخيّر تخيير مشيئة، فيفعل أيَّ هذه الأربعة شاء، بل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا في حال وهذا في حال.
ثم أكثرهم يقولون: تلك الأحوال مضبوطة بالنصّ، فإن قَتَلوا تعيَّن قتلُهم، وإن أخذوا المالَ ولم يقتلوا تعيَّن قطعُ أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد (2)، وروي في ذلك حديث مرفوع (3).
ومنهم من يقول: بل التعيين باجتهاد الإمام، كقول مالك، فإن رأى أن القتل هو المصلحة قتل، وإن لم يكن قد قَتل.
ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعْلِها فيئًا وجَعْلِها غنيمةً، كما هو قول الأكثرين كأبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وأحمد في المشهور عنه، فإنهم قالوا: إن رأى المصلحةَ في جَعْلِها غنيمةً قَسمها بين الغانمين، كما قَسَمَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خيبر؛ وإن رأى أن لا يَقسِمها جاز، كما لم يَقْسِم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مكةَ مع أنه فتحها عنوةً، كما شهدتْ بذلك الأحاديث الصحيحة والسيرة المستفيضة، وكما قاله جمهور العلماء. ولأن خلفاءه بعدَه أبا بكر وعمر وعثمان
__________
(1) سورة المائدة: 33.
(2) انظر “المغني” (12/ 475 وما بعدها).
(3) يُروى مرفوعًا وموقوفًا على ابن عباس، أخرجه أبو يوسف في كتاب “الخراج” (ص 177) والبيهقي في “السنن الكبرى” (8/ 283). وانظر “الدر المنثور” (3/ 68). وفي “المغني” (1/ 4772): “قيل إنه رواه أبو داود”. ولا يوجد عنده.
(3/407)
فتحوا ما فتحوه من أرض المغرب والروم وفارس، كالعراق والشام ومصر وخراسان، ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئًا من العقار المغنوم بين الغانمين، لا السواد ولا غير السواد، بل جعلوا العقار فيئًا للمسلمين داخلًا في قوله (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) الآية (1). ولم يستأذنوا في ذلك الغانمين، بل طلبَ أكابرُ الغانمين قسمةَ العقار، فلم يُجيبوهم إلى ذلك، كما طلبَ بلالٌ من عمر أن يَقسِمَ أرضَ الشام، وطلب منه الزبير أن يقسم أرض مصر، فلم يجيبوهم إلى ذلك. ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدًا من الغانمين في ذلك، فضلًا عن أن يستطيبَ أنفُسَ جميع الغانمين.
وهذا مما احتَجَّ به مَن جعلَ الأرضَ فيئًا بنفس الفتح، ومن نَصَرَ مذهبَه كإسماعيل بن إسحاق وغيره، وقالوا: الأرض ليست داخلةً في الغنيمة؛ فإن الله حرَّم على بني إسرائيل المغانمَ ومَلَّكَهم العقارَ، فعُلِمَ أنه ليس من المغانم. وهذا القول يُذكَر رواية عن أحمد، كما ذُكِر عنه روايةٌ ثالثةٌ كقول الشافعي: أنه يجب قسمة العقار والمنقول، لأن الجميع مغنومٌ.
وقال الشافعي: إن مكة لم تُفتَح عنوةً بل صُلحًا، فلا يكون فيها حجة. ومن حَكَى عنه أنه قال: إنها فتِحتْ عنوةً -كصاحب “الوسيط” (2) وفروعه- فقد غَلِطَ عليه. وقال في السواد: لا أدري ما أقول فيه، إلا أني أظنُّ فيه ظنًّا مقرونًا بعلمٍ وظنّ أن عمر استطابَ أنفسَ الغانمين، لما رُوِي من قصة المثنى بن حارثة. وبَسْطُ هذا له موضع آخر.
__________
(1) سورة الحشر: 7.
(2) 7/ 42. وردَّ عليه ابن الصلاح في “مشكل الوسيط” (2/ 127 ب).
(3/408)
وقول الجمهور أعدلُ الأقاويل، وأشبهُها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين قالوا: يُخيَّر الإمام بين الأمرين تخييرَ رأي ومصلحة، لا تخيير شهوة ومشيئةٍ، وهكذا سائر ما يُخيَّر فيه وُلاةُ الأمر ومن تصرَّفَ لغيرِه بولاية، كناظر الوقف ووصيِّ اليتيم والوكيل المطلق، لا يُخيَّرون تخييرَ مشيئةٍ وشهوةٍ، بل تخييرَ اجتهاد ونظر وطلبٍ، ويُجزى للأصلح. كالرجل المبتَلَى بعدوَّين، وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما، فيبتدئ بماله نفع. وكالإمام في تولية من ولاَّه الحربَ والحكمَ والمالَ يختارُ الأصلح فالأصلح. فمن وَلَّى رجلًا على عصابةٍ، وهو يجد فيهم من هو أرضى لله منه، فقد خانَ الله وخانَ رسولَه وخانَ المؤمنين.
وهذا بخلاف من خُيِّر بين شيئين وله أن يفعل أيَّهما شاءَ، كالمكفِّر إذا خُير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحدُ الخصال أفضلَ فيجوز له فعل المفضول. وكذلك لابسُ الخفّ إذا خُيِّر بين المسح وبين الغَسل، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك المصلي إذا خُيِّر بين الصلاة في أول الوقت وآخره، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك تخيير الآكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة، وإن كان نفس الأكل والشرب واجبًا عند الضرورة، حتى إذا تعين المأكول وجبَ أكلُه وإن كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميتة وجب عليه أكلُها في المشهور عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم.
وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يُخيِّرون الثلاثة. وتخيير المسافر بين الفطر والصوم عند الجمهور.
وأما من يقول: لا يجوز أن يحج إلاّ متمتعا، وأنه يتعين الفطر في السفر، كما يقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة، فلا يجيء هذا على أصلهم. وكذلك القصر عند الجمهور
(3/409)
الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ليس له أن يصلي أربعًا، فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يُصل في السفر قط إلا ركعتين، ولا أحد من أصحابه في حياته. وحديث عائشة التي تذكر فيه أنه أو أنها صلَّتْ في حياته في السفر أربعًا كذبٌ عند حُدَّاق أهل العلم بالحديث، كما قد بُسِطَ في موضعه (1).
إذ المقصود هنا أن التخيير في الشرع نوعان، فمن خُيِّر فيما يفعله لغيرِه بولايته عليه، أو بوكالةٍ مطلقة، لم يُبَحْ له فيها فعلُ ما شاء، فعليه أن يختار الأصلح. وأما من تصرَّف لنفسه، فتارةً يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوى الآراء بل وأصلح الأحكام في نفس الأمر. وتارةً يُبيح له ما شاء من الأنواع التي خيّر بينهما، كما تقدم. هذا إذا كان مكلفًا.
وأما الصبي المميِّز فيُخيَّر تخييرَ شهوةٍ، حيث كان كلٌّ من الأبوين نظيرَ الآخر، ولم ينضبط في حقه حكم عام للأب أو الأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح للمميِّز من الأم، ولا كلُّ أم فهي أصلح له من الأب. بل قد يكون بعضُ الآباء أصلح، وبعضُ الأمهات أصلح، وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال. فلم يمكن أن يعتبر أحدهما في هذا. بخلاف الصغير، فإن الأم أصلح له من الأب، لأن النساء أوثقُ بالصغير وأخبَرُ بتغذيته وحملِه وتنويمه وتنويله، وأصبر على ذلك وأرحم به، فهي أقدر وأخبر وأرحم وأصبر في هذا الموضع. فتعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع.
ولكن بقي تنقيحُ المناط: هل عيَّنهن الشارعُ لكون قرابة الأم
__________
(1) انظر “مجموع الفتاوى” (22/ 78 – 81؛ 24/ 144 – 156، 8، 10، 19).
(3/410)
مقدمةً على قرابة الأب في الحضانة أو لكون النساء أقومَ بمقصودِ الحضانة من الرجال؟ وهذا فيه قولان للعلماء، يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم، مثل: أمّ الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل: العمة والخالة، ونحو ذلك. هذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد.
وأرجح القولين في الحجة تقديم نساء العصبة، فتقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم. وهو الذي ذكره الخرقي في “مختصره” (1) وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من الأصحاب.
وعلَّل ذلك من علَّله -كأبي الحسن الآمدي- في مثل تقديم خالة الأب على خالة الأم، فإن قرابتها فيها رَحِم وتعصيبٌ، بخلاف قرابة الأم، فإنَّ فيها رَحِمًا بلا تعصيب. فأم الأب مقدمة على أم الأم، والأخت من الأب مقدمة على الأخت من الأم، والعمة مقدمة على الخالة. كما يُقدَّم أقارب الأب من الرجال على أقارب الأم، فالأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعمُّ أولى من الخال. بل قد قيل: إنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، وإن الحضانة لا تثبت إلا لرجلٍ من العصبة أو لامرأةٍ وارثةٍ، أو مُدْلِيةٍ بعصبةٍ أو وارثٍ، فإن عدموا فالحاكم.
وعلى الوجه الثاني فلا حضانة للرجال في أقارب الأم. وهذان الوجهان في مذهب الشافعي وأحمد. فلو كانت جهة الأمومة راجحةً لترجح رجالُها ونساؤها، فلما لم يترجح رجالُها بالاتفاق فكذلك نساؤها.
__________
(1) انظر “المغني” (11/ 423، 424).
(3/411)
وأيضًا فمجموع أصول الشرع إنما يُقدّم أقاربَ الأب في الميراث والعقل والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، لم يقدِّم الشارعُ قرابةَ الأم في حكم من الأحكام، فمن قدَّمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة.
ولكن قدّموا الأمّ لكونها امرأةً، وجنسُ النساء مقدماتٌ في الحضانة على الرجال. وهذا يقتضي تقديم الجدَّةِ أمِّ الأب على الجدّ، كما قُدّمت الأمُّ على الأب، وتقديم أخواتِه على إخوته، وعمّاتِه على أعمامِه، وخالاتِه على أخوالِه. هذا هو القياس والاعتبار الصحيح.
وأما تقديم جنس نساء الأم على جنس نساء الأب فمخالفٌ للأصول والمعقول، ولهذا كان من قال هذا في موضعٍ يتناقض، ولا يطرد أصله. ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصودَه في ذلك أقوالًا متناقضة، حتى يوجد في الحضانة من الأقوال المتناقضة أكثر مما يوجد في غيرها من هذا الجنس. فمنهم من يقدّم أم الأم على أم الأب، كأحد القولين في مذهب أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة. ثم من هؤلاء من يقدِّم الأخت من الأب على الأخت من الأم، ثم يُقدّم الخالة على العمة، كقول الشافعي في الجديد وطائفةٍ من أصحاب أحمد. وبَنَوا قولَهم على أن الخالات مقدمات على العمّات لكونهن من جهة الأم، ثم قالوا في العمات والخالات والأخوات: من كانت لأبوين أولى، ثمّ من كانت لأب، ثم من كانت لأم.
وهذا الذي قالوه هنا موافق لأصول الشرع، لكن إذا ضُمَّ هذا إلى قولهم بتقديم قرائب الأم ظهر التناقضُ. وهم أيضًا قالوا بتقديم أمهاتِ الأب والجدّ على الخالات والأخوات للأم، وهذا موافق لأصول الشرع؛ لكنه يناقض هذا الأصل، ولهذا قالوا في القول
(3/412)
الآخر: إن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب، كقول الشافعي القديم. وهذا أَطردُ لأصلهم، لكنه في غاية المناقضة لأصول الشرع.
وطائفة أخرى طردتْ أصلَها، فقدَّمتْ من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب، كقول أبي حنيفة والمزني وابن سريج. وبالغ بعضُ هؤلاء في طرد قياسِه، حتى قدَّم الخالةَ على الأخت من الأب، كقول زفر وروايةٍ عن أبي حنيفة، ووافقهم ابن سُرَيج. ولكن أبو يوسف استشنعَ ذلك، فقدَّم الأختَ للأب، ورواه عن أبي حنيفة.
ورُوِيَ عن زفر أنه أمعنَ في طرد قياسِه، حتى قال: إنّ الخالةَ أولى من الجدّة أمِّ الأب. وقد رُوِي عن أبي حنيفة أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إذا أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال وحللتم الحرام. وكان يقول في القياس: قياسُ زفر أقبحُ من البولِ في المسجد. وزفر كان معروفًا بالإمعان في طرد قياسِه، لكن الشأن في الأصل الذي قاس عليه وفي علة الحكم في الأصل، وهو جواب سؤال المطالبة، فمن أحكم هذا الأصل استقامَ قياسُه.
وهذا كما أن زفر اعتقد أن النكاح إلى أجل يَبطُلُ فيه التوقيتُ، ويصحّ النكاح لازمًا. وخرَّجَ بعضُهم ذلك قولًا في مذهب أحمد.
فكان مضمون هذا القول أن نكاح المتعة يَصخُ لازمًا غيرَ موقتٍ، وهو خلاف النصوص وخلافُ إجماع السلف. والأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين، لم يكن لمن بعدهم إحداثُ قولي يناقضُ القولين، ويتضمنُ إجماعَ السلف على الخطأ والعدول عن الصواب. وليس في السلف من يقول في المتعة إلا أنه باطلٌ، أو يَصِخُ مؤجَّلًا، فالقولُ بلزومِه مطلقًا خلافُ الإجماع.
وسبب هذا القول اعتقادُهم أن كل شرط فاسدٍ في النكاح فإنه يَبطُل،
(3/413)
وينعقد النكاح لازمًا بدون حصولِ غرض المشترط. فألزموه ما لم يلتزمْه ولا ألزمَه به الشارع، ولهذا صحح من قال ذلك نكاحَ الشغار ونحوه مما شُرِطَ فيه نفيُ المهر، وصححوا نكاح التحليل لازمًا مع إبطال شرط التحليل، وأمثال ذلك.
وقد ثبت في الصحيحين (1) عن عقبة بن عامر عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إنّ أحقَّ الشروط أن تُوفوا به ما استحللتم به الفروج”. فدكَ النصُّ على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط في البيع، فإذا كانت الشروط الفاسدة في البيع لا يلزم العقد بدونها، بل إما أن يَبطُل العقدُ، وإما أن يثبت الخيارُ لمن فاتَ غرضُه بالاشتراط إذا بطلَ الشرط، فكيف بالشروط في النكاح؟.
وأصلُ عمدتهم كون النكاح يصحُّ بدون تقدير الصداق، كما ثبتَ بالكتاب والسنة والإجماع. فقاسوا النكاح الذي شُرِطَ فيه نفيُ المهر على النكاح الذي تُرِكَ تقديرُ الصداقِ فيه، كما فَعَل أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد. ثم طَرَد أبو حنيفة قياسَه، فصحَّح نكاحَ الشغار بناءً على أن لا مُوجبَ لفسادِه إلا إشغاره عن المهر، وهذا ليس مفسدًا.
وأما الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلَّفوا الفرق بين الشغار وغيره، بأن فيه تشريكًا في البُضْع أو تعليقًا للعقد أو غير ذلك، مما قد بُسِطَ في غير هذا الموضع (2)، وبُيِّن فيه أنّ كلَّ هذه فروق غيرُ مؤثّرة، وأن الصواب مذهب أهلِ المدينة مالكٍ وغيرِه،
__________
(1) البخاري (2721، 5151) ومسلم (1418).
(2) انظر “مجموع الفتاوى” (20/ 379) و”نظرية العقد” (ص 175 وما بعدها).
(3/414)
وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته، وعليه أكثر قدماء أصحابه: أن العلة في إفسادِه هي شرط إشغار النكاح عن المهر، وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه نفي المهر أو مهر فاسد. فإنَّ الله فرضَ فيه المهرَ، فلم يُحِلَّ لغير الرسولِ النكاحَ بلا مهرٍ. فمن تزوج بشرط أن لا يجب مهر فلم يعقد النكاح الذي أذن الله فيه، فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بماله محصنًا غير مسافح، كما قال تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) (1). فمن طلب النكاح بلا مهر فلم يفعل ما أحلَّ الله. وهذا بخلاف من اعتقد أنه لابد من مهرٍ لكن لم يقدره، كما قال تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) إلى قوله (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية (2). فهذا نكاح المهر المعروف، وهو مهر المثل.
قالوا: فهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع، فإن البيع بثمن المثل -وهو السعر- أو الإجارة بثمن المثل لا يصح، بخلاف النكاح.
وقد سلَّم لهم هذا الأصلَ الذي قاسوا عليه الشافعيُّ وكثير من أصحاب أحمد في البيع. وأما في الإجارة فأصحابُ أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم يقولون: إنه يجب أجرة المثل فيما جرت العادة فيه في مثل ذلك، كمن دخل حمام حمامي يدخلها الناس بالكراء، أو سكن في خانٍ أو حجرةٍ جرت عادتهم بذلك، أو دفع طعامه أو خبزَه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة، أو ثيابه إلى من يغسل بالأجرة، أو
__________
(1) سورة النساء: 24.
(2) سورة البقرة: 236 – 237.
(3/415)
ركب دابة مكاري يُكارِي بالأجرة، أو سفينة ملاّحٍ يركب الناس بالأجرة. فإن هذه إجارة عرفية عند جمهور العلماء، وتجب فيها أجرة المثل وإن لم يشترط ذلك. فهذه إجارة بأجرة المثل. وكذلك لو ابتاع طعامًا بمثل ما ينقطع به السعر، أو بسعر ما يبيع الناس، أو بما اشتراه به من بلده أو برقمه، فهذا يجوز في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره.
وقد نصَّ أحمد على هذه المسائل ومثلها في غير موضع، وإن كان كثير من متأخري أصحابه لا يُوجَد في كتبهم إلا القول الآخر بفسادِ هذه العقود، كقول الشافعي وغيره. وبسطُ هذه المسائل في مواضع أخر.
والمقصود هنا كان مسائل الحضانة، وأن الذين اعتقدوا أن الأمَّ قُدّمت لتقدم قرابة الأمّ لمّا كان أصلُهم ضعيفًا كانت فروعُهم اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة، وفسادُ اللازم يستلزم فسادَ الملزوم. بل الصواب بلا ريب أنها قُدّمت لكونها أنثى، فتكون المرأة أحقَّ بحضانة الصغير من الرجل، فتُقدَّم الأمّ على الأب، والجدة على الجد، والأخت على الأخ، والخالة على الخال، والعمة على العم. وأما إذا اجتمع امرأة بعيدة ورجلٌ قريب، فهذا لبسطِه موضع آخر، إذ المقصود هنا ذكر مسألة الصغير المميز، والفرق بين الصبية والصبي.
فتخييرُ الصبي الذي وردت به السنة أولى من تعيين أحد الأبوين له، ولهذا كان تعيين الأب كما قال مالك وأحمد في رواية، والتخيير تخيير شهوة. ولهذا قالوا: إذا اختار الأبَ مدةً ثم اختار الأمَّ فله ذلك. حتى قالوا: متى اختار أحدهما ثم اختار الآخر نُقِل إليه، وكذلك إن اختار ابتداء. وهذا قول القائلين بالتخيير: الحسن بن صالح والشافعي وأحمد بن حنبل. وقالوا: إذا اختار الأم كان عندها ليلًا،
(3/416)
وأما بالنهار فيكون عند الأب ليعلمه ويؤدبه. هذا مذهب الشافعي وأحمد، وكذلك قال مالك، وهو يقول: يكون عندها بلا تخيير، للأب تعاهدُه عندها وأدبُه وبعثُه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأمّ.
قال أصحاب الشافعي وأحمد: وإن اختار الأب كان عنده ليلًا ونهارًا، ولم يُمنَع من زيارة أمّه، ولا تُمنَع الأمّ من تمريضه إذا اعتلَّ.
فأما البنت إذا خُيِّرتْ -فكانت عند الأم تارةً وعند الأب تارةً- أفضَى ذلك إلى كثرة مرورِها وتبرجها وانتقالِها من مكان إلى مكانٍ، ولا يبقى الأب موكلًا بحفظها ولا الأمّ موكلةً بحفظها، وقد عُرِف بالعادة أن ما تناوبَ الناسُ على حفظِه ضاعَ. ومن الأمثال السائرة: لا تصلح القِدرُ بين طبَّاختَيْن.
وأيضًا فاختيارُ أحدهما يُضعِف رغبةَ الآخر في الإحسان والصيانة، فلا يبقى الأبُ تامَّ الرغبة في حفظها، ولا الأمّ تامةَ الرغبة في حفظها. وليس الذكر كالأنثى، كما قالت امرأة عمران (1) (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) إلى قوله (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) إلى قوله (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ). فهذه مريم احتاجت إلى من يكفلها ويحضنها، حتى اقترعوا على كفالتها، فكيف بمن سواها من النساء؟
وهذا أمرٌ يُعرَف بالتجربة: أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة إلى ما لا يحتاج إليه الصبي، وكل ما كان أسترَ لها وأصونَ كان أصلحَ لها.
__________
(1) سورة آل عمران: 35 – 44.
(3/417)
ولهذا كان لباسُها المشروعُ لباسًا لما يسترها، ولعن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من يلبس منهن لباسَ الرجال (1)، وقال لأم سلمة في عصابتها: “ليَّةً لا ليَّتَين”، رواه أبو داود وغيره (2). وقال في الحديث الصحيح (3): “صنفانِ من أهل النار من أمتي لم أرهما بعدُ: نساءٌ كاسيات عاريات مائلات مُمِيلات، على رؤوسهن مثلُ أسنمة البُخْت، لا يدخلن الجنةَ ولا يجدن ريحَها؛ ورجالٌ معهم سياطٌ مثل أذنابِ البقر يَضرِبون بها عبادَ الله”.
وأيضًا فأمُرت المرأةُ في الصلاة أن تتجمع ولا تجافي بين أعضائها، وفي الإحرام أن لا ترفعَ صوتَها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، وأن لا تَرقَى فوق الصفا والمروة، كلُّ ذلك لتحقيق سترِها وصيانتها. ونُهِيَتْ أن تُسافر إلا مع زوج أو ذِي محرم، لحاجتها في حفظها إلى الرجال مع كبرِها ومعرفتها. فكيف إذا كانت صغيرةً مميزةً، وقد بلغتْ سنَّ ثورانِ الشهوة فيها، وهي قابلةٌ للانخداع؟ وفي الحديث: “النساء لحمٌ على وَضَمٍ إلا ما ذُبّ عنه” (4).
فهذا مما يُبيِّن أن مثل هذه الصبية المميزة من أحوج النساء إلى حفظها وصونها، وتردُّدُها بين الأبوين مما يُخِلُّ بذلك، من جهة أنها هي لا يجتمع قلبُها على مكانٍ معيَّن، ولا يجتمع قلبُ أحد الأبوين
__________
(1) أخرجه أحمد (2/ 325) وأبو داود (4098) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه أبو داود (4115) وأحمد (6/ 294، 296، 306).
(3) أخرجه مسلم (2128 وبعد رقم 2856) عن أبي هريرة.
(4) رُوِي هذا عن عمر بن الخطاب، انظر “الغريبين” (6/ 167) و”النهاية” (15/ 98). ومعنى ذلك أنهن في الضعف مثل ذلك اللحم الذي لا يمتنع من أحد إلاَّ أن يُذَبَّ عنه.
(3/418)
على حفظها، ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارةً وهذا تارةً يُخِلُّ بكمالِ حفظها، وهو ذريعة إلى ظهورها ومرورِها، فكان الأصلح لها أن تُجعَلَ عند أحد الأبوين مطلقًا، ولا تُمكَّنَ من التخيير، كما قال ذلك جمهور علماء المسلمين مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم.
وليس في تخييرها نصٌّ صريح ولا قياسٌ صحيح.
والفرق ظاهرٌ بين تخييرها وتخيير الابن، لاسيَّما والذكر محبوبٌ مرغوبٌ فيه، فلو اختار أحدَهما كانت محبةُ الآخر له تدعوه إلى مراعاته. والبنتُ مزهودٌ فيها، فأحدُ الوالدين قد يَزهَد فيها مع رغبتها فيه، فكيف مع زهدِها فيه؟ فالأصلح لها لزومُ أحدِهما لا التردُّد بينهما.
ثمَّ هنا يحصل الاجتهاد في تعيين أحدهما. فمن عيَّن الأم -كمالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين- لابدّ أن يُراعوا مع ذلك صيانةَ الأمّ لها، ولهذا قالوا ما ذكره مالك والليث وغيرهما: إذا لم تكن الأم في موضع حرزٍ وتحصينٍ أو كانت غيرَ مرضيَّةٍ فللأب أخذها منها. وهذا هو الذي راعاه أحمد في الرواية التي اشتهرت عند أصحابه، حتى لم يذكر أكثرهم في ذلك نزاعًا، وقد علَّلوا ذلك بحاجتها إلى الحفظ والتزويج، والأب أقوم لذلك من الأم، فإنه إذا كان لابدّ من رعاية حفظها وصيانتها، وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظةً لها بلا ريب، فالأب أقدر على حفظها وصيانتها من الأم، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد. والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم.
وأحمد وأصحابُه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك ضررٌ، فلو قُدِّر أن الأب عاجز عن حفظها وصيانتها، أو يُهمل حفظها لاشتغالِه عنها أو لقلَّة دينه، والأمُّ قائمة بحفظها وصيانتها، فإنه تُقدَّم الأمّ في هذه الحال.
(3/419)
فكلُّ ما قدَّمناه من الأبوين إنما نقدِّمه إذا حَصَلَ به مصلحتُها واندفعت به مفسدتُها، فأما مع وجود فسادِ أمرِها مع أحدهما فالآخر أولى به بلا ريب. حتى الصغير إذا اختار أحدَ أبويه وقدَّمناه إنما نقدِّمه بشرط حصول مصلحته وزوالِ مفسدته، فلو قدرنا أن الأب أقرب لكن لا يصونُه والأمُّ تصونُه لم يُلتَفتْ إلى اختيار الصبي، فإنه ضعيف العقل، قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد، ويكون الصبي قصدُه الفجور ومعاشرة الفجّار، وتركُ ما ينفعه من العلم والدين والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يَحصُل له معه ما يهواه، والآخر يَذُودُه ويُصلِحه. ومتى كان كذلك فلا ريبَ أنه لا يُمكَّن ممن يفسد معه حاله.
ولهذا قال أصحاب الشافعي وأحمد: إنه لا حضانةَ لفاسقٍ، وكذلك قال الحسن بن حيٍّ. وقال مالك: كلُّ من له الحضانةُ من أبٍ أو ذاتِ رَحِمٍ أو عصبةٍ ليس له كفاية، ولا موضعُه بحرزٍ، ولا يُؤمَن في نفسه= فلا حضانةَ له. والحضانة لمن فيه ذلك وإن بَعُد، ويُنظَر للولد في ذلك بالذي هو أكفأ وأحرز، فرُبَّ والدٍ يُضيِّع ولدَه.
وكذلك قالوا -وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في “خلافه”-: إنما يكون التخييرُ بين أبوين مأمونَين عليه، يُعلَم أنه لا ضررَ عليه من كونه عند واحدٍ منهما. فأما من لا يقوم بأمرِه ويُخليه للعب فلا يثبت التخيير في حقه.
والنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “مُروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع” (1). فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك،
__________
(1) أخرجه أحمد (2/ 180، 187) وأبو داود (495، 496) عن عبد الله بن عمرو ابن العاص. وإسناده حسن.
(3/420)
والآخر لا يأمره، كان عند الذي يأمره بذلك دون الآخر، لأن ذلك الآمر له هو المطيع لله ورسوله في تربيته، والآخر عاصٍ الله ورسوله. فلا يُقدَّم من يَعصي اللهَ فيه على من يُطيع الله فيه، بل يجب إذا كان أحد الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسولُه، ويترك ما حرَّم الله ورسولُه، والآخر لا يفعل معه الواجب، أو يفعل معه الحرام= قُدِّمَ من يفعل الواجبَ ولو اختار الصبيُّ غيرَه، بل ذلك العاصي لا ولايةَ له عليه بحالٍ.
بل كلُّ من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولايةَ له، بل إمّا أن يُرفَع يدُه عن الولاية ويُقام من يفعل الواجب؛ وإمَّا أن يُضمَّ إليه من يقوم معه بالواجب. فإذا كان مع حصوله عند أحد الأبوين يَحصُل طاعةُ الله ورسوله لاحقُه، ومع حصوله عند الآخر لا يَحصُل له= قُدِّم الأوَّلُ قطعًا. وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يَحصُل بالرحم والنكاح والولاء، وإن كان الوارث حاضرًا وعاجزًا، بل هو من جنس الولاية ولاية النكاح والمال التي لابدَّ فيها من القدرة على الواجب وفعله بحسب الإمكان.
وإذا قُدِّر أن الأب تَزوَّج بضَرَّةٍ، وهو يتركُها عند ضرَّة أفها، لا تَعمل مصلحتَها بل تُؤذِيها أو تُقَصِّر في مصلحتها، وأمُّها تَعملُ مصلحتَها ولا تُؤذيها، فالحضانة هنا للأم قطعًا، ولو قُدِّر أن التخيير مشروع وأنها اختارت الأمَّ، فكيف إذا لم يكن كذلك؟
ومما ينبغي أن يُعلَم أن الشارع ليس له نصٌّ عام على تقديم أحد الأبوين مطلقًا، ولا تخيير أحد الأبوين مطلقًا. والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدُهما مطلقًا، بل مع العدوان والتفريط والفساد والضرر لا يُقدَّم من يكون كذلك على البَرِّ العادل المحسن القائمِ بالواجب.
(3/421)
وقد علَّلُوا أيضًا تقديم الأب بعلةٍ ثانية: بأنها إذا صارت مميزةً صارت ممن تُخطَب وتُزوَّج، واحتاجت إلى تجهيزها. فإذا كانت عند الأب كان أنظرَ لها وأحرصَ على تجهيزها وتزويجها مما إذا كانت عند الأم.
وأبو حنيفة يوافق أحمد على أن الأب أحق بها من الخالة والأخت والعمة وسائر النساء، بخلاف ما قاله في الصبي، فإنه جعل الأب أحقَّ به مطلقًا. لكن قال: الأمُّ والجدةُ أحق من الأب. فكلاهما قدَّم الأب وغيرَه من العصبة على النساء، لكن أحمد طردَ القياسَ، فقدَّمَه على جميع النساء، وأبو حنيفة فرَّق بين عمودِ النسب وغيرِه. والنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد قال: “الخالة أم” (1). فإذا قُدِّم الأبُ على النساء اللائي يُقدَّمن عليه في حالِ صغرِها دلَّ ذلك على أن الأب أقوم بمصلحة ابنته من النساء. وتبيَّن أن أصل هذا القول ليس في مفردات أحمد، بل هو طرد فيه قياسَه. وبكلِّ حالٍ فهو قولٌ قويٌّ متوجِّه، ليس بأضعفَ من غيرِه من الأقوال المقولة في الحضانة، وليس قول من رَجَّح الأمَّ مطلقًا بأقوى منه.
ومما يُقوِّي هذا القول أن الولد مطلقًا إذا تعيَّن أن يكون في مدينة أحد الأبوين دون الآخر، وكان الأب ساكنًا في مصير والأمُّ ساكنة في مصرٍ آخر، فالأب أحقُّ به مطلقًا، سواء كان ذاكرًا أو أنثى عند عامة العلماء، كشريح القاضي وكمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، حتى قالوا: إنّ الأب إذا أراد سفرَ نُقلةٍ لغير الضرار إلى مكانٍ بعيد فهو أحقُّ به، لأن كونه مع الأب أصلح له، لحفظِ نسبِه وكمالِ تربيته
__________
(1) أخرجه البخاري (2699، 4251) عن البراء بن عازب بلفظ: “الخالة بمنزلة الأم”.
(3/422)
وتعليمه وتأديبه، وأنه مع الأم تَضِيع مصلحتُه. ولا يُختر الغلامُ هنا عند أحدهما لا يخرج إلى الأحقّ، فالأب أيضًا أحق، لأن كونه عند الأب أصلحُ له. وهذا المعنى منتفٍ في الابن، لأنه يختر، ولأن تردُّدَ الابن بينهما لا مضرَّةَ عليه فيه، بخلاف البنت.
واتفقوا كلهم على أن الأم لو أرادتْ أن تسافرَ بالذكر أو الأنثى من المصر الذي فيه عُقِد النكاحُ فالأب أحق به، فلم يُرجِّح أحدٌ منهم الأمّ مطلقًا. فدلَّ ذلك على أن ترجيحها في حضانة الولد مطلقًا -ذكرًا كان أو أنثى- مخالفٌ لهذا الأصل الذي اتفقوا عليه. وعُلِمَ أنهم متفقون على ترجيح جانب الأب عند تعذُّر الجمع بينهما، وهذا ثابت في الولد وإن كان طفلًا يكون في بلد أبيه، بخلاف ما إذا كان الأبوان في مصرٍ واحدٍ، فهاهنا هو مع الصغر للأم، لأن في ذلك جمعًا بين المصلحتين.
ومما يُقوِّيْه أيضًا أن الغلام إذا بلغَ معتوهًا كانت حضانتُه للأم كالصغير، وإن كان عاقلًا كان أمره إلى نفسه، ليسكن حيث شاءَ إذا كان مأمونًا على نفسِه، عند الأئمة الأربعة وغيرهم. فإن كان غير مأمونٍ على نفسِه فلم يَجعَل أحدٌ الولايةَ عليه للأم، بل قالوا: للأب ضمُّه إليه وتأديبُه، والأب يمنعه من السلفة.
وأما الجارية إذا بلغت فنُقِل عن مالك: الوالد أحق بضمَّها إليه حتى تُزوَّج ويدخل بها الزوج، ثم هي أحقُّ بنفسها، وتسكن حيث شاءت، إلا أن يخاف منها هوى أو ضيعة أو سوء موضع، فيمنعها الأب بضمّها إليه.
وقد تقدَّم في “المدونة” (1): أن الأم أحق بها ما لم تنكح، وإن
__________
(1) 2/ 244.
(3/423)
بلغت أربعين سنة. وكذلك قال أبو حنيفة في البكر، قال: الأب أحقُّ بها مأمونةً كانت أو غير مأمونة، والثيِّبُ هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة. وقال الشافعي: هي أحقُّ بنفسها إذا كانت مأمونة، بكرًا كانت أو ثيِّبًا.
وفي مذهب أحمد ثلاثة أقوال ذكرها في “المحرر” (1) روايتين ووجهًا:
أحدها: أنها تكون عند الأب حتى تتزوَّج ويدخل بها الزوج. وهذا هو الذي نصره القاضي وغيرُه في كتبهم، وقالوا: إن الجارية إذا بلغت وكانت بكرًا فعليها أن تكون مع أبيها، حتى تتزوج ويدخل بها الزوج. ولم يذكروا فيه نزاعًا.
والرواية الثانية عن أحمد: تكون عند الأم. وهذه الرواية إنما أخذها الشيخ أبو البركات من الرواية المتقدمة أن حضانتها تكون للأم ما لم تتزوج، فإنه على هذه الرواية نَقل عن أحمد فيها روايتين، فإن أحمد قال في تلك الرواية: الأم والجدة أحقُّ بالجارية ما لم تتزوج. فجعلَها أحقَّ بها ما لم تتزوَّج في رواية مهنّا. وقال في رواية ابن منصور: يُقضَى بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحقُّ بها. فهنا قال عند الحاجة إلى التزويج للأب، وإن كانت لم تتزوج بعدُ، وهذا يكون بالبلوغ.
وأما القول الثالث في مذهبه وهو أنها إذا بلغت تكون حيث شاءت كالغلام، فهذا يجيء على قول من يُخيِّرها كما يُخيِّر الغلام. فمن خيَّر الغلام قبلَ بلوغه كان أمرُه بعد البلوغ إلى نفسه، كما قاله
__________
(1) 2/ 121.
(3/424)
الشافعي وأحمد وغيرهما. لكن أبو البركات حكى هذه الأقوال الثلاثة في “محرره” (1) في البالغة، وهي مطابقة للأقوال الثلاثة التي ذكرناها في غير البالغة، فإنه على المشهور عند أصحاب أحمد أنها إذا كانت قبل البلوغ عند الأب فهي بعد البلوغ أولى أن تكون عند الأب منها عند الأم، فإن أبا حنيفة وأحمد في رواية ومالكًا يجعلونها قبل البلوغ للأم، وبعد البلوغ جعلوها عند الأب. وهذا يدلُّ على أن الأب أحفظُ لها وأصونُ وأنظرُ في مصلحتها، فإذا كان كذلك فلا فرقَ بين ما قبل البلوغ وما بعده في ذلك.
فتبيَّن أن هذا القول -وهو جعلُ البنت المميزة عند الأب- أرجح من غيره. والله أعلم.
فصل
والتخيير قد جاء فيه حديثان. وأما تقديم الأمّ على الأب في حقّ الصغير فمتفقٌ عليه، وقد جاء فيه حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأةً قالت: يا رسولَ الله! إن ابني هذا كان بطني له وِعاءً، وحِجْري له حواءً، وثديي له سقاءً، وزعم أبوه أنه ينزعه مني، فقال: “أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي”. رواه أحمد (2) وأبو داود (3)، لكن في لفظه: “وأن أباه طلقني وزعمَ أنه ينتزعه مني”.
وقال ابن المنذر: أجمع كلُّ من يُحفَظ عنه من أهل العلم على أن الزوجين إذا افترقَا ولهما ولدٌ طفلٌ أن الأمّ أحقُّ به ما لم تنكح، وممن حفظنا عنه ذلك: يحيى الأنصاري والزهري ومالك والثوري
__________
(1) 2/ 121.
(2) 2/ 182، 203.
(3) برقم (2276).
(3/425)
والشافعي وأحمد وإسحاق، وبه نقول. وقد روينا عن أبي بكر الصديق أنه حكم على عمر به، وبصبيٍّ لعاصم لأمِّه أمِّ عاصم، وقال: حجرُها وريحُها ومَسُّها خيرٌ له منك حتى يَشِبَّ فيختار.
وأما التخيير: فعن أبي هريرة أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خيَّر غلامًا بين أبيه وأمِّه.
رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه (1)، ورواه أبو داود (2) وقال فيه: “إن امرأةً جاءت فقالت: يا رسولَ الله! إن زوجي يُريد أن يَذهَب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عِنَبَة، وقد نفعني. فقال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “اسْتَهِما عليه”. قال زوجُها: من يُحاقِقني في ولدي؟ فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “هذا أبوك وهذه أمك، فخُذْ بيد أيِّهما شِئتَ”. فأخذَ بيد أمّه، فانطلقت به. ورواه النسائي (3) كذلك، ولم يذكر “استهما عليه”. ورواه أحمد (4) كذلك أيضًا، لكنه قال فيه: “جاءت امرأة قد طلَّقها زوجُها”، ولم يذكر فيه قولها “قد سقاني ونفعني”.
وقد رُوِي تخييرُ الغلام بين أبويه عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة، فروى سعيد بن منصور وغيره (5) أن عمر بن الخطاب خيَّر غلامًا بين أبيه وأمه. وعن عمارة الجَرْمي أنه قال: خيَّرني عليٌّ بين عمِّي وأمِّي وكنتُ ابنَ سبعٍ أو ثمانٍ (6). ورُوِي نحو ذلك عن
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) برقم (2277).
(3) 6/ 185.
(4) 2/ 447.
(5) أخرجه الشافعي بإسناده كما في “السنن الكبرى” للبيهقي (8/ 4) و”زاد المعاد” (5/ 415).
(6) أخرجه الشافعي ومن طريقه البيهقي في “السنن الكبرى” (8/ 4)، وعبد الرزاق في “المصنّف” (12609).
(3/426)
أبي هريرة (1)، ولم يُعرَف لهم مخالفٌ، مع أنها في مظنة الاشتهار.
وأما الحديث الثاني فرواه عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن جدِّه أن جدَّه أسلمَ وأبتْ امرأتُه أن تُسلِم، فجاء بابنٍ له صغيرٍ لم يبلغ، قال: فأجلسَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الأبَ هاهنا والأُمَّ هاهنا، ثم خيَّره وقال: “اللهمَّ اهدِه”، فذهبَ إلى أبيه. هكذا رواه أحمد والنسائي (2).
ورواه أبو داود (3) عن عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني أبي عن جدّي رافع بن سِنَان أنه أسلم وأبتْ امرأتُه أن تُسلِم، فأتَتِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقالت: ابنتي وهي فَطيم أو شبيهه، وقال رافع: ابنتي. فقال له رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “اقعُدْ ناحيةً”، وقال لها: “اقعُدي ناحية”، وأَقْعَدَ الصبيةَ بينهما، ثم قال: “ادعُواها”، فمالتْ إلى أمّها، فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “اللهمَّ اهدِها”، فمالت إلى أبيها فأخذها.
وعبد الحميد هذا هو عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن رافع بن سنان الأنصاري. وهذا الحديث قد ضعفه بعضهم، فقال ابن المنذر: في إسناده مقال، وقال غيرُه: هذا الحديث لا يثبته أهلُ النقل، وقد رُوِيَ على غيرِ هذا الوجه، وقد اضطُرِب فيه هل كَان المخيَّر ذكرًا أم أنثى؟ ومن روى أنه كان أنثى قال فيه: “إنها فَطِيم” أي مفطومة. وفَعِيل بمعنى مفعول إذا كان صفةً يستوي فيه المذكر والمؤنث، يقال: عينٌ كَحِيل، وكفٌّ خضيب، فيقال للصغير “فطيم” وللصغيرة “فطيم”. ولفظ “الفطيم” إنما يُطلَق على قريب العهد بالفطم، فيكون له نحو ثلاث سنين، ومثل هذا لا يُخيَّر باتفاق العلماء.
__________
(1) رواه أبو خيثمة، كما نقل عنه ابن القيم في “الزاد” (5/ 416).
(2) سبق تخريجه في أول هذه الرسالة.
(3) برقم (2244).
(3/427)
وأيضًا فإنه خيَّر بين مسلمٍ وكافر، وهذا لا يجوز عند الأئمة الأربعة وغيرهم، فإن القائلين بالتخيير لا يُخيِّرون بين مسلم وكافر، كالشافعي وأحمد. وأما القائلون بأن الكافرة لها حضانة كأبي حنيفة وابن القاسم فلا يُخيِّرون. لكن أبو ثور يقول بالتخيير، فيما حكاه عنه ابن المنذر. والجمهور على أنه لا حضانة لكافر، وهو مذهب مالك والشافعي والبصريين كسوَّار وعبد الله بن الحسن.
وقال أبو حنيفة وأبو ثور وابن القاسم صاحب مالك: الذمية في ذلك كالمسلمة، وهي أحق بولدها من أبيه المسلم، وهو قول الإصطخري من أصحاب الشافعي. وقد قيَّد ذلك أبو حنيفة فقال: هي أحقّ بولدها ما لم يعقل الأديان، ويخاف أن يألف الكفر.
والأب إذا كان مسلما كان الولد مسلمًا باتفاقهم. وكذلك إن كانت الأم مسلمة عند الجمهور، كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة، فإنه يتبع عند الجمهور في الدنيا خيرَهما دينًا، وأما في النسب والولاء فهو يتبع الأب بالاتفاق، وفي الحرية أو الرقّ يتبع الأم بالاتفاق.
وقد حمل بعضهم هذا الحديث على أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – علم أنها تختار الأبَ بدعائه، فكان ذلك خاصًّا في حقّه.
وأيضًا فهذه القصة قضية في عين، والأشبه أنها كانت في أول زمن الهجرة، فإن الأب كان من الأنصار فأسلم، والأمّ لم تسلم. وفي آخر الأمر أسلم جميع نساء الأنصار، فلم يكن فيهم إلا مسلمة، حتى قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “اللهمّ اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولنساء الأنصار” (1).
__________
(1) أخرجه البخاري (4906) ومسلم (2507) عن أنس بن مالك.
(3/428)
ولمّا قدم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – المدينةَ لم يُكرِه أحدًا على الإسلام، ولا ضربَ الجزية على أحد، ولكن هادنَ اليهودَ مهادنةً. وأما الأنصار ففشا فيهم الإسلام، وكان فيهم من لم يُسلِم، بل كان مُظهِرًا لكفرِه، فلم يكونوا ملتزمين لحكم الإسلام. وكذلك كان عبد الله بن أبي بن سَلول وغيره قبل أن يُظهِروا الإسلام.
وقد ثبت في الصحيحين (1) من حديث أسامة أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ذهب يعود سعدَ بن عبادة، فمرَّ بمجلسٍ من الأنصار … الحديث. ففي، هذا الحديث وغيره من الأحاديث ما يبين أنهم كانوا قبل غزوة بدر متظاهرين بالكفر من غير إسلام ولا ذمة، فلم يكن الكفار ملتزمين لحكم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ التزامُ حكمِه إنما يكون بالإسلام أو بالعهد الذي التزموا فيه ذلك، ولم يكن المشركون كذلك. فلهذا لم يلزم المرأة بحكم الإسلام، بل دعا الله أن يهدي الصغيرَ، فاستجاب الله. ودعاؤه له أن يهديه دليلٌ على أنه كان طالبًا مريدًا لهداه، وهداه أن يكون عند المسلم لا عند الكافر. لكن لم يمكنه ذلك بالحكم الظاهر، لعدم دخول الكافرة تحت حكمه، فطلبه بدعائه المقبول. وهذا يدل على أنه متى أمكن أن يُجعَل مع المسلم لا يُجعَل مع الكافر.
وكان هذا حكم الله ورسوله بأهل الذمة الملتزمين جريانَ حكم الله ورسوله عليهم، يُحكَم بينهم بذلك. نعم لو كان النزاع بين من هو مسلم ومن هو من أهل الحرب والهدنة الذين لم يلتزموا جريانَ حكم الله ورسوله عليهم، فهنا لا يمكن الحكم فيهم بحكم الإسلام بدون رضاهم، فيسعى حينئذٍ في تغليب الإسلام بالدعاء كما فعل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ كان
__________
(1) البخاري (4566، 5663، 6207) ومسلم (1798).
(3/429)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، يسرُّني أن أقدِّم إلى القراء المجموعة الرابعة من “جامع المسائل”، التي تحتوي على مسائل وفتاوى كثيرة لم تُنشَر من قبل، ومعظمها مما كتبه شيخ الإسلام مدةَ إقامته في مصر في السنوات (705 – 712). وقد كانت الفتاوى المصرية جُمِعتْ بواسطة بعض تلاميذ الشيخ فبلغت ستةَ مجلدات أو سبعة. يقول ابن القيم في نونيته (1):
وكذاك أجوبة له مصريَّة … في ستّ أسفارٍ كُتِبْنَ سِمَانِ
ويذكر ابن رجب أن الفتاوى المصرية سبع مجلدات (2). أما ابن عبد الهادي (3) فلم يحدد عدد المجلدات، بل قال: “وقد جمع بعض أصحابه قطعة كبيرة من فتاويه الفروعية، وبوبَّها على أبواب الفقه في مجلدات كثيرة، تُعرَف بالفتاوى المصرية، سماها بعضهم الدرر المضية من فتاوى ابن تيمية”. وذكر بعض المترجمين له
__________
(1) “الكافية الشافية” (ص 164).
(2) “ذيل طبقات الحنابلة” (2/ 403).
(3) “العقود الدرية” (ص 38).
(4/5)
– مثل الصفدي (1) وابن شاكر (2) – أن بعض الناس جمع فتاويه بالديار المصرية مدة سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلدة.
ولعلّ هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف النسخ، فبعضها كانت في ستّة مجلدات، وأخرى في سبعة، وأخرى في ثلاثين جزءًا من الأجزاء الصغار. أو أن الثلاثين كانت تحتوي على الفتاوى التي أفتى بها في مصر وفي غيرها، فالمجلدات الستة أو السبعة كانت قسمًا من عامة مجلدات فتاواه التي جُمِعَتْ. ومما يؤيد هذا الرأي أن ابن القيم ذكر أن الأجوبة المصرية في ست أسفار، ثم ذكر بعد أبيات (3):
وكذا فتاواه، فأخبرني الذي … أضحَى عليها دائم الطَّوفان
بلغَ الذي ألفاه منها عدةَ الْـ … أيَّام من شهر بلا نقصان
سِفر يقابل كل يوم، والذي … قد فاتني منها بلا حُسْبَانِ
يَقصِد أن ما وُجِد من عامة فتاواه كان ثلاثين مجلدًا، أما ما لم يُوجَد منها أو لم يُجمَع بل تفرقَ في البلدان فهذا لا يُعدُّ ولا يُحصَى.
ومهما يكن من شيء فإن مجموعة الفتاوى المصرية للشيخ كانت مرتبةً على الأبواب، وكانت تسمى “الدرر المضية”. ومما يؤسف له أنها أصبحتْ شَذَرَ مَذَرَ، ولم تُوجد كاملةً حتى الآن،
__________
(1) “أعيان العصر” (1/ 245)؛ “الوافي بالوفيات” (7/ 29).
(2) “فوات الوفيات” (1/ 80).
(3) “الكافية الشافية” (ص 165).
(4/6)
وبعد البحث الشديد والتتبع الطويل في مكتبات المخطوطات وفهارسها وقفتُ على أربعة مجلدات منها، وبقي مجلدان أو ثلاثة لازلتُ في البحث عنها، ولعل الله يُيسِّر الحصولَ عليها في المستقبل.
وقد تَمَّ نَشْرُ كثيرٍ من الفتاوى المصرية المتفرقة ضمن بعض المجلدات من “مجموعة الفتاوى الكبرى” (طبعة مصر) و”مجموع الفتاوى” (طبعة الرياض)، ولكن دون تمييز بين الفتاوى المصرية وغير المصرية، ولا يمكن معرفتها إلا بالرجوع إلى الأصول أو مقابلتها مع “مختصر الفتاوى المصرية” للبعلي (ت 777)، وهو مطبوع، مرتَب على الأبواب كالأصل (1)، وفيه اختصار شديد للفتاوى، اقتصَر فيه المختصِر على النكت والفوائد والمسائل المستغربة من كلام الشيخ، واقتبسَ أحيانًا سطرًا أو سطرين أو أسطرًا قليلة من الفتاوى الطويلة. ومن أمثلة ذلك: الفتوى رقم (9) ضمن “مجموعة الفتاوى الكبرى” (1/ 8 – 23)، نجد منها في “المختصر” (ص 14 – 15) ستة أسطر فقط، والفتوى رقم (17) من “مجموعة الفتاوى الكبرى” (1/ 39 – 42)، اقتُبس منها في “المختصِر” (ص 27) نصفُ سطرٍ. وهكذا في كثير مَن الفتاوى والمسائل. ولذا أرى أن هذا المختصر وإن كان “فيه من الفوائد ما لم يوجد في غيره من المطولات” – كما قال الحافظ ابن حجر (2) – ونافعًا لمعرفة آراء
__________
(1) أخطأ ناشر “المختصر” فظن أن التبويب من البعلي!! والصواب أنه تابع الأصل في الاختصار والتهذيب.
(2) “الدرر الكامنة” (4/ 84)، وذكر أن البعلي سمَى هذا المختصر “السهيل”.
(4/7)
شيخ الإسلام في المسائل التي سُئِل عنها، فإنه لا يُغنِي عن الرجوع إلى أصل كلامه الذي أورد فيه الحجج، وناقش أصحاب الأقوال المرجوحة، وفصَّل القول في بعض المسائل، واستطرد إلى مباحث وفوائد أخرى مهمة، كما يظهر ذلك بالمقارنة بين الأصل والمختصر.
عثرت على مجلد من الأصل في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة ضمن مجموعة المكتبة المحمودية برقم [1402]، وهو الجزء الثاني منه، عدد أوراقه 207 ورقة. وقد كتب الناسخ في آخره: “وكان الفراغ من هذا الجزء الثاني من كتاب الدرر فتاوى الشيخ رحمه الله ورضي عنه على يد أبي بكر بن أحمد بن عبد الله ابن عبد الغني بن أبي بكر بن أبي القاسم البعلي – عفا الله عنه – في خامس شهر جمادى الآخر (كذا) سنة اثنتين وأربعين وسبعمئة ببعلبك”.
والنسخة بخط نسخي جيد، والأخطاء فيها قليلة، وهي مقابلة على الأصل المنسوخ منه كما يظهر من الدوائر المنقوطة ومن الإلحاقات والتصحيحات على هوامشها.
وهذا الجزء يحتوي على قسمٍ من باب الأدعية والأذكار، وباب الكسوف، وباب الاستسقاء، وباب الحكم في ترك الصلاة، وكتاب الجنائز. وعدد المسائل والفتاوى الموجودة فيه مئة مسألة. وقد أفردتُ منها تلك المسائل التي لم تُنشَر ضمن “مجموع الفتاوى”، فكان عددها 54 مسألة، بعضها طويلة جدًّا، مثل المسألة الأولى في شرح حديث أبي بكر “اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا … “، والمسألة الثانية والتسعين في إهداء الثواب إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد ورد
(4/8)
ذكر المسألتين في بعض المصادر القديمة، فقد ذكر الأولى ابن رشيق (1) بعنوان “شرح دعاء أبي بكر”، وابن عبد الهادي (2) بعنوان ” [شرح] حديث الدعاء الذي علَّمه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لأبي بكر الصديق “اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلما كثيرا””. والمسألة الأخرى ورد ذكرها بعنوان “رسالة في إهداء الثواب للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ” عند ابن رشيق (3). وهناك مسائل أخرى كثيرة في حكم تارك الصلاة وغير ذلك تُنشَر في هذه المجموعة لأول مرة.
ووجدتُ 13 مسألةً من الفتاوى المصرية ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم ٍ [3537] (الورقة 89 أ-97 ب) مكتوبة في سنة 756 بخط علي بن حسن بن محمد الحرانى كما هو مثبت في آخرها. فضممتُها إلى ما استخلصتُها من المجموعة السابقة.
أما المسائل الأخرى التي تلي الفتاوى المصرية في هذه المجموعة فهي مأخوذة من نسخةٍ حديثة الخط من فتاوى الشيخ، محفوظةٍ في المكتبة القادرية ببغداد برقم [491]، عدد أوراقها 193 ورقة، وهي بخط نسخي معتاد، كتبها محمد بن علي بن الملا أحمد سبته، وفرغ منها في 21 من شعبان سنة 1306. وهذه النسخة تحتوي على “مسائل وردت من الصلت” ومسائل أخرى لم تُنشر ضمن “مجموع الفتاوى”. وقد ذكر ابن عبد الهادي (4) “أجوبة
__________
(1) انظر “الجامع لسيرة شيخ الإسلام” (ص 249).
(2) “العقود الدرية” (ص 61).
(3) “الجامع” (ص 244).
(4) “العقود الدرية” (ص 57).
(4/9)
كثيرة عن مسائل وردت من الصلت”، وذكرها ابن رشيق (1) بعنوان “أجوبة مسائل الصلط”، وذكرها الصفدي وابن شاكر (2) بعنوان “جواب مسائل وردت من الصلت”. وكانت هذه المسائل في حكم المفقود، حتى وفقني الله للعثور عليها في هذه النسخة، فالحمد لله على ذلك.
وأجوبة هذه المسائل مختصرة موجزة في أسطرٍ قليلة، اقتصر فيها الشيخ على ذكر الحكم في المسألة دون الخوض في التفاصيل والحجج والمناقشات. أما المسائل الأخرى في المجموع فهي على أسلوبه المعروف في الاستطراد والتفصيل، وبعد مقابلتها على “مجموع الفتاوى” حصلتُ على قدرٍ لا بأس به من المسائل التي لم تُنشَر ضمنَه، فأدخلتُها في هذه المجموعة الرابعة.
والرسالة الأخيرة هنا كانت مجهولة العنوان والمؤلف ضمن مجموع من مجاميع المدرسة العمرية الموجودة في دار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع 91]، (الورقة 137 – 146)، وهذا المجموع يحتوي على كثير من رسائل شيخ الإسلام، وبعضها بخطه. وقد تأملتُ في هذه الرسالة فوجدتها مضطربةً في الترتيب، وينبغي أن يكون ترتيب أوراقها كما يلي: (146، 138 – 145، 137). والرسالة بخط نسخي جيد، وقد كُتِب في أعلى الورقة (137/أ) بيد بعض المفهرسين “الكلام في الصفات”، ولما قرأتُ
__________
(1) “الجامع” (ص 245).
(2) المصدر السابق (ص 295،318،332).
(4/10)
فيها بعد ترتيب أوراقها وجدتُها في الرد على بعض أتباع سعد الدين ابن حمويه (ت 652)، ناقش فيها بعض آرائه في التصوف ووحدة الوجود، وبيَّن مصادرها، وانتقدها في ضوء الكتاب والسنة.
وقد ذكر شيخُ الإسلام ابنَ حمويه في بعض مؤلفاته (1) وردَّ عليه، ولم أجد من أشار إلى مؤلَّفٍ له في هذا الموضوع، وعلى هذا فتكون لهذه الرسالة قيمة كبيرة، وتُضاف إلى جملةِ مؤلفاته في الرد على القائلين بوحدة الوجود (ابن عربي وأمثاله).
وقد بعث المؤلف هذه الرسالة إلى أحد أتباع سعد الدين بن حمويه، ولم أتمكن من تحديد اسمه لكونها ناقصة الأول والآخر في هذه النسخة التي وصلت إلينا، والتي تبدأ بأثناء نصٍّ مقتبس من كلام الشخص المذكور وتعليقِ المؤلف عليه، وكُتب في آخرها: “بياض كبير”. وهذا يدل على أن الأصل المنسوخ عنه كان ناقصًا من آخره. ولم أجد نسخة أخرى من هذه الرسالة تكمِل النقص، فأبقيتُها كما هي حفاظًا على الموجود منها لِيُستفاد.
وفي الختام أحمد الله على توفيقه لإخراج هذه المجموعة، وأدعوه أن يجعلها نافعة للباحثين وطلاب العلم، وأرجو منهم أن لا ينسوني في دعواتهم الصالحة. والحمد لله أولاً وآخرًا، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
محمد عزير شمس
__________
(1) انظر “الصفدية” (1/ 248) وهذه المجموعة (ص 66).
(4/11)
– نماذج من الأصول الخطية
(4/13)
مسائل من الفتاوى المصرية
(4/21)
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة
في شرح الحديثِ الذي ذكره الحكيم الترمذي في “نوادر الأصول” عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسولَ الله! عَلِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال: قل: “اللهمَّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يَغفر الذنوبَ إلاّ أنتَ، فاغفِرْ لي مغفرةً من عندك وارْحَمْني، إنك أنتَ الغفور الرحيم” (1).
شرحَه الحكيم فقال (2): هذا عبدٌ اعترفَ بالظلم، ثم التجأَ إِليه مُضطرًّا، لا يجدُ لذنبه ساترًا غيرَه، ثم سألَه مغفرةً من عنده.
والأشياءُ كلُّها من عندِه، ولكن أراد شيئًا مخصوصًا ليس مما بَذَلَه للعَامَّةِ، فلله تعالى رحمة قد عَمَّتِ الخلقَ بَرَّهم وفاجرَهم، سعيدَهم وشقيَّهم، في أرزاقِهم ومعايشهم وأحوالِهم؛ ثم له رحمةٌ خَصَّ بها المؤمنين، وهي رحمة الإيمان، ثم له رحمةٌ خصَّ بها المتقين، وهي رحمةُ الطاعةِ للهِ تعالى؛ وللهِ رحمةٌ خصَّ بها الأولياءَ نالوا بها الولايةَ، وله رحمةٌ خصَّ بها الأنبياءَ نالوا بها النبوةَ. ولما ذكرَ في
__________
(1) أخرجه البخاري (834،6326،7388) ومسلم (2705).
(2) “نوادر الأصول” (ص 232).
(4/23)
تنزيلِه الأنبياءَ قال: (وَوَهبنا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا) (1). وقال الراسخون في العلم: (وَهَبْ لَنَا مِن لًدُنكَ رَحمَةً) (2). فإنما سألوه رحمةً من عنده.
فهذا صورةُ ما شرحَه الحكيم الترمذي، ولم يذكر صفةَ الظلم وأنواعه كما ذكر صفات الرحمة.
والمسئولُ شرحُ ما مفهومُ قولِ الصدّيقِ “ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا”؟ والذنبُ بين يَدَي الله تعالى لا يحتمل المجازَ، والصدّيقُ من أئمة السابقين، والرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أمرَه بذلك، فسيِّدي بسط القول في ذلك مما يفهمه السائلُ، وما هو الظلم الذي نَسَبَه الصديقُ إلى نفسه كما عَلَّمه النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
أجاب
الحمد دلله. الدعاءُ الذي فيه اعترافُ العبدِ بظلمِ نفسِه ليس من خصائص الصدِّيقين ومَن دُونَهم، بل هو من الأدعية التي يدعو بها الأنبياءُ وهم أفضلُ الخلق، قال الله تعالى عن آدمَ وحَوَّاءَ: (قَالَا ربنا ظَلمنَاَ أَنفسَنَا وَإِن لَم تَغفِر لنا وَترحمنا لَنَكونَنَّ مِنَ اَلخَاسِرينَ (23)) (3)، وقال موسى عليه السلام: (رَب إِنِّى ظَلَمتُ نَفسِى فَاَغفِر لىِ فَغَفَرَ لَهُ إِنه هُو
__________
َ
(1) سورة مريم: 50.
(2) سورة آل عمران: 8.
(3) سورة الأعراف: 23.
(4/24)
اَلْغَفُوُر الرحيم (16)) (1)، وقد دَعَا غيرُهم بنحو هذا الدعاء، كقول الخليل عليه السلام: (رَبنا اَغْفِرْلِى وَلولِدَىَّ وَلِلْمُؤمِنِينَ يَوم يَقُوم اَلْحِسَابُ (41)) (2)،
وقال: (وَاَلَذِىَ أَطمَعُ أَن يَغفِرَ لِى خطيئتِى يوم اَلدِين (82)) (3)، وقال هو وإسماعيل: (رَبنَا تَقَبًل مِنَّا إِنكَ أَنتَ اَلسَمِيعُ العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلينَا إِنكَ أَنت التَوابُ اَلرحيم (128)) (4)، وقال موسى عليه السلام: (أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرينَ (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنَّا هدنا إليك) (5)، وقال نوح عليه السلام: (رَب أنى أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين (47)) (6)، وقال يونس: (لا إله إِلَّاَ أنتَ سُبْحانكِّ إنى كنت من الظالمين (87)) (7).
وقد ثبت في الصحيح (8) من حديث علي عليه السلام عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: “اللهم أنتَ الملكُ لا إله إلا أنتَ، أنتَ ربّي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، وَاهْدِني لأحسن
__________
(1) سورة القصص: 16.
(2) سورة إبراهيم: 41.
(3) سورة الشعراء: 82.
(4) سورة البقرة: 127 – 128.
(5) سورة الأعراف: 155 – 156.
(6) سورة هود: 47.
(7) سورة الأنبياء: 87.
(8) مسلم (771).
(4/25)
الأخلاق، فإنه لا يَهدي لأحسنِها إلاَ أنتَ، واصرِفْ عنّي سَيّئَهَا، فإنه لا يَصْرِف عنّي سَيئَها إلا أنتَ، لَبيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخيرُ كلُّه بِيدَيْكَ، والشرُّ ليس إليك، أنَا بك وإليك، أَستغفرك وأتوبُ إليك”. وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه كان يقول في سجوده: “اللهمَّ اغفرْ لي ذنبي كلَّه، دِقَّهُ وجِلَّهُ، وعَلانيتَه وسِرَّه، وأوله وآخرَه”.
وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه كان يقول بينَ التكبير والقراءة: “اللهمَّ بَاعِدْ (3) بيني وبين خطايايَ كما باعدتَ بينَ المشرقِ والمغرب، اللهمَّ نَقِّنِيْ منَ الخطايا كما يُنَقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، اللهمَّ اغسِلْنِيْ من خطايايَ بالماءِ والثلج والبَرَدِ”.
وثبتَ أيضًا في صحيح مسلم (4) أنه كان يقول نحو هذا الدعاء إذا رفعَ رأسَه من الركوع بعد التسميع والتحميد، وبعدَ أن يقولَ: “أهلَ الثناءِ والمجدِ أحقُّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبد، لا مانعَ لما أعطيتَ ولا مُعطِيَ لما منعتَ، ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ” (5).
__________
(1) مسلم (483) عن أبي هريرة.
(2) البخاري (744) ومسلم (598) عن أبي هريرة.
(3) في الأصل “بعد”، وهو خلاف الرواية.
(4) برقم (476) عن عبد الله بن أبي أوفى.
(5) ليس هذا ضمن الحديث السابق، بل رواه مسلم (477) عن آبي سعيد الخدري، و (478) عن ابن عباس.
(4/26)
وثبت عنه في الصحيحين (1) عن أبي موسى أنه كان يقول في دعائه: “اللهمَّ اغفِرْ لي خطيئتي وجهلي، وإسْرَافي في أمري، وما أنت أعلمُ به منّي، اللهمَّ اغفِرْ لي هَزْلي وجدِّي وخَطَأي وعَمْدِي، وكل ذلك عندي، اللهمَّ اغفِرْ لي ما قَدمتُ وَما أَخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ وما أنت أعلمُ به مني، أنتَ المقدِّمُ وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شيء قدير”.
وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه كان يقول في دعائه بالليل: “اللهمَ لك الحمدُ أنت رب السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، ولك الحمدُ أنت نورُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، ولك الحمدُ أنت قَيُّومُ السمواتِ والأرضِ ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحقُّ، ووعدك الحقُّ، ولِقاؤُك حقٌّ، والجنةُ حق، والنار حقّ، والنبيون حقّ، ومحمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حقّ، اللهم لك أَسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أَنَبْتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ. اللهمَّ اغفِر لي ما قَدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي لا إلهَ إلاّ أنتَ”.
وثبت عنه في الصحيح (3) عن عائشة أنه كان يقول في ركوعه وسجوده: “سبحانكَ اللهمَّ ربَّنا وبحمدِك اللهمَّ اغْفِر لي” يَتأوَّلُ القرآنَ، أي يَمتثِلُ ما أُمِرَ به في قوله: (فَسَبِّح بِحمد ربك وَاَستَغفِرهُ
__________
(1) البخاري (6398،6399) ومسلم (2719).
(2) البخاري (1120 ومواضع أخرى) ومسلم (769) عن ابن عباس.
(3) البخاري (794 ومواضع أخرى) ومسلم (484).
(4/27)
إِنَّه كانَ تَوابا (3)) (1). كما امتثل بتلك الأدعية ما أمره في قوله: (فَاَصبِر إِنَّ وَعد اللهِ حَقٌّ وَاستَغفِر لِذنبك وسبح بحمدِ رَبِّكَ بِالعَشىّ وَالإبكار (55)) (2)، (فأعلم أَنَهُ لَاَ إِلَهَ إلا اللهُ وَاَستَغفِر لِذَنبك وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمؤمِنات) (3).
وهذا الدعاء الذي ذكرته عائشة بعد نزول قوله: (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأَخرَ) (4)، فإنه قد ثبت في الصحيح (5) أن سورة “إذا جاء نصر الله والفتح” آخر سورةٍ أُنزلتْ. وأيضًا فأبو موسى الأشعري وأبو هريرة إنما صَحِبَاه بعد نزول قوله: (لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأَخَرَ)، فإن هذه الآية قد ثبت في الصحيح (6) أنها نزلتْ عامَ الحديبية لما بايعَه الصحابةُ بيعةَ الرضوان تحت الشجرة وانصرفَ، وقد خالط أصحابَه كآبةٌ وحُزنٌ لرجوعهم، ولم يتِمُّوا العمرةَ التي خرجوا لها، وقد صالحوا المشركين، لما أن في ظاهره غَضاضةً عليهم، حتى كرهَه كثيرٌ منهم، وجَرتْ فيه فصولٌ، فأنزل الله سورةَ الفتح بنُصرتِه من الحديبية، وهو في الطريق قبلَ وصولهِ إلى المدينة، ثم إنه تَجهَّزَ من المدينةِ لفتح خيبر، وفي أواخر غَزاةِ
__________
(1) سورة النصر: 3.
(2) سورة غافر: 55.
(3) سورة محمد: 19.
(4) سورة الفتح: 2.
(5) لم يروه البخاري ومسلم، وقد أخرجه النسائي والطبراني عن ابن عباس كما في تفسير ابن كثير (4/ 600،601).
(6) مسلم (1786) عن أنس.
(4/28)
خيبر قَدِمَ عليه أبو موسى والأشعريون، وفي تلك المدة أسلم أبو هريرة. ولما أنزلَ اللهُ عليه هذه الآية (لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأخَّرَ) قال له الناسِ: يا رسولَ الله! هذا لك، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى (هُوَ الذي أَنزلَ اَلسكينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزدَادواْ إِيمُانا مع إيمانهم) (1).
وفي هذا ردٌّ على طائفةٍ من الناس – كبعض المصنِّفين في السِّيَر وفي مسألة العصمة – يقولون في قوله (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذَنبك): وهو ذنبُ آدم، (وَمَا تَأَخرَ) ذنبُ أمتِه، فإن هذا القولَ وإن كان لم يَقُلْه أحدٌ من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين، ولا يقولُه من يَعقِلُ ما يقول، فقد قاله طائفة من المتأخرين (2)، ويَظُنُّ بعضُ الجهال أن هذا معنى شريف، وهو كذب على الله وتحريفُ الكَلِم عن مواضعه، فإنه قد ثبت في الصحاح (3) في أحاديث الشفاعة أن الناسَ يومَ القيامة يأتون آدمَ يَطلبون منه الشفاعةَ، فيعتذِرُ إليهم ويقول: إني نُهِيْتُ عن الشجرة فأكلتُ منها، نفسي نفسي، ويأتون نبيًّا بعد نبي إلى أن يَأتوا المسيحَ، فيقول: ائْتُوا محمدًا فإنه عبد قد غفرَ اللهُ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فلو كانت “ما تقدم” هو ذنب آدم لم يعتذر آدم.
__________
(1) سورة الفتح: 4.
(2) حكاه المفسرون عن عطاء الخرساني، انظر تفسير البغوي (4/ 300) و”المحرر الوجيز” (15/ 88) والقرطبي (16/ 263) والخازن (6/ 157).
(3) البخاري (4712 ومواضع أخرى) ومسلم (194) عن أبي هريرة.
(4/29)
وأيضًا فلما نزلتِ الآية قالت الصحابةُ: هذا لكَ فما لنا؟ فأنزل الله: (هُوَ اَلَّذِي أَنزَلَ السكينَةَ في قُلُوبِ اَلمُؤْمِنِينَ)، فلو كان “ما تأخر” مغفرة ذنوبهم لقال: هذه لكم.
وأيضًا فقد قال تعالى: (وَاَستَغْفِر لِذَنبِك وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمؤمناتِ) (1)، ففرَّقَ بين ما أضاف إليه وما يُضاف إلى المؤمنين والمؤمنات.
وأيضًا فإضافةُ ذنبِ غيره إليه أمرٌ لا يَصْلُح في حق آحادِ الناس، فكيف في حقَه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ حتى تُضَاف ذنوبُ الفُسَّاق من أمته إليه، ويُجعلَ ما جعلوه (2) من الكبائر – كالزنا والسرقة وشرب الخمر – ذَنْبًا له – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والله يقول في كتابه: (وَلَا تزِرُ وَازِرَةٌ وزرَ أخُرَى) (3)، ويقول في كتابه: (وَمَن يَعمَل مِنَ الصّالحاَتِ وَهُوَ مُؤمِن فَلَا يَخَافُ ظُلما ولَا هَضمًا (112)) (4)، قالوا (5): الظلم أن تُحْمَل عليه سيئات غيرِه، والهَضْم أن يُنْقَصَ هو من حسناتِه، وهو أفضلُ من عَمِلَ من الصالحات وهو مؤمن، فكيف تُحْمَلُ عليه سيئاتُ غيرِه وتُضَافُ إليه؟ وأيُ فرقٍ بين ذنبِ آدمَ وذنب نوح والخليل وكلُّهم آباؤه؟ وأيُّ فرق بين ذنب الإنسان وذنب غيرِه (6) حتى يُضاف إليه هذا دونَ هذا؟ والله يقول: (أَم لَم يُنبّأ بما في
__________
(1) سورة محمد: 19.
(2) كذا في الأصل، ولعلّ الصواب “فعلوه” كما يظهر من السياق.
(3) سورة الأنعام: 164، سورة الإسراء: 15، سورة فاطر: 18، سورة الزمر: 7.
(4) سورة طه: 112.
(5) انظر تفسير الطبري (16/ 159) و”الدر المنثور” (5/ 601).
(6) في الأصل: “غيرانه”.
(4/30)
صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38)) (1) والنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول لرجل معه ابنه: “لا يَجْنِي عليك ولا تَجْنِي عليه” (2).
وأيضًا فقد قال الله في غيرِ موضع في القرآن (3) إنه ليس عليه إلاّ البلاغُ المبين، وقال: (فَإِن تَوَلواْ فَإِنَّمَا عَلَيهِ مَا حمُلَ وَعَلَيكم مَّا حُمِّلتُم) (4). فإذا كان على أمتِه ما حُمِّلُوا وهو ليس عليه إلا البلاغ المبين كيف تكونُ ذنوبُ أمته ذنوبَه؟ ومثل هذا القول لا يخفى فسادُه على من له أدنى تدبُّرٍ، وإن كان قالَه طوائفُ من المصنِّفين في العصمة، حتى يَرَى ذلك بعضُ مَن له في السنة والفقه والحديث قَدَمٌ، لكن الغُلوَّ أوجبَ اتباعَ الجهال الضُلاَّل، فإنّ مثلَ هذه التفاسير إنما يَصْدُر في الابتداء عن أهل التحريف لكتاب الله: إما من الزنادقة المنافقين، وإمّا من المبتدعة الضالّين.
وأولُ من دخلَ في الغُلوّ من أهل الأهواء هم الرافضة، فإنهم لما ادَّعَوا في علي وغيرِه أنهم معصومون حتى من الخطأ احتاجوا أن يثبِتوا ذلك للأنبياء بطريقِ الأولى والأحْرى، ولما نزَهُوا عليًّا ومن هو دون علي من أن يكون له ذنبٌ يُسْتَغفَر منه كان تنزيهُهم
__________
(1) سورة النجم: 36 – 38.
(2) أخرجه أحمد (4/ 344،345،5/ 81) وابن ماجه (2671) عن الخشخاش العنبري. وصححه الألباني في “الصحيحة” (990).
(3) أولها سورة المائدة: 92، وقبلَها في سورة آل عمران: 20 (وَإن تَوَلًوا فَإِنَّمَا عَلَيك البَلَاغ).
(4) سورة النور: 54.
(4/31)
للرسلِ أولى وأَحْرى.
ثم جاءت القرامطةُ الزنادقةُ المنتسبون إلى الشيعة لمَّا ادَّعَوا عصمةَ أئمتِهم الإِسماعيليةِ العبيديةِ القرامطةِ الباطنيةِ الفلاسفةِ الدهريةِ صاروا يقولون: إنهم معصومون يعلمون الغُيُوب، وصار مَن صار منهم يَعبدُهم ويَعتقد فيهم الإلهيةَ، كما كانت الغاليةُ تَعتقدُ في عليّ وغيرِه الإلهيةَ أو النبوةَ.
وأما الإمامية الاثنا عشرية الذين لا يقولون بإمامة إسماعيل بن جعفر بل بإمامة موسى بن جعفر، فهم [و] إن كانوا لا يقولون بإلهيةِ عليّ ولا نبوَّتِه، فهم يقولون بالعصمة حتى في المنتظر الذي دخلَ في سِردابِ سَامَرَّاءَ سنةَ ستين ومائتين وهو طفلٌ غير مميِّز، قيل: كان له سنتان، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: خمس. ويقولون: إنه إمام معصوم لا يجوزُ عليه الخطأُ، ويقولون: إنّ الإيمانَ لا يَتِمُّ إلاّ به، ومن لم يؤمن به فهو كافر. وقد عَلِمَ أهلُ العلم بالأنساب أنَّ (1) الحسن بن علي العسكري أباه لم يكن له نسل ولا عَقِبٌ، ولو كان له ولد صغير لكان تحتَ الحَجْر على ماله، وأن يَحضنَه من يستحقُّ الحَضَانَةَ، فلا يكون له ولاية لا على نفسه ولا على مالِه حتى يَبْلُغَ ويُؤنَسَ منه الرُّشدُ، فحينئذ يُسَلَّمُ إليه مالُه، فكيف يكون لمثل هذا ولاية على المسلمين؟ فضلاً عن أن يكون معصومًا، فضلا عن أن يكون اتّباعُه ركنًا في الإيمان.
__________
(1) في الأصل: “ابن” تحريف.
(4/32)
ثم لما صار مثلُ هذا يُدَّعَى ادَّعَى ابنُ التومَرْتِ صاحبُ “المُرشِدة” أنه المهدي الذي بَشَّر به النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقال في الخطبة له: “المهدي المعلوم” و”الإمام المعصوم” حتى رُفِعَ ذلك.
وصار من الغلاة في مشايخهم يعتقد أحدُهم في شيخه نحوَ ذلك، فإمّا أن يقول: هو معصوم، أو يقول: هو محفوظ، والمعنى عنده واحد، وإمّا أن يُنكِر ذلك بلسانِه ولكن يُعامله معاملةَ المعصوم.
فهؤلاء إذا كان أحدهم يعتقد في بعض الرجال المؤمنين أنهم معصومون من الذنوب بل ومن الخطأ، كيف لا يعتقدون ذلك في الأنبياء؟ فغُلوُّهم فيمن غَلوا فيه من أئمتِهم أهلِ المشيخةِ أو النسبِ يُوجب عليهم أن يَغْلُوا في الأنبياء بطريقِ الأولى، فإن كان من المسلمين اعتقدوا أن الأنبياء أفضلُ منهم، وإن كانوا ممن يَعتقد في الشيخ والإمام أنه أفضل من النبي – كما يقول ذلك المتفلسفةُ والشيعةُ وغلاةُ المتصوفةِ الاتحاديةِ وغيرِ الاتحادية – فهم لابدَّ أن يُقِرُّوا الغُلُوَّ في الأنبياء حتى تُوافِقَهم الناسُ على الغُلُوَ في أئمتِهم.
وهذا كلُه من شُعَب النصرانية الذين وَصفَهم الله بالغلو في القرآن، وذمَّهم عليه ونهَاهم فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لله وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
(4/33)
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)) (1) الآية، وقال تعالى: (يأهلَ اَلكتاب لَا تَغلُواْ في دِينكم غير الحق و َلَا تَتبِعُوَاْ أَهواء قوم قد ضَلواْ مِن قَبلُ وَأَضلُواْ كثيرا وَضَلُواْ عَن سَواء السَّبِيلِ (77)) (2).
وقد ثبت عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لا تُطْرُوني كما أَطْرَتِ النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله” (3). وقال: “إيّاكم والغُلوَّ في الدين، فإنما أهلكَ مَن كان قبلكم الغُلُوُّ في الدين” (4). وهذا قال لهم بسبب رَمْي الجمارِ لئلاَّ يَغْلُوا فيها، فكيف فيما هو أعظم من ذلك؟ وهؤلاء أهلُ الغلوِّ النصارى ومن شابَهَهم من هذه الأمة في الغلوّ – كما ثبتَ عنه في الصحيحين (5) أنه قال: “لَتَركَبُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّةِ، حتى لو دَخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخلتُموه” – هم قَصَدوا تعظيمَ الأَنبياء والصالحين بالغُلوّ فيهم، فوقعوا في تكذيبهم وبُغضِهم ما جاءوا به، فإنّ المسيح قال للنصارى كما أخبر الله عنه أنه قال: (مَا قلتُ لهم إلا مَاَ أَمرَتَني بِهِ أَنِ اَعبُدُواَْ اللهَ رَبِى وَربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقِيبَ عَلَيهِم وَأَنت على كل شئ شَهِيد (117)) (6) وقال المسيح: (إِني عَبدُ
__________
(1) سورة النساء: 171 – 172.
(2) سورة المائدة: 77.
(3) أخرجه البخاري (3445،6830) عن عمر بن الخطاب.
(4) أخرجه أحمد (1/ 215،347) والنسائي (5/ 268،269) وابن ماجه (3029) عن ابن عباس. وصححه النووي في “المجموع” (8/ 171) والألباني في “الصحيحة” (1283).
(5) البخاري (3456،7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري.
(6) سورة المائدة: 117.
(4/34)
الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا (30)) (1). والغُلاةُ فيه كذَّبوه وعَصَوه، فقالوا: ما هو عبدَ الله بل هو الله، وأشركوا به الشركَ الذي نهاهم عنه.
وكذلك الغاليةُ في عليّ وفي غيرهم (2) من أهل العلم والإيمان، وعليٌّ عليه السلام يقول: “لا أوْتَى بأحدٍ يُفَضلُني على أبي بكرِ وعُمَرَ إلا جَلَدتُه حد المفتري” (3). وحرَّقَ الغاليةَ فيه بالنار، ويقول ما نُقِلَ عنه من نحو ثمانين وجهًا: “خيرُ هذه الأمةِ بعدَ نبيها أبو بكر ثم عمر” (4)، ويَذكُر ذلك لابنِه محمد بن الحنفية كما رواه البخاري في الصحيح (5) عنه، والشيعةُ تكذبُه وتُخالِفُه.
فهم معه كالنصارى مع المسيح واليهودِ مع موسى. وكذلك (6) أَتباعُ الشيوخِ الصالحين المهتدين يَضِلُّون فيهم، ويتركون اتّباعَهم على الطريقة التي يُحِبها اللهُ ورسوله.
وهذا بابٌ دخلَ فيه الشيطانُ على خلق كثير فأضلَّهم، حتى يجعل أحدُهم قولَ الحق تنَقُّصًا له، فإذا قيل للنصارى في المسيح:
__________
(1) سورة مريم:30.
(2) كذا في الأصل، والأولى “غيره”.
(3) أخرجه أحمد في “فضائل الصحابة” (1/ 83). وانظر “منهاج السنة” (1/ 308،6/ 138).
(4) انظر: “منهاج السنة” (1/ 308) وذكر بعضها في هامشه (1/ 12).
(5) برقم (3671).
(6) في الأصل: “وأولئك”، والتصويب من “مختصر الفتاوى المصرية” (ص 106).
(4/35)
(مَّا اَلَمسيحُ ابن مَريَمَ إِلا رَسُول قَدْ خَلَتْ مِن قبلِهِ اَلرسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (1) قالوا: هذا تنقيصٌ بالمسيح وسوءُ أدبٍ معه، وهم مع هذا يَشتُمون الله ويَسُبونه مَسَبَّةً ما سَبَّهُ إياها أحدٌ من البشر، كما كان معاذ بن جبل يقول في النصارى: “لا تَرحموهم، فلقد سَبُّوا الله مَسَبَّةً ما سَبَّه إياها أحدٌ من البشر”.
وفي الصحيح (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “يقول الله تعالى: “شَتَمَنِيْ ابنُ آدمَ وما يَنبغي له ذلك، وكَذَّبَني ابنُ آدم وما ينبغي له ذلك، فأما شتْمُه إيّايَ فقوله إن لي ولدًا، وأنا الأحدُ الصمدُ الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأما تكذيبُه إيّايَ فقوله لن يُعِيْدَني كما بدأني، أَوَليس أَوَّلُ الخلقِ بأهونَ عليَّ من إعادتِه؟ “.
وهؤلاء الغاليةُ يَجمعُون بين شتم الربّ وتكذيبه، وهكذا الغالية المنتسبون إلى هذه الأمّة تجدُ أحدَهم يَغلُو في قُدوتِه، حتى يكرهُ أن يُوصَفَ بما هو فيه، ويُقالَ عليه الحقُّ، وهو مع هذا يقول في الله العظائمَ التي ما قالتْها فيه لا اليهودُ ولا النصارى، حتى يقول: إن الله موصوفٌ بكل ذَم وكل عيب كما هو موصوفٌ بكل حمدٍ وكل مدحٍ، وإنه هو إبليس وفرعون والأصنام، كما قالته النصارى في المسيح، والله سبحانَه عابَ على المشركين ما هو دون هذا، حيثُ قال: (وَجعلَوا للهِ مِمَا ذَرَأ َمِن الحرث والأَنعَام نَصِيبا فَقَالواْ هَذا لله بِزَعمِهِم وَهَذَا لِشرَكائنا فَمَا كانَ لشركائهم فَلَا
__________
(1) سورة المائدة: 75.
(2) البخاري (3193،4974،4975) عن أبي هريرة.
(4/36)
يَصِلُ إلى اللهِ وَما كانَ للهِ فَهُو يَصلُ إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136)) (1)،وقال: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدوا بِغَيرِ عِلم) (2).
وهؤلاء يرِيدون أن يُقالَ في أئمتِهم الحقُّ، ويقولون على الله الباطلَ، ويَرضوْن بأن يُسَبَّ الله ويُشْتَم، ولا يَرضَوْن بأن يُسَبَّ متبوعُ أحدِهم على ما افتراه على الله ورسوله، بل لا يَرضَون أن يُقال فيه الحقُّ أو أن يُضافَ إليه خطأٌ جائزٌ عليه وواقعٌ منه. وقال تعالى حكايةً عن الخليل عليه السلام: (وَكيفَ أَخَافُ مَاَ أشرَكتم وَلَا تَخَافُونَ أَنّكم أَشْرَكتُم بالله ما لَمْ ينُزل بِهِ عليكم سلطانا فأي الفريقين أَحَقُّ بالأَمن إِن كنُتم تعلَمون (81)) (3). قال تعالى: (الَذِينَ أمَنُواْ وَلَم يَلبِسُوَا إِيمَانَهُم بِظلم أُوْلئكَ لَهُمُ الأمنُ وَهُم مهْتَدُونَ (82)) (4).
كان المشركون يُخوَفون المؤمنين بآلِهَتِهم، ويقولون: إنكم إذا لم تتخذوها شُركاءَ وشُفعاءَ فإنها تَضرُكم، فأنكر الخليلُ عليه السلام وقِال: (وَكيفَ أَخَافُ مَا أَشرَكتُم وَلَا تَخَافُون أَنكّم أَشرَكتُم بالله مَا لم ينزِل بِهِ عَلَيكمْ سُلطانا)، أي كيف أخاف ما تدعونه من دون الله؟ وهو لا يَضرُّ ولا ينفع إلا بإذن الله، وأنتم لا تخافون اللهَ حيثُ أشركتم به فجعلتم له أندادًا، فأَعدلْتموهم به، تَدعُون من دونه
__________
(1) سورة الأنعام: 136.
(2) سورة الأنعام: 108.
(3) سورة الأنعام: 81.
(4) سورة الأنعام: 82.
(4/37)
وتخافونَهم وترجونهم، وهو لم يُنزل بذلك عليكم سلطانًا، وهو الكتاب المنزَّل من السماء، (فأيُّ اَلفَرِيقَين أَحق بالأَمنِ إِن كنُتم تَعلَمُون (81)).
وفي الصحيحين (1) عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية (الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقالوا: أَيُّنَا لم يَظْلِمْ نفسَه؟ فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح (إِنَّ الشركَ لَظلم عظيم (13)) (2) “.
وهذا بابٌ يَطول وصفُه، وإنما المقصود التنبيهُ عليه.
إذا عُرِفَ هذا فقد اتفقَ سلفُ الأمة وأئمتُها وجميعُ الطوائف الذين لهم قولٌ يُعتَبر أنَّ من سِوَى الأنبياءِ ليس بمعصوم، لا من الخطأ ولا من الذنوب، سواء كان صدِّيقًا أو لم يكن، ولا فرقَ بين أن يقول: هو معصوم من ذلك، أو محفوظٌ من ذلك، أو ممنوعٌ من ذلك.
قال الأئمة: كلُّ أحدٍ يُؤخَذ من قوله وْيترَك إلاّ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه هو الذي أَوْجَب اللهُ على أهل الأرض الإيمانَ به وطاعتَه، بحيثُ يَجبُ عليهم أن يصدِّقوه بكل ما أخبرَ ويُطيعوه في كلِّ ما أمرَ.
وقد ذكرَ اللهُ طاعتَه واتباعَه في قريبٍ من أربعينَ موضعًا في
__________
(1) البخاري (32،3360 ومواضع أخرى) ومسلم (124).
(2) سورة لقمان: 13.
(4/38)
القرآن، كما قال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (1)، وقال: (وَمَا أَرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (2) وقال تعالى: (فَلَا وَرَبكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِمُوكَ فيمَا شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أَنفسهم حرَجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)) (3)، وقال تعالى: (لَّا تَجْعَلُواْ دُعَاء اَلرَسُولِ بَينكم كَدُعاء بَعْضكم بَعْضا)، إلى قوله: (فليحذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أمره أَن تُصيبَهُم فِتنَة أَؤ يُصِيبَهُم عَذَاب أَليم (63)) (4)، وقال تعالى: (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أحق أَن يُرضوُه) (5)، وقال تعالى: (قُل إن كنتُم تُحِبونَ اللهَ فَاَتَّبِعوني يحْببِكمُ اللهُ) (6)،وقال تعالى: (فَإِن تَناَزعتُم في شَئ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (7)، وقال تعالى: (وَمَن يُطِعِ الله وَالرَّسولَ فَأوْلَئكَ مع اَلَّذِينَ أَنعَمَ اللهَُ عَليهِم مِّنَ النِّبينَ وَالصِّدِيقِين وَالشُهَداءً وَالصّالِحِينَ) (8).
وطاعةُ الله والرسول هي عبادةُ اللهِ التي خُلِقَ لها الجنّ والإنس، فهي غايتُهم التي يُحِبُّها اللهُ ورسوله ويرضاها ويأمرهم بها، وإن كان قد شاءَ من بعضِهم ما هو بخلاف ذلك وخَلَقَهم له، فتلك غايةٌ
__________
(1) سورة النساء: 80.
(2) سورة النساء: 64.
(3) سورة النساء: 65.
(4) سورة النور: 63.
(5) سورة التوبة: 62.
(6) سورة آل عمران: 31.
(7) سورة النساء: 59.
(8) سورة النساء: 69.
(4/39)
شاءَها وقَدَّرَها، وهذه غاية يُحِبها ويأمرُ بها ويرضاها. والكلامُ على هذا مبسوط في غير هذا الموضع (1).
والعبادة لله أن يجمع غاية الحب له بغايةِ الذل له، فكل خيرٍ وكلِ كمال ومقامٍ وحالٍ قَرَّبَ إليه ونحوُ ذلك مما يُحمَد من العبادِ ويُطْلب منهم ويُرضى لهم فهو داخلٌ في طاعة اللهِ ورسوله أو مستلزمٌ لذلك. ولهذا اتفقت الأمةُ على أنه معصوم فيما يُبلِّغُه عن ربه تبارك وتعالى، فإن مقصودَ الرسالة لا يَتِمُ إلاّ بذلك، وكلُّ ما دل على أنه رسولُ اللهِ من معجزة وغيرِ معجزةٍ فهو يدلُّ على ما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:” فإنّي لَنْ أكذِبَ على الله” (2).
وقد اتفقوا أنه لا يُقَرُّ على خَطَأٍ في ذلك، وكذلك لا يُقَرُّ على الذنوب لا صغائرِها ولا كبائرِها، ولكن تنازعوا: هل يقع منهم بعضُ الصغائرِ مع التوبة منها أو لا يَقَعُ بحالٍ؟
فقال كثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلين وبعض متكلمي أهل الحديث: لا يَقَع منهم الصغيرةُ بحالٍ، وزادت الشيعةُ حتى قالوا: لا يقع منهم لا خطأ ولا غيرُ خطأٍ.
وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير وجمهور متكلمي أهل الحديث من أصحابِ الأشعري وغيرهم فلم يَمنَعوا الوقوعَ إذا كانَ مع التوبة، كما دَلتْ عليه نصوصُ الكتابِ والسنة،
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى (8/ 159 – 161، 187 – 190،197 – 200،440 – 442).
(2) أخرجه مسلم (2361) عن طلحة.
(4/40)
فإن اللهَ يُحِبُّ التوَّابين ويُحِبُّ المتطهرين، وإذا ابْتَلَى بعضَ الأكابر بما يَتُوب منه فذاك لكمالِ النهاية، لا لنقصِ البدايةِ، كما قال بعضُهم: لو لم يكن التوبةُ أحبَّ الأشياءِ إليه لما ابتلَى بالذنب أكرمَ الخلق عليه. وفي الأثر (1): “إنّ العبد لَيَعْمَل السيئةَ فيدخَلُ بها الجنةَ، وإنّ العبدَ لَيعملُ الحسنة فيدخلُ بها النارَ”، يعني أن السيئة يذكرُها ويتوبُ منها فيُدْخِلُه ذلك الجنةَ، والحسنةُ يُعْجَبُ بها ويَسْتكبرُ فيُدخِلُه ذلك النارَ.
وأيضًا فالحسنات والسيئات تَتنوَّعُ بحسبِ المقامات، كما يقال: “حسنات الأبرار سيئاتُ المقرَّبِين”، فمن فَهِمَ ما تَمحُوه التوبةُ وتَرفَعُ صاحبَها إليه من الدرجات وما يَتفاوتُ الناسُ فيه من الحسنات والسيئات زالتْ عنه الشبهةُ في هذا الباب، وأقرَّ الكتابَ والسنةَ على ما فيهما (2) من الهدى والصواب.
فإنّ الغُلاةَ يتوهمون أن الذنبَ إذا صدرَ من العبد كان نقصًا في حقّه لا يَنْجبرُ، حتى يجعلوا من فضلِ بعضِ الناس أنه لم يَسجدْ لصَنَم قطُّ. وهذا جهلٌ منهم، فإن المهاجرين والأنصار والذين هم أفضل هذه الأمة هم أفضلُ من أولادِهم وغيرِ أولادِهم ممن وُلِدَ على الإسلام، وإن كانوا في أولِ الأمر كانوا كُفارًا يعبدون الأصنام، بل المنتقلُ من الضلال إلى الهدى ومن السيئات إلى
__________
(1) أخرجه أحمد في “الزهد” (ص 396،397) وابن المبارك في “الزهد” (162) عن الحسن مرسلاً، فهو ضعيف. انظر “الضعيفة” (2031).
(2) في الأصل: “فيها”، والتصويب من “مختصر الفتاوى المصرية” (ص 107).
(4/41)
الحسنات يُضاعَفُ له الثوابُ، كما قال تعالى: (إِلًا مَن تَابَ وَآمَن وَعَمِلَ عملا صالِحًا فَأُوْلَئك يبَدِّلُ الله سيئاتِهِم حَسَنَات وَكاَنَ اللهُ غَفُورا رَّحِيمًا (70)) (1).
وقد ثبت في الصحيح (2) أن الله يومَ القيامة يَظهر لعبدِه فيقول: “إني قد أبدلتك مكانَ كل سيئةٍ حسنةً”، فحينئذٍ يَطلبُ كبائرَ ذُنوبِه.
وقد ثبت في الصحاح (3) من غير وجهٍ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه أخبر أن الله أشدُ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه من رجلٍ أضلَّ (4) راحلتَه بأرضٍ دَوِّيَّةٍ مَهلَكةٍ عليها طعامُه وشرابُه، فطلبَها فلم يجدْها، فنامَ تحت شجرةٍ يَنتظِرُ الموتَ، فلما استفاقَ إذا بدابَّتِه عليها طعامُه وشرابُه، فالله أشدُّ فَرَحًا بتوبة عبدِه مِن هذا براحلتِه.
وهذا أمرٌ عظيمٌ إلى الغاية. فإذا كانت التوبةُ بهذه المنزلةِ كيف لا يكون صاحبُها مَعظَّمًا عند اللهِ؟ وقد قال تعالى: (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السماوات والأرض والجِبَالِ فَأَبَين أَن يحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَملَها الإنسانُ إِنَّه كانَ ظَلُوما جَهُولا (72) لِيَعُذبَ اللهُ اَلمُنافِقِينَ وَالمُناَفِقات وَالمشركين والمشركات ويتوب الله عَلَى اَلْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنات وكَاَنَ الله
__________
(1) سورة الفرقان: 70.
(2) مسلم (190) عن أبي ذر.
(3) البخاري (6308) ومسلم (2744) عن ابن مسعود، والبخاري (6309) ومسلم (2747) عن أنس. ورواه مسلم أيضًا (2745،2746) عن النعمان بن بشير والبراء بن عازب.
(4) في الأصل: “أظل”، وهو خطأ.
(4/42)
غَفُورا رَّحيِما (73)) (1)، فوصفَ الإنسانَ بالجهل والظلمِ، وجعلَ الفرقَ بين المؤمن والكافر والمنافق أن يتوبَ الله عليه، إذْ لم يكن له بُدٌّ من الجهل والظلم. ولهذا جاء في الحديث (2): “كل ابنِ آدمَ خَطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابُون”.
واعلم أن كثيرًا من الناس يَسبقُ إلى ذهنه من ذكر الذنوب الزنا والسرقةُ ونحوُ ذلك، فيَسْتَعظمُ أن كريمًا يفَعل ذلك، ولا يعلم أن أكثر عُقَلاء بني آدم لا يَسرِقَون بل لا يزنون، حتى في جاهليتهم وكفرهم، فإن أبا بكر وغيره من الصحابة كانوا قبل الإسلام لا يَرْضَون (3) أن يفعلوا مثلَ هذه الأعمال، ولما بايعَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هندًا بنتَ عُتبةَ بن ربيعة أمَّ معاوية بيعةَ النساء على أن لا يَسرقن ولا يزنين، قالت: أوَ تَزني الحُرَّةُ؟ (4) فما كانوا في الجاهلية يعرفون الزنا إلاّ للإماء. ولهذا قولهم “حُرَّة” تُرادُ به العفيفة، لأن الحرائرَ كن عَفائِفَ.
وأما اللواط فأكثر الأمم لم يكن يَعرفُه، ولم يكن هذا يُعرَفُ في العرب قطُ.
__________
(1) سورة الأحزاب: 72 – 73.
(2) أخرجه أحمد (3/ 198) والترمذى (2499) وابن ماجه (4251) عن أنس بن مالك. وحسنه الألباني في تعليقه على “المشكاة” (2341).
(3) في الأصل: “لا يرضوا”.
(4) ذكره الطبري في “تاريخه” (3/ 61 – 62) بلاغًا ضمن قصة مشهورة. ونقل عنه ابن كثير في “البداية والنهاية” (6/ 616 – 618).
(4/43)
ولكن الذنوب التي هي في باب الضلال في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما يدخل في ذلك من البدع التي هي من جنس العُلُوِّ في الأرض والفخر والخُيَلاَء والحسد والكبر والرياء ونحو ذلك، هي في الناس الذين هم متعفِّفُون عن الفواحش. وكذلك الذنوب التي هي ترك الواجبات، فإنّ الإخلاص لله والتوكل على الله والمحبة له ورجاء رحمة الله وخوف عذاب الله والصبر على حكم الله والتسليم لأمر الله= كل هذا من الواجبات، وكذلك الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك هو من فروض الكفايات، وتحقيق ما يجب من المعارف والأعمال يطول تفصيلُه في هذا السؤال، حتى يفطن هذا ثم يفتح له الباب.
وقد ذكر الله الذين وعدَهم بالحسنى فلم يَنْفِ عنهم الذنوب، ولكن ذكرَ المغفرةَ والتكفيرَ فقال: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)) (1)، وقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)) (2).
وقد ثبت في الصحيح (3) عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لن يَدْخُلَ أحد منكم الجنةَ بعملِه”، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: “ولا أنا، إلاّ أن يَتَغَمَّدَني الله برحمته”.
__________
(1) سورة الزمر: 33 – 35.
(2) سورة الأحقاف: 16.
(3) أخرجه البخاري (6463) ومسلم (2816) عن أبي هريرة.
(4/44)
فصل
إذا ثبتَ هذا فظلمُ العبدِ نَفسَه يكون بتركِ ما ينفعُها وهي محتاجة إليه، أو بفِعْلِ ما يَضُرُها، كما أن ظلم الغير كذلك يكون إما بمَنْع حقِّه أو التعدِّي. والنفسُ إنما تَحتاجُ من العبد إلى فعل ما أمرَ اللهُ به، وإنما يضرُّها فعلُ ما نهى الله عنه، فظلمُها لا يَخْرُج عن تركِ حسنة مأمورٍ بها أو فَعْلِ سيئةٍ منهيٍّ عنها، وما يُضْطَرُّ العبدُ إليه من أكلٍ وشرب ولباس وغير ذلك هو داخلٌ في هذا، فإن جميع ذلك هو من الواجبات المأمورِ بها، حتى أكلُ الميتةِ عند الضرورة يجب في المشهورِ من مذهب الأئمة الأربعة، قال مسروق: مَنِ اضْطُرَّ إلى الميتةِ ولم يأكل حتى ماتَ دخلَ النار.
وكذلك ما يَضرُّها من جنسِ العبادات، مثل الصوم الذي يزيد في مرضها أو يَقتُلها، أو الاغتسال بالماء البارد الذي يَقتُلها ونحو ذلك، هو من ظلمها المحظور، فالله تعالى أمرَ العبادَ بما ينفعُهم ونهاهم عما يَضرُّهم، كما قال قتادةُ: إن الله لم يأمر العبادَ بما أمرَهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بُخْلا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادُهم، ولهذا جاء القرآن بالأمر بالصلاح والنهي عن الفساد في غيرِ موضع.
والصلاح كلُّه في طاعة الله، والفسادُ كلُّه في معصيةِ الله، فالصلاح والطلاعة متلازمان، والمعصية والفساد متلازمان، كتلازُم الطيب والحِلّ، وكلُّ طيب حلال وكل حلالٍ طيّبٌ، وكل خبيثٍ
(4/45)
حرام وكل حرام خبيثٌ. والمعروفُ ملازمٌ مع الطاعةِ والصلاحِ، والمنكرُ ملازم مع المعصية والفساد، ولكن بعض الناس قد تبيَّنَ له اتصافُ الفعلِ ببعض هذه الصفات قبلَ بعض، كما يَعلم كثيرًا من العبادات ولا يعلم ما فيها من الصلاح، وكثيرًا من المحرَمات ولا يعلم ما فيها من الفساد، وكذلك قد يَرى مصالحَ كثيرةً ولا يعلم أمرَ الشارع بها.
والمؤمنُ يعلم أن الله يأمر بكل مصلحةٍ ويَنهى عن كل مفسدة، فإذا كان في بعض الأفعال رأى أنه مصلحة ولم يأمر به كان مخطئًا من أحد الوجهين: إما أن يكون في نفس الأمر مصلحة لما ترجح فيه من مفسدة لا يعلمها هو؛ وإِما أن يكون داخلاً فيما أمر الله به ولم يعلم.
ولهذا تنازعَ العلماء في المصالح المرسلة التي لم يُعلَم أن الشارع اعتبرها ولا أهدرها، فقيل: يُستدَلُّ بكونها مصلحة على أن الله اعتبرها، لأنه لا يُهمِلُ المصالح، وقيل: بل يُستدَلُّ بعدم اعتبارِ الشارع لها على أنها ليست مصلحةً، بل مضرتُها راجحة إذْ لوَ كانت مصلحتها راجحةً لاعتبرها الشارعُ. وتَتَفَاوَتُ فِطَنُ الناسِ في ذلك بحيث تَعرِفها بجهةِ الاعتبارِ والإهدارِ.
ومما يجب أن يُعرَف أنَ العبدَ قد يجب عليه أسبابُ أمورٍ لا تَجبُ عليه بدونها، فإن قام بها كان مصلحًا محسنًا إلى نفسِه، وإلاّ كان ظالما لنفسه، وإن لم يكن تركُها ظلمًا في حق من لم يقبل تلك الأسبابِ، مثل من وَلِيَ ولايةً، ففي “المسند” (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
__________
(1) 3/ 22،55 عن أبي سعيد الخدري. ورواه أيضًا الترمذي (1329). وضعّفه الألباني في “الضعيفة” (1156).
(4/46)
أنه قال: “أحب الخلقِ إلى الله إمام عادل، وأبغضُ الخلق إلى الله إمام جائر”.
وكذلك (1) مَن لغيره عليه حقوقٌ، كالزوجة والأولاد والجيران، فقد ذكر الله الحقوقَ العشرة في قوله: (*وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (2). فبَدأ سبحانَه بحقِّه، كما في الصحيحين (3) أنَ النبي
– صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال لمعاذٍ: “يا معاذُ! أتدري ما حقُّ اللهِ على عبادِه”؟ قلت: اللهُ ورسوله أعلم، قال: “أن يَعبدوه ولا يُشركوا به شيئا، يا معاذ!
أتدري ما حق العبادِ على اللهِ إذا فعلوا ذلك”؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: “حقهم عليه أن لا يُعذبَهم”.
فكلَّما ازدادتْ معرفةُ الإنسان بالنفوسِ ولوازمِها وتَقلُبِ القلوب، وبما عليها من الحقوق لله ولعبادِه، وبما حَدَّ لهم من الحدود= عَلِم أنه لا يخلو أحدٌ عن ترك بعضِ الحقوق أو تعدِّي بعضِ الحدود. ولهذا أمرَ الله عبادَه المؤمنين أن يَسألوه أن يَهديَهم الصراطَ المستقيم في اليوم والليلة في المكتوبةِ وحدَها سبعَ عشرة مرةً، وهو صراطُ الذين أنعم الله عليهمِ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن يطع اللهَ ورسوله فهم هؤلاء.
__________
(1) في الأصل: “وأولئك” تحريف.
(2) سورة النساء: 36.
(3) البخاري (2856،5967،6267،6500،7373)، ومسلم (30).
(4/47)
فالصراط المستقيم طاعةُ الله ورسوله، وهو دين الإسلام التام، وهو اتباعُ القرآن، وهو لزومُ السنَّة والجماعة، وهو طريقُ العبودية، وهو طريق الخوف والرجاء. ولهذا كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول في خطبته (1): “الحمد لله نستعينه ونستغفره” لعلمِه أنه لا يفعل خيرًا ولا يجتنب شرًّا إلا بإعانة الله له، وأنه لابُدَّ أن يفعل ما يُوجِب الاستغفارَ.
وفي الحديث الصحيح (2): “سيّدُ الاستغفار أن يقول العبد: اللهمَّ أنت ربي لا إلهَ إلا أنتَ خلقتَني، وأنا عبدك وأنا علىَ عهدِك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شر ما صنعتُ، أَبوءُ لك بنعمتِك عليَّ، وأَبوءُ بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يَغفر الذنوبَ إلا أنتَ”.
فقوله “أَبوءُ لك بنعمتك عليَّ” يتناولُ نعمتَه عليه في إعانته على الطاعات، وقوله “أَبوءُ لك بذنبي” يُبيِّن إقرارَه بالذنوب التي تحتاج إلى الاستغفار. والله تعالى غفور شكور، يَغفر الكثيرَ من الزلل، ويَشكر اليسيرَ من العمل. وجاء عن غيرِ واحدٍ من السلف أنه كان يقول: إنّي أُصبِحُ بين نعمة وذنب، فأريد أن أُحْدِث للنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا.
فقوله “الحمد لله نستعينه ونستغفره” يتناول الشكرَ والاستعانةَ والاستغفارَ، الحمد لله وأستغفر الله ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، كما
__________
(1) أخرجه مسلم (868) عن ابن عباس.
(2) البخاري (6306،6323) عن شداد بن أوس.
(4/48)
كان بعضُ المشايخ يَقرِن بين هذه الثلاثة، فالشكر يتناول ما مضى من إحسانه، والاستغفار لما تقدم من إساءةِ العبد، والاستعانة لما يستقبله العبد من أموره. وهذه الثلاثُ لابدَّ لكل عبد منها دائمًا، فمن قَصَّرَ في واحد منها فقد ظلمَ لنفسِه بحسب تقصيرِ العبد.
وأصل الإحسان هو التصديقُ بالحقّ ومحبتُه، وأصل الشرِّ هو التكذيبُ به أو بُغْضُه، ويَتْبعُه التصديقُ بالباطل ومحبتُه. والتصديقُ بالحقّ وحبُّه هو أصلُ العلم النافع والعمل الصالح، والتكذيبُ به وبُغْضُه هو من الجهل والظلم. فالإنسان إذا لم يعلم من الحق ما يحتاج إليه أو لم يُقِرَّ به أو لم يُحِبَّه كان ظالمًا لنفسه، وإن أقرَّ بباطل أو أحبَّه واتَّبَع هواه كان ظالما لنفسه، فظلمُ النفسِ يعود إلى اتباعَّ الظن وما تهوى الأنفس، وهذا يكون في اتباع الآراء والأهواء، فأصلُ الشرِّ البدَعُ، وهو تقديمُ الرأي على النصِّ واختيارُ الهَوَى على امتثالِ الأمر، وأصلُ الخير اتباعُ الهُدَى، كما قال تعالى: (فَإِمَّا يَأتينكمِ مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبعً هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يشقى (123) وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِى فَإِنَ لهُ مَعِيشَةً ضَنكا وَنحشره يَومَ الَقيامَةِ أَعمَى (124)) (1). قال ابن عباس (2): تكفَّل اللهُ لمن قرأ القرآنَ وعمل بما فيه أن لا يَضل في الدنيا ولا يَشْقَى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية.
والضلال والشقاء هو خلاف الهدى والفلاح الذي أخبر به عن المتقين الذين يهتدون بالكتاب، حيث قال: (ذلِكَ الكتابُ لَا رَيب
__________
(1) سورة طه: 123 – 124.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 163).
(4/49)
فيه هُدًى) إلى قوله (أُوْلئكَ على هُدًى مِّن رَّبهِم وَأُوْلَئكَ هُمُ المفلحون (5)) (1). والضلال والشقاء هو أمرُ (2) الضاليِنِ والمغضوب عليهم المذكورين في قوله (غَيرِ المَغضُوبِ علًيهِم ولا الضاليَن (7)) (3)، وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالّون” (4)، فإن اليهودَ عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عبدوا الله بغير علم.
ومن عرفَ الحقَّ ولم يعملْ به كان متبعًا لهواه، واتباعُ الهوى هو الغَي، ومن عَمِلَ بغير علم كان ضالاًّ.
ولهذا نزَه اللهُ نبيَّه عن الضلال والغي بقوله: (والنجم إذا هوى (6) مَا ضَل صاحِبُكم وَما غَوى (2)) (5). قال تعالى في صفة أهل الغي: (سَأَصرِفُ عَنْ آياتي الَذِينَ يتَكبَرُون فِي اَلأَرضِ بِغَيرِ الحَقّ وَإِن يرواْ كلَّ أية لا يُؤمِنُواْ بِهَا وَإن يَرَواْ سَبيلَ الرُّشدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) (6)، وقال: (وَاَتلُ عَلَيهِم نَبَأَ اَلَذِيَ أتَيْنَاه آيتِنَا فانسَلَخَ مِنهَا فَاَتبعًهُ الشَيطاَن فَكانَ مِنَ الغَاوِيَن (175)) (7)، وقال في الضلال: (وإنَ كثَيرا لّيُضِلُونَ بِأَهوآئهم
__________
(1) سورة البقرة: 2 – 5.
(2) في الأصل: “أحد” تحريف.
(3) سورة الفاتحة: 7.
(4) أخرجه أحمد (4/ 378) والترمذي (2953،2954) عن عدي بن حاتم. وفي الباب روايات أخرى أخرجها الطبري في تفسيره (1/ 185 – 188، 193 – 195 من طبعة دار المعارف).
(5) سورة النجم: 1 – 2.
(6) سورة الأعراف: 146.
(7) سورة الأعراف: 175.
(4/50)
(بِغَيْرِ عِلْمٍ) (1)، وقال: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) (2).
والعبد إذا عَمِلَ بما علم ورَّثَه اللهُ عِلمَ ما لم يعلم، كما قال سبحانَه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68)) (3)، وقال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)) (4)، وقال: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) (5)، وقال: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (6).
فإذا تركَ العملَ بعلمه عاقَبَه الله بأن أَضلَّه عن الهدى الذي يَعرِفه، كما قال: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (7)، وقال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (8)، وقال: (في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) (9).
وفي الحديث الذي رواه الترمذي (10) وصححه عن أبي هريرة
__________
(1) سورة الأنعام: 119.
(2) سورة القصص:50.
(3) سورة النساء: 66 – 68.
(4) سورة محمد:17.
(5) سورة الحديد: 28.
(6) سورة المائدة: 16.
(7) سورة الصف: 5.
(8) سورة الأنعام: 110.
(9) سورة البقرة: 10.
(10) برقم (3334). وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 297) =
(4/51)
عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “إنَّ العبدَ إذا أذنب نكِتَ في قلبه نكتة سوداءُ، فإذا تاب ونَزَعَ واستغفر صُقِلَ قلبه، فإن زادَ يَزِيدُ فيها حتى يَعْلُوَ قَلْبَه، فْذلك الرَّانُ الذي قال الله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (14) (1) “.
فهذه الأمور تتبيَّنُ بها أجناسُ ظلمِ العبدِ نفسَه، لكن كل إنسانٍ بحسبه وبحسبِ درجتِه، فما من صباح يُصْبِح إلاّ وللهِ على عبدِه حقوقٌ لنفسِه ولخلقِه عليه أن يفعلَها، وحدود عليه أن يحفظَها، ومحارمُ عليه أن يجتنبَها، كما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنّ الله فرضَ فرائضَ فلا تُضيعُوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدُوها، وحرَّمَ محارمَ فلا تَنتهِكُوها” (2).
فإن أجناسَ الأعمال ثلاثةٌ: مأمور به، فالواجب منه هو الفرائض؛ ومنهيٌّ عنه وهو المحارم؛ ومباح له حدٌّ يُنتَهَي إليه، فتعدِّيه تَعدٍّ لحدود الله، بل قد يكون الزائد على بعض الواجبات والمستحبات تعدٍّ (3) لحدود الله، وذلك هو الإسراف، كما قال المؤمنون قبلنا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) (4). والذنوب
__________
= والنسائي في “عمل اليوم والليلة” (418) وابن ماجه (4244).
(1) سورة المطففين: 14.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (22/رقم 589) والدارقطني في السنن (4/ 183،184) وأبو نعيم في الحلية (9/ 17) والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 110 – 13) عن أبي ثعلبة الخشني، وصححه الحاكم وحسَّنَه النووي، وانظر الكلام عليه في “جامع العلوم والحكم” (2/ 150 وما بعدها).
(3) كذا في الأصل، والصواب أن يكون “تعدّيًا”.
(4) سورة آل عمران: 147.
(4/52)
تتناولُ جنسَ الذنوب، وأما الإسراف فهو تعدِّي الحدودِ، كما قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (1).
فالإثم جنسُ المنهي عنه، والعدوانُ تعدِّي الحدِّ في المأذون فيه، والبِرُّ جنسُ المأمور به، والتقوى حفظُ الحدود، بل يُفعَل المأمورُ به ويترَكُ المنهيُّ عنه، ويُفعَل المباحُ من غير تعدِّي الحدودِ في ذلك.
إذا تبيَّن هذا الأصل فقولُ السائل: “ما مفهوم قول الصديق: “ظلمت نفسي ظلمًا كثيرا”، والدعاء بين يَدَي الله لا يحتمل المجاز، والصدِّيق من أئمة السابقين، والرسول أمرَه بذلك” يتضمن شُبهةً في هذا الدعاء، ومَثَارُ الشبهةِ أن يُقال: الصدّيقُ أجلُّ قدرًا من أن تكون له ذنوب تكون ظلمًا كثيرًا، فإنّ ذلك ينافي مرتبةَ الصدِّيقيةِ.
وهذه الشبهة تزول بوجهين:
أحدهما: أن الصديق بل والنبي والرسول إنما كَمُلَت مرتبتُه وانتهت درجتُه، وتَمَّ عُلُوُّ منزلتِه في نهايتِه لا في بدايته، وإنما قَالَ ذلك بفعلِ ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، وأفضلُ أعمالِه بل
__________
(1) سورة المائدة: 2.
(4/53)
أفضلُها التوبة، فإن التوبة تكون من الكفر والفسوق والعصيان، وما من صدّيقٍ إلاّ ويمكن أن يتوب من الكفر والفسوق والعصيان كالصديقين من السابقين الأولين، وما وُجِدَ قبلَ التوبة فإنه لم يَنْقُصْ صاحبَه إذا تَعقَّبتْه التوبةُ ولم يُغْضِ من منزلتِه، ولا يتصوَّر أن بَشرًا يَستَغني عن التوبة، كما في الحديث المرفوع: “كل بني آدم خَطَّاء، وخيرُ الخطائين التوابون” (1).
وفي صحيح البخاري (2) عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرة”.
وفي صحيح مسلم (3) عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر اللهَ في اليوم مائةَ مرةِ”. فقد أَمَر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أمتَه بالتوبة عمومًا، وأخبرَ أنه يَستغفر اللهَ ويتوبُ إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً، بل قولُه الذي في الحديث المتفق عليه (4): “اللهمَّ اغْفِر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنتَ أعلم به مني. اللهمَّ اغْفِر لي هَزْلي وجِدِّي، وخطأي وعَمْدي، وكل ذلك عندي، اللهمَّ اغْفِر لي ما قدَّمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) برقم (6307) عن أبي هريرة، وليس فيه الجزء الأول، وقد أخرجه مسلم (2702) عن الأغرّ المزني.
(3) برقم (2702) عن الأغر المزني.
(4) البخاري (6398) ومسلم (2719) عن أبي موسى الأشعري.
(4/54)
لا إلهَ إلا أنتَ”. فهذا الدعاءُ فيه من الاعتراف أعظمُ مما في الدعاء الذي أمر به الصدّيق.
والصدِّيقون يجوز عليهم جميعُ الذنوب بإتفاق الأئمة، فقد يكون الرجل كافرًا ثم يتوب من الكفر ويصير صدِّيقًا، وقد يكون فاسقًا أو عاصيًا ثم يتوب من الفسق والمعصية ويصير صدِّيقًا. وإنما تنازع الناسُ في الأنبياء، وإن كان القولُ بعصمة الأئمة قد يقوله بعضُ من يقوله من الرافضة، حتى الإسماعيلية يقولون: إن بني عُبيد الله بن ميمون القدَّاحِ كانوا معصومين لا يجوزُ عليهم الخطأ ولا الذنوب، فهؤلاءِ زنادقةٌ مرتدون ليسوا من أهل القبلة الذين يُنْصَبُ معهم الخلافُ. والرافضة الذين يعتقدون العصمةَ في الاثنَي عشرَ أجهلُ الخلق وأضلُّهم، ليس لهم عقل ولا نقل، ويُشبِهُهم من يعتقد في شيخِه أو متبوعِه العصمةَ، لكرامة رآها منه أو لحسنِ ظنٍّ به، فهؤلاء كلُّهم من الجهال الذين ليس لقولهم أصل يُبْنَى عليه.
ومع هذا فتقديرُ أن يكون أحدُ هؤلاء معصوما أو محفوظًا إنما ذاك عندهم بعد أن يَبلُغ منزلةَ الولايةِ أو الصدِّيقية، وأما قبلَ ذلك فليس بمعصوم باتفاق الناس، وإن كان الصواب الذي عليه أئمة الدين ومشايخُ الدين أن الولي والصديق لا يجب أن يكونَ معصومًا، لا من الخطأ ولا من نحوه، بل قد قال الصدّيقُ الأكبر خيرُ هذه الأمة بعده نبيِّها أبو بكر رضي الله عنه لما ولي الناسَ: “أيها الناسُ! القويُّ فيكم الضعيفُ عندي حتى آخُذَ منه الحقَّ، والضعيفُ فيكم القويُّ عندي حتى آخُذَ له الحقَّ، أطيعوني فيما أطعتُ اللهَ،
(4/55)
فإذا عصيتُ الله فلا طاعةَ لي عليكم” (1).
وثبتَ في الصحيح (2) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَصَّ رُؤْيا رآها، فقال أبو بكر: دَعْني يا رسول الله أُعبِّرْها، فلما عَبَّرها قال: أصبتُ يا رسول الله أم أخطأتُ؟ فقال: “أصبتَ بعضًا وأخطأتَ بعضًا”.
وقال الصديق في الكلالة (3): “أقولُ فيها برأي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمنّي ومن الشيطان”.
وأفضلُ هذه الأمة بعدَ أبي بكر عمرُ، وكان محدَّثًا مُلْهَمًا، كما في الصحيحين (4) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “قد كانَ في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمرُ”. وفي حديثٍ آخر: “إنَّ الله ضربَ الحقَّ على لسان عمر وقلبِه” (5).
فعمر رضي الله عنه أفضلُ المخاطَبين المحدَّثين من هذه الأمة، والصدّيق أفضلُ منه، فإنّ الصديق يتلقَّى عن الرسول لا عن قلبه،
__________
(1) أخرجه محمد بن إسحاق من حديث الزهري عن أنس، انظر “سيرة” ابن هشام (2/ 660،661). وصححه ابن كثير في “البداية والنهاية” (8/ 90، 9/ 415).
(2) البخاري (7046) ومسلم (2269) عن ابن عباس.
(3) كما في تفسير الطبري (4/ 191 – 192).
(4) البخاري (3469،3689) ومسلم (2398) عن أبي هريرة.
(5) أخرجه أحمد (2/ 53،95) والترمذي (3683) عن ابن عمر، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (2175 – موارد). وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أحمد (2/ 401).
(4/56)
ولهذا سُمِّيَ صدّيقًا، وما جاء به الرسول فهو معصومٌ أن يَستقِرَّ فيه خطأٌ، فما يأخذُه الصديق فهو صِدقٌ كلُّه وحق كلُّه، وأما المحدّث الذي يأخذُ عن قلبه فقلبُه قد يُصيبُ وقد يُخطِيءُ، فيجبُ على كلِّ محدَّث ومُكاشَفٍ أن يَعرِضَ ما وَقَعَ عليه على الكتاب والسنة، فإن وَافقَ ذلك وإلاّ ردَّه، كما قال الشيخ أبو سليمان الداراني: إنه لَيَمُرُّ بقلبي النكتةُ من نكتِ القوم، فلا أقبلُها إلا بشاهدينِ اثنين: الكتابِ والسنةِ. وقال: ليس لمن أُلْهِمَ شيئًا من الخير أن يعملَه حتى يَسمَعَ فيه بأثرٍ، فإذا سَمِعَ بالأثر كان نورًا على نورٍ.
وقال الجنيد بن محمد: عِلْمُنا هذا مُقيَّدٌ بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتبِ الحديثَ لا يصلحُ له أن يتكلم في علمنا.
وقال سهل بن عبد الله التُّسْتَرِي: كل وَجْدٍ لا يَشهد له الكتابُ والسنة فهو باطل.
وقال أبو عمرو بن نُجَيد أو غيرُه: من أَمَّر السنّةَ على نفسه قولاً وفعلاً نطقَ بالحكمة، ومن أَمَّرَ الهوى على نفسِه قولاً وفعلاً نطقَ بالبدعة، لأنّ الله يقول: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (1).
ومثلُ هذا كثير في كلام المشايخ، فما يُلقَى لأهل المكاشفات والمخاطبات من المؤمنين هو من جنس ما يكون لأهل الرأي والقياس من العلم منهم، وكلُّ ذلك فيه حق وفيه باطل، وليس أحدٌ منهم معصومًا، وكلٌّ منهم عليه أن يَزِنَ ذلكَ بالكتاب والسنة والإجماع،
__________
(1) سورة النور: 54.
(4/57)
فما خالفَ ذلك فهو باطل.
ومنزلةُ الصديقِ والفاروقِ دَلَّتْ على أنّ [من] يأخُذُ مِن علمِ النبوة الثابتِ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أرفعُ منزلةً ممن يأخذ من أهل القلوب عن قلوبهم، فإن غاية الواحدِ من هؤلاء أن يكون مُشابهًا لعمرَ ولا يكونُ مثلَه قط، ومنزلةُ الصدّيقِ أفضلُ، ولهذا كان الصديقُ يُعلم عمرَ ومعاويةَ في غير قصةٍ، كما جرى له معه يومَ الحديبية لما قال عمر للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدوُّنا على الباطل؟ قال: بلى، قال: ألستَ رسولَ الله حقًّا؟
قال: فَلِمَ نُعْطَى الدَّنِيَّةَ في ديننا؟ قال: إني رسول الله، وهو ناصري ولستُ أعصِيْه، قال: ألم تُحدِّثنا أنّا نأتي البيتَ ونطوفُ به؟ قال: بلى، فقلتُ لك إنكَ تأتيه في هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتٍ البيتَ ومُطَوِّفٌ به. ثم جاء عمرُ إلى أبي بكرٍ، فقال: يا أبا بكر!
ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدوُّنا على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس هو رسول اللهِ حقا؟ قال: بلى، قال: فَلِمَ نُعطَى الدِّنِيَّةَ في ديِننا؟ قال: إنه رسول اللهِ وهو ناصرُه وليس يَعصِيْه، قال: ألم يكن يُحدِّثُنا أنّا نأتي البيتَ ونطوفُ به؟ قال: بلى، أقال لكَ إنك تأتيهِ هذا العامَ؟ قال: لا، قال: فإنك آتٍ البيتَ وتطوفُ به (1).
فأبو بكر أجابَ بمثل ما أجابَ به رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من غير أن يسمعَ كلامَه في تلك القصةِ التي اضطربتْ فيها أكثرُ الصحابةِ، حتى
__________
(1) أخرجه البخاري (2731،2732) ومسلم (1785) عن سهل بن حنيف.
(4/58)
قال سهل بن حُنَيف – وهو من كبار المؤمنين وشهدَ مع علي صِفّينَ -: “أيها الناس! اتّهمُوا الرأيَ على الدين، فلقد رأيَتُني يومَ أبي جندلٍ، ولو أستطيعُ أن أَرُدَّ أمرَ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لرددتُه” رواه البخاري (1).
فإذا كان الصديق والفاروق – وهما خيرُ الخلق بعدَ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهما اللذان قال فيهما: “اقتَدُوا باللذينِ من بعدي أبي بكرِ وعمرَ – هما مع الرسول كما ترى، فما الظن بغيرِهما؟ وبهذا يُعلَمً أن كل من ادَّعَى استغناءَهُ عن الرسالة بمكاشفةٍ أو مخاطبةٍ، أو عصمةَ ذلك له أو لشيخِه ونحو ذلك= فهو من أضل الناس.
ومن احتَجَّ على ذلك بقصةِ الخضِر مع موسى ففي غايةِ الجهل لوجوهٍ:
أحدها: أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجبُ على الخضرِ اتباعُ موسى، بل قال له موسى: إني على علمٍ من علمِ الله عَلَّمنِيهِ الله لا تَعلَمه، وأنتَ على علمٍ من علم الله عَلَّمك الله لا أعلمه، ولما سَلَّم عليه قال: وأنَّى بأرضِكَ السلامُ؟ قال: أنا موسى، قال: موِسى بني إسرائيل؟ قال: نعم (2). فالخضر لم يعرف موسى حتى عرَّفه نفسَه. وأما محمدٌ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فهو رسول الله إلى جميع الخلق، فمن لم يتبعْه كان كافرًا ضالاًّ من جميع من بَلَغتْه دعوتُه، ومن قال له كما قال الخضر لموسى كان كافرًا.
__________
(1) برقم (4189). ورواه مسلم أيضًا (1785).
(2) أخرجه البخاري (4725 ومواضع أخرى) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب.
(4/59)
الوجه الثاني: أن ما فعلَه الخضرُ لم يكن خارجًا عن شريعة موسى، ولهذا لما بَيَّن له الأسبابَ التي أُبِيْحَ له بها خَرْقُ السفينة وقتلُ الغلام وبناءُ الجدارِ بغير جُعْلٍ أُقرَّه على ذلك، بل كانت الأسبابُ المبيحةُ لذلك قد عَلِمَها الخِضرُ دون موسى، كما يدخل الرجلُ دارَ غيره، فيأكلُ طعامَه ويأخذ مالَه، لعلمِه بأنه مأذون له في ذلك، وقتلُ الآخرِ لعدم علمِه بالإذن قد يكون سببًا ظاهرًا وقد يكون بسبب باطن، وعلى التقديرينِ هما في الشريعة.
الوجه الثالث: أن الخضرَ إن كان نبيًا فليس لغير الأنبياء أن يتشبَّه إليه، وإنْ لم يكن نبيًا – وهو قول الجمهور – فأبو بكر وعمرُ أفضلُ منه، فإنّ هذه الأمة خير أمةٍ أخرجتْ للناس، وخيارُ هذه الأمةِ القرنُ الأول من المهاجرين والأنصار، وخيرُ القرنِ الأول السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وخيرُهم أبو بكر وعمر.
فإذا كان أبو بكر وعمر أفضلَ من الخضر، وحالُهما مع رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هذه الحالُ، ونحن مأمورون أن نقتديَ بهما، لا بأن نَقتديَ بالخضر، كان من ترَكَ الاقتداءَ بهما في حالِهما مع محمدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – واقتدَى بالخضرِ في حالِه مع موسى= من أضلِّ الناسِ وأجهلِهم. بل من اعتقدَ أنه يجوز له أن يَخْرُجَ عن طاعةِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وتصديقِه في شيء من أمورِه الباطنة أو الظاهرةِ فإنه يجب أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلاّ قُتِل كائنًا من كان.
وإذا عُرِفَ أنّ التوبة تَرفعُ منزلةَ صاحبِها وإن كان فيه قبلَ ذلك ما كان، لم يكن لأحدٍ أن ينظر إلى صدّيقٍ ولا غيرِه باعتبار مَا وقعَ
(4/60)
منه قبلَ التوبةِ والاستغفار، ومن فعلَ ذلك كان جاهلاً أو ظالما مهما أمكن أن يقعَ، إلاّ إذا كانت التوبة قد وُجِدتْ منه، فقد زال أمرُه وارتفعت بالتوبة درجتُه. فلا يُستكبَر بعد هذا أن يقع من صديق قدر ماذا عسى أن يقع، وإن كان صديقُ هذه الأمة كان من أبعد الناس عن الذنوب قبل الإسلام وبعده، حتى إنّه لم يشرب الخمر في الجاهلية ولا الإسلام، وكان معروفًا عندهم بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق، لكن المقصود أن يُحسَم مادةُ مثلِ هذا السؤال، لكن مع كونه من أبعد الناس عن الذنوب فكل بني آدم يحتاجُ أن يتوبَ ويعترفَ بظلم نفسه، كما اعترف بذلك من هو أفضل من أبي بكر.
وتمام ذلك بالوجه الثاني، وهو أن ظلم النفس أنواعٌ مختلفة ودرجات متفاوتة كما تقدم التنبيهُ عليه، وكل أحدٍ ظلم نفسه على قدر درجته ومنزلته، وما يمكننا أن نحصر ما فعله كل شخص من أشخاص الصديقين، فإن أحوال العباد مع الله أسرار فيما بينهم وبين الله، وإنما يمكن أن يُعرَف أنواع ذلك كما دل عليه الكتاب والسنة، ولا حاجةَ بنا إلى معرفة تفصيل ذلك، فإن هذا ليس مما يُقتدَى فيه بأحدٍ، فإن الاقتداء إنما يكون في الحسنات لا في السيئات التي يثاب فيها. والإنسان لا يَقْنَطُ من رحمة الله ولو عملَ من الذنوب ما عسى أن يعمل، كما قال تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (1).
__________
(1) سورة الزمر: 53.
(4/61)
ونحن نعلم أن التوكلَ على الله فرض، والإخلاص له فرض، ومحبة الله ورسوله فرض، والصبر على فعل ما أمر الله وعما نهى الله عنه وعلى المصائب التي تُصِيبُه فرض، وخشية الله وحدَه دون خشيةِ الناس فرض، والرجاء لله وحدَه فرض، وأمثال ذلك من الأعمال الباطنة والظاهرة والتي يَحصُل التقصيرُ في كثيرٍ منها لعامةِ الخلقِ.
وأيُّ نوع من هذه الأنواع إذا تدبَّر بعضُ الصديقين فيه حالَهُ يَجدُه قد ظلم نفسَه فيه ظلمًا كثيرًا، دَعْ ما سوى ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وكالقيام بحقوق الأهل والجيران والمؤمنين، وإكمال كلّ واجبٍ كما أمر به، وأمثال ذلك مما لا يُحصَى.
وقد ذكر البخاري (1) عن ابن أبي مُليكةَ قال: أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد كلُّهم يخاف النفاقَ على نفسِه. وفي الصحيح (2) أن حنظلةَ الكتاب لما قال: نافق حنظلة، قال أبو بكر: إنّا لَنَجد ذلك.
فهؤلاء كانوا يخافون على أنفسهم النفاقَ لكمالِ علمهم وَإيمانهم، وِلهذا كان عبد الله بن مسعود وغيره من السلف يستثنون الإيمان فيَقُول أحدُهم: أنا مؤمنٌ إن شاء الله. وقد تقدم التنبيهُ على مجامع الظلم. والله سبحانَه أعلم.
وأما ما ذكره أبو عبد الله الحكيم الترمذيُّ من أصناف الرحمة فلا ريبَ أن الرحمة أصنافٌ متنوعة ومتفاوتة، كما ذكره من أن له
__________
(1) تعليقًا في صحيحه (1/ 109)، وأخرجه في التاريخ الكبير (5/ 137). وانظر “تغليق التعليق” (1/ 52) و”فتح الباري” (1/ 110).
(2) مسلم (2750).
(4/62)
رحمةً عمَّتِ الخلقَ مؤمنَهم وكافرهم، ورحمةً خَصَّتِ المؤمنين، ثم رحمةً خصَّت خواصَّ المؤمنين على قدر درجاتهم، والحديثُ ليس فيه “رحمة من عندي”، وإنما فيه “فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني”، ولكن مقصوده أن شبه هذا بقوله: (وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً) (1)، وهو قد جعلَ هذه المغفرةَ المسئولة من عندِه مغفرةً مخصوصة ليستْ مما تُبذل للعامة، كما أن الرحمة منها رحمة مخصوصة ليست مما تُبذَل للعامة.
وهذا الكلام في بعضه نظرٌ، فالحكيم الترمذي رحمه الله في الحديث والتصوف، وتكلُّمِه على أعمال القلوب واستشهاده على ذلك بما يذكره من الآثار، وما يُبدِيه عليها (2) من المناسبات والاعتبار= هو في هذا الطريق كغيره من المصنفين في فنونِ (3) العلم كالتفسير والفقه ونحو ذلك. وكثيرًا ما يُوجَد في هذه الكتب من الآثار الضعيفة بل المُضِلَّة ما لا يجوز الالتفاتُ إليه، وكذلك الحكيم الترمذي، فإن له كتبًا (4) متعددة كنوادر الأصول والصلاة وغيرها، وفي كتبه فوائدُ ومقاصدُ مستحسنة مقبولة، وفيها أيضًا أقوالٌ لا دليلَ عليها وأقوالٌ مردودة يُعلَم فسادُها، وآثارٌ ضعيفةٌ لا يجوز الاعتماد عليها.
__________
(1) سورة آل عمران: 8.
(2) في الأصل: “على”.
(3) في الأصل: “صوب”.
(4) في الأصل: “كتب”.
(4/63)
ومن أضعفِ ما ذكره ما تكلَّم عليه في كتاب “ختم الولاية” (1)، فإنه تكلم على حال من زعم أنه خاتم الأولياءِ بكلام مردودٍ ومخالفٍ لإجماع الأئمة، ويُناقِض في ذلك. وهذا كان سببَ من تكلم في ختم الأولياء وادَّعَى ذلك لنفسِه، كابن العَرَبي وابن حَمُّويَه ونحوهما، فإن الترمذي أخطأ مقدارًا من الخطأ، فزادوا على ذلك زياداتٍ كثيرة حتى خرج بهم الأمر إلى الاتحاد، وكلُّ متكلمٍ في الوجود يُوزَن كلامُه بالكتاب والسنة.
وكلامه على الحديث من أوسط كلامه، وفيه نظر:
أحدهما: فإنّ قوله “مغفرة من عندَك”، وقِوله (وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً) ونحو ذلك، ليس في ذلك ما يقتضي اختصاصَ هذا الشخص الداعي بهذا المطلوب المسؤول، ولو كان كذلك لما كان يَسُوغْ لغيرهِ أن يَدعُوَ بهذا الدعاء، وهذا خلافُ الإجماع.
وإن قيل: مراده أن هذا المطلوب يختص من دعا هذا الدعاء. قيل له: كذلك يمكن أن يُقال في كل مطلوبٍ بدعاء، فإن ذلك المطلوب هو مختص بذلك الدعاء.
وإن قال: بل غير هذا من المطلوبات قد يُنالُ بلا دعاء. قيل له: وهذا أيضًا قد يُنال بلا دعاء، فمن أين لنا أن هذه المغفرة والرحمة المطلوبة لا تُنال إلا بهذا الدعاء؟ وأن سائر ما
__________
(1) ص 367،421 – 422. وانظر نقد المؤلف له في “الصفدية” (1/ 248).
(4/64)
يُطلب من الله قد يُنال بغير الطلب. ومن المعلوم أن الدعاء والطلب سببٌ لنيل المطلوب المسؤول، فإن جاز أن يكون للمسؤول سببٌ غيرُ الدعاء في غير هذا الموضع فكذلك في هذا الموضع.
وأيضًا فقوله “من عندك” ليس فيه ما يدل على اختصاصِه بالطلب ولا بالمطلوب، وتفسير اللفظ بما لا دليل عليه هو من جنس تفسير القرامطة الذين يُفسِّرون الألفاظ لما أرادوا، وأكثرُ أهلِ الإشاراتِ الذين يقعون في أشياءَ مثل قطعةِ كثيرةٍ من الحكايات المذكورة في “حقائق التفسير” لأبي عبد الرحمن السلمي، والإشارات التي يعتمدها المشايخ العارفون، هي من جنس القياس والاعتبار.
وهي كشَبَه غيرِ المنطق بالمنطق لكونه في معناه أوْ أولى بالحكم منه، كما يُفعل مثل ذلك في القياس الفقهي، كما إذا قيل في قوله: (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) (1) إذا كان المصحفُ الذي كُتِب فيه طاهرًا لا يمسُّه إلاّ البدن الطاهر، فالمعاني التي هي باطنُ القرآن لا يمسُّها إلاّ القلوبُ المطهرة، وأما القلوب المنجسة لا تمسُّ حقائقَه، فهذا معنىً صحيح، قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (2). قال بعض السلف: أَمنَعُ قلوبَهم فهمَ القرآن. وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إذا أذنبَ العبدُ نكتَ في قلبه نكتةٌ سوداءُ، فإن تابَ ونزعَ واستغفر صُقِلَ قلبُه، فإن زادَ زِيدَ فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الرانُ الذي قال الله تعالى فيه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى
__________
(1) سورة الواقعة: 79.
(2) سورة الأعراف: 146.
(4/65)
قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) (1).
فالذنوب تَرِيْنُ على القلوب حتى تَمنعها فهمَ القرآن، وإذا كان هذا المعنى صحيحًا فقياسُ طهارةِ القلب على طهارة البدن فيما يُشتَرط له الطهارةُ من مسِّ القرآن إشارةٌ حَسَنَة، فأما أن يُفسَّر (2) المرادُ للفظ بغير المراد وبما لا يدلُّ عليه اللفظ فهذا خطأ.
وقد قال زكريا: (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)) (3)، ولم تكن الذرية الطيبة مختصة به ولا بالأنبياء، بل الله يُخرِج الأنبياء من أصلاب الكفار إذا شاء، ولكن بمشيئته – والله أعلم – أنه إذا قال: “من عندك” و”من لدنك”، كان مطلوبًا فعلُ العبد، فإن ما يُعطيه الله للعبد على وجهين:
منه ما يكون بسبب فعلِه، كالرزق الذي يَرزقه بكسبه، والسيئات التي تُغفَر له بالحسنات الماحية لها، والولد الذي يرزقه بالنكاح المعتاد، والعلم الذي يناله بالتعلم المعهود، والرحمة التي تصيبها بالأسباب التي يفعلها.
ومنه ما يُعطيه للعبد ولا يُحوِجه إلى السبب الذي ينال به في غالب الأمر، كما أعطى زكريا الولدَ مع أن امرأته كانت عاقرًا، وكان قد بلغ من الكبر عِتِيًّا، فهذا الولد وهبه الله من لدنه لم يَهَبْه
__________
(1) سورة المطففين: 14. والحديث سبق تخريجه.
(2) في الأصل: “نفس”، وهو تحريف.
(3) سورة آل عمران: 38.
(4/66)
بالأسباب المعتادة، فإن العادة لا تحصل بهذا الولد، وكذلك العلم الذي علَّمه الخَضِرَ من لدنه لم يكن بالتعلم المعهود، وكذلك الرحمة الموهوبة، ولهذا قال: (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)) (1).
وقوله: “مغفرة من عندك”، لم يقل فيه “من لدنك مغفرة” بل “من عندك”، ومن الناس من يُفرِّقُ بين “لدنك” و”عندك”، وهكذا قد يُفرَّق بين التقديم والتأخير، فإن لم يكن بينهما فرقٌ فقد يكون المراد: اغفر لي مغفرةً من عندك لا تَصِلُها بأسبابٍ، لا من عزائم المغفرةِ التي تغفر لصاحبها، كالحج والجهاد ونحوهما ما يُوجب المغفرةَ لصاحبه، بل اغفر لي مغفرة تَهَبُها لي وتَجُودُ بها عليَّ بلا عمل يقتضي تلك المغفرة.
ومن المعلوم أن الله تعالى قد يَغفر الذنوبَ بالتوبة، وقد يغفرها بالحسنات الماحية، وقد يغفرها بالمصائب المكفرة، وقد يغفرها بمجرد استغفار العبد وسؤاله أن يغفر له، فهذه مغفرة من عنده. فهذا الوجه إذا فُسِّر به قوله: “من عندك” كان أحسنَ وأشبهَ مما ذكر من الاختصاص.
وأما قوله: “والأشياء كلُّها من عندهِ”، فيقال: [إن] للأشياء وجهين: منها ما جُعِل سببًا من العبد يوفيه عليه، ومنها ما يفعله بدون ذلك السبب، بل إجابةً لسؤالِه وإحسانًا إليه. واستعمال لفظ “من عندك” في هذا المعنى هو المناسب، دون تخصيص بعض الناس دون بعض، فإن قوله “من عندك” دلالته على الأول أبين،
__________
(1) سورة آل عمران: 8.
(4/67)
ولهذا يقول الرجل لما يطلبه: “أعطنى من عندك” لما يطلبه منه بغير سبب، بخلاف ما يطلبه من الحقوق التي عليه كالدَّين والنفقة، فإنه لا يقال فيه “من عندك”.
والله تعالى وإن كان الخلقُ لا يُوجبون عليه شيئًا فهو قد كتبَ على نفسِه الرحمةَ، وحرَّم الظلمَ علىَ نفسه، وأوجبَ بوعدِه ما يجب لمن وعدَه إيَّاه، فهذا قد يَصير واجبًا بحكم إيجابِه ووعدِه، بخلاف ما لم يكن كذلك. فاستعمالُ لفظ “من عندك” في هذا هو شبيهٌ باستعماله فيما يَطلب من الناس من الإحسان ذو المعاوضات.
وأيضًا فقوله “من عندك” يُراد به أن يكون مغفرةً تجود بها أنت عليَّ لا تُحوِجُني فيها إلى خلقِك، ولا يُحتاج إلى أحدٍ يَشْفَع فيَّ أو يَستغفر لي، واستعمال لفظة “من عندك” في مثل هذا معروف، كما في حديث توبة كعب بن مالك (1) لما جاء إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له: “أَبْشِرْ بخيرِ يوم مرَّ عليكَ منذ وَلدتْك أمُّك”، فقلتُ: يا رسولَ الله!
أمن عند الله أو من عندك؟ فقال: “بل من عند الله”، فأخبره – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن الله تابَ عليه من عنده.
وكلا الوجهين قول مريم عليها السلام (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)) (2)، فلما كان الرزق لم يأتِ به بشرٌ ولم
__________
(1) أخرجه البخاري (4418 ومواضع أخرى) ومسلم (2769) عن كعب بطوله.
(2) سورة آل عمران: 37.
(4/68)
يُسْعَ فيه السعيُ المعتاد قالت: “هو من عند الله”. فهذه المعاني وما يناسبها هي التي يشهد لها استعمال هذا اللفظ. وإن قال قائل: كذلك كلامُ الحكيم الترمذي على مثل هذا، وإنه أراد بالتخصيص ما يناسب هذا، كان قولاً محتملاً، وقد قال عمرُ: احمِلْ كلامَ أخيك على أحسنِه حتى يأتيكَ ما يَغْلِبُك منه، والله أعلم.
(4/69)
مسألة
في رجلٍ قال: إن نبيًّا من الأنبياء أكلَه القُمَّلُ، فاشتكى إلى الله، فأوحى الله إليه: لئن اختلجَ هذا في سِرِّك مرةً أخرى لأمْحُونَّكَ من ديوان الأنبياء.
الجواب
الحمد لله. لا يجوز لأحدٍ أن يقول مثلَ هذا القول من غيرِ بيانِ حالِه، فإن هذا ليس من المنقول الثابت، بل من النقول الباطلة، ولو كان من النقول الصحيحة لم يَجُزْ لأحدٍ من أمة محمدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن يتبعَ مثلَ هذه الحكاية ويَبِنيَ عليها طريقَه إلى الله تعالى.
وذلك أن الحكايات الإسرائيليات (1) إن ثبتتْ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أو نُقِلتْ بالتواتر ونحو ذلك عُلِمَ صحتُها، وإذا صحَّتْ فما وافقَ الشريعةَ اتُبع، وما خالف منها شريعة محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يتَّبَعْ؛ فإن الله تعالى يقول: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) (2).
وفي النسائي (3) وغيره عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لو كان موسى
__________
(1) في الأصل: “الإسرائيلات”.
(2) سورة المائدة: 48.
(3) لم أجده عند النسائي، وقد أخرجه أحمد (3/ 338) والدارمي (441) من =
(4/70)
حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضلَلْتُم”. وفي رواية (1): “لو كان موسى حيًا ما وسعَه إلا اتباعي”. وقد قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)) (2). قال ابن عباس (3): ما بعثَ الله نبيًّا إلا أخذَ عليه العهدَ والميثاقَ لئنْ بُعِثَ محمدٌ وهو حيٌّ ليؤمننَّ به ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذَ الميثاقَ على أمته لئن بُعِثَ محمدٌ وهم أحياء ليؤمنُنَّ به ولينصُرنَّه.
وهذا كما يُعلَم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله بعث محمدًا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى جميع أهل الأرض، عربِهم وعجمِهم، أمّيَهم وكتابيِّهم، إنسِهم وجِنِّهم. فلا يَقبل الله من أحدٍ عملاً يخالف شريعتَه وإن كان ذلك العملُ مشروعًا لبعض الأنبياء. فمن اتبعَ الشرعةَ والمنهاجَ الذي كان مشروعًا لموسى وعيسى ونُسِخ على لسانِ محمدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فهو كافرٌ باتفاق المسلمين، وإذا كان هذا فيما عُلِمَ أنه مشروعٌ للأنبياء، فكيف بما يُحكَى عنهم ولا يُعلَم صِحَّتُه؟ فلا يجوز لأحدٍ أن يثبتَ بالإسرائيلياتِ لا صحيحِها ولا ضعيفِها حكمًا يُخالِفُ شريعةً محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمنقولاتُ من
__________
= طريق مجالد عن الشعبي عن جابر، وحسَّنه الألباني في “إرواء الغليل” (1589) لشواهِده.
(1) لأحمد (3/ 387).
(2) سورة آل عمران: 81.
(3) أنظر: تفسير الطبري (3/ 237) ونحوه عن السدي في تفسير ابن أبي حاتم (2/ 694).
(4/71)
الإسرائيليات تارةً يُعلَم صحتُها، وتارةً يُعلَم أنها كذبٌ، وتارةً لا يُدرَى.
وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إذا حدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذبوهم، فإمّا أن يحدِّثوكم بحقّ فتكذبوه، وإمّا أن يحدِّثوكم بباطلٍ فتصدِّقوه”.
إذا تبينَ هذا فنقول: أجمع المسلمون على أن المسلم يجوز له أن يشتكي إلى الله ما نزلَ من الضرِّ، والله سبحانَه في كتابه قد أمر بذلك، وذمَّ من لا يفعله، قال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)) (2)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)) (3)، وقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)) (4).
وفي الصحيح (5) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه كان يقول في دعائه: “اللهمَّ إني أعوذ بك من جَهْدِ البلاء، ودَرَكِ الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء”. وفي الصحيح (6) أيضًا عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه كان يقول: “اللهمَّ إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّلِ عافيتك (7)، وفجاءةِ
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 136) وأبو داود (3644) عن أبي نملة الأنصاري، وله شاهد من حديث جابر أخرجه أحمد (3/ 387). ولا يوجد بهذا السياق في الصحيحين.
(2) سورة الأنعام: 42.
(3) سورة المؤمنون: 76.
(4) سورة الأعراف: 55.
(5) البخاري (6347) ومسلم (2707) عن أبي هريرة.
(6) مسلم (2739) عن ابن عمر.
(7) في الأصل: “تحويل عاقبتك” تحريف.
(4/72)
نِقْمتِك، وجميعِ سَخَطِك”.
وفي الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه كان لا يَدعو دعاءً إلاَّ خَتَمه بقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)). وأمر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – العباسَ وغيره أن يسأل العافيةَ في الدنيا والآخرة (2)، وعلَّم رجلاً أن يَدعُوَ فيقول: “اللهمَّ اغفر في وارحمني واهدني وعافني وارزقني” (3)، ومثل هذا كثير.
والعبد إذا اشتكى إلى ربِّه ما نَزل به من الضِّرِّ وسألَه إزالتَه لم يكن مذمومًا على ذلك باتفاق المسلمين، والشكوى إلى الله لا تُنافِي الصبر، بل الشكوى إلى الخلقِ قد تُنافِي الصبرَ، فإنَّ يعقوبَ عليه السلام قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (4)، وقال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) (5). وكان عمر بن الخطاب يقرأ في الفجر بسورة هود ويوسف ونحو ذلك، فلما وصل إلى قوله: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) فسُمِعَ نَشِيْجُه من أواخر الصفوف.
وهذا مما يدل على كَذِبَ الحكاية، فإن يعقوب عليه السلام اشتكى إلى الله ما أصابه بفراقِ ولدِه من البثّ والحُزْن، ولم يكن
__________
(1) البخاري (4522،6389) ومسلم (2690) عن أنس. والآية من سورة البقرة: 201.
(2) أخرجه أحمد (1/ 3،8،11) من طرق عن أبي بكر الصديق.
(3) أخرجه مسلم (2697) عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه.
(4) سورة يوسف: 83.
(5) سورة يوسف: 86.
(4/73)
مذمومًا بذلك، وكذلك أيوب عليه السلام قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)) قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)) (1).
وقد قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)) (2). وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)) (3).
فهؤلاء الأنبياء قد اشتكَوا إلى الله، وأزالَ ما اشتكَوا منه من الضرِّ والغمِّ والحزنِ ونحوِ ذلك، فكيف يُمحَى [نبيٌّ من] الأنبياء إذا اشتكى من ضُرِّ القمل وغيره؟ أم كيف يمحوه من ديوان النبوة إذا اختلج ذلك في سِرِّه؟ وأكثر ما يُقال: إنّ العبد ينبغي له أن يَرضَى بالقضاء. لكن جواب هذا من وجوه:
أحدها: أن الرضا ليس بواجب في أصح قولي العلماء بل يُستحبُّ، وإنما الواجبُ الصبرُ، والصبر لا يُنافي الشكوى.
الثاني: أن الرضا لا يُنافي القضاءَ مطلقًا، بل يَرضَى في الحاضر، ويسأل الله في المستقبل أمرًا آخر، فإن الرضا إنما يكون
__________
(1) سورة الأنبياء: 83 – 84.
(2) سورة الأنبياء: 87 – 88.
(3) سورة الشعراء: 75 – 76.
(4/74)
بعد القضاء، والدعاءُ إنما يكون بطلب مستقبل أو دفعِه، فالرضا بما مضى لا يُنافي طلبَ زوالِ المستقبل. وقد يخاف العبد أنه لا يدومُ الرضا، فيسألُ اللهَ زوالَ الشدَّة التي يَخافُ معها زوالَ رضاه، فالداعي قد يكون راضيًا وغيرَ راضٍ، كما أن الراضيَ قد يكونُ داعيًا وغيرَ داع.
الثالث: أن اختلاجَ المصيبةِ في السر لا يُنافي الرضا باتفاق العقلاء، ولا يدخل هذا في التكليف، فضلاً عن أن يكون ذنبًا، أو أن يستحق صاحبُه زوالَ نبوته.
وبالجملة فهذه الحكايات المخالفة لشريعةِ محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لا تخلو عن وجهين: إما أن تكون كذبًا، وإمّا أن تكونَ غيرَ مشروعةٍ لنا في دين الإسلام، فلا يحلُّ لأحدِ أن يحكيَها لمن يتبعُها، ولا أن يستحسنَ العملَ بها في ديننا، ولا يمدحَ على ذلك.
(4/75)
مسألة
في قوله تعالى: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (1)، هل “من” هاهنا للتبعيض؟ فيكون الحكم بالعداوة على البعض؛ أو تكون “من” زائدة؟ فيُحكَم على كلِّ واحدٍ ولدٍ وكل زوج بالعداوة.
فإن قلتم: إنها للتبعيض فما حكمكُم على من يعتقد زيادتَها؟
ويزعم أنه يستدل على الحديث والقرآن بكلام العرب، وهل من دليلٍ على ذلك فيما ذكر من القرآن والحديث وكلام العرب؟ فبيِّنُوه، أم ليس الأمر كذلك؟
الجواب
الحمد لله. بل “من” هُنا للتبعيض باتفاق الناس، والمعنى أن من الأزواج والأولاد عدوًّا، وليس المراد أنّ كل زوجٍ وولدٍ عدوٌّ (2). فإنّ هذا ليس هو مدلولَ اللفظ، وهو باطل في نفسِه، فإن سبحانَه قد قال عن عباد الرحمن: إنهم يقولون: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
__________
(1) سورة التغابن: 14.
(2) في الأصل: “عدوا”.
(4/76)
أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (1)، فسألوا اللهَ أن يَهَبَ لهم من أزواجهم وأولادِهم قرةَ أعين، فلو كان كل زوج وولدٍ عدوًّا (2) لم يكن فيهم قرةُ أعين، فإن العدوَّ لا يكون قرةَ عين بل سُخْنَةَ عين، وأيضًا فإنه من المعلوم أن مثلَ إسماعيل وإسحاق ابْنَي إبراهيم، ومثلَ يحيى بن زكريا وأمثالَهم ليسوا أعداءً.
وقول من قال: إنها هنا زائدة، غلط لوجوه:
أحدها: أن مذهب سيبويه وجمهور أئمة النحاة أنها لا تُزاد في الإثبات، وإنما تُزاد في النفي تحقيقًا لعموم النفي (3) كقوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) (4)، وقوله (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (5) ونحو ذلك، فإنه لولا “من” لكان الكلام ظاهرًا في العموم، فإنه يجوز أن تقول: ما رأيتُ رجلاً بل رجلين، فإذا أدخلتَ “من” فقلتَ: ما رأيتُ من رجلٍ كان نصًّا في العموم، فلا يجوز أن يقال: ما رأيتُ من رجلٍ بل رجلين، مع أن النكرة في سياق النفي للعموم مطلقًا، لكن قد يكون نصًّا وقد يكون ظاهرًا، فإذا كانت ظاهرًا احتملت نفيَ الواحد من الجنس بخلاف النص، وهذا الموضعُ إثبات لا نفي، فلا تُزادُ فيه.
__________
(1) سورة الفرقان: 74.
(2) في الأصل: “عدو”.
(3) انظر “مغني اللبيب” (ص 358 وما بعدها).
(4) سورة المائدة: 73.
(5) سورة هود: 6.
(4/77)
الثاني: أنّ من جوَّز زيادتَها في الإثبات – كالأخفش – لا يُجوَّزه إلاّ إذا كان في الكلام ما يدلُّ عليه، وإلاّ فلو قال قائل: إن من هؤلاء القوم مسلمين، وأرادَ أنَّ جمعَهم مسلمون، لم يجزْ ذلك بالاتفاق.
الثالث: أنه إذا قيل بزيادتها كان المعنى باطلاً.
الرابع: الزيادة على خلاف الأصل، فلا يجوز ادّعاؤها بغير دليلٍ، والله أعلم.
(4/78)
مسألة
فيمن استدل بتحويل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رِداءَه في الاستسقاء، وجَعْلِ أعلاه أسفلَه، ورَفْعِ ظاهرِ كفيْه إلى السماء، وجَعْلِ باطنِها إلى الأرض= على أن الله ليس فوقَ السماوات على العرش بائن من الخلق، وأنه بذاتِه لا يختصُّ بجهةِ العُلُوّ، هل هو مصيبٌ في ذلك الاستدلال أم لا؟ وما معنى الحديث؟ وهل لقولِ طائفةٍ من الفقهاء إنه يُستحب لمن هو في شدةٍ أن يَرفعَ ظاهرَ كفَّيهِ إلى السماء دون باطنِها وجهٌ؟ ولو فُرِضَ أن الحديث يدل على ذلك ولو على بُعْدٍ، فهل مثلُ ذلك مع ما يزعمونه أدلةً عقلية دلَّتْ على استحالة ذلك يُعارِض ما ثبتَ بالكتاب والسنة من أن الله تعالى مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقِه فوقَ كل شيء وعالٍ على كل شيء أم لا؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين. استدلالُ المستدلِّ بهذا وإن سبقَه إلى نحو منه من المتجهمةِ المنتسبةِ إلى الحديث، فإنه يدلُّ على غايةِ الجهل بما فعله رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الاستسقاء، وغايةِ الجهلَ في الاستدلال بذلك على نفي علوِّ الله، إذْ ما فعلَه يدل على نقيضِ مطلوبِ هذا المستدلِّ الجاهل. ونحن نبيّن ذلك بالكلام على ما
(4/79)
فعلَه من تحويل الرداء، ومن رَفْعِ يديه في الاستسقاء.
أما الفصل الأول – وهو تحويلُ الرداء – فما علمتُ أحدًا يستدلُّ به على نفي العلوِّ، ولا فيه شبهةٌ تَقتضي ذلك، وإنما المعروف عن بعضهم أنه يستدل برفع اليدين، فهذا هو الذي يَعترض به بعضُ الناس، فأما الرداء فلا، ولكن نتكلم على الفصلين.
أما الأول فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يجعل أعلاه أسفلَه كما قاله هذا المستدل، وإنما جَعلِ الأيمنَ على الأيسر والأيسَرَ على الأيمن، وقَلَبَه فجعلَ باطنَه ظاهرًا وظاهرَه باطنًا، كما جاء مفسَّرًا في الأحاديث المعروفة في الباب، فإن في الصحيحين (1) عن عبد الله بن زيد قال: خرج النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى المصلَّى، فاستسقى، واستقبلَ القبلة، وقَلَبَ رداءه، وصلى ركعتين. وفي لفظ: استقبل القبلة، وحوَّل رداءه. فلفظُ الحديث جاء بلفظ القلب وبلفظ التحويل، ورواه البخاري من وجوهٍ بلفظ التحويل (2)، وذكر عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال (3): جعلَ اليمينَ على الشمال.
ورواه أبو داود (4) من حديث عبد الله بن زيد أيضًا، قال: خرج رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَستسقي، قال: فحوَّل رداءَه، وجعلَ عطافَه الأيمنَ
__________
(1) البخاري (1012 ومواضع أخرى) ومسلم (894).
(2) بأرقام (1005،1012،1023،1024،1025،1028)، وبلفظ القلب، في (1011،1026،1027،6343).
(3) برقم (1027).
(4) برقم (1163).
(4/80)
على عاتقِه الأيسر، وجعلَ عطافَه الأيسرَ على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله عز وجل.
ورواه مالك (1) وأحمد (2) أيضًا – واللفظ له – من حديث عبد الله ابن زيد قال: رأيتُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حين استسقى لنا أطالَ الدعاء وأكثر المسألةَ، قال: ثم تحوَّلَ إلى القبلة وحوَّلَ رِداءَه فقلبَه ظهرًا لبطنٍ.
ورواه الدارقطني (3) أيضًا من حديث عبد الله بن زيد قال: خرج رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى المصلَّى يستسقي، فاستقبلَ القبلةَ، فقَلَبَ رداءَه وصلَّى ركعتين. قال سفيان: جعلَ اليمينَ على الشمال والشمالَ على اليمين.
ورواه أحمد (4) وأبو داود (5) أيضًا عنه قال: استسقى النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وعليه خميصة سوداءُ، فأرادَ أن يأخذَ أسفلَها فيجعلَه أعلاها، فثَقُلتْ عليه، فَقَلَبَها الأيمنَ على الأيسر [والأيسرَ] على الأيمن.
فهذا فيه أيضًا ما في سائر الأحاديث أنه قلبَ الأيمنَ على الأيسر والأيسرَ على الأيمن، لكن فيه ذكر الراوي أنه همَّ بجَعْلِ أسفلها أعلاها، فهذا ليس فيه أنه فعلَ ذلك، وإنما فيه أن الراوي ظن أنه أراد فِعْلَه، والظن قد يُصيب وقد يُخطئ.
__________
(1) الموطأ (1/ 190).
(2) 4/ 41.
(3) 2/ 66.
(4) 4/ 41.
(5) برقم (1164).
(4/81)
فهذه أحاديث عبد الله بن زيد، وحديثه أشهر حديثٍ في تحويل الرداء وفي صلاة الاستسقاء، وأصحُّ الأحاديث في ذلك، فيها تارةً متصلاً بالحديث وتارةً من تفسير الرواة أنه جعلَ الأيمنَ على الأيسر [والأيسرَ على الأيمن]، وفيها تصريح بأنه لم يفعل الأعلى أسفل ولا الأسفلَ أعلى. وكذلك غيره من الحديث مثل حديث أبي هريرة الذي رواه أحمد (1) وابن ماجه (2)، قال: خرج رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يومًا يَستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبَنَا ودعا الله عز وجل، وحوَّلَ وجهَه نحو القبلةِ رافعًا يَدَيْه، ثم قلَبَ رداءَه، فجعلَ الأيمنَ على الأيسر والأيسرَ على الأيمن.
وكذلك رواه الدارقطني (3) من حديث ابن عباس قال: سنة الاستسقاء سنةُ الصلاة في العيدين، إلاّ أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَلَبَ رداءَه، فجعل يمينَه على يسارِه ويسارَه على يمينه، وذكر تمامَه.
وفي إسناده مقال يَصلُح للاعتضاد (4) والاستشهاد.
وتحويلُ الرداء في دعاء الاستسقاء سنةٌ عند فقهاء الحجاز وفقهاءِ الحديثِ كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو قولُ صاحبَي أبي حنيفةَ
__________
(1) 2/ 326.
(2) برقم (1268).
(3) 2/ 66.
(4) في الأصل: “للاقتصاد” تحريف. وفي إسناد الحديث محمد بن عبد العزيز، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث.
(4/82)
أبي يوسف ومحمد، كما أن الصلاة في الاستسقاء سنة عند هؤلاء، وأبو حنيفة لم يَبلُغْه لا الصلاةُ في الاستسقاء ولا تحويلُ الرداء في دعائه.
وأما صفة التحويل فجعلُ الأيمنِ على الأيسر كما جاءت بذلك الأحاديث، عند جمهور العلماء كمالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور، وهو قول الشافعي إذْ كان بالعراق، وقال في الجديد: في الرداء المُرَاد كذلك، وفي المربع يُجعَلُ أعلاه أسفلَه، لما تقدَّم من هَمِّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحجة الجمهور أنه حوَّله من اليمين إلى اليسار، وأن الخلفاء الراشدين بعده فعلوا ذلك، كما فعلَه عثمان بحضرة الصحابة. وأما تلك الزيادةُ فلو كانت ثابتة لكانت ظنَّا من الراوي لا يتركُ لها ما ثبتَ مِنْ فعلِه المتيقنِ وفعلِ خلفائِه.
وروى أبو بكر النجَّاد عن عروة بن أُذَيْنَةَ عن أبيه قال: رأيتُ عثمان يَستسقي بالمصلَّى، فرأيتُه صلى ركعتين جَهَرَ فيهما بالقراءة، ثم خطبَ الناس، ثم حوَّل وجهَه إلى القبلة، ورفع يديه، وحوَّل رداءه، جعلَ اليمينَ على اليسار واليسارَ على اليمين.
فقد ظهر فسادُ استدلال الجهمي من وجوه:
أحدها: أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يجعل أسفلَه أعلاه، بل قلَبَه، وإن قيل (1) إنه همَّ بذلك.
__________
(1) في الأصل: “فإن قيل”.
(4/83)
الثاني: هَبْ أنه جعل أعلاه أسفله، أو أنّ ذلك هو المستحب – كما هو أحد قولَي الفقهاء – لكونه همَّ بذلك وتركَه للعُسْر، وأيُّ شيء في جعلِ أسفلِ الرداءِ أعلاه مما يدلّ على أن الله ليس هو العلي الأعلَى، وأنه ليس هو فوقَ العالم؟ أو أيُّ شيء في ذلك ما يُبطِل أدلةَ القائلين بذلك أو يُعارِضها؟ وهذا جواب عن هذا، وعن توجيهِ اليدين إلى الأرض إن قيل (1): إنه فعل ذلك. وسنبيِّن حقيقةَ ما فعلَه، فإن غاية ما يُقدِّر المقدِّر أنه وجه وجهَه ويَدَيْه إلى الأرض وجعلَ أعلى ردائِه أسفلَه، فليس في بني آدم من يقول: إنه قصدَ بذلك أن الله في الأرض دون السماء، فإن هذا لا يقوله لا مؤمن ولا كافر، ولا مُثبِت ولا منافق، بل جميعُ الخلق متفقون على أنّ الأرض ليست مختصَّة به دون السماء، بل الجهمية تقول: لا فرقَ بين الأرض والسماء، ثم تارةً يقولون: إنه بذاته في الأرض والسماء كما يقوله الحلولية والاتحادية، منهم أكثرُ عُبَّادِهمٍ وعوامِّهم الذين يَدَّعون التحقيقَ والتوحيد من صوفيتهم. وتارة يقولون: بل ليس هو داخلَ العالم ولا خارجَه البتة، ولا فوقَ العرش، ولا في السماء ولا في الأرض، وهذا قول نُظَّارِهم ومتكلميهم.
فإذا قُدِّرَ أنّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قصدَ التوجهَ إلى الأرض دون السماء، لم يقل أحدٌ: إنَّ ذلك يدلّ على أن الله في الأرض دون السماء، بل غايةُ ما يقال: يَبْطُل استدلالُ من يَستدِلُّ برفع اليدين أنه فوق
__________
(1) في الأصل: “أي قيل” تحريف.
(4/84)
العالم. وسنتكلم على ذلك ونبيِّن أنه لا يَبطُل هذه الدلالة، وبتقدير أن يَبْطُل هذا الدليلُ المعيَّن لا يَبْطُلُ المدلولُ عليه، فنَفْرِضُ أن رفعَ اليدين لا يدل على هذه المسألة، فأدلتها السمعية والعقلية أكثر من أن تُسَطَّر هنا، وفي القرآن نحو ثلاثمائة موضع يدل على ذلك، والأحاديث والآثار في ذلك أشهرُ وأظهرُ من أن تُذكرَ هنا مع الأدلة العقلية، كما قد بسط في غير هذا الموضع (1).
ثم يُقال: هَبْ أنه يَبْطُل الاستدلالُ برفع اليدين، فأي شيء أدخلَ تحويلَ الرداءِ في ذلك؟ فإنّا ما علمنا أحدًا استدلَّ بتحويل الرداءِ على أن الله فوقُ حتى تَبطُلَ دلالتُه، فعُلِمَ أن إدخال هذا في هذه المسألة جهالةٌ واضحة، وإنما يُعرَف عن طائفة من المتجهمةِ المنتسبين إلى الحديث أنهم يذكرون رفعَ اليدين، وأما تحويل الرداء فما علمتُ لذكره وجهًا.
الوجه الثالث: أن يقال: ما ذكره المستدلُّ إن كان فيه حجة
فهي عليه لا له، وذلك أنّ عَائبَنا يقولْ إن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جعل أعلى ردائه أسفلَه، أو أنّ ذلك هو المستحب، فيقال له: إن لم يكن في هذا التحويل دليلٌ على مسألة العلوّ بنفي ولا إثباتٍ فلا حجة لك فيه، وإن كانت فيه حجةٌ فثبتَ بحجةٍ على أن الله في العلو، لأنه جعل أسفلَه أعلاه، فيكون قد قصدَ توجيهَ ردائِه إلى ما فوق كما وَجَّهَ قَلْبَه، كما سنذكره إن شاء الله، وهذا مناسب، وهو لا يُمكِنُه
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى (5/ 12،15،54 – 58،164 – 178،226 – 227).
(4/85)
أن يقول: توجيهُه إلى أسفلَ لأن الله في العلوّ، والمثبتُ يمكنُه أن يقول: وَجهَه إلى فوق لكون اللهِ تعالى في العلو، فإن كان فيه حجة فهو للمُثْبِت لا للنافي.
ولكن الصواب أنه ليس فيه حجة لا على هذا ولا على هذا، لأن المقصود بذلك تحويلُ السنَةِ من الجَدْب إلى الخِصْب، كما رواة الدارقطني (1) عن جعفر بن محمد عن أبيهَ عليهم السلام قال: استسقى رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وحوَّل رداءَه ليتحوَّل القحطُ.
فصل
وأما رفع اليدين في الاستسقاء فالأصل فيما ذُكِرَ في السؤال حديثُ أنس بن مالك، وقد أخرجاه في الصحيحين (2) عن أنس أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان لا يَرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء، فإنه كان يرفع حتى يُرَى بياضُ إِبْطَيْه. لفظ البخاري. وله (3) عن أنس عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رفع يديه حتى رأيتُ بياضَ إبْطَيه. ولفظ مسلم (4): “كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء
__________
(1) 2/ 66.
(2) البخاري (1031) ومسلم (896).
(3) البخاري (1030).
(4) برقم (896).
(4/86)
حتى يُرَى بياضُ إبْطَيه”. ولمسلم (1) أيضًا عن أنس بن مالك قال: رأيتُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يرفع يديه في الدعاء حتى يُرى بياضُ إبطيه. وفي لفظٍ لمسلم (2): أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – استسقى فأشار بظهرِ كفيه إلى السماء. وفي لفظ لأبي داود (3) عنه: أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان يستسقي هكذا، ومدَّ يَدَيْه وجعلَ بطونَهما مما يلي الأرضَ حتى رأيتُ بياضَ إبْطَيه. وفي لفظٍ لأبي داود (4): أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رفع يديه حذاءَ وجهِه، أعني في الاستسقاء.
وعن عمير مولى آبي اللحم أنه رأى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَستسقي عند أحجار البيت (5) قريبًا من الزَّوراء قائمًا يدعو رافعًا يديه قِبَلَ وجهِه لا يُجاوِز بهما رأسَه. رواه أبو داود (6) والنسائي (7). وروى الأوزاعي عن سليمان بن موسى قال: لم يُحفظْ عن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه رفع يديه الرفعَ كلَّه إلاّ في ثلاثةِ مواطنَ: في الاستسقاء، والاستنصار، وعشيَّةَ عرفةَ، ثم كان بعدها رفعًا دون رفع فيها. رواه أبو داود في “المراسيل” (8).
__________
(1) برقم (895).
(2) برقم (896).
(3) برقم (1171).
(4) برقم (1175).
(5) في هامش الأصل: “صوابه الزيت، لأن الزوراء في المدينة، والبيت بمكة، فلا يَحسُن ذكر البيت هنا”. وهو كما قال المعلّق، فالرواية “الزيت”.
(6) برقم (1168). ورواه أيضًا أحمد (5/ 223).
(7) 3/ 158.
(8) برقم (148).
(4/87)
وعن ابن عباس قال: رأيتُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يدعو بعرفةَ بالموقفِ ويَدَاه إلى صدرِه كما يستطعم المسكين. وعن ابن عباس قال: المسألة أن تَرفع يديك حذوَ منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تمدَّ يديك جميعها (1). وفي لفظ (2): والابتهال هكذا، ورفع يديه وجعل ظهورهما ممّا يَلي وجهَه. [و] رواه أبو داود من طريق آخر (3) عن ابن عباس أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر نحوه.
إذا تبين هذا فنقول: الكلام على حديث أنس في موضعين:
أحدهما: قوله “كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء”.
والثاني: ما رُوِي في بعض ألفاظ مسلم “فأشار بظهر كفَّيه إلى السماء”.
فإن مِن الناس من غَلِط في كلا الموضعين، فظنَّ بعضُهم أن اليد لا تُرفع في الدعاء إلا في الاستسقاء، حتى تركوا رفعَ اليدين في سائر الأدعية، ومنهم من فرق بين دعاء الرغبة ودعاء الرهبة، فقال في دعاء الرغبة: يُجعَل باطنُ كفيه إلى السماء وظاهرهما إلى الأرض، وقال في دعاء الرهبة بالعكس، يجعل ظاهرهما إلى
__________
(1) أخرجه أبو داود (1489) عنه مرفوعًا.
(2) عند أبي داود (1490).
(3) برقم (1491).
(4/88)
السماء وباطنهما إلى الأرض، وقالوا: إن الراغبَ كالمستطعم، والراهب كالمستجير المستعيذ الدافع. ونحن نتكلم في بيان السنة في صفة الرفع، ثم نبين أنه على كل تقدير لا حجة فيه للجهمية نفاة العلوّ.
أما رفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء فقد تواتر عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما في صحيح البخاري (1) وغيره عن أبي هريرة قال: قدم الطُفيل بن عمرو الدَّوسي على رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله!
إن دَوْسًا قد عَصَتْ وأبتْ فادعُ عليهم، فاستقبل القبلةَ ورفع، وقال: “اللهمَّ اهْدِ دَوسًا وأْتِ بهم”.
وفي الصحيحين (2) أيضًا عن أبي موسى قال: أُصيب أبو عامر رضي الله عنه في ركبته في غزوة أوطاس، وكان رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أمَّره فيها، فقال لي: اقرأ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – السلامَ وقُلْ له: استغْفِرْ لي واستخلِفْني علىَ الناس، وسكت يسيرًا ثم مات. فلما رجعتُ إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأخبرتُه خبرَ أبي عامر وسؤالَه أن يستغفر له، فدعا رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بماءٍ فتوضَّأ، ثم رفع يديه وقال: “اللهمَّ اغفِرْ لعُبَيْدِك أبي عامر”.
وفي صحيح البخاري (3) وغيره عن ابن عمر قال: بحث النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خالدَ بن الوليد إلى بني جَذِيْمةَ، فدعاهم إلى الإسلام، فلم
__________
(1) بأرقام (2937، 4392،6397). وأخرجه أيضًا مسلم (2524).
(2) البخاري (4323 ومواضع أخرى) ومسلم (2498).
(3) برقمي (4339،7189). وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 150) والنسائي (8/ 236).
(4/89)
يُحسِنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صَبَأْنا صَبَأْنا، فجعل خالدٌ يقتل ويأسِرُ، ودفعَ إلى كل رجل منا أسيرَه، حتى إذا كان يوم أمرَ خالدٌ أن يَقتل كلُّ رجل منا أسيرَه، فقلت: والله إني لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيرَه، حتى قَدِمْنَا على رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذكرنا له، فرفع يديه فقال: “اللهمَّ إني أبرأ إليك ممَّا فعلَ خالد”، مرتين.
وفي صحيح مسلم (1) عن عائشة قالت: ألا أحدِّثكم عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي انقلبَ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضعَ نعليه عند رجليه، وذكرتِ الحديثَ الطويلَ في دعائه لأهل البقيع، فرفع يديه ثلاثَ مرات وأطال القيامَ، ثم انحرف وانحرفتُ، وذكرتِ الحديثَ.
وفي صحيح مسلم (2) أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تلا قولَ الله عز وجل في إبراهيم (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)) (3)، وقال عيسى عليه السلام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)) (4)، فرفع يديه فقال: “اللهمَّ أمتي أمتي”، قال الله: يا جبريلُ اذهبْ إلى محمد – وربك أعلم – فسَلْهُ ما يُبكيك؟ فأتاه
__________
(1) برقم (974).
(2) برقم (202).
(3) سورة إبراهيم: 36.
(4) سورة المائدة: 118.
(4/90)
جبريل، فسأله، فأخبره رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الله: يا جبريل! اذهبْ إلى محمد فقل له: إنّا سنُرضِيك في أمتِك ولا نَسُوْءُك فيهم.
وفي صحيح مسلم (1) عن عمر بن الخطاب قال: نظر رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى المشركين وهم ألف، وأصحابُه ثلاثمائة وبضعةَ عشرَ رجلاً، فاستقبل القبلةَ ثم مدَّ يديه وجعل يَهتِف برئه: “اللهمَّ وأَنْجزْ لي ما وعدتَني، اللهمَّ آتني ما وعدتَني، اللهمَّ إن تُهلِكْ هذه العصابَة من أهل الإسلام لا تُعْبَدْ في الأرض”، فما زال يَهتِف بربه مادًّا يديه مستقبلَ القبلة حتى سقطَ رداؤُه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر فأخذ رداءَه، فألقاه على منكبيه، والتزمَه من ورائه، وقال يا نبيَّ الله! كذاك (2) مُنا شَدَتُك ربَّك، فإنه سيُنْجزُ لك ما وعدك، فأنزلَ الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)) (3)، فأمدَّهم الله بالملائكة.
وفي سنن أبي داود (4) وغيره عن قيس بن سعد من حديث زيارة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال فيه: فرفع رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يديه وهو يقول: “اللهمَّ اجْعَل صلَواتِك ورحمتك على آلِ سَعدِ بن عبادة”.
__________
(1) برقم (1763).
(2) هكذا وقع لجماهير رواة مسلم “كذاك” بالذال، ولبعضهم “كفاك” بالفاء. انظر “إكمال المعلم” (6/ 94) وشرح النووي (12/ 85).
(3) سورة الأنفال: 9.
(4) برقم (5185). وأخرجه أيضَا أحمد (3/ 421) والنسائي في “عمل اليوم والليلة” (325).
(4/91)
وفي سنن أبي داود (1) وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: خرجنا مع رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من مكَّة نُريد المدينةَ، فلما قدمنا من عَزْوَرَا نَزَل، ثمِ رفع يديه فدعا ساعة، ثم خرَّ ساجدا، قال: “إني سألتُ ربّي وشفَعْتُ لأمتي، فأعطاني ثُلُثَ أمتي، فخَررتُ ساجدًا شكرًا لربي”، وذكر تمام الحديث.
وعن أم عطية قالت: بَعَثَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جيشًا فيهم عليٌّ، قالت: فسمعتُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وهو رافع يديه يقول: “اللهمَّ لا تُمِتْنِيْ حتى تُرِيَني عليًّا”. أخرجه الترمذي (2).
و [في] حديث أسامة بن زيد (3) قال: كنتُ رِدْفَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرفع يَدَيه يدعو، فمالتْ به ناقتُه فسَقَطَ خِطامُها، فتناولَ الخِطامَ بإحدى يَدَيْه وهو رافع يدَه الأخرى.
وقد ذكر فيمن روي عنه رواية رفع اليدين في غير الاستسقاء: أنس أيضا في حديث القنوت، قال أنس: لقد رأيتُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كلما صلَّى الغَداةَ رفع يدَيْه يدعو عليهم. رواه البيهقي (4).
__________
(1) برقم (2775). قال الألباني في تعليقه على “المشكاة” (1496): إسناده ضعيف، فيه يحيى بن الحسن بن عثمان، وهو مجهول كما في “التقريب”.
(2) برقم (3737). وقال: حديث حسن غريب. قال الألباني في تعليقه على “المشكاة” (6090): سنده ضعيف.
(3) أخرجه أحمد (5/ 209) والنسائي (5/ 254) وابن خزيمة (2824). وإسناده صحيح.
(4) في السنن الكبرى (2/ 211).
(4/92)
فصل
إذا تبيَّن هذا فنقول: الجمعُ بين حديثِ أنسٍ وهذه الأحاديث من وجهين:
أحدهما: ما قاله طوائفُ من العلماء في الجمع بين حديث أنس وغيره، وهو أنَّ أنسًا ذكرَ الرفع الشديدَ الذي يُرَى فيه بياضُ إبطيه وينحّي فيه يديه، وهذا هو الذي سماه ابن عباس الابتهالَ، وجعل المراتب ثلاثةً:
الإشارة بإصبع واحدة، كما كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يشير بإصبعه في التشهد [و] على المنبر يوم الجمعة بإصبَعِه، والحديثُ متعدِّدٌ مشهور. وفي سنن أبي داود (1) عن سعد قال: مرَّ علىَّ رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأنا أدعو بإصبعَيَّ، فقال: “أَحِّدْ أَحِّدْ”، وأشار بالسبابة.
والثانية: المسألة، وهو أن تجعَل يديك حَذْوَ منكبيك، كما في أكثر الأحاديث.
والثالث: الابتهال، وهو أن تمدَّ يديك جميعًا، وفي لفظ: والابتهال هكذا، ورفعَ يديه وجعلَ ظهورهما مما يلي وجهه.
فهذا الابتهال هو الذي ذكره أنس في الاستسقاء، ولهذا قال: كان يرفع حتى يُرى بياضُ إبْطيه، وإنما يُرَى بياضُ الإبطَيْن بالرفع
__________
(1) برقم (1499). وأخرجه أيضًا النسائي (3/ 38).
(4/93)
الشديد، وهذا الرفع إذا اشتدَّ كان بطون يديه مما يلي وجهَه والأرض، وظهورُهما مما يلي السماء، وكذلك جاء مفسرًا: “رفعَ يديه حذاءَ وجهِه”، وفي لفظ: “جعلَ بطونَهما مما يلي الأرض”.
ولو كان المرادُ به كما يظنُّه بعضُ الغالطين حيث يجعل يديه حذوَ منكبيه ويجعل ظهورهما مما يلي الوجه والأرض، وتارة يكون الظهور مما يلي السماء، يُؤيِّد ذلك ما رواه أبو داود (1) عن أنس بن مالك نفسه قال: رأيتُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يدعو هكذا بباطن كفَّيه وظاهرِهما.
وقد يكون أنس أراد بالرفع على المنبر يومَ الجمعة كما في صحيح مسلم (2) والسنن (3) عن حصين بن عبد الرحمن قال: رأى عُمارةُ بن رُؤَيْبَة بشرَ بن مروان وهو يدعو في يوم الجمعة، فقال عمارة: قَبَّح الله هاتين اليدين، لقد رأيتُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وهو على المنبر ما يزيد على هذه بإصبعه المسبِّحة.
وفي مسند أحمد (4) عن غُضَيف بن الحارث الثُّماليّ قال بعثَ إليَّ عبدُ الملك بن مروان أنَّا قد جمعنا الناسَ على أمرين: برفع الأيدي على المنابر يومَ الجمعة، والقَصَص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنّهما أَمثلُ بدعتِكم عندي ولَسْتُ مُجِيْبَكَ إلى شيءٍ
__________
(1) برقم (1487).
(2) برقم (874).
(3) أبو داود (1104) والترمذي (515) والنسائي (3/ 108).
(4) 4/ 105. قال الألباني في تعليقه على “المشكاة” (187): سنده ضعيف.
(4/94)
منهما، قال: لِمَ؟ قال: لأنّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “ما أحدثَ قوم بدعةً إلاّ رُفِعَ مثلها من السُّنَّة (). فتَمَسُّك بسنّةٍ خير من إحداثِ بدعةٍ.
وعلى هذا يُحمَل الحديثُ الذي في سنن أبي داود (1) عن سهل بن سعدٍ قال: ما رأيتُ النبيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – شاهِرًا يَدَيه يدعو على منبرٍ ولا غيرِه، لكن رأيتُه يقول هكذا، وأشار بالسبابة وعَقَدَ الوسطى بالإبهام، وقد قيل: في إسناد هذا مقال (2)، مع أنه ليس فيه إلا نفي الرؤية.
وهذه المسألة فيها قولان للعلماء هما وجهانِ في مذهب أحمد في رفع الخطيب يديه، فقيل: يُستَحبّ لعموم الأخبار الواردة في رفع الأيدي، وهذا قول ابن عقيل، وقيل: لا يستحبُّ بل يُكْرَه، وهذا أصحُّ، قال إسحاق بن راهويه: ذلك بدعة للخاطب، إنما كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يشير بإصبعه إذا دعا، لما تقدم من الآثار.
وأمّا في الاستسقاء لما استسقَى على المنبر رفعَ يديه، كما رواه البخاري في صحيحه (3) عن أنس، قال: أتى أعرابيٌّ من أهل البدو إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يومَ الجمعة، فقال: يا رسول الله! هلكتِ الماشيةُ وهلكَ العِيالُ وهلك الناسُ، فرفعَ رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَدَيْه يدعو، ورَفَعَ الناس أيديَهم معه يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مُطِرْنا.
__________
(1) برقم (1105). وأخرجه أيضا أحمد (5/ 337) وابن خزيمة (1450).
(2) قال الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة (1450): إسناده فيه ضعف، أبو الحويرث قال الحافظ: صدوق سيئ الحفظ.
(3) برقم (1029 ومواضع أخرى).
(4/95)
فقد أخبر أنسٌ في هذا الحديث الصحيح أنه [لما] استسقَى بهم يومَ الجمعة على المنبر رفعَ يديه ورفعَ الناس أيديهم، وقد ثبت أنه لم يكن يرفع على المنبر في غير الاستسقاء، فيكون أنس رضي الله عنه أراد هذا المعنى، لا سيَّما وبعض بني أمية كانوا قد أحدثوا رَفْعَ الأيدي يومَ الجمعة، كما تقدم من حديث عبد الملك وبشر بن مروان، وإنكار عمارة بن رُؤَيْبَة وغُضَيْف بن الحارث عليهما مخالفةَ السنة، وأنسٌ أدرك هذا العصرَ فيكون هو أيضًا أخبر بالسنة التي أخبر بها غيرُه من أنّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يكن يرفع يديه – أي على المنبر – إلاّ في الاستسقاء. وهذا الوجه يُوافق الذي قبلَه، ويُبين أن الاستسقاء مخصوصٌ بمزيدِ الرفع، وهو الابتهال الذي ذكره ابن عباس، فالأحاديث تَأتلفُ ولا تختلف.
وأما الموضع الثاني فنَقُول: من ظنَ أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الرفع المعتدل جعلَ ظهرَ كفَّيْه إلى السماء فقد أخطأ، وكذلك من ظنَ أنه قصدَ توجيهَ ظهرِ يَدَيْه إلى السماء في شيء من الدعاء، فليس في شيءٍ من الحديث ما يدلُّ على أنه قصدَ جَعْلَ كفيْه دُونَ بَطْنِهما إلى السماء، ولا على أنه في الرفع المعتدل أشار بظهرهما إلى السماء، بل الأحاديثُ المشهورة عنه تُبين أنّ سُنَّتَهُ إنما هي قصد توجيه بطن اليد إلى السماء دون ظهرها إذا قصد أحدهما.
ففي سنن أبي داود (1) من حديث مالك بن يسار السَّكُوني ثم
__________
(1) برقم (1486). وصححه الألباني في “الصحيحة” (595).
(4/96)
العَوْفي أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “إذا سألتم الله فَاسْألوه ببطونِ أَكُفكم، ولا تَسْألوه بظُهورِها”. ورَوَى أيضًا (1) من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “من نَظَر في كتاب أخيه بغير إذنِه فإنما ينظر في النار. سَلُوا اللهَ ببطون أكفكم، ولا تَسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم”. قال أبو داود: رُوِيَ هذا الحديث من غير وجهٍ عن محمد بن كعبٍ كلُّها واهية، وهذا الطريقُ أمثلُها وهو ضعيف أيضًا.
وفي سنن أبي داود (2) وغيره عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن ربكم حَيِيٌّ كريمٌ يَستحي من عبدِه إذا رفعَ يديه إليه أن يردَّهما صَفْرَاوَيْن”. وفي سنن أبي داود (3) عن السائب بن يزيد عن أبيه أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهَه بيديه. وقد تقدم في حديث الاستسقاء من حديث عميرٍ مولى آبي اللحم أنه رأى رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عند أحجار البيت (4) قائمًا يدعو رافعًا يديه قِبَلَ وجهِه. لكن هذا الرفع دون الرفع الذي أخبر به أنس، وذاك كان في موطن آخر، فإن ذاك الرفع جاوزَ بهما رأسَه.
__________
(1) أبو داود برقم (1485).
(2) برقم (1488). وأخرجه أيضًا الترمذي (3551) وابن ماجه (3865). وصححه ابن حبان (2399 – موارد) والحاكم (1/ 497).
(3) برقم (1492). وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف، يروي عن حفص بن هاشم، وهو مجهول كما قال الحافظ في “التقريب”.
(4) في هامش الأصل: صوابه “الزيت”، وهو موضع في طيبة، وقد تقدم ذكره.
(4/97)
وبالجملة فهذا الرفع الذي استفاضتْ به الأحاديث، وهو الذي عليه الأئمة في دعاء الصلاة، وعليه عمل المسلمين من زمن نبيهم إلى هذا التاريخ.
وأما حديث أنس فقد تقدم أنه لشدة الرفع انحنَتْ يدُه، فصار كفُّه مما يلي السماءَ لشدة الرفع، لا قصدًا لذلك، كما جاء أنه رفعَها حذَاءَ وجهه. وتقدم حديث أنس نفسه أنه رأى رسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يدعو بباطنِ كفَّيه وظاهرِهما، وتقدم حديث ابن عباس: الابتهالُ هكذا، ورفعَ يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهَه. فهذه ثلاثة أنواع في هذا الرفعِ الشديد رفع الابتهال، تارةً يذكر فيه أنَّ بطونَهما مما يلي وجهَه وهذا أشد، وتارةً يذكر هذا وهذا، فتبين بذلك أنه لم يقصد في هذا الرفع الشديد لا ظَهْرَ اليد ولا بَطْنَها، لأن الرفع يرتفع وتَبقَى أصابعُها نحوَ السماء مع نوع من الانحناءِ الذي يكون فيه هذا تارةً وهذا تارةً. وأما إذا قصد توجيهَ بطن اليد أو ظهرها فإنما كان توجه بطنها، وهذا في الرفع المتوسط الذي هو رفعُ المسألة.
فبهذا تآلَفُ الأحاديث ويَظهر السنةُ وتبيَّنُ المعاني المتناسبة.
إذا تبين هذا فنقول: الجواب عن احتجاج الجهمي من وجوه: أحدها: أن يقال: لا نُسلِّم أنّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قصدَ توجيه ظهرِ الكفِّ دونَ بطنِه إلى السماء في شيءٍ من الدعاء، وقد تقدم بيان معنى
(4/98)
حديث أنس وأنه لشدة الرفع انحنَتْ يدُه.
الوجه الثاني: أن يقال: لو جاء حديث واحد صحيح صريح بأنه قصدَ رفعَ ظهرِ كفَّيْه إلى السماء لكانت الأحاديث التي هي أكثر منه وأشهر مُعارضةً له في ذلك، فإن أمكنَ الجمعُ بينهما وإلاَّ كان الأكثر الأشهر أولَى بالتقديم عند التعارض.
الوجه الثالث: أن يقال: هَبْ أنه قصدَ رَفْعَ كفيه إلى السماء وتوجيهَ باطنِ يديه إلى الأرض، فهذا لا يدلُّ على نفي علوّ الله سبحانَه وتعالى، فإن الناس كلهم متفقون على أن الله ليس في الأرض دون السماء، فلا يجوز أن يقال: قَصَدَ توجيهَ بطنِ يدِه إلى الله، ولم يقل هذا أحدٌ من الخلائق.
الوجه الرابع: أن يقال: غايةُ ما في هذا أنه لم يَقصِدْ رفعَ يده إلى السماء، ولا ريبَ أن رفع اليدين إلى السماء في الدعاء ليس واجبًا، فغاية هذا أن يقال: إن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يرفع يديه إلى السماء في الدعاء، وهذا لا يدل على أن الله ليس في العلوّ.
الوجه الخامس: أن هذا غاية ما فيه أنه يبطُل استدلالُ من يَستدِلُّ برفع اليد على أن الله في العلو، فيقول المعارض: رفع اليد إلى السماء لا يدلُّ على أنه رفعَها إلى الله، كما أن جعلَ الكفِّ إلى السماء لا يدل على أنَّ بطن اليد إلى الله، فغاية ما يقول المعترض أن رفع اليد لا يَبقى فيه دلالة على العلوّ، ومعلومٌ أن انتفاءَ الدليل المعيَّن لا يَنفي الحكم.
(4/99)
الوجه السادس: أنه لا يَتوهَّمُ عاقل أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قصد بذلك تعريفَ أمتِه أنَّ الله ليس في العلو، فإن هذا الفعل ليس ظاهرًا في هذا المقصود، ولهذا لم يستدل أحدٌ من الجهميَّة بذلك. والله قد أمرَ نبيَّه بالبلاغ المبين، فكيف يَتْرُك البيانَ الذي جُعِلَ عليه إلى ما لا بيانَ فيه؟ كيف والقرآن والأحاديث مملوءٌ من البيانِ الدالِّ على أن الله في العلو؟ فكيفَ يجوز أن يُقال: إنه قصدَ أن يُعرِّفَهم نفيَ العلوِّ بمثل هذا العلو الذي لا يدلُّ؟ ولا يقالُ: إنه قَصدَ تعريفهم العلوِّ بتلك الدلالات البينة الواضحة الكثيرة المتواترة؟ هذا مما يُعلَم بالاضطرار أنه من نسبَ الرسولَ إليه فهو من أكذَب الخلقِ عليه، وهو في هذا المقام من حبالة أهل السفسطة وَالقرمطة المُبطِلين للعقليات والسمعيات.
الوجه السابع: أن يقال: لا ريبَ أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الدعاء تارةً كان يُشير بإصبعه، كما ثبت مثل ذلك في الصلاة والخطبة، وأنه كان يدعو بباطن يَدَيه كما جاء في أحاديث متعددة، وقد كان يدعو أحيانًا بلا إشارة ولا رفعٍ، فيقالُ: إذا كان بعض هذه الأفعال دالاًّ على عُلوِّ الله تعالى وقد فعلَه بعضَ الأوقات حصلَ المقصود، وليس تركُ الدلالة في بعض الأوقاتِ نافيًا للمدلول بوجود الرفع دليل العلوّ، وعدمُه لا ينافيه، فلا يَضرُّ إذا كان في بعض الأدعية لم يرفع بطن يديه إلى السماء، إذ قد عُلِمَ أنه لم يَقصِد هنالك توجيهَ بطن يديه إلى غير الله.
الوجه الثامن: أنه قد جاء مُصَرَّحًا بأن الإشارة والرفع إلى الله تعالى،
(4/100)
كما تقدم من حديث سلمان عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنَّ ربكم حَيِيٌّ كريم يَستحي من عبده إذا رفعَ يديه إليه أن يَرُدَّهما صَفْرَاوين”.
وفي صحيح مسلم (1) عن ابن عمر أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان إذا جلس في الصلاة وضعَ يَدَيه على ركبتيه، ورفعَ إصبعَه اليمنى التي تَلِي الإبهامَ فدَعا بها، ويدَه اليسرى على ركبتيه باسطَها. وفي لفظٍ (2): كان إذا قعدَ في التشهد وضعَ يده اليسرى على ركبته [اليسرى]، ووضعَ يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعَقَدَ ثلاثًا وخمسين، وأشار بالسبَّابة. وفي لفظٍ (3): كان إذا جلس في الصلاة وضعَ كفَّه اليمنى على فخذِه اليمنى، فقبض أصابعَه كلَّها، وأشارَ بإصبعِه التي تَلِي الإبهامَ، ووضعَ كفه اليسرى على فخذِه اليسرى.
وكذلك في صحيح مسلم (4) حديث عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذا قعدَ يدعو وضعَ يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى [على فخذِه اليسرى]، وأشار بإصبعِه السبَّابة، ووضعَ إبهامَه على إصبعِه الوسطى، ويُلْقِم كَفه اليسرى ركبتَه.
وفي صحيح مسلم (5) وغيره من حديث جابر الطويل في صفة
__________
(1) برقم (580).
(2) عند مسلم أيضًا.
(3) عند مسلم في الموضع السابق.
(4) برقم (579).
(5) برقم (1218). وقد جمع الألباني طرقَه في جزء بعنوان “حجة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كما رواها عنه جابر،، فليراجَع.
(4/101)
حجة الوداع – وهو أتمُّ حديثٍ جاء في صفة حجَّتِه – قال: حتى إذا زاغت الشمسُ أمرَ بالقَصوَاءِ فرحلتْ له، فأتى بطنَ الوادي، فخطبَ الناس فقال: “إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألاَ كلُّ شيء من أمرِ الجاهلية تحتَ قدميَّ موضوع، ودماءُ الجاهلية موضوعة، وإن أولَ دمٍ أَضَعُ من دمائنا دمُ ابنِ ربيعةَ بن الحارث، كان مُسترضعًا في بني سعد فصَلَبَه هُذيل، وربا الجاهليةِ موضوع، وإن أول رِبًا أضعُه رِبَانَا رِبَا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كلُّه. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنَ بأمانة الله، واستحللتُم فروجَهن بكلمة الله، ولكم عليهنّ ألا يوطئنَ فُرُشَكُم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضْرِبُوهن ضربًا غير مُبَرِّح، ولهن عليكم رزقُهن وكسوتُهن بالمعروف، وقد تركتُ فيكم ما لم تَضِلُّوا بعدَه إن اعتصمتُم به كتابَ الله. وأنتم تُسْأَلون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ، فقالَ بأصبعِه السبَّابة يرفعها إلى السماء، ويَنْكُتُها إلى الناس: اللهمَّ اشْهَدْ، اللهمَّ اشْهَدْ، ثلاث مرات. ثم أذّن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقامَ فصلى العصر.
فهو هنا يدعو ربَّه ويُناجيه، مشيرًا بإصبعه إلى السماء، ثم ينكتها إليهم يقول: اللهمَّ اشهَدْ أنّيْ على ما قالوا. ومن رأى هذا الفعلَ منه وسمعَ هذا الكلامَ منه على هذا الوجه عَلِمَ ضرورةً أنه أشار بإصبعه إلى الله أن يَشهدَ على أمتِه بإقرارهم بالبلاغ. ولو كان يُكابِرُ وقال: هذا لا يدل، فلا يُنازع في أنه ظاهر في ذلك، ولو نازعَ في الظهورِ لم يُنازع في أن دلالة هذا وأمثالِه على علو الله أبينُ
(4/102)
من دلالة تركِ رفع اليدين أو تركِ رَفْع بطونهما على عدم علوِّه، فإن ذلك لا يدلُّ بوجهٍ من الوجوه، فمن تركَ هذه الدلالاتِ المحكماتِ وتمسكَ بالمتشابهات كان من الذين في قلوبهم زيغ.
(4/103)
مسألة
في رجالٍ يَتْرُكون الصلواتِ الخمسَ تهاونًا، ويُدْعَون في كل وقتٍ إلى فعلها فلا يُجيبُون، فماذا يَجب عليهم؟ وهل إذا سلَّموا على أحدٍ أن يَرُدَّ عليهمَ السلامَ؟ وهل يُهْجَروا في الله؟ وفيهم رجلٌ قال: صليتُ بلا وضوء، وقال أيضًا: ما كتبَ الله عليَّ صلاةً، فماذا يجب عليه؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إذا لم يكونوا مُقِرِّين بوجوبِها عليهم فهم كفارٌ مرتدون (1) بإجماع المسلمين، يَجب قتلُهم كلهم إذا لم يَتُوبوا. والذي قال: ما كتبَ الله عليَّ صلاةً، فإن هذا كافر باتفاق المسلمين يجب قتله إذا لم يَتُبْ. وإذا أقَرُّوا بالوجوب وامتنعوا من الفعل فإنه يجب عند جماهير أئمة المسلمين أن يُستتابوا أيضًا، فإن لم يتوبوا ويُقيموا الصلاةَ المفروضةَ عليهم فإنه يجب قتلُهم أيضًا.
وهل يُقْتَلوا (2) كفرًا أو فسقًا؟ على قولين مشهورين للعلماء، أحدهما: أنهم يُقتَلون كفرًا، وهو قول أكثرِ السلف وقول طائفة من
__________
(1) في الأصل: “مرتدين” منصوبًا.
(2) كذا في الأصل بحذف النون.
(4/104)
أصحاب مالك والشافعي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختاره أكثر أصحابه، كما قال النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ليس بينَ العبد وبين الكفر والشرك إلا تركَ الصلاة”. رواه مسلم (1)، وقال: “العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر” (2). قال الترمذي: حديث صحيح. وروى الترمذي (3) عن عبد الله بن شقيق: كان أصحابُ محمد لا يَرَون شيئًا من الأعمال تركه كفرًا إلاّ الصلاة، مَن تركَها فقد بَرِئتْ منه ذمةُ الله ورسوله.
وفي صحيح البخاري (4) عن عمر أنه لما طُعِنَ قيل له: الصلاة، فقال: نعم، لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاةَ، وقد قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (5)، فعلَّق الأخوَّةَ في الدين على التوبة من الشرك وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة، كما علَّق تركَ القتال على ذلك بقولَه: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (6).
__________
(1) برقم (82) عن جابر بن عبد الله.
(2) أخرجه أحمد (5/ 346،355) والترمذي (2621) والنسائي (1/ 231) وابن ماجه (1079) عن بُريدة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3) برقم (2622). ووصلَه الحاكم في المستدرك (1/ 7) عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال، وصححه الألباني في تعليقه على “المشكاة” (579).
(4) لم أجده فيه، وقد أخرجه مالك في “الموطأ” (1/ 39 – 40) عن المسور بن مَخرمة عن عمر.
(5) سورة التوبة: 11.
(6) سورة التوبة: 5.
(4/105)
وفي الصحيح (1) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سُئل عمن لم يَرَهُ كيف تَعرِفُهم؟
فقال: “يأتون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ من آثارِ الوضوء”. فمن لم يُصلِّ لم يكن فيه علامةُ أمةِ محمد يومَ القيامة.
وفي الصحيحين (2) في حديث الشفاعة أنه ذَكَر الجهنَّميين الذين أُخرِجوا من النار بالشفاعة، قال: “فتأكُلُهم النّارُ إلاّ موضعَ السجود، فإن الله حرَّم على النار أن تأكلَ أثَرَ السجود”. وأمثال ذلك كثيرة.
وأما قول القائل: صلَّيتُ بلا وضوء، فإن كان مستحلاًّ لذلك أو مستهزئًا بالصلاة كَفَرَ باتفاق المسلمين، ووَجَبَ قتلُه، وإن كانَ معتقدًا لوجوب الوضوء للصلاة وأن الصلاةَ بغير وضوء حرام، ففي كفرِه قولان للفقهاء، فإن طائفة من أصحاب أبي حنيفة قالوا: يُكفَّر هذا، واتفق المسلمون على مثل هذا يَستحقُّ العقوبةَ الغليظة. والله سبحانه أعلم.
وهَجْرُ هؤلاء وتركُ ردِّ السلام عليهم من أهونِ ما يُعَزَّرُون به، فإنهم يستحقونَ ما هو أغلظ من ذلك، والله أعلم.
__________
(1) مسلم (249) عن أبي هريرة.
(2) البخاري (6573) ومسلم (182) عن أبي هريرة.
(4/106)
مسألة
في رجلٍ مَضَى عليه زمنٌ لم يُصَل فيه، ثم تابَ ولازمَ الصلوات الخمس، ولم يتفرَّغ لقضاءِ ما فاتَه من الصلوات، فهل – والحالة هذه – يُطالِبُه الله بذلك أم لا؟
الجواب
الحمد لله. أمَّا إن كان أوّلاً ممن لا يعتقد وجوبَ الصلاةِ ويَعزِم على فعلها فهذا في الباطن ليس بمؤمن، وإن كان في الظاهر مسلمًا، كالمنافقين الذين تجري عليهم أحكامُ الإسلام الظاهرة، وهم في الآخرة في الدَّرْك الأسفل من النار. وإن لم يكُنْ مكذِّبًا في الباطن للرسول، بل قد يكونُ مُقِرًّا في الباطن بصِدْقِه، أو مُعرِضًا عن تصديقه وتكذيبه، وهو مع ذلك مُعرِضٌ عما جاء به، لا يَخْطُر بقلبه الصلاةُ هل هي واجبة أو ليست واجبة؟ وهل يلزمُه فعلُها أو لا يلزمُه؟ وإن خَطَر ذلك بقلبه أعرضَ عنه، واشتغلَ بأمورِ دنياه وشهواتِه عن أن يعتقد الوجوبَ ويَعزِمَ على الفعل، فهؤلاء وإن صَلَّوا لم تُقْبَلْ صلاتُهم. قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142)) (1)،
__________
(1) سورة النساء: 142.
(4/107)
وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)) (1).
وهذا إذا تابَ فاعتقدَ الوجوبَ، وعَزَمَ على الفعل، وأقام الصلاةَ، كان بمنزلة من قد تابَ من الزكاة، وهذا على أصح قولَي العلماء وأكثرِهم لا يُوجَب عليه قضاءُ ما تركَه قبل الإسلام من صلاةٍ وغيرِها، ولهذا لم يكن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يأمر من تاب من المنافقين بإعادة ما فعلوه أو تركوه في حالِ نفاقهم، ولا أمرَ من تابَ من المرتدِّين بقضاءِ ما تركوه في حال الردَّة. وكذلك الصدِّيق والصحابة لما قاتلوا المرتدينَ لم يأمروهم بقضاء ما تركوه في حال الردَّة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في ظاهرِ مذهبِه أنه يَجبُ على المرتدِّ إذا أسلم أن يَقْضيَ ما تركَه حالَ الردَّة، وفي قضاءِ مَا تركَه قبل الردَّة روايتان عن أحمد، ومذهبُ أبي حنيفة ومالك أنه لا يَجب عليه قضاء شيءٍ من ذلك، ومذهب الشافعي: يَقضِي الجميعَ، وقد بَنَوا ذلك على أن الردَّة هل تُحبطُ مُطْلَقًا أو بشرطِ الموتِ عَليها؟ وفي هذا البناءِ وتقريرِ هذه المسائلِ كلام ليس هذا موضعَه، فإن المسئولَ عنه قد عُرِفَ حكمُه بالسنة المعروفة، مِع ما دلَّ عليه القرآن في قوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (2).
وقد أجمع المسلمون على أن الكافر لا يُصلِّي، سواءً كان حربيًّا أو ذميًّا، لا يجب عليه قضاءُ شيءٍ من هذه الفرائض، مع قولِ الجمهور إنه يُعاقَب على تركِها في الآخرة إذا لم يُسلِم.
__________
(1) سورة الماعون: 4 – 7.
(2) سورة الأنفال: 38.
(4/108)
وأمّا إن كان هذا الذي فوَّتَ بعضَ الصلاة عمدًا مؤمنًا، يَعتقدُ وجوبَها ويَعزِمُ على أدائها، ولكن تكاسلَ عنها بعضَ الأوقات، فهذا يجبُ عليه عند جمهور العلماء، وعند بعضهم إذا تابَ فلا قضاءَ عليه، بخلاف ما لو نامَ عنها أو نسيَها فإن هذا عليه القضاءَ بالسنة والإجماع. ومن قالَ: العامدُ لا يَقضِي، فإن ذنبَه أكبرُ ولا ينفعُه القضاء، لكن إذا تابَ فالتوبةُ تَجُب ما قبلَها. والذين أوجبوا عليه القضاءَ أوجبوه بحسب الإمكان.
وأكثرُهم يقولون: إذا كثرتِ الفوائتُ لم يَجبْ قضاؤُها على الفورِ مرتبةً، كأبي حنيفةَ وأحمد في إحدى الروَايتين، وأصحاب الشافعي في أصح الوجهين، يُوجِبون قضاءَ ما تعمَّدَ تركَه على الفور، وأحمد في الرواية الأخرى يُوجب قضاءَ الجميع على الفور مرتبًا لكن بحسب الإمكان، بحيث لاَ يَشْغَله عما لا بدَّ له منه من معيشةٍ ونحوِها، ولا يُضعِفُه عن واجبٍ أو ما لا بُدَّ منه.
والكثيرُ الذي لا يجب فيه الفورُ والترتيبُ، قيل: هو صلاة يوم وليلةٍ، كما هو في مذهب أبي حنيفة ومالك. وقيل: ما لا يمكن فعلُه إلاّ بفوتِ الحاضرةِ، كما هو المنقولُ عن أحمد.
والذي ينبغي لهذا التائب أن يجتهدَ في المحافظةِ على الصلاةِ فيما بقي من عمره، وإن قَصَّرَ في قضاءِ الفوائتِ فليجتهدْ في الاستكثار من النوافل، فإنه يُحاسَب بها يومَ القيامة، كما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1): “أولُ ما يُحاسَب به العبدُ
__________
(1) أخرجه بهذا السياق أحمد (4/ 65،5/ 72،377) عن يحيى بن يعمر عن =
(4/109)
صلاتُه، فإن كان أَتَمَّها كُتِبَتْ تامَّة، وإن لم يكن أَتَمَّها قال الله: انظروا هل تجدون لعبدي مِن تطوُّع فَتكمِلونَ به. فريضتَه، ثم الزكاة كذلك، ثم تُؤخَذُ الأعمالُ على حسب ذلك”.
وأمَّا إنْ قُدِّرَ أنه عَجَزَ عن القضاء، فلم يَتفرَّغْ حتى مات بعد التوبة، فهذا مغفورٌ له، ولا حولَ ولا قوةَ إلاّ بالله. وكذلك لو قضى البعضَ وعجَزَ عن البعضِ، ومن العَجْزِ أن يكونَ بحيثُ لو اشتغلَ بالقضاء لتَضرَّرَ في معيشتِه وما يَحتاج إليه لنفقةِ عيالِه وقضاءِ دُيونِه ونحوِ ذلك، فإنه ليس عليه أن يُواصِلَ القضاءَ مواصلةً تمنعُه عمّا لا بدَّ منه باتفاق العلماء. والله أعلم.
__________
= رجلٍ من أصحاب النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مرفوعًا. وله شاهدٌ من حديث تميم الداري، أخرجه أحمد (4/ 103) وأبو داود (866) وابن ماجه (1426)، وشاهد آخر من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 290،4/ 103) وأبو داود (865) والترمذي (413) والنسائي (1/ 232،233) وابن ماجه (1425، 1426) من طرق عن أبي هريرة.
(4/110)
مسألة
في رجل له عشرين (1) سنة يَشربُ الخمر، ولا يُصلِّي إلاّ بعضَ الأعياد والجمع، لكنه يتصدَّقُ ويُنْظِرُ المُعْسِر، فهل يثابُ على ذلك؟ وهل إذا تابَ يجب عليه قضاءُ ما فاته من الواجبات؟
الجواب
الحمد لله. تاركُ الصلاة يجبُ أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلا عُوقِبَ عقوبة شديدة حَتَّى يصلِّي بإجماع المسلمين. وأكثرُ الأئمة كمالك والشافعي وأحمد يقولون: إنه إذا لم يُصَل فإنه يُقتَل، واختُلِفَ هل يُقتَل كافرًا أو فاسقًا على قولين. وقد ثبتَ في الصحيح عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “ليس بين العبدِ وبين الكفرِ إلاّ تركُ الصلاة” (2)، وقال: “العهد الذي بينَنا وبينَهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر” (3).
وأما إذا فعلَ شيئًا من الخير فإن الله لا يَظلِمُ، فإنّ اليهود
__________
(1) كذا في الأصل، وهو لحن من السائل.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.
(4/111)
والنصارى إذا فعلوا خيرًا فإنَ الله يثيبُهم عليه في الدنيا، لكن هذا لا يَدفَعُ عنه عقوبةَ تركِ الصلاة. ويَجبُ عليه المحافظةُ على الصلوات في مواقيتها. ومن تركَ الصلاةَ متَعمدًا فقد قال بعض العلماء: إن الإثم الذي عليه لا يَسقُط ولا غيرُه، ولا يُقبَل منه القضاءُ، بل يتوبُ ويَستغفر. وقال الأكثرون: بل يَقضِي ويَتُوب من التأخير، والله أعلم.
(4/112)
مسألة
في رجل عنده زوجة لا تُصلِّي، فهل يجب عليه أو يُستَحبُّ له أن يأمرَها بالصلاة؟ وإذا لم تَأتَمِرْ فهل يجوز له إبْقَاؤُها زوجةً أو يَجبُ عليه أو يُستحبُّ له أن يُفارِقها؟ وماذا يَجبُ على تاركِ الصلاة؟ وهل يَكْفُر بتركِها أم لا؟
الجواب
الحمد لله. بل يَجب عليه أن يأمرَها بالصلاة ويجب ذلك عليه، بل يجب عليه أن يأمرَ بذلك كلَّ من يَقدِر على أمره به إذا لم يَقُم غيرُه بذلك، وقد قال الله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (1)، وقال تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (2)، قال علي عليه السلام: عَلِّموهم وأَدِّبُوهم. وينبغي مع الأمر بذلك أن يَحُضُّها على ذلك بالرغبة والرهبة، كما يَحُضها على ما يَحتاج إليه، فإن أصَرَّتْ على تركِ الصلاةِ فعليه أن يُطَلِّقها، وذلك واجبٌ في الصحيح.
وتاركُ الصلاة يَستحق العقوبةَ حتى يُصَلِّي باتفاق المسلمين، على أنه إن لم يُصَلِّ قُتِلَ، وهل يُقتَلُ كافرًا أو فاسقًا؟ على قولين مشهورين، والله أعلم.
__________
(1) سورة طه: 132.
(2) سورة التحريم: 6.
(4/113)
مسألة
في رجل عمره سَبْعِيْن (1) سنةً وهو مقيمٌ في بلده مدةَ ثلاثِ سنين، ما رآه أحدٌ صَلَّى ولا زكَّى.
الجواب
هذا الرجل يجب أن يُستتاب لِيُقِيْمَ الصلاةَ ويُؤتيَ الزكاةَ، فإن لم يُقِم الصلاةَ وإلا قُتِلَ عند جماهير العلماء، وهل يُقْتَل كفرًا أو فسقًا على قولين.
وإن لم يؤدِّ الزكاةَ وإلاَّ أُخِذَتْ منه قهرًا، فإنْ غَيَّبَ مالَه وامتنعَ من أدائها قُتِلَ أيضًا في أحدِ قولي العلماء، وفي الآخر: لا يزال يُضرَب ضربًا بعد ضرب حتى يُظْهر مالَه فَيُوخَذُ منه الزكاةُ. ومن عَرف حالَ هذا فينبغي أن يَهجُرَهُ، فلا يُسلِّمَ عليه ولا يُعاشِرَه، ويُوَبِّخه ويُغْلظ له حتى يقيمَ الصلاةَ ويؤتيَ الزكاة.
قال عمر بن الخطاب: لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاة.
وقال ابن مسعود: ما تاركُ الزكاة بمسلم. وقد قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (2)، وفي الآية
__________
(1) كذا في الأصل منصوبًا.
(2) سورة التوبة: 5.
(4/114)
الأخرى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (1).
وفي الصحيحين (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “أُمِرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يَشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، ويُقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فَعلوا ذلك عَصَموا منّي دِماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّها، وحسابُهم على الله”.
فقد بيَّن الله في كتابه وسنة رسوله أنه إنما يُكَفُّ عن قتالهم وإنما يَصيرون إخوةً في الدين إذا كانوا مع توبتهم من الكفر يُقيمون الصلاةَ ويُؤتون الزكاة، فمن لم يُقم الصلاةَ ولم يُؤتِ الزكاةَ لم يكن من هؤلاء، فيُعاقَب على ذلك باتفاق المسلمين، وإن وقعَ نزاعٌ في صفةِ العقوبة، والله أعلم.
__________
(1) سورة التوبة: 11.
(2) البخاري (25) ومسلم (22) عن ابن عمر.
(4/115)
مسألة
في البنت إذا بَلَغَتْ ولم تُصَل، وإن قيل لها: صَلِّي تقول: ما أنا كَبيرة. والمرأةُ الكبيرة إذا لم تصل فماذَا يجب عليها إذا كان زوجُها حَلَفَ عليها: لا يَطأهُا ولا يُنفِقُ عليها إلاّ أن تُواظِبَ على الصلاةِ؟ هل يَحْنَث أم لا؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين. مَن بَلَغَ من الرجال والنساءِ فالصلاة فريضة عليه باتفاق المسلمين، والمرأةُ يَحصُل بلوغُها بحيضِها وبإنزالِ الماء، وكذلك الحبل يَدُلُّ على الإنزال، فمتى حاضت المرأة أو حبلتْ ولم تُقِرَّ بوجوب الصلاة عليها بعد أن تَعرِفَ أن الله أوجبَها عليها فهي كافرة باتفاق المسلمين، ولا تَحل لزوجها، ولا يَصِحُّ عقدُ النكاح عليها، فإنّها مرتدَّة، ونكاحُ المرتدَّةِ باطل عند الأئمة، ويَجبُ قتلُها عند مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، كما يجبُ قتلُ سَائرِ المرتدَّاتِ عندَهم.
وإن كانت لا تُقِرُّ بوجوبها لِظَنِّها أنَ الصلاةَ إنما تَجِبُ على العجوزِ دون الشابَّةِ، فهذه لا يُحكَم بكفرِها ورِدَّتِها حتى تَعْرِفَ أنها واجبةٌ عليها، وهل على هذه إعادةُ ما تركتْه في حالِ جهلِها بوجوب الصلاة عليها؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره.
(4/116)
وكذلك المرأةُ الكبيرةُ إذا لم تُقِرَّ بوجوب الصلاة وامتنعتْ من فعلِها فإنها تُستَتاب، فإن تابتْ وإلاّ قُتِلَتْ عند مالكٍ والشافعي وأحمد وغيرهم. وإذا هَجرها وامتنعَ من وَطْئِها حتى تُصلِّيَ كان محسنًا في الهجر والامتناع، ولا نفقةَ لها هذه المدةَ، فإنَ الذي فَعَلَه واجبٌ عليه. ويَجبُ عليها أن تُطِيعَه فيه، وللزوج إلزامُ زوجتِه بتركِ المحرَّمات، وإنَ أمكنَ الوطءُ مع فعلِها، ولهَ أيضًا إلزامُها بغُسْلِ الجنابةِ وإزالةِ النجاسة، وإن أمكنَ وطؤُها مع الجنابة، وهذا وإن عُلِّلَ بأن النفسَ تَعَافُ وَطْءَ المرأةِ الجُنُب، فالتي لا تُصلِّي شرٌّ منها، وتركُ الصلاة شرٌّ مِن فِعْلِ أكثرِ المحرَّمات، إذا كانتْ تطيعُه فيما له أن يُلزِمَها به، وإن كانتْ ناشزًا فلا نفقةَ لها ما دامتْ كذلك، والله أعلم.
(4/117)
مسألة
في أقوام يكونون بالمسجد، فإذا حَضَرتِ الصلاةُ قاموا، فيُدْعَون للصلاةِ فيَأبوْا (1)، فيقالُ لهم: مَن لا يُصلِّي ما هو مسلم، فيقولون: كل من نَطق بالشهادتين هو مسلم.
فبينوا لنا حُكْمَ هؤلاءِ وما يَجِبُ عليهم، ومنهم من لا يصلي إلاّ من العيد إلى العيد، ومنهم من لا يصلِّي أبدًا.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، من تركَ الصلاةَ غَيْرَ مُقِرٍّ بوجوبها عليه – وهو من أهل الوجوب – فإنه كافر باتفاق الأئمة وإن كان مقرًّا بالشهادتين، وهذا يُستَتاب، َ فإن تابَ وإلاَّ قُتِلَ كافرًا مرتدًّا باتفاق الأئمة. وإن كان ممن لا يَعرِفَ الوجوبَ لحِدْثَانِ عهدِه بالإسلام أو إنشائِه بمكانِ جهلٍ فإنه يُعرَّفُ الوجوب، فإن أقرَّ به وإلاّ قُتِل كافرًا.
والصلاة واجبة على كل عاقلٍ بالغ إلاّ الحائض والنفَسَاء، تجب على الحرِّ والعبد، الذكر والأنثى، والمقيم والمسافر، والآمِن
__________
(1) كذا في الأصل.
(4/118)
والخائف، والصحيح والمريض، وأهل الأحوال وأهل خوارقِ العادات ذوي المكاشفات والتأثيرات وغيرِ أهل خوارقِ العادات، وأهل حضورِ القلب مع الله وأهل المعرفة والحقائق، وغير هؤلاء، والمتولهين الذين لهم عقل يُميِّزون وغير المتولهين، لا تَسْقُط عن العبدِ مع حضورِ عقلِه بسببٍ من هذه الأسباب.
وأما من كان مجنونًا فإنه لا صلاةَ عليه حالَ جنونه، ولا قضاءَ عليه بعد الإفاقة، وإن قَصُرَ زمنُ الجنونِ عند جماهير العلماء، قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “رُفِعَ القلمُ عن المجنونِ حتى يُفِيْقَ، وعن الصبيِّ حتى يَحتلمَ، وعن النائم حتى يستيقظَ” (1). والمجانين منهم من يكون مع جنونه له نصيبٌ من الإيمان أو الكشف ونحوه، وقد يُسمَّى هؤلاء عقلاءَ المجانين، وقد يُسمَّون المولَّهِين، فهؤلاء إذا كانوا مجانين كانوا كما قال فيهم بعض أهل العلم: هم قومٌ أعطاهم الله عقولاً وأحوالاً، سَلَبَ عقولَهم وأبقَى أحوالَهم، فأسَقَطَ ما فَرَضَ بما سَلَبَ.
وأما من كان عاقلاً فلا تَسقُط عنه الصلاةُ، وإن له من الأحوال والمعارف وخوارِق العادات ما عَسَى أن يكونَ، بل إذا لم يُقِرَّ بوجوب الصلاة عليه فإنه يُسْتَتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِل. وكذلك من قَرَّره على ذلك واعتقدَ أنَّ الصلاةَ لا تجب على مثل هؤلاءِ لِحصولِ
__________
(1) أخرجه أحمد (6/ 100،101،144) وأبو داود (4398) والنسائي (6/ 156) وابن ماجه (2041) عن عائشة. وله شاهد من حديث علي، أخرجه أحمد (1/ 116،118،140) وأبو داود (4403) والترمذي (1423) من طرقٍ عن علي.
(4/119)
مقصود الصلاة لهم ونحو ذلك، فإنه من اعتقد ذلك يُستتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل. ومن كان نائمًا فإنه يَقْضِي الصلاةَ إذا استيقظَ. وهذا كلُّه لا نِزاعَ فيه بين المسلمين.
وأما من أُغمِيَ عليه لمرضٍ أو خوفٍ أو حالٍ وَرَدَ عليه من خشيةِ الله تعالى أو استماع القرآن ونحو ذلك، فهذا قيل: يَجِبُ عليه القضاء مطلقًا، وهو مذهب أحمد ويُروَى عن عمار بن ياسر، وقيل: لا قضاءَ عليه وهو مذهب الشافعي، وقيل: يَقْضِي صلاةَ يوم وليلةٍ، كمذهب أبي حنيفة ومالك.
وإن زالَ عقلُه بسبب محرم، كالسُّكْرِ بالخمر والحشيشة وأكل البَنْجِ ونحو ذلك، أو بحال محرَّم مثل أن يستمعَ القصائد المنهيَّ عنها فيغيب عقلُه، فهذا عليه القضاءُ بلا نزاع، وإذا كان السبب محصورًا لا يكون (1) السكرانُ معذورًا.
وأما أن أقر الواحدُ من هؤلاء بوجوب الصلاة وامتنع من فعلِها فهذا أيضًا يُستَتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل عند جماهير الأئمة كمالك والشافعي وأحمد، ويُقتَل في ظاهرِ مذهبهم بترك صلاةٍ واحدةٍ، فإذا مَضَى مِن وقتِ صلاة الفجر قيل له: صَلِّ، فإن لم يُصَلِّ حلَّ دمُه ولو طار في الهواء ومشى على الماء، فإن الدَّجال يأمُر السماءَ فتُمطِر والأرضَ فتُنبتُ، ويَسْتَتْبعُ معه الكنوزَ، ومع هذا فهو كافرٌ من خلق الله، يَقتُله المَسيحُ بن مريمَ على بابِ الشَّرْقيّ. ولكن لا يُقتَل
__________
(1) في الأصل: “يكن”.
(4/120)
حتى يستتاب. وهل هذه الاستتابة واجبة أو مستحبة هي موَقتة ثلاثة أيام؟ هذا فيه نزاع معروف.
وإذا قُتِلَ فهل يُقتَل كافرًا مرتدًا لا يُدفَن في مقابر المسلمين ولا يُغسل ولا يُصلى عليه، أو يُقتَل فاسقًا كقتلِ قاطع الطريق والزاني إذا كان مُقِرا بوجوبها؟ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد.
وكلامُ أكثرِ السلف يدلُّ على تكفيره، وقد رجحه كثير من أصحاب أحمد وبعضُ أصحاب مالك والشافعي. وقد ثبتَ في الصحيح عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “ليس بين العبد وبين الشرك إلاّ تركُ الصلاة” (1)، وقال: “العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر” (2).
وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحابُ محمد لا يَرَون شيئًا من الأعمال تركه كفرًا إلاّ الصلاة. وقال عمر بن الخطاب لما قيل: الصلاة، فقال لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاة، ولم يَقُل ثلاثة أيام.
وسُئل ابن مسعود وغيره عن قوله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ) (3)، فقال: إضاعتُها تأخيرها عن وقتها، فقالوا: ما كنا نَحسب ذلك إلا تركَها، فقال: لو تركوها لكانوا كفَّارًا، وقد قال سبحانه وتعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)) (4). وإذا كان هذا الوعيد لمن نَسِيَها عن وقتها فكيف بمن تركها؟
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) سورة مريم: 59.
(4) سورة الماعون: 4 – 5.
(4/121)
مسألة
هل يجوزُ غيبةُ تاركِ الصلاةِ أم لا؟
الجواب
الحمد لله، إذا قيل عنه إنه تاركُ الصلاة وكان تاركَها فهذا جائز، ويَنبغي أن يُشاعَ ذلك عنه ويُهْجَر حتى يُصلي، وأمَّا مع القدرة فيجِبُ أن يُستَتابَ، فإن تابَ وإلا قُتِل.
(4/122)
مسألة
فيمن تركَ الصلاةَ عامدًا أو غيرَ عامدٍ، ووجبتْ عليه الزكاةُ ولم يُزَك، وعاق والديه، وقَتَلَ نفسًا خطأ، وقال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “مَن حج هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ خرجَ من ذنوبِه كيومِ وَلَدتْه أمُّه”. وقد قصدَ الحج، فهل يُسْقِط هذا جميعَه ومَظالِمَ العباد؟
الجواب
أجمعَ المسلمون لا يَسقُط حقوقُ العباد كالدَّيْن ونحوِ ذلك، ولا يَسقُط ما وجب عليه من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحق المقتول عليه وإن حجَّ. والصلاة التي يَجبُ عليه قضاؤُها يَجبُ قضاؤُها وإن حَج. وهذا كلُّه باتفاق العلماء.
(4/123)
مسألة
في رجلٍ ماتَ، وكان لا يُزكَي ولا يُصَلِّي إلاّ إن كان في رمضانَ، فيَجِبُ لنا أن نُصَلِّي على مثلِ هذا؟
الجواب
مثلُ هذا يُستَحبُّ لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاةَ عليه عقوبةً ونكالاً لأمثالِه، كما تركَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الصلاةَ على قاتلِ نفسِه، وعلى الغالِّ، وعلى المَدِيْنِ الذي لا وفاءَ له. وإن كان منافقَا فمَنْ عُلِمَ نِفاقُه لم يُصلَّ عليه، ومن لم يُعْلَم نِفاقُه فله أن يُصَلِّيَ عليه.
(4/124)
مسألة
في أقوامٍ لم يُصلوا ولم يَصومُوا، والذي يصوم منهم لم يُصَل، ومالُهم حرام، ويأخذون أموالَ الناس، ويُكرِمون الجارَ والضيفَ، ولم يُعرَفوا لهم مذهبٌ (1) وهم مسلمون.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إن كانوا تحت حكمِ وُلاةِ الأمور فإنهم يَجبُ أن يأمروهم بإقامة الصلاة ويُعاقِبوا على تركها باتفاق المسلمينَ، وكذلك الصيامُ. فإن أقرُّوا بوجوبِ الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة المفروضة، وإلا فمن لم يُقِرَّ بذلك فهو كافر، وإن أقرُّوا بوجوب الصلاة وامتنعوا من إقامتِها عُوقِبوا حتى يُقِيموها.
ويَجبُ قتلُ كل من لم يُصَلِّ إذا كان عاقلاً بالغًا عند جماهير العلماء كَمالك والشافعي وأحمد، وكذلك يُقام عليهم الحدودُ، وإن كانوا طائفةً ممتنعةً ذاتَ شوكةٍ فإنه يَجبُ قتالهم حتى يَلتزِمُوا أداءَ الواجبات الظاهرة والمتواترة كالصلواَت والصيام والزكاة، وتركَ
__________
(1) كذا في الأصل.
(4/125)
المحرماتِ كالزنا والربا وقطع الطريق ونحو ذلك. ومن لم يُقِر بوجوبِ الصلاة والزكاة فإنه كافَرٌ يُستَتاب، فإن تاب وإلا قُتِل. ومن لم يُؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والجنة والنار فهو كافرٌ أكفرُ من اليهود والنصارى. وعقوقُ الوالدين من الكبائر الموجِبة للنار.
(4/126)
مسألة
فيمن قال: صلاة الجماعة ليستْ بواجبة، وإنما كانت واجبةً في زمن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ومعه فقط.
قيل له: فقد قال بعضُ العلماء: إن من تركَ الجماعة وصلى في بيته فهو منافق، فقال: مَن قال هذا هو المنافقُ، وقال: إنه لا يُوجَد اليومَ منافق، وإنما كان النفاقُ في زمنِ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكن يُقالُ اليومَ: زنديق، ولا يقال: منافق.
فهل ما قاله هذا الرجلُ صحيحٌ أم لا؟
أجاب
الحمد لله، أما من قال إن صلاة الجماعة كانت واجبةً في زمن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ومعه فقط، فهذا القولُ مخالف لأقوال الأئمة الأربعة وسائرِ أئمة الدين، بل ما نَعْلَمُ إماما قال هذا، وإنما قال هذا بعضُ العلماء في صلاة الخوف خاصةً، زعمَ أنها كانت تُصلى مع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – دون غيره، وجمهورُ الأئمة على خلاف ذلك. وأما الجماعة المعروفة فالأئمة متفقون فيها على خلاف قول هذا القائل، فمنهم من يقول: هي واجبة على الأعيان على عصر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وسائرِ الأعصار على من يُصلي خلفَه ومن يُصلّي خلفَ غيره. ومنهم من
(4/127)
يقول: هي واجبة على الكفاية على عصره وعصر غيره خلفَه وخلفَ غيره، ومنهم من يقول: هي سنة مؤكدة على عصره وعصر غيره خلفَه وخلفَ غيرِه. وأما وجوبُها في عصره معه فقط، فهذا قول مخالف لأقوال أئمة الإسلام، وما سمعتُ عالمًا قال هذا.
وقد كانت الجماعة على عهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تُقامُ خلفَه وخلفَ غيرِه من أئمة القبائل، وكان في كل دارٍ من دار الأنصار مسجد، أي في كلِّ قبيلةٍ من قبائل الأنصار مسجد، وكان لهم إمام راتب يُصلُّون خلفَه، كما كان معاذ بن جبل يُصلي بأهل قُباء، وكان غَسان بن مالك يُصلِّي بقومِه وكذلك غيرهما من الأئمة. وأما الجمعة فلم تكن تُقام إلا في مسجده، فمن قال: إن الصحابة كلهم كان يجب عليهم أن يُصلوا خلفَه الجماعةَ كما كان يجب عليهم أن يصلّوا خلفه الجمعةَ فقد أخطأ خطأً بينًا، وقال قولاً معلومَ الفساد بالتواتر والإجماع.
وأما إطلاقُ النفاقِ على من تخلَّف عن الجماعة أو الجمعة، فهذا إنما يكون إذا كان بغير تأويلٍ شرعي، فأما من تخلَّف لعذرٍ شرعي، أو مَن اعتقد أنّ ذلك ليس بواجب عليه، فتخلَّف لأجل هذا الاعتقاد فإنه قد يكون مؤمنًا غيرَ منافق، سواء كان مصيبًا في اعتقاده أو مخطئًا.
وقد ثبت في صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الله شرَعَ لنبيِّه سننَ الهدى، وإنكم لو صلَّيتم في بيوتكم كما
__________
(1) برقم (654).
(4/128)
يُصلِّي هذا المتخلفُ في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيكم لضلَلْتم، ولقد رأيتنا وما يتخلَّفُ عنها إلاّ منافقٌ معلومُ النفاق. فقد أخبر ابن مسعود أنَّ الجماعة لم يكن يتخلَّفُ عنها على عهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلاّ منافق معلومُ النفاق، وهذا مما يَستدِلُّ به من يُوجبها، لأنه إذا لم يكن يَتركُها حينئذٍ إلاّ منافق معلومُ النفاق عُلِمَ أنها كانت واجبةً إذ لو كانت مستحبةً كقيام الليل وصيام يوم الاثنين والخميس وسنةِ الظهر والمغرب لكان قد يتركها المؤمن، ولم يكن في تركها يُقال: إنه منافق، فإنه قد ثبتَ في الصحيحين (1) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ذكر ما فرض الله من الصلاة والصيام والزكاة ونحو ذلك لرجلٍ، فقال: والذي بعثكَ بالحق لا أزيد على هذا ولا أَنقصُ منه، فقال: “أفلحَ إن صَدَق”. فإذا كان من أدَّى الفرائضَ يكون مُفلحًا وإن لم يأتِ المستحبات، وكانت الجماعة لا يتخلَّف عنها عندهم إلا منافقٌ، عُلِمَ أنها كانت عندهم من الواجبات، ولكن هذا كان لعلمِ الصحابةِ بأقوال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ومعاني كلامِه، وأنه لم يكن بينهم نزاع على عهده ولا شبهة ولا اختلاف، لظهور العلم والإيمان ومعرفتهم بوجوبِها وتوكيدِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لها. حتى قال: “لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقامَ، ثم أَنطلِقُ معي برجالٍ معهم حُزُمُ الحَطَب إلى قوم لا يَشهدون الصلاةَ، فأحُرِّقَ عليهم بيوتَهم بالنار” (2).َ ومعلومٌ أنَّ التحريقَ بالنار لا يكون إلاّ عن كفرٍ أو كبيرةٍ عظيمة.
__________
(1) البخاري (46 ومواضع أخرى) ومسلم (11) عن طلحة بن عبيد الله.
(2) أخرجه البخاري (644، 657، 2420، 7224) ومسلم (651) عن أبي هريرة.
(4/129)
وفي رواية (1): “لولا ما في البيوت من النساء والذزيّة”، وفي رواية لأبي داود (2): “ثم أنطلق إلى رجالي يُصلُّون في بيوتهم، فأحرق بيوتهم بالنار”. فلما عَلِمَ الصحابةُ هذا الوعيدَ والتهديدَ كان المؤمنون يطيعون الله ورسولَه، والمنافقون يتخلفون عن الجماعة، فأما اليومَ فقد قل العلمُ والإيمانُ، وكثير من العلماء يخفَى عليه بعضُ السنة فضلاً عن غيرهم، فلهذا صارَ يَتْرُكُها مَن ليس بمنافق معلومِ النفاق، لكن هؤلاء يتشبهون بالمنافقين، إذا لم يكونوا منافقين، وهم تاركونَ للسنة المؤكدة باتفاق المسلمين، وإذا أصرُّوا على ذلك رُدَّتْ شهادتُهم، بل يُقاتَلُون في أحد القولين، وهذا عند من لا يقول بوجوبها.
فأما من قال بوجوبها فإنه يُقاتِلُ تاركَها، ويُفَسقُ المصرِّينَ على تركها إذا قامتْ عليهم الحجةُ التي تُبِيْحُ القتالَ والتفسيقَ، كما يُقاتَل أهلُ البغي بعد إزالةِ الشبهة ورَفْع المَظْلمة، بل العلماءُ قد يُعاقِبون مَن تركَ واجبًا أو فَعَل محرما وإن كان متأولا، كما قال مالك والشافعي وأحمد في شارب النبيذ المتأول أنه يُجلَد وإن كان متأولاً، والشافعي لا يردُّ شهادتَه بذلك، ومالك يردُّها، وعن أحمد روايتان. وكذلك البُغاةُ المتأولون إذا قاتلوا، كما قاتلَ علي بن أبي طالب لأهل الجمل وصفين، فإنهم عند الأئمة الأربعة لا يُفَسَّقون بذلك البغي، لأنهم كانوا فيه متأولين وإن قُوتلوا.
__________
(1) لأحمد (2/ 367).
(2) برقم (548، 549).
(4/130)
وهكذا كل ما ثبتَ تحريمُه عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد خفي ذلك على بعضِ العلماء، فإنه يذكر تحريمه وما ورد فيه من التغليظ والوعيد، وإن كان المتأول المعذور من العلماء لا يَلحقُه الوعيدُ، بل يغفر الله له لأنه اجتهد فأخطأ، وقد قال تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1)، وفي الصحيح (2) أن الله تعالى قال: “قد فعلتُ”.
وهكذا ما يَتنازعُ فيه الأئمة من واجبات الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، إذا تركه التاركُ متأولاً مع قيامِه بالواجبات وتركه للمحرمات لم يكن بذلك فاسقًا بل ولا آثمًا، بل الله يَغفِر له خطأه.
ومع هذا فمن يقول بوجوبه يُبين وجوبَه، ويَذكر ما جاء فيه من الأدلة الشرعية لبيان العلم وإظهارِ السنة، وليتبينَ خطأُ القول المخالفِ للسنة وصوابُ القول الموافق لها، وإن كان المخالفُ مجتهدًا معذورًا، بل يكون المجتهد من أولياء الله المتقين، وعبادِه الله الصالحين، ومن أئمة الدين، والله يَغفِر له خطأه ويَغفِر له ما هو فوقَ الخطأ من الذنوب، إذ لا معصومَ من أن يُقَر على خطأٍ أو ذنبٍ بعد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان صديقًا أو شهيدًا أو صالحًا، لكن يكونون كما قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)) (3).
ووجوبُ الجماعة من هذا الباب، فإن دلائلَ وجوبِها في
__________
(1) سورة البقرة: 286.
(2) مسلم (126) عن ابن عباس.
(3) سورة الأحقاف: 16.
(4/131)
الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ظاهر بين، لا يَسترِيبُ فيه بعد معرفتِه ومعرفةِ ما قيل في ذلك عالم منصفٌ، ولكنّ طائفة من العلماء ظنّوا أنّ الوعيد كان في الجمعة خاصةً، والنصوصُ صريحة ثابتة بأنها كانت في الجماعة أيضًا. ومنهم من ظنَّ أن العقوبة إنما كانت للنفاقِ خاصةً لا لتركِ الجماعة، وهذا أيضًا خطأٌ فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يكن يُعاقِبُ أحدًا على ما أسرَّه من النفاقِ، وإنما يُعاقِبُه بما أظهره من ترك واجب أو فِعْلِ محرَّم. وأيضًا فإذا [كان] تركُها علامة النفاق، فالدليلُ يَستلزمُ المدلولَ، عُلِمَ أن كلَّ من تركَها كان منافقًا، وهذا دليل الوجوب.
وأيضًا فإنه قد ثبتَ في الصحيح (1) أن ابنَ أم مكتوم سأل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن يُرخصَ له في تركها، فقال: “هل تسمع النداء؟ “، قال: نعم. قال: “فأجَبْ”. وفي روايةٍ في السنن (2): فقال: “لا أجدُ لكَ رخصة”. وابنَ أم مكتوم مؤمنٌ باتفاق المسلمين، وهو الأعمى الذي ذكره الله بقوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)) (3)، وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَستخلِفُه على المدينة، وكان يؤذِّن للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومع هذا فلم يَأذَنْ له في التخلف عن الجماعة، فعُلِمَ أنها واجبة على من عُلِمَ إيمانُه.
ومن ادَّعَى أنَّ هذا الحديث منسوخ أو مخالف للإجماع فقد
__________
(1) مسلم (653) عن أبي هريرة.
(2) لأبي داود (552) عن ابن أم مكتوم.
(3) سورة عبس: 1 – 2.
(4/132)
غَلِطَ، فإن العمل عليه عند من يُوجب الجماعةَ، يُوجبُها على الأعمى كما يُوجبُ عليه الجمعة، فإذَا أمكنه الخروج إليَها وَجَبَتْ عليه وإن لم يكن له قائد، إذ الأعمى قد يذهب إلى السوق وغيرِه من حوائجه بلا قائدٍ، فكذلك يذهب إلى الجماعة.
فصل
وأما من قال: لا يوجد اليومَ منافقٌ، إنما كان النفاقُ على عهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهذا مخطئ بإجماع المسلمين، بل قد قال حذيفة بن اليمان بعد موتِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن النفاق اليومَ أكثرُ منه على عهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمنافقُ هو الذي يُبْطِنُ الكفرَ ويُظهِرُ الإسلامَ، وهذا موجودٌ في سائرِ الأعصار، بل إذا كان مع رؤية النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وآياتِه وسَماعِ كلامِه يكون المنافقون موجودين فبعدَه أولى وأحرى.
وأما قوله: إنه يقال زنديق، ولا يقال منافق، فهذا جهلٌ منه، فإن لفظ “زنديق” لفظٌ معرَّبٌ لم يَنطِقْ به رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ولا أصحابُه، ولكن نَطقتْ به الفُرسُ، فأخذَتْه العربُ فعرَّبَتْه. ومعنى الزنديق الذي تنازع الفقهاء في قبول توبته هو معنى المنافق الذي يُظهِر الإسلامَ ويُبطِن الكفرَ، ولهذا قال الفقهاء: إن الزنديق هو المنافق، وتنازعوا في قبول توبته. واحتجَّ الشافعي وغيرُه ممن يَرى قبولَ توبةِ الزنديق بأن المنافقين الذي كانوا على عهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقْبَلُ علانيتَهم ويَكِلُ سَرائِرَهم إلى الله. وكذلك تكلم
(4/133)
الفقهاءُ من الطوائف الأربعة وغيرهم في أحكام الزنديق، مثل ميراثِه، ووجوب إعادة ما فعلَه من العبادات، وأمثال ذلك، وكلهم يحتجُّ على ذلك بأحكام النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في المنافقين الذين كانوا على عهده، وذلك لعلم الأئمة أن الزنديق هو المنافق، وكل زنديق يُظهِر الإسلام ويُبْطِنُ الكفر فإنه منافق، يُسمَّى منافقًا، ويَدخُل في المنافقين المذكورين في القرآن، ومَن أنكر هذا فإنه يُستَتاب، فإن تاب وإلا قُتِلَ.
واسم النفاق والكفر ونحوهما قد يُعبر به عن بعض شُعَبِ الكفر والنفاق، وهذا هو النفاق الأصغر وهو الذي خافَتْه الصحابةُ على أنفسهم، كما في صحيح مسلم (1) أن حَنْظَلَة الكاتب لَقِيَ أبا بكر الصديق فقال: نافقَ حنظلةُ، نافقَ حنظلةُ.
وذكر البخاري (2) عن ابن أبي مُليكة قال: أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد كلُّهم يخافُ النفاقَ على نفسه. وقد صنَّف جعفر بن محمد الفِرْيابي الحافظ كتابًا في صفة المنافق (3)، ذكر فيه من الأحاديث والآثار ما لا يَتسِعُ له هذا الموضعُ، وقد قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44))، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47))، (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)) (4)،
__________
(1) برقم (2750).
(2) 1/ 109 (مع “الفتح”).
(3) هو مطبوع.
(4) سورة المائدة: 44، 45، 47.
(4/134)
قال: كفرٌ دون كفر، وفسوقٌ دون فسوق، وظلمٌ دون ظلم (1). وفي الحديث عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “الشِّركُ في هذه الأمة أخفَى من دبيب النَّمْلِ، والرياءُ شرك” (2) وفي الصحيح عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “اثنتان في الناس هما بهم كفرٌ: الطعنُ في الأنساب والاستسقاءُ بالأنواء” (3). وفي حديث آخر: “لا تَرغَبوا عن آبائِكم، فإن كفرًا بكم أن تَرغَبوا عن آبائكم” (4). ونظائر ذلك كثيرة، والله أعلم.
__________
(1) انظر تفسير الطبري (6/ 165 – 166).
(2) أخرجه أحمد (4/ 403) عن أبي موسى الأشعري.
(3) أخرجه مسلم (67) عن أبي هريرة، وفيه: “والنياحة على الميت” بدلاً من “الاستسقاء بالنجوم”.
(4) أخرجه البخاري (6830 ومواضع أخرى) عن عمر بن الخطاب.
(4/135)
مسألة
في رجل له دكانٌ يبيع فيها ويشتري، وهي بقُرب المسجد من غير حائلٍ بينهما، فهل يَجبُ عليه إذا أقيمتِ الصلاةُ وحضرت الجماعةُ أن يُصلِّي منفردًاَ في الدكان ويَتْرُكَ الجماعة؟ وهل يوجب (1) أن يُؤَخر الصلاةَ مع الجماعة ويُصلي في البيت ويقول: أنا أُؤَخّر الصلاةَ إلى نصف الليل وأُصلِّي في بيتي؟
الجواب
لا يَجبُ عليه باتفاق المسلمين أن يُصلي منفردًا في الحانوت، بلَ هو مأمور باتفاق المسلمين أن يُصلِّي مع الجماعة، وإنما يَأمرُ بالصلاة منفردًا دون الجماعةِ أهلُ البدع المُضلَّة كالرافضة، وبعضُ ضُلاَّلِ النُسَّاك ونحوهم، وأما أهلُ السنة والجماعة فمن أعظم شعائرِهم الصلاةُ في الجمعة والجماعة.
والصلاةُ في الجماعة من أوكدِ ما شرعَه الله ورسولُه، بل هي واجبة، فقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لقد
__________
(1) كذا في الأصل، ولعله “يجوز”.
(2) سبق تخريجه.
(4/136)
هممتُ أن آمُرَ بالصلاة فتُقامَ، ثم أَنطلِقَ معي رجالٌ معهم حُزُمُ الحَطَب إلى قوم لا يَشهدون الصلاةَ، فأحرِّقَ بيوتَهم بالنار”. وفي رواية (1): “لولا ما في البيوت من النساء والذرية”. فبيَّن – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه إنما يَمنعُه من تحريقِ المتخلفين عن الجماعة أن في البيوت نساءً وذرية.
وفي الصحيح (2) أن أعمى جاء إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقال: يا رسول الله! إنّي رجلٌ شاسعُ الدار، ولي قائد لا يُلائِمني، فهل تَجدُ لي رخصةً أن أصلّي في بيتي؟ قال: “هل تَسمع النداء”؟ قال: نعم، قال: “فأَجبْ”. وفي رواية (3): “هل تسمعُ النداء؟ ” قال: نعم، قال: “لا أجد لك رخصة”. وفي الصحيح (4) عن ابن مسعود أنه قال: شرعَ الله لنبيِّه سُننَ الهدى، وإنّ هذه الصلوات الخمس في المساجد التي يُؤذَّن بها من سُنن الهدى، وإنكم لو صلَّيتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتُم سنةَ نبيكم، ولو تركتُم سنةَ نبيكم لضَلَلْتُم، ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاق.
وإذا ظهر من الرجل [الانفرادُ] بما يجب عليه من الصلاة وواجباتها فإنه يستحق على ذلك العقوبةَ البليغة، التي تَحمِلُه وأمثالَه على أداءَ
__________
(1) سبق تخريجها.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجها.
(4) سبق تخريجه.
(4/137)
الواجبات وإقامةِ شرائع الدين، ومتى ادَّعَى ما يظهر خلافه لم يُقْبَل منه، بل يُؤمَر أن يصلي مع المسلمين، وقد قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح (1): “تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يَرْقُبُ أحدُهم الشمسَ حتى إذا كانتْ بين قَرْنَي الشيطانِ قامَ، فَنَقَرَ أربعًا لا يذكر الله فيها إلاّ قليلا”.
ومن قال: إنه يُؤخر العشاءَ حتى يُصليها بعد نصف الليل، فإنه لا يُقَرُّ على ذلك، بل يُعاقَب حتى يُصلي الصلاةَ في وقتِها وقتِ الاختيار، فإن تأخيرَ العصر إلى [ما] بعد الاصفرارِ وتأخيرَ العشاءِ إلى ما بعد نصف الليل لا يَجوزُ مع القدرة، بل يجوز ذلك لمن لم تُمكِنْه الصلاةُ وقتَ الاختيار، كالحائض تطهر، والمجنون يُفيق، والنائم يستيقظ، والكافر يُسلم، ونحو ذلك، والله أعلم.
__________
(1) مسلم (622) عن أنس.
(4/138)
مسألة
في مسلم تاركِ الصلاة ويُصلي يومَ الجمعة، فهل يَجِبُ عليه اللعنةُ؟
الجواب
الحمد لله، هذا يَستوجبُ العقوبةَ باتفاق المسلمين، والواجبُ عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد أن يُستَتابَ، فإن تاب وإلا قُتِلَ.
ولعنُ تاركِ الصلاة على وجهِ العموم جائزٌ، وأما لعنةُ المعينِ فالأولى تركُها، لأنه يُمكِنُ أن يتوبَ.
(4/139)