ابن تيميةابن تيمية - كتبعطاءات العلم

جامع المسائل_4

جامع المسائل_4

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: جامع المسائل
[آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (2، 3، 4، 5، 9، 13، 17، 18، 29)]المؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661 – 728 هـ)
تحقيق: جـ 1 – 6، 8 (محمد عزير شمس)، جـ 7 (علي بن محمد العمران)، جـ 9 (عبد الرحمن بن حسن قائد)
راجعه: جـ 1 – 4، 7 (سليمان بن عبد الله العمير، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 5، 6 (سليمان بن عبد الله العمير، جديع بن محمد الجديع، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 9 (سليمان بن عبد الله العمير، على بن محمد العمران)
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية (للمجموعات من 1 – 9)، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 9
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

مسألة
في رجلٍ يصوم ولا يُصلِّي ويَلْعَبُ بالنَّرْدِ.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، الصلاةُ أعظم من الصيام، وتاركُ الصلاة المفروضة أعظمُ إثمًا من تاركِ الصيام.
وفي الصحيحين (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “من فاتَتْه صلاةُ العصر حَبطَ عملُه”. وفي الصحيحين (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “الذي تفوتُه الصَلاةُ صلاة واحدةٌ فكأنما وُترَ أَهْلُه ومالُه” أي سُلِبَ أهلُه ومالُه. فإذا كان هذا فيمن تفوتُه صلاةٌ واحدةٌ فكيف بمن يفوتُه أكثرُ من صلاة؟
فكيف بمن يترك الصلاة؟ وقد ثبتَ في الصحيح (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “ليس بين العبدِ وبينَ الشركِ إلاّ تركُ الصلاة”. وتاركُها مستحق للعقوبةِ البليغةِ بإجماع المسلمين، ويُستَتاب، فإن تابَ وإلا قُتِلَ. وأما لعبُ النرد فهو حرامٌ باتفاق العلماء.
__________
(1) عند البخاري (553، 594) عن بريدة بلفظ “من تركَ صلاةَ العصر … ” ولم يروه مسلم.
(2) البخَاري (552) ومسلم (626) عن ابن عمر بلفظ “الذي تفوتُه صلاةُ العصر … “.
(3) سبق تخريجه.

(4/140)


مسألة
فيمن عنده زوجةٌ ما تُصَفَي، هل تَحرمُ عليه؟ أو يَنْفَسِخُ العقدُ الذي عُقِدَ بينهما؟ ولها عليه صداقٌ ثقيل ولم يَقْدِرْ على شي؟ منه، ويخافُ إنْ يُفارِقْها يُطَالَبْ بشيٍ لا يَقدِرُ عليه.
الجواب
الحمد لله، أما إقرار الزوجةِ أو غيرِها ممن هو تحت طاعةِ الرجل على ترك الصلاة فهو حرام بإجماع المسلمين، والمُقِرُّ على ذلك مع القدرة على الإنكار آثم فاسقٌ عاص بلا نزاع، بل الأمرُ بالصلاة لمن ليسَ تحت طاعةِ الرجل فرض على الكفاية، إذا تركَه الناسُ عَصَوا وأَثِمُوا، واستحقوا جميعهم عقابَ الله، فكيف تَرْكُ الأمرِ بذلك لمن هو في طاعته؟ وقد قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (1)، وما أمر اللهُ به نبيه فهو أمرٌ لأمته ما لم يَقُمْ دليل على التخصيص، ولا تخصيصَ هنا بالاتفاق، فيجبُ على كل مسلم أن يأمر أهلَه بالصلاة. وكذلك قال تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) (2)، قال عليه الصلاة والسلام: عَلِّموهم وأدِّبُوهم.
__________
(1) سورة طه: 132.
(2) سورة التحريم: 6.

(4/141)


وإذا عَلِمَ الرجلُ أن المخطوبة لا تصلي كان تزوُّجُه أشَرَّ مما إذا علِمَ أنها قَحْبةٌ أو سارقةٌ أو شاربةُ خمر، فإن تاركَ الصلاة شرٌّ من السارق والزاني باتفاق العلماء، إذْ تاركُ الصلاة سواءٌ كان رجلاً أو امرأةً يَجِبُ قتلُه عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد، والسارقُ لا يَجبُ قتله، ولا يَجبُ قتلُ الزانية التي لم تُحصن باتفاق العلماء، وإنَ كانت بكرًا بالغًا عند أبوَيها وهي لا تصلي كانت شرًّا من أن تكون قد زَنَتْ عندَهم أو سَرَقَتْ، وإذا كان الناسُ كلُّهم يُنكِرون أن يتزوَّجَ الرجلُ بسارقةٍ أو زانيةٍ أو شاربةِ خمر ونحو ذلك فيجبُ أن يكون إنكارُهم لِتزوُّجِ من لا تصلِّي أعظمَ وأعظمَ باتفاق الأئمة. فإنّ التي لا تصلي شرٌّ من الزانية والسارقة وشاربة الخمر.
وليس لقائل أن يقول: فالمسلمُ يَجوزُ له أن يتزوَّجَ اليهوديةَ والنصرانيةَ، فكيف بهذه؟ لأنَّ اليهودية والنصرانية تُقَرُّ على دينها، فلا تُقْتَل ولا تُضْرَب، وأما تاركُ الصلاة والسارق والشارب والزاني فلا يقر على ذلك، بل يُعاقَب إما بالقتلِ وإما بالقطع وإما بالجَلْد، وإن كان عقابُه في الآخرة أخف من عقاب الكافر، لكن لا يجوز لغيره أن يُقِرَّه على فسقِه، فمن أقرَّ فاسقًا على فسقِه ولم ينكر عليه كان عاصيًا آثمًا، ومن أقر ذميًا على دينه لم يكن آثمًا ولا عاصيًا، وقد قال تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) (1) أي النساء الخبيثات للرجال الخبيثين، والنساء الطيبات للرجال الطيبين،
__________
(1) سورة النور: 26.

(4/142)


والخبيثة هي الفاجرة، فهي للرجل الخبيث الفاجر.
والخُبْثُ إنْ قيلَ المرادُ به الزنا دل على أن تزوجَ الزانيةِ لا يجوزُ حتى تتوب، وهو أصحُّ قولَي العلماء، لقوله تعالى: (وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) (1)، ولأن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نَهَى رجلاً أن يتزوَّج امرأة كان يزني بها اسمها عَنَاق (2)، وأنزَل الله هذه الآية في ذلك، ولهذا كان المتزوجُ بها مذمومًا عند عامةِ العقلاء، حتى يقال: شَتَمَهُ بالزين والقاف، أي قال له: يا زوجَ القَحْبَة. والحديثُ الذي يُروَى في الرجل الذي قال: إن امرأتي لا تَردُّ كف لامسٍ، قد ضعَّفُوه (3)، ولا شكَّ أنَّ الزانيةَ يُخافُ منها إفسادُ الفراش، وهو من هذا الوجه شرٌّ من غيرها، بخلاف مَن كان فسقُها بغير ذلك، ولهذا يقال: ما بَغَتِ امرأةُ نبى قط، لكن عقوبةَ المرأة التي تَترك الصلاةَ أعظمُ من عقوبةِ بعض البغايا فالمتزوجُ بها يكون قد أقر في بيته من المنكرات أعظمَ من أن يُقِر عنده أختَه الزانية وبنتَه الزانية.
وأما انفساخ النكاح بمجرد التركِ فلا يُحكَم بذلك، لكن إذا
__________
(1) سورة النور: 3.
(2) أخرجه أبو داود (2051) والترمذي (3177) والنسائي (6/ 54) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الترمذي: حسن غريب. وصححه الحاكم (2/ 166).
(3) أخرجه أبو داود (2049) والنسائي (6/ 67، 169، 170) عن ابن عباس.
قال النسائي: هذا الحديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي.

(4/143)


دُعِيَتْ إلى الصلاة وامتنعتْ انفسخَ نكاحُها في أحد قولَي العلماء، وفي الآخر لا ينفسخ، لكن على الرجل أن يقومَ بما يَجبُ عليه.
وليس كلُّ من وجبَ عليه أن يطلِّقَها ينفسخُ نكاحُها بلاَ فعله، بل يقال له: مرْها بالصلاة وإلاّ فَارِقْها، فإن كان عاجزًا عن ذلك لِثِقَلِ صَداقِها كان مُسِيْئًا بتزوجه مَن لا تُصلِّي على هذا الوجه، فيتوبُ إلى الله من ذلك، ويَنوِيَ أنه إذا قَدَرَ على أكثر من ذلك فَعَلَه، والله أعلم.

(4/144)


مسألة
فيمن لا يُصلِّي هل تُجَابُ دعوتُه إذا دعَا أحدًا؟
الجواب
أما من لا يصلي فلا ينبغي أن يُسلَّم عليه، ولا تُجاب دعوتُه، بل هو مستحق للقتل، فإذا هُجِرَ فلم يُسَلم عليه ولم تُجَبْ دعوتُه كان ذلك أخفَّ ما يُعاقَبُ به.

مسألة
في رجل ذُكِرَ له الصلاةُ، فقال: قال الله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ) (1)، فقيل له: اقرأ بقيةَ الآية، فقال: كلمةٌ تكفي العاقلَ، وهو يَضحكُ، فما يَجِبُ عليه؟
الجواب
هذا الرجلُ مُستهزئ بآياتِ الله، يُستَتاب، فإن تَابَ وإلا قُتِلَ.
__________
(1) سورة النساء: 43.

(4/145)


مسألة
في الميت وخروجه على زمان رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهل المرور بالميت بالمقربين، وخروج النساء صحبة الميت، وخروجهم إلى القبر اليومَ الثالث، ومَن يصنع موضع غسل الميت خبزا وماء وسراجا إلى ثلاثة أيام، والقراءة على القبر ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث نسق القبر بأيديهم، والضرب بالدفوف والشبابات، هل يُكْرَه ذلك أم لا؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، كان الميتُ على عهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَخرُج به الرجال، يَحملونه إلى المقبرة ويُسرِعون به وعليهم السكينة، لا يخرج معهم النساءُ، ولا يَرفعُ الرجالُ أصواتَهم لا بقراءةٍ ولا غيرها. وهذه هي السنة باتفاق علماء المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، لا يستحبون أن يكون مع الميت شيءٌ من الأصوات المرتفعة ولو كانت بالقراءة.
قال قيس بن عُبادة -وهو من كبار التابعين الذين صحبوا عليَّ بن أبي طالب-: كانوا يَستحبُّون خَفْضَ الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند التحامِ الحربِ. وذكروا أن عبد الله بن عمر سمعَ رجلاً

(4/146)


في جنازة يقول: استغفروا لفلان، فقال عبد الله بن عمر: لا غفر اللهُ للأبعد، قال ذلك نهيًا له عن هذه البدعة. وقال سعيد بن المسيب لما احتُضِرَ: إيايَ وحادِثكُم هذا الذي تَرَحموا على سعيد، استغفرُوا لسعيد.
وفي السنن (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه نهى أن يتبع الجنازة بصوت أو نار. وفي الصحيحين (2) عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “أَسْرِعُوا بالجنازة، فإن كانت صالحةً فخيرٌ تُعجلونها إليه، وإن كانت غير ذلك فشرٌّ تضعونَه عن رقابكم”. وفي السنن (3): “أسرِعوا بالجنازة ولا تَدِبوا بها دَبِيْبَ اليهود”. والآثار في ذلك متعددة.
وخروج النساء في الجنائز منهي عنه، لا سيما إذا كان النساء يَنُحْنَ أو يَضْرِبن خدودَهن ويرفعن أصواتَهن، فإن هذا نزاع بلا ريب، سواء فَعلتْه مع الجنازة أو في حال غَيْبَتِها، لكنه معها بحضور الرجال أشدُّ. وفي الصحيحين (4) عن أتم عطية قالت: نُهِينا عن اتباع الجنائز. وفي السنن (5) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رأى نسوةً مع جنازةٍ، فقال لهن: “هل تَحمِلْنَ مع مَن يَحمِلْن؟ ” قلن: لا، قال: “هل تَحْفِرن
__________
(1) أخرجه أبو داود (3171) وأحمد (2/ 528، 531) عن أبي هريرة.
(2) البخاري (1315) ومسلم (944) عن أبي هريرة.
(3) بل أخرجه أحمد (2/ 363) عن أبي هريرة.
(4) البخاري (1278) ومسلم (938).
(5) أخرجه ابن ماجه (1578) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 77) عن علي.
وهو حديث ضعيف، انظر “الضعيفة” للألباني (2742).

(4/147)


مع من يَحفِرن؟ ” قلن: لا، قال: “هل تُدلِيْن مع من يُدْلِي؟ ” قلن: لا، قال: “فارجعنَ مأزورات غيرَ مأجورات، فإنكن تَفتِنَّ الحيَّ وتُؤذِينَ الميتَ”. ومعنى قوله: “تُؤذِينَ الميت” أي بالنياحة، فإنه قد ثبتَ عنه في الصحيح أنه قال: “مَن نِيْحَ عليه يُعذَّبُ بما نِيْحَ عليه”.
وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في غير هذا الموضع (1)، وبيَّنّا أن ما يَحصُل للألم بنياحة الحيِّ ليس عقوبة له على ذنب غيره، بل النائحةُ تُعاقَب على نياحتها، كما ثبت في صحيح مَسلم (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إن النائحةَ إذا لم تَتُبْ قبل موتها فإنها تُلبَسُ يومَ القيامة دِرْعًا من جَرَب وسِربالاً من قَطِران”.
فالميت ما يَحملُ وِزْرَ النائحة، بل يَحصُل له بنياحتها من الألم الذي يتعذب به ما أخبر به – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس كلُّ ألم يَحصُل للإنسان بسبب من الأسباب يكون عقوبةً عليه، وفي الصحيحين (3) عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “ليس منا من لَطَمَ الخدودَ وشقَّ الجيوبَ ودعا بدعوى الجاهليةِ”. فقد تَبرَّأ ممن لَطَم الخدود وشقَّ الجيوب، والجيبُ هو طوقُ الثوب، كما يَفعَلُه بعضُ المُصَابين حين يَشُق ثيابَه. والدعاء بدعوى الجاهلية مثل أن يقول: يا رُكْنَاه! يا عضداه! يا ناصراه!
ونحو ذلك، وهذا هو الندب، لأنه يَندُب الميتَ، أي يدعوه، والميت لا يُجيب دعاءَه، ولا منفعةَ في هذا الندب لا للحيّ وللميت،
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى (24/ 369 – 372).
(2) برقم (934) عن أبي مالك الأشعري.
(3) البخاري (1297، 1298، 1294، 3519) ومسلم (103) عن ابن مسعود.

(4/148)


بل فيه ضرر عليهما، فإنه قد ثبت أن عبد الله بن رواحة أُغميَ عليه، فجعلتْ أختُه تندُبُ عليه، فلما أَفَاق قال: ما قلتِ فيَّ شيء إلاّ قيل لي: أنتَ كذلك؟ أنتَ كذاك؟ (1).
وفي الصحيحين (2) عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه تبرَّأ من الحالقة والصالقة والشاقة. فالحالقة التي تَحلِق شعرَها عند المصيبة، والصالقة التي تَرفع صوتَها بالمصيبة، والشاقةُ التي تشق ثيابَها عند المصيبة.
والأحاديث في ذلك كثيرة، حتى قال جرير بن عبد الله البجلي: كنا نَعُدُّ الاجتماعَ إلى أهل الميت وصُنْعَهم الطعام من النياحة، رواه أحمد (3) أي إذا اجتمعَ الناس وصَنَع أهلُ الميت للناس وليمةً، فهذا من عمل الجاهلية، وإنما السنة أن يُصنَعَ لأهل الميتِ طعامٌ لاشتغالِهم بمصيبتهم، كما قالَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لما أتاه نَعِيُّ جعفر: “اصنعَوا لآلِ جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يَشْغَلهم” (4).
وعملُ العرسِ للميت من أعظمِ البدع المنكرات، وكذلك الضرب بالدفوف في الجنائز على وجه النياحةَ منكرٌ باتفاق العلماء، لم يرخّصْ أحدٌ من أهل العلم في ضرب الدفوف في الجنائز والموت،
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) البخاري (1296) ومسلم (104) عن أبي موسى الأشعري.
(3) 2/ 204. ورواه أيضًا ابن ماجه (1612)، وصححه النووي في المجموع (5/ 320).
(4) أخرجه أحمد (1/ 205) وأبو داود (3132) والترمذي (998) وابن ماجه (1610) عن عبد الله بن جعفر.

(4/149)


فكيف بالشبابات؟ وإنما يُضْربُ بالدَّفّ في عُرسِ النكاح ونحوه، كما جاءت به السنةُ، مع أن بعض السلف كره ذلك مطلقًا، لكن الصحيح أنه يُفَرقُ بين الضرب به في الموت أو في الفرح، وكان دَفهم ليس له صَلاصِلُ، ولهذا تنازعَ العلماء في الدف المصلصل على قولين. وأما الشبابة فلم يُرخّص فيها أحد من الأئمة الأربعة لا في عرس ولا موت.
وكذلك ما يفعله بعض المُصَابين من كشف الرءوس ونَشْر الشُّعور، ولُبْسِ المسوح، ونَبْذِ الأواني والبُسُط، أو كَسْرِ بعض ذلك، أو هَلْب الخيل، أو تقليب سُرُوجها، أو تقليب الكيات التي على رءوس أتباعه، أو وضع التين في دارِه، وما أشبهَ هذه الأمور، فكل ذلك من المنكرات التي هي من جنس عمل أهل الجاهلية. وكذلك وضعُ الفواكه والمشمومات عنده، أو إلباسُ الميتةِ حُلِيها أو جميلَ ثيابها كما يُصنَع بالمرأة العروس، ونحو ذلك كله من المنكرات التي هي من جنس عمل الجاهلية، وكذلك وضعُ طعام وشراب في مُغتسلِهِ أو إِيقادُ ضوءِ في مُغتَسَلِه كل ذلك من البدع المنكرة التي لا أصل لها، وكذلك شق تراب قبره بعد ثلاثٍ، بل الاختلافُ إلى قبره صبيحةَ موته أو ثالثه وسابعهُ ورأسَ شهرِه ورأسَ حوله هو أيضًا من البدع التي لم يكن يُفعل عهدَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وخلفائِه، وإنما قال عمرو بن العاص لما احْتُضِرَ: اجلسُوا عند قبري قدرَ ما يُنْحَر جَزُور ويُقسم لحمُها، أَستأنِسُ بكم وأَنظُر ماذا أراجِعُ به رُسُلَ ربي.

(4/150)


وأما الصدقة عن الميت فإنها تنفعه، كما ثبت ذلك بنص سنة رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – واتفاق أئمة المسلمين، ففي الصحيح (1) أنه قال سعد: يا رسول الله! إنّ أمي افْتُلِتَتْ نفسُها، وأراها لو تكلمتْ لتصدقتْ، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال: “نعم”، وأما إخراجُ الصدقة مع الجنازةِ فبدعة مكروهةٌ، وهو يشبه الذبح عند القبر، وهذا مما نَهى عنه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما في السنن (2) عنه أنه نهى عن العَقْر عند القبر. وتفسيرُ ذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا مات فيهم كبيرٌ عَقَروا عند قبره ناقة أو بقرة أو شاة أو نحو ذلك، فنهى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن ذلك، حتى نص بعضُ الأئمة على كراهةِ الأكل منها، لأنه يُشبهُ الذبحَ لغير الله. قال بعض العلماء: وفي معنى ذلك ما يفعلُه بعضُ الناس من إخراجِ الصدقات مع الجنازة من غنم أو خبز أو غير ذلك، وهذا فيه عدةُ مفاسدَ:
منها: أن مُشَيعي الجنازة تَشتغِلُ قلوبُهم بذلك.
الثاني: أنه يتبعُ الميتَ من ليس له غرض إلاّ في أخذِ ذلك.
الثالث: أنهم يختصمون عليها.
الرابع: أنه يأخذها الغالبُ غيرَ مستحق ويُحرَمُ المستحق.
__________
(1) البخاري (1388، 2760) ومسلم (1004) عن عائشة.
(2) أخرج أبو داود (3222) والنسائي (4/ 16) وأحمد (3/ 197) عن أنصر مرفوعًا: “لا عَقرَ في الإسلام”، قال عبد الرزاق: كانوا يَعقِرون عند القبر، يعني ببقرةِ أو بشيء.

(4/151)


الخامس: أنه قد يكون على الميتِ دَينٌ أو في ورثتِه صغارٌ.
السادس: أنها تُصنَع رياءً.
فمن أحبَّ أن ينفعَ ميّتَه بصدقةٍ عنه فليتصدقْ بما يسَّره الله تعالى على من يثيبه الله بالصدقة عليه، فإن الصدقةَ إذا وصلتْ إلى المستحقّ الذي ينتفع بها محمولةً إليه كان أعظمَ للأجر والثواب، وكان في ذلك اتباعٌ للسنة والتخلصُ من البدعة.

(4/152)


مسألة
في قوم يقرءون قُدامَ الموتى على طريقة الغناءِ، ويَقِفُون بالميت قليلاً بعد قليل لأجل النقوط، فقالت جماعةٌ: هذا حرام على المقرئ والمعطي، وقالت جماعة: مكروه، والمرادُ بيانُ ذلك.
الجواب

الحمد لله رب العالمين، نعم الوقوفُ بالميتِ ليقرأَ القُرّاءُ مما يُنْهَى عنه، ولو لم يكن لأجلِ تنقيطِهم، فإذا كان كذلك فهو زيادةُ شرٍّ على شرِّ، بل مجردُ الوقوف بالميت منهي عنه مطلقًا، فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “أَسرِعُوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غيرَ ذلك فشرٌّ تضعونَه عن رقابكم” (1). وقال: “أَسرِعوا بالجنازة ولا تَدِبُّوا دبيبَ اليهود” (2).
والقراءةُ على الجنازة بدعة مكروهة باتفاق الأئمة الأربعة، فإذا وَقفوا تضاعفتِ المكروهاتُ، والإعطاءُ نقوطًا لمثل هؤلاء مما يُنْهَى عنه فاعلُه، ولا يثابُ عليه، فإنه بإعطائه أعانَ على ما يَكرهُه الله ورسولُه، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري (1315) ومسلم (944) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد (2/ 364) عن أبي هريرة بلفظ “انبسطوا بها ولا … “.

(4/153)


مسألة
المسئولُ أن يُبيَّنَ لنا عن هذه المشاهد، ومَن ابتدعها، وفي زيارتها، وما صحَّ من الأنبياء والصحابة في دفنِهم على ما ذكروا عند جامع بني أمية وغيره، وخالد بن الوليد ذُكِر أنه كان تُربتُه [في] حمص ورِجْله تخط الأرض. وهل يجوزُ التبرك بالمشهد أو زيارة رجل ميت؟ ومن يقول: “بحرمة فلان اقْضِ حاجتي” أو يَندُب له؟ وكيف تكون زيارةُ الرجل الصالح وما صحَّ من دَفْن الأنبياء؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، الجواب عن هذه المسائل متضمن أصلَيْنِ:

أحدهما: هذه المقابر والمشاهد وما فيها من حق وباطل، فنقول: القبور ثلاثة أقسام:
منها: ما هو حقّ لا ريبَ فيه، مثل قبر نبينا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وصاحبيه أبي بكر وعمر، فإن هذا منقول بالتواتر، وإن كان بعضُ الرافضة تطعَن في قبرِ أبي بكر وعمر، فهؤلاء مُكابرونَ بَهَّاتُونَ، بمنزلة مَن يُنكِر قبرَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(4/154)


ومنها: ما هو كذب بلا ريب، مثل القبر المضاف إلى أبي بن كعب الذي شرقيَّ دمشقَ، فإن الناس متفقون على أن أبي بن كعب مات بالمدينة النبوية، وكذلك أمهاتُ المؤمنين كلُّهنّ تُوُفِّيْنَ بالمدينة، فمن قال: إنَّ بظاهرِ دمشق قبرَ أم حبيبة أو أم سلمة أو غيرهما فقد كذبَ. ولكن من الصحابيات بالشام امرأةٌ يُقال لها أم سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن، فهذه توفيتْ بالشام، فهذه قبرُها محتملٌ. كما أن قبرَ بلال ممكنٌ فإنه دُفِنَ بباب الصغير بدمشق، فنعلم أنه دُفنَ هناك، وأما القطع بتعيُّنِ قبرِه ففيه نظر، فإنه يقال: إنّ تلك القبورَ حَدَثَتْ.
وكذلك القَبرُ المضافُ إلى أُويس القرني غربيَّ دمشقَ كَذِبٌ بلا
ريب، وقد روى أبو عبد الرحمن السُّلَمي حكايةً فيها أنه تُوفي بدمشق، وهي باطلة قطعا، فإن أويسًا لم يجِيءْ إلى الشام وإنما ذهبَ إلى العراق.
وكذلك القبر المضاف إلى هُوْدٍ بجامع دمشق كذبٌ باتفاق أهل العلم، فإن هودًا لم يَجِئْ إلى الشامِ، بل بُعِث باليمن وهاجرَ إلى مكة، فقيل: إنه ماتَ باليمن، وقيل: إنه مات بمكة، وإنما ذلك تلقاءَ قبرِ معاوية بن أبي سفيان، فإن خلفَ الحائطِ تابوت مكتوبٌ فيه اسمُ معاويةَ بن أبي سفيان.
وأما الذي خارجَ باب الصغير الذي يُقالُ: إنه قبرُ معاوية، فإنما هو معاوية بن يزيدَ بن معاوية الذي تولى الخلافة مدةً قصيرةً ثم مات، ولم يَعهَد إلى أحد، وكان فيه دين وصلاح، ولكن لما اشتهر أنه قبر معاوية ظنّ الناسُ أنه معاوية بن أبي سفيان.

(4/155)


وهكذا يُقالَ في قبر خالد أنه خالد بن يزيد بن معاوية أخو يزيد هذا، ولكن لما اشتهر أنه خالد والمشهور عند العامة خالد بن الوليد ظنُّوا أنه خالد بن الوليد، كان قد عزلَه عمر بن الخطاب لما تولى عن إمارةِ الشام. وقد اختُلفَ في هذا الذي بحمص هل هو قبرُه أو قبرُ خالد بن يزيد، وكذلك اختُلِف في قبر أبي مسلمٍ الخولاني الذي بداريَّا على قولين، وكذلك قبورٌ غيرُ هذه اختَلَفَ الناسُ فيها، وهذا هو القسم الثالث، وهو الذي اختلفَ فيه أهلُ النقل، فإن كان مع أحدهما ما يُرَجِّح به نقلَه تَرَجح.
وأما المكذوبُ قطعًا فكثيرٌ، مثل قبر علي بن الحسين الذي بمصر، فإن علي بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع الناسِ ودُفِنَ بالبقيع، ويُقَالُ إن قُبةَ العباس بها قبرُه وقبرُ الحسن وعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد، وفيها أيضًا رأسُ الحسين، وأما بدنُه فهو بكَرْبَلاءَ باتفاق الناسِ. والذي صحَّ ما ذكره البخاري في صحيحه (1) من أن رأسَه حُمِلَ إلى عبيد الله بن زياد، وجَعل يَنكُتُ بالقَضيب على ثناياه، وقد شهد ذلك أنس بن مالك، وفي رواية أخرى أبوَ بَرزةَ الأسلمي، وكلاهما كانا بالعراق، وقد رُوِي بإسناد منقطع أو مجهولٍ (2) أنه حُمِلَ إلى يزيدَ، وجَعل يَنكُت بالقضيبِ على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضرًا وأنكر ذلك. وهذا كذبٌ، فإن أبا برزةَ لم يكن بالشام عند يزيدَ، وإنما كان بالعراق.
__________
(1) برقم (3748) عن أنس بن مالك.
(2) انظر تاريخ الطبري (5/ 465) والبداية والنهاية (11/ 559).

(4/156)


وهذا كما يرويه الكذابون أن أهل البيت سُبُوا وحُمِلوا على الجمال فنبتت لها سَنامان، فإن كل عاقل يعلم أن هذا كذب، وقد كانت البَخَاتِيُّ موجودةً في زمن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقبل ذلك، وكما يروون أن الحجاج بن يوسف قتِلَ أشرافَ بني هاشم، وهذا كذبٌ أيضًا، فإن الحجاج مع ظلمه وغشمِه صَرَفَه الله عن بني هاشم، فلم يقتل منهم أحدًا، وبذلك أمرَه خليفته عبد الملك، وقال: إياك وبني هاشم أن تتعرضَ إلى أحدٍ، فإني رأيت آل حرب لما تعرضوا للحسين أصابَهم ما أصابهم، أو كما قال. ولم يُقتَل في دولة بني مروان من الأشراف بني هاشم مَن هو معروف، لأنّ زيد بن علي بن الحسين لما صُلِبَ بالكوفة، وقد تزوَّج الحجاج ابنةَ عبد الله بن جعفر وأعظَم صداقَها، فلم يَرَوه كفؤًا لها وسَعَوا في مفارقتِه إيّاها، ولكن ذكر الناس أن الحجاج كان يَقتُل الأشراف أشرافَ الناس وهم رؤوسُ قبائل العرب، فظنَّ من ظنَّ أنهم بنو هاشم، وتخصيصُ لفظ الأشراف بهم عُرْفٌ حادثٌ، والشرف هو الرئاسة، كالحديث الذي رواه الترمذي (1) وصححه عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “ما ذئبانِ جائعانِ أُرسِلا في غنمٍ بأفسَد لها مِن حرصِ المرء على المال والشرف لدينه”.
وفي الصحيح (2) عن عائشة أن قريشًا أهمهم شأنُ المخزومية،
__________
(1) برقم (2733) عن كعب بن مالك. وأخرجه أيضًا أحمد (3/ 456، 460) والدارمي (2733). ولابن رجب جزء في شرح هذا الحديث.
(2) البخاري (6787 ومواضع أخرى).

(4/157)


فقالوا: مَن يكلِّم فيها رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالوا: ومن يَجترئُ عليه إلاّ أسامة بن زيد، فكلَّمه فيها فغضِبَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: “إنما هلكَ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سَرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، والذي نفس محمد بيدِه لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدَها”. فهذه كانت من أشرافِ قريش، وكانت مخزوميةً.
وكذلك قبرُ نوح الذي بجبلِ بَعلبكَّ كذب قطعًا، وإنما ظهر من مدّةٍ قريبةٍ، وقد بَيَّنْتُ حاله لما سألني عنه أهلُ الناحية وتبيَّن أنه لا أصلَ له.
وكذلك مشهدُ الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في مقتلِ الحسين اتفقوا على أن الرأس لم يُعرَف، وأهلُ المعرفة بالنقل يعلمون أنّ هذا أيضًا كذب، وأصله أنه نُقِل من مشهدٍ بعسقلانَ، وذاك المشهدُ بنيَ قبلَ هذا بنحوٍ من ستين سنةً في أواخرِ المائة الخامسة، وهذا بنيَ في أثناء المائة السادسة بعد مقتلِ الحسين بنحوٍ من خمسمائة عام، والقاهرة بُنيَتْ بعدَ مقتلِ الحسين بنحو من ثلاثمائة عام، وهذا المشهد بُنيَ بعد بناءَ القاهرة بنحو مائتَي عام.
وكذلك قبرُ علي عليه السلام الذي بباطنةِ النَّجَفِ بالكوفة، فإن المعروف عند أهل العلم أنه دُفِن بقصرِ الإمارة بالكوفة، كما دُفِن معاوية بقصر الإمارة بالشام، ودُفِنَ عمرو بقصر الإمارة بمصر، خوفًا عليهم من الخوارج أن يَنْبشوْا قبورَهم، فإن الخوارج كانوا قد تَحالَفوا على قتلِهم، فقتلَ عبدُ الرحمن بن مُلجم عليًّا عليه السلام

(4/158)


وهو خارج إلى صلاة الفجر بمسجد الكوفة باتفاق الناس، ومعاوية ضربَه الذي أراد قتلَه على ألْيَتِه فعُولج من ذلك وعاشَ، وعمرو بن العاص استخلفَ على الصلاة رجلا اسمه خارجة، فضربَه الخارجي فظنَّه عمرا، وقال: أردتُ عمرا وأرادَ الله خارجةَ.
ومثل قبر جابر الذي بظاهر حَرانَ، فإن الناس متفقون على أن جابرًا تُوفي بالمدينة النبوية، وهو آخر من مات من الصحابة بها.
ومثل قبر عبد الله بن عمر الذي بالجزيرة، فإن الناس متفقون على أن عبد الله بن عمر ماتَ بمكة عامَ قَتْلِ ابن الزبير، وأوصَى أن يُدفن في الحلّ لكونه من المهاجرين، فشق ذلك عليهم، فدَفنوه بأعلى مكة.
وكثير من هذه الأسماء يَقع فيها الغلطُ من جهة اشتراك الأسماء، كما وقعَ في قبر معاوية وغيره بسبب اشتراك اللفظ، فلعل رجلاً اسمه جابر أو عبد الله بن عمر دُفِن هناك، فظنَّ الجهال أنه الصاحبُ لشهرتِه، ثم اشتهر ذلك.
وكذلك رقية وأم كلثوم مما هو مدفون بالشام أو مصر أو غيرهما، قد يظنّ بعضُ الناس أنه قبر رقية بنت النبي أو أمّ كلثوم بنته، وقد اتفق الناس على أن رقية وأم كلثوم ماتَتَا في حياة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بالمدينة تحت عثمان بن عفان وبهما يسمَّى ذا النورين، وكذلك زينب بنت النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – توفيتْ في حياتِه، ولم يخلف من بناته إلاّ فاطمة، ولم يخرج أحدٌ من بناته إلى الشام ولا مصر ولا غيرهما من الأقاليم.

(4/159)


والمسجد الذي بجانب عُرَنَةَ الذي يُقال له مسجد إبراهيم، فإنّ بعض الناس يظن أنه إبراهيم الخليل، وإِنما هو من ولد العباس، والمسجد إنما بنيَ في دولة العباسية علامةً على الموضع الذي صلى فيه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الظهرَ والعصرَ يومَ عرفة، فإنه أقام بنَمِرَةَ إلى حينِ الزوال، ثم ركبَ فأتَى بطنَ عُرَنَةَ عند المكان الذي بُني فيه هذا المسجدُ، فخطبَ على راحلته، ثم نزلَ فصلَّى بهم هناك الظهر والعصر قصرًا وجمعًا، ثم أتى الموقفَ بعرفات. وكان بحرَّان مسجدٌ يقال له مسجد إبراهيم، فيظنُّ الجهال أنه إبراهيم الخليل، وإنما هو إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، الذي كانت دعوة الخلافة العباسية له، وحُبسَ هناك ومات في الحبس، وأوصى إِلى أخيه أبي جعفر الملقب بالَمنصور.

والقبورُ المختلَفُ فيها كثيرة، منها قبر خالد بن الوليد كما تقدم، فإنّ فيه قولين ذكرهما أبو عمر ابن عبد البرّ في “الاستيعاب” (1): توفي بحمص، وقيل: توفي بالمدينة، سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب، وأوصى إلى عمر بن الخطاب، قال: وروى يحيى بن سعيد القطّان [عن سفيان] (2) عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل قال: بلغَ عمرَ بن الخطاب أن نسوةً من نساءِ بني المغيرةِ اجتمعن في دار يَبكينَ على خالد بن الوليد، فقال عمرُ: وما عليهنّ أن يبكين على أبي سليمان
__________
(1) 1/ 409.
(2) زيادة من “الاستيعاب”.

(4/160)


ما لم يكن نَقْع أو لقلقلة.
وأما قبرُ الخليل عليه السلام قالت العلماء على أنه حق، لكن كان مسدودًا بمنزلةِ حجرةِ النبي، ولم يكن عليه مسجد، ولا يصلِّي أحدٌ هناك، بل المسلمون لما فتحوا البلادَ على عهد عمر بن الخطاب بنوا لهم مسجدًا يصلُّون فيه في تلك القرية منفصلاً عن موضع الديْر، ولكن بعد ذلك نُقبتْ حائطُ المقبرةِ كما هو الآن النقبُ ظاهرٌ فيه، فيُقال: إن النّصارى لما استولَوا على البلاد نَقبوه وجَعلوه كنيسةً، ثم لما فتحَه المسلمون لم يكن المتولي لأمرِه عالمًا بالسنة حتى يَسُده ويتخذَ المسجدَ في مكانٍ آخر، فاتخذ ذلك مسجدًا وكان أهل العلم والدين العالمون بالسنة لا يُصلون هناك.
فصل
الأصل الثاني: أن هذه المشاهد والقبور المضافة إلى الأنبياء والصالحين إنما اضطربَ النقلُ فيها ووقعِ فيها الكذبُ والاشتباهُ لأن ضبطَها ليسَ من الدين، والله تعالى قد ضمنَ حفظَ ما نزلَه من الذكر بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) (1)، والله قد نزل الكتابَ والحكمة، كما قال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ) (2)، والحكمة: السنة، كما قال ذلك
__________
(1) سورة الحجر: 9.
(2) سورة البقرة: 231.

(4/161)


غيرُ واحدٍ من السلف، كقتادة ويحيى بن أبي كثير والشافعي وغيرهم، بدليل قوله: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) (1)، والذي كان يتلَى في بيوتهنّ هو القرآن والسنة، فالذكر الذيْ نزَّله الله ضمِنَ حفظَه، فلهذا كانت الشريعة محفوظةً مضبوطةً، ومن الشريعة أن هذه المشاهد والقبور لا تُتخَذُ أربابًا، بل زيارة القبور نوعان: شرعية وبدعية:
فالزيارةُ الشرعية أن يُسَلم على الميتِ ويَدعو له، كما يُصلِّي على جنازته، فإنّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان يُعلم أصحابَه إذا زاروا القبورَ أن يقول قائلُهم: “السلامُ عليكم أهلَ الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمينَ منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافيةَ، اللهمَ لا تَحرِمْنَا أجرَهُم، ولا تَفْتِنا بعدَهم، واغفر لنا ولهم” (2).
فهذا الدعاء للميت من جنس الدعاء على جنازته إذا حضرتْ، وقد قال الله تعالى لنبيه في حق المنافقين: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (3)، فلما نهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم دلَّ ذلك بطريقِ مفهومِ الخطابِ وتعليلِه على أن المؤمنين يُصلَّى عليهم ويُقامُ على قبورَهم، وقد فُسِّر ذلك القيامُ على قبورِهم بالدعاء لهم، فالمؤمن يُقامُ على قبره بالدعاء له، فهذا
__________
(1) سورة الأحزاب: 34.
(2) أخرجه مسلم (975) عن بريدة.
(3) سورة التوبة: 84.

(4/162)


هو المشروع.
وأما زيارةُ المشاهد والقبور لأجل الصلاة عندها والدعاء عندها وبها، والتمسُّح بها وتقبيلها، وطلب الحوائج من الرزق والنصر والهدى عندها وبها، فهذا ليس مشروعًا باتفاق أئمة المسلمين، إذ هذا لم يفعلْه رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا أمرَ به، ولا رَغب فيه، ولا تعلَّمه أحدٌ من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين، بل ولا كانوا يَبْنُون مشهدًا على قبر ولا مسجدًا ولا غيرَه، وإنما حدثتْ هذه المشاهدُ بعدَ القرونِ المفضلة التي أثنى عليها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – القرنِ الذي بُعِث فيهم ثم الذين يلونَهم ثم الذين يلونهم، وإنما انتشرتْ في دولة بني بُوَيْه ونحوهم من أهل البدع والجهل. وقد نهى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن ذلك، بل لعنَ من يَفعلُه، كما في الصحيحين (1) عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال في مرضِه الذي مات فيه: “لَعن الله اليهودَ والنصارى، اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد”، يُحذرُ ما صَنَعوا. قالت عائشةُ: ولولا ذلك لأبرزَ قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا (2).
وفي صحيح مسلم (3) عن جُندَب أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال قبل أن يموتَ بخمس: “إن مَن كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجدَ، إلاّ فلا تتخذوا القبورَ مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك”.
__________
(1) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة.
(2) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529).
(3) برقم (532).

(4/163)


وفي موطأ مالك (1): “اللهمَّ لا تجعلْ قبرِيْ وثنا يُعبَد، اشتدَّ غضبُ الله على قوم اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد”. وفي المسند (2) وغيره عن ابن مسعود عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “إن من شِرارِ الناس مَن تُدرِكُهم الساعةُ وهم أحياءٌ، والذين يتخذونَ القبورَ مساجدَ”. رواه أبو حاتم في صحيحه (3).
ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن من سلَّم على النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أو غيره من الأنبياء والصالحين عند قبرِه فإنه لا يتمسَّح بالقبر ولا يُقَبله، بل اتفقوا على أنه لا يُشرَع أن يَستَلِم ويُقَبِّلَ إلاّ الحجرَ الأسودَ، والركن اليماني يُستلَم ولا يُقبَّلُ على الصحيح، وإذا سلَّم على النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأرادَ أن يَدعوَ استقبلَ القبلة، ودعا في المسجد، ولم يَدْعُ مستقبلا للقبر، كما كان الصحابة يفعلون، وهذا ما أعلمُ فيه نزاعًا بين أَهل العلم، وإن نُقِل في ذلك [ما] يُخالف ذلك عن مالك مع المنصور فلا أصلَ لها.
وإنما تنازعوا في وقت التسليم عليه: هل يُستَقبَل القبرُ أو يُستقبلُ القبلةُ؟ فقال أصحابُ أبي حنيفة: يُستقبلُ القبلة، وقال الأكثرون: بل يُستقبَل القبر. وكانت حجرتُه خارجةً عن المسجد، فلما كان زمنَ الوليد بن عبد الملك أمر أن يُزَادَ في المسجد، فاشتُرِيَتِ الحجرةُ التي شرقيَّ المسجدِ وقِبْلِيَّها من أهلها وزيدتْ في المسجد،
__________
(1) 1/ 172 عن عطاء بن يسار مرسلا.
(2) 1/ 405، 435. وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (789).
(3) انظر موارد الظمآن (340).

(4/164)


فبقيتْ حجرةُ عائشةَ -التي دُفِن فيها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وصاحباه- داخلة في المسجد، ولما بَنَى عمر بن عبد العزيز والمسلمون عليها الحائط حرفوها عن سمتِ القبلة، وجعلوا ظهرَها مثلثًا لئلا يُصلِّيَ إليها أحدٌ، لما ثبتَ عنه في الصحيح (1) أنه قال: “لا تَجلسوا على القبور ولا تُصلوا إليها”. كل ذلك تحقيقا للتوحيد، وهو عبادةُ الله وحدَه لا شريكَ له، فإن الله تعالى قال في كتابه عن قوم نوح: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)) (2)، قال غير واحد من السلف كابن عباس وغيره: هولاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح فلما ماتوا اتخذوا تماثيلَهم. وفي رواية: عكَفُوا على قبورهم ولم يَعبُدوها، ثم طالَ عليهم الأمدُ فعبدُوها، فكان ذلك أول عبادة الأصنام.
فنبيُّنا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خاتَمُ النبيين الذي بعثه الله بالتوحيد حَسَمَ مادةَ الشرك، حتى أَمَر بما رواه مسلم في صحيحه (3) عن أبي هَيَّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: إلاّ أبعثك على ما بعثني عليه رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ” إلا أدعَ قبرا مُشرِفًا إلاّ سوَّيتُه، ولا تمثالاً إلاّ طَمَسْتُه”. فأمرَ بتسوية القبور وطَمْسِ التماثيل، فإن هذين كانا سببًا لعبادة الأصنام.
ولو كان قصدُ المشاهد هذه التي على القبور لأجل الدعاء أو
__________
(1) مسلم (972) عن أبي مرثد الغنوي.
(2) سورة نوح: 23.
(3) برقم (969).

(4/165)


الصلاة عندها مشروعا لم يُكْرَه الصلاةُ فيها، بل كانت تكون الصلاة فيها أفضلَ، وقد أجمع المسلمون على أن الصلاة والدعاء في المسجد الذي ليس عليه قبرٌ لا رجل صالح ولا غيره أفضلُ من الصلاة والدعاء في المسجد المبني على قبر من المشاهد وغيره، بل صرَّح أئمة المسلمين أنَّ بناءَ المساجد عليها حرام، ونَهَوْا عن الصلاة فيها.
وفي السنن (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لَعَنَ الله زواراتِ القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج”. قال الترمذي: حديث حسن.
ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه. فقد لعن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَن يتخذ على القبور مساجدَ وسُرُجا. ولهذا قال العلماء: إنه لا يجوز أن يُنذَر للقبور لا زيت ولا شمع ولا نفقة ولا نحو ذلك، بل هذا نذر معصية. وفي صحيح البخاري (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “من نَذَر أن يُطيعَ اللهَ فليُطِعْه، ومن نَذَر أن يَعصِيَه فلا يَعْصِه”.
ونذرُ المعصية مثل هذا لا يجوز الوفاءُ به بالاتفاق، لكن هل عليه كفارةُ يمين؟ فيه قولان للعلماء:
أحدهما: لا شيءَ عليه، كقول أبي حنيفة ومالك والشافعي.
والثاني: عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما في
__________
(1) أخرجه أبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/ 94) وابن ماجه (1575). وتكلم عليه الألباني في “الضعيفة” (225).
(2) برقم (6696، 6700) عن عائشة.

(4/166)


الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “كفارةُ النذر كفارة يمين”. وفي السنن (2) عنه أنه قال: “لا نذرَ في معصيةِ، وكفارته كفارة يمين”.
وإذا نذرَ طاعة لله، مثلَ صلاة مشروعة أو صيام شرعي أو صدقة شرعية فعليه الوفاء بذلك، وإن كان أصلُ عقد النذرِ مكروهًا لما في الصحيحين (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه نهى عن النذر وقال: “إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستخرَجُ به من البخيل”. فنفسُ عقد النذرِ منهيٌّ عنه باتفاق الأئمة، لكنه إذا نَذَرَ نذرًا فإن طاعةً لله وَفَى به، وإن كان معصيةً مثل نَذْرٍ للكنائس والبيَع، ونَذْرِ الزيت والشمع والكسوة والنفقة للمشاهد التي على القبَورَ، فهذا لا يجوز الوفاءُ به، وهل عليه كفارةُ يمين؟ على قولين للفقهاء.
ولو سافرَ لزيارة القبور التي عليها المساجدُ فلا أعلمُ أحدًا من السلف أَذِنَ في ذلك، لكن رَخَّصَ فيه طائفةٌ من متأخري الفقهاء، ومَنَعَ منه آخرون، وقالوا: هو بدعةٌ منهيٌّ عنها، حتى قالوا: لا يجوز فيها قصرُ الصلاة، لأنه قد ثبتَ في الصحيحين (4) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لا تُشَدُّ الرحالُ إلاّ إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا”. وفي السنن (5) أن بَصْرة بن أبي بَصْرة لما
__________
(1) مسلم (1645) عن عقبة بن عامر.
(2) أخرجه أبو داود (3290 – 3292) والترمذي (1524، 1525) والنسائي (7/ 26، 27) وابن ماجه (5125) عن عائشة.
(3) البخاري (6608، 6692، 6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر.
(4) البخاري (1189) ومسلم (1397) عن أبي هريرة.
(5) أخرجه أحمد (6/ 7) والنسائي (3/ 113) عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري.

(4/167)


رأى بعضَ من زار الطُّورَ -الطور الذي كلم الله عليه موسى- نهاهُ عن ذلك، وقال له: إن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “لا تُشَدُّ الرحَالُ إلاّ إلى ثلاثة مساجد”.
فهذا يُبين أن الصحابة فهموا أنه نهى عن السفر لزيارة جميع البقاع إلا المساجد الثلاثة، سواء كانت تلك البقعة فيها آثارُ الأنبياء أو غير الأنبياء، وهذا هو الذي اتفق عليه أئمةُ العلماء، فإنهم لم يتنازعوا أنه لو نذرَ السفرَ إلى بُقْعةٍ بعينها غيرِ المساجد الثلاثة لم يجب الوفاءُ بنذره، ولو كان ذلك طاعةً عندهم لوجبَ الوفاءُ به، واتفَقوا على أن نذرَ الإتيانِ في المسجد الحرام يجبُ الوفاءُ به، وتنازعوا في مَن نَذر إتيانَ مسجدِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – والمسجد الأقصى، فقال أبو حنيفة: لا يجبُ الوفاءُ بذلك، لأنّ من أصلِه أنه لا يَجِبُ بالنذر إلاَّ ما كان من جنسِه واجبًا بالشرع، وقال مالك والشافعي وأحمد: بل يجب الوفاءُ بذلك، لقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “من نذر أن يُطيعَ الله فليُطِعْه” (1)، وهذا طاعةٌ لله بالاتفاق، فيُستحب الوفاءُ به.
فإذا عُلِمَ أنَّ غيرَ المساجدِ الثلاثة لم يَقُولوا بوجوب الوفاء إذا نذر السفر إليه، عُلِمَ أن ذلك ليس بطاعةٍ، حتى مسجد قُباء، قالوا: من قَصَدَه إذا أتى المدينةَ فحسنٌ، وأما شدُّ الرحْلِ له فلا، فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “من تطهر في بيته فأحسنَ الطهور، ثم أتى مسجد قباءَ لا يُرِيد إلاّ الصلاةَ فيه كان له كأجر عمرة” (2). فإذا رَغبَ في إتيانِ من
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه أحمد (3/ 487) والنسائي (2/ 37) وابن ماجه (1412) عن سهل ابن حنيف.

(4/168)


يأتيه من بيته فيمن سَافر إليه، وكذلك للرجل أن يقصدَ مسجدَ مدينتِه وقريتِه، وليس له أن يُسافرَ إلى مسجد مدينةٍ أو قريةٍ غيرِ المساجد الثلاثة، بالاتفاق.
فهكذا يَزور القبورَ الزيارةَ الشرعيةَ، فيسلِّم على الميت، ويَدعو له، إذا كان قريبًا من مدينةٍ هو فيها، أو اجتازَ به، ونحو ذلك، فأما السفر لأجل ذلك فليس بمشروع. وإنما عَظُمَتْ هذه البدعُ من أهل الأهواء الذين عَطَّلُوا المساجدَ عًن الجمعات والجماعات، وابتدعوا الإشراك الذي يَفعلونَه عند المشاهد، حتى صَنَّفُوا كتبًا فيها مناسك حج المشاهد. والله تعالى في كتابه إنما أمرَنا بالعبادة في المساجد لا في المشاهد، فقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) (1)، ولم يقل: مشاهد الله، وقال تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) (2)، ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (3)، ولم يقل: كل مشهد، وقال تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) إلى قوله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) (4)، ولم يقل: يعمر مشاهد الله، وقال تعالى: (أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)) (5)، ولم يقل: وأن المشاهد لله.
__________
(1) سورة البقرة: 114.
(2) سورة البقرة: 187.
(3) سورة الاْعراف: 29.
(4) سورة التوبة: 17 – 18.
(5) سورة الجن: 18.

(4/169)


وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1): “صلاة الرجل في المسجد تَفضُل على صلاتِه في بيته وسوقِه بخمس وعشرين درجة. وذلك أن الرجلَ إذا تطهَّر في بيته فأحسن الطهورَ، ثم أتى المسجدَ لا يُنْهزُه إلاّ الصلاةُ فيه، كانت خطوتاه إحداهما تَرفَعُ درجةً والأخرى تَحُطّ خطيئةً، فإذا جلسَ فإنه في صلاةٍ ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تُصفَي على أحدِكم ما دامَ في مصلاه الذي صفَى فيه: “اللهمَّ اغفرْ له، اللهُمَّ ارْحَمْه ” ما لم يُحدِثْ أو يَخْرُجْ من المسجد”.
وأما قول السائل: “بحرمة فلانٍ الميت أن تَقْضِيَ حاجتي أو تَغفر لي ” فهذا ليس بمشروع، فإن هذا لم يفعله أحدٌ من السلف، ولا استحبَّه أحدٌ من الأئمة، ولا فيه أثرٌ عمن مضى، والعبادات مبناها على الاستنان والاتباع، لا على الهوى والابتداع، قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه) (2)، وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي تمسّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعةٍ ضلالة” (3).
ولو كان هذا مشروعًا لأحدٍ أو في حقّ أحدٍ لكان أحقُّ الناس بذلك أصحابَ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في حق النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه أفضلُ الخلق
__________
(1) البخاري (647) ومسلم (بعد رقم 661) عن أبي هريرة.
(2) سورة الشورى: 21.
(3) أخرجه أحمد (4/ 126) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (43، 44) من حديث العرباض بن سارية.

(4/170)


وأكرمُهم على ربّه، وأقربُهم إليه وسيلةً حيًا وميتًا، وقد ثبتَ في صحيح البخاري (1) عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا أجدبَ استسقَى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللهمَّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبنا نتوسَّلُ إليك بنبيِّنا فتَسقينا، وإنّا نَتَوسَّل إليك بعمِّ نبينا فاسْقِنا، فيُسقَون. فأخذوا العباسَ يتوسَّلُوا به، وجعلَ يدعو ويَدعُون معه، كما كانوا يتوسَّلون بالنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عند الاستسقاء، ولم يجيئوا إلى قبر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فيدعُوا هناك، ويَفعلون ما يفعلُه كثير من الناس عند من ليس مثلَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من سؤاله أو السؤال منه وغير ذلك. ولهذا ذكر العلماءُ في الاستسقاءِ ما فعلَه الصحابةُ، ولم يذكروا ما ابتدعَه الجاهلون.
فالمقصودُ بالزيارة الدعاء للميت على جنازته، والله تعالى يثيْبُ العبدَ على دعائِه له، كما يثيبُه على الصلاة عليه، وقد يكون الداعيْ أفضلَ من المدعوِّ له، وقد يكون المدعوُّ أفضلَ، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إذا سمعتُم المؤذنَ فقولُوا مثلَ ما يقولُ، ثم صَلُّوا علي، فإنه مَن صلى عليَّ مرةً صلى الله عليه عشرًا، ثم سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنه درجة في الجنة لا تَنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبدَ، فمن سأل اللهَ لي الوسيلةَ حَلَّتْ عليه شفاعتي يوم القيامة”. رواه مسلم (2)، والله أعلم.
__________
(1) برقم (1010،3710).
(2) برقم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

(4/171)


مسألة
في امرأةٍ تُوفّيَتْ وهي حاملٌ في سبعة أشهر، فهل يُشَق بطنُها أو تَضَعُ على بطنِها شيئًا ثقيلاً أو تَسْطو عليهِ القوابلُ؟
الجواب

الحمد لله، ينبغي أن يُسعَى في خروج الجنين من فَرْجها، إما أن تَسْطُو القوابلُ عليه فيُخرِجْنَه، وإمّا أن يُفتَح فَرجُها بَالمفتاح المصنوع لذلك، فإذا اتسعَ أخرِجَ منه الولدُ، فإن تعذَّر ذلكَ ففيها قولان مشَهوران:
أحدهما: لا يُشَقُّ بطنُها، لأنه مثلةٌ، والعادة أن الولد يموتُ بموتِ أمِّه، فلا يبقى حيا، فيكون تمثيل بالميِّت بلا استبقاءِ الحي، بل لو اضطُرَّ الجائعُ إلى أكل ميتٍ معصوم لم يَجزْ، لأن بقاءَ نفسِه في أحد القولين مع أن الحياة منتفية وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “كَسْرُ عظم ميتٍ ككَسْرِ عظم الحي” (1). وهذا مذهبُ مالك وأحمد وغيرهما.
__________
(1) أخرجه أحمد (6/ 58،105،168،200،264) وأبو داود (3207) وابن ماجه (1616) عن عائشة. وصححه الألباني في “الإرواء” (763).

(4/172)


والثاني: بل يُشَق بطنُها لإخراج الولدِ، فإن مراعاةَ حقِّ الولد الحيِّ أولى من مراعاة الميت. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وفي مذهب الشافعي وجهٌ كالأول، وفي مذهب الإمام أحمد وجهٌ كالثاني. وهذا النزاعُ إذا رُجِيَ خروجُه حيًّا، فأما إذا ظهرَ موتُه، فإنه لا يُشَقُّ بطنُها بلا خلافٍ.

(4/173)


مسألة
في رجلٍ تُوفِّي إلى رحمة الله بالقاهرة، فهل يجوز الصلاةُ عليه غائبةً في مصر أو في القلعةِ؟ وكم قدرُ مدةِ البُعْدِ الذي يَجوز على الغائب فيه؟ وكم مقدارُ بُعدِ صلاة النبي على النجاشي؟ وهل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – صَلَّى على الغائب أو أحدٌ من الصحابة في مقدارِ بُعدِ القاهرة إلى مصر أو أحدٌ من الأئمة؟
الجواب
أصل هذه المسألة هي مسألة الصلاة على الغائب، وفيها للعلماء قولان مشهوران:
أحدهما: يجوز، وهو قول الشافعي وأحمد في أشهر الروايات عنه عند أكثر أصحابه.
والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وذكر ابنُ أبي موسى (1) – وهو ثبت في نَقْلِ مذهبِ أحمد – رجحانَها في مذهبه.
__________
(1) في “الإرشاد إلى سبيل الرشاد” (ص 122).

(4/174)


وسببُ هذا النزاع أنه قد ثبتَ بالنصوص الصحيحة أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – صلَّى على النجاشي وكان غائبًا، ففي الصحيحين (1) عن أبي هريرة أنّ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نَعَى النجاشيّ في اليوم الذي مات فيه، وخرجَ بهم إلى المصلَّى، فصفَّ بهم، وكبَّر عليه أربع تكبيرات، وقال: “استغفروا لأخيكم”. وفيهما عن جابر (2) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – صلَّى على النجاشي فكبر أربعًا، وللبخاري عنه (3): أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – صلَّى على النجاشي، فكنتُ في الصف الثاني أو الثالث. وله (4): “قد تُوفي اليومَ رجل صالح من الحبش، فهَلُمَّ فصلُّوا عليه”. فصففنَا، فصلَّى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ونحن صفوف. ولمسلم (5): إن أخًا لكم قد ماتَ، فقوموا فصلُّوا عليه”، فقُمنا فصَفنا صفين. وروى مسلم (6) عن عمران بن حُصين أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “إن أخًا لكم”، وفي لفظ: “إن أخَاكم قد ماتَ، فقومُوا فصلُّوا عليه”، يعني النجاشي.
فهذه السنةُ ثبتَتْ، ولم يُنقَلْ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه صلَّى على غائب غيره، إلا حديث ساقط (7) رُوِيَ فيه أنه صلى على مُعاوية بن معاوية
__________
(1) البخاري (1245،1327) ومسلم (951).
(2) البخاري (1334) ومسلم (952).
(3) برقم (1317).
(4) برقم (1320).
(5) برقم (952).
(6) برقم (953).
(7) جمع الحافظ ابن حجر طرقه في “الإصابة” (3/ 436،437)، وقوّاه بالنظر إلى مجموع الطرق في “الفتح” (3/ 188). وقال ابن عبد البر في =

(4/175)


الليثي في غزوة تبوك لكثرةِ قراءتِه “قل هو الله أحد”، وهوِ حديثٌ لا يُحتجُّ به. وقد ماتَ على عهده خلائقُ من أصحابه في غيبتِه فلم يُصلِّ عليهم، وكذلك لم يُصل المسلمون الغائبون عنه في مكة والطائف واليمن وغيرها، ولا صَلَّوا على أبي بكر وعمر وغيرهما في الأمصار البعيدة.
ولهذا تنازعَ العلماء، فقالت طائفة: لا يُصلَّى على الغائب، إذ لو كانت سنةً لكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أكثرَ من ذلك، ولكان المسلمون يَعملونَ بذلك في مَحْيَاه ومماتِه، واعتذروا عن قضية النجاشي بعذرين:
أحدهما: أن ذلك [كان] مختصًّا به، قالوا: لأن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان يشاهدُه، أو لأنه حُمِلَ إلى بين يديه. وهذا عذرٌ ضعيفٌ، لأن ذلك لم ينقله أحدٌ، ولأن الصحابة الذين صَلَّوا خلفَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يُشاهِدوه، ولا فرقَ بين الإمام والمأموم، ولأن المانع عندهم هو البعد أو التكرار، وكلاهما موجودٌ شهد أو لم يشهد، ولأن مثلَ هذا قد كان ممكنًا في حق غير النجاشي، فبطلَ الاختصاصُ به.
ولأن الأصلَ مشاركةُ أمتِه في الأحكام ما لم يقمْ دليلُ اختصاصِ النبيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والعذر الثاني: قالوا: إنّ النجاشي قد كان بين قومٍ نصارى،
__________
= “الاستيعاب” (3/ 395): أسانيد هذه الأحاديث ليست بالقوية، ولو أنها في الأحكام لم يكن في شيء منها حجة.

(4/176)


وكان يُخفِيْ قومَه إسلامَه حتى سَعَوا في محاربته، ولم تكن شريعة الإسلام ظهرتْ هناك حتى يكونَ عنده من يُصلِّيْ عليه، لعدم صلاة القريب عليه. وهذا العذرُ أقربُ من الأول، وبه يَظهر تخصيصُ النجاشي بالصلاة دونَ غيرِه من الموتى.
ثم من قال هذا ولم يجوِّز الصلاةَ على الغائب بحالٍ نقضَ كلامَه، ومن قال هذا [و] جوَّز الصلاةَ على الغائب الذي لم يُصل عليه فقد أحسنَ فيما قال، ولعل قولَه أعدلُ الأقوال، فإن الشريعةَ استقرتْ على قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1)، وقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إذا أَمَرتكَم بأمر فَأْتُوا منه ما استطعتم” (2). فما تعذَّر من العبادات سقط بالعجزِ، وإذا كانت الصلاة على الميت مأمورًا بها ولم تكنْ إلاّ مع الغَيبةِ كانتْ هي المأمورَ به.
وقالت طائفة: بل تجوز الصلاةُ على كل غائب عن البلد وإن كان قد صُلِّيَ عليه، كما ذكرناه عن أصحاب الشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد، ثم قال هولاء: يجوز على الغائب عن البلد، سواء كان فوقَ مسافةِ القصر أو دونَها، وسواءٌ كان الميتُ خلفَ المصلِّي أو أمامه.
وأما الغائبُ في البلد الواحد فالأكثرون من أصحاب الإمامين مَنَعُوا الصلاةَ عليه، [و] لم يَرِدْ بها أثرٌ ولا نُقِلَ ذلك عن أحد من
__________
(1) سورة التغابن: 16.
(2) أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337) عن أبي هريرة.

(4/177)


السلف، فالفاعلُ لها مبتدعٌ دِينًا لم يشرعْه الله، ولو ساغَ ذلك لم يكن لذلك ضابطٌ، بل كان يجوزُ أن يُصلِّي الرجل في هذه الدار أو الدَّرْبِ على من مات في هذا الدرب أو هذه الدار، ومعلومٌ أن هذا ليس من عمل المسلمين، ولو كان هذا جائزًا لكان قربةً، ولكان السلفُ يبادرون إليه، لاسيَّما ولا يزال في المسلمين من لا يُمكِنه شهودُ الجنازة من مريض ومحبوسٍ ومشغول. فلما لم يَفْعَل هذا أحدٌ من السلف عُلِمَ أنَّه غيرُ مشروع، وإنْ كانَ يُشرَعُ الدعاءُ للميتِ على كل حالٍ، بطهارة أو غير طهارة، إلى القبلة وغيرها، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، بتكبير وغير تكبيرٍ، وأما صلاةُ الجنازة فيُشتَرط لها الشروطُ الشرعية.
وجوَّزَ طائفة من أصحاب الإمامين الصلاةَ على الغائب في البلد الواحد، ثم محقِّقُوهم قيَّدوا ذلك بما إذا ماتَ الميتُ في أحد جَانِبَي البلدِ الكبير، ومنهم من أطلق في أحد جانبي البلد لم يُقيِّدها بالكبيَرة، كما إذا ماتَ في أحدِ جانبي بغدادَ فَصُلِّي عليه في الجانب الآخر. وكانت هذه المسألة قد وَقعتْ في عصر أبي حامد وأبي عبد الله بن حامد، مات ميت في أحد جانبي بغدادَ، فصلَّى عليه أبو عبد الله بن حامد، وطائفة في الجانب الآخر، وأنكر ذلك أكثرُ الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كأبي حفص البرمكي وغيره، واتفق الفريقان على أنه من مات في الجانب الواحد لا يُصلَّى عليه فيه إذا كان غائبًا، كما إذا كان الرجل عاجزًا عن حضور الجنازة لمطرٍ أو مرضٍ فإنه لا يُصلِّي على الغائب وفاقًا.

(4/178)


لكن بعض متأخري الخراسانيين من أصحاب الشافعي أجرى الوجهين في الغائب في البلد وإن أمكن حضوره، وألحقَ ذلك بالوجهين في القضاء على الغائب عن مجلس الحكم إذا لم يمكن حضورُه، فإنّ فيه وجهًا ضعيفًا بجواز الحكم عليه، فقاس الصلاةَ عليه على القضاء عليه. وهذا إلى غاية الضعف والشذوذ، مع ما بين الصلاة والحكم، ولا يَستريب من له أدنى معرفة أن تشريعَ مثل هذا حَدَث وبدعة ظاهرةٌ. وأمثالُ هذه الوجوه تُخَرَّجُ عند ضِيْق مناظرةِ المخالف طردًا لقياسٍ واحترازًا عن نقضٍ، ولا يُدَانُ الله بها.
وعلى القول المشهور في المذهبين وأنه لا يُصلَّى إلاّ على الغائب عن البلد لم يَبلُغني أنهم حَدُّوا البلدَ الواحدَ بحدٍّ شرعي، ومقتضى اللفظ أن من كان خارجَ السُّوْرِ أو خارجَ ما يُقدَّر سورًا يُصلَّى عليه، بخلاف من كان داخلَه، لكن هذا لا أصلَ له في الشريعة في المذهبين، إذ الحدود الشرعية في مثل هذا إمّا أن تكون العبادات التي تجوز في السفر الطويل والقصير، كالتطوع على الراحلة والتيمم والجمع بين الصلاتين على قول، فلابُدَّ أن يكون منفصلاً عن البلد بما يُعَدُّ الذهابُ نوع سفر. وقد قالت طائفة من أهل المذهبين كالقاضي أبي يعلى أنه يكفى خمسين خطوة.
وإما أن يكون الحدُّ ما يجب فيه الجمعةُ، وهو مسافةُ فرسخ، حيث يسمع النداءَ، ويجب عليه حضور الجمعة، كان من أهل الصلاة في البلد فلا يُعدُّ غائبًا عنها، بخلاف ما إذا كان فوق ذلك فإنه بالغائب أشبه.

(4/179)


وإما أن يُقال مسافة العدوَى في مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وهو ما لا يمكن الذاهبَ العودُ إليه في يومه، وهذا يُناسب قولَ من جعل الغائبَ عن البلد كالغائب عن مجلسِ الحكم. وفيه أيضًا من الفقه أنه إذا كان كذلك شق الحضورُ، بخلاف مَن يُمكنه العَوْد. ولكن إلحاقَ الصلاة بالصلاة أولى من إلحاق الصلاة بالحكم.
فهذه هي المآخذ التي يَنْبني عليها جوابُ هذه المسألة. إذا تبيَّن ذلك فنقول: القلعة والقاهرة تشبه جانبي بغداد، فمن جوَّز الصلاةَ في أحد جانبي بغداد على من مات في الجانب الآخر كقول بعض أصحاب الشافعي وأحمد، فإنه يُجوِّز أن يُصلَّى على من مات في القلعة أو القاهرة على من مات في الآخر، وعلى قول هؤلاء فصلاةُ أهل القاهرة على من مات في مصر بالعكس، وصلاةُ أهل القلعة على من مات بمصر وبالعكس أولى بالجواز، فإن القاهرة والقلعة يجمعهما سورٌ واحدٌ، ومصر خارجة عن ذلك، لأنهما بالبلد الواحد الكبير الذي له جانبانِ أشبه، لكن أكثر العلماء كأصحابِ أبي حنيفة ومالك واكثر أصحاب الشافعي وأحمد لا يُجوِّزون الصلاة في أحد جانبي البلد وإن كان كبيرًا على من مات في الجانب الآخر، حتى صرَّحوا بأن بغدادَ – مع كونها محالَّ كثيرةً، ولها جانبان بينهما دجلةُ، ومع كون الجمعة تُقامُ بها في مواضع من حين بُنيَتْ بغدادُ من زمن أبي جعفر المنصور وإلى الساعة – صَرَّحوا مع ذلك أنه لا يُصلَّى في أحد جانبيها على من مات في الجانب الآخر.

(4/180)


ومما يُبيِّن ذلك أن أمصار المسلمين الكبار التي فيها قِطع كثيرة كبغداد كثيرة القطع، وليس من عمل المسلمين أن يُصلُّوا في هذه القطعة على من مات في القطعة، فلم يُعرَف أن المسلمين كانوا يُصلُّون في قطعةِ مصر أو دمشق أو غيرهما على من مات بالمدينة وبالعكس، ولا عُرِف أنهم كانوا يُصلُّون بمصر على من مات بالقلعة وبالعكس مع اشتمالِ هذه الأمصار على أئمةٍ من أصحاب الشافعي وأحمد، وهم أهل الترخُّصِ في هذه المسألة، وإن لم يقلْ بهذا القول.
والأضعفُ الصلاةُ على الغائب جدًّا، فإنا قد علمنا أن المسلمين في جميع الأمصار لم يُصلُّوا بمنى وعرفات على من مات بمكة وبالعكس، ولا كانوا يُصلُّون بقُباءَ والعوالي على من مات بالمدينة وبالعكس، وقد ماتَ خلق كثير على عهد رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بقباءَ والعوالي ونحوهما، مما هو عن المدينة مثل مصر والقاهرة، وأبعد من دمشق والصالحية، ولم يكن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – والصحابةُ والتابعون يُصلُّون في أحدِهما على من مات في الآخر.
وأما الصلاةُ بمصر على من يموتُ بالقلعة أو بالقاهرة وبالعكس على المشهور – وهو منعُ الصلاة في أحد جانبي البلد على من يموت في الآخر – فمبني على ما ذكرناه في معنى البلد الواحد، هل المراد به ما خرج عن السُّوْرِ، أو ما يجب فيه الجمعةُ، أو مسافة العدوى؟
فعلى المأخذ الأول يجوز ذلك، وعلى المأخذين الآخرين لا

(4/181)


يجوز، فقد تبين مما ذكرناه على أن الصلاة بالقاهرة والقلعة على من مات بمصر وبالعكس لا تجوزُ عند جمهور العلماء، وتجوز عند بعضهم في مذهب الشافعي وأحمد.
وأما قول السائل: كم مقدارُ بُعْدِ النجاشي عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
فذلك كثير معروف، فإن النجاشي كان بالحبشة، وبينهما اليمن ثم تهامةُ، وهو مسافة كبيرة.
وأما قوله: هل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أو أحدٌ من الصحابة أو التابعين أو الأئمة صلى على الغائب في مقدار هذا البعد؟ فالجواب أنه لم يُنقَل ذلك عن أحدٍ من هؤلاء، وغاية ما بلغَنا في مثل ذلك ما ذكرناه من النزاع في جانبي بغداد، وكان هذا بعدَ الأئمة، وأما في زمن الشافعي وأحمد بن حنبل فلم يَبْلُغْنا أن أحدًا صلَّى في أحد جانبي بغداد على من مات في الآخر، مع كثرةِ الموتى وتوفُّرِ الهِمَم والدواعي على نقل ذلك. فتبينَ أن ذلك مُحْدَث لم يفعَلْه الأئمة.
وأما ما يفعلُه بعضُ الناس من أنه كل ليلة يُصلِّي على جميعِ من مات من المسلمين، فلا ريبَ أيضًا أنه بدعة لم يفعلها أحدٌ من السلف، والله أعلم.

(4/182)


مسألة
في روح ابن آدم إذا خرجتْ منه وإذا نزل في قبره، هل تَعُود إليه كما كانتْ في دار الدنيا أم لا؟ وقوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (1) هل هي روحُ ابن آدم أو روحُ الله؟ وهل يموت المهدي إذَا أمَّ بعيسى بن مريم قبل إتمامِ الصلاة؟ وقد رُوِي أن جنازة مرَّتْ برسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقالت عائشة: يا رسول الله! ما أحسنَ هذه! عصفورٌ من عصافير الجنة، فقال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “وما يُدْريْكِ أن الله خلقَ خَلْقًا، فقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي”.
أجاب
نعم، إذا وُضِع الميتُ في قبره فإن الروحَ تَعادُ إليه، ويُسأل عن ربه ودينه ونبيه، ويَسمَعُ الميتُ خَفْقَ نعالِ المشيِّعين إذا وَلَّوا عنه مُدبِرين، وما من رجل يَمُرُّ بقبر الرجل كان يَعرِفُه في الدنيا فيسلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلام. ومع هذا فمُستَقَرُّ أرواحِ المؤمنين الجنةُ، لكن للروح شان آخر بعدَ الموت
__________
(1) سورة الإسراء: 85.

(4/183)


ليس لها نظيرٌ في هذا العالم.
وأما المسيح فإنه يَنزِل على المنارةِ البيضاءِ شرقِيَّ دمشقَ، ويُدرِكُ الدجَّالَ فيقتلُه بباب لُدٍّ الشرقي، ويأمر الله تعالى بعدَ قتلِ الدجال أن يُحصن الناسَ إلى الطُّور، ويقال له: يا روحَ الله! تقدَّمْ، فصل بنا، فيقول: لا إن بعضَكم على بعضٍ أميرٌ، فيُصلِّي بالمسلمين بعضُهم، ويتمُّ الصلاةَ ولا يموت فيها.
وأما الروح المسئول عنها فأكثرُ الناس على أنها روحُ ابن آدم، وهي وإن كانت من أمر اللهِ فهي موجودة مخلوقة باتفاق العلماء المعتبرين، والآدمي كلُّه عبدُ الله، جسمُه وروحه.
وأما حديث عائشة فصحيح (1)، فإنا لا نشهد لأحد بعينه أنه [من أهل الجنة] إلا ما شَهِدَ له النصُّ، أو شَهِدَ له الناسُ شهادةً عامةً على أحد القولين، فإن الله خلقَ للجنةِ أهلاً، خلقَها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلقَ للنار أهلاً، خلقَها لهم وهم في أصلاب آبائهم، فنقولُ بطريق العموم: المؤمنون في الجنة والكافرون في النار، ولا نُعيِّن أحدًا أنه في جنة أو في نار إلا أنْ نَعلَم عاقبته.
والمهدي الذي أخبر به النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اسمُه محمد بن عبد الله من ولد الحسن بن علي رضي الله عنه، يقوم إذا شاء الله، وهو خليفة صالح يملأ الأرضَ قسطًا وعدلاً، كما مُلِئَتْ ظلمًا وجورًا، ويَحثُو المالَ حَثْوًا. وقد جاءتْ أخبارُه في الترمذي وسنن أبي داود ومسند
__________
(1) أخرجه مسلم (2662).

(4/184)


الإمام أحمد، ووقع التنبيهُ عليه في الصحيحين (1).
وأما ما يدَّعيه الضالُّون أن الحسن بن علي العسكري المتوفى في سامرَّاء، كان له ابنٌ اسمه محمدٌ دخلَ سرداب سامرَّاء بعد موت أبيه وهو صغير، وأنه المهدي، فهذا كذبٌ باطل باتفاق علماء بني آدم وعقلائهم، وليس هو المخبر به في الأحاديث، فإن هذا حسيني وذاك حسني، وأيضًا فإن الحسن بن علي العسكري عند العارفين بالأنساب محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما لم ينسلْ ولم يُعقبْ، والذين أثبتوه زعموا أنه خليفة معصوم حجة الله على أهل الأرض، وأنه باقٍ إلى الآن، وهذا مخالفٌ للعقل والكتاب والسنة، فإن هذا لو كان حقا لكان يتيمًا يَجبُ الحَجْرُ عليه في نفسِه ومالِه، ولا يجوز أن يُوَلَى مثلُ هذا ولَايةً أصلا، ولا معصومَ بعد رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا أحدَ يَجبُ أبدًا طاعته في كل شيء إلاّ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يجوز أن يُكلِّفَ الله العبادَ طاعةَ من لا سبيلَ إلى العلمِ بأمرِه، ولا وجهَ لهذه الاحتجاجاتِ. والله أعلم.
__________
(1) سبق تخريج هذه الأحاديث في المجموعة الثالثة.

(4/185)


مسألة
في رجل ماتَ، وأوصى أن يُعمل له ختمة في أسبوعِه وتمام شهره، جائز أم لا؟
الجواب

الحمد لله، الصدقةُ عن الميتِ أفضلُ من عمل ختمةٍ من هذه الختمِ له، فإنّ الصدقة تَصِلُ إلى الميت باتفاق الأئمة، وقد ثبت في الصحيح (1) أن سعدًا قال: يا رسول الله! إن أمي افْتُلِتَتْ نفسُها، وأراها لو تكلمتْ لتصدقتْ، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال: “نعم”.
وأما قراءة القرآن ففي وصوله إلى الميت نزاعٌ إذا قُرِئ لله، فأما استئجارُ من يقرأ ويُهدِي للميّتِ فهذا لم يستحبَّه أحدٌ من العلماء المشهورين، فإن المُعطِيَ لم يتصدقْ لله، لكن عاوضوا على القراءة، والقارئ قرأ للعوض، والاستئجارُ على نفس التلاوة غيرُ جائز،
__________
(1) البخاري (1388،2760) ومسلم (1004، وبعد رقم 1630) عن عائشة بهذا اللفظ دون ذكر اسم السائل. وهو سعد كما في حديث ابن عباس عنده البخاري (2756، 2762).

(4/186)


وإنما النزاع في الاستئجار على التعليم ونحوه مما فيه منفعةٌ تصل إلى الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلاّ إذا كان العمل للهِ، وما وقعَ بالأجر فلا ثوابَ فيه وإن قيل: يصحُّ الاستئجار عليه، ولأن ذلك يتضمن أن يأكل الطعامَ من ليس يحتاج إليه، وأن يُقرأ القرآنُ والناسُ يتحدثون لا يسمعون، وأن القراءَ ينتهبون الطعامَ، وهذا كلُّه أمورٌ مكروهة. وإذا تصدَّق على من يَقرأ القرآن ويُعلِّمه ويَتعلَّمه كان له مثلُ أجرِ من أعانَه على القراءة، من غير أن يَنقُصَ من أجورِهم شيئًا، وينتفع الميت بذلك.
وإذا وصَّى الميتُ بأن يُصرَف مالٌ في هذه الختمة، وقَصْدُه التقربُ إلى الله، فصُرِفَتْ إلى مَحاوِيجَ يقرؤون القرآنَ ختمةً وأكثرَ، كان ذلك أفضل وأحسن من جَمْع الناس على مثل هذه الختم، والله أعلم.

(4/187)


مسألة
في رجل جامعَ زوجتَه ولم تغتسِلْ، ثم ماتتْ، فهل يُجزِئُها غسلُ الموت؟
الجواب

الحمد لله، يُجزِئُها غسلُ الميت عن الأمرين.

(4/188)


مسألة

في رجل غسلَ صبيًا، وأبو الصبيّ يَسكُب عليه الماءَ، والغاسلُ لا يحفظ القرآنَ، فهل يجوزُ تغسيلُه أم لا؟ وهل يجوز للذي لا يَحفظ القرآنَ أن يصلِّي عليه؟
الجواب
الحمد لله، نعم يجوزُ تغسيلُه، والفرضُ في ذلك أن يعمَّ جميعَ بَدنه بالماء كلّه، وهو أخفُّ من اغتسالِ الحي، فإن الحيّ يتمضمضُ ويَستنشِقُ، والميتُ لا يُفعَلُ به ذلك، لكن يُستَحبَّ أن يَمْسَح مَنخَريْه وفمَه بالماء.
والسنة أن يُنَجَّى ثم يُوَضَّأ، ثم يُفاضُ عليه الماء كالحيّ، لكن ينبغي أن يُغسل الميتُ ثلاثًا.

ويجوز أن يُصلِّي على الميت إذا كان يَحفظُ الفاتحة والصلاةَ على النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – والدعاء للميت.

(4/189)


مسألة
في سماع يسمع رجل الحادي بذكر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصاحَ وخرَّ ميتًا، وكان ثَمَّ فقير، فقال: هذا لا يُصلَّى عليه، ودُفِنَ ولم يُصلَّ عليه، فماذا يجب على من أفتَى بذلك؟ وهل يُصلَّى على مثل هذا؟
الجواب

أما الميت فتجوز الصلاة عليه، ويُصلَّى على قبرِه إلى شهر، بل تجبُ الصلاةُ عليه. وأما سماعُ المُكاء والتصدية فبدعة مكروهة، كان المشركون إذا اجتمعوا عند الميت يصفقُون ويصوتون، والتصفيق هو التصدية، والتصويت هو المُكَاء، فأنزل الله تعالى بذمّهم: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) (1).
وأما حبّ الله ورسوله فهو أصلُ الإيمان، لكن من تمام ذلك أن يعبدَ الله بما شَرَعَ، لا يعبد بالبدع، ولكن من اجتهد في عمل يُقَرِّبُه إلى الله متحريًا لاتباع الكتاب والسنة، وأصاب، فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطأه مغفورٌ له. والله تعالى قد غَفَر للمؤمنين خَطأَهم، فالذي عَمِلَ السماعَ مجتهدًا، والذي أنكره وتركَ الصلاةَ عليه مجتهدًا، حكمُهم ذلك إلى اللهِ. والله أعلم.
__________
(1) سورة الأنفال: 35.

(4/190)


مسألة
هل صحَّ أن الأنبياءَ أحياء في قبورِهم يُصلُّون؟ وكيف كيفيةُ عرضِ أعمالِ الأمةِ على النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في قبره؟ على روحه الكريمة؟ أم تعادُ روحُه إلى جسدِه؟ وإذا صلَّى عليه أو سلَّم عليه العبدُ هل يَرُدُّ عليه السلام؟
الجواب

الحمد لله، الأنبياءُ أحياء في قبورهم، وقد يُصلُّون كما ثبتَ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “مررتُ بموسى ليلةَ أُسرِيَ بي يُصلِّي في قبره” (1). وثبتَ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “ما من مسلم يُسلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي، حتى أردَّ عليه السلام” (2). وقال: “صلُّوا عليَّ حيثُ ما كنتم، فإنَّ صلاتكم تَبلُغُني” (3). وقال: “أكثِرُوا من الصلاة عليّ يومَ الجمعة، فإن صلاتكم معروضةٌ عليّ”، قالوا: كيفَ تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ فقال: “إنَّ الله حَرَّم على الأرضِ
__________
(1) أخرجه مسلم (2375) عن أنس.
(2) أخرجه أحمد (2/ 527) وأبو داود (2041) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود (2042) عن أبي هريرة.

(4/191)


أن تأكلَ لُحومَ الأنبياء” (1).
وأما عرضُ الأعمالِ عليه فإنها تُعْرَضُ عليه، وهو حق، وأمَّا مَحَلُّ ذلك فمما لا يتعلقُ به غَرَضٌ، والله أعلم.
__________
(1)
أخرجه أحمد (4/ 8) وأبو داود (1047،1531) والنسائي (3/ 91) وابن ماجه (1085،1636) عن أوس بن أوس.

(4/192)


مسألة
في حديث قيس يقول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “واعلم يا قيسُ أنه لابدَّ لك من قرين يُدفَن معك وهو حي، وتُدفَن معه وأنت ميت، فإن كان كريمًا أكرمَك، وإن كان لئيمًا أسلمَكَ، ثم لا يُحشَر إلاّ معك، ولا تُسأَل عنه، ألا وهو فعلُك أو عملُك”. فهل ذلك كذلك من كون عمل الإنسان يبرز له في قبره في صورة، فإن كان صالحًا كان شابًّا حسن الوجه طيبَ الريح فيأنَسُ به، وإن كان طالحًا فبعكسِه فيستوحش منه إلى يوم القيامة أم لا؟
الجواب
الحمد لله، أما هذا المعنى فقد رُوِي في أحاديثَ حسانٍ بأن العمل الصالحٍ يُصوَّر لصاحبه صورةً حسنة، والعمل السيء يُصوَّر لصاحبه صورة قبيحة، فالأولى تُنعِم صالحًا والثانية تُعذبه.
وجاء أيضًا مخصوصةً بأعمال مثل قراءة القرآن وغيرها من الأعمال (1)، وذلك في البرزخ في القبر وفي عَرَصاتِ القيامة، فأما جَرْيُ الأعمال بالعُمَّال فإن كان معناه أن عبورَهم على الصراط
__________
(1) كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أخرجه أحمد (2/ 174) مرفوعًا: “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة … ” وصححه الألباني في “صحيح الترغيب” (1429).

(4/193)


يكون بحسب أعمالهم الصالحة، فمنهم من يَجرِي كالبرق، ومنهم من يَجرِي كالريح، ومنهم من يسعى كأجَاوِيد الخيل، ومنهم من يَسعى كركاب الإبل، ومنهم من يَعدُو عَدْوًا، ومنهم من يَمشي مشيًا، ومنهم من يَزْحَف زَحْفًا، وذلك على قدر أعمالهم الصالحة، فهذا حق (1).
وأما تصويرُ العمل لصاحبه على الصراط فهذا لم يَبلُغْني فيه شيءٌ، والله أعلم.
__________
(1) وردت فيه عدة أحاديث، منها حديث عائشة الذي أخرجه أحمد (6/ 110)، وحديث ابن مسعود الذي أخرجه الحاكم في “المستدرك” (4/ 590 – 592) مرفوعًا و (2/ 376) موقوفًا. وصححه الألباني في تعليقه على “شرح الطحاوية” (ص 415).

(4/194)


مسألة
فيما هو شائع بين الناس أن لله ملائكةً نقَّالةً يَنقُلون من قبورِ المسلمين إلى قبورِ اليهود والنصارى، وكذلك من قبورِهم إلى قبورِ المسلمين، هل وردَ في ذلك خبرٌ أم لا؟
الجواب
الحمد لله، أما الأجساد فإنها لا تُنقَل من القبور، ولكن يُعلَم أن في بعض من يكون ظاهرُه الإسلام ممن يكون منافقًا إما يهوديًّا أو نصرانيا أو زنديقا معطِّلاً فقد يكون في الآخرة مع نُظَرائِه، كما قال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) (1) أي أشباهَهم ونُظراءَهم، وقد يكون في بعض من مات وظاهرُه كافرٌ أن يكون آمنَ بالله ورسوله قبل الغَرْغَرة، ولم يكن عنده مؤمن، وكتمَ أهلَه حالَه إما لأجل ميراثٍ أو لغيرِ ذلك، فيكون مع المؤمنين وإن كان مقبورًا بين الكفار.
وأما أثر في نقلِ الملائكة فما سمعتُ في ذلك بأثرٍ، والله أعلم.
__________
(1) سورة الصافات: 22.

(4/195)


مسألة
فيمن يقرأ القرآن العظيم أو شيئًا منه هل الأفضلُ أن يُهدِيَ ثوابَه لوالديه ولموتى المسلمين؟ وكذلك إذا دعَا عَقِيبَ القراءةِ يقولُ: اللهم أوصِلْ ثوابَه لوالديه ولموتى المسلمين أو يجعلُ ثوابَه لنفسِه خاصةً؟
الجواب
أفضلُ العبادات ما وافقَ هَدْيَ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وهَدْيَ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما صح عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه كان يقول في خطبته (1): “إن خيرَ الكلامُ كلام الله، وخيرَ الهَدْيَ هَدْيُ محمد، وشرّ الأمور محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالة”، وقد قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (2)، فرَضِيَ عن السابقين مطلقًا، ورَضِيَ عمن اتبعَهم بإحسان.
وقد ثبت عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الصحيح (3) من غير وجه أنه قال: “خيرُ
__________
(1) أخرجه مسلم (867) عن جابر بن عبد الله.
(2) سورة التوبة: 100.
(3) أخرجه البخاري (2652،3651،6429) ومسلم (2533) عن ابن مسعود، وأخرجه البخاري (2651،4628،6695) ومسلم (2534) عن عمران بن حصين.

(4/196)


القرونِ القرنُ الذي بُعِثْتُ فيهم، ثمَّ الذين يَلُونَهم، ثمَّ الذين يَلُونَهم”، وقال عبد الله بن مسعود (1): من كان منكم مُستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإن الحيَّ لا يُؤمَنُ عليه الفتنة. أولئك أصحابُ محمدٍ أبرًُ هذه الأمةِ قلوبًا، وأعمقُها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامِة ديِنه، فاعرِفُوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم.
وقال حُذيفةُ بن اليمان (2): يا معشرَ القُرَّاءِ! استقيموا وخُذُوا طريقَ مَن قبلَكم، فواللهِ لقد سَبَقْتُم سَبْقًا بعيدَا، ولئِنْ أَخذتُم يمينًا وشَمالاً لقد ضَلَلتم ضلالاً بعيدًا.
وهذا باب واسع، والدلائل عليه كثيرة، وقد قال تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (3)، قال الفُضيل بن عِياض: أخلصُه وأصوبُه. قالوا: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابا لم يُقْبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقْبَل، حتى يكون صوابا خالصًا، والخالص أن يكون لله، والصوابُ أن يكون على السنة. وهذا الذي قاله الفُضَيل من الأصولِ المتفق عليها، فإنه قد صحَّ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “مَن أحدثَ في ديننا ما
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم وفضله” (2/ 97) من طريق قتادة عنه، فهو منقطع. ورُوي نحوه عن ابن عمر، أخرجه أبو نعيم في “الحلية” (1/ 305 – 306).
(2) أخرجه البخاري (7282).
(3) سورة هود: 7، سورة الملك: 2.

(4/197)


ليسَ منه فهو ردٌّ” (1)، وصحَّ عنه أنه قال: “الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نَوى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه إلى دنيا يُصِيبُها أو امرأةٍ يتزوجُها فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليه” (2).
وهذان الأصلان اللذان ذكرهما الفضيل، وقد أوجب الله الإخلاص له في غير موضع من كتابه، كقوله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (3)، وقوله (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)) (4)، وقوله: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ) (5) وغير ذلك، وقد ذَمَّ من دانَ بغير شرعِهِ في غير موضع، كقوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (6)، وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)) (7).
فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ فالأمر الذي كان معروفا بين المسلمين في القرون الفاضلة أنهم كانوا يعبدون الله تعالى بأنواع العبادات المشروعةِ فرضِها ونَفْلِها، من الصلاة والصيام والقراءة والذكر وغير
__________
(1) أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) عن عائشة.
(2) أخرجه البخاري (1، ومواضع أخرى) ومسلم (1907) عن عمر بن الخطاب.
(3) سورة البينة: 5.
(4) سورة الزمر: 2.
(5) سورة غافر: 14.
(6) سورة الشورى: 21.
(7) سورة يونس: 59.

(4/198)


ذلك، وكانوا يَدْعُون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك، يَدْعُون لأحيائِهم وأمواتِهم في صلاتِهم على الجنائز وعند زيارةِ قبورِهم وغيرِ ذلك. ورُوِيَ عن طائفةٍ من السلف أن عند كل خَتْمَةٍ دعوة مجابة، فإذا دعا الرجلُ عقيبَ الختمةِ لنفسه ولوالديه ومشايخِه وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات كان هذا من الجنس المشروع، وكذلك دعاؤُه لهم في قيام الليل وغير ذلك من مواطن الإجابة، وقد صحَّ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه أمرَ بالصدقة عن الميت، وأنه أمر بأن يُصامَ عنه الصوم الذي نذره (1)، فالصدقة عن الموتى من الأعمال الصالحة، وكذلك ما جاءت به السنةُ في الصوم عنهم ونحو ذلك.
وبهذا وغيرِه احتجَّ من قال من العلماء: إنه يجوزُ إهداءُ ثوابِ العباداتِ البدنية إلى موتى المسلمين، كما هو مذهبُ أحمد وأبي حنيفة وطائفةٍ من أصحاب مالك والشافعي، فإذا أُهدِيَ لميّتٍ ثوابُ صيام أو صلاةٍ أو قراءة جازَ ذلك، و [قال] أكثر أصحاب مالك والشافعي: إنما يُشْرَع ذلك في العبادات المالية كالصدقة والعتق ونحوِ ذلك دون العبادات البدنية، بناء على أن هذه تَقْبَل النيابةَ ويجوز التوكيلُ فيها بخلاف تلك، والأولون يقولون: هذا ثوابٌ ليس من باب النيابة، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يَستنيبَ عنه، وله أن يُعطِيَ أجرتَه لمن شاء. وأصحابُ أبي حنيفة من أبعدِ الناسِ عن الاستنابةِ في الصيام ونحوه، وجوَّزوا مع هذا إهداءَ الثواب، والنيابةُ إنما تجوز في مواضعَ مخصوصةٍ بخلاف الإهداء.
__________
(1) سبق ذكر الأحاديث الواردة في الباب فيما مضى.

(4/199)


ومن احتجَّ على منع الإهداءِ بقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) (1) فهو مُبْطِلٌ لتواترِ النصوصِ واتفاقِ الأئمةِ على أن الإنسانَ قد ينتفع بعملِ غيرِه، والآيةُ إنما نَفَتِ الاستحقاقَ لسعي الغيرِ لم تنفِ الانتفاعَ بسعي الغير، والفرق بينهما بَيِّنٌ، ومع هذا فلم يكن من عادات السلفَ إذا صَلَّوا تطوعًا أو صاموا تطوعًا أو حجوا تطوعًا أو قرأوا القرآنَ أن يُهْدُوا ثوابَ ذلك إلى موتى المسلمين بل ولا بخصوصهم، بل كان من عاداتِهم كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يَعدِلُوا عن طريق السلف فإنه أفضلُ وأكملُ. وقد بَسطنا الجوابَ في الإهداءِ للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في جواب كبير (2)، وبيَّنا أنه ليس بمشروع، وذكرنا ما يتعلق بذلك من الحِكًمِ والمعاني، والله أعلم.
__________
(1) سورة النجم: 39.
(2) سيأتي فيما بعد.

(4/200)


مسألة
في رجل في مسجدٍ وللمسجد مَصِيْفٌ، وإن الفقير قد حَفَر فيه قبرًا وبنى فَسْقِيَّةً (1) بقصد أن يدفن فيه، وقد حصلَ من يُنازِعُه في ذلك، وهل يجوز له أن يُدْفَن فيه؟ وهل يجوزُ أن يُقَر هذا البناءُ في المكانِ أم لا؟
الجواب

الحمد لله، لا يجوز أن يُدفَن أحدٌ في المسجد، فكيف في مسجد بنيَ قبلَ موته؟ فإن دَفْنَ الميتِ في مثل هذا المسجد حرامٌ بإجماع المسلمين. ولا يجوزُ لأحدٍ أن يَبنيَ قبرًا بفَسْقِيَّةٍ ولا غيرِ فسقية في مسجد، ولا فرقَ بين سَقْفِ المسجد ومَصِيْفِه، والمساعِدُ على ذلك عاصٍ لله ورسوله آثمٌ مخطيءٌ باتفاق المسلمين، والمُنكِر لذلك الناهِيْ عنه مطيعٌ لله ورسوله، ويَجبُ على كل مسلم قادرٍ إعانتُه، ويجبُ أن يُهدَمَ ما بُنيَ في المسجَدِ من المَصِيفِ وغيرِه من فسقيةِ المقبرة باتفاق المسلمين.
والسنةُ التي كان عليها رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأصحابُه والتابعون وسائر الأئمة والمشايخ أن يُدفَنوا في مقابر المسلمين، لم يأمر منهم أحدٌ
__________
(1) الفسقية: حوض من الرخام ونحوه مستديرٌ غالبًا، تَمجُّ الماءَ فيه نافورة.

(4/201)


أن يُدفَن في مسجدٍ، ولا دُفِنَ أحدٌ منهم في مسجدٍ، بل لعنَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من يفعل ذلك، كما ثبتَ عنه في الصحيح (1) أنه قال قبلَ أن يموت بخمس: “إن من كان قبلَكم كانوا يتخذون القبورَ مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك”.
وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه قال: “لعنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ” يُحذِّرُ ما فعلوا، قالت عائشة (3): ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كَرِهَ أن يتخذَ مسجدًا، وقال (4): “إنّ من شِرارِ الناس من تُدرِكُهم الساعةُ وهم أحياءٌ، والذين يتخذون القبورَ مساجد”.
فهذا سيد ولد آدم يَكرهُ أن يتَّخَذَ قبرُه مسجدًا، ودَفَنوه في حُجرتِه لأن لا [يُجْعَل] قبرُه مسجدًا، وكان المسلمون يُدفَنون في مقابرهم، فالذي يَقصد أن يُدفَن في دارٍ لِيُصَلَّى عنده مقصودُه خلافُ مقصودِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأصحابه، ومن قصدَ ذلك فقد ضادَّ أمرَ الله ورسوله.
وفي السنن (5) عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لعنَ الله زَوَّاراتِ القبور
__________
(1) مسلم (532) عن جندب بن عبد الله.
(2) البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة.
(3) أخرجه البخاري (1330،1390،4441) ومسلم (529) عنها.
(4) أخرجه أحمد (1/ 405،435) وابن خزيمة في صحيحه (789) عن ابن مسعود.
(5) أخرجه الترمذي (320) وغيره عن ابن عباس. وقد سبق تخريجه.

(4/202)


والمتخذينَ عليها المساجدَ والسُّرُجَ”. فمن قَصدَ أن يُدفَن بعضُ الشيوخِ في موضع ليُنْذَرَ له ويُسْرَجَ عليه فقد لعنه الله ورسولُه، وليس لهم أن يُغيّروا المسجد بفتح شبّاكٍ لأجلِ ذلك، والله سبحانه أعلم.

(4/203)


مسألة
في عملِ طعام في الخَتْمِ هل هو جائز؟ ومن يتحدثُ بين الناس بكلامٍ أو حكاياتٍ مفتعلةٍ كلها كَذِبٌ هل يجوز ذلك؟
الجواب
الحمد لله، أما المتحدث بأحاديثَ مُفتعلةٍ ليُضْحِكَ الناسَ أو لغرضٍ آخرَ فإنه عاصٍ لله ورسوله، وقد رَوى بَهْزُ بن حَكيم عن أبيه عن جده أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال (1): “إن الذي يُحدِّثُ فيَكذِبُ لِيُضْحِكَ القومَ منهم ويلٌ له ثم ويلٌ له ثم ويل له”، وقال ابن مسعود: إنّ الكذبَ لا يَصلح في جدٍّ ولا هَزْلٍ، ولا أن يَعِدَ أحدُكم صَبيَّه شيئًا ثم لا يُنْجِزَه. وأما إن كان في ذلك ما فيه عدوان على مسلمٍ وضررٌ في الدين فهذا أشدُّ تحريمًا من ذلك، وبكل حالٍ ففاعلُ ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تَرْدَعُه عن ذلك.
__________
(1) أخرجه أحمد (5/ 2،5،7) وأبو داود (4990) والترمذي (2315) والدارمي (2705).

(4/204)


وأما ما يُصْنَع للميّت فالذي يَنفع الميتَ ويَصِلُ إليه باتفاق العلماء هو الصدقةُ ونحوُها، فإذا تَصدَّق عن الميت بذلك المال لقومٍ مستحقينَ لوجهِ الله تعالى ولم يَطُلْب منهم عملا أصلاً كان ذلك نافعًا للميتِ وللحيِّ الذي يَتصدقُ عنه باتفاق العلماء، كما في الصحيحين (1) أن سعدًا قال: يا رسولَ الله! إن أمي افْتُلِتَتْ نفسها، وأراها لو تكلمتْ تصدَّقتْ، فهل يَنفعها إن أَتصدَّقْ عنها؟
قال: نعم.

وأما اكتراءُ قوم يقرأون القرآنَ ويُهْدُون ذلكَ للميتِ فهذه بدعةٌ، لم يفعلها السلفُ ولا استحبَّها الأئمة، لكن لو قرأ الإنسانُ القرآنَ لله وأهداه للميتِ وصلَ إليه الثوابُ عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما كما تَصِلُ إليه الصدقةُ، فإن هذا تصدقَ لله وهذا قرأَ لله، وذلك عمكٌ صالح ينفعُ الله به الحيَّ والميتَ، بخلاف الذي يَكْتَرِي من يقرأ، فإن القارئَ إنما قرأ لأجلِ العوضِ، والمُعطِي إنما أَعطَى عِوضًا عما استعملَه فيه.
والفقهاء تَنازعوا في الاستئجار على تعليم القرآن، فأما استئجارُ من يقرأ ويُهدِيْ فما علمتُ أحدًا من العلماء ذَكَرَ ذلك، ولكن إذا قُرِئَ القرآنُ فاستماعُه حسن.
__________
(1) سبق تخريجه.

(4/205)


وأما الأكل من الطعام فإن كان قد صَنَعَه الوارثُ من مالِه لم يَحْرُم الأكلُ منه، وإن كان قد صُنِعَ من تَرِكةِ الميتِ – وعليه ديون لم تُوْفَ، وله ورثة صغار، وفي ذلك من حقوقِهم – لم يُؤكَل منه.

(4/206)


مسألة
في رجل ماتَ وتزوج أخوه امرأتَه ثم إنها ماتتْ، فهل يَحِلُّ أن تُدفَن مع زوجها الأولِ في قبرٍ واحد؟
الجواب

الحمد لله، يُكرَه دفُن اثنين في قبرٍ واحدٍ إلاّ لحاجةٍ، سواء كان أجنبيًا أو لم يكنْ، وإذا احْتِيْجَ إلى ذلك جُعِل بينهما حاجزٌ.
مسألة
في الصلاةِ على الجنازةِ قُدَّامَ الإمامِ.
الجواب
تنازع العلماء في الصلاة قُدَّامَ الإمام في الجنازة والجمعة وغير ذلك، فقيل: يصحُّ مطلقًا كقول مالك، وقيل: لا يصحُّ مطلقًا كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه في مذهبه، وقيل: يَصحُّ عند العذر، فإذا كان زَحْمة وتَعذَّر معها الصلاةُ خلفَه صلَّى أمامَه، وذلك خير من أن يَدَعَ الصلاةَ، وإن أمكنَه الصلاةُ لم يُصَلِّ أمامَه، وهذا أعدلُ الأقوال.

(4/207)


مسألة
فيمن يُصلِّي على جنازةٍ قُدَّامَ الإمام وقُدَّامَ الجنازةِ، فهل تَصِحُّ أم لا؟ وهل تَصِحُّ صلاتُه لمن هو لابِسٌ مَدَاسَه؟
الجواب
أما صلاته قُدَّامَ الإمام في الجمعة والجنازة والصلوات الخمس وغيرِ ذلك فللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
قيل: لا يجوز، وهو مذهبُ أبي حنيفة وهو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد.
وقيل: يجوز، وهو قول مالك والشافعي في القديم.
وقيل: إن كان للحاجة جاز، وإلاَّ فلا، مثل أن يكون قُبَالَ وجهِه ولا يُمكِنُه الصلاةُ إلا قُدَّامَ الإمام، فالصلاةُ أمامَه خيرٌ من ترك الصلاة، وأما إذا أمكنَه الصلاةُ خلفَه فلا يُصلِّي إلاّ خلفَه. وهو أعدل الأقوال وأقواها، وهذا قولٌ في مذهب أحمد وغيرِه، والأحاديث هكذا وردت بسنة رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(4/208)


مسألة
في رجل كلَّما ختمَ القرآنَ أو قرأ شيئًا منه يقول: اللهمَّ اجعلْ ثوابَ ما قرأتُه هديةً مني وَاصِلةً إلى رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أو إلى جميعِ أهلِ الأرضِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها.
فهل يجوز ذلك أو يُستحبُّ؟ وهل يَجبُ إنكارُ ذلك على فاعلِه؟ وهل فَعَلَه أحدٌ من علماء المسلمين؟
الجواب
الحمد لله، هذه المسألة مبنية على أصلِ، وهو أن إهداءَ ثواب العبادات إلى الموتى هل يَصِلُ إليهم أم لا؟
فأما العباداتُ المالية كالصدقة فلا نزاع بين المسلمين أنها تَصِلُ إلى الميت، إذ قد ثبتَ في الصحيح (1) أن سعدًا قال: يا رسول الله!
إني أمي افْتُلِتَتْ نفسَها، وأراها لو تكلَّمتْ لتصدقتْ، فهل يَنفعُها إن أتصدَّقْ عنها؟ قال: نعم.
وأما العباداتُ البدنية كالصوم والصلاة والقراءة ففيها قولان: أحدهما: يجوز إهداءُ ثوابها إلى الميت، وهو مذهب أبي
__________
(1) سبق تخريجه.

(4/209)


حنيفة وأحمد وطائفة من أصحاب مالك والشافعي.
والثاني: لا تَصِلُ، وهو المشهور عند أصحاب مالك والشافعي، وقد ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي نَذرتْ صيامَ شهرٍ، فقال: “صُومِي عن أمك”.
فهذه الأحاديث الصحيحة تدلُّ على أن العبادات البدنية تُفعَلُ عن الميت كالعبادات المالية، وفي الترمذي (2) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يُضَحِّيْ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بعدَ موته، ويَذكُر أنه أَمَرَه بذلك.
إذا عُرِفَ هذا فإهداءُ ثواب القرآنِ إليه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أو إلى جميع أهل الأرض هو مثلُ إهداءِ ثوابَ الصيام التطوع والصلاة التطوع ونحوهما، ومثلُ إهداء ثواب الصدقة والعتق والحج على أحد القولين إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وسائر المسلمين، ولم يَبلُغْنا أن أحدًا من السلف والصحابة والتابعين وتابعيهم كان يَفعلُ ذلك، وأقدمُ مَن بَلَغَنا أنه فعلَ شيئًا من ذلك عليُّ بن الموفَّق أحدُ الشيوخ من طبقةِ أحمد الكبار وشيوخِ الجنيد.
وبعضُ الناس يُنكِر هذا لأجل كون النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أعلَى من أن أحدًا يُهدِي إليه شيئًا، وهذا الإنكارُ ليس بجيدٍ، فإنّا مأمورون أن نُصلِّيَ
__________
(1) البخاري (1953) ومسلم (1148) عن ابن عباس.
(2) برقم (1495). قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلاّ من حديث شريك.

(4/210)


على النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأن نُسلِّم عليه وأن نسألَ له الوسيلةَ، وقد ثبتَ عنه أنه قال (1): “إذا سمعتم المؤذِّنَ فقولوا مثلَ ما يقول، ثم سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكونَ ذلك العبدَ، فمن سألَ اللهَ لي الوسيلةَ حَلَّتْ عليه شفاعتي يومَ القيامة”.
والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لعمر: “لا تنسَنا مِن دعائِك” (2)، ولما أخبره بأُوَيس القَرَنِيّ قال: “إن استطعتَ أن يَستغفِرَ لك فليستغفرْ لك” (3).
وكذلك الصدقة عن الميت والصوم عنه يجوز، وإن كان الميتُ أفضلَ ممن يصوم عنه ويتصدقُ عنه، فكونُ الشخصِ الميتِ أفضلَ من الحيّ أو كونُه نبيًّا أو صِدِّيقًا لا يَمنَعُ أن يُشرَعَ للحيّ الدعاءُ له، كما أنه يُصلِّي على جنازته، ولا يُمنَع أيضًا أن يُهدِيَ إليه ما يُهدِيْ إلى الميت من ثواب الأعمال الصالحة، والله تعالى بفضلِه يرحم هذا وهذا، كما قال (4): “من صلَّى عليَّ واحدةً صلى الله عليه عشرًا”. و”من سألَ لي الوسيلةَ حلَّتْ عليه شفاعتي يوم القيامة” (5).
__________
(1) أخرجه مسلم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2) أخرجه أحمد (1/ 29) وأبو داود (1498) والترمذي (3562) وابن ماجه (2894) عن عمر بن الخطاب. وضعَّفه الألباني في تعليقه على “المشكاة” (2248).
(3) أخرجه مسلم (2542) عن عمر بن الخطاب.
(4) أخرجه مسلم (408) عن أبي هريرة.
(5) سبق تخريجه.

(4/211)


لكن إهداء ثواب الأعمال إلى جميع الناس ما سمعتُ أحدًا فَعَلَه، ولا سمعتُ أن أحدًا كان يُهدِيْ إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلاَّ ما بَلَغَني عن علي بن الموفَّق ونحوه. والاقتداءُ بالصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، فينبغي للإنسان أن يفعلَ المشروعَ من الصلاة عليه والتسليم، فهذا هو الذي أمر الله به ورسولُه. وفي السنن (1) عنه: “أَكثِرُوا على من الصلاة يومَ الجمعة وليلةَ الجمعة، فإن صلاتكُم معروضة عليَّ”، قالوا: وكيف تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ فقال: “إن الله حَرَّمَ على الأرضِ أن تأكلَ لحومَ الأنبياءِ”. وقال له رجل: أَجعلُ لك ثُلُثَ صلاتي، فقال: “إذًا يكفيك الله ثُلُثَ أمرِك”، قال: أجعلُ نصفَ صلاتي، فقال: “إذًا يكفيك الله نصفَ أمرك”، قال: أجعلُ ثُلُثَيْ صلاتي، قال: “إذًا يكفيك الله ثُلُثَيْ أمرِك”، فقال: أجعلُ صلاتي كلَّها عليك، قال: “إذا يكفيك الله ما أَهَمَّك من أمرِ دنياك وآخرتك” (2).
وفي فضل الصلاة عليه – بأبي هو وأمي – من الآثار ما يَضِيْقُ هذا الموضع عن ذكره، وكذلك الدعاءُ للمؤمنين والمؤمنات والاستغفار لهم هو الذي جاء به الكتاب والسنة، قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (3)، وفي السنن (4) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 8) وأبو داود (1047،1531) والنسائي (3/ 91) وابن ماجه (1085،1636) عن أوس بن أوس.
(2) أخرجه أحمد (5/ 136) والترمذي (2457) عن أبي بن كعب.
(3) سورة محمد: 19.
(4) لم أجده فيها.

(4/212)


مر بعلي وهو يدعو فقال: “يا عليُّ! عُمَّ فإن فضلَ العموم على الخصوصِ كفضلِ السماء على الأرض”، وفي السنن (1): “أسرعُ الدعاءِ إجابةً دعوةُ غائب لغائبٍ”. وفي الصحيح (2): “ما من رجلٍ يدعو لأخيه بظهرِ الغيب بدعوةٍ إلاّ وكَّلَ اللهُ به ملكًا، كلَّما قال الملك الموكَّلُ به آمينَ قال: ولكَ بمِثْل”. فالأفعال الشرعية هي التي ينبغي للمؤمن أن يتحرَّاها، والله أَعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (623) وأبو داود (1535) والترمذي (1980) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وضعَّفه الترمذي لأن في إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي.
(2) مسلم (2732) عن أبي الدرداء.

(4/213)


مسألة
في الميت هل غِسْلُه طاهر أم نجس؟ وهل تُلْحِدُ المرأةُ الرجل أو الرجلُ المرأةَ؟ وهل يجب أن يَحُجَّ عن المرأةِ الرجلُ وعن الرجلِ المرأةُ؟ وما يُعطِي الحاجُّ عن الميت؟
الجواب

الحمد لله رب العالمين، بل غِسْلُه طاهر عند جماهير العلماء، فإن ابن عباس وغير واحد من الصحابة قال: الميتُ لا ينجس حيًّا ولا ميتًا، وثبت في الصحيح (1) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لقيَ بعضَ أصحابه في طريقٍ فاختفى منه، فذهبَ فاغتسلَ ثم جاء، فقال: “أين كنت”؟، قال: إني كنتُ جُنُبًا، قال: “سبحان الله! إنّ المؤمنَ لا يَنْجسُ”.
ولهذا قال جمهور العلماء على أن الماء المستعمل من غُسْلِ الجنابةِ والحيضِ والوضوءِ طاهر. وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – توضّأَ وصبَّ وَضوءَه على جابر.
وأما دَفْنُ الرجلِ للمرأة فإذا كانت المرأة تُدفَن في المقابر
__________
(1) أخرجه البخاري (283، 285) ومسلم (371) عن أبي هريرة.
(2) البخاري (194 ومواضع أخرى) عن جابر.

(4/214)


فالسنةُ أن لا يَشهَدَ جنازتَها إلا الرجالُ لا يحضر النساء، فحينئذٍ فيَدفِنُها رجلٌ من أهل الخير، كما ثبتَ أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أمر أبا طلحة أن يَنزِلَ في قبر ابنته (1). وهذا وإن كان فيه مسُّ المرأة فوقَ الكفنِ فهو جائز لأجل الحاجة، لأن خروج النساء مع الجنائز منهيٌّ عنه.
وأما إن قُدِّرَ أن المرأةَ تُدفَن في موضع فيه النساءُ، فإلحادُ المرأةِ لها أولى من إلحادِ الرجل إذا لم يكن في ذلك مفسدة.
والرجلُ يُلْحِده الرجالُ إلاّ إذا احتِيْجَ إلى إلحادِ النساء له، فإن ذلك جائز، وإلحادُ النساءِ الرجالَ أخفُّ من تغسيلهن له، وفي جواز تغسيلِ ذواتِ محارمِه له وتغسيلِ الرجلِ لذواتِ محارمِه نزاعٌ مشهور بين العلماء، وفي إلحاد الرجلِ للمرأة أيضًا نزاعٌ، لكن الذي ذكرناه صحَّتْ به السنة.
ويجوز أن يَحُجَّ الرجلُ عن المرأة باتفاق العلماء، وكذلك يجوز للمرأة عن الرجل عند الأئمة الأربعة، وخالفهم بعضُ الفقهاء لأن حجَّها أنقصُ، وليس بشيء، فإنه قد ثبتَ أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أمرَ امرأةً أن تَحُجَّ عن أبيها (2)، وليس لأحدٍ مع رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قولٌ.
ويُحَجُّ عن المُعتَقةِ كما يُحجُّ عن الحرَّةِ الأصل، فإن كان الحج وجبَ عليهما في حياتهما وجبَ أن يُخرَج عنهما من رأسِ المال في
__________
(1) أخرجه البخاري (1285،1342) عن أنس.
(2) أخرجه البخاري (1513 ومواضع أخرى) ومسلم (1334) عن عبد الله بن عباس. وفي بعض الروايات عندهما عن عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس.

(4/215)


مذهب الشافعي وأحمد ومن وافقهما، وأما أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما فيستحبون الإخراج عنهما، ولا يوجبونه إلاّ إذا وَصَّتْ به، ويكون من الثلث، وينبغي أن يُخرَجَ عنها حجةٌ تامةٌ من حيث أمرتْ بالحاجّ، ويخرج عنها حجة مثلها، وإذا أُخرِجَ من القاهرةِ ما ينوي الخمسَ مئة إلى الألف كان مقاربًا. وإن لم يجب الحجُّ عليها في حياتها فيُستحَبُّ أن يُحَجَّ عنها بعد موتها، والحجة تامةً أفضلُ من حجةٍ مقامية، ويُعطَى الحاجُّ ما يكفيه بالمعروف. وأما إذا دَبَّرها – وهي التي يُعتِقها بعد موته – إذا ماتتْ في حياتِه فلا حَجَّ عليها بإجماع المسلمين، لكن إن أُخرِجَ عنها حجُّ التطوع كان ذلك حسنًا، والله أعلم.

(4/216)


مسألة
في حديث في مسلم (1) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ما تَعُدُّون الرَّقُوبَ فيكم؟ “، قال؟ قلنا يا رسول الله! الذي لا يُولَد له، قال: “ليس ذلك بالرقوب، ولكنه الرجلُ الذي لم يُقدِّمْ من ولدِه شيئًا”، الجواب عن الرقوب ما هو؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، الرَّقُوبُ في اللغة هو الذي لا وَلدَ له أو الذي لا يَعيش له ولد، وهو مشتق من الرُّقْبَى، والرقبى أن يَرقُبَ كل واحدٍ من الشخصين موتَ الآخر، كما أن المفلس في اللغة هو الذي لا وفاءَ لِدَينه، والمسكين في اللغة هو الطوَّاف، فقوله عن الرقوب مثل قوله (2): “ما تَعُدُّونَ المفلسَ فيكم؟ “، قالوا: من ليس له درهم ولا دينار، قال: “لا، ولكن المفلسَ من يجيء يومَ القيامة بحسناتٍ أمثالِ الجبال، قد ظَلَمَ هذا وشَتَم هذا وأخذَ مالَ هذا، فيأخذُ هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإذا لم يَبْقَ له حسنةٌ أُخِذَ من سيئاتِهم فألُقِيَتْ عليه، ثم يُلْقَى في النار”.
__________
(1) برقم (2608).
(2) أخرجه مسلم (2581) عن أبي هريرة.

(4/217)


فهو – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بيَّن لهم أن المفلسَ الحقيقي هو من أفلسَ في الآخرة، والرقوب الحقيقي الذي ليس له ولدٌ يُؤجَر عليه، ومن لم يُقدِّم من ولده شيئًا لم يُؤجَرْ على الولد، والإنسان إنما يطلب بولده وماله النفعَ، ويَعُدُّ عَدَمَ ذلك مصيبة، فبين لهم أن النفع الحقيقي والمصيبة الحقيقية التي ينبغي للعاقل أن يَعُدَّها منفعةً ومصيبةً هو حالُ من نَظَرَ في عواقب الأمور ونهاياتِها لا في أوائلِها وبداياتِها، والله أعلم.

(4/218)


مسألة
في رجل عَزَمَ على حَفْرِ قبرِه في حال حياته، فماذا يُستحبُّ أن يَفعلَ مع ذلك من الأجر الموجب لثواب الله سبحانه والأفضل فيه؟
عَرِّفُونا مبسوطًا.
الجواب
لا يُستحبُّ للرجل أن يَحفِرَ قبرَه قبل أن يموت، فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يفعلِ ذلك هو ولا أصحابُه، وأيضًا فإن الله تعالى يقول: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) (1)، والعبد لا يدري أين يموت، وكم مَن أعدَّ له قبرًا وبني عليه بناءً وقُتِلَ أو ماتَ في بلدٍ آخر، وإذا كان مقصودُ الرجل الاستعدادَ للموت فهذا يكون بالعمل الصالح، فإن العبد إنما يُؤنسُه في قبره عملُه الصالح، فكلَّما أكثر من الأعمال الصالحة – كالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – كان ذلك هو الذي ينفعه في قبره، لا ينفعه بناءُ القبر ولا توسيعُه ولا ترتيبُه، بل قد ثبتَ في الصحيح (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه نهى أن يُجصَّصَ القبرُ وأن
__________
(1) سورة لقمان: 34.
(2) مسلم (970) عن جابر.

(4/219)


يُبنَى عليه، فكيف بمن يَبني القبور كأنها قصور؟ فهذا من أعظم ما يُنكَر من الأمور، وهو باتفاق المسلمين لا يَنفع الميّتَ شيئًا، وإنما ينفعه العملُ الصالح، قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “الكيِّسُ من دَانَ نفسَه وعَمِلَ لما بعدَ الموتِ، والعاجزُ من أَتْبَعَ نفسَه هَواها وتَمنَّى على اللهِ الأماني” (1).

فمن ظنَّ أن إعداد القبر وبناءه وتعظيمَه وتحسينَه ينفعُه فقد تمنَّى على الله الأماني الكاذبةَ، وإنما يكون في قبره بحسب ما في قلبه، وكلَّما كان الإيمانُ في قلبه أعظم كان في قبره أسرَّ وأنعمَ، قال الله تعالى:) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)) (2)، فجمعَ سبحانَه بين ما في القبور وما في الصدور، وفي الصحيحين (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال للمشركين عامَ الخندق: “ملأَ الله قبورَهمِ وأجوافَهم نارًا كما شَغَلُونا عن الصلاةِ الوسطى صلاة العصر حتى غرَبتِ الشمسُ”. وهذا باب واسعٌ لا يتسعُ له هذا الموضع، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 124) والترمذي (2459) وابن ماجه (4260) عن شداد بن أوس.
(2) سورة العاديات: 9 – 11.
(3) البخاري (2931، 4111، 4533،6396) ومسلم (627) عن علي.

(4/220)


مسألة
في أطفال المؤمنين الذين يموتون دون الثلاث، هل لهم صحائفُ أعمال يُكتَب فيها ما يُهدَى لهم من قرآنٍ وصدقة أم لا؟ وهل يُسأَلون في قبورهم ويُحاسَبون أم لا؟ وهل يَدُومون على حالتهم التي ماتوا عليها في القيامة أم يَكبرون ويتزوجون إذا دخلوا الجنة؟ والبنات اللاتي يُدفَنَّ أبكارًا هل يُزَوَّجْنَ في الجنة؟ وهل في الجنة حَبل وولادة في الناسِ كلِّهم أم ناس دون ناس؟ وهل ذلك صحيح؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، أما ما يُهدَى إلى الأطفال من صدقة ونحوها من العبادات المالية فتَصلُ إليه بلا نزاع، وفي العبادات البدنية قولان مشهوران، لكن مذهب أحمد وأصحاب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي أنها تَصِلُ أيضًا كما تصل المالية وهو الصحيح، والمُهدَى إلى الصغارِ والكبارِ سواء في باب كتابتِه، فلا يقال إنَ ما يُهدَى إلى الكبارِ يُكتَب دون ما يُهدَى إلى الصغارِ، بل حكمُ النوعين واحد.
وأما سؤالهم في القبر ففيه قولان مشهوران لأصحاب أحمد وغيرهم من أهل السنة:

(4/221)


أحدهما: أنهم لا يُسأَلون، وهذا قول القاضي وابن عقيل وغيرهما، قالوا: لأن السؤال في القبر إنما يكون لمن كان مكلفًا في الدنيا، والصبي والمجنون ليس بمكلف فلا يُسأَل.
والقول الثاني: وهو قول أبي حكيم النهرواني، وهو الذي نقله أبو الحسن علي بن عبدوس عن أصحاب أحمد أنهم يُسأَلون، لما في “الموطأ” (1) أن أبا هريرة صلَّى على صغير لم يعمل خطيئة قط فقال: اللهمَّ قِهِ عذابَ القبرِ وضيقةَ القبر. وهذا قد ينبني على امتحانِهم في عرصاتِ القيامة، وقد جاءت بذلك أحاديث (2).
وأما حالهم في الآخرة فإنهم إذا دخلوا الجنةَ دخلوها كما يدخلها الكبارُ على صورةِ أبيهم آدمَ، طولُ أحدِهم ستونَ ذراعًا في عَرْضِ سبعةِ أَذرعُ، ويتزوجون كما يتزوج الكبار، ومن مات من النساء ولم تتزوجْ فإنها تتزوجُ في الآخرة، وكذلك من مات من الرجال فإنه يتزوج في الآخرة.
__________
(1) 1/ 228.
(2) سبق ذكرها في المجموعة الثالثة.

(4/222)


مسألة
في مقبرة للمسلمين، وأهلُ الذمة يُدفَنون فيها، هل يَجبُ على ولي الأمرِ منعُهم أم لا؟
الجواب

الحمد لله، ليس لأهل الذمة دَفْنُ موتاهم في شيء من مقابرٍ المسلمين لا الشهداءِ ولا غيرِهم، بل لابدَّ أن تكون مقابرُهم متميزة عن مقابرِ المسلمين تميزًا ظاهرًا، بحيث لا يختلطون بهم ولا يشتبه قبورُ المسلمين بقبور الكفار، وهذا أوكدُ من التمييز بينهم حالَ الحياة بلُبْسِ الغِيار ونحوه، فإن مقابر المسلمين فيها الرحمةُ، ومقابر الكفار فيها العذابُ، بل ينبغي مباعدةُ مقابرِهم عن المسلمين، وكلَّما بَعُدَتْ عنها كان أصلحَ، والله أعلم.

(4/223)


مسألة
في الخلائقِ إذا حُشِروا يومَ القيامة هل يُحشَرون جميعُهم عَرَايَا، أو بعضُهم عُراةً وبعضُهم بأكفانِهم؟ وقول أبي سفيان عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “بَالِغُوا في أكفانِ موتاكم، فإن أمتي تُحشَر بأكفانها، وسائرُ الأمم عراة” كما ذكره الغزالي. وهل يموتُ إدريسُ من الصَّعْقَة؟
الجواب
الذي في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “الميت يُبعَث في ثيابه التي قُبِض فيها”. أخرجه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه (1) وغيرُه. وقد رُوِي أن أبا سعيد لما حضرتْه الوفاةُ دَعَا بثيابٍ جُدُدٍ، فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول: “الميتُ يُبعَث في ثيابه التي يموتُ فيها” (2).
فأبو سعيد على هذا حملَ الحديثَ على أن الثياب التي يموتُ
__________
(1) بر قم (2575 – موارد).
(2) أخرجه أبو داود (3114) والحاكم في “المستدرك” (1/ 340) والبيهقي في “السنن الكبرى” (3/ 384). وصححه الألباني في “الصحيحة” (1671).

(4/224)


فيها العبدُ يُبعَث فيها، ولم يقل: إنه يُبعَث في أكفانه، فإن الكفن غير الثياب التي يموتُ فيها، فإن عامة الموتى لا يُكفَّنون في ثيابهم التي يُقبَضون فيها، لا سيما والكفن الذي كُفِّن فيه رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ليس فيه مما يُمسى فيه، فإنها لم يكن فيها قميصٌ ولا عمامةٌ، فإنه إذا عُرِفَ أن الحديث المأثور إنما هو أنه يُبعَث في ثيابه التي قُبض فيها، فقيل: يُبعَث في نفس الثوب الطاهر.
وقال طوائف من أهل العلم – كأبي حاتم وغيرِه -: إن المراد بذلك أنه يُبعث على ما مات عليه من العمل، سواء كان صالحًا أو سيئًا، كما قال أكثر المفسرين في قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)) (1) أن المراد به إصلاح العمل وتطهير النفس من الرذائل (2). ومثل هذا كثير في كلامهم، كما قيل:
ثِيابُ بني عوفٍ طَهارَى نقية (3)
ويقال: “فلانٌ طاهر الثياب”. يؤيد هذا شيئان:
أحدهما: أن الذي جاء في الحديث أنه يُبعَث على ما مات عليه من خيرٍ وشرٍّ، كما جاء، فما خُتِم له به يُبعَث عليه، كما في حديث جابر أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “يُبعَث كل عبدٍ على ما مات عليه”.
__________
(1) سورة المدثر: 4.
(2) انظر تفسير الطبري (29/ 91،92) وابن كثير (4/ 470).
(3) عجزه: وأوجههُم عند المشاهدِ غُرَّانُ. والبيت لامرئ القيس في ديوانه: 83.

(4/225)


رواه أبو حاتم في صحيحه (1).
الثاني: أن الأحاديث الصحيحة تُبين أنهم يُحشَرون عُراةً، كما في الصحيح (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “يُحشَر الناسُ يوم القيامة حُفاةً عُرَاةً غُرْلاً”، ثم قرأ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (3). وفي لفظٍ في الصحيح (4): “أوّلُ من يُكسَى إبراهيم الخليل”. وفي الصحيح (5) أيضًا عن عائشة أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “يُحشَر الناسُ يوم القيامة حُفاةً عُراةً غُرلاً”، قالت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضُهم إلى بعض! قال: “يا عائشة! الأمرُ أشدُّ من أن يَنظُر بعضُهم إلى بعضٍ”. فهذا وأمثالُه أحاديث صحيحة لا يجوز أن تُعَارَضَ بمثل ذلك اللفظ المجمل.
وأيضًا فإن بَعْثَه على ما مات عليه من خيرٍ وشرٍّ ظاهر، فإن الأعمال بالخواتيم، وقد ثبت في الصحيح (6) “أن العبد ليعملُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيَسبِق عليه الكتابُ، فيعملُ بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن العبد ليعملُ بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيَسبِق عليه الكتابُ،
__________
(1) 9/ 210 (ط. الحوت). وأخرجه أيضًا مسلم (2878) وأحمد (3/ 314، 331،366).
(2) البخاري (6527) ومسلم (2759) عن عائشة.
(3) سورة الأنبياء: 104.
(4) البخاري (6526) ومسلم (2860) عن ابن عباس.
(5) هو الحديث الذي مضى آنفًا.
(6) البخاري (3208 ومواضع أخرى) ومسلم (2643) عن ابن مسعود.

(4/226)


فيعملُ بعمل [أهل] الجنة فيدخلُ الجنة”. فهذا وأمثاله تُبين أنه في الآخرة يُحشَر على ما ماتَ عليه.
وأما ثوبُه الذي كان عليه وقتَ الموت فلا مناسبةَ في بَعْثِه فيه، فقد تموتُ الأنبياء والصالحون (1) في الثياب الرَّثَّةِ، وقد يموتُ الكفار والمنافقون في ثياب حسنةٍ، فهل يكون قيامُ الكفّار والمنافقين من قبورهم أجملَ وأبهَى من قيام الأنبياء والمؤمنين؟ ولو كان صحيحًا لكان تكفينُه في ثيابه التي مات فيها ويُبْعَثُ فيها أولى من تكفينه في غيرِها، وليس الأمر كذلك، بل قد يختلف الحكم في ذلك.
وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إذا كَفنَ أحدُكم أخاه فليُحسِنْ كَفنه”. وقد رُوِي أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أمرَ بشَدِّ الفخذِ في بعض الجنائز، وقال: “إن هذا لا يُغنِيْ شيئًا، وإنما تَطِيب نفسُ الحيِّ” (3)، ولو كان الميتُ يُبْعَث في ثياب موته لوردت السنة بتجميلها.
وأما الأكفانُ فلا أصلَ لكونه يُبعَث فيها بحالٍ.

وأما إدريس فقد رُوِي أنه ماتَ في السماء (4)، فلا يحتاج إلى موتٍ ثانٍ، والله سبحانه قد أخبرَ بصَعَقِ من في السماوات ومن في
__________
(1) في الأصل: “الصالحين”.
(2) مسلم (943) عن جابر.
(3) لم أجده فيما بين يديّ من المصادر.
(4) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 72) عن كعب الأحبار. انظر “البداية
والنهاية” (1/ 234 – 236).

(4/227)


الأرض إلاّ من شاء الله (1)، وقد ثبت عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه ذكر “أن الناس يَصعَقون يومَ القيامة فأكونُ أوَّلَ مَن أفيقُ، فأجدُ موسى باطش بساقِ العرش، لا أدري هل أفاقَ قبلي أم كان ممّا استثنى الله” (2).
فإذا كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد توقَّف في مثل هذا فكيف يَجْزِمُ أحدنا بما لا علمَ له به؟ والله أعلم.
__________
(1) سورة الزمر: 68.
(2) أخرجه البخاري (6517 ومواضع أخرى) ومسلم (2373) عن أبي هريرة.

(4/228)


مسألة
في معنى قوله “من قُتِل دونَ مالِه فهو شهيد” (1)، وهل يجب على الشخص أن يَبذُل ثُلُثَ مالِه قبلَ القتال – كما هو متعارفٌ بين الناس – أم يجوز ذلك؟ وهل الواجب عليه الدفعُ عن نفسه وأهلِه ومالِه دون البذل؟
الجواب
قد ثبت عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “مَن قُتِل دونَ مالِه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون دمِه فهو شهيد، ومَن قُتِلَ دونَ حُرمتِه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون دينه فهو شهيد” (2).
واتفق العلماءُ على أن قُطَاعَ الطريق إذا تعرَّضوا لأبناءِ السبيل يُريدون أموالَهم فإن لهم أن يقاتلوهم دفعًا عن أموالِهم، إذا لم يندفعوا إلاّ بالقتال، ولا يجب عليهم أن يبذلوا لهم من المال لا قليلاً ولا كثيرًا، لا الثلث ولا غير الثلث، لكن إن أحبُّوا هم أن
__________
(1) أخرجه البخاري (2480) ومسلم (141) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2) أخرجه أحمد (1/ 190) وأبو داود (4772) والترمذي (1421) والنسائي (7/ 116) عن سعيد بن زيد.

(4/229)


يبذلوا ذلك ويتركوا القتال فلهم ذلك، وليس بواجب عليهم، إلاّ أن يكونوا عاجزين عن القتال، فحينئذ يُصالِحونهم بما أمكن، ولا يُقاتِلون قتالاً تذهبُ فيه أنفسُهم وأموالُهم.
وأما الوجوب فلا يجب عليهم الدفعُ عن أموالِهم، بل لهم أن يقاتلوا عنها ولهم أن يبذلوها، لأنّ إعطاء المال لهم جائز، وإمساكه عنهم جائز، والعبد يَفعَلُ أصلحَ الأمرينِ عنده.
وأما الدفعُ عن الحرمة مثل أن يريد الظالمُ أن يَفجُر بامرأةِ الإنسان أو ذاتِ محرمِه أو بنفسِه أو بولدِه ونحو ذلك، فهذا يجب عليه الدفعُ، لأن التمكينَ من فعلِ الفاحشة لا يجوز، كما لا يجوز بذل المال، فيجب عليه أن يدفع ذلك بحسب إمكانه، وإذا لم يندفع إلاّ بالقتال وهو قادرٌ عليه قاتَلَ.
وأما دفعُه عن دمِه فهو جائز أيضًا، لكن في وجوبِه قولانِ للعلماء هما روايتان عن أحمدَ:
أحدهما: لا يجب، لأن ابن آدم المظلوم لما أراد أخوه قَتْلَه لم يَدفعْ عن نفسِه، وقال: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)) (1).
وكذلك أمير المؤمنين عثمان لما طلب الخوارجُ قتلَه لم يدفع
__________
(1) سورة المائدة: 28 – 29.

(4/230)


عن نفسه، وأمرَ الذين جاءوا ليقاتلوا عنه – كغلمانِه وأقاربِه والحسن ابن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهم – أن لا يقاتلوا، وكان ذلك من مناقبه رضي الله عنه.
والقول الثاني: يجب الدفعُ عن نفسه، لأن قتلَه بغير حقٍّ محرَّمٌ، فلا يجوز له التمكين من محرَّمٍ.
وهذا إذا لم تكن فتنة، وأما إذا كانت فتنة بين المسلمين، مثل أن يقتتل رجلانِ أو طائفتان على مُلْكِ أو رئاسةِ أو على أهواء بينهم، كأهواءِ القبائل والموالي الذين ينتسب كل طائفة إلى رئيسٍ أعتقَهم، فيقاتِلون على رئاسةِ سيدهم، وأهواءِ أهل المدائن الذين يتعصَّبُ كل طائفة لأهلِ مدينتهم، وأهواء أهل المذاهب والطرائق كالفقهاء الذين يتعصَّب كل قومِ لحزبهم ويقتتلون، كما كانَ يَجري في بلادِ الأعاجم، ونحو ذلك، فهذا قتال الفتنة يُنهَى عنه هؤلاء وهؤلاء، وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إذا التقى المسلمانِ بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار”، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: “إنه أرادَ قتلَ صاحبِه” (1).
وفي الصحيح (2) أنه قال: “مَن قُتِل تحتَ رايةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبةٍ ويدعو لِعَصَبةِ فليس منا – أو قال: – هو في النار”. وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ستكون فتنةٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ خيرٌ من
__________
(1) أخرجه البخاري (31،6875) ومسلم (2888) عن أبي بكرة.
(2) مسلم (1848) عن أبي هريرة.

(4/231)


الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خيرٌ من المرجِع” (1).
والأحاديث الصحيحة كثيرة في نهي النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن القتال في الفتنة، بل عند التداعي بسعارِها، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “من سمعتموه يتعزَّى بعَزَاءِ الجاهلية فأعِضوهُ هَنَ أبيه ولا تكنُوا” (2)، يعني: إذا قال الداعي: يا لفُلان! أو يا للطائفة الفلانية! فقولوا له:
اغْضَضْ ذَكَرَ أبيك.
وفي الصحيحين (3) عنه أن المسلمين كانوا معه في سفرٍ، فاقتتل – يعني – رجلٌ من المهاجرين ورجلٌ من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “أبدعوى الجاهلية وأنا بينَ أظهرِكم؟ دَعُوها فإنها مُنْتِنَةٌ”.
وقال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (4)،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
__________
(1) أخرجه البخاري (3601،7081،7082) ومسلم (2886) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد (5/ 136) والبخاري في “الأدب المفرد” (963) والنسائي في “عمل اليوم والليلة” (975،976) عن أبي بن كعب. وانظر كلام الألباني عليه وتصحيحه في “الصحيحة” (269).
(3) البخاري (4905) ومسلم (2584) عن جابر.
(4) سورة البقرة: 193.

(4/232)


وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (1). قال ابن عباس: تَبيَضُّ وجوهُ أهل السنة والجماعة، وتَسودُّ وجوهُ أهل البدعة والضلالة.
وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (2). وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إلا فضلَ لعربيّ على عجمي، ولا لعجميّ على عربي، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلاّ بالتقوى، الناسُ من آدمَ وآدمُ من تراب” (3). وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثل الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالحمَّى والسَّهَر” (4).
فالله قد جعل المؤمنين إخوةً مع الاقتتال، وأَمَر بالعدل بينهم، فقال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
__________
(1) سورة آل عمران: 102 – 106.
(2) سورة الحجرات: 13.
(3) أخرجه أحمد (5/ 411) عن أبي نضرة عمن سمع خطبة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأخرجه أبو نعيم في “الحلية” (3/ 100) عن أبي نضرة عن جابر، وفي إسناده بعض من يُجهل. وانظر “الصحيحة” (2700).
(4) أخرجه البخاري (6430) ومسلم (2586) عن النعمان بن بشير.

(4/233)


أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (1). فجعلنا إخوةً مع الاقتتال والبغي، وأمر بالعدل بينهم.
فيجب على كلِّ أحدٍ أن يُعَظِّمَ أهلَ التقوى والحق ويكونَ معهم، سواء كانوا من طائفته أو لم يكونوا، ويَقصِدَ أن يكونَ الدينُ لله لا لمخلوقٍ، فإذا فُضِّل هؤلاء على هؤلاء لم يكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، بل يَسعَى بينهم بالعدل والإصلاح.
فإذا طُلِب قتلُ الرجلِ في هذه الحال وهو لا يُريد أن يُقاتِلَ أحدًا، فهل له أن يَدفعَ عن نفسِه في هذه الحال؟ على قولين للعلماء هما روايتان عن أحمد:
إحداهما: لا يَدفَعُ عن نفسه وإن قُتِل، حتى لا يكون مقاتلاً في الفتنة، ولأن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال للسائل لما سأله عن ذلك: “دَعْهُ حتى يَبُوْءَ بإثمِه وإثْمِك” (2).
والثاني: يجوز لعموم الحديث، والأحاديث الخاصة تُبين أنه نهَى عن القتال في الفتنة وإن قُتِل مظلومًا، ولهذا لم يقاتل عثمان رضي الله عنه، لأنه رأى أن ذلك يُفضِي إلى الفتنة. والله أعلم.
__________
(1) سورة الحجرات: 9 – 10.
(2) أخرجه مسلم (2887) عن أبي بكرة.

(4/234)


مسألة
سؤال منكر ونكير، الميتُ إذا ماتَ تدخل الروح في جسده ويجلس ويُجاوِب منكر ونكير، فيحتاج موتًا ثانيًا؟
الجواب
عودُ الروح في بدن الميت في القبر ليس مثل عَودِها إليه في هذه الحياة الدنيا، وإن كان ذاك قد يكون أكملَ من بعض الوجوه، كما أن النشأة الآخرة ليست مثلَ هذه النشأة وإن كانت أكملَ منها، بل كل موطنٍ في هذه الدار وفي البرزخ والقيامة له حكم يَخُضُّه.
ولهذا أخبر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن الميت يُوَسَّع له في قبرِه ويُسْألَ ونحو ذلك، وإن كان التراب قد لا يتغير. فالروح تُعادُ إلى بدن الميت وتُفارِقُه، وهل يُسَمَّى ذلك موتًا؟ فيه قولان:
قيل: يُسمَّى ذلك موتًا، وتأوَّلوا على ذلك قولَه (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (1). قيل: إن الحياة الأولى في هذه الدنيا، والحياة الثانية في القبر، والموتة الثانية في القبر.
__________
(1) سورة غافر: 11.

(4/235)


والصحيح أن هذه الآية كقوله (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (1). فالموتة الأولى قبل هذه الحياة، والموتة الثانية بعد هذه الحياة، وقوله (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بعد الموت. قال: (*مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)) (2)، وقال: (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)) (3).
فالروح تتصل بالبدن متى شاء الله، وتُفارقه متى شاء الله، لا يتوقَّتُ ذلك بمرّةٍ ولا مرَّتين، والنومُ أخو الموت، ولهذا كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول إذا أَوَى إلى فراشِه: “باسمك اللهمَّ أموتُ وأحيَا”. وكان إذا استيقظ يقول: “الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النُّشُور” (4). فقد سمَّى النومَ موتًا والاستيقاظَ حياةً.
وقد قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)) (5)، فبيَّن أنه يتوفَّى الأنفسَ على نوعين، فيتوفاها حينَ الموت، ويتوفّى الأنفس التي لم تَمُتْ بالنوم، ثمَّ إذا ناموا فمن مات في منامِه أمسكَ نفسَه، ومن لم يَمُتْ
__________
(1) سورة البقرة: 28.
(2) سورة طه: 55.
(3) سورة الأعراف: 25.
(4) أخرجه البخاري (6312،6314،6324،7394) عن حذيفة. وأخرجه البخاري (6325،7395) عن أبي ذر.
(5) سورة الزمر: 42.

(4/236)


أرسلَ نفسَه. ولهذا كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذا أَوَى إلى فراشِه قال: “باسمك ربّي وضعتُ جَنْبي، وبك أرفعُه، فإن أمسكتَ نفسي فارحمْها، وإن أرسلتَها فاحفظْها بما تحفَظُ به عبادك الصالحين” (1).
والنائمُ يَحصُلُ له في منامِه لذّةٌ وألمٌ، وذلك يحصلُ للروح والبدن، حتى إنه يحصلُ له في منامِه من يَضْرِبُه، فيُصبِحُ والوجَعُ في بدنِه، ويَرى في منامِه أنه أطعِمَ شيئًا طيبًا، فيُصْبِحُ وطَعْمُه في فمِه، وهذا موجود، فإذا كان النائم يَحْصُل لروحِه وبدنِه من النعيم والعذاب ما يُحِسُّ به والذي إلى جَنْبِه لا يُحِسُّ به، حتى قد يَصِيح النائمُ من شِدَّةِ الألم والفزع الذي يحصُل له ويسمع اليقظان صياحَه، وقد يتكلَّم إمّا بقراَن وإمّا بذكرٍ وإمّا بجواب، واليقظان يسمع ذلك وهو نائم عينُه مُغْمَضَة، ولو خُوطِب لم يَستَمعْ، فكيف يُنكَرُ حالُ المقبور الذي أخبرَ الرسولُ بأنه يَسمعُ قرعَ نعالِهم، وقال: “ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم” (2).
والقلبُ يُشبَّه بالقبر، ولهذا قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لما فاتته صلاةُ العصر يومَ الخندق: “مَلأَ اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نارًا” (3)، وفي لفظ: “قلوبهم وقبورهم نارًا”، وفرّق بينها في قوله: (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)) (4).
__________
(1) أخرجه البخاري (6320،7393) ومسلم (2714) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري (1370،3980،4026) عن ابن عمر.
(3) سبق تخريجه.
(4) سورة العاديات: 9 – 10.

(4/237)


وهذا تقريب وتقرير لإمكان ذلك، ولا يجوز أن يقال: ذلك الذي يجده الميت من النعيم والعذاب مثلُ ما يجده النائمُ في منامِه، بل ذلك النعيم والعذاب أكملُ وأبلغُ وأتمُّ، وهو نعيمٌ حقيقي وعذابٌ حقيقي، ولكن يُذكَر هذا المثل لبيان إمكانِ ذلك إذا قال السائل: الميتُ لا يتحرك في قبرِه، أو الترابُ لا يتغير، ونحو ذلك. مع أن هذه المسألة لها بسط يطولُ وشرح لا يحتمل هذه الورقة. والله أعلم.

(4/238)


مسألة
الميت في أيام مَرَضِه أدركَه شهرُ رمضانَ، ولم يكن يَقدِر على الصيام، وتوفي وعليه صيام شهر رمضان، وكذلك الصلاة مدةَ مرضِه، ووالداه بالحياة، فهل تَسقُط الصلاة والصيام عنه إذا صامَا عنه وصلَّيَا إذا وَصَّى أو لم يُوص؟
الجواب
إذا اتصلَ به المرضُ ولم يُمكِنْه القضاءُ فليس على ورثته الاطعام عنه. وأما الصلاة المكتوبة فلا يُصلَّى عن أحدٍ، ولكن إذا صلَّى عن الميت واحدٌ منهما تطوُّعًا وأهداه له، أو صامَ عنه تطوعًا وأهداه له، نفعَه ذلك.

(4/239)


مسألة
في الشهداء، هل يَشفَع الشهيدُ منهم في أربعين من أهلِ بيته أم لا؟ وهل هم سبعةٌ أو تسعة؟ وهل يشفعون جميعهم أم لا؟ وهل إذا كان الشهيد عاصيًا يكون منهم أم لا؟ وإذا كان الشهيد عليه دَيْن أو مَظلمةٌ يُطالَبُ بها أم لا؟
الجواب
الحمد لله، أما الشهيد المقتول في الجهاد في سبيل الله – وهو الذي يُقتَل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلاً غيرَ مُدبرٍ، ويكون قتالُه لتكون كلمةُ الله هي العليا، لا حميَّةً ولا لدُنْيا ولا غير ذلك – فهذا جاء فيه أنه يُشَفع في اثنين وسبعين من أهل بيته (1).
وأما سائر الشهداء فهم أكثر من ذلك، وقد جاء أنهم سبعةٌ (2):
__________
(1) وردت فيه عدة أحاديث، منها حديث المقدام بن معدي كرب الذي أخرجه أحمد (4/ 131) والترمذي (1663) وابن ماجه (2799). وفيه “سبعين”.
(2) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 233،234) وأحمد (5/ 446) وأبو داود (3111) والنسائي (4/ 13،14) وابن ماجه (2803) عن جابر بن عتيك.
وصححه ابن حبان (1616 – موارد) والحاكم في المستدرك (1/ 352). وهو صحيح بشواهده.

(4/240)


المبطون شهيد، والغريق شهيد، والذي يموت تحت الرَّدْمِ شهيد، وصاحب ذاتِ الجنب شهيد، والمرأة التي تموت بالطَّلق شهيد.
وإن كان أحدهم مذنبًا يُرجَى أنَّ الشهادة يُغفَر له بها، لكن حقوق الآدميين دَيْنٌ عليه لابدَّ لصاحبها من استيفائها. والله أعلم.

(4/241)


مسألة
في أقوامٍ لهم تُربةٌ، وهي في مكانٍ منقطع، وقُتِل فيها قَتيلٌ، وقد بَنَوا لهم تُربةً أخرى، هل يجوز نَقْلُ موتاهم إلى التربة المستجدَّة أم لا؟
الجواب
لا يُنْبَش الميتُ لأجل ما ذُكِر. والله أعلم.

(4/242)


مسألة
فيمن يَحُضُّ الناسَ من أهل الإيمان على أن يصوموا ويُصلُّوا ويتصدقوا، ويقرأوا القرآن، ويهللوا ويسبحوا، ويسألوا الله أن يتقبلَ منهم، ويُوصِلَ أجورَ ذلك إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلى أزواجه وأولاده، فَسُئِل عن ذلك، فقال: لأنه كان يُحِبُّ الهدية، ويأمر بها للتحابب، فقيل له: ذلك في الدنيا، فقال: إن الإمام علي رضي الله عنه كان يُضحِّيْ عنه بعد موته، وإن أبي بن كعب قال: إني أُكثِرُ الصلاةَ عليك، فكم أجعلُ لك من صلاتي؟ قال: “ما شِئْتَ”، قال الربع؟ قال: “ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير”، قال: النصف؟ قال: “ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير”، قال: الثلثين؟ قال: “ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير”، قال: يا رسول الله! فاجعلُ لك كلَّها، قال: “إذًا تكفَى هَمَّك، ويُغفَر ذنبُك”.
فما هذه الصلاة المقسَّمةُ بالربع والنصف والثلثين والكل؟ فإن كانت الصلاةُ عليه فكلُّها له، وللمصلي أجرها، وكانت الزيادة فيها تكون بالأعداد من واحد إلى عشرة، إلى مائة، إلى ألف، فأكثر من ذلك، فانصرفَ المفهومُ أنها صلاةُ نوافلِه وتطوعاتِه، وأنْ يَجعَلَ له ربعَها ونصفها وثلثيها وكلَّها، فهل أصابَ فيما أمرَ به وحَضَّ عليه؟
وبَنَى على ما رواه الدارقطني: أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، كان لي أبوانِ، وكنتُ أبرُّهما حالَ حياتهما،

(4/243)


فكيفَ لي بالبرِّ بعد موتهما؟ فقال له النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن من البر بعد البرّ أن تُصَلِّي لهما مع صلاتك، وأن تصومَ لهما مع صيامِك، وأن تَصَدَّقَ لهما مع صدقتِك”.
فقيل: إن عمل الولد من الخير ملحقٌ بالوالدين، لوجوبِ حقِّهما.
فقال: حقُّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أوجبُ، وحق أزواجه أمهاتِ المؤمنين أوجبُ من أمهاتِ الأولاد.
فقيل له: فهلاَّ فعلَ أبو بكر ذلك؟
قال: وما يُدرِيْك؟ قد فعلَه عليٌّ رضي الله عنه حين ضَحَّى عنه.
فقيل: إن النبي دعا الناسَ إلى الهدَى والخيرِ كلِّه، وله أجرُ كلِّ من تَبِعَه.
فقال: إن الواحديَّهَ حقٌّ لله في الأزل والأبد لا يُزِيلُها إنكارُ منكرٍ لها، ويثابُ المقر بها طوعًا راضيًا مختاراً، والكون وما فيه مُلْكُه ثانيًا لا يُزِيلُه ملكُ مالكٍ، ونحن نتقرَّبُ منه بِشِقِّ تمرةٍ.
فما الحكم في ذلك مع صحة القصد وما ذهب إليه من التأويلات؟
أفتونا مأجورين.
أجاب رضي الله عنه

أما ما ذهب إليه هذا المسئول عنه مِن إهداءِ ثواب القُرباتِ إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقد ذهب إليه طائفة من المتأخرين من الفقَهاء والعُبَّاد، ولكن لم يسلكوا هذا الطريقَ التي ذكرتَ عنه، ولكن بَنَوا ذلك على

(4/244)


إن إهداء ثواب القُرَب إلى موتى المؤمنين جائز، ورسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أفضل المؤمنين، ولاَ ريبَ أن الصدقة عن الميت جائزة باتفاق العلماء، وكذلك سائر العبادات المالية، هان تنازع الأئمة في العبادات البدنية كالصلاة والصيام والقراءة، فمنهم من سَوَّى بين النوعين كأحمد، وهو المذكور في كتب الحنفية، وذهب إليه طائفة مِن أصحاب مالك والشافعي، ولكن أكثر أصحاب مالك والشافعي فرَّقوا بين العبادات البدنية والمالية، لأن المالية يدخلها النيابة والتوكيل، فيجوز للرجل أن يَستنيبَ في صدقتِه، ولا يجوز له أن يستنيبَ في صلاته وصيامه.
والأولون أجابوا عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن النيابة في العبادات البدنية تجوز للحاجة، كما ثبتَ في الصحيحين (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “من مات وعليه صيامٌ صامَ عنه ولله”، ولكن فرض الصلاة لا نيابة فيه، لأن الإنسان لا يَعجز عما وجب من الصلاة، فلا عذرَ له في (2)، والصوم له بَدَلٌ وهو الإطعام، كما قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (3)، فلما نُسِخَ ذلك وتعيَّنَ الصيامُ على القادر بقي العاجزُ كالشيخِ الذي لا يُرجَى قدرتُه والمريضِ المأيوسِ من بُزْيه، فإنه يُفطِر باتفاق العلماء، وأكثرهم
__________
(1) البخاري (1952) ومسلم (1147) عن عائشة.
(2) هنا كلمة مطموسة في الأصل.
(3) سورة البقرة: 184.

(4/245)


يوجبون عليه الفِدْيةَ، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، أما مالك فلا يُوجِب عليه فديةً. وأما الصوم عن الميت فقيل: لا يُصام عنه بحالٍ، كقول أبي حنيفة ومالك والشافعي في الجديد، لكن الشافعي وطائفة يقولون: يُطعَم عنه إذ الإطعامُ هو البدل، وقيل: بل يُصام عنه الفرضُ والنذرُ، وهو قول للشافعي، وقيل: يُصام عنه النذر، وأما الفرض يُطعَم عنه، وهو مذهب أحمد وغيره اتباعًا لابن عباس في تفريقه بينهما، وهو الذي روى عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “من مات وعليه صيامٌ صام عنه وليّه” (1)، ورَوَتْه عائشة أيضًا (2)، وكلا الحديثين في الصحيح، وقد جاء حديث ابن عباس مفسّرًا في النذر كما في الصحيحين (3) عنه: “أن امرأة قالت: يا رسولَ الله! إن أمي ماتتْ وعليها صومُ نذرِ، أفأصومُ عنها؟ قال: “أرأيتِ لو كان على أمّكِ دَيْنٌ فقضيتِه أكان يُؤدِّي ذلك عنها؟ “، قالت: نعم، قال: “فصُومي عن أمكِ”.
وفرقوا بين الفرض والنذر بأن الله قد جعل لما فرضه بدلاً، وهو الإطعام من مال من وجب عليه، كما جعل في الكفارة من عجز من صوم الشهرين المتتابعين أطعم ستين مسكينًا، والبدل من ماله أولى من بدن غيره، والله لا يوجب على عباده ما يَعجِزون
__________
(1) سيأتي لفظه برواية ابن عباس.
(2) سبق تخريجه.
(3) البخاري (1953) ومسلم (1148).

(4/246)


عنه، ولهذا لو استمر به المرض المرجوُّ إلى ما بعدَ رمضانَ ولم يتمكنْ من القضاء فلا إطعامَ عنه ولا قضاءَ باتفاق الأئمة، بخلاف ما أوجبه العبد على نفسِه فإنه قد يُوجب ما يَعجِزُ عنه، كما يَستدينُ ما لا يُطِيق وفاءَه، فيكون فعلُ الغيرِ عنه كقضاءِ الذَينِ عنه، وذلك جائز.
وحقيقة هذا القول أن من عَجَز عن الصيام والفدية فلا شيء عليه، فلا يحتاج أن يصوم عنه، ومن قَدَر على أحدِهما فلا بد له من أحدهما. والمقصود هنا أن الشارع سَوغ الصومَ عن الميت كما سَوغ الحج عنه في الجملة، فلا يجوز أق يقال: لا تدخله النيابة بحالٍ.
والوجه الثاني: أنهم قالوا: إهداء ثواب العمل إلى الميت ليس نيابةً عنه، وإنما العامل عَمِلَ لنفسِه لا عن الميت، والإنسان ليس له إلاّ ما سعى، فهذا السعي للحى لا للميتِ، لكن الميت استحق عليه أجرًا من الله، فتبرعَ به للميت كما يتبرع الأجيرُ بأجرتِه لغيره، وإن كان عمله في الإجارة لنفسِه لا للغير، ولهذا يفرق في الإجارة بين من يعمل لغيره وبين من يعمل لنفسه، ويُعطِي الأجرة لغيره، فالأول كالأجير المشترك الذي التزمَ العملَ في ذمته، إذا أعطاه لبعض الناس ليعمل عنه كان ذلك عملاً بطريق النيابة عمَن وجب عليه العمل، وهو نظير قضاء الدين. والثاني كالأجير الخاصّ أو المشترك الذى عَمِلَ ما عليه، وأَخذَ أجرتَه فأعطاها لغيره، ولهذا كان أصحاب أبي حنيفة لا يُجوزون النيابة في العبادات البدنية، ويُجوزون إهداءَ ثوابها، وكذلك أصحاب أحمد يُجوِّزون إهداء

(4/247)


ثواب العبادة حيث لا يُجوِّزون النيابةَ، حتى يُجوِّزون إهداءها إلىَ الحي في أصح الوجهين، وهو المنصوص عن أحمد، وفي إهداء ثواب الفريضة لهم وجهان.
وبعض الناس يَحتجُّ على أنَّ إهداء ثواب القُرَب لا يَصِلُ إلى الميت بقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) (1). واَحتجاجُه بهذه الآية حجة باطلة بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، فإن القرآن قد دلّ على الاستغفار للمؤمنين، كما في استغفار الملائكة والأنبياء لهم، وذلك ليس من سَعْيِهم، قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)) (2) الآية، وقال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (3)، وقال تعالى عن نوح: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (4)، وقال عن إبراهيم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)) (5).
وقد اتفق المسلمون على سنة رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الصلاة على الميت والدعاء له والشفاعة فيه، واتفقت الأمة على أن الصدقة تنفع
__________
(1) سورة النجم: 39.
(2) سورة غافر: 7.
(3) سورة محمد: 19.
(4) سورة نوح: 28.
(5) سورة إبراهيم: 41.

(4/248)


الميتَ كما ثبت في الصحيحين (1): أن سعدًا قال: يا رسول الله! إن أمي افْتُلِتَتْ نفسَها، وأراها لو تكلمتْ لتصدقتْ، فهل ينفعها إن أتصدقْ عنها؟ قال: “نعم “. فما كان جوابُ هذا المحتجّ عن الدعاء والصدقة عن الميت كان جوابًا لغيره عن الصيامِ عنه ونحوِ ذلك من العبادات.
وقد ذكر الناس عن الآية أجوبةَ متعدد (2)، على أنها منسوخةٌ، وقيل: مخصوصة، وقيل: مختصة بشرعِ مَن قبلنا، وقيل: سببه الإيمان الذي هو شرط وصول الثواب من سَعْيِه.
والآية لا تحتاج إلى شيء من هذا، فإن الله أخبرَ عما في الصحف أنه (لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)) (3)، ولم يقل: لا يَنتفعُ إلاّ بما سعى، وأنَ الإنسان فيما ينتفع به في الدنيا قد ينتفع بما يَملِكه وبما لا يَملِكه، فلا يلزم من نَفْيِ الملكِ نَفْي الانتفاع، لكن هو يستحقُّ الثوابَ على سَعْيِه لأنه حفُه، فلا يَخاف منه ظلمًا ولا هَضْمَا، وأما سعيُ غيرِه فهو لذلك الغير، فإن سعَى له ذلك الغيرُ أثابَ الله ذلك الساعيَ على سَعْيه، ونفعَ هذا مِن سَعْيِ ذلك بما شاء، كما يثيبُ الداعيَ على دعَائِه لغيره وينتفع المدعوُّ له. كما ثبت في الصحيح (4) أنه قال: “ما من رجلٍ يدعو لأخيه بظهرِ الغيبِ
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) انظر تفسير القرطبي (17/ 114 – 115).
(3) سورة النجم: 39.
(4) سبق تخريجه.

(4/249)


بدعوة إلاّ وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلما دعا لأخيه بدعوةٍ قال الملكُ الموكَلُ به: آمين، ولك بمثلٍ “.
ومن ذلك: الصلاة على الميت، فقد ثبتَ عنه أنه قال: “من صلَّى على جنازةٍ فله قيراط” (1)، وثبت عنه: أن الله يقبل شفاعة مائةٍ (2)، ورُوِيَ أربعين (3)، ورُوى ثلاثة صفوف (4). فهو يثيب الداعيَ وينفع المدعوَّ له، وكذلك المتصدّق عن الميت بما يصل إليه من ثواب الصدقة.
ومن هذا الباب الصلاةُ على النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وطلبُ الوسيلة، كما ثبت عنه في الصحيح (5) أنه قال: “من صلى عليَّ مرةً صلى الله عليه عشرًا”، وقال: “ثم سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبدَ، فمن سأل اللهَ لي الوسيلةَ حَفَتْ عليه شفاعتي يومَ القيامة”.
فهذا هو الأصل الذي ينبني عليه فِعلُ القرَبِ عن الأموات مطلقًا، وبعضُ الناس يعارض هذا بما ليس بدليل شرعي، بمثل أن
__________
(1) البخاري (47، 1325) ومسلم (945) عن أبي هريرة.
(2) مسلم (947) عن عائشة.
(3) مسلم (948) عن ابن عباس.
(4) أخرجه أحمد (4/ 79) وأبو داود (3166) والترمذي (1028) وابن ماجه (1490) عن مالك بن هبيرة السكوني. وحسَّنه الترمذي والنووي في “المجموع” (5/ 212).
(5) سبق تخريجه.

(4/250)


يقول عن نبينا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وغيره من النبيين أو الصديقين: هذا أجل مِن أن يُهدَى له ثوابٌ أو أن يُفْعَلَ عنه قُربةٌ، ويرى أن هذا من باب الخَفْضِ من منزلة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه من باب حاجتِه إلى هذا الفاعلِ.
وهذا الكلام ليس بشيء، فإن الله أمرنا أن نصلِّيَ عليه ونسلِّمَ تسليمًا، والصلاة عليه من أفضل العبادات مع الدعاء في الصلاة وغيرها، حتى قال عمر بن الخطاب: “إن الدعاء موقوفٌ بين السماء والأرض، لا يَصْعَدُ منه شيءٌ حتى تُصلِّيَ على النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – “، رواه الترمذي (1) وقال: حديث حسن. وثبت عنه في صحيح مسلم (2) وغيره أنه قال: “إذا سمعتم المؤذّنَ فقولوا بمثل ما يقول، ثم صَلُّوا على، فإنه من صَلّى عليَّ مرةً صلَّى الله عليه عشرًا، ثم سلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبدٍ من عبادِ الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبدَ، فمن سألَ الله لي الوسيلةَ حلَّت عليه شفاعتي يومَ القيامة”. وفي السنن (3): “ثم سَلْ تُعْطَه “.
فهذه أربعُ سننٍ أُمِرَ بها عند استماع الأذان: أن يقول كما يقول المؤذن، وقد جاء مفسَّرًا بالأمر بذلك في الحَيْعَلَة والحوقَلَة، لأنه دعاء للَادميين لا ذِكْرٌ، فيقالُ ما يُستَعان به على فعلِ ما دُعِيَ العبدُ إليه. ثم أن يصلِّيَ عليه، ثم أن يسألَ له الوسيلةَ، ثم قال: “سَلْ تُعْطَه”، فإن هذا ليس بِمَظَان إجابةِ الدعاء.
__________
(1) برقم (486).
(2) سبق.
(3) أبو داود (524) عن عبد الله بن عمرو.

(4/251)


وفي سنن أبي داود (1) وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلّوا على فإن صلاتكم تَبلُغني حيثُ ما كنتم “.
وعن أبي ليلى عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “إن المَلَكَ جاءني فقال: يا محمد! إن اللهَ يقول لك: أما ترضى إلاّ يُصلِّي عليك عبدٌ من عبادي إلاّ صلَّيتُ عليه عشرا؟ ولا يُسلِّم عليك تسليمةً إلاّ سلَّمتُ عليه عشرًا؟ قلت: بلى أيْ رَب”. رواه النسائي (2) وأبو حاتم وغيره.
وعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن من أفضل أيامِكم يومَ الجمعة، فيه خُلِقَ آدم، وفيه أُدخِلَ الجنةَ، وفيه أُخرِجَ منها، فأَكثِروا فيه من الصلاة عليَّ، فإن صلاتكم معروضة”، قالوا: وكيف تُعرَضُ عليك وقد أَرِمْتَ؟ فقال: “إنّ الله حَرَّم على الأرضِ أن تَأكلَ أجسادَ الأنبياء”. رواه أبو داود والنسائي وأبو حاتم في صحيحه (3).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) 3/ 445. وأخرجه أيضًا أحمد (4/ 29، 30) والدارمي (2276) وأبو حاتم ابن حبان في “صحيحه” (915) والحاكم في “المستدرك” (2/ 420)، كلهم من حديث أبي طلحة الأنصاري، لا أبي ليلى.
(3) أخرجه أبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/ 91، 92) وابن ماجه (1585، 1636) وأحمد (4/ 8) وابن حبان في “صحيحه ” (555) والحاكم في “المستدرك ” (1/ 278) ..

(4/252)


وفي سنن أبي داود (1) عنه قال: “ما من مسلم يُسلَم على إلاّ رَدَّ الله عليَّ روحي حتى أردّ عليه السلام “.
وفي النسائي وأبي حاتم (2) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن لته ملائكةً سيَّاحينَ في الأرضِ يُبلَغونّي عن أمتي السلامَ”.

والأحاديث في ذلك كثيرة، وهذا مما أجمع عليه المسلمون، والصلاة والسلام [عليه]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هي من هذا الباب من باب الدعاء، والدعاء مشروع من الأدنى للأعلى، ومن الأعلى للأدنى، والداعي إذا دعا لغيره أثابَ الله الداعيَ على دعائِه، ونفعَ المدعوَ له بالدعاء، فلم يكن لأحدٍ عليه مِنَّة بصلاتِه عليه وسلامه، إذ كان الله يُصقَي على المصلِّي عليه عشرًا، ويُسلِّم على المسلَمِ عليه عشرًا، فيُعطِيه بالحسنةِ عَشْرَ أمثالها، فللهِ المِنَّةُ على من استعمله في الصلاة عليه والسلام، ولله المنةُ على رسوله وعلى جميع عباده إذ نَصَبَ أسبابًا يَرحمُهم بها، والخلقُ كلُّهم فقراءُ إلى الله تعالى، والله يرحم عباده بما شاء من الأسباب، فمن جَعلَ أحدًا من الأنبياء أو غيرهم مستغنيًا عن مزيد الرحمة والرضوان وعُلوَ الدرجاتِ فهو جاهل بالته، ومن ظنَّ أن دعاء الداعي للأنبياء وصلاته عليهم بل صلاته على المؤمنين منه مِنة عليهم فهو جاهل بذلك، فإن الله يُثيبه
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه النسائي في “الكبرى” (1114، 9204) وأبو حاتم ابن حبان في “صحيحه” (914) وأحمد (1/ 387، 441، 452) وا لدارمي (2777) والحاكم في “المستدرك” (2/ 421) وغيرهم.

(4/253)


على عملِه ولا يظلمه، والمنةُ لله على هذا وعلى هذا.
ومن هذا الباب دعاء الملائكة للمؤمنين وسائر الأسباب، بل من هذا الباب جميع ما يعمله العباد من القُرَب والطاعات، فإن للرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مثلَ أجورهم من غير أن يَنْقُص من أجَورهم شيئًا، كما ثبت عنه في الصحيحَ (1) أنه قال: “من دعا إلى هُدً ى كان له من الأجر مثلُ أجور من اتبعَه، من غيرِ أن يَنْقُصَ من أجورهم شيئًا، ومن دَعَا إلى ضلالة كان له من الوِزْرِ مثلُ أوزارِ من اتبعَه من غير أن يَنقُص من أوزارِهم شيئًا”. وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (2): “من سَن سنةً حسنةً كان له أجرُها وأجرُ من عَمِلَ بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا”. وهو – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد سن سُنَنَ الهدى جميعَها لأمته.
ومن هذا الباب يَبيْنَ جوابُ المسألة، فإن القائل يقول: إذا كان إهداءُ القُرَب إلى الموَتى مشروعا وإن كانوا فضلاء، فما بالُ السلف لم يكونوا يفَعلون القربَ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ولا عن الخلفاء الراشدين؟
بل ولا عن شيوخهم معلّميْهم ومؤدّبيهم الذين علَّموهم العلمَ والإيمان؟ والسلفُ كانوا أحرصَ على الخير منا، فلا يمكن أن يقال: تركوه جهلا به ولا رغبة عنه، وهذا هو الذي يَظهر به إشكالُ المسألة، فإن ما تقدم يَحتبئُ به من يستحب إهداءَ ثواب القرباتِ إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ذهب إليه طائفة من الفقهاء والعبّادَ من أصحاب أحمد وغيرهم، وأقدمُ من بَلغَنا ذلك عنه علي بن الموفق أحد
__________
(1) مسلم (2674) عن أبي هريرة.
(2) مسلم (1017، وقبل رقم 2674) عن جرير بن عبد الله.

(4/254)


الشيوخ المشهِورين، كان أقدمَ من الجُنيد وطبقتِه، وقد أدرك أحمدَ وعصرَه وعاش بعده.
ومن لا يَستحبُّ بل يراه بدعةً -وهو الصواب المقطوعُ به- يحتجُّ بأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك وهم أعلم بالخير وأرغبُ، وليس فعلُ [المذكورِ] وأمثالِه ولا قولُ طائفة من متأخري الفقهاء مما يُعارَضُ به أقوالُ السلف.
وأما احتجاج المحتجَّ بتضحية علي رضي الله عنه عن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فيقال له: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي (1) من حديث حَنَش الصنعاني، قال: رأيتُ عليًّا عليه السلام يُضحِّيْ بكَبْشَين، فقلتُ له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أوصاني أن أضحِّيَ عنه، فأنا أُضحِّيْ عنه”. وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شَرِيك. ومثل هذا الإسناد قد يقال: لا تقومُ به سنة، فإن حنشًا تكلم فيه غير واحد، قال أبو حاتم: كان كثير الوهم، وشَرِيك بن عبد الله القاضي في حديثه لين.
وإن صح هذا الحديث فإنه إنما ضحَّى عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بإذنه، وهذا جائز ولو لم يردْ هذا الحديث، فإن الميت إذا أوصى أن يُضحَّى عنه كان كما لو أوصى أن يُحجَّ عنه، فإن الأضحية عبادة بدنية مالية كالحج عنه، ولو وصَّى بالصدقة عنه جارْ بإجماع المسلمين، بل
__________
(1) أبو داود (2790) والترمذي (1495) وأحمد (1/ 107) وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (1/ 149، 150) من الطريق المذكور.

(4/255)


هذا الحديث إن صح فقد يُستدل به على أنهم لم يكونوا يفعلون عنه عبادة إلا بإذنه، ولو كان مشْروعًا عندهم التضحيةُ عنه بدون إذنه لما أُنكِر ذلك على عليّ، ولبيّن عليٌّ أنه يُشرَع هذا وغيره من الأعمال عنه بغير إذنه.
وأما احتجاجه بحديث أبي بن كعب الذي فيه “أجعل صلاتي كلَّها لك، قال: إذًا تُكفَى همَّك ويُغفَر ذنبك”، فيقال له: ليس حَمْلُك هذا الحديثَ على صلاتِه المتطوعة بأولى من حَمْلِ غيرك له على الدعاء، إذ قد سلّمتَ أنه ليس المراد به الصلاة الواجبة ذات الركوع والسجود، فيقال له: كما لم يدخل هذه الصلاة فلا يدخل ما كان من جنسها وهو التطوع، فإنهما من جنس واحد، ولم يُعرَف أن في السنة أن يكون جميع ما يتطوع به العبد من الصلاة لغيره، كما لم يُعرَف مثل ذلك في الصيام والحج.
فإن قيل: يحصل له من أجر الإهداء أكثرُ من ثواب التطوع، قيل: فسَوُّوا ذلك في الفريضة، واجعلوا من المسنون أن يُهدِيَ الرجلُ ثوابَ فرائضه لبعض الموتى، ويكون ما يحصل من ثواب ذلك أعظمَ من أجر الفريضة مع أن ذمته بريئة. وقد تقدم أن في إهداء ثواب الفريضة قولين في مذهب أحمد وغيره.
والذين جوزوا ذلك قالوا: الفرضُ له مقصودان: براءة الذمة باندفاع العقاب، وحصول الأجر والثواب، فأما براءة الذمة وهو الذي امتاز به عن النافلة فلا يمكن إهداؤُهُ، وأما الأجر وهو المشترك بينهما فيمكن إهداؤُهُ، ولا ريبَ أن الحديث لا يمكن

(4/256)


حَمْلُه على الصلاة عليه كما ذكر السائل. بَقِيَ المفهومُ الثالث وهو الدعاء، فإن الصلاة من أهل اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) (1)، فيكون هذا السائل له دعاء يدعو به لنفسه، فيمكن أن يجعل ثُلثَه دعاءً للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالصلاة عليه صلاة، ويمكن أن له شَطْرَه، ويمكن أن يكون جميعُ دعائِه دعاءً للنبي، مثل أن يُصلِّي عليه بدلَ دعائه. وقد ثبتَ (2) أنه من صلَّى عليه مرة صلَّى الله عليه عشراً، فيكون أجر صلاته كافيا له، ولهذا قال: “يَكفِيْ همَّك ويَغفِر ذنبَك”، أي إنك إنما تطلب زوالَ سبب الضرر الذي يُعقِب الهمَّ ويُوجب الذنب، فإذا صليتَ على بدل دعائك حصل مقصودك، وهذا معنى مناسب، فإنه قد ثبت (3) أن من دعا لأخيه بظهر الغيب بدعوةٍ قال الملَكُ الموكَّلُ به: آمينَ، ولك بمثلٍ. وثبت عنه (4) أنه قال: “واللهُ في عونِ العبد ما كان العبدُ في عون أخيه”، فإذا كان بدلَ دعائِه لنفسه يدعو للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حصلَ له أعظمُ مما كان يطلب لنفسه.
واحتجاجه بحديث الدارقطني يقال له: إنما في الحديث فعل العبادات عن الوالدين، وهذا في العبادات المالية متفق عليه بين الأئمة، وإنما تنازعوا في النذر، وقد ذكر مسلم في صحيحه (5) عن
__________
(1) سورة التوبة: 103.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق.
(4) مسلم (2699) عن أبي هريرة.
(5) 1/ 16.

(4/257)


أبي إسحاق الطالقاني قال: قلت لعبد الله بن المبارك: الحديث الذي جاء في البر بعد البر أن تُصلِّيَ لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، قال فقال عبد الله: يا أبا إسحاق! عمن هذا؟ قلت له من حديث شهاب بن خِراشٍ، قال ثقة، قال: عمن؟ قلت: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة، عمن؟ قلت: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: يا أبا إسحاق! إنَّ بين الحجاج بن دينار ورسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مفاوزَ تَنقطعُ فيها أعناق المَطِيِّ. وليس في الصدقة خلاف.
ولو احتجّ في هذا الباب بحديث عمرو لكان أقوى، كما في مسند أحمد (1) عن عبد الله بن عمرو أنَّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بَدَنةٍ، وأن هشام بن العاص نحرَ حصتَه خمسين، وأن عمرًا سأل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن ذلك فقال: “أما أبوك فلو أقرَّ بالتوحيد فصمتَ أو تصدقتَ عنه نفعه ذلك”. وقد رواه أبو داود (2)، ولفظه: “لو كان مسلمًا فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه نفعَه ذلك”. وهذا اللفظ إنما فيه الأعمال المالية.

وقد احتجّ بعض المتأخرين من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما بأحاديثَ رُوِيتْ فيمن مرَّ على القبور فقرأ كذا وكذا، وليس فيها ما يُعتمَد عليها في إثبات الأحكام الشرعية. وقد قدَّمنا أنه ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا معارضَ لها أن الوليَّ يصومُ عن الميتِ الصومَ الذي نذره كما يحجُّ عنه، وقد جاء ذكرهما في حديث صحيح
__________
(1) 2/ 181.
(2) برقم (2883).

(4/258)


رواه مسلم (1) وغيره عن بُريدةَ بن الحُصَيب أن امرأة أتت النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقالت: إن أمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفيُجزئ أو يقضي أن أصوم عنها؟ قال: “نعم”، وفي رواية: وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال: “صومي عنها”، قالت: يا رسول الله! إنها لم تحجَّ، فقال؟ “حُجِّي عنها”.
ولا يقال: هذا مختصّ بالولد، ففي الصحيحين (2) عن ابن عباس: أن امرأة جاءت إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقالت: إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين متتابعين، قال: “أرأيتِ لو كان على أختِكِ دَين أكنتِ تقضيه؟ ” قالت: نعم، قال: “فحقُّ الله أحقُّ”. وفي رواية (3): أن امرأة ركبتْ في البحر، فنذرتْ إن نَجَّاها الله أن تصوم شهرًا، فأنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرتْ ذلك، فقال: “صومي عنها”.
وأيضًا فقوله في الحديث الصحيح: “صام عنه وليُّه” يتناول الولد وغيره ممن يكون وليا للميت، فلا يجوز أن يقال: الحكم مختص بالولد.
وأما قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح (4): “إذا مات ابن آدم
__________
(1) برقم (1149). وأخرجه أيضًا أحمد (5/ 349، 351، 359، 361) وأبو داود (1656، 2877، 3309) والترمذي (667، 929) وابن ماجه (1759، 2394).
(2) البخاري (1953) ومسلم (1148).
(3) لأحمد (1/ 216).
(4) مسلم (1631) عن أبي هريرة.

(4/259)


انقطع عملُه إلاّ من ثلاثٍ: صدقة جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولد صالح يدعو له”. فهنا خصّ الولد بالذكر لأنه استثناه من عمل الميت، وولُده من كَسْبِه، كما قال تعالى: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)) (1) وإن ولده من كَسْبه. وقد قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – للرجل الذي قال له: إن أبي أراد أن يجتاحَ مالي، فقال: “أنت ومالك لأبيك” (2). وقد قال تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)) (3)، فَجعل الولد موهوباً للوالد، فجعل بيت الولد بيت الرجل في قوله تعالى: (وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) (4) ولم يذكر بيوت الأولاد، لأن بيت ولدك بيتك، وهذا الحكم مختص بالأب فإنه المولود له، كما قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (5).
فلما كان الولد من كسب الوالد استثناه من عملِه المنقطع، كما استثنى ما ينفق من الصدقة والعلم النافع، وهذا مما احتج به من يقول: إن مال الابن للوالد بمنزلة المباح، فيُهْلِكُ منه ما لا يضرُّ بولده. وهذا الحديث لا يدل على أن غير الولد لا ينفع دعاؤه
__________
(1) سورة المسد: 2.
(2) أخرجه، ماجه (2291) عن جابر بن عبد الله، وفي الباب عن جماعة من الصحابة خرَّج أحاديثهم وتكلَّم عليها الألباني في “إرواء الغليل” (838) وصحَّحها.
(3) سورة الشورى: 49.
(4) سورة النور: 61.
(5) سورة البقرة: 233.

(4/260)


للميت، فإن هذا خلاف إجماع المسلمين. إذ هم متفقون على أن الدعاء والصلاة على الميت ينتفع بها، سواء كانت من ولده أو من غير ولده، فهذا بيان أن الحكم لا يختص بالولد أن ذلك لوجوب حقهما، فلا حاجةَ إلى تعليل ذلك بوجوب حقهما.
وأما جوابه لمن قال له: “النبيُّ قد دعا إلى كل خير، فله أجر من اتبعه ” بأنّ الواحديَّهَ لله حق ثابت، وكل شيء له، ونحن نتقرب إليه بشِقِّ تمرة -فهذا مثلٌ ضعيف، وذلك أن الأشياء كلها لته ملكٌ له، إذ هو خالقها وربّها ومليكها، وله أسلمَ من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا، وهذا الملك لا يتعلق به ثوابُ العباد ولا عقابُهم ولا وعدُهم ولا وعيدُهم، فإن هذا حكم ربوبيته الشاملة وقدرته الكاملة، التي تتناول المؤمن والكافر والبرّ والفاجر، وأما تقربُ العباد إليه فهو بالفعل الذي يحبه ويرضاه لهم، وهذا مما افترقوا فيه. فبعض العباد آمنَ به وعبدَه وأطاعَه وفعلَ ما يحبه ويرضاه، وبعضهم كفرَ به وفسقَ وعصى، وكلاهما يتناوله حكم ربوبيته وقضائِه وقدرِه، والذي يتقرب إليه بشقِّ تمرة إذا أقرضَه قرضًا حسنًا لم يدخل في ملكه ما لم يكن فيه، بل جميع ما بذله بل هو وفعله وقدرته داخل في ملك الرّب وقدرته، سواء كان المبذول من رضاه أو سخطه، لكن بِبذلِه في الجهة التي يُحِبُّها ويرضاها صار العبد مستوجبًا لما وعده في تلك الجهة، كما أن حركات بدنه هي مخلوقة له على كل حال، فإن كانت حركة يحبها ويرضاها أثابه عليها، وإن كانت حركة يكرهها ويسخطها عاقبه عليها، وهذا يتعلق بحكم إلهيته وأمره الديني الشرعي الذي هو

(4/261)


الفارق بين أوليائه وأعدائه. قال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)) (1)، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)) (2)، وقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)) (3). والأول يتعلق بحكم ربوبيته وأمره الكوني الشامل لوليه وعدوه، كما قال: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)) (4).
وقد بسطنا الكلام على هذا المقام الذي ضلَّت فيه أممٌ من الأنام، وبينا الفرقَ بين كلماته الدينية والكونية، وإرادته الكونية والدينية، وإذنه الكوني والديني، وكذلك حكمه، وأمره، وتحريمه، وبعثه، وإرساله، والفرق بين الحقيقة الكونية التي يُقِرُّ بها المشركون وهي الحقيقة القدرية، وبين الحقيقة الدينية الحَي يختص بها المؤمنون، وكيف اشتبه على كثير من الخائضين في الحقيقة هذا الباب بهذا الباب، حتى لم يفرقوا بين الهدى والضلال، والرشاد والغي، والخطأ والصواب، بل آل الأمر بكثير منهم إلى أنهم لم يفرقوا بين الخالق والمخلوق، حتى دخلوا في الحلول والاتحاد الذي هو من أعظم الكفر وأكبر الالحاد، فالأشياء
__________
(1) سورة القلم: 35.
(2) سورة الجاثية: 21.
(3) سورة ص: 28.
(4) سورة هود: 56.

(4/262)


التي هي لله إذا جعلناها له وتقربنا بها إليه بحكم ربوبيته، فليست هذه الإضافة تلك الإضافة، فإن تلك الإضافة إضافتهٌ بحكم ربوبيته، وهذه إضافة إليه بحكم ألوهيته، كما أن لفظ العبد يعني به المعبَّد، فجميع الخلق عباد الله بهذا الاعتبار حتى الكفار والفجار، قال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93)) (1)، وقد يعني به العابد، فيَختص به المؤمنين الأبرار، كما قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) (2)، وقال الشيطان: (وَلَأُغْوِيَنَهُم أَجمعِينَ (39) إِلَّا عبادَكَ مِنهُمُ اَلمُخلَصِينَ (40)) (3)، وقال: (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) (4)، وقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (5)، وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (6)، وقال: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) (7).
وبهذا يظهر الفرق بين قوله: (وَطَهِّر بَيتِيَ) (8) وقوله: (نَاقَةَ الله وَسُقياهَا (13)) (9)، وبين سائر البيوت والنُّوقِ، فإن سائر البيوت
__________
(1) سورة مريم: 93.
(2) سورة الحجر: 42.
(3) سورة الحجر: 39 – 40.
(4) سورة الإنسان: 6.
(5) سورة الفرقان: 63.
(6) سورة الإسراء: 1.
(7) سورة النجم: 10.
(8) سورة الحج: 26.
(9) سورة الشمس: 13.

(4/263)


والنوق وإن كانت ملكًا لله لكن ليست محلَّ عبادتِه وطاعته والصلاة عليه، كالمساجد التي هي بيوت عبادته، لا سيما المسجد الحرام الذي هو بيت الطواف ببيته والعكوف وتضعيف [الأجر فيه]، فالإضافة العامة بحكم الربوبية الخلقية، وهذه الإضافة الخاصة بحكم الألوهية الأمرية. وكذلك الناقة التي جعلها آية له وجعلها من شعائره وحرماته التي يجب تعظيمها، فالفرق بين هذا البيت وبيت الكنيسة مثلاً كالفرق بين المؤمن الذي هو عبد الله والكافر الذي هو خلقه، وهو معبَّدٌ له وإن كان لا يعبده، وكذلك قوله عز وجل: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (1)، وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) (2)، فإضافةُ الأنفال والخمس إليه كالإضافة العامة الثابتة لكل مخلوق، كقوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (3). بل هذه الإضافةُ بحكم أمره ودينِه الذي بعث به رسوله، ولهذا قَرنَ هذا بالرسول، فإنّ أمْرَه الذي أمرَ به ما يُحبُّه ويَرضاه هو ما جاء به الرسول، وهذه الأموال الشرعية التي يحكم بها بأمر الله ورسوله ليست كالأموال التي ملكها لعباده.
ولهم أن يفعلوا فيها ما أحبوا إذا لم يكن محرمًا، ولهذا قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إني والله لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسمٌ أَضَع حيثُ أُمِرْتُ” (4).
__________
(1) سورة الأنفال: 1.
(2) سورة الأنفال: 41.
(3) في مواضع كثيرة من القرآن.
(4) أخرجه البخاري (71 ومواضع أخرى) ومسلم (1037) عن معاوية.

(4/264)


وهذا باب قد نبهنا على أصله، وبينا الفرقَ بين النوعين، وإذا كان كذلك ظهر ضعف القياس الذي قاسَه، وتبين أن الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذا عمل المؤمن من أمته عملاً فله مثل أجره، فإذا أهدى له ثوابه فإنما أهدى له مثل ما حصل للرسول سواء بسواء، وهما من جنس واحد ومقدار واحد، وإنما ملكه الرب لعباده إذا أنفقوه في طاعته، فليس كونه أنفق حيث يحبه ويرضاه مثل كونه مملوكًا ملكًا قدره وقضاه.
يُبيِّن هذا أن الله سبحانه هو يملك الأموالَ المحرمة في الشريعة، فالظالم والغاضب إذا أخذ مالاً فالله هو أيضًا مالكه، وقد ملَّكَه إياه قدرًا لا شرعًا ودينًا، ولو أنفقَ منه لم يتقبل الله منه، كما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن الله لا يتقبل صلاةً بغير طهورٍ ولا صدقةً من غلولٍ” رواه مسلم (1) وغيره، فالنفقة المقبولة لابد أن تكون من مال أُذِنَ في إنفاقه شرعًا، لا يكفي الإذن القدري الكوني، واسم الرزق في كتاب الله يُرادُ به ما مُلِكَ شرعًا ويراد به ما يتنعَّم به الحيُّ، فالأول يختص بالحلال، والثاني يتناول كل ما ينتفع به الحيوان وإن [كان] مما لا يملك كالبهائم، وإن كان حرامًا، فالأول كقوله (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)) (2)، والثاني كقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (3). والقدرية منعوا أن يكون الحرام مرزوقًا
__________
(1) برقم (224) عن ابن عمر. وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 19، 39، 51، 57، 73) والترمذي (1) وابن ماجه (272).
(2) سورة البقرة: 3.
(3) سورة هود: 6.

(4/265)


بناءً على أصلهم في أن الله لم يخلق أفعال العباد، فتناول العبد له ليس عندهم مقدورًا لله، ولا هو ملكه إياه، وهو قول باطل.
فإن قيل ما ذكره المعترض عليه -من كون النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – له مثل
أجور أمته، فلا حاجةَ إلى الإهداء- ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن الابن من كَسْبِ أبيه، ودعاؤه مستثنى من عمله المنقطع، ومع هذا فالابن يتصدق عن أبيه بالسنة والإجماع، وكذلك يحج عنه، بل ويصوم عنه، بالسنة الصحيحة.
الثاني: أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذا حصل له مثل أجر العالم من أبيه أمكن أن يحصل له مثل ذلك أيضًا بطريق الإهداء إليه، فلا منافاةَ بين الأمرين.
قيل عن الأول من وجهين:
أحدهما: أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يجعل للأب مثلَ عملِ جميع أمته، ولا يعلم دليلاً على ذلك، وإنما جعل ما يدعوه الابن له من عمله الذي لا ينقطع، بخلاف الداعي إلى هدى كان له، حصل له مثل أجر المدعوّ، وهذا الفرق ظاهر، وهو أن الداعي إلى هدى أراد إرادة جازمة فعلَ ذلك الهدى بحسب قدرته، وهو لم يقدر إلا على الأمر به والدعاء إليه، ومن أراد عملاً إرادةً جازمة وعمل منه ما يقدر عليه كان بمنزلة العامل له، كما قد بسطنا هذه المسألة في غير هذا الموضع، وبينا فصلَ الخطاب فيما تنازع الناس فيه من الإرادة ونحوها من أعمال القلوب إذا لم يدربه من عمل الجوارح، هل

(4/266)


يترتب عليه عقاب أم لا؟ فمن الناس من جزم بالأول، ومنهم من جزم بالثاني، وقد يحكى ذلك إجماعًا.
واحتجّ هؤلاء بأحاديث الهمِّ (1) ونحوها، وهؤلاء بقوله؟ “إنه أراد قتلَ صاحبه” (2)، وقوله: “فهما في الأجر سواءٌ” (3) ونحوهما.
وقد بينا أن الإرادة الجازمة لابد أن يدربها من عمل الجوارح ما يَقدر عليه العبد، وحينئذٍ فيترتب عليها العقاب، كالذي يَهُمُّ بالذي يتمنى وينظر، ويفعل بعض المحرمات ويترك الباقي عجزًا، كالذي أراد قتل أخيه بذل مقدوره في قتله حتى قتل، بخلاف من هَمَّ ولم يفعل مقدورَه كالذي همَّ بسيئةٍ ولم يفعلها أصلاً، فهذا لا تكون إرادته جازمةً. وكذلك قوله: “فهما في الأجر سواء، وهما في الوزر سواء”، لأن كلاًّ منهما قال بلسانه: لو أن لي مثلَ ما لفلانٍ لفعلتُ فيه مثلَ ما فعل، فلما أراد إرادة جازمة وفعل مقدوره صار كالفاعل.
والله تعالى في كتابه ذكر الفعلَ، وذكر ما يتولَّد عنه، وجعله من عملِ العبد، كما في قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ
__________
(1) منها حديثا أبي هريرة وابن عباس في الصحيحين، انظر صحيح البخاري (42، 6491) وصحيح مسلم (128 – 131).
(2) أخرجه البخاري (31، 6875، 7983) ومسلم (2888) عن أبي بكرة.
(3) أخرجه أحمد (4/ 230، 231) والترمذي (2325) وابن ماجه (4228) عن أبي كبشة.

(4/267)


الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (1)، فهذه الأمور لم يفعلوها، ثم قال: (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ) (2)، فالإنفاقُ وقطع الوادي نفس عملهم، فكتب، وما تقدم أثر عملهم الصالح، فكتب لهم به عمل صالح، كدعاء الولد فإنه أثر عمل الوالد، وإن كان الوالد لم يقصد دعاءه، كما لم يقصد هؤلاء ما حصل من الظمأ والمخمصة والنصب، وأما الداعي إلى الهدى فهو قصد هدى المدعوين ولم يفعلوا ما أمرهم به، وبذل مقدوره في فعلهم، فصار قاصدًا للفعل عاملاً ما يقدر عليه في حصوله، فله أجر الفاعل، وكذلك من سَنَّ سنةً حسنةً ومن سَنَّ سنة سيئةً، والبيان للفعل الذي هو رَسَمَه ليُحتَذَى، فهو يقصد أن يُتَّبع فيه.
فإن قيل: فقد ثبت في الصحيحين (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لا تُقتَل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه أول من سنَّ القتلَ”. وهو لم يقصد أن يقتل كل قاتل.
قيل: هو – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يقل هنا إنَّ عليه مثلَ ألمِ كل قاتل، بل قال: “عليه كِفلٌ من دمها”، لأن ذلك من أثر فعلِه، كما كتب ابتداءً بهذا الفعل، وقد قال تعالى في حق أئمة الكفر: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ
__________
(1) سورة التوبة: 120.
(2) سورة التوبة: 121.
(3) البخاري (3335، 6867، 7321) ومسلم (1677) عن ابن مسعود.

(4/268)


مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)) (1)، وقال: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (2). فما تولد عن فعل العبد يحصل له منه ثواب وعقاب وإن لم يقصده، ولكن حصول مثل أجر العامل فرع أخص من ذلك.
الجواب الثاني، وهو من الوجه الثاني بأن يقال: إذا كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يحصل له مثل أجر العامل، فأهدى له العامل عملاً، فلابدَّ أن يُثابَ العاملُ على إهدائه، فيكون للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بمثل إهداء الثواب أيضًا، فإهداءُ هذا الثواب إن جُوِّزَ لزم التسلسلُ، وإن لم يُجوَّزْ فما الفرق بين عمل وعمل؟ بَخلاف الولد إذا بَرَّ والدَه بدعاءٍ أو صدقةٍ عنه أو نحو ذلك، فإن الله يُثيب الولدَ على ذلك، ولا يلزم أن يحصل للوالد مثل أجر الابن وإحسانه إلى أبيه، لأن الأب لم يدعه إلى هذا الإحسان. ولا يلزم من صلَّى منا أو سلَّم عليه بأن الله يصلّي على المصلِّي عشرًا، ويُسلِّم على المسلم عشرًا، ويحصلُ للرسول مثلُ ذلك لدعائه إلى هذا الهدى، ولا يُفضِي إلى هذا التسلسل، فإن هذا الأجر ليس من عمل المصلي، بخلاف ما إذا أهدى الثواب، فإن إهداء الثواب عمل فيلزم أن يحصل له مثلُه، فإن جوزنا أن يهدى ثواب الإهداء لزم التسلسل. فنحن بين أمرين: إما أن نقول: يُهدَى إليه عملٌ، فيلزم أن يُهدَى إليه ثواب الإهداء،
__________
(1) سورة العنكبوت: 12.
(2) سورة النحل: 25.

(4/269)


وهلم جرًّا، [وهذا] يلزم التسلسل. أو نقول: لا يُهدى إليه، بل ما حصل له من الأجر المساوي لأجر العامل هو غاية المقصود، وعلى هذا لا يحصل التسلسل. وعلى هذا فيقال: لا يُهدى إلى من له مثل ثواب العامل كالنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وكالمعلم للخير من الشيوخ ونحو ذلك، وهذا موافق لطريقة السلف في كونهم لم يكونوا يُهدُون لمثل هؤلاء لا ثواب العباداتِ البدنية ولا المالية.
وأما تضحية علي عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إن صحَّ ذلك فإنه كان بإذنه، كما لو وصَّى بصدقة وغيرها فإنها تنفذُ باتفاق المسلمين، فإن الوصي بمنزلة الوكيل في ذلك، والمُوصِيْ هو العامل لذلك في الحقيقة، كالمستنيب في إيتاء الزكاة وفي ذبح الأضحية وغير ذلك، فليس هذا من هذا، وإنما كانوا يدعون لهم.
ولكن يقال: هَبْ أن هذا مستقيم فيما يعمله الإنسان لنفسه من الفرائض والنوافل، فإذا أنشأ عملاً آخر ليجعل ثوابه لهم فما المانع من ذلك من العبادات البدنية والمالية؟ وهلاَّ كان السلف يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويذبحون عن أئمتهم الذين علّموهم الدين؟
وسيد هؤلاء رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن الصدقة عن الموتى ونحوها تصل إليهم باتفاق المسلمين.
فيقال: الجواب عن هذا هو الجواب عن الأول، وذلك أنهم إذا أَهْدَوا لهم ثوابَ عملٍ وجب أن يكون لهؤلاء أجرٌ على هذا الإهداء، وأن يكون لمن دعاهم إلى هذا الخير وعلَّمهم إياه مثل أجرهم كلى ذلك، وهذا الداعي إلى الخير عَنَى أن يهدى إليه ثواب

(4/270)


العمل، فلم يبق في الإهداء فائدة، بل فيه إخراج العامل الثوابَ عن نفسه من غير فائدة تحصل لغيره، إذِ العامل يثيبه الله على عمله، ويعطي من دعاه إليه مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئًا، فإذا أهداه وبَذَل ثوابه لغيره فإن لم يثب على هذا الإهداء بمثل ثواب العمل كان ذلك ضررًا في حقه، من غير منفعة حصلت للمهدى إليه، لأن هذا العامل فاته ثواب العمل أو كمال الثواب، وذلك المهدى إليه كان قد حصل له مثل هذا الثواب، فلم يحتج إليه. ولو قدرنا أنه يحصل له ثوابه مرتين فلا ثواب يبقى لهذا، فالله تعالى لا يأمر بمثل هذا ولا يشرعه، ولا يأمر أحدًا أن ينفع غيره في الآخرة بغير منفعةٍ تحصل له لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل الله تعالى إنما يأمر بالإحسان لأنه يجزي المحسنين على إحسانهم، والجزاء من جنس العمل، كما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح (1): “من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كُرَبِ الدنيا نفّس الله عنه كربةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومن يَسَّر على مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن سَتَر مسلمًا سَتَره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه”، وقال (2): “من صلى عليّ مرةً صلى الله عليه عشرا”، وقال (3): “ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلاّ وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلَّما دعا لأخيه بدعوة قال
__________
(1) أخرجه مسلم (2699) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه مسلم (408) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه مسلم (2732) عن أبي الدرداء.

(4/271)


الملك الموكل: آمين، ولك بمثل”. والأحاديث في ذلك كثيرة.
وإن قيل: إنه يثَاب على هذا الإهداء مثل ثواب العمل لزم أن يكون لمعلمه مثل ذلك ولزم التسلسل، فصار الأمر دائرًا بين ضرر العامل -والله لا يأمر به- وبين التسلسل في الجزاء على العمل الواحد، وهو ممتنع، فلهذا لم يشرع مثل ذلك.
فإن قيل: فهذا ينقض بدعائه لمن دعاه وعلَّمه ونحو ذلك.
قيل: هذا ونحوه من باب المكافأة، كما في الحديث (1): “من أَسْدَى إليكم معروفًا فكافِئُوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه”. وقد قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ (60)) (2). وهم إذا كافأوا المحسنَ بالدعاء انتفع بدعائهم له، وحصل لهم ثوابُ المكافأة، فحصل له مثل ثوابهم على المكافأة التي دعاهم إليها فلم يتضرر، وإن لم يتسلسل الأمر بل يكون فعلهم المكافأة له لفعله المكافأة لغيره وسائر ما يعملونه من العدل والإحسان الذي دعاهم إليه.
ولهذا جاءت الشريعة في حق نبينا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بالصلاة عليه والتسليم وسؤال الوسيلة له – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تسليما، فنحن إذا صلينا عليه أُثِبْنَا على صلاتنا عليه، وله مثل ذلك الأجر لكونه هدانا إلى ذلك، وذلك من
__________
(1) أخرجه أحمد (2/ 68، 99، 127) والبخاري في الأدب المفرد (216) وأبو داود (1672، 5109) والنسائي (5/ 82) عن ابن عمر.
(2) سورة الرحمن: 60.

(4/272)


المنفعة التي حصلت له بالدعاء. وبهذا تزول شبه تعرض في هذا الموضع، فإن قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “من صلى عليّ مرة صلّى الله عليه عشرا” يوهم أنه يحصل للمصلي أكثر ما يحصل للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مثلها، من جهة كونه دعاه إلى هذا الخير لا من جهة صلاة العبد، ويحصل بصلاة العبد أيضًا ما جعله الله لذلك.
فقد ظهر الفرق بين هذا وبين إهدائه لوالديه ونحوهم، كما أمر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سعد بن عبادة بالصدقة عن أمه ولم يكن واجبًا عليها، إذًا ثبت بالسنة أنه يفعل عن الوالد الواجب وغير الواجب، فقد ظهر الفرق من وجهين:
أحدهما: أنه لم يثبت أن كل عمل يعمله الولد يكون لأمه أو لأبيه مثل أجره، وإنما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إذا ماتَ ابنُ آدم انقطع عملُه إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتَفَع به، أو ولد صالح يدعو له” (1). وفي الحديث الآخر: “إن الرجل إذا قرأ القرآن فإنه يُكسَى والداهُ من حُلَلِ الجنة” (2)، ويقال: بأخْذِ ولدِكما القرآن”، ونحو ذلك مما فيه أن الوالد يحصل له نفع وثواب بعمل ولده، لكن لا يجب أن يكون مثله، ولو كان لكل والد من عمل أولاده لكان لآدم
__________
(1) أخرجه مسلم (1631) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه الطبراني في “الكبير” (20/ 72، 73) والبيهقي في “الشعب” (4/ 556، 557) عن معاذ بن جبل. قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (7/ 160): فيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك، وأثنى عليه هشيم خيرًا، وبقية رجاله ثقات.

(4/273)


من أعمال الأنبياء من ذريته، وكذلك نوح وغيره، وليس كذلك، بخلاف الداعي إلى الخير كنبينا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن له مثل أعمال أمته التي دعاهم إليها، فأجر المعلم الداعي للخير مثل أجر المدعوِّ العامِل، بخلاف الوالد والولد، ولهذا حقّ النبي وخلفائه في دعوته على المدعوين والمعلمين أعظم من حقوق الآباء، كما قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (1)، وفي القراءة الأخرى: “وهو أب لهم” (2).
وقد تكلم الناس في هذا المقام بكلام كثير، قالوا: هذا هو الأب الروحاني، وهذا هو الأب الجثماني، وهذا هو سببٌ للسعادة الأبدية من الدار الآخرة، وهذا سببٌ لوجوده في الدنيا. وبالجملة فالداعي إلى الخير قصد أن يعمل المدعوُّ ذلك الخير، وسعى في ذلك بحسب وُسْعِه، فهو قد قصد العمل الصالح الذي فعله المدعو، أو قصد نفع المدعو، وأما الوالد فقد يقصد هذا وقد لا يقصدهُ، ولو قصده بالدعوة إلى حصول المدعو أقرب من نفس وجود الولد إلى حصول سعادته، فإنها هي السبب القريب ووجود السبب البعيد، ومعلوم أن الإنسان يجب عليه إن يطع معلِّمَه الذي يدعوه إلى الخير ويأمره بما أمره الله به ورسوله، ولا يجوز له أن يطيع أباه في مخالفة هذا الداعي، بل طاعة هذا الداعي طاعة لله ورسوله، وطاعة الوالد لمخالفة هذا الداعي طاعة
__________
(1) سورة الأحزاب: 6.
(2) انظر تفسير القرطبي (14/ 123).

(4/274)


للشيطان، قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (1)، فوصاه سبحانه بوالديه، ثم نهاه عن طاعتهما إذا جَاهَداه على الشرك، فكان في هذا بيان أنهما لا يطاعان في ذلك وإن جاهداه، وأمرَ مع ذلك فصاحِبْهما في الدنيا معروفًا، وأمره باتباع سبيل من أناب إليه، وسبيلُ أهل الإنابة هي سبيل المؤمنين المتقين، أهل طاعة الله ورسوله. فالداعي إلى هذا السبيل هو أمر بما أمره الله به، فيجب عليه طاعته، فإذا أطاعه كان للداعي بمثل أجره. أما الوالد فيصاحبه في الدنيا معروفًا ويُحسِن إليه، وإن من يجب عليك طاعته إلي من تؤمر بمعاشرته بالمعروف والإحسان إليه وتُنهى عن طاعته إذا خالف الأول، فهذا المعلم فأجره أعظم وطاعته أوجب. وأما الوالد فلا يستحق مثل أجر الولد إذا لم يدعه إلى ما عمله، فيكون في الإهداء إليه تحصيل أجر لم يحصل له مثله.
وظهر الفرق الثاني، وهو أنه إذا لم يستحق مثل أجره أمكن أن يهدي إليه الثواب، ويثاب الولد على بِرِّهما بذلك، فيكون له مثل أجر بره لهما، فلا يُفضِي ذلك إلى التسلسل في ثواب العمل الواحد، ولا إلى تضرُّرِ الولد، فلهذا كان مشروعًا مسنونًا، ولو قُدِّر أن المعلم كان والدًا، وعلَّم ولدَه الخيرَ كلَّه، كان له مثلُ أجر عمل
__________
(1) سورة لقمان: 14.

(4/275)


الولد من حيث هو معلم، وله أجر بعمله الصالح، وإن لم يكن مثل أجر الوالد، والولد إذا تصدّق عن هذا من حيث هو والده كان هذا أيضًا مشروعًا لما تقدم.
وتبين بهذا الجوابُ عن الوجه الثاني، وهو قوله “يمكن حصول الثواب للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مرتين” بوجهين أيضًا، أحدهما: أن ذلك يُفضِيْ إلى التسلسل، إذا كان للعامل بإهدائه مثل أجره وإن لم يكن له أجر، فقد تبين بما ذكرناه ما يعلم به جواب السؤال.
وقول القائل “حق النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أوجب من حق الوالد” كلام صحيح، إذ حقه بوجوب طاعته، فله بمثل أجرها بخلاف الوالد كما تقدم.
وأما أزواجه أمهات المؤمنين فلهن من الاحترام ما ليس لأم الوالدة، ويحرم نكاحهن كما يحرم نكاح أم الولادة، لكن أم الولادة ذات محرم يجوز الخلوة بها والنظر إليها والسفر معها، كما يجوز لسائر ذوات المحارم. وأما أمهات المؤمنين فلا يجوز ذلك في حقهن إذ هن أمهات في الحرمة لا في المحرمية.
وأما قول القائل: “هلا فعل ذلك أبو بكر وعمر” فكلام صحيح، وأما قول الآخر “وما يُدرِيك قد فعلَه عليٌّ حينَ ضحَّى عنه” فليس بجواب صحيح، فإنا نعلم أنه لم يكن يفعل ذلك لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، وتضحية عليّ إن صحَّ الحديثُ فيها فإنما فعله بإذنه كما تقدم، ومثل هذا لا نزاع فيه، فإنه من باب النيابة عن الوصي، وقد تقدم أن نفس حديث التضحية ما

(4/276)


يدل على أنه لا يفعل هذا وأمثاله بغير إذنه، فإن في الحديث أن حنش الصنعاني قال: رأيتُ عليًّا يضحِّي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه. فسؤال حنش لعلي دليل على أنه لم يكن من المعروف عندهم أن تُفعَل العباداتُ البدنيةُ أو الماليةُ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجوابُ علي له بقوله “إن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وصاني أن أضحِّي عنه” دليل على أنه إنما فعل ذلك لأجل الوصية، وأنه لو لم يُوصِّه لم يفعل ذلك. ولو كان هذا ونحوه مما يُفعَل بوصية وبغير وصية لكان عليّ يجيب بهذا الجواب أيضًا، فإنه يكون أعم فائدة وأقطع لسؤال السائل، لأنه هو الذي نقل أنه وصاه، وأما كون ذلك يفعل عنه فدليل هذا يشترك فيه عليٌّ غيرَه، ثم كان ينتفع بذلك في جميع العبادات أو في العبادات المالية.
وأما قول القائل: “إن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد دعا الناس إلى الهدى والخير كله، وله أجر كل من اتبعه” فكلام صحيح كما تقدم، لكن قد تقدم فساد هذا القياس وبطلان هذا، وتبين أن كونه سبحانه وتعالى مالكًا لكل شيء وربّه وخالقه لا يستلزم وجود الإيمان والعمل الصالح من العبد إلا بأمره بذلك وبهديه إليه، فإنه سبحانه رب المؤمن والكافر والبر والفاجر، وله الدنيا والآخرة، وهذه الربوبية العامة الشاملة لكل شيء يشترك فيها أولياؤه وأعداؤه، وأهل جنته وناره، وإنما يفترقون في توحيد إلهيته، وهي عبادته وحده لا شريك له وطاعته وطاعة رسوله، فمن قام بهذا التوحيد والطاعة كان مؤمنًا سعيدًا، ومن لم يقم بها كان كافرًا شقيا، وأنه

(4/277)


ربُّ هذا وهذا: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)) (1).
وقد بسطنا الكلام على هذا الأصل العظيم في مواضع كثيرة، وبيّنا ما وقع من غلط الغالطين الذين لم يفرقوا بين الحقائق الكونية المتعلقة بمشيئته، وبين الحقائق الدينية المتعلقة برضاه ومحبته وإلهيته، فإن الحقيقة الكونية أقرَّ بها اليهود والنصارى بل المشركونِ عُبَّادُ الأصنام، كما قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (2)، وقال تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (85) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)) (3).
وكثير من أهل السلوك يشهدون هذه الحقيقة وتوحيد الربوبية، فيظنون أنهم وصلوا إلى الغاية المطلوبة من أهل التحقيق والمعرفة والتوحيد، حتى إن منهم من يكون في الباطن من المعاونين للكفار والفسَّاق بحاله، ويظن أنه متصرف بأمر لمشاهدته الحقيقة الكونية،
__________
(1) سورة الإسراء: 18 – 20.
(2) سورة لقمان: 25، سورة الزمر: 38.
(3) سورة المؤمنون: 84 – 89.

(4/278)


ومنهم من يظن أنه من وصل إلى مشاهدة هذه الحقيقة سقط عنه الأمر والنهي الشرعيان، ومنهم من قد يتوهم أن وجود الخالق هو المخلوق فيقع في وحدة الوجود، فيكون في أول أمره يقول (1):
الربُّ حقّ والعبد حقّ يا ليتَ شِعْرِيْ مَنِ المكلَّفْ
إن قلتُ عبدٌ فذاك ربٌّ أو قلت ربّ أنَّى يُكَلَّفْ
وفي آخر أمره يقول: فالآمر الخالق المخلوق، والآمر المخلوق الخالق، والعلم والعالم هويته وصورته، وهو الموصوف بكل مدح وذم وكل جمال وكل نقص، وأمثال ذلك مما قد عُرِفَ من كلام هؤلاء الملحدين الذين يقولون من الكفر ما لم يقله اليهود ولا النصارى ولا عُبَّاد الأصنام، ويدَّعون أن هذا تحقيق وعرفان وتوحيد.
وأصل ذلك عدم الفرق بين ما يحبه ويرضاه وما لا يحبه ولا يرضاه، وإن كان قد قدَّره وقضاه، فيجعلون المخلوقات متساوية، ثم يسوُّون بين الخالق والمخلوق، ويجعلونه إياه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، ولهذا يُفرق بين عباد الله: بين العبد الذي عبد الله بقدرته ومشيئته وربوبيته، وبين العابد الذي عبد الله فعبده وحده لا يشرك به شيئا، وأطاع أمره الشرعي الديني، فالأول كقوله تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93)
__________
(1) انظر الكلام على البيتين وبيان ما فيهما من الإلحاد في “مجموع الفتاوى” (2/ 111 – 120).

(4/279)


لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94)) (1)، والثاني كقوله: (إِنَ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلْطَان) (2)، وقوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (3)، وقوله: (عَينًا يشرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)) (4)، وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (5)، (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) (6)، (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) (7)، (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)) (8).
وقد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام في الفرق بين الإرادة الكونية والدينية، كقوله (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (9)، وقوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (10)، وبين الأمر الكوني والديني، والإذن الكوني والديني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني، وكذلك القضاء والحكم والكتاب والتحريم وغير ذلك مما يفرق به بين الحقائق الدينية الإيمانية
__________
(1) سورة مريم: 93 – 94.
(2) سورة الحجر: 42، سورة الإسراء: 65.
(3) سورة الفرقان: 63.
(4) سورة الإنسان: 6.
(5) سورة الإسراء: 1.
(6) سورة الجن: 19.
(7) سورة البقرة: 23.
(8) سورة النجم:10.
(9) سورة البقرة: 185.
(10) سورة الأنعام: 125.

(4/280)


القرآنية النبوية الشرعية الإلهية الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، والحقائق الكونية الوجودية الخلقية القدرية الملكية.
فإذا عُرِف هذا فتَقرُّبُ العباد بفعلِ ما أمرهم من صلاة وصدقة وغير ذلك مما يحصل لهم من الإيمان والعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه ما يحصل ويستحقون به الثواب في الدنيا والآخرة، وليس بحاصل من مجرد كون الأشياء مخلوقة له، بل إنما يحصل من جهةِ أمره لما يحبه ويرضاه، وإرساله الرسل بذلك وإنزاله الكتب، ودعوتهم للعباد إلى ذلك، ثم هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم.
والتقرب إلى الله بالأعمال وطاعته منها ليس من جنس طاعة المخلوق المملوك لمالكه من وجوه كثيرة، أحدها أن الأمر كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجةً إليه ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً به، وإنما أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وأما السيد والملك فهو يأمر عبده وجنوده بما هو محتاج إليه. وفي الحديث الصحيح الإلهي (1) يقول الله: “يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني”. وفيه: “يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسَه”.
وقد قال سبحانه وتعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (2)،
__________
(1) أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر.
(2) سورة فصلت: 46، سورة الجاثية: 15.

(4/281)


وقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (1)، قال لقمان: (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (2)، وقال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) (3).
فهو سبحانه يبين غناه عن أعمال خلقه، وأنهم إنما يعملون لأنفسهم، وإنما هو سبحانه لكمال إحسانه وإنعامه على عباده المؤمنين أمرهم بالجهاد، وأمرهم بالصدقة، وأخبر أن ذلك نَصْرٌ له، وإقراضٌ منه، فقال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) (4)، وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) (5)، وهم إنما يجاهدون ويتصدقون بإعانته لهم، وهو المحسن بالأمر إليهم، وهو المحسن بالإعانة لهم، وهو المحسن بالجزاء لهم، وقد قال تعالى (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (6).
وكذلك لو شاء أن يغني الفقراء فلا يقترض لهم من الأغنياء ما يثابون عليه إذا أعطوه لهم، وهذا النصر له والقرض بحكم إلهيته المتضمنة لعبادته وحده لا شريك له وطاعته طاعة رسوله، ثم الذي هو يخلق ذلك ويُبَشِّره بحكم ربوبيته، فله الحمد في الأولى
__________
(1) سورة الإسراء: 7.
(2) سورة لقمان: 12.
(3) سورة آل عمران: 97.
(4) سورة محمد: 7.
(5) سورة البقرة: 245، سورة الحديد: 11.
(6) سورة محمد: 4.

(4/282)


والآخرة، وله الحكم وإليه يرجعون. لا رب غيره ولا إله إلا هو، كما أنه هو المنعم بالنعمة، والمنعم بالشكر عليها، والمنعم بجزاء الشاكرين. ولهذا التوحيد أسرار علويةٌ مذكورة في غير هذا الموضع، تتعلق بتحقيق مسائل الصفات والشرع والقدر ليس هذا موضعها، قد نبهنا إليها في غير هذا الموضع.
فمن سوى بين … (1) كان من جنس الذين قال فيهم (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) (2)، فإن هؤلاء المجادلين جعلوا اقتراضه كاقتراض المخلوق من المخلوق لحاجته، وكيف يقترض من هو خالق المقترض والمقرض وخالق أعيان ذلك وصفاته وأفعاله، فمن جهة الربوبية العامة الشاملة للبر والفاجر جمع المقرض، ولكن تصح من جهة الألوهية التي أقر بها أهل التوحيد الذين يشهدون أن لا إله إلا هو، وأنه المستحق للعبادة والطاعة دون من سواه، فيكونون عابدين له بالجهاد، ولهذا كان الكفار رحمة في حق المؤمنين الذين جاهدوهم فنالوا بجهادهم أعلى الدرجات، وكذلك وجود الفجار في حق من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر حتى ينال أعلى الدرجات. وكذلك وجود الفقراء في حق الأغنياء الذين بهم حصل لهم ثواب الصدقات، والله قد ابتلى بعضنا ببعض، فمن أعانه على أن أطاعه في الابتلاء كان الابتلاء رحمة في
__________
(1) بياض في الأصل بقدر كلمة.
(2) سورة آل عمران: 181.

(4/283)


حقه، بخلاف من خذله فعصاه. ويشهد لهذا الحديثُ الذي في صحيح مسلم (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن بقضاءٍ إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سَرَّاء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضَرَّاء فصبر كان خيرًا له”. فالمؤمن الذي منّ الله عليه بالشكر والصبر يكون جميع القضاء خيرًا له، بخلاف من لم يشكر ولم يصبر.
الوجه الثاني من الفرق: أن الله إذا أمر العباد بأمر فهو الذي يعينهم على طاعته فيه، فهو الآمر، وهو الخالق للمأمور والمأمور به لذاته وصفاته وأفعاله، فله الحمد في خلقه وأمره، والعبد إذا أمر العبد كأمر السيد عبده فهو محتاج إلى ما أمره به، وليس هو خالق أفعاله، بل إنما يفعله العبد بإعانة الله له، ولكن على السيد نفقته وكسوته بالمعروف، فالأمر بينهما فيه معاوضة. وكذلك معاملة المخلوق للمخلوق فيها معاوضة من الطرفين، هذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، وهذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، حتى تتم مصلحتها في الدنيا والآخرة، والخالق تعالى هو المعين للجميع، الخالق المحسن إلى الجميع، وأعظم نعمته عليهم أن أمرهم بالإيمان وهداهم إليه، فهؤلاء همِ أهل النعمة المطلقة المذكوريِن في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (7)) (2)، كما قال تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ
__________
(1) برقم (2999) عن صهيب، مع اختلاف في اللفظ.
(2) سورة الفاتحة: 6 – 7.

(4/284)


أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (1).
الوجه الثالث: أن الله سبحانه منَّ عليهم بالثواب على العمل وينعم عليهم بذلك، والعبد إذا عمل لسيده لم ينتظر ثوابًا غير ما يستحقه من النفقة عليه.

فهذا القائل الذي قال: “الكون كله له، ونحن نتقرب إليه منه بشق تمرة”، وقاس على هذا أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يكون له مثل أجرنا ويهدي إليه من ذلك ما يهديه، غالطٌ غلطًا عظيمًا. بل حقيقة هذا القول يؤدي إلى الكفر العظيم. وإن كان هذا الذي قاله لم يَفْطَنْ لما يؤدي إليه، حيث جعل حصول الثواب المُهدَى إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بمنزلة الصدقة التي يتقبلها الله، فجعل وصول ثواب الأعمال إلى المخلوق بمنزلة ما يتقرب به إلى الخالق من صدقة وغيرها، وأين هذا من هذا؟ كل مخلوق فهو محتاج إلى الله مفتقر إليه، والحاجة والفقر للمخلوق وصف لازم، لا يفارقه لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل العبد محتاج إلى الله من جهة ألوهيته ومن جهة ربوبيته، فهو محتاج إلى أن يعبد الله لا يعبد غيره، ومحتاج إلى أن يستعيِن بالله لا يستعين بغيره، كما قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) (2)، فإن لم يعبده بل عبدَ غيرَه أو أعرضَ عن العبادة خَسِرَ الدنيا والآخرة، وإذا وجبه سبحانه على عبادته لكان مخذولاً لا يقدر لعبده، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،
__________
(1) سورة النساء: 69.
(2) سورة الفاتحة: 5.

(4/285)


ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجأ إلا إليه.
ولهذا قيل: إن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جعل سرَّها في الكتب الأربعة، وجعل سرّ الأربعة في القرآن، وسرّ القرآن في المغصل، وسرِّ المفصل في الفاتحة، وسرّ الفاتحة في (إِيَّاكَ نَعْبدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). وهذه هي التي نصفها للرب ونصفها للعبد، فإن العبادة حقّ لله، كما قال في الصحيحين (1): إنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ “، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ “، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “حقهم عليه أن لا يعذِّبَهم”.
والكلام في استحقاقه العبادة لها أسرار ليس هذا موضع بسطه، وإذا كان العباد كلهم فقراء إلى الله، والله يرحمهم بما يشاء من الأسباب، ومن ذلك دعاء بعضهم لبعض، وإحسان بعضهم إلى بعض، وإن كان هو سبحانه يثيب الداعي والمحسن، والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، وليس في هذا غضاضة بالأعلى، فإن الله هو الذي أمر الأدنى بالدعاء كما أمرنا بالصلاة والسلام على خير الخلق، وهو الذي يثيبنا على ذلك بالحسنة عشرا للأمة على النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل لله عليه أكمل المنة والنعم، ونعمة الله عليه أعظم نعمة أنعم بها على مخلوق – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما منَّ به علينا من الثواب على الصلاة عليه وسائر أعمالنا فقد منَّ عليه بمثله، لدعائه
__________
(1) البخاري (2856، 5967، 6267) ومسلم (30).

(4/286)


لنا إلى ذلك، مضافا إلى ما منّ به عليه من أجر عمله.
والخالق سبحانه إذا تقربنا إليه بأن نتصدق على العباد بشق تمرة فذاك إحسان منا إلى أنفسنا، وهو الذي أعاننا على ذلك، وإذا كان هو يحب ذلك ويرضاه بل يفرح بتوبة التائبين كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، فحبه ورضاه وفرحه لمخلوق عليه منه منة، فإنه الذي خلق ذلك كله، بل له النعمة على المخلوق الذي أنعم عليه بذلك. كان – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول عقيب الصلاة (1): “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون”.

فعلى العبد أن يلاحظ التوحيد والإنعام، قال تعالى: (فادعُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين) (2)، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)) (3) فالخالق سبحانه ليس محتاجًا إلى المخلوق بوجه من الوجوه، بل هو الغني عنه، وما أحبه ورضيه وفرح به من أعمال العباد فهو الذي خلقه سواء كان صدقة أو غير صدقة، والمخلوق سواء كان نبيًّا أو غير نبي هو محتاج إلى الخيرات، والله هو الذي يعينه بأسباب يُيَسِّرها، وإذا ساق إليه خيرًا على يدي العباد أثاب العباد على ذلك، فما يسوقه على يَدَيِ العباد من النفع بصلاتهم عليه وسلامهم
__________
(1) أخرجه مسلم (594) عن ابن الزبير.
(2) سورة غافر: 65.
(3) سورة الفاتحة: 2.

(4/287)


عليه ومسألتهم له الوسيلةَ ونحو ذلك هو خالقه، وهو مُجازِي العباد، والله غني عن كل ما سواه، وهو الخالق لكل ما يحبه ويرضاه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ فمن شبه الله بخلقه فقد كفر.
ومثل ذلك مثل المشركين والنصارى ومن ضاهاهم من ضُلاَّل هذه الأمة الذين يجعلون التقرب إلى الله بمنزلة التقرب إلى الملوك، ويقولون إذا كان المتقرب إلى الملوك يحتاج إلى وسائلَ ووسائطَ وشُفعاءَ من خواصِّ الملك، فكذلك المتقرب إلى الله، على هذا بَنَتِ الصابئةُ والنصارى وغيرهم دينَهم الفاسد، وهذا أصل عظيم، فإن العباد إنما يحتاجون إلى الوسائط في تبليغ أمر الله ونهيه وخبره، وهو سبحانه قد أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وأما وجود الأعمال منهم والثواب على الأعمال فالله خالق ذلك، لا يحتاج فيه إلى رسول، لكنه قد خلقه بأسباب وهو يخلق الأسباب، فالرسل ليسوا أسبابًا في خلق ذلك، وإنما هم أسباب في تبليغ الرسالة.
ولهذا قيل لأفضل الرسل: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)) (1)، وقال: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) (2)، وقال تعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (3)،
__________
(1) سورة القصص: 56.
(2) سورة النحل: 37.
(3) سورة الأنعام: 50.

(4/288)


(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) (1)، وأنواع ذلك مما يحقق فيه أنه عبد الله، مطيع لربه، مبلِّغ لرسالته، وأن الله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويهدي ويضل. كما كان يقول في دبر الصلوات: “اللهمّ لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا مُعطيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ” (2). وكان ما فعله رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هو أكمل المقامات، وأعلى الدرجات، وهو بذلك سيد ولد آدم، وخير الخلق، وأكرمهم على الله، إذ ليس بين الخالق والمخلوق إلا نسبة العبودية، فمن كانت عبوديته لله أكمل كان عند الله أفضل، (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)) (3)، (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (4).
فبين أن المخلوق ليس له ملك، ولا شريك في الملك ولا ظهير يعين الملك، بل غايته الشفاعة عند الله، ولكن الشفاعة لا
__________
(1) سورة الأعراف: 188.
(2) أخرجه البخاري (844 ومواضع أخرى) ومسلم (593) عن المغيرة بن شعبة.
(3) سورة النساء: 172.
(4) سورة سبأ: 22 – 23.

(4/289)


تنفع إلا لمن أذن له، (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)، (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى (28)) (1).
ولهذا كان سيد الشفعاء – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذا جاء الخلائق يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم فيعتذر، ثم يطلبونها من نوح، ومن إبراهيم، ثم موسى، ثم من عيسى، فيقول: اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: فأذهب إلى ربي، فإذا رأيت ربي خررتُ ساجدا، فأحمد ربي بمحامدَ يفتحها عليّ لا أُحسِنُها الآن، فيقول: أي محمد، ارفعْ رأسَك، قُلْ تُسمعْ، وسَلْ تُعطَه، فأشفع” (2). فبين – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه. إذا أتى ربه لا يشفع حتى يؤذن له، بل يبدأ بالسجود لله، والثناء عليه، فيأذن له ربه في الشفاعة.
وهذا باب واسع. فإنهم شبهوا الخالق بالمخلوق، وشبهوا المخلوق بالخالق، فجعلوا إهداء الهدية إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بمنزلة الهدية إلى الله، وكأنهم يتقربون إلى النبي كما يتقربون إلى الله، فجعلوا المخلوق كأنه الرب الغني عنهم المجازي لهم على أعمالهم،
__________
(1) سورة الأنبياء: 26 – 28.
(2) متفق عليه من حديث أنس وأبي هريرة ضمن حديث الشفاعة الطويل. انظر صحيح البخاري (4712، 7510 ومواضع أخرى) وصحيح مسلم (193، 194).

(4/290)


وجعلوا الربً محتاجًا إلى عباداتهم، مفتقرًا إلى صدقاتهم، وإنهم يبغون ضره ونفعه، وهذا دين المشركين والنصارى، بل المؤمن يعلم أن كل ما يعمله من الخير مع أنبياء الله وأوليائه فإنما يطلب أجره من الله لا منهم، والمؤمنون الذين أولهم أبو بكر الصديق إنما يطلب أجر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم وصدقاتهم من الله لا من – مخلوق، ولله يعملون لا لمخلوق، وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث المتفق عليه (1): “إن أَمنَّ الناسِ عَليَّ في صحبته وذاتِ يدِه أبو بكر، ولو كنتُ متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلا”.
قال تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)) (2).
وهذه الآية نزلت في الصديق (3)، وإن كانت متناولة لغيره، فإنه قد يُرادُ بها قطعًا، وهي مما استدل به أهل السنة على أنه الأتقى، فيكون أكرم الخلق من هذه الأمة، كقوله (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (4)، قالوا: ولا يجوز أن تكون نزلت في على دونه، لأن عليًّا عليه السلام كان فقيرًا في كفالة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَفَلَه لمَّا وقعتْ بمكة المجاعةُ، فبعث الله نبيه وعليٌّ عنده صغير في كفالته، فآمن به كما آمنت به خديجة، ولم يكن له مالٌ ينفقه عليه.
__________
(1) البخاري (3954) ومسلم (2382) عن أبي سعيد الخدري.
(2) سورة الليل: 17 – 20.
(3) انظر تفسير الطبري (30/ 146) وابن كثير (4/ 556).
(4) سورة الحجرات: 13.

(4/291)


وأما أبو بكر فكان رجلاً بالغًا مُوْسرًا، فأعانه بنفسه وبماله، كما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن أمنَّ الناسِ علينا في صحبته وذاتِ يده أبو بكر” (1)، وإن كانت نفقة أبي بكر في سبيل الله، لم تكن في مؤنة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان مستغنيًا في نفقة نفسه عن أبي بكر وغيره، ولكن أعانه بالنفقة في سبيل الله، حيث اشترى سبعةً يعذَّبون في الله منهم بلال وغيره، وفعلَ غير ذلك.
والمقصود هنا أن الأعمال لا تُعمَل إلا لله، ولا يُطلب أجرُها إلا من الله، وإن وصل بها نفع عظيم إلى الأنبياء وغيرهم، فالله هو المعبود، والرسل دعوا إلى عبادة الله وطاعتهم، وبينوا أن الجزاء على الله لا عليهم، قال تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)) (2)، وقال تعالى: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)) (3)، وقال: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)) إلى قوله (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)) (4). وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا دماءهم وأموالَهم إلاّ بحقها، وحسابُهم على الله” (5).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سورة الرعد: 40.
(3) سورة يونس: 46.
(4) سورة الغاشية: 21 – 26.
(5) البخاري (2946) ومسلم (21) عن أبي هريرة.

(4/292)


وكثير من أهل الجهل والضلال يطلبون جزاء أعمالهم من أولياء الله أو أنبيائه، كأنهم يعبدونهم أو كأنهم عملوا لأجلهم، وإنما هم لهم دعاة وهداة ومرشدون ومعلمون، ومعينون لهم على الخير بحسب ما يمكنهم من دعاء وغير دعاء، يطلبون أجرهم من الله لا ممن دعوه وأعانوه، ولهذا كان كل من الرسل يقول: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)) (1) وقال:) (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)) (2)، وهذا الاستثناء منقطع، وكذلك الاستثناء في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (3).
كما قد فسر ذلك ابن عباس، وحديثه في الصحيحين (4).
وكذلك من عمل صالحًا ينتفعون به من ذكر وأنثى فإنما يطلب أجره من الله، فنحن كل خير نفعله هو ببركة دعوة الرسول لنا إلى الخير، وأجرنا في ذلك على الله لا على غيره، وله مثل أجورنا من الله لا منا، ولهذا أمرنا عند زيارة القبور أن نسلِّم عليهم وندعو لهم كما نصلي على جنائزهم، ويكون أجرنا في ذلك على الله، لا من صلينا على جنازته ولا على من زرنا قبره، ويكون رغبتنا إلى الله، كما قال تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)) (5).
__________
(1) سورة الشعراء: 109، 127، 145، 164، 180.
(2) سورة الفرقان: 57.
(3) سورة الشورى: 23.
(4) رواه البخاري (4818)، ولم أجده عند مسلم.
(5) سورة الشرح: 7 – 8.

(4/293)


ولكن كثير من أهل الضلال صار يُشبه النصارى، فيُنزل المخلوق بعد موته بمنزلةِ الخالقِ، يطلب منه ماَ يطلب من الخالق، ويتقرب إليه بالهدية وغيرها، يَطْلُب الثوابَ منه كما يطلب من الخالق، وهذا إنما يفعل بالأنبياء والأولياء بعد موتهم، لأنهم في حياتهمِ لا يمكنون أحدًا من الإشراك بهم، كما قال المسيح: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)) (1)، وقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2)، فمن اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فهو كافر.
ولهذا كان خاتم الرسل المبعوث بملة إبراهيم قد أقام الملَّة الحنيفية كما نعت ذلك في الكتب المتقدمة، وثبت ذلك في الصحيح (3): “إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، لستَ بفظّ ولا غليظٍ ولا صخّاب بالأسواق، ولا تَجزِيْ بالسيئة السيئةَ، ولكن تَجزِي بالسيئة الحسنةَ والعفوَ، ولن أقبضه حتى أُقيمَ به الملةَ العوجاء، فأفتح به أعينًا عُمْيًا وآذانًا صفا وقلوبًا غُلْفًا، بأن يقولوا: لا إله إلا الله”.
__________
(1) سورة المائدة: 117.
(2) سورة آل عمران: 79 – 80.
(3) البخاري (4838) عن عبد الله بن عمرو بن العاص نقلاً عمَّا في التوراة.

(4/294)


وفي الصحيح (1) أنه قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تُطروني كما أَطْرَتِ النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله”.
وفي الصحيح (2) أيضًا: أنه قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”. يحذر ما فعلوا، قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا”.
وفي الصحيح (3) أنه قال قبل أن يموت بخمسٍ: “إنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ [مساجدَ]، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك”. وفي السنن (4) عنه أنه قال: “لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تتخذوا قبري عيدا، وصلُوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم”.
وقد ثبت عنه في الصحيحين (5) أنه قال: “لتركبِن سَنَنَ من كان قبلكم حذوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: “فمن؟ “.
وقد شرحنا هذا الحديث وتكلمنا على جمل ما وقع في ذلك من مخالفة الصراط المستقيم في غير هذا الموضع (6). والمقصود
__________
(1) البخاري (3445، 6830) عن عمر بن الخطاب.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق.
(4) سبق.
(5) البخاري (3456، 7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري.
(6) يشير إلى كتابه “اقتضاء الصراط المستقيم”.

(4/295)


هنا أن النصارى فيهم إشراكٌ وغلوّ وابتداع، قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (1)، وقال تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّه) (2)، وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (3)، وقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)) (4).
فصار في كثير من الضلال في هذه الأمة إشراكٌ وغلو وابتداع، كما أخبر به النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهؤلاء الذين يعملون العبادات ويهدونها إلى الأنبياء والأولياء بعد موتهم طالبين الأجر من أولئك الذين يهدونها إليهم، كما يطلبون الأجر من الله فيما يتقربون به إليه من الصدقة وغيرها من الأعمال، فيهم إشراك وابتداع وغلو، أما إشراكهم فقد ضَاهَوا المخلوق بالخالق، وأما ابتداعهم فإن هذا العمل لم يَسُنَّه لهم رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ولا خلفاؤه الراشدون.
__________
(1) سورة التوبة: 31.
(2) سورة الحديد: 27.
(3) سورة النساء: 171.
(4) سورة المائدة: 77.

(4/296)


وقد ثبت عنه في الصحيحين (1) أنه قال: “من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ”. وقال (2): “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعة ضلالة”. والغلو حيث جعلوا في البشر شَوبًا من الربوبية والإلهية والغِنَى عن صاحبه إلى زيادة النفع مضاهاة للنصرانية، وهم في تقربهم إلى غير الله بالعبادات والأعمال يشبهون المتوكلين على غير الله المستعينين بغير الله.
والله تعالى له حقوق لا يشركه فيها غيرُه، ولرسله حقوق لا يشركهم فيها غيرُهم، وللمؤمنين بعضهم على بعض حقوق، كما قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)) (3)، فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، والتسبيح بكرةً وأصيلاً لله وحده، وقال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)) (4)، فالطاعة لله والرسول، والخشية والتقوى لله وحده، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)) (5)، فالإيتاء لله والرسول. كما قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
__________
(1) البخاري (2697) ومسلم (1718) عن عائشة، واللفظ لمسلم.
(2) سبق.
(3) سورة الفتح: 8 – 9.
(4) سورة النور: 52.
(5) سورة التوبة: 59.

(4/297)


نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (1)، فإن الرسول يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه، ويأذن فيما أذن الله. قال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) (2)، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (3).
وأما التوكل فعلى الله وحده، فلهذا قالوا: حسبنا الله، ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، كما قالوا: سيؤتينا الله من فضله ورسوله، فإن الحسيب هو الكافي، والله وحده كافي عبادِه، كما قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (4)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)) (5)، أي الله كافيك وكافي المؤمنين المتقين، [هذا] الذي اتفق عليه السلف. ومن ظن أنه معناه “أن الله والمؤمنين يكفونك” فقد غلط غلطًا عظيما من وجوه كثيرة في اللغة والتفسير والمعنى، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع، وهذه القواعد كلها مبسوطة في غير هذا الموضع، والمقصود هنا أن الإشراك أن يُجعَل لله نِدٌّ فيما يختص به من العبادة أو التوكل، ومن البدعة أن يُعبَدَ الله بعبادة لم يَدُلَّ عليها دليلٌ شرعي. ومن الغلو أن يُرفع المخلوقُ إلى درجةِ الخالق.
__________
(1) سورة الحشر: 7.
(2) سورة النساء: 80.
(3) سورة النساء: 64.
(4) سورة الزمر: 36.
(5) سورة الأنفال: 64.

(4/298)


وأصل الإسلام مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع. كما قال الفضيل ابن عياض في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (1) قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، فهذه العبادات التي فيها شركٌ وغلو ولم تثبت بدليل شرعي، لا هي خالصة لله ولا هي على موافقة السنة، فهي منهي عنها من هذين الوجهين.
وهؤلاء الذين ابتدعوا إهداءَ العبادات إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يجتمع فيهم هذا وهذا، وإن تخلَّصوا من الإشراك والغلو لم يتخلَّصوا عن الابتداع، فإن هذا عمل مبتدع لمِ يقم على استحبابه دليل شرعي.
وقد بيَّنا فسادَ ما احتجّ به من سَوَّغه، وإنا لم نعلم أحدًا من القرون الثلاثة المفضلة فعلَ مثلَ هذا. والمجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر، لكن إذا تبين الحق وجبَ اتباعُه. والله أعلم.
__________
(1) سورة هود: 7، سورة الملك: 2.

(4/299)


مسألة
فيمن قال: إن إبليس أودعَ وَلَدَه لآدم عليه السلام، وأنّ آدم طرده مرتين، وبعد الثالثةِ ذَبَحَه وسَلَقَه، وأكله، فلهذا يَجري الشيطان في ابن آدم مجرى الدم. وهل عُرِضَ على إبليسَ أن يسجد عند قبرِ آدمَ أو يُعْرَضُ عليه في القيامة؟ وفي قوله تعالى (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً (40)) (1) هل هذا القولُ عن الكافر خاصَّةً -وهو إبليس- أو عن الكفّار؟
الجواب
أما الحديث المذكور عن آدم عليه السلام فمن أقبح الكذب والبهتان، لا يقولُه أحدٌ من العقلاء فضلاً عن أهل العلم والإيمان.
ولم يذكر هذا أحدٌ من أهل العلم والدين، وإنما يَروِي هذا أو يُصدِّقُه أجهلُ العالمين.
وأكلُ الشيطان إذا كان من الممكنات هو من أعظم المحرَّمات، فإن الله تعالى قد حرَّم الخبائث من الحيوان -كالخنزير وغيره- على آدم وذريته، كما حرَّم علينا مع ذلك كلَّ ذِي نابٍ من السباع، لأنَّ
__________
(1) سورة النبأ: 40.

(4/300)


هذه البهائم فيها البغيُ والعدوان الذي هو وصف الشيطان، فنهَى الله تعالى عن أكلِها لئلا يَصِيرَ في أخلاق المسلمين البغيُ والعدوانُ الذي هو بعض أوصاف الشيطان. فكيف يأكل الشيطان الذي هو جامعٌ لكل خبيث؟ ولو كان الشيطان مما يُؤكَل فهل في كل الشيطان إلاّ شيطان؟ وبالجملة فمثلُ هذا الكلام يَستحقُّ من يقولُه أو من يُصدِّقُه العقوبة البليغة التي تَردَعُه وأمثالَه.
وأما عَرضُ السجودِ لقبرِ آدم عليه السلام على إبليس فهذا قد ذكره بعضُ الناس، لكن ليس له إسناد يُعتَمد عليه. وأما عرضُ السجود له على إبليسَ في الآخرة فلم يذكره أحدٌ مما علمتُه.
وكلاهما باطل وإن قاله من قاله؛ فإن الله تعالى قد أخبرَ عن إبليسَ بما أخبرَ به من إنظارِه وإغوائِه الذرّيّة، وقوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)) (1)، وأخبر أنه عدوّ لهم بقوله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (2)، (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)) (3). وأخبرَ بما يكون من الشيطان يوم القيامة حيث قال: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي
__________
(1) سورة ص: 85.
(2) سورة الكهف: 50.
(3) سورة يس: 60 – 61.

(4/301)


كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (1). وهذا وأمثالُه مما يُبيّن أن الشيطان حَقَّتْ عليه كلمةُ العذاب، وقد ظهر ذلك للخلق، ولا يُحتاجُ إلى إعادةِ ذلك الأمر كما لا يحتاج إعادة الأمر.
وأما قوله: (وَيَؤمَ يَعَضُّ الظَالِمُ عَلَى يَدَيه) (2)، (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً (40)) (3)، فالكافر اسم جنس، ليس كافرًا بعييه، بل قد جاء في الحديثِ: “إن البهائمَ يُقتَصُّ بعضُها من بعضٍ، ثم يقال لها: كوني ترابًا” (4)، فأعيدت البهائم إلى أصلها. وأما إبليس فهو مخلوقٌ من مارجٍ من نارٍ، وذلك لا يناسب عودَه إلى التراب.
__________
(1) سورة إبراهيم: 22.
(2) سورة الفرقان: 27.
(3) سورة النبأ: 40.
(4) أخرجه أحمد (2/ 363) عن أبي هريرة.

(4/302)


مسألة
في رجل قال لزوجته: على الطلاق ما تَروحِيْ لبيتِ أبوكِ (1) لسنةٍ، فلحت عليه، قال: عليَّ الطلاق ما تروحي لبيت أبوكِ (1) لسنةٍ، فلحت عليه، قال: علي الطلاق ما تروحي لبيتِ أبوك (1) لسنة، فجاءت أمُّ الزوجة، فقالت لها: قُومِي الدار، فقالت: ما أقدِرُ أروح، فغَصَبَتْها أمُّها وأخذتْها، وراحتْ إلى دار أبيها من غيرِ رضيً منها ولا إذن الزوج، فهل تقع الثلاث أو واحدة؟ وهل يكون تَأثيرًا (2) لإكراهها في الخروج بغير رضاها؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
الحمد لله. إذا أخرجتْها مكرهةً ولم تقدرْ أن تمتنعَ لم يحنث الحالف، ولو قَدَرَتْ أن تمتنع، واعتقدت أن الإخراج الذي أخرجته ليس محلوف (3) عليه، فلا تكون مخالفةً له به، لم يحنث الحالف أيضًا. وأما إذا فعلَتِ المحلوفَ عليه عالمةً فإنه يحنث.
__________
(1) كذا في الأصل بالرفع ملحونًا من السائل.
(2) كذا في الأصل منصوبًا، وهو لحن من السائل، والصواب الرفع.
(3) كذا في الأصل، والصواب “محلوفًا”.

(4/303)


ثم إن كان نوى بتكرير اليمين توكيدَها لم يقع به أكثر من طلقبة، وإن كانت أيمانًا ففيه قولان: هل يقع به ثلاث أو واحدةٌ، والأظهر أنه لا يقع به إلا واحد، فإنه لو كرَّر اليمين بالله على فعلٍ واحدٍ لأجزأتْه كفارةٌ واحدة في أصحّ القولين. ولكن وقوع الثلاث هو المشهور عن أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وفرَّقوا بين اليمين (1) بالله وبين الطلاق. والله أعلم.
__________
(1) تكررت في الأصل “بين اليمين”.

(4/304)


فصل
ما ضُمِن بالعقد الصحيح ضُمِن بالعقد الفاسد، وما لم يُضمَن بالعقد الصحيح لم يُضمَن بالعقد الفاسد. والضمانات ثلاثة ضمانات:
ضمان العقد، كالنكاح والإجارة وما أشبههما.
وضمان اليد، الغصب والخؤنة (1) وما أشبههما.
وضمان الإتلاف. كلُّ من أتلفَ لغيرِه بمباشرةِ أو سببٍ محرم وما أشبهها. والله أعلم.
__________
(1) كذا في الأصل، ويبدو أنها بمعنى الخيانة، ولم أجدها في المعاجم.

(4/305)


مسألة
في رجلِ قال: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين”، فقال له آخر: هذا ما هو صحيح.
الجواب
الحمد لله. ليس هذا الحديث بصحيح، وليس هو في شيء من كتب المسلمين المعروفة، وإنما الحديث المعروف عن مَيْسَرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله! متى كنتَ نبيًّا؟ وفي لفظٍ: متى كُتِبْتَ نبيًّا؟ قال: “وآدم بين الروح والجسد” (1). وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إني كنتُ مكتوبًا عند الله خاتمَ النبيين وإنَّ آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأنبئكم بأوّل ذلك، دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني أنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصورُ الشام” (2).
__________
(1) أخرجه أحمد (5/ 59) وابن أبي عاصم في “السنة” (410) وأبو نعيم في “الحلية” (9/ 53). وانظر “الصحيحة” (1856).
(2) أخرجه أحمد (4/ 128) والبزار كما في “كشف الأستار” (2365) والحاكم في المستدرك (2/ 600) وأبو نعيم في “الحلية” (6/ 89 – 90). وتكلم عليه الألباني في “الضعيفة” (2085).

(4/306)


ففي هذه الأحاديث المعروفة عند علماء المسلمين أن الله كتب نُبوَّتَه وأظهرها بين خلقِ آدم وبين نفخ الروح فيه، كما ثبت في الصحيح (1) عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – -وهو الصادف المصدوق- أن خَلْقَ أحدكم يُجمَع في بطن أفه أربعين صباحًا، ثم يكون عَلَقَةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يُبعَث إليه المَلَك، فيؤمَر بأربعِ كلمات، فيقال: اكتبْ رزقَه وأجلَه وعملَه وشقيّ أو سعيد، ثمّ يُنفخ فيه الروحُ. قال: فوالذي نفسي بيده إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراعٌ، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة.
فبيّن – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في هذا الحديث الصحيح أنه بعد أن يخلق الجسد وقبلَ نفخِ الروح يُكتَب رزقُ العبد وأجله وعملُه وشقيّ أم سعيد.
وآدم هو أبو البشر، ومحمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سيد ولد آدم، فكتب الله نبوتَه بعد خلقِ آدم وقبلَ نفخ الروحِ فيه. فأما قول القائل بين الماء والطين” فهذا الكلام باطل، فإن الماء هو بعض الطين، إذ الطين ماءٌ وترابٌ، ولم يكن آدم قطُّ بين الماء والطين، وإنما كان بين الروح والجسد، وكان – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حينئذٍ مكتوبًا عند الله خاتم النبيين.
وأما تبيّن ذاته وصفاتِه وجَعْلُ الله له نبيًّا ورسولاً فإنما كان حتى خَلَقَه، ونبّأه الله على رأس أربعين سنة، فأول ما أنزل الله عليه
__________
(1) البخاري (3208 ومواضع أخرى) ومسلم (2643).

(4/307)


(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (1)، فكان نبيًّا، ثم أنزل الله عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)) (2).
فكان رسولاً. ومن زعم أنه كان يحفظ القرآن قبل أن ينزل عليه به جبريل فهو ضالٌ مفترٍ بإجماع المسلمين. وما يُروى في هذا الباب من الأحاديث -مثل: أنه كان كوكبًا في السماء يُرَى قبل الخلق، أو نحو ذلك- فهي أحاديث مكذوبة باتفاق علماء المسلمين. والله أعلم.
__________
(1) سورة العلق: 1.
(2) سورة المدثر: 1.

(4/308)


مسألة
في قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (1)، وقوله تعالى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) الآية (2)، فمن هو في هؤلاء أعلى درجةً؟
الجواب
الحمد لله. أما قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)) فهي تتناول
جميع أولياء الله الفاضل والمفضول، وكلُّ من ذُكِر في غير هذه الآية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فهو صنفٌ ممن دخلَ فيها، وبعضُ هذه الأصناف أعلى من بعضٍ.
ولا يقال: إن بعض هذه الأصناف أعلى ممن ذُكِر في الآية، لأن أولئك بعضُ هذه الجملة، إلاّ أن يُراد أن البعض الذي هو أعلى أصنافِها أفضلُ أهلها. ولا يقال أيضًا: إن كل من في هذه الآية أفضل ممن ذُكِر في غيرها، لكن يقال: إن مجموع المذكورين فيها أفضل من بعضهم.
__________
(1) سورة يونس: 62.
(2) سورة النور: 37.

(4/309)


وأما قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) الآية، فهؤلاء ممن دَخَل في تلك الآية، وهم من أولياء الله المتقين، وهم أفضل من غيرهم، وقد يكون من له تجارة وبيعٌ لا تُلهِيْه أفضل ممن ليس كذلك، وقد يكون ذلك أفضل من هذا بحسب الإيمان والتقوى، فلذلك قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)) (1) هذا مدح لهذا الصنف. والصدق في الوفاء واجبٌ على كل مؤمن، وهؤلاء أفضل من غيرهم، وقد يكون بعض من لم يعاهد أفضل من بعض من عاهد، وقد يكون بالعكس.
والله أعلم.
__________
(1) سورة الأحزاب: 23.

(4/310)


مسألة
في غلام حلفَ بالطلاق الثلاث أنه لم يخدم عند إنسان، فأخذه غصبًا، واستخدمه بالضرب، فلما ضربه حلفَ يمينًا ثانيًا بالطلاق الثلاث أنه ما يخدم، فما الحكم؟
الجواب
إن أمكنه الامتناعُ عن الفعل وامتنع فلا حِنْثَ عليه، وإن أُكرِهَ على فعلِ المحلوف عليه فلا حنثَ عليه. والله أعلم.

(4/311)


مسألة
في رجلٍ صلَّى صلاةَ الصبح إمامًا بسورة المدثر و”لا أقسم بيوم القيامة” في الركعتين، وسبَّح في الركوع والسجود ما بين سبع تسبيحاتٍ إلى عشر، فقال بعض الناس: هذه الصلاة ليست من الشرع ولا يُصلَّى خلفه. فهل يجب على وليّ الأمر تعزيرُ من يقول هذا القول واستتابتُه؟ وما على من يُنكِر هذه الصلاة؟ أفتونا رحمكم الله أجمعين.
الجواب
الحمد لله. بل هذه الصلاة مشروعة باتفاق أئمة المسلمين، فإنهم متفقون على أن السنة للإمام أن يقرأ في الفجر بطوال المفصّل، والمفصَّلُ من قاف. وقد كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقرأ في الفجر ما بين الستين آية إلى المئة (1)، وكان يقرأ فيها بقاف ونحوِها من السُّور (2)، وهي أطول مما ذُكِر، وقرأ فيها أيضًا بالصافات (3)،
__________
(1) أخرجه البخاري (771) ومسلم (461) عن أبي بَرْزَة الأسلمي.
(2) أخرجه مسلم (457) عن قطبة بن مالك، و (458) عن جابر بن سمرة.
(3) أخرجه أحمد (2/ 40) عن ابن عمر.

(4/312)


و”ألم تنزيل” و”هل أتى” (1)، وبسورة المؤمنين، لكن أدركته سَعلةٌ في أثنائها (2)، وقد قال: “صلُّوا كما رأيتموني أصلّي” (3).
وكان عمر بن الخطاب يقرأ فيها بيونس ويوسف وهود، وكان عثمان يقرأ بطِوال المفصّل، وقرأ أبو بكر الصديق مرةً فيها بسورة البقرة، فقيل له: كادتِ الشمسُ تطلعُ، فقال: لو طلعتْ لم تجدنا غافلين. ومثل هذا معروف عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وخلفائِه الراشدين، وقد أَمَرَنا باتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين فقال: “إنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيَرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة” (4).
وفي السنن (5) أن أنس بن مالك لما صلّى خلف عمر بن عبد العزيز قال: ما رأيتُ أشبهَ بصلاة رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من صلاة هذا الفتى، وكان يُسبِّح في الركوع والسجود من عشر تسبيحات.
وفي الصحيحين (6) أن أنس بن مالك قال: لأصلّين بكم صلاةَ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إذا قام من الركوع يقوم حتى يقول القائل: قد نسي،
__________
(1) أخرجه البخاري (891، 168) ومسلم (880) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه مسلم (455) عن عبد الله بن السائب. وعلّقه البخاري (106).
(3) أخرجه البخاري (631) عن مالك بن الحويرث.
(4) سبق تخريجه.
(5) أخرجه أبو داود (888) والنسائي (2/ 224) وأحمد (3/ 162).
(6) البخاري (800، 821) ومسلم (472).

(4/313)


وإذا قَعَدَ من السجود يقعد حتى يقول القائل مثل هذا. مع أن الركوع والسجود لا ينقص عن ذلك باتفاق المسلمين، بل يكون مثل ذلك أو أطول.
وفي الصحيحين (1) عن البراء بن عازب قال: رَمقتُ الصلاةَ خلفَ محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان قيامُه فركوعه فاعتدالُه في الركوع فسجودُه فجلوسُه بين السجدتين فسجودُه فجلوسُه ما بين السلام والانصراف قريبًا من السَّواء. وفي رواية: ما خلا القيام والقعود.
وفي الصحيحين (2) عن أنس قال: كان رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أخفَّ الناس صلاةً في تمام. فهذا الذي فعله النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هو من التخفيف الذي أَمَرَ به، كما قال: “إذا أمَّ أحدُكم الناسَ فليُخَفِّفْ، فإنّ من ورائِه السقيمَ والكبيرَ وذا الحاجة” (3). وقال لمعاذٍ: “أفَتَّان أنتَ يا معاذ؟ ” (4) لما قرأ في العشاء الآخرة بسورة البقرة. فهذا التطويل الذي فعله معاذٌ يُنهَى عنه الإمام.
ومن أنكرَ ما شَرَعَه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وقال: إنه ليس من الشرع، فإنّه يُعزَّر على ذلك تعزيرًا يُناسِبُ حالَه، زجرًا له ولأمثالِه. والله أعلم.
__________
(1) البخاري (792، 801، 820) ومسلم (471).
(2) البخاري (706، 708) ومسلم (469).
(3) أخرجه البخاري (703) ومسلم (467) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاري (705 ومواضع أخرى) ومسلم (465) عن جابر بن عبد الله.

(4/314)


مسألة
في رجلٍ إمامِ مسجدٍ: هل يجوز له أن يُكبِّر أحدٌ خلفَه من المؤتمِّين؟ أو يواضبَ (1) على السجدة في فجر كل جمعة؟ أو يَدعِيْ (2) هو والمؤتمين (3) عقب كل صلاة؟ أفتونا يرحمكم الله ويوفقكم للصواب.
الجواب
الحمد لله. لا يُشرَع الجهر بالتكبير خلف الإمام الذي يُسمَّى التبليغ لغير حاجةٍ باتفاق الأئمة، فإن بلالاً لم يكن يُبلِّغ خلف النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هو ولا غيره، ولم يكن يبلّغ خلف الخلفاء الراشدين، لكن لمّا مرض النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – صلَّى بالناس مرةً وصوتُه ضعيف، فكان أبو بكر يُصلِّي إلى جنبه يُسمعُ الناسَ التكبيرَ (4). فاستدلَّ العلماء بذلك على أنه يُشرَع التبليغ عند الحاجة، مثل ضعف صوتِ الإمام ونحو ذلك، فأما بدون الحاجة فاتفقوا على أنه مكروهٌ غيرُ مشروع.
__________
(1) كذا في الأصل بالضاد، والصواب بالظاء.
(2) كذا في الأصل بالياء.
(3) كذا في الأصل منصوبًا.
(4) أخرجه البخاري (712) ومسلم (418) عن عائشة.

(4/315)


وتنازعوا في بطلان صلاة من يفعلُه على قولين، والنزاعُ في الصحة معروف في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، مع أنه مكروه باتفاق المذاهب كلّها.
وأما في دعاء الإمام والمأمومين بعد الصلاة جميعًا رافعينَ أصواتَهم أو غيرَ رافعين، فهذا ليس من سنة الصلاة الراتبة، [و] لم يكن يفعله النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد استحسنه طائفة من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد في وقت صلاة الفجر وصلاة العصر، لأنه لا صلاة بعدها، وبعض الناس يستحبُّه في أدبارِ الخمس. لكنّ الصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن ذلك ليس من سنة الصلاة، ولا يُستحبُّ المداومةُ عليه، فإنّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يكن يفعله هو ولا خلفاؤه الراشدون، ولكن كان يذكر الله عقيب الصلاة ويُرغَب في ذلك، ويجهر بالذكر عقيب الصلاة، كما ثبت في ذلك الأحاديث الصحيحة: حديث المغيرة بن شعبة (1) وعبد الله بن الزبير (2) وغير ذلك.

والناس في هذه المسألة طرفانِ ووسطٌ:
منهم من لا يستحبّ ذكرًا ولا دعاءً، بل بمجرد انقضاء الصلاة يقوم هو والمأمومون كأنهم فَرُّوا من قَسْوَرة، وهذا ليس بمستحب.
ومنهم من يدعو هو والمأمومون رافعين أيديهم وأصواتهم.
وهذا أيضًا خلافُ السنة.
__________
(1) أخرجه البخاري (844 ومواضع أخرى) ومسلم (593).
(2) أخرجه مسلم (594).

(4/316)


والوسَطُ هو اتباع ما جاءت به السنةُ من الذكر المشروع عقيب الصلاة، ومكث الإمام يستقبل المأمومين على الوجه المشروع.
لكن إذا دعوا أحيانًا لأمرٍ عارضٍ كاستسقاءٍ أو استنصارٍ أو نحو ذلك فلا بأس بذلك، كما أنهم لو قاموا ولم يذكروا لأمرٍ عارضٍ جاز ذلك ولم يُكرَه، وكل ذلك منقول عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1).
وقد كان في أكثر الأوقات يستقبل المأمومين بوجهه بعد أن يُسلِّم، وقبلَ أن يستقبلَهم يَستغفر ثلاثًا ويقول: “اللهمَّ أنت السلام ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام” (2). وكان يجهر بالذكر، كقوله: “لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ” (3). وأحيانًا كان يقوم عقيبَ السلام إذا عرض له أمر، كما قامَ مرةً يخطب خطيبًا (4) للناس، وقال: “ذكرتُ ذُهَيْبَةً كانت عندنا، فكرهت أن تبيت عندي”.
وأما السجدة يوم الجمعة فليست واجبةً باتفاق العلماء، ويُكرَه أن يتعمد الرجل سجدة غير “الم تنزيل”. وأما قراءة “هل أتى”
__________
(1) أخرجه البخاري (851) عن عقبة.
(2) أخرجه مسلم (591) عن ثوبان.
(3) أخرجه البخاري (844 ومواضع أخرى) ومسلم (593) عن المغيرة بن شعبة.
(4) كذا في الأصل.

(4/317)


و”الم تنزيل” في فجر الجمعة فقد جاءت الأحاديث (1) بهذه السنة كما جاءت، فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان يقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة والمنافقين (2). لكن لا ينبغي المداومة على ذلك خشيةَ أن يَظُنَّ الناس أنها واجبة، كما لم يواظب (3) النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على مثل ذلك، بل كان يقرأ في الجمعة والعيدين سورًا متنوعة، لا يلازم شيئًا بعينه.
والله أعلم.
__________
(1) سبق تخريجها في أول المسألة.
(2) أخرجه مسلم (879) عن ابن عباس.
(3) في الأصل “يواضب” بالضاد.

(4/318)


مسألة
في رجل متمسك بأحد المذاهب الأربعة، كمذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين، وقد نزلت به نازلة في طلاقٍ أو غيرِه، فاستفتَى بعض العلماء، فأفتاه بقولِ أحد الأئمة المذكورين، فعارضَه آخر وقال: من استفتَى غيرَ أهلِ مذهبه فهو زنديق أو نحو هذا الكلام، فهل هذا المنكِر مصيبٌ في هذَا الإنكار أم مخطئ؟ وهل يجب عليه القتل أو غير ذلك من أنواع التعزير؟ أفتونا رحمكم الله.
الجواب
الحمد لله. بل هذا المنكر مُخطئ في ذلك باتفاق الأئمة، بل هو آثمٌ في ذلك مستحق للعقوبة التي تَزجُره وأمثالَه عن مثلِ ذلك، فإن كان يفهم معنى الزنديق وأنّ الزنديق الكافر، وجعلَ اتباعَ المسلم في بعض المسائل لإمامٍ غيرِ إمامِه كفرًا: فإنه يُستَتاب من هذا الكلام، فإن تاب وإلاّ قُتِل؟ وإن كان يظن أن الزنديق هو العاصي الجاهل الفاسق ونحو ذلك فإنه يُعزر على هذا الكلام.

ولا يجب على أحدٍ أن يتَّبع واحدًا بعينه في كلّ ما يقوله، وإنما يجب على الناس طاعة الله ورسولِه، ومن قال: إنه يجب

(4/319)


على الناس طاعة شخصٍ بعينِه غيرِ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فهو متناقض مخالف لإجماع المسلمين، فإنهم متفقون على أن كلَّ أحدٍ من الناس يُؤخَذُ من قولِه ويُترَكُ إلاّ رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والأئمة الأربعة رضي الله عنهم نَهَوا الناسَ أن يُقلِّدوا واحدًا بعينِه في جميع ما يقوله وإنْ وُجدَتِ الحجة بخلافه.
والذي كَرِهَه العلماء للرجل أن يكون رخيصًا يَستفتي في كلّ حادثة بما يكون له فيه رخصة. فأما أخذُه في بعض المسائل بقولِ إمام وفي بعضها بقولِ إمامٍ مع تحرِّي التقوى فهو جائز عند أئمة الإسلام. والله أعلم.

(4/320)


مسألة
في رجلِ لم يؤدِّي (1) الصلوات الفرض وتوفي، وخلف ولدٌ صالح، فكان الولد بعد أن يصلي الصلاة المكتوبة عليه يصلِّي صلواتٍ دائمًا، ويحتسبها لوالدِه عن فرضِه، فهل يجوز ذلك عن والده ويحتسب له؟ أفتونا مأجورين يرحمكم الله.
الجواب
الحمد لله. أما الفرض فلا يَسقُط عنه بصلاة غيرِه، ولكن من مات مؤمنًا فإذا صلّى عنه وَلَدُه أو تصدَّقَ عنه أو أعتقَ عنه أو صامَ عنه نفعَه الله بذلك. وأفضل ذلك الصدقة ونحوها من النفع المتعدي، فإنها تصل إلى المؤمن باتفاق الأئمة. والله أعلم.
__________
(1) كذا في الأصل بإثبات الياء.

(4/321)


مسألة
في رجل أوقف زاويةً قطعةَ أرضٍ مخللة بنَخْل، بعضه طازج وبعضُه غير طازج، وشرطَ النظرَ لشخصٍ من الفقراء، فجاء الحاكم بالناحية، واَجَرَ الأرضَ مدةَ عشر سنين بدون أجرة المثل. فهل تجوز هذه الإجارة؟ وهل للحاكم أن يُؤجر مع وجودِ الناظر الذي شرط له الواقفُ النظرَ أم لا؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
الحمد لله. إذا كان لها ناظر خاص قائم بالواجب فليس للحاكم أن يؤجرها، ولا يتصرف فيها بدون أمره، لكن [لو] خرج الناظر عما يجب عليه فإن الحاكم يعترض عليه، فيُلْزِمه بالواجب، أو يَستبدل به، أو يَضمُّ إليه أمينًا. وليس للناظر ولا الحاكم أن يؤجرها بدون أجرة المثل. والله أعلم.

(4/322)


مسألة
متى فُرض الصوم والصلاة والزكاة؟
الجواب
الحمد لله. صوم رمضان فُرِضَ من السنة الثانية من الهجرة، وأدرك رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تسعَ رمضانات. وأما الصلاة والزكاة فأُمِر بهما بمكةَ قبلَ الهجرة، لكن فرائض الصلاة شُرِعت بالمدينة. والله أعلم.

مسألة
هل يجب للحائض أن تَغسِلَ باطنَ فرجِها من الحيضِ والجنابة؟
الجواب
الحمد لله. لا يجب على المرأة غَسْلُ باطن الفرج من غسل الحيض والجنابة. والله أعلم.

(4/323)


مسائل وردت من الصلت

(4/325)


مسألة
في الكلب إذا وَلَغَ في طستِ لبنٍ أو طعام أو شراب، هل يحل أكلُه أم بيعُه أم لا؟
فأجاب -رضي الله عنه-
إذا كان فيه أثرُ الولوغ أو كُشِطَ وجهُه جاز أكلُه في أحد قولَي العلماء.
مسألة
في الفأرة إذا وقعتْ في سمنٍ أو زيتٍ وهو مائع، هل يَحِلُّ أكلُه أم بيعُه أم لا؟
فأجاب -رضي الله عنه-
إذا لم يتغير يُلقَى وما قَرُبَ منها، ويُوكَل المال ويُبَاعُ في أظهر قولَي العلماء. والله أعلم.

(4/327)


مسألة
في رجلٍ يدخُل على امرأة أخيه وبناتِ عمِّه وبناتِ خالِه، هل يجوز له ذلك أم لا؟
الجواب
لا يجوز له أن يخلو بها، ولكن إذا دخل مع غيره ومن غير خلوةٍ ولا ريبةٍ جاز له ذلك. والله أعلم.

مسألة
في التيمُّم، هل يجوز لأحدٍ أن يصلّيَ به السُّنن والرواتب والفريضة ويقتصرَ عليه إلى حين الحَدَث أم لا؟
الجواب
نعم، يجوز في أظهر قولَي العلماء أن يصلي بالتيمم كما يصلي بالوضوء، فيصلّي به الفرضَ والنفلَ، ويتيمم قبل الوقت، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ولا يَنقُض التيممَ إلاّ ما يَنقُض الوضوءَ والقدرةُ على استعمال الماء.

(4/328)


سئِل
عن رجلِ يأمر الناسَ بالصلاة ولم يُصَلِّ، فماذا يجب عليه؟
الجواب
من لم يُصلِّ فإنه يستتاب، فإن تابَ وإلاّ قُتِل. والله أعلم.
وسُئِل أيضًا
فيمن يصلّي الفرضَ خلفَ من يُصلِّي نفلاً.
الجواب
يجوز ذلك في أظهر قولَي العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
وسُئل أيضًا
عن الماء إذا غَمَسَ الرجلُ يدَه، هل يجوز استعمالُه أم لا؟
الجواب
لا ينجس بذلك، بل يجوز استعمالُه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وعنه رواية أخرى أنه يَصير مستعملاً.

(4/329)


وسُئل أيضًا
عن صلاة التراويح، هل يجوز قبل العشاء أم لا؟
الجواب
السنة في التراويح أن تُصلّي بعد عشاء الآخرة. والله أعلم.
وسُئل أيضًا
عن الرجل يَمَسُّ المرأةَ، هل ينتقضُ الوضوء أم لا؟
الجواب
إن توضأ من ذلك فحسن، وإن صلّى ولم يتوضأ صحَّتْ صلاتُه في أظهر قولَي العلماء.

(4/330)


وسُئِل
عن الرجل إذا اغتسلَ من الجنابة، ولم يتوضأ بعدَه ولا قَبلَه وصلَّى بالغُسل، فهل يجوز ذلك أم لا؟
الجواب
نعم، إذا اغتسل للجنابة أجزأتْه الصلاةُ بذلك الغسل وإن لم يَنوِه عند جمهور العلماء. والله تعالى أعلم.
وسُئل أيضًا
عن الرجل لا يُواظِب على السُّنن الرواتب.
الجواب
من أَصرَّ على تركِها دَلَّ ذلك على قلَّةِ دينه، ورُدَّتْ بذلك شهادته في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما.
وسُئل أيضًا
فيمن يَحلِفُ بالطلاق أنه لا يفعل شيئًا، ثم أراد أن يفعلَه.
الجواب
يجوز أن يَفعَل ما حَلَفَ عليه ويُكفِّر عن يمينه. والله أعلم.

(4/331)


وسُئل أيضًا
في الرُّعَاف هل يَنقُض الوضوءَ أم لا؟
الجواب
إن توضأَ منه فهو أفضلُ، ولا يجب عليه في أظهر قولَي العلماء. والله أعلم.
مسألة أيضًا
في الفصاد في شهر رمضان، هل يُفسِد الصوم أم لا؟
الجواب
إن أمكنَه الفصادُ بالليل أخَّرَه، وإن احتاجَ إليه لمرضٍ افتصَدَ، وعليه القضاء في أحد قولَي العلماء، والله أعلم.

(4/332)


وسُئل أيضًا
في سفر يومِ رمضان، هل يجوز له أن يقصر فيه أو يُفطِر أم لا؟
الجواب
هذا فيه نزاع، والأظهر أنه يجوز له القصر والفطر في رمضان، كما قصر أهلُ مكَّة خلف النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بعرفة ومزدلفة، وعرفةُ عن المسجد بَرِيدٌ. ولأن السفر مطلقٌ في الكتاب والسنة.
وسُئل أيضًا عن رجلٍ معه مالٌ من حرام وحلالٍ، فهل يجوز أن يأكلَ من عيشِه أم لا؟
الجواب
إذا عُرِف الحرامُ بعينِه لم يُؤكَلْ حتمًا، وإن لم يُعرَف بعينِه لم يَحرُم الأكلُ، لكن إذا كَثُر الحرامُ كان تركُ الأكلِ وَرَعًا. والله أعلم.

(4/333)


مسألة أيضًا
في رجلٍ باعَ متاعًا لإنسانٍ تاجر، وكسبَ عليه، وقَسطَ عليه الثمن، والمديونُ يطلُب السفر ولم يُقِمْ له كافلاً، فهل لصاحب الدين أن يمنعَه من السفر أم لا؟
الجواب
إن كان حالاً وهو قادرٌ على وفائه فله أن يمنعه من السفر قبل استيفائه، وكذلك إن كان مؤجّلاً ومَحِلُّه قبل قدوم المدين، فله أن يمنعه من السفر حتى يوثق برهنٍ يحفظ المال أو كفيل، وإن كان الدين لا يَحُلُّ إلاّ بعد قدوم المدين ففيه نزاعٌ بين العلماء. والله أعلم.

(4/334)


وسُئل أيضًا
عن رجل يعمل عملاً يستوجب أن يُبنَى له قصر في الجنة ويُغرسَ له أغراس باسمه، ثم يعمل ذنوبًا يستوجب بها النار، فإذا دخل النار كيف يكون اسمه أنه في الجنّة وهو في النار؟
الجواب
إن تاب من ذنوبه توبة نصوحًا فإن الله يغفر له، ولا يحرمه ما كان وعدَه، بل يُعطيه ذلك. وإن لم يَتُبْ وُزِنتْ حسناتُه وسيئاتُه، فإن رَجحتْ حسناتُه على سيئاتِه كان من أهل الثواب، وإن رجحتْ سيئاتُه على حسناتِه كان من أهل العذاب، وما أعدَّ له من الثواب يحبط حينئذٍ بالسيئات التي زادت على حسناته، كما أنه إذا عملَ سيئاتٍ استحقَّ بها النار ثم عملَ بها حسناتٍ تذهب السيئات. والله أعلم.

(4/335)


مسألة
في رجلٍ استلفَ من رجلٍ دراهم إلى أجل على غلَّةٍ، بحكم أنه إذا حَلَّ الأجلُ دفع إليه الغلَّة بأنقصَ مما تساوي بخمسة دراهم، فهل يَحلُّ أن يتناول ذلك منه على هذه الصفة أم لا؟
الجواب
إذا أعطاه عن البيدر كل غرارة بأنقص مما يبيعها لغيره بخمسة دراهم وتراضيَا بذلك جاز، فإن هذا ليس بقرض، ولكنه سلفٌ بناقصٍ عن السعرِ بشيء، وقدر هذا بمنزلة أن يبيعه بسعر ما يبيعه الناس أو بزيادة درهم في كل غرارة أو نقصِ درهم في كل غرارة.
وقد تنازع الناس في جواز البيع بالسعر، وفيه قولان في مذهب أحمد، والأظهر في الدليل أن هذا جائز، وأنه ليس فيه حظر ولا غدر، لأنه لو أبطل مثل هذا العقد لرددناهم إلى قيمة المثل، فقيمة المثل التي تراضَوا بها أولى من قيمةٍ بمثلٍ لم يتراضَيا بها.
والصواب في مثل هذا العقد أنه صحيح لازم، ولهذا كان الصحيح في النكاح الفاسد أنه يجب فيه المسمَّى لا مهرُ المثل، فإنّا إذا أوجبنا فيه مهرَ المثل أوجبنا ما يستحقُّه نظيرُها في النكاح الصحيح أولى مما يستحقُّه غيرُها في النكاح الصحيح، فإنه على التقديرين

(4/336)


قد أوجب في الفاسد ما يجب في الصحيح، ولكن على أحد التقديرين قد اعتُبِر فاسدُها بصحيحها، وعلى الآخر اعتُبر فاسدُها بصحيح غيرها، والأول أولى، وهي في مسألة البيع بالسعر والإجارة بأجرة المثل. ومنهم من قال: إن ذلك لا يلزم، فإذا تراضيا به جاز. والله أعلم.

(4/337)


مسألة
في رجلٍ فاتته صلاة العصر، فجاء إلى المسجد فوجدَ المغربَ قد أقيمت، فهل يصلّي الفائتةَ قَبلُ أم لا؟
الجواب
بل يُصلِّي المغرب مع الإمام ثم يصلّي العصرَ باتفاق الأئمة، ولكن [هل] يعيد المغرب؟ فيه قولان: أحدهما يعيدها، وهو قول ابن عمر ومالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه. والثاني: لا يعيد المغرب، وهو قول ابن عباس وقول الشافعي والقول الآخر في مذهب أحمد. والثاني أصحُّ، فإنّ الله لم يُوجب على العبد أن يصلّي الصلاة مرتين إذا اتقى الله ما استطاع. والله تعالى أعلم.

(4/338)


مسألة
في رجل خَصَّ بعضَ بناتِه، فجهَّزها ومَلَّكَها بنحو مئتَي ألف درهم، وخَصَّ بعضهم بوقفِ بعضِ مالِه عليه، فهل لورثة الواقف فسخُ ذلك أم لا؟
الجواب
الحمد لله، بل يجب عليه العدل بين أولادِه كما أمر الله ورسولُه، كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال لبشير بن سعد: “اتقوا اللهَ واعدِلوا بين أولادكم”، وقال: “لا تُشهِدْني على جورٍ” (2)، وأمره أن يَرُدَّ التفضيلَ بين أولادِه، وإذا ماتَ ولم يَعدِلْ فإنّه يُرَدُّ جَورُه في أظهر قولَي العلماء، كما أمر بذلك أبو بكر وعمر في مالِ سعد بن عبادة. ولسائر الأولاد المظلومين طلبُ حقِّهم وفَسْخ التخصيص الذي فيه ظلمُهم، وإعَانتُهم على إيصالِ حقِّهم إليهم من القُرَب التي يُثابُ فاعلُها. والله تعالى أعلم.
__________
(1) البخاري (2587) ومسلم (1623) عن النعمان بن بشير.
(2) هذه رواية لمسلم في الموضع السابق.

(4/339)


مسألة
في قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هل هذه القبور التي يزورها الناس اليومَ -مثل قبر نوح وقبر الخليل وإسحاق ويعقوب ويوسف ويونس وإلياس واليسع وشعيب وموسى وزكريا وهو بمسجد دمشق- فهل يصحّ من تلك القبور شيء أم لا؟
الجواب
الحمد لله، القبر المتفق عليه هو قبر نبينا محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقبر الخليل فيه نزاع، لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره. وأما يونس وإلياس وشعيب وزكريا فلا يُعرَف [قبورهم]، وقبر معاوية هو القبر الذي تقول العامة إنه قبر هود. والله أعلم.

(4/340)


مسألة
في أكل لحم الضبع والثعلب وسِنَّور البرّ وابن آوى وجلودهم، وهل يَحِل لُبسُ جلودِ الجميع وأكلُ لحم الجميع أم البعض؟ وهل تطهر جلودُهم بالدباغ؟
الجواب
أما لحم الضبع فإنه مباحٌ عند مالك والشافعي وأحمد، وجلْدُه يطهر بالدباغ في مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك -في روَاية- وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أصحّ قولَي العلماء. وهذا إذا دُبِغ بعدَ موته، وأما إذا ذُكِّيَ ودُبغَ كان طاهرًا في مذاهب الأئمة.
وأما سنّور البرّ والثعلب ففي حِلِّهما قولان، وهما روايتان عند أحمد، أحدهما: يحل، ويكون جلده طاهرًا إذا ذُكّي، وهذا مذهب مالك والشافعي. وعلى هذا القول فإذا مات ودُبغ كان طاهرًا في مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك. والقول الثاني: إنهما محرَّمان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وعلى هذا إذا ذُكّي كان جلدُه طاهرًا عند أبي حنيفة دون أحمد، وجلده يطهر بالدباغ إذا مات عند أبي حنيفة ووجه في مذهب أحمد، وظاهر مذهبه أنه لا يطهر.

(4/341)


وأما ابن آوى فإنه حرام عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجلده يطهر بالدباغ.
وأما القول الذي يقوم عليه الدليل فإنه قد رُوِي عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في السنن من وجوهٍ أنه نَهى عن جلود السباع (1)، كما ثبت أنه حَرَّم لحمها (2). فما ثبت أنه من السِّباع -كالنَّمِر وابن آوى وابن عِرسٍ- فلا يَحِلُّ لحمُه ولا لُبْسُ الفِراءِ من جلدِه، ما لم يكن من السِّباع المحرَّمة كالضَّبُع فإنه يُؤكَلُ لحمُه وَيُلبَسُ جلدُه. وأما الثعلب وسِنَّور البرّ ففيه نزاعٌ. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد (5/ 74، 75) وأبو داود (4132) والترمذي (1771) والنسائي (7/ 176) عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه.
(2) متفق عليه من حديث أبي ثعلبة، أخرجه البخاري (5530) ومسلم (1932).
وفي الباب أحاديث أخرى رواها مسلم وغيره.

(4/342)


مسألة
في لحوم الخيل وألبانها، هل هي مباحةٌ أم لا؟
الجواب
أما لحم الخيل فهو مباح عند أكثر علماء المسلمين، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة من أصحاب أبي حنيفة -كأبي يوسف ومحمد صاحبَيْ أبي حنيفة-، وهو مذهب الثوري وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر، وهو قول ابن عمر وابن الزبير وغيرهما من العبادلة. فإنه قد ثبت في الصحيحين (1) عن جابر أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حَرَّم لحومَ الحُمُر الأهلية يومَ خيبر وأَذِنَ في لحوم الخيل. وثبت في الصحيحين (2) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: نَحَرْنا على عهد رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فرسًا فأكلنا لحمَها. ولم يثبُت عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه حرَّم لحم الخيل في حديث صحيح (3).
__________
(1) البخاري (5520) ومسلم (1941).
(2) البخاري (5519) ومسلم (1942).
(3) انظر الكلام على الحديث المرويّ فيه في “نصب الراية” (4/ 196 – 197).

(4/343)


والقرآن لا يَدُلُّ على تحريمه، فإن قوله (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) (1) امتَنَّ الله بها على عبادِه بما يُقصَد منها في العادة، ولم يُرِد بذلك تحريمَ أكلها، بدليل أن الصحابة بعد نزول هذه الآية أكلوا لحم الحمر يومَ خيبر حتى نهاهم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والآية مكية، فلو كان فيها دليلٌ على التحريم كان الصحابةُ رضي الله عنهم أعلمَ بذلك. وأما الذين نهوا عنها من العلماء كأبي حنيفة فقيل عنه: كراهة تحريم، وقيل: كراهة تنزيه.
وأما ألبانها فإن كانت لا تُسْكِر فهي مباحةٌ كلُحْمانِها، وإن كانت مُسكِرةً فهي حرام. رواه البخاري ومسلم (2). ولمسلم (3): “كلُّ مُسْكرٍ خمرٌ، وكلُّ خمرٍ حرامٌ”. وتحريم كلِّ مسكرٍ هو مذهب عامة المسلمين، كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن الحسن وغيرِه من أصحابِ أبي حنيفة.
ويجوز للرجل أن يأكل لحمَها ويشرب لبنَها إذا لم يكن مسكرًا، كما يجوز أكلُ اللحم باللبن مطلقًا، ولم يُحرِّمْ أكلَ اللحم باللبن إلاّ اليهودُ الذين حرَّموا طيباتٍ أُحِلَّت لهم لظلمِهم وذنوبهم. والله تعالى أعلم.
__________
(1) سورة النحل: 8.
(2) متفق عليه من حديث عائشة وأبي موسى ومعاذ. البخاري (242، 4344، 4345) ومسلم (2001، والرقم الذي بعده). وفي الباب أحاديث أخرى.
(3) برقم (2003) عن ابن عمر.

(4/344)


مسألة
فيمن ماتَ وخَلَفَ بنتًا وأخًا لأمّ وابنَ عمّ.
الجواب
للبنت النصف، والباقي لابن العمّ، ولا شيء للأخ من الأم باتفاق أئمة المسلمين، وما وصَّى به يُنفَّذ من الثُّلُثِ ثُلثِ التركة، والباقي للورثة.

مسألة
في رجلٍ حلفَ بالطلاق، ثم استثنَى هُنَيهةً بقدرِ ما يمكن فيه الكلام.
فأجاب
لا يقع فيه الطلاق، ولا كفّارةَ عليه، والحال هذه لو قيل له: قل “إن شاء الله” ينفعه ذلك أيضًا، ولو لم يَحْضُر له الاستثناءُ إلاّ لما قِيلَ له. والله تعالى أعلم.

(4/345)


مسائل متفرقة

(4/347)


مسألة
ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- في مسجد بيت المقدس وقد جُعِل فيه أئمة، كلّ منهم يصلّي في موضع منه، فهل إذا صلّى أحدٌ منهم في وقتِ صلاةِ الآخر هل يدخل في النهي فيُكْرَه له ذلك أم لا؟ وهل هذا بدعة مكروه أم لا؟ وأيُّ الأئمة أحق بالصلاة بلا كراهة؟ وهل تَبطُل صلاةُ الإمام الذي صلَّى بعد إقامة الصلاة لإمام غيره أو نُكرَه؟ وهل يصح قول من قال: إن كلَّ بُنْيةٍ فيه لما اختُصَّتْ بإمامٍ صارت كالمسجد المستقلّ؟
فأجاب الشيخ تقي الدين وقال:
الحمد لله، صلاة إمامين في وقتٍ واحدٍ في المسجد الأقصى أو غيره من المساجد بدعة، لم يكن السلف يفعلونها، وفيها تفريقُ الجماعات وتقليلُها، والسنةُ اتحاد الجماعة وكثرتُها، ولو كان مثلُ هذا مشروعًا لكان يُشرَعُ في صلاة الخوف أن يُصلًيَ بالناس عدَّةُ أئمة، لكن السنة جاءتْ بصلاتهم خلفَ إمامٍ واحدٍ، مع ما في ذلك من مخالفة الأصول، مثل مفارقة الإمام قبل السلام، والعمل الكثير في الصلاة، واستدبار القبلة، وقضاء المسبوق قبل سلامِ إمامِه،

(4/349)


وتخلُّف الصفّ الثاني عن متابعة الإمام. فهذا كلُّه جاءت به السنة ليصلُّوا جميعًا خلفَ إمامٍ واحد.
والعلماء قد تنازعوا في المسجد الذي له إمام راتبٌ هل يُصلِّي فيه جماعةً من فاتته الجماعةُ، أو يُفرَّق بين المساجد التي ينتابها الناس وغيرها، أو بين المساجد العظام وغيرِها، أو بين المساجد الثلاثة وغيرها، على النزاع المشهور بين الأئمة، لأنه لم يكن يرتّب في المسجد إلاّ إمام واحد، وفي هذه الأزمنة قد ترتّب في المسجد عدة أئمة، وإذا فعل ذلك فالذي ينبغي أن يُصلّيَ واحدٌ بعد واحدٍ، ليكون من فاتته الصلاة مع الأول صلّى مع الثاني، ولأنّ إقامة جماعة بعد الجماعة الراتبة مما ذهب إليه كثير من العلماء، وجاءت به السنة في مواضع الحاجة، كقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لمن فاتته الصلاة: “إلاّ رجل يتصدَّق على هذا فيصلي معه” (1). ولأن أنس بن مالك أتى المسجدَ وقد صلَّى فيه الناسُ، فأقامَ الصلاةَ وصلَّى فيه جماعةً أخرى (2).
فأما إمامةُ اثنين في وقتٍ واحدٍ في مسجدٍ واحدٍ فهذا لا يُعرَفُ أحدٌ من السلف فعله، وكلُّ ما كان أقربَ إلى السنة وأبعدَ عن البدعة فهو أولى بالاتباع. والذي أحدثَ الصلاةَ مع غيره هو أحق بالنهي ممن كان يُصلّي وحدَه. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد (3/ 5، 45، 64، 85) وأبو داود (574) والترمذي (220) وابن خزيمة (1632) عن أبي سعيد الخدري.
(2) ذكره البخاري (2/ 131) تعليقًا. قال الحافظ في “الفتح”: وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان، وأخرجه ابن أبي شيبة من طرقٍ عن الجعد.

(4/350)


وسئل الشيخ -رحمة الله عليه-
عن رجل يشتري القمحَ في زمان الصيف من الجند وغيرهم، فإن ذلك الوقت يرى الجند الشِّرَى من عندهم صدقة مما عليهم من الديون وقلة الطالب للقمح، ثم يخزنه المشتري إلى زمان الشتاء، فيطلب فيه ما رزقه الله من الفائدة، فيُمسِك يَدَه عن بيعه حتى يكثر طالبه. فهل هذا محتكرٌ أم لا؟ ولابدَّ أن يُرى في قلبه حبٌّ للغلاء، فهل يأثمُ بذلك أم لا؟ وهل تركُ ذلك خيرٌ أم لا؟
وعن رجل رأى في المنام أنه يجامع، ولم تُدرِكْه اللذة الكبرى والإنزال إلاّ بعد أن استيقظ، فهل يفسد صومه أم لا؟
أفتونا مأجورين.
فأجاب -رضي الله عنه- عن ذلك وقال:
الحمد لله. أما ما ذكر من اشتراء القمح وخَزْنه فتركُه خيرٌ من فعلِه، فإنه يُورِثُه محبته ارتفاعَ السعر، وأن يجمع المال من عموم المسلمين. قال أحمد: إن مالاً جُمع من عموم المسلمين لمالُ سوءٍ. ولكن هذا عند طائفةٍ من العلماء إذا كان من البلاد الكثيرة القمح الرخيصة السعر إذا لم يضرّ ذلك أهلَها لا يَحرُم، بخلاف ما إذا كان شراؤه وخَزْنه يضرّ أهلَ المكان، فإنّ هذا احتكار محرَّمٌ،

(4/351)


كما ثبت في صحيح مسلم (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لا يَحتكِرُ إلاّ خاطئٌ”. ومن قال بتحريم هذا الاحتكار أخذَ بعموم هذا الحديث، وقولُه متوجِّه.
وأما إذا رأى في منامه أنه يجامع ولم يُنزِل حتى استيقظ، فخرج منه الماء بغير اختياره، فإن هذا لا يفطر كما لا يفطر إذا أنزلَ في منامِه، لأن الماء خرج منه بغير اختياره. وإذا خرج منه المنيُّ بغير سعيٍ منه ولا عملٍ لم يُفطِر، كما لو ذَرَعَه القيءُ فخرج منه القيء بغير اختياره فإنه لا يفطر، وإنما يُفطِر من استمنَى واستقاءَ. ولهذا لو غلبَه الفكرُ حتى أنزل لم يَفسُدْ صومُه باتفاق الأئمة، بخلاف ما إذا استدعى الفكرَ حتى أنزلَ، ففي فساد صومِه قولان للعلماء: أحدهما يفسد، وهو مذهب مالك وأحمد في أحد القولين، اختاره أبو حفص وابن عقيل. والآخر لا يفطر، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والقولُ الآخر من مذهب أحمد، اختاره القاضي أبو يعلى وطائفة.
وأما إذا كرّر النظر حتى أنزل، فإنه يفسد صومه في مذهب مالك وأحمد، بخلاف مذهب أبي حنيفة والشافعي، فإنهما لا يريان الفطرَ إلاّ أن يُنزِل بمباشرةٍ كالقُبلة ونحوها. والله تعالى أعلم.
__________
(1) برقم (1605) عن معمر بن عبد الله.

(4/352)


مسألة
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله تعالى عنهمٍ أجمعين- في سورة الأنعام: هل أنزلتْ على النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جملةً واحدة أم آياتٍ متفرقةً متتابعةً؟ وقد وُجد في كتاب “الوسيط في تفسير القرآن العظيم” (1) لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي: أخبرنا أبو سعيد (2) محمد بن علي الخفاف، حدثنا أبو عمر (3) محمد بن جعفر ابن مطر، ثنا إبراهيم بن شريك الأسدي، ثنا أحمد بن يونس، أنبأنا سلام بن سليم المدائني، أنبانا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه أعن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “أُنزِلتْ عليَّ سورةُ الأنعام جملةً واحدةً، وتَبعَها سبعون ألفَ مَلَكٍ، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليَل”. أفتونا مأجورين.
فأجاب الشيخ أحمد بن تيمية
-رضي الله عنه وعن سائر العلماء-
الحمد لله. قد ذُكِر عن طائفةٍ من السلف أنها نزلتْ جملةً واحدةً (4)، وذكره الإمام أحمد بإسناده عن جماعة، ولكن الإسناد
__________
(1) 2/ 250.
(2) في الوسيط: “أبو سعد”.
(3) في الوسيط: “أبو عمرو”.
(4) انظر تفسير ابن كثير (2/ 126).

(4/353)


المذكور عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – موضوع. وبكل حالٍ فلا تُقرأ في شهر رمضان إلاّ كما تُقرأ في غيرِه، لا تُقرأ جملةً واحدةً دون غيرها، كما يفعله بعض الناس يقرؤونها وحدَها في الركعة الثانية، فإن ذلك بدعة غير مستحبّة باتفاق العلماء. والله أعلم.

(4/354)


مسألة
ما تقول السادة العلماء في رجلٍ كسبَ جاريةً من ملطيةَ وباعَها، ثم اشترى بثمنها جارية، فتبيّن أنها مسلمة وأبواها مسلمان، فأعتقها، فهل يجب عليه الخمس أم لا؟
قال الشيخ تقي الدين -رضي الله عنه-
بل يجب عليه الخمس الذي أمر الله به ورسولُه أن يُصرفَ إلى مستحقّه. والله أعلم.
مسألة
ومن كان معه ختمة فله أن يحملها بين قماشِه وفي خُرجة، وحمله سواء كان ذلك القماش لرجل أو امرأة أو صبيّ، وإن كان القماش فوقها وتحتها.
مسألة
وأما قراءة القرآن بقصد التلحين الذي يشبه تلحين الغناء فهي مكروهة مبتدعة، كما نصّ على ذلك مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وغيرهم من الأئمة.

(4/355)


وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه-
عن قومٍ لهم عيونٌ ما عليها زروع، فجاء رجلٌ فحقَنَ الماءَ، وأحدثَ عليه سدًّا وطاحونًا، فتضرَّر أرباب العيون، فهل لهم إزالة ما أحدثَه؟
فأجاب -رضي الله عنه-
إن كان قومٌ يستحقّون الانتفاعَ بتلك العين، وقد أُحدِثَ ما يُزِيل بعضَ المنفعة التي يستحقُّونها بغير إذنٍ منهم، فلهم إزالة ما أحدثَه من الضرر حتى يعودَ حقُّهم كما كان. والله أعلم.

(4/356)


وسُئل -رحمه الله-
عن رجلٍ خَطَبَ ابنةَ رجلٍ فركَنَ إليه، ثمّ خَطَبها آخر، فرَغِبَ عن الأول وركَن إلى الثاني، فهل للثاني تزويجُها؟ وهل يكون ملعونًا؟
فأجاب -رضي الله عنه-
إذا كانت المرأةُ ووليُّها قد ردًّا الخاطبَ الأولَ وامتنعا من تزويجه جازَ لغيره أن يخطبها. والنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إنما نهى أن يخطب الرجلُ على خِطبة أخيه (1) حتى ينكح أو يردّ، فمتى رُدَّ الأول جازت الخطبة لغيره باتفاق العلماء. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري (5142) ومسلم (1412) عن ابن عمر.

(4/357)


مسألة
السؤال محرَّمٌ إلاّ عن الحاجة إليه، وظاهر مذهب أحمد -رحمه الله- أنه لو وجد ميتةً عند الضرورة ويُمكِنه السؤال جاز له أكلُ الميتةِ، ولو ماتَ ماتَ عاصيًا، ولو ترك السؤالَ فماتَ لم يَمُتْ عاصيًا.
والأحاديث في تحريم السؤال كثيرة جدًّا نحو بضعة عشر حديثًا في الصحاح والسنن، وفي سؤال الناس مفاسدُ الذّلّ والشرك بهم والإيذاء لهم، وفيها ظلم نفسه بالذل لغير الله عزّ وجل، وظلمٌ في حقّ ربّه بالشرك به، وظلمٌ للخلق يسؤالهم أموالَهم. قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لابن عباس: “إذا سالتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله” (1).

مسألة
لا يحرم على الرجل النظرُ إلى شيء من بدنِ امرأتِه ولا لمسُه، لكن قيل: يُكرَه النظرُ إلى الفرج، وقيل: لا يُكره إلاّ عند الوطء.
والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/ 293، 353، 307) والترمذي (2516) عن ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد تكلم على الحديث وشرحه ابن رجب في “جامع العلوم والحكم” (1/ 459 وما بعدها).

(4/358)


مسألة
في المسافر إذا نَزَل في موضع وهو يَعلم أنه يُقيم فيه عشرَ ليالٍ أو أكثر، فهل يجوز له أن يقصر ويجمع أو يُتمُّ؟
الجواب
السنة للمسافر أن يقصر الصلاةَ ركعتين ركعتين إلاّ المغرب، والجمع إذا احتاج إليه. وإذا كان المسافر نازلاً فالسنّةُ أن يقصر الصلاة، ولا يجمع إلاّ احتاج إلى ذلك. وإذا كان لا يدري كم يُقِيم فإنه يقصر أبدًا، وإن عَلِمَ أنه يُقيم خمسًا أو عشراً أو خمسة عشر ففيه قولان للعلماء، أظهرهما أن يقصر أيضًا. والله أعلم.

(4/359)


مسألة
قال المجد في الوديعة (1): وإذا قال: أذنتُ في دفعها إلى فلان وقد فعلتُ قُبِل قوله فيهما.
وقال في الوكالة (2): ومن وكّل في قضاء دَينٍ، ولم يؤمر بإشهاد، فقضاه بحضرة الموكل ولم يشهد، فأنكر الغريم، لم يضمن. وإن قضاه في غيبته ضمن. وعنه لا يضمن، كالوكيل في الإيداع.
وقال في الضمان (3): وإذا ادعى القضاء وأنكره الآخران فلا رجوعَ له، فإن صدَّقه ربُّ الحق وحده فوجهان، وإن صدّقه المديون وحدَه رجع عليه إن قضى بحضرته أو بإشهاد، وإلاّ فلا.
وقيل: لا يرجع فيما قضى بحضرته.
فمتى أمر رجل بدفع ألفٍ إلى فلان، فدفعها، فأنكر المدفوع إليه، فإن كان أمره بالإشهاد ولم يشهد ضمن، وإن لم يأمره بالإشهاد فالقول قوله.
__________
(1) “المحرر” (1/ 364).
(2) المصدر نفسه (1/ 350).
(3) المصدر نفسه (1/ 340).

(4/360)


قال أبو الخطاب وغيره: ومعلوم أنه لم يرد القول قوله على المدفوع إليه، فثبت أنه أراد في حق الأمر.
قلت: هذا صريح في الرواية الأولى.
وقال الخرقي (1) في الوكالة: ولو أمره أن يدفع إلى رجل مالاً فادعى أنه دفعه إليه لم يقبل قوله على الآمِر إلاّ ببينة.
قلت: وهذا يوافق الثانيةَ أنه لعدم الإشهاد، فيكون لعدم التفريط، كما هي الرواية. وكذلك قال القاضي وغيره. ويحتمل أن لا يُقبَل قولُه في ذلك إلاّ ببينة أنه فعل، فلو صدَّقه لم يقبل، والله أعلم. هذا القول قول الخِرقي، فيكون الخرقي إنما تكلم في قبول قوله على الآخر.
قلت: فهذا الذي ذكره المجد في الوديعة يوافق ما ذكره أبو محمد عموم كلام الخرقي، وإن النزاع في الموضعين فإنه قد يتكرر قضاء الدين، أما إذا صدَّقه في القضاء فيفرق بين أن يفرط أو لا يفرط، وحينئذ لا تختلف مسألة الخرقي ومسألة مهنأ في قضاء الدين ونحوه من نقل الملك، وعلى هذه الرواية التي نقلها الخرقي قد يفرق الأصحاب بين الوفاء وبين الإيداع كما ذكر المجد.
وقال الشيخ أبو محمد (2): وإن وكّله في إيداع ماله فأودعَه ولم يُشْهِد، فقال أصحابنا: لا يضمن إذا أنكر المودع.
__________
(1) في “مختصره” (ص 61).
(2) أي ابن قدامة في “المغني” (7/ 225).

(4/361)


قال: وكلام الخرقي بعمومه يقتضي أن لا يُقبَل قوله على الآمر، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، لأن الوديعة لا تثبت إلاّ بالبينة، فهي كالدين. وقال أصحابنا: لا يصحّ القياسُ على الدَّين، لأنّ قول المودَع يُقبل في الردّ والهلاك، فلا فائدةَ هنا في الاستيثاق، بخلاف الدَّين. فإن قال الوكيل: دفعتُ المالَ إلى المودَع فالقول قول الوكيل، لأنهما اختلفا في تصرُّفه فيما وُكِّلَ فيه، فكان القول قوله فيه.
قلت: هذا يخالف ظاهر قول الخرقي على الاحتمال الثاني، وهو أشبه بقوله وما ذكروه من تعليل الأصحاب، ففي دعوى الردّ إذا كان الدفع ببينة رواية عن أحمد كقول مالك، وفي دعوى التلفيق بين ماله روايتان.
وقال أبو الخطاب في الوكالة: وإن وكَّله في قضاء دَين، فقضاه في غيبة الموكل ولم يشهد، فأنكر الغريم، ضمن الوكيل.
قال المجد: بهذا قال مالك والشافعي.
وكذلك الوديعة إذا أمره بدفعها إلى إنسان، وهذا اختيار الخرقي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يضمن، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني.
قال: وهذا الذي اختاره أبو الخطاب هنا يُناقِض ما اختاره في كتاب الرهن. وصرَّح القاضي وابن عقيل في كتاب الوكالة بأن المسألة على روايتين.

(4/362)


وقال أبو الخطاب في الوديعة: وكذلك إن قال: أمرتَني أن أدفَعها إلى فلان وقد دفعتُها إليه، فقال المالك: ما أمرتُك، فالقول قول المودع، نمن عليه.
قال المجد: بهذا قال ابن أبي ليلى، وبهذا قال مالك والثوري وعبد الله بن الحسن والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي والأوزاعي: لا يُقبل قولُه في ذلك، وهو ضامن. ووافقوا على أنه إذا وافقه على الإذن فإن القول قولُه في الدفع، إلاّ الأوزاعي، فإنه قال: لا يُقبَل قوله بدون بينة، ويضمن.
قلت: هذا الذي محلُّ وفاق، فنقل الطحاوي ما ينافي ما ذكره هو وأبو محمد من عموم كلام الخرقي، فإنه قال هنا: وكذلك الوديعة إذا أمره بدفعها إلى إنسان. وهذا اختيار الخرقي. فجعل الأمر بدفع الوديعة كالأمر بدفع الدَّين.
وهذه المسألة هي بعينها الأمر بدفع الوديعة، ومسألة أبي محمد مسألة الكتاب من التوكيل في الإيداع والوكيل في الإيداع هو أمر بدفع الوديعة إلى مطلق أو معين، لكن قد يقال: إنه في التوكيل في الإيداع لم يعيّن المودع، بخلافه هنا، وهذا فرق عن سويد، كالأمر بقضاء الدين المطلق أو معين، فهذا شيء، وشيء آخر وهو أنه إذا كان منصوص أحمد أنه يُقبل قولُه عليه في الإذن في الدفع من غير إشهاد، فهذا أبلغ من قبول قوله في مجرّد الدفع. وقوله “ادفعها إلى فلان” يتناول ما إذا كان بطريق القضاء والإيداع والهبة وغير ذلك، فهذا موافق لرواية مهنأ، ومخالفة ظاهرة لنقل الخرقي،

(4/363)


لا سيما إذا حمل قوله على العموم، وعلى ما نقله الخرقي ينبغي أن لا يُقْبَل قولُه هنا بالإذن كقول الجمهور بطريق الأولى، وكلام الخرقي يتناول ذلك، بل ولا في الدفع أيضًا.

وأما مسألة الضمان فقال أبو الخطاب: وإذا ادعى الضامنُ قضاء الحق ولا بينة له، فأنكر المضموِن له، حلف وطالب من شاء منهما، فإن طالبَ المضمونَ عنه فأخذ منه لم يكن للضامن الرجوع عليه، سواء صدق في قضاء الدين أو كذبه، لأنه أذن له في قضاء جرى ولم يوجد.
وقال المجد: هذه المسألة فيما إذا قضاه في غيبة المضمون عنه وإذنُه له مطلق. وبهذا قالت الشافعية في أحد الوجهين، والثاني أنه يرجع عليه إذا صدق، اختاره أبو إسحاق. فعلى هذا إن كذّبه حلفَ لا يعلم أنه قضى عنه.
ثم وجدتُ القاضيَ قد ذكر في “التعليق” مثل ما ذكرتُه، وأن قول الخرقي هو في الوديعة، وأن الخلاف في قبول قوله بحيث لو صدّقه لم يضمن، فقال في مسألة: إذا قبض وديعة بينة ثم ادعى ردّها قُبِل منه، نصَّ عليه في رواية ابن منصور، وذُكِرَ له قولُ سفيان في رجل استودعَ رجلاً ألف درهم، فجاءه فقال: ادفعْ إليَّ دراهمي، قال: قد دفعتُها إليك يُصدَّق. فإن قال: أمرتَني أن أدفعَها

(4/364)


إلى فلان فبينة، فقال أحمد: في كلا الأمرين يُصدَّق. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا يُقبَل منه إلاّ ببينة.
وقد روى أبو الخطاب عن أحمد مثل مذهب مالك، فقال: قلتُ لأبي عبد الله: إذا كانت وديعة تريد بينة؟ قال: نعم إذا كان قد أشهد عليه لا يُقبَل منه حتى يُقيم بينة.
وهذه الرواية صريحة بمثل مذهب مالك، أما الأولى فإنها فيها عموم، والمقصود فيها عموم، فرق سفيان وتسوية أحمد بين الصورتين بين الدفع إليه والدفع إلى فلان. وقول أحمد “يصدَّق” قد يقال: إنه لا ينافي قول من يضمن لتفريطه لا لكذبه.
ثم، قال القاضي: وجه الأول أن المودع أمين في أمثال هذا، ويحفظ الشيء لمصلحة صاحبه ومنفعته، لا لمنفعة نفسه وحظِّه، فيجب أن يكون القول قوله في الردّ. وإن شئت قلت: أمانة مجردة، وكان القول قوله في ردّها دليلُه إذا قبض بغير بينة.
قلت: الأول كلامٌ مرسلٌ لا أصل له يَشهد له، والثاني قياس في صورة الفرق، من غير إلغاء الفارق.
قال: ولا يلزم على هذا: المرتهنُ إذا ادَّعى ردَّ الرهنِ أنه لا يُقبَل قولُه وإن كان أمانة، لأن ممسكٌ للشيء ليستوفي الحق من نفسه لنفسه. فإذا ادَّعى الرّدّ لم يُقبَل منه، نصّ عليه في رواية أبي طالب. وفي مسألتنا لو أقرّ بالوديعة وادّعى الردّ قُبِل منه.
ثم قال القاضي: مسألة، فإن أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى

(4/365)


رجل، فدَفَعها إليه بغير بينة، فالقول قول المودع، نصّ عليه في رواية ابن منصور في المسألة التي قبلها.
قلت: نصّ أحمد أن يُصدَّق في الإذن في الدفع وفي الدفع أيضًا.
قال: وقال أيضًا في رجل أمرَ رجلاً أن يدفع إلى رجلٍ ألف درهم، فدَفَعها، وأنكر المدفوع له أنه قبضَها، فإن كان أمره بالإشهاد فلم يشهد ضمن، وإن كان لم يأمره بالإشهاد فالقول قوله، وهو قول أبي حنيفة، وقال مالكٌ والشافعي: لا يُقبل قوله في الدفع. وعلموا الخلاف في الوصيّ إذا ادّعى دفعَ المال إلى اليتيم بعد بلوغه، ولا بينة، فأنكر الصبي ذلك، فالقول قول الوصي، وعندهما لا يُقبل قولُه إلاّ ببينة، واختيار الخرقي ذكره في الوكيل. دليلنا إذا ادعى تسليم الوديعة إلى من يجوز الدفع إليه فكان القول قوله، دليله لو ادعى تسليمها إلى المالك فإن القول قوله، كذلك ههنا.
إلى أن قال: واحتجّ المخالف بأن المالك لم يأمره بإتلافها
على المالك، لأنه قد يجحد، فلا يُمكنُ المالكَ أن يقيمَ عليه بينة، ولا يقبل الدافع، لأنه ليس بأمين في حقه، فكان مفرطًا في ذلك، يلزمه الضمان بتعديه.
قلت: هذه الحجة مضمونها أنه متعدَّ، لا أنه غير مقبول القول كما تقدم، وهذا خلاف ما صدّر به المسألة.

(4/366)


ثم قال: احتجّ بأنه ادّعى التسليم إلى من لم يأتمنه بالحفظ، فهو كما لو ادّعى تسليمها إلى أجنبي. والواجبُ أن الأجنبي لو صدَّقَه صاحبُ الوديعة أنه سلّم إليه ضمن كذلك إذا لم يصدِّقه.
وفي مسألتنا لو صدَّقه أنه سلّم إليه لم يضمن إذا ادّعى التسليم، وله فيه حق. وأما إذا كان بحضرة المضمون عنه رجع، ولم يكن مفرطًا بترك الإشهاد عندنا في الصحيح، وهذا ظاهر مذهب الشافعي. ومن أصحابه من قال: هو كالغيبة، فلا يرون تفريطه بالحضور، فيصير لهم في هذه المسألة ثلاثة أوجه. وكذلك ذكر ابن عقيل والقاضي أنه لا يرجع، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب، لأن هذا القضاء لا يُترك في الظاهر بخلاف المشهود به.
قلت: فهذا كما في “المحرر”، وفيه الفرق بين مسألة الضمان والثاني، ذكر الوجهين في القضاء في الحضور في مسألة الضمان دون مسألة الوكالة. وكذلك ذكر أبو محمد في “المغنى” مثل ما ذكر المجد في كتابيه، وعلى هذا فالفرق أن يقال: إذا وكَّله في القضاء، ولم يأمره بالإشهاد، فقد فعل ما أمره به من غير تفريط.
أما في الضمان فهو لم يأمر الضامن بالوفاء، لكن الوفاء وجب على الضامن بحكم الضمان، فلو أذن له في الضمان فالموجب للوفاءِ الضمانُ دُونَ الإذن، لا سيّما على ظاهر المذهب للضامن الرجوع وإن ضمن بغير إذن. وكذلك من أدى عن غيره واجبًا عليه، كفداء الأسير. وإذا كان الوفاء هنا حصل بإذن الشارع وإيجابه فالمتصرف عن غيرِه بحكم الشرع مأمور بأن يتصرف بحسب المصلحة، بحكم التصرف بالوكالة أنه سمع الأمر. ولهذا لو أذن له فيما فيه ضرر

(4/367)


عليه وفعله لم يضمن، كما لو أمره أن يبيعَه بدون ثمن المثل ليثمن قدره أو بيعه من غريم غير ملي ونحو ذلك، بخلاف من تصرَّف بحكم المصلحة كالولي. وأيضًا من يُريد أن يرجع بما قضاه عنه فهو مطلب بالبذل كالقرض، لأن وفاء المال إقراض للمدين، بخلاف الوكيل فإنه لا يرجع بشيء. وبهذا يظهر الوجه المذكور فيما إذا كان الوفاء بحضرتِه في الضمان دون الوكالة، لأن الوكيل يفعل عن الموكِّل، فسكوتُه رِضىً بذلك، والضامن يُوفي عن نفسه ما وجب عليه، وهو مقرض للمدين، ومقصود هذا القرض براءة ذمته من الدين.
فصل
الذي يُكْرَه من شِرَى الأرضِ الخراجية إنما كان لأن المشتريَ يشتريها فيدفع الخراج عنها، وذلك إسقاطٌ لحقّ المسلمين، كما كانوا أحيانًا يُقطِعون بعضَها لبعضِ المجاهدين إقطاعَ تمليك لا إقطاعَ استغلالٍ، كإقطاع المَوَات، فهذا الابتياع والإقطاع يُسقِط حق المسلمين من الرقبة والَمنفعة.
والخلفاء أخذوه من الغزاة لتكون منفعةً دائمة للمسلمين، فإذا قُطِعتْ منفعتُه عن المسلمين صارَ ظلمًا لهم، بمنزلة من غَصب طريقَ المسلمين وبَنَى في منى ونحوِها من المنافع المشتركة بين المسلمين على التأبيد. فأما إذا اشتراها وعليه من الخراج ما على البائع، فهو كما لو ولاّه إياها بلا ثمن، وكما لو ورثَها، فإن الإرثَ

(4/368)


مُجمع عليه أن الوارثَ أحقُّ بها بالخراج، وذلك لأن إعطاءَها لمن أُعطِيَتْه بالخراج قد قيل إنه بيع بالثمن المقسط الدائم كما يقول بعض الكوفيين، وقد قيل: إنه إجارة بالأجرة المقسطة المؤبَّدة المدة كما يقول أصحابنا والمالكية والشافعية. فكلا القولين خرج في قوله عن قياس البيوع والإجارات.
فالتحقيق أنها معاملة قائمة بنفسها، ذات شَبَه من البيع دون الإجارة، ويشبه في خروجها عنها المصلحة على منافع مكانه للاستطراق أو إلقاء الزبالة أو وضع الجذوع ونحو ذلك بعرض ناجز، فإنه يملك العين مطلقًا ولم يستأجرها، وأما ملك هذه المنفعة مؤبدة.
وكذلك وضع الخراج، ولو كان إجارة محضة، وكان عمر وغيره قد تركوا الأرض للمسلمين وأكروها لكان ينبغي إكراه المساكن أيضًا، لأنها للمسلمين إذ فُتِحَتْ عنوة، ولكان قد ظلم المسلمين، فإن كَرِى الأرضِ يُساوِي أضعافَ الخراج، ولكان على المشهور عندهم، ولا يستحق الآخذون ما في الخراج من الشجر القائم ومن النخيل والأعناب وغيرها، كمن استأجَر أرضًا فيها غراس، ولكان دفعها مساقاة مزارعةً كما فعل المنصور أو المهدي في أرض السواد -أنفعَ للمسلمين اقتداءً بالنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في أرض خيبر، فإنه لا فرقَ إلاّ أن مُلاَّك خيبر معيّنون وملاّك أرض العنوة العمرى مطلقون، وإلاّ فيجوز للمالك أن يؤاجر، ويجوز لربّ الأرض الموقوفة أن يعامل مساقاة ومزارعة.

(4/369)


وأما بيعها فلو كان كذلك لباع المساكن أيضًا، ولا بيع يكون بثمن مؤبَّد إلى يوم القيامة، فالتخريج أصل دلَّت عليه السنَّة والإجماع، فلا يقاس بغيره، فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “منعتِ العراقُ قفيزَها ودرهمَها، ومنعت الشامُ مُدْيَها ودينارَها، ومنعتْ مصرُ إردبَّها ودينارها” (1).
واتفق الصحابة مع عمر على فعله بوضع ذلك، فإن أصل الخراج في قوله (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (2)، فإن هذا فرق بين العقار والمنقول، ومع هذا فقد أضاف القرى إليهم، فعلم اختصاصهم بها.
وإذا كان كذلك فلو أخذه ذمّي من الذمّي الأول بالخراج، وعاوضَه في ذلك عوضًا، لم يكن في ذلك ضررٌ أصلاً، فلا وجه لمنعه، لأنه إن قيل: إنه وقف فهذا لا يخرج بهذه المعاوضات عن أن يكون وقفًا، بل مستحقّ أهل الوقف باقٍ كما كان. وبيع الوقف إنما مُنِع منه لإزالة حق أهل الوقف، وهذا لا يزول بل هو بمنزلة إجارة أرض الوقف بأكثر مما استأجرها، فكأنه قال: أكريتُكَ هذه بما على من الخراج وبالزيادة التي تُعجِّلها لي، ولهذا انتقل إلى ورثة من هي في يده، والوقف لا يُباع ولا يُوهَب ولا يُورَث، فإذا جاز انتقاله بالإرث على صفة ما كان فالهبةُ مثله، وكذلك المعاوضة، سواء سُمِّيت بيعًا أو إجازةً. ولهذا جوَّز أحمد -رحمه الله- إصداق الأرض الخراجية، وما جاز أن يكون صداقًا جاز أن يكون ثمنًا وأجرةً، وما كان ثمنًا كان مثمنًا، فهذا ينبغي تأملُّه.
__________
(1) أخرجه مسلم (2896) عن أبي هريرة.
(2) سورة الحشر: 7.

(4/370)


يبقى إذا أخذه المسلم، فقد يكره لما فيه من الصَّغار، ولما فيه من الاشتغال عن الجهاد بالحراثة، فهو مانعٌ آخر غير كونه وقفًا يختلف باختلاف المصالح والأوقات، كما أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عاملَ اليهودَ على خيبرَ لقلّة المسلمين، فلما كثُر المسلمون أجلاهم عمرُ بأمر النبي- – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، صار المسلمون يعمرونها. فكذلك الأرض الخراجية، إذا كثر المسلمون كان استيلاؤهم عليها بالخراج أنفعَ لهم من أن يَبقَوا فقراءَ محاويجَ، والكفّار يستغلُّون الأرضَ بالخراج اليسير، فإنهم كانوا زمنَ عمر قليلاً وأهل الذمة كثيرًا، وقد انعكس الأمر، فكما أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عاملَهم على خيبر، ثم عَمرها المسلمون لفا كثُر المسلمون وتضرَّروا ببقاء أهل الذمة في أرض العرب، فكان المعنى ضرر المسلمين بأهل الذمة واكتفاء المسلمين بالمسلمين. فكيف إذا احتاج المسلمون إلى الأرض الخراجية وتضرّروا ببقائها في أيدي أهل الذمة، فرأى من احتاج من المسلمين أن يعاوض الذمّي ويقوم مقامَه فيها، فإن كان المؤدَّى أجرةً فهو أحق باستئجار أرض المسلمين وعمارتها، وإن كان ثمنًا فهو أحق باشترائها، وإن كان عوضًا ثالثاً فهو أحق به أيضًا.
ومتى كثُر المسلمون لم يبقَ صَغار ولا جزية، وإنما كان فيه صغار وجزية في الزمن المتقدم. كما لو أسلم الذمي الذي هو مسئول عليها، فإنها تبقى في يده مؤديًا لخراجها، ويسقط عنه جزية رأسه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ وإذا جاز أن يبقى بيده بعد إسلامه، فما المانع أن يدفعَها إلى مسلم غيره بعوضٍ أو غيرِه؟

(4/371)


والمسلم لا صَغارَ عليه بحالٍ، فلو كان المانع كونها صغارًا لم يجامع الإسلام لجزية الرأس، ولا يقال: هي الرقّ يمنع الإسلام ابتداء ولا يمنع دوامه، لأن الرقّ قَهَرْناهم عليه بغير اختيارهم لم نُعاوضْهم عليه، فكذلك جزية الرأس لا نمكِّنهم من المُقَام بالأرض الإسلامية إلاّ بهما، فهي نوع من الرقّ، لثبوتها بغير اختيار المسترقّ.
وأما الخراج فإنما ثبت بمعنى الخارج واختياره، ولو لم يقبل الأرض ما لم يدفعها إليه، بمنزلة المساقاة المزارعة التي عامل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بها أهلَ خيبر، سواء كان هناك العوض جزءًا من الزرع وهُنا العوض مسمى معلوم، وهناك لا يستحقّ شيئا إلاّ إذا زرعوا، وهنا يستحقّ إذا أمكنهم الزرعُ. فنظيرُه أن العامل في المزارعة يعامل غيره بأقلّ من الجزء الذي استخرج، وأن المضارب يدفع المال مضاربةً، لكن هذا يتوقف على إذن المالك لتعيين المستحق.
وبالجملة فالموانع من غير جزية كونها وقفا ينظر فيها العاقبة، أما جهة الوقف يتوجه كونها مانعًا على أصول الشريعة أبدًا، وأما التعليل بالاشتغال بالحراثة عن الجهاد فهذا قائم في جميع الأرضين عُشْرِيّها وخراجيّها، وذلك شيء آخر. ونظير هذا الغلط ما علَّلوا به أرضَ مكة.

(4/372)


فصل
ونظير ذلك مكة، فإنه لا ريبَ فُتحتْ عنوةً، ومن قال: إنها فُتحت صلحًا فاستقرَّ ملكُ أصحابها عليه، ليجوز لهم ما يجوز في سائر أراضي الصلح من البيع وغيره، كما يقوله الشافعي= فقوله ضعيفٌ لوجوهٍ كثيرة من المنقولات.
وأيضًا فإنه لا يجوز مثل ذلك، فإنه لو صالح الإمامُ قومًا من المشركين بغير جزية ولا خَرَاجٍ لم يَجزْ إلاّ لحاجة، كما فعل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عامَ الحديبية. أما إذا فُتِحت الأرض فتحَ صلحٍ وأهلُها مشركون من غير أهل الجزية، فإنه لا يجوز إقرارُهم بغير جزية بإجماع المسلمين.
وأيضًا فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جعل في العام المقبل لما حجَّ أبو بكر لمن لم يُسلِم منهم أجلَ أربعة أشهر، وإلاّ جعلَه محاربًا يستبيح دمه وماله، ولو كان قد فتحها صلحًا لم يجز ذلك.
وأيضًا فإنه قد استباح قتلَ جماعةٍ سماهم، لكن فتحها عنوةً وأمَّنَ من تركَ القتالَ منهم على نفسه وماله إلاّ نفرًا استثناهم، وكان قد أرسل بهذا الأمان مع أبي سفيان، فمنهم من قَبلَه فانعقدَ له، ومنهم من لم يقبل فحاربَ أو هَرَب، والأمان لا يثَبت إلاّ بقبول المؤتمن كالهدنة. وأما من لم يترك القتالَ فلم يؤمِّنْه بحالٍ، لكن خصَّ وأمَّ في ألفاظ الأمان، والمقصود واحد، فإن قوله: “ومن دخل المسجدَ فهو آمن، ومن دخلَ دارَه فهو آمن، ومن ألقى

(4/373)


السلاحَ فهو آمن، ومن دخل دارَ أبي سفيان فهو آمن” كلها ألفاظ معناها: من استسلمَ فلم يقاتل فهو آمن. ولهذا سمَّاهم الطُلَقاء، كأنهم أسرَهم ثمَّ أطلقَهم كلَّهم.
فقالت الحنفية: لما فَتَحها عَنْوةً ولم يَقْسِمْها، بل أقرَّها في يد أهلِها، صار هذا أصلاً في أرض العنوة أنه لا يجوز إقرارها في يد أهلها. قالوا هم وأصحابنا وغيرهم في أحد التعليلين: ولهذا لم يجز بيعُها وإجارتُها، لكونها فُتِحتْ عنوةً ولم تُقسَم كسائر أرض العنوة. وربما قالوا: صار إنزال أهل مكة للناس عندهم هو الخراج المضروب عليهم.
وأما من قال من أصحابنا: إن الخراج على مزارعِها، فقد عُلِمَ بالنقل المتواتر فسادُ قوله مع إجرائِه لقياسه. وهذا التعليل ضعيف لوجوهٍ:
أحدها: أن أرض العنوة يجوز إجارتُها بالإجماع، وبيوت مكة أحسنُ ما فيها أنه لا يجوز إجارتُها، بل يجوز بذلُها للمحتاج بغير عوض. فهذا هو الذي يدكُ عليه الكتاب والآثار والقياس، وأما المنع من بيعها ففيه نظر، فلو كان المانع كون فتحها عنوةً لما منع إجارتها.
الثاني: أن أرض العنوة إنما تُمنَع من بيع مزارعها، فأما المساكن فلا يُمنَع ذلك فيها، بل هي لأصحابها. ومكة إنما منعوا من المعاوضة في رباعها التي لا تمنع فيها في أرض العنوة، وهذا برهان ظاهر على الفرق.

(4/374)


الثالث: أن مزارع مكة ما علمنا أحدًا من أصحابنا ولا غيرهم منع بيعَها أو إجارتَها، وإنما الكلام في الرباع، وهي المساكن لا المزارع، فأين هذا من هذا؟
الرابع: أن تلك الديار كانت للمهاجرين، فقد طلبوا من النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إعادتَها إليهم فلم يَفْعَل، ولو كانت كسائر العنوة لكان قد أعادها إلى أصحابها، لأن الأرض إن كانت للمسلمين، واستولى عليها الكفار، ثم استنقذناها، وعُرِف صاحبُها قبل القسمة= أعيدت إليه.
الخامس: أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يتعرض لشيء من أموالهم، لا منقولها ولا عقارها ولا شيء أخذ من ذراريهم، ولو أَجرَى عليها أحكامَ غيرِها من العنوة لغنمَ المنقول والذرية.
بل الصواب أن المانع من إجارتها كونُها أرضَ المشاعر التي يَشتركُ في استحقاق الانتفاع بها جميعُ المسلمين، كما قال تعالى: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) (1)، فالساكنون بها أحق بما احتاجوا إليه، لأنهم سبقوا إلى المباح، كمن سبقَ إلى المباح من طريق أو مسجد أو سوق. وأما الفاضل عليهم بذلوا لأنهم إنما لهم أن يبنوا بهذا الشرط، لكن العرصةَ مشتركة، وصار هذا بمنزلة من يبني بيئا في رباطٍ أو مدرسةٍ أو نحو ذلك له اختصاصٌ بسُكناه وليس له المعاوضة عليه، أو من يبني بيتًا في خانات السبيل، أو في دور الرباط التي تكون في الثغور، ونحو ذلك. كما تكون الأرض فيه مشتركة
__________
(1) سورة الحج: 25.

(4/375)


المنفعة للحج والجهاد وللمرور في الطرقات أو للتعليم أو التعبد ونحو ذلك.
فإذا قال: البناءُ لي، قيل له: والعرسة ليست لك، وأعيان الحجر ليست لك، التأليف أو التأليف والابعاض مما ليس لك، لا يجوز لك أن تعاوض عنه، وما هو لك فقد اعتضتَ عنه بتقديمك في الانتفاع بالعرصة.
أو لأن المكي لما صار الناس يهدون إليهم الهدايا ويجب عليهم قَسْمُها فيهم صارَ يجب على المكيين إنزال الناس في منازِلهم، مقابلةَ الإحسان بالإحسان. فصاحب الهَدْي له أن يأكلَ منه مثلاً حيث يجوز، ويُعطي من شاء ولا يعتاض عنه، وكذلك صاحب المنزل يَسْكُنُه ويُسْكِنُه ولا يعتاضُ عنه.
وهذا المعنى الذي قد ذكرناه هو السبب الموجب لإبقائها بيدِ أربابها من غيرِ خراجٍ مضروب عليهم أصلاً، لأن للمقيمين بمكة حقًّا وعليهم حقًّا وليست لغيرها من الأمصار، ومن هنا يصير التعليل بفتحها عنوةً متناسبًا لمنع إجارتها كما ذكرناه لإلحاقها بسائر أرض العنوة.
فإن قيل: فالأرض إذا فُتِحتْ عنوةً يجوز أمانُ أهلِها على نفوسهم وأموالِهم كذلك؟
قيل: نعم يجوز قبل الاستيلاء أن يؤَمَّن من تركَ القتالَ على نفسه ومالِه، لما فيه من الانتفاع بتركِ قتالِه، وهو أمان بشرط.

(4/376)


بل إذا جوزنا المنَّ على الأسير بعد الأسر للمصلحة كيف لا يجوز ذلك قبل الأسر للمصلحة كيف ارباب على ماله، لأن ذلك قبل الاستيلاء، كما لو نزلوا على حكم حاكمٍ فإنه من أسلم منهم قبل الحكم عَصَمَ نفسَه ومالَه، لأنه لم يتمّ القهر.
فأما أهل مكة كان قبل القهر ودخلَها قهرًا، ولهذا التجوز تظهر الشبهة التي أدحضتْ كلاًّ من القولين، وأما بعد القهر فيجوز أن يمنّ على المقهورين ويدفع إليهم الأرض مُخارجةً. فالذين حاربوا بمكة أو هربوا، ثمّ أمَّنَهم بعد قهرهم والقدرة عليهم، هذا جائز في أنفسهم كالمنّ، ولهذا سمَّاهم الطُلقاء. وأما في أموالهم فالأرض قد ذكرت بسبب ذلك فيها. والله أعلم.

(4/377)


مسألة
أيُّهما أولَى: معالجةُ ما يكره الله من قلبك، مثل الحسد والحقد والغِل والكِبر والرياء والسمعة ورؤية الأعمال وقسوة القلب وغير ذلك مما يختصّ بالقلب، من دَرَنِه وخَبَثِه؟ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة من الصلاة والصيام وأنواع القربات من النوافل والمندوبات مع وجود الأمور في قلبه؟ أفتونا مأجورين.
جوابُ
شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الحراني -رضي الله تعالى عنه- الحمد لله. من ذلك ما هو أوجب، وإن الأوجب أفضل وزيادة، كما قال تعالى فيما يروي عنه رسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ما تقرَبَ إليّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افترضتُ عليه”، ثم قال: “ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبه” (1).
والأعمال الظاهرة لا تكون صالحةً مقبولةً إلاّ بتوسطِ عملِ القلب، فإن القلب مَلِكٌ والأعضاءُ جنودُه، فإذا خبثَ الملكُ خبث جنودُه. ولهذا قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إلاّ وإن في الجسد مُضْغَةً إذا
__________
(1) أخرجه البخاري (6502) عن أبي هريرة.

(4/378)


صَلَحتْ صَلَح لها الجسدُ كلّه، وإذا فَسَدَتْ فَسدَ لها الجسدُ كلّه، إلاّ وهي القلب” (1).
وكذلك أعمال القلب لابُد أن تؤثر في عمل الجسد، وإذا كان المتقدم هو الأوجب سُمي باطنًا أو ظاهرًا، فقد يكون ما يُسمَى باطنًا أوجبَ، مثل تركِ الحسد والكبرياء، فإنه أوجبُ عليه من نوافلِ الصيام. وقد يكون ما سُميَ ظاهرًا أفضل، مثل قيام الليل، فإنه أفضل من مجرد تركِ بعضِ الخواطر التي تَخْطر في القلب من جنس الغبطة ونحوها. وكل واحدٍ من عمل الباطن والظاهر يَعنِي الآخر، والصلاةُ تَنهى عن الفحشاء والمنكر، وتُورِث الخضوعَ ونحو ذلك من الآثار العظيمة، هي أفضل الأعمال، والصدقةُ. والله تعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري (52، 2051) ومسلم (1599) عن النعمان بن بشير.

(4/379)


مسألة
ما تقول السادة أئمة الدين – رضي الله تعالى عنهمِ أجمعين – في مدينة لا يُذبَحُ فيها شاة إلاّ ويأخذ المكّاسُ سقطها ورأسَها وأكارعَها مَسْكًا، ثم يضع ذلك ويبيعُه في الأسواق، وفي المدينة من لا يمنع عن شراء ذلك وأكلِه من أهل الذمة وغيرها، وليس يُباعُ في المدينة رءوسٌ وأكارعُ وأسقاطٌ إلاّ على هذا الحكم، ولا يمكن غير ذلك. فهل يَحْرُم شراءُ ذلك وأكلُه والحالةُ هذه أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- هذه حكمُها حكم ما يأخذها الملوكُ من الكُلَفِ التي ضربوها على الناس، فإن هذه في الحقيقة تُؤخذ من أموال أصحاب الغنم التي يبيعونَها للقصابين وغيرهم، فإن المشتري يحسب أنه يؤخذ من السواقط، فيسقط من الثمن بحسب ذلك. وهكذا جميع ما يؤخذ من الكلف، فإنها وإن كانت تؤخَذ من المشتري فهي في الحقيقة من مالِ البائع.
وهذه الكُلَفُ دخَلَها التأويل والشبهة، منها ما هو ظلم محض، ولكن تعذَّرَ معرفةُ أصحابه وردها إليهم، فوجبَ صرفُه في مصالح

(4/380)


المسلمين، وولاية بيعها وصرفها لهم. فالمشتري لذلك منهم إذا أعطاهم الثمن لم يكن بمنزلة من اشترى المغصوب المحضَ الذي لا تأويلَ فيه ولا شبهة، وليس لصاحبه ولاية بيعه، حتى يقالَ: إنه فعلَ محرَّمًا يفسق بالإصرار عليه. وفي المنع من شرائها إضرار بالناس وإفسادٌ بالأموال من غير منفعةٍ تعودُ على المظلوم، والمظلومُ له أن يطالب ظالمَه بالثمن الذي قبضَه إن شاءَ أو بنظيرِ مالِه.
والتورع عن هذه من التورع عن الشبهات، ولا يُحكَم بأنها حرام محض، ومن اشتراها وأكلها لم يجب الإنكار عليه، ولا يُقال: إنه فَعَلَ محرَّمًا لا تأويل فيه، فإن طائفة من الفقهاء أفتَوا طائفة من الملوك بجواز وضعِ أصل هذه الوظائف، كما فعل ذلك أبو المعالي الجويني في كتابه “غياث الأمم” (1)، وكما ذكر بعضُ الحنفية. وما قُبض بتأويل فإنه يَسُوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضَه، وإن كان يعتقدَ المشتري أن ذلك العقد محرم. كالذمي إذا باعَ خمرًا وأخذَ ثمنَها، جاز للمسلم أن يعامِلَه في ذلك الثمن وإن كان المسلم لا يجوز له بيع الخمر، كما قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: “وَلُوهم بيعَها وخُذوا أثمانَها” وهذا ثابت عن عمر -رضي الله عنه- (2)، وهو مذهب الأئمة.
__________
(1) ص 283.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9886، 10044) عن سويد بن غفلة، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 205 – 206) عن ابن عباس، كلاهما عن عمر.

(4/381)


وهكذا مَن عمل معاملةً يعتقد جوازَها في مذهبه وقبض المال، جاز لغيره أن يشتريَ منه ذلك المال، وإذا كان هو لا يَرى جواز تلك المعاملة، فإذا قُدّر أن الوظائف يدفعها من يَعتقِد جوازها لإفتاء بعض الناسِ له بذلك، أو لاعتقادِه أن أخذَ هذا المال وصَرْفَه في الجهاد وغيرِه من المصالح جائزٌ، جاز لغيره أن يشتري منه ذلك المال، وإن كان لا يعتقد جوازَ أصل هذا القبض.
وعلى هذا فمن اعتقدَ أن لولاة الأمور فيما فعلوه تأويلا، جاز له أن يشتري ما فعلوه، وإن كان هو لا يُجوز ما فعلوه، مثل أن يَقبض ولي الأمر عن الزكاة قيمتها فيشتري منه، أو مثلَ أن يُصادر بعضَ المالِ مصادرةً يعتقد جوازها، أو مثل أن يرى أن الجهاد وجب على الناس بأموالهم وأن يأخذه من الوظائف هذا من المال الذي يجوز أخذُه وصرفُه في الجهاد، ونحو ذلك من التأويلات التي قد تكون خطأ، ولكنها قد تنازع فيها الاجتهاد.
وإن كان قبضَ ولي الأمر المالَ على هذا الوجه جاز شراؤه منه، وجاز شراؤه من نائبه الذي أمرَه بقبضه، وإن كان المشتري لا يُسَوِع قبضه. والمشتري لا يَظلم صاحبَه، فإنه اشتراه بماله ممن قبضه قبضًا يتعقد جوازه، وما كان على هذا الوجه فشراؤه حلالٌ على أصحّ القولين، وليس من الشبهات.
فإنه إذا جاز أن يُشتَرَى من الكفار ما قبضوه بعقودٍ يعتقدون جوازَها وإن كانت محرمةً في دين الإسلام، فلأن يجوز أن يُشتَرى من المسلم ما قبضَه بعقدٍ يعتقد جوازَه- وإن كنا نراه محرمًا- بطريق الأولى والأحرى،

(4/382)


فإن الكافر تأويلُه المخالف لدين الإسلام باطل قطعًا، بخلاف تأويل المسلم. ولهذا إذا أسلم الكفار وتحاكموا إلينا- وقد قبضوا أموالاً يعتقدون جوازها، كالربى وثمن الخمر والخنزير- لم تحرم عليهم تلك الأموال، كما لا تحرم معاملتهم فيها قبل الإسلام ولم يحرم، لقوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (1). فأمرهم بترك ما بقي في الذمَم، ولا يحرِّم عليهم ما قبضوه.
وهكذا من كان قد عامل معاملاتٍ دنيوية يعتقد جوازها، ثمّ تبيّن له أنها لا لَجوز، وكانت من المعاولات التي تنازع فيها المسلمين، فإنه لا يحرم عليه قبضُه من تلك المعاملات على الصحيح. والله تعالى أعلم.
__________
(1) سورة البقرة: 278.

(4/383)


مسألة
في الحلاّج، هل قَتَلَه الشرعُ مظلومًا؟ وهل كان قتلُه بحكم الشرع أم لا؟ وهل إذا قال قائل: إنه قُتِلَ مظلومًا وإن الذي قاله الحلاّج حق- فهل هو مصيب أم مخطئ؟ أفتونا مأجورين.
جواب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه-
بل قُتِل ظالمًا غيرَ مظلوم، وقُتِل على الزندقة التي تُعرِّف حالَه، وإن الذي قالَه كفرًا باطنًا وظاهرًا يُوجبُ قتلَه باتفاقِ أهل الإسلام علمائهم وفقرائهم. فإنْ أصرَّ على خلافَِ ذلك عُوقِبَ عقوبةً مُردعة. ولا ينتصر للحلّاج إلاّ جاهل بحالِه أو منافق عدوّ لله ورسوله. والله أعلم.
وأخبار الحلاّج مذكورةٌ في كتب المصنفين، كأبي بكر الخطيب (1) وأبي الفرج ابن الجوزي (2) وسبطِه. وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلَمي (3) أن جمهور المشايخ أخرجوه عن الطريق. وكان ساحرًا، وله مصنف في السحر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) في “تاريخ بغداد” (8/ 112 – 141).
(2) في “المنتظم” (6/ 160 – 164).
(3) في “طبقات الصوفية” (ص 307 – 308).

(4/384)


مسألة
في رجل قرأ القرآن وقال: هذا هديةٌ مني للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهل يجوز هذا أم لا؟ وهل هو محتاجٌ إلينا حتى نُصَلِّيَ عليه أو نُسلَمَ عليه؟
الجواب
لشيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه-
الحمد لله. لم يكن من عمل السلف أنهم يصلُّون ويصومون ويقرأون ويُهدُون للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ,وكذلك لم يكونوا يتصدَّقون عنه ويعتقون عنه وإن فعلوا ذلك، لأن كلَّ ما يفعله المسلمون فله مثل أجر فعلهم من غيرِ أن يَنقُصَ من أجورِهم شيئًا، لما ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “من دعَا إلى هُدىً كان له من الأجر مثل أجور من تَبعَه، مِن غير أن يَنقُص في لك من أجورِهم شيئًا”. بخلاف الأبوين، فإنه ليس كل ما يفعلُه الولدُ يكون لوالِده مثلُه، وإن كان الأب ينتفع بعملِ ولدِه.
__________
(1) مسلم (2674) عن أبي هريرة.

(4/385)


وأما صلاتُنا عليه وسلامنا عليه وطَلَبُنا له الوسيلةَ فهذا دعاءٌ فيه لنا، يهحيْبُنا الله عليه، ويُستَحبُّ هذا الدعاء في حقّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيزيدُه الله به من فضلِه ويثيب عليه الداعي، ولا منَّةَ له عليه، بل لله المنَّةُ عليه، وسائرُ الخلق محتاجون إلى الله تعالى، والأمة محتاجون إلى ما بعثَ الله تعالى به نبيَّها – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنما هداهم الله تعالى به. والله أعلم.

(4/386)


رسالة في الرد على بعض أتباعِ سعد الدين ابن حمويه

(4/387)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
………. أهدابُ الجَفْن التحتاني، والتفرقة الملكية في العُلْوِيَّات أهدابُ الجَفْنِ الفوقاني، والنفسُ الكلّيةُ سوادُها، والروح الأعظم بياضُها، والله تعالى نورُها. وإنما قلنا: إنّ العُلْوِياتِ والسفْلِيّاتِ أجفانُ العين، لأنهما يُحافظان على ظهور النُّور، فلو قُطِعَتْ أجفانُ عينِ الإنسان لتفرق نورُ عينه وانتشرَ، بحيث لا يَرى شيئًا أصلاً، فكذلك العُلْوِيَّات والسفليات لو ارتفعتْ لانْبَسَط، بحيث لا يظهر فيه شيءٌ أصلاً ورأسا. ونَعنِي بعينِ اللهِ ما يَتعيَّنُ الله فيه. هذا هو الحق الصريح المتبع، لا كما يرى المنحرفُ عن منهاج الإسلام ودِينه، المتحيِّر في مبدأ ضلالتِه وجهلِه.
فنقول: هذا الكلام لولا أني علمتُ مقصودَ الشيخِ به وأنه عنده كلامٌ عظيمٌ فيه كشفُ حقيقةِ الأمر، وأن مقصودَ الشيخ إنما هو المعرفةُ والهداية، لكُنا نُقابلُه بما يستحقُّه، على حدِّ ما توجبُه الشريعةُ على من قامت عليَه الحجة، لكنّ الله يقول: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)) (1)، وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن الله رفيقٌ يُحب الرفقَ في الأمر كله” (2)، وقال: “إن الله رفيقٌ يُحِب الرفق، ويُعطي
__________
(1) سورة الإسراء: 15.
(2) أخرجه البخاري (6927) ومسلم (2165) عن عائشة.

(4/389)


على الرفق ما لا يُعطي على العنف ” (1)، وقال: “ما كان الرفق في شيء إلاّ زانَه، ولا كان العنف في شئ إلاّ شانَه” (2). وقد قال لموسى وهارون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)) (3).
فهذا الكلام وأمثالُه الذي فيه من الكفر ما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخزُ الجبال هدًّا، إذ هو أعظم من قول الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا، إذا صَدَرَ من قومٍ يظنّون ويظنّ بهم مشايخ الإسلام أهل التحقيق والعرفان، احتاج المخاطب لهم إلى شيئين: قوة عظيمة، وغضبٍ لله، وسلطان حجهٍ، وقدرة يدفع بها شَتْمَ الله وسَبَّه والكُفْرَ به؛ ورفقٍ ولينٍ يُوصِل به إلى المخاطبين حقيقةَ البيان. والرفقُ في الجهاد باليد واللسان إنما يكون بالنسبة إلى العنف في الجهاد، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنّ الله كتبَ الإحسان على [كلّ] شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذَبَحتم فأحسنوا الذِّبحةَ” (4).
فلابدّ من القتل الشرعي، ولكن الإحسان فيه يكون بأن يقتل أحسن القتلات، وكذلك دفعُ الكفرِ والفريةِ على الله والإلحادِ في
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 87) والبخاري في “الأدب المفرد” (472) وأبو داود (4807) عن عبد الله بن مغفل. وفي الباب عن عليّ أخرجه أحمد (1/ 112)، وعن أبي هريرة أخرجه ابن ماجه (3688).
(2) أخرجه مسلم (2594) عن عائشة.
(3) سورة طه: 44.
(4) أخرجه مسلم (1955) عن شداد بن أوس.

(4/390)


أسمائه وآياتِه وجحودِ ذاتِه وصفاتِه، لا يكون الإحسان والرفق في دفعه إلاّ بأحسن وجوه ذلك، كما قال الله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (1)، وقال: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (2). فمن ظلم وظَهرَ عنادُه عُوقِبَ حينئذ عقوبة مثله، بالقتل المشروع إن إستحقَّ ذلك، وإلاّ فيما دونَه على حسب الأفعال والأحوال وما يتعلق بذلك.
ولا شكَّ أن طريق الله عظيم، وتحقيق الإيمان هو غاية مطلوب الإنسان، وهؤلاء المتكلمون في هذا الباب من حين ظهور دولة التتار قد خَلَّطوا في هذا الباب تخليطًا عظيمًا، وخلطوا التوحيد بالإلحاد، بل منهم من جَرَّد الإلحاد تجريدًا، فيغترُ بإضلالهم خلق كثير معتقدين أنهم على غاية الهدايةِ والحق الصريح، فإذا وضحَ الحقُّ الذي أنزلَ الله به كتبه وبعثَ به رُسُلَه، قامت الحجةُ على من بلغه ذلك. فمن خرج عنه حينئذٍ استوجبَ ما أمر الله به في مثله.
وعلمتُ أن الشيخ لما وقفَ على الذي كتبَه إليَ الشيخ نصرٌ في الاتحادية، ظنَ مَن ظنَ أنه قد يَرُدُّ عليهم مَن لم يفهم حقيقة قولهم، فأراد الشيخُ أن يُبيِّن ذلك، ولم يَعلَم أن مثلَ هذا الكلام وأمثالَه قد صار مَضْحَكة عند الصبيان ومُكفِّرةً عند ذوي العلم والإيمان، وأنهم قد علموا من هذا الكلام وأمثاله ما لم يَعلَمْه غيرُهم، وهم أعرف بمذهب كلِّ واحدٍ من هؤلاء من أصحابه، بل من نفسِه. فإن الواحدَ من
__________
(1) سورة النحل: 12.
(2) سورة العنكبوت: 46.

(4/391)


هؤلاء يتناقض في كلامِه ولا يدري أنه يتناقض، لأن أصلهم فاسد في العقل والدين.
ولا ريبَ أن الشيخَ إنما استمدَّ هذا الكلام من كلام الشيخ سعد الدين ابن حمويه، وقد قيل: إذا أردتَ أن تعرفَ خطأ شيخك فاجلس إلى غيرِه. وقد كان من الواجب على من خاطَبَنا في هذا المقام أن يتأمَّلَ مع كلام سعد الدين كلامَ ابن العربي في “الفصوص” وفي كتاب “الهُو” و”الجَلالة”، وفي مواضعَ من “الفتوحات” وفي غير ذلك؟ ويتأمل كلامَ القونوي في كتاب “مفتاح غيب الجمع والوجود”؛ ويتأمَّلَ كلامَ ابن سَبعين في “البُدّ” و”الإحاطة” وغيرهما؛ ويتأمل كلامَ التلمساني في “شرح الأسماء”؛ ويتأمَّلَ آخر قصيدة ابن الفارض التي هي “نظم السلوك”، مثل قوله: (1)
لها صَلَواتي بالمقامِ أُقِيمُها وأشهدُ فيها أنها ليَ صفَتِ
كلانا مُصلٍّ واحد ساجد إلى حقيقتِه بالجمع في كلِّ سَجْدةِ
وما كان لي صلَّى سِوايَ ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل سجدتي
ومثل قول ابن إسرائيل (2):
__________
(1) ديوانه: (ص 34).
(2) هو محمد بن سوار بن إسرائيل، نجم الدين الشيباني الدمشقي، شاعر حذا في بعض شعره حذوَ ابن الفارض. توفي سنة 677. له “ديوان شعر” مخطوط. ترجمته في “فوات الوفيات” (3/ 383 وما بعدها)، وهذا البيت فيه (3/ 384).

(4/392)


وما أنتَ غير الكون بل أنتَ عينُه ويَفهمُ هذا السر من هو ذائقُ
وقوله:
وقلقل أن مرَّتْ على جَسدِي يَدي لأنيَ في التحقيقِ لستُ سِواكُمُ
إلى أنواع من هذه المنظومات والمنثورات.
ثمَّ يتأمَّل بنور الإسلام: هل هذا القول يرضاهُ اليهود والنصارى والمشركون، أم هو شرٌّ من مقالات هؤلاء؟ ويَعرِض ما قاله هو على كتاب الله الذي أنزلَه من السماء وسنةِ رسولي خاتم الأنبياء وما اتفق عليهَ أهل العلم والإيمان، فإن ذلك هو سلطان الله ونوره وهداه وبرهانه، ثمّ بعد هذا يتكلم.
ونحن فلم نكن أدخلنا سعدَ الدين ابن حمويه في هؤلاء، لأنه كان قد صحبَ الشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا الشيخ نجم الدين هو من أجلِّ شيوخ تلك البلاد وأصحِّهم إسلامًا وأبعدِهم عما يخالف الكتاب والسنة. وكان الشيخ سعد الدين أخذ منه طريقة صحيحةً، لكنّه أيضًا مَزَجَها بشيء من طريقة هؤلاء. وذلك لأن شيوخ سعد الدين أربعة:
عمه صدر الدين، وإليه تنسب خِرقتُه، فإن بني حمويه بيتٌ قديم معروف بالمشيخة والتصوف.
والشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا شيخ جليل من أعظم شيوخ تلك البلاد قدرًا وأصحّهم طريقة، وله أصحاب كبار: كالشيخ مجد الدين البغدادي، والشيخ علي لالا، والشيخ سيف الدين

(4/393)


الباجوري وغيرهم.
والثالث: الشيخ شهاب الدين السهروردي، وهو أيضًا من أجِلاَّءِ المشايخ، وأكثرِهم حِرصًا على متابعة السنة في أعمالِهم.
وأما الرابع فهو الملقَّب بمحيي الدين ابن العربي، ومن هذا الشيخ دخل في كلام سعد الدين الاتحادُ.
وقد قَدِم علينا أكبر مشايخ تلك البلاد من السعدية حسام الدين الكرماني حاجًّا، وخاطبتُه في حالِ هؤلاء، وبيّنتُ له من كلام ابن العربي وغيرِه ما كان طالبًا له، حتى رَجَعَ عن تعظيم هؤلاء، وكَفَر بما يقوله ابن العربي من الكفريات، وقال: ما كُنّا نَعرِف حقيقةَ حالِ هؤلاء، ولا نعرف أن كلامَهم مشتمل على هذا كله. مع أنه كان من أكثر المشايخ تعظيمًا لابن العربي، وهو من الغلاة في سعد الدين. وجَرَتْ لنا معه فصول أظهرَ اللهُ بها الحقَّ وبيَّنَ حالَ التوحيد وتلبيسَ هؤلاء المنافقين.
وحدَّثني هذا الشيخ عن شيخه عزّ الدين الطاوسي أنه سمعَ الشيخ سعد الدين- وقد سئِل عن ابن العربي وعن الشيخ شهاب الدين، فقال:- أما ابن العربي فبحر لا ساحلَ له، ولكن نور متابعة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في جبين الشيخ شهاب الدين شيء آخر.
وهدْا كلام صحيح، فإن شهاب الدين شيخ مسلم محبّ لسنةِ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وشريعتِه، سالك طريقةَ أمثالِه من المشايخ أهلِ المعرفة والدين، عظيمُ القدر في وقتِه، رضي الله عنه.

(4/394)


وأما قوله عن ابن العربي: “بحرٌ لا ساحلَ له” فلعَمري إنه بحرٌ، لكن مِلحٌ أُجاجٌ، فإنه كثير الخوض في أحوال العالم وطبقات الكائنات، واسع الخيال، قادر على الكلام، وهو في باطلِه أشدُّ تمكُّنًا من الشيخ شهاب الدين في حقّه، فلهذا جعله سعد الدين أوسعَ، وإن كان شهاب الدين أقومَ، لكن الشيخ شهاب الدين من خيار أمة محمد، وإن كان غيرُه من المشايخ الكبار- كالشيخ عبد القادر- الواصلين إلى حقائق التوحيد النبوي الذي بعثَ الله به رسولَه، وما اشتمل عليه من أسماء الله وصفاتِه، التي بها يقتدرون على قَمْع هؤلاء الملاحدة ودَفْع الجهمية وضروبهم؛ أرفعُ درجةً، وأعظمُ عَلمًا وإيمانًا، وأعظمُ جَهادًا ممن ليس مثلهم، ممن يكون معرفته وتوحيده فيه نوع إجمال، لا يتميز فيه أهلُ المعرفة والسنة المحمدية ممن خَرَج عن بعض ذلك من أهل النكرة والبدعة. فهم في ذلك بمنزلة ملوك المسلمين الذين ضَعُفَ إيمانُهم وجهادُهم عن مقاومة جنكسخان ونحوه، بخلاف المؤيَّدين بكمال العلم والإيمان والجهاد، المتبعين لسيرة الخلفاء الراشدين كالأئمة والمشايخ الكبار، فهؤلاء لا يقوم معهم لأهل الضلال والبدع قائمة.
فسعد الدين- مع ما فيه من الإسلام والمتابعة- فيه تخليط كثير، فإنه أحيانًا يتكلم بكلام الاتحادية؟ وأحيانًا يُجرد الاتحادَ تجريدَهم، بل يَسلُك لنفسِه مسلكًا أبلقَ لا أبيضَ ولا أسودَ؛ وأحيانًا يتكلم بكلام أهل الإسلام الموافق للكتاب والسنة؛ وأحيانًا يحتج بأحاديث موضوعة لا أصل لها عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(4/395)


وأما صاحبُه الطاوسي ففي كلامه من الكذب على رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – والباطلِ شيء كثير جدا. وتكلم في الحروفَ والدوائر بكلامٍ انفرد به، لا يُشبه كلام أبي الحسن الحَرَالّي ولا كلام أبي العباس البُوني، وهو كلام فيه أشياء حسنة مناسبة، وفيه أشياء لا فائدة فيها، وفيه أشياء ضعيفة بل باطلة من جنس كلام سائر الناس، وفيه أشياء من الهذيان والباطل التي لا يقولُها عاقل. والله تعالى يغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا يجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا.
وإذ قد ابتدأ الشيخُ بدعوى أن هذا هو الحق الصريح، فنحنُ نذكرُ ما تبيّن به حقيقتُه. أوّل ما في هذا الكلام أنه دعوى مجردة بلا حجة ولا دليلٍ، وإذا كان من تكلَّم في مسألة من مسائل الاستنجاء أو الإجارة لم يُقبَل منه إلاّ بالحجة والدليل، فمن تكلم في خالقِ الخلق وربّ العالمين بكلامٍ لا يوجَد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ولا قاله أحدٌ من السلف ولا شيخ من المشايخ الذين لهم لسان صدقٍ في عمومه، بل جميعُ أهل العلم والإيمان والمشايخ المقبولون يُكفرون من يقوله، ولم يأتِ عليه لا بحجةٍ ولا دليلٍ، كيف يُقبَل منه؟
ثمّ إن هذا الباب كيف يجوز لمؤمنٍ بالته ورسوله أن يتكلم فيه بغير الكتاب والسنةِ؟) ألم يَسمع الله يقول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (1)، ألم يسمع الله
__________
(1) سورة النساء: 171.

(4/396)


يقول: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)) (1).
ونحن ننبه على بعض حقيقة هذا الكلام، وذلك من وجوه:
الأول
قوله في صدر الكلام: “كان الله ولا شيءَ معه”، فهذه الكلمة مأثورة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (2). ثم قال في آخره: “وهو الآن على ما عليه كان”، فهذه الكلمة ليست من كلام النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يُؤثَر عن أحد من أئمة الدين المقبولين عند عموم الأمة، ولا لها ذِكر في شيء من كتب الحديث. وقد اعترفَ بذلك ابن عربي وغيره، فقال: قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “كان الله ولا شيءَ معه”، قال: وزاد العلماء “وهو الآن على ما عليه كان”.
وأكثر هؤلاء الاتحادية يجعلون هذا من كلام النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويجعلون هذه الكلمة أُسَّ زندقتهم، وغرضُهم أنه لم يكن معه غير، وهو الآن ليس معه غير ولا سِوى، بل الوجودُ هو عينُه ونفسُه، فلا الأصنام والأوثان والجن والشياطين والنجاسات والأقذار غيره ولا سواه، فإنه كان وليس معه غيرُه، وهو الآن ليس معه غيرُه.
__________
(1) سورة الأعراف: 33.
(2) أخرجه البخاري (3191، 7418) بلفظين آخرين عن عمران بن حصين.
وهذا اللفظ في غير رواية البخاري، انظر “الفتح” (6/ 289).

(4/397)


فإذا عُرِف أن هذه الكلمة لا أصلَ لها في الشريعة انهدمتْ قاعدتُهم. ولفظُ الحديث الذي في البخاري (1) عن عمران بن حصين قال: جاء وفدُ بني تميم إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: “اقبلوا البشرى يا بني تميم! “، فقالوا: بشَّرتَنا فأعطِنا، فجاء أهل اليمن فقال: “اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم”، فقالوا: جئناك نسألكَ عن أول هذا الأمر، فقال: “كان الله ولا شيءَ قبلَه، وكان عرشُه على الماء، وكتبَ في الذكر كلَّ شيء”. قال: وجاء رجل فقال: أَدرِكْ ناقتك، فخرجتُ فإذا السراب ينقطع دونها، فودِدتُ أني كنتُ تركتُها ولم أَقُمْ.
والذي ذكره الله في كتابه أنه لا يجوِز أن نجعلَ مع الله إلهًا آخر، فقال تعالى: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)) (2)، وقال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)) (3)، وقال: (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) (4). لم يَقُلْ: لا تجعل مع الله مخلوقًا ولا مصنوعًا، أو لا تجعل مع الله عبدًا ولا مملوكًا، أو لا تجعل مع الله عبادًا له مخلصين، بل صرَّح بأنه مع عباده عمومًا وخصوصًا، فقال: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) (5)، وقال
__________
(1) برقم (7418).
(2) سورة الإسراء: 22.
(3) سورة الإسراء: 39.
(4) سورة الحجر: 96.
(5) سورة المجادلة: 7.

(4/398)


لموسى وهارون: (إننى معكما أسمع وأرى (46)) (1)، وقال: (إنا معكم مستمعون (15)) (2)، وقال: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا (40)) (3)،َ وقال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)) (4)، وقال: (واصبروا عن الله مع الصابرين (46)) (5).
وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول: “اللهمَّ أنتَ الصاحبُ في السفر والخليفةُ في الأهل، اللهمَّ اصحَبْنا في سفرنا واخْلُفنا في أهلِنا” (6). وقال “أفضلُ الإيمان أن تعلمَ أنّ الله معك حيثما كنتَ” (7). وفي حديث: اللبيب في الجنة فيفرح الله ومعه النبيون والصديقون والشهداء (8).
فإذا كان ما ثمَّ غيره، ولا معه الآن شيء من الخلق، بل الأمر كما كان قبل أن يخلق الخلق، فمع من يكون ولمن يصحب؟ بل قوله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) (9) يقتضي أنه ثمَ شيء غيرُه، شيء لا يجوز أن نجعلَه إلهًا، ولكن يجوز أن نجعله غيرَ إله عبدًا ومملوكًا.
__________
(1) سورة طه: 46.
(2) سورة الشعراء: 15.
(3) سورة التوبة: 40.
(4) سورة النحل: 128.
(5) سورة الأنفال: 46.
(6) أخرجه مسلم (1342) عن ابن عمر.
(7) أخرجه أبو نعيم في “الحلية” (6/ 124) من حديث عبادة بن الصامت، وضعّفه الألباني في “الضعيفة” (2589).
(8) لم أجده.
(9) سورة الإسراء: 39.

(4/399)


وعلى رأي هؤلاء: أي جعلته إلهًا فما جعلتَ معه إلهًا، إذ ما ثَمَّ غيرُه، فيجوز عندهم أن يُجعل كل شيء إلفا وما يكون قد جعل معه إلهًا، إذ ما ثمّ معه شيء آخر. فهؤلاء يجوزون عبادة الأصنام، كما صرَّح به صاحب “الفصوص”، وقال في فمن الحكمة النوحية: (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)) (1) لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، كأنّه ما عُدِم في البداية، فيُدعَى إلى الغاية ادعوا إلى الله. فهذا عين المكر، وقالوا في مكرهم: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23)) (2) لأنهم لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبودٍ وجها، يَعرِفه من عرفَه ويَجهله من جَهله. كما قال في المحمديين: (*وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (3)، وما قضَى الله بشيء إلاّ وقعَ. فالعارف يعرف من عبد، وفي أيّ صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، والقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد عبد الله في كل معبود.
ولهم مثل هذا الكلام كثير. فمن كان قوله: إن عُباد الأصنام ما عبدوا إلاّ الله، وإنه لا يتصور أن يُعبَد إلاّ الله، وإن العابد هو المعبود، وإن الوجود هو عين الله= كيف يؤمن بقوله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ)؟ وكيف يتصوَّر عنده أن يُنهَى أحدٌ عن أن يَجعل مع
__________
(1) سورة نوح: 22.
(2) سورة نوح: 23.
(3) سورة الإسراء: 23.

(4/400)


الله إلها آخر، وليس مع الله شيء لا إله ولا غير إله! وهذا المنهي عندهم هو الله، وليس هو غيره!

الوجه الثاني
قوله: “يحقِّقوا أن الحقَّ كان ولم يكن معه شيء، هو في كان كأنه يتجلى لنفسِه بوحدتِه الذاتية عالمًا بنفسه وبما يَصدُر منه، وأن المعلومات بأَسْرِها كانت منكشفةً في حقيقة العلم شاهدًا لها”.
هذا الكلام مضمونُه أنّ الله كان عالمًا بالأشياء قبلَ كوبها، وهذا صحيح، لكنّ العبارة فيها طولٌ، وفيها ألفاظٌ مُوهِمة، مثل قوله: “بما يصدر منه “، فإن هذا يُوهِم مذهب الدهرية الذين يقولون: إن العالم صدرَ منه وفاض عنه. فلو قيل: “عالم بنفسه وبما يخلقُه وبما يُريد أن يخلقه” كان ذلك من عبارات المسلمين التي جاء بها الكتاب والسنة. وكذلك لو قيل: “كان رائيًا لنفسه” كان ذلك مطابقًا لما جاء به الكتاب والسنة من وصفه بالرؤية، وكذلك يقول العلماء.
وأما لفظ التجلّي فإنه لا يكاد يُستعمل إلاّ في ظهور الشيء بعد خفائِه، كما قال: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)) (1)، وكما قال: (فَلَما تَجَلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) (2) ونحو ذلك. فيُشعِر ذلك أنه رأى نفسه بعد أن لم
__________
(1) سورة الشمس: 3.
(2) سورة الأعراف: 143.

(4/401)


يكن رآها، وهذا باطل. والمتكلم لم يَقصِد ذلك، ولكن بتعمُّقِه في العبارات وخروجِه عن ألفاظ القرآن والسنة يقع في هذه المزالق.
وأما قوله “كانت بأسْرِها منكشفةً في حقيقة العلم شاهدًا لها”، فهنا كلامان:
أحدهما: أن هذا يقتضي أنه كان يرى المعدوماتِ قبل وجودِها. وهذه مسألةٌ قد تنازع فيها المسلمون، فأما العلم بها قبل وجودِها فهو حقّ، لم يخالف به إلاّ شرذمة كفَّرهم الأئمة كالشافعي وأحمد. وأما سَمْعُ المعدوم ورؤية المعدوم فذهب أكثر العلماء والمتكلمين من أصحاب الشافعي وأحمد والأشعرية والمعتزلة إلى امتناع ذلك؟ وذهب طائفة منهم من السالمية وغيرهم إلى جواز ذلك. وهذا قريب، ليس هذا مما يُخاطَب فيه هؤلاء الاتحادية، فإنّ هؤلاء لو قالوا بقول المعتزلة أو اليهود أو النصارى كان خيرًا من قولهم، وأما قولهم فلم يظهر في الإسلام إلاّ مع ظهور دولة التتار. لكن كان حقّ القائل أن يذكر حجة تَدُكُ على أن المعدومات مشهورة مرتبة، فإن موارد النزاع إذا لم يكن فيها حجة كانت دعوى مجرَّدة.
الكلام الثاني: أن يُعلَم أن قولنا “كان يعلم الأشياء قبل كونها” ليس في ذلك إثبات لكون المعدومِ شيئًا في نفسه، فإن مذهب جماهير المسلمين وجماهير العقلاء أن الشيء قبل وجودِه ليس بشيء أصلاً، وأنه وإن كان معلومًا لله فالعلمُ بالشيء لا يقتضي أن يكون موجودًا ولا ثابتًا، إلاّ أن يُقَيَّد فيقال: موجود في العلم وثابت

(4/402)


في العلم. وذلك أنَّ الله يعلم الموجود والمعدومَ والواجب والممكن والممتنع، وقد اتفق العقلاءُ على أن الممتنع ليس بشيء، وإنما نازع بعضُهم في الممكن، فقال فريق من المعتزلة والرافضة: المعدوم الممكن شي ثابت في نفسه خارجًا عن العلم. ثم هؤلاء متفقون على أنه ليس كل ممكنٍ وُجِد.
فهذا أيضًا ينبغي أن نعرفه، فلا فرقَ عند أهل السنة وجماهير الخلق بين الوجود والثبوت، بل المعدوم كما قال الله تعالى: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)) (1)، وقال: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)) (2). فإذا قال: “إنه معلومٌ لله” فهذا حقٌّ، لا فرق بين أن يقال: هو ثابت في العلم أو موجود في علم الله.
الوجه الثالث
قوله: “فلما تحركت الإرادة الأزلية أن يَعرِضَ نفسَه على الحقائق الكونية المعدومةِ في نفسها المشهودةِ أعيانُها في علمه في تجلِّيه المطلق، نزلتِ الحِلية الإلهية من حقيقةِ كانِه إلى سِرِّ شأنِه، فعند ذلك قارن الألفُ النونَ، فعبّر عنها بـ”أنا”، وعند ذلك ظهرت نقطة سُميتْ عقدة “حقيقة النبوة”، فهو صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل، المطابقة للصفة المعلومية، فصارت مرآةً
__________
(1) سورة مريم: 9.
(2) سورة مريم: 67.

(4/403)


لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتمييز صفاته القديمة، فظهر الحق فيه بصورة وصفة واصفًا يصف نفسَه ويُحيط به، فالأول هو الموصوف والثاني هو الواصف؛ والأول هو المسمَّى باسم الله، والثاني هو المسمَّى باسم الرحمن. فلهذه الحقيقة طرفان: طرفٌ إلى الحق المواجه إليها الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفًا، وطرف إلى ظهور العالم منه، وهو المسمَّى بالروح الإضافي”.
ومضمونُ هذا الكلام أنّ الله لما أرادَ أن تتجلَّى الحقائق الثابتة في علمِه كما كانت متجلية له نزلَ من الذات إلى الفعل فقال: “أنا”، وظهرتْ حينئذ حقيقةُ النبوة، وهي صورة علم الحق بنفسه، فظهر فيها الوجود المطلق الذي كان في علم الله بطريق الانعكاس، كما ينعكس شعاعُ أحد المرآتينِ إلى الأخرى، وصارتْ محلاًّ لتمييز صفاته القديمة، فصار الحقُّ واصفًا موصوفًا، واصفًا باعتبار ظهورِ علمِه المطابق له وموصوفًا، وجعل الموصوف هو الله والواصف هو الرحمن، وجعل لهذه الحقيقة التي سماها عقدة “حقيقة النبوة” طرفًا إلى الحق لكونها عالمةً به، وطرفا إلى ظهور العالم فيه وهو المسمَّى بالروح الإضافي.
وهذا كلُّه عندهم في نفس الرب، وهذا كلُّه عنده قديم أزلي كما قال في آخر كلامه، فيكون المصطفى محمد نبيًا في الأزل والأبد وسطًا بين الله وعبادِه.
وأنا أعلم أن هذا الذي يصفونه ليس له حقيقة في الخارج، وإنما هو شيء تخيَّلوه، ولهذا يصعبُ تصوُّرُه، لأن الخيالات

(4/404)


الفاسدة ليس لها حدٌّ. وما أكثر ما يُوجَدُ هذا في كلام هؤلاء الملحدة في أسماء الله وآياتِه المشابهين للإسماعيلية والنصيرية والفرعونية، ولهذا كان العلماء يقولون عنهم: لهم خيال واسعٌ، والخيال والوهم محل الشياطين الذين يتنزلون عليهم بهذا.
فيقال: قولك “تحركتِ الإرادة الأزلية” عبارة فيها إنكار، فلو قال: “توجَّهت أو تعلقت الإرادة” كان أحسن. ومتى كانت هذه الحركة؟ أهي قديمةٌ معه لم تزَلْ أم كان ذلك بعد أن لم يكن؟ فإن كان قديمًا بَطَلَ قولك “فلما تحركت الإرادة الأزلية نزلَ من كَانِه إلى شأنِه”، فإن هذا ظرفٌ لفعلاتٍ يقتضي تحوُّلاً من حالٍ إلى حال، والفعل الذي له ظرف زمانٍ لا يكون إلاّ حادثًا، ولذلك قلتَ: “فعند ذلك قارنَ الألفُ النون فعبر عنها”. والقديم ليس له ظرف زمانٍ يتحوَّل فيه، فإنه لم يزل، وإن قلت: إن هذا مُحدَث بَطَلَ قولك بعد هذا بنبوة محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من الأزل إلى الأبد.

وأيضًا فقولك “يَعرِض نفسَه على الحقائق الكونية المعدومةِ في نفسها المشهودةِ أعيانُها في علمه” كلام باطل، فإنّ الله لا يَعرِض نفسَه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء، وإنما يتجلى لأوليائه يومَ القيامة في الجنة كما جاءت الآثار الصحيحة، ويتجلى أيضًا لعبادِه في عرصاتِ القيامة. وقد قيل: إن محمدًا رآه ليلةَ أُسرِيَ، وأما من سِوى محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فلا يراه بعينه في الدنيا، كما ثبت في صحيح

(4/405)


مسلم (1) عن النواس بن سمعان أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لما ذكر الدجَّال قال: “إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربَّه حتى يموت”. وكذلك رُوِي في حديث عبادة ومعاوية وغيرهما: “واعلموا أنكم لن تَرَوا ربَّكم حتى تموتوا” (2). ومن قال: إن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رأى ربه ليلةَ المعراج فإنه لا يقول: إنه تجلَّى له، فإن التجلي كمال الظهور، ولم يكن الأمر كذلك، بل قد روى مسلم في صحيحه (3) عن عبد الله بن شقيق قال: قلتُ لأبي ذر: لو رأيتُ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لسألتُه، قال: عمَّا كنتَ تسألُه؟ قال: كنتُ أسألُه هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: قد سألتُه فقال: “نور أنَّى أراه”! وفي رواية: “رأيتُ نورًا”. فهذا من يثبت الرؤيةَ يقول: أراد نفي العين، لأن نوره أعشى بصرَه، ومن ينفيها يحتجُّ به على نفيها، فقد اختلف أهل السنة -واختلفت الرواية عن الإمام أحمد- هل يقال: رآه بعينَي رأسه أو بعينَي قلبه، أو يقال: رآه ولا يُقَيِّد؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عند أحمد.
فأما رؤية القلب -وهو شهود أهل المعرفة- فهذا موجود في الدنيا لغير النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كلما ولي، وكذلك رؤية المنام، لكنه سبحانَه يُرى في صُوَرٍ بحسب حال الرائي، فإنَّ رؤية المنام تقتضي ذلك. وأما الأحاديث التي فيها: “رأيتُ ربّي في صورة كذا وكذا، فوضعَ
__________
(1) برقم (2937).
(2) أخرجه أبو داود (4320) عن عبادة.
(3) برقم (178).

(4/406)


يدَه بين كتفي حتى وجدتُ بَرْدَ أناملِه على صدري” (1) فهذه كانت في المنام، فإن هذه لم تكن ليلةَ المعراج لأنها كانت بالمدينة، فإنّ فيها أنه احتبسَ عنهم في صلاة الفجر، ورواها معاذ بن جبل وأم الطُّفيل وغيرهما ممن لم يُصلِّ خلفَه إلاّ في المدينة، والمعراجُ كان بمكة بنصِّ القرآن وبالسنة المتواترة والإجماع، ولم يقل أحدٌ: إنه رآه بالمدينة.
فأما الأحاديث التي رُوِي فيها أنه رآه في سِكَكِ المدينة أو في الطواف أو في عرفةَ فكلُّها موضوعة مكذوبة (2).
والغرض هنا أنه لم يقل قطُّ مسلمٌ: إن الله عَرَضَ نفسَه على معلوماتِه أو مخلوقاتِه، ولا إنه تجلَّى لمعلوماتِه أو لجميع مخلوقاتِه، بل موسى قد سألَ الرؤيةَ فقال: (لَنْ تَرَانِي) (3)، وقال: (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) (4). فإذا كان موسى عليه السلام عجزَ عن
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 66، 5/ 378) عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مرفوعا مطولا. وأخرجه أحمد (5/ 243) والترمذي (3235) عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل قال، فذكره بطوله. وصححه الترمذي والبخاري. وأخرجه أحمد (1/ 368) والترمذي (3233، 3234) عن ابن عباس.
(2) انظر “الموضوعات” لابن الجوزي (1/ 124 – 125) و”اللآلئ المصنوعة” (1/ 27 – 30).
(3) سورة الأعراف: 143.
(4) سورة الأعراف: 143.

(4/407)


رؤيتِه في هذه الدار، والجبل جعلَه دَكًّا لما تجلى له، وقوله (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) يدلُّ على أنه لم يكن متجليًا له قبل ذلك= فكيف يقال: إنه عرضَ نفسَه أو تجلَّى للكلاب والخنازير والقرود والديدان والكفار والمنافقين والجنّ والشياطين؟ كما قال: “عرضَ نفسَه على الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة أعيانُها في علمه”، فإن علمه محيطٌ بكل شيء مما ذكر ومما لم يذكر، فإن كان قد عرض نفسه على ذلك كلّه فقد لَزِمَ ما ذكر من الكفر الفاحش وما هو أفحش منه.
ثمّ وأيضًا فإنّ المعلوم قبل وجودِه ليس هو سببًا موجودًا ثابتًا يُعرَضُ فيه شيءٌ أو يتجلى له شيءٌ أصلاً، فإن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كالجمل الشرطية المعلقة بشرط معدوم مثل قوله: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) (1)، وقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (2)، وقوله: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) (3)، وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) (4)، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)) (5)، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (6) ونظائره متعددة.
__________
(1) سورة الأنفال: 23.
(2) سورة الأنعام: 28.
(3) سورة التوبة: 47.
(4) سورة السجدة: 13.
(5) سورة النساء: 82.
(6) سورة الأنبياء: 22.

(4/408)


بل قد يُعلِمُ اللهُ بعضَ عبادِه ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فإنّا نعلم ما مضَى من القرون والأحوال، ونعلم أن القيامة ستقوم، وأنه سيدخلُ قومٌ الجنّةَ وقومٌ النارَ، وقومٌ ما أخبر الله به من أن أهل النار لو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه.
ثم إذا علمنا الحوادث المستقبلة لم يكن أعيانُها الحقيقي الخارجية موجودةً في علمنا، بل وكذلك الماضية، فإن نفس السماوات والأرض ليست في نفوسها، فكيف يتصور أن يعرض نفسَه أو يتجلى لشيء ما وُجدَ بعدُ ولا صارَ له حقيقة؟ ولكن علم أن سيُوجَد. فإذا علم الله أَنه سيُولَد وُلِدَ بعدَ حولٍ، فهل يتصوَّر قبلَ أن تَحْبَل به أمُّه أن يعرض عليه شيئًا أو يتجلى له شيء من الحقائق؟ وهل يتصور أن يكون المعدوم -وإن عُلِمَ أن سيُوجَد- هل يتصور أن يكون عليمًا تجلتْ له الحقائق؟ فضلاً عن أن يعرض نفسه عليه.
وأيضًا “نَزَلتِ الحلية الإلهية من حقيقةِ كَانِه إلى سرّ شأنِه” فيه أوّلاً لفظه “كانه” كما استعملتْ أولاً، وهذا خطأ، فإن الفعل لا يُضَاف، ولا يُقال: “كانه وصاره وأصبحه”، وإن كان أبو الحكم ابن برجان يستعمل هذا اللفظ في “شرح الأسماء الحسنى”، وهو كتاب جليل كثير الفوائد، لكن هذا اللفظ خطأ.
ثم ما هذا “الشأن” الذي نزلَ إلى سرِّه؟ أهو شيء منفصل عنه أم متصلٌ به؟ فإن كان منفصلاً عنه فكيف يكون شيء منفصلاً عنه قبلَ أن يخلق شيئًا؟ لا سيما على أصلهم الإلحادي أنه ما ثم شيءٌ

(4/409)


منفصلٌ عنه. وإن كان متصلاً به فكيفَ ينزل مِن كانه إلى متصلٍ به وقائم به؟ وهل كان قبل هذا النزول في غير شأنِه ثم نزلَ إلى شأنه؟ أم لم يزل في شأنه؟
ثمّ عندكم هو الآن على ما هو عليه كان ليس معه شيء، فهذا الشأنُ الذي نزلَ إليه مِن كانِه الأوّل هو شيءٌ أم لا؟ إن كان شيئًا فقد صارَ معه شيءٌ آخر لم يكن معه، وإن لم يكن شيئًا فلم ينزل إلى شيء، فلم يَزل في كانِه ولم يتجدَّد شيء، فما الذي بدا مما بدا؟
هؤلاء قوم تخيَّلُوا خيالاتٍ فاسدةٍ، وسمعوا ألفاظًا، فوضعوها على غير مواضعها بحسب تلك الخيالات، فإذا حُقِّقَتْ معانيها جاء الحقُّ وزهقَ الباطل، إن الباطل كان زهوقا. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)) (1).
سمعوا قوله (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)) (2) مع قوله “كان ولا شيء معه”، وقولُ الله ورسولي حق، فإن الله كان ولا شيء معه، وهو في كل يوم في شأنٍ من شئونه، وهو أفعالُه كما جاء في الحديث: “يَغفِرُ ذنبًا ويفرج كَرْبًا ويرفعُ قومًا ويَضعُ آخرين”. ليس في هذا نزول عن كانه إلى شأنِه، وإنما هو خالق خلقَ وأبدعَ وفَطَر وأنشأ، ويُحدِث الله من أمرِه ما يشاء.
__________
(1) سورة الرعد: 17.
(2) سورة الرحمن: 29.

(4/410)


وأيضًا “فعندَ ذلك قارنَ الألفُ النونَ، فعبّر عنها بـ”أنا”، وعند ذلك ظهرت نقطة سُميت عقدة “حقيقة النبوة”، يقال له: أين كانت الألف والنون قبل ذلك حتى تقارنا حينئذ؟ وما الذي أوجبَ اقترانهما بعد افتراقهما؟ وإن حَدَثا حينئذ فما الموجِب للحدوث؟ وقوله “عبّر عنها بأنا” فقبلَ ذلك ما كان يقال له أنا لما كان ولا شيء معه، لم يكن يستحق أن يقول أنا ولم يقل أنا، ولم يستحق أن يقول أنا حتى نزلَ هذا النزولَ الذي ليس له حقيقة ولا معقول.
وكذلك هذه النقطة التي ظهرت، ما الموجب لظهورها؟ وأين ظهرت هذه النقطة؟ ثم أغربُ من هذا كلِّه تسمية هذه النقطة عقدة حقيقة النبوة، ياليتَ شعري مَن الذي سمى هذه النقطة بهذا الاسم؟ هل أنزل الله بهذا الاسم من سلطان؟ أم هي أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان؟
قد علمنا وتحققنا أن هذا الاسم المفترَى ليس له وجود في شيء من الكتب المنزلة من السماء، ولا هو مأثورٌ عن أحدٍ من الأنبياء، ولا تكْلم به أحد السلف القدماء ولا من المشايخ والعلماء إلاّ هؤلاء المقاربون لدولة التتار الذين بشؤم الكفر به استولى الكفار والفجار، وجاسوا خلال الديار، حيث ألحدوا في أسماء الله وآياته، وغيَّروا ما بعثَ الله [به] رسوله من الهدى ودين الحق الذي وَعَدَ أن يُظهِرَه على الدين كلّه.
ثم هذه النقطة العجيبة التي سميتموها عقدة حقيقة النبوة أهي من الأعيان التي تقوم بنفسها من غير محل؟ أم هي من الصفات

(4/411)


التي لابُدَّ لها من محلّ؟ فإن كانت عينًا قائمةً بنفسها فإما أن تكون هي الحقّ أو غيره، فإن كانت الحق فلم يتجدد شيء، وإن كانت غيره فقد حدث غير الربّ، فقد جعل الحقّ يظهر فيه وسماه الرحمن، فيكون الرحمن اسمًا لغير الله. وإن كانت صفةً من الصفات، وليس هنا ما يقوم به إلاّ الربّ، فتكون هذه النقطة صفة له، أفهي حادثة أم قديمة؟ فإن كانت قديمة فلم يتجدد شيء، وإن كانت حادثة وهي صورة علم الحق فقد تجدد له علمٌ لم يكن له قبل ذلك، وهذا مع أنه كفرٌ لا يقولون به، لأنه تقدم أنه كان عالمًا بنفسه وبسائر المعلومات.
ومقصوده بهذه الكلمات أن الحق صار معلومًا متجليًّا لمعلوماتِه بعد أن كان عالمًا بها وهي متجلية له، وقد قدّمنا أنه لا يتجلَّى لجميعها إلاّ أن يُعنَى بتجليه لها دلالتُها عليه أو علمُها به، كما قيل في قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (1). ففي الجملة كون الحقّ يصير معلومًا لبعض الخلق أو كلَهم هذا معنى صحيح، لكن كيف يعلمونه قبل أن يخلقهم.
فإن قيل: لأنهم في علمه.
قلنا: وهم في علمه عالمون به، فإنه يعلم الأشياء على ما عليه، فيعلم المؤمن مؤمنًا والكافرَ كافرًا، والعالم عالمًا والجاهل جاهلاً، وأيّ حالٍ تجدَّد للشيء فانه يعلمه عليه في علمه قبل أن
__________
(1) سورة الإسراء: 44.

(4/412)


يكون، كما يعلم نفس الشيء قبل أن يكون، فلا يتصور أن تصير المخلوقات عالمةً في الخارج إلاّ بعد وجودِها في الخارج، كما لا يُعلم أنها عالمة إلاّ إذا علمتْ هي، فإن ثبوت الصفة بدون الموصوف في الخارج أو العلم محال.
فهذا التقسيم والتحقيق يكشف ما أبدَوه من الزخرف والتزويق، فإن هذه الحقيقة إن كانت صفةً لله ليعلم بها نفسَه ومعلوماتِه، فالله علم بذلك قبل ظهور هذه الحقيقة؛ وإن كانت صفةً لغيرِه فلا يتصوَّر وجودُها قبل وجود ذلك الغير.
وقوله “ظهرتْ نقطة” لفظ مجمل، أيَعني حدثَتْ؟ فالمحدَث لابدّ له من محدِث، ولابد للصفة من محل، أم يعني انكشفَتْ وتجلت؟ فلمن تجلَّتْ “وما ثَمَّ إذ ذاك إلاّ الله؟ وهو عالمٌ بنفسِه ومعلوماتِه، فأيُّ شيء انكشف له وتجلَّى بهذه النقطة العجيبة الشأن؟ ما أشبهَ هذه النقطةَ بالكلمة التي تعبدها النصارى وتَزعُم أنها دخَلَتِ الناسوتَ، فيقول لهم المسلمون: هذه الصفة صفة هي كلامٌ لله، فإن كان كذلك لم يكن إلهًا يخلق ويرزق ويُعبَد، ولا يحل المسيح دون الموصوف، وإن كان جوهرًا خالقًا فإنما يتقدم بنفسه، فهي الأب أو غيره؟ إن كانت الأب فيكون الأب هو الحال، وإن كان غيره فيكون جوهرانِ منفصلانِ إلهان. فالنصارى في ضلالة وحيرة حيث أثبتوا ثلاثة آلهة وقالوا: هي إلهٌ واحد.
وهؤلاء أثبتوا هذه النقطة العالمة العارفة محلاًّ ولم يجعلوا لها محلاًّ، فالشأن كل الشأن في تحقيق هذه النقطة التي هي عقدة

(4/413)


حقيقة النبوة، فهو “صورة علم الحق بنفسِه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصورة المعلومية التي صارت مرآةً لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتميّز صفاته القديمة التي ظهر الحق فيه بصورة وصفة، واصفًا يصف نفسه ويحيط به، فالأول هو الموصوف، والثاني هو الواصف، والأول هو المسمَّى باسم الله، والثاني هو المسمَّى باسم الرحمن”.
فيقال: قد عُلِمَ أن هذان اسمانِ من أسماء الله، ليسا اسمين لشيء من صفاته كالعزة والقدرة والحكمة، ولا اسمين لشيء سواه، وأسماء الله تعالى كلُّها متفقة في دلالتها على نفسه المقدسة، ولكل اسمٍ خاصَّةٌ ينفرد بها عن الاسم الآخر، فللرحمن الرحمة، وللحكيم الحكمة، وللقدير القدرة. وهكذا أسماء الرسول وأسماء القرآن، ليست هذه الأسماء مترادفة، ولا هي أيضًا متباينةٌ من كل وجه، بل هي باعتبار الذات مترادفة، وباعتبار الصفات غير مترادفة بل كالمتباينة، ولهذا يُسمى هذا النوع المتكافئة. وكلُّ اسمٍ فإنه يدلُّ على ذاتِ الله وعلى خصوصِ وصفهِ بالمطابقة، ويدلُّ على أحدهما بالتضمن، ويدلُّ على الصفة التي للاسم الآخر بالالتزام، فإنه يدلُّ على الذات المستلزمة للصفة الأخرى، فبين كل اسمينِ اجتماعٌ وامتيازٌ إلاّ اسم “الله”، ففيه قولان. ولهذا هل يدخل في الأسماء؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما أنه لا يدخل في هذه الأسماء، بل هو متضمنٌ للجميع، وهذا يطابق قول من يقول: ليس بمشتق. والثاني: أنه من الأسماء، وهذا يطابق قول من يقول: إنه مشتق.

(4/414)


والصواب أنه فيه الاشتقاق وعدم الاشتقاق، ففيه الاشتقاق الأصلي لا الوضعي، فليس في الاستعمال مشتقًّا كاشتقاق سائر الأسماء التي هي اشتقاقها اشتقاق الصفات. وأما في الأصل فإنه مشتق، وهذا يُسمَّى الاشتقاق الوضعي، وذاك يُسمَّى الاشتقاق الوصفي.
والأسماء جميعها هي أسماءٌ لله رب العالمين، وأما صاحب “الفصوص” وأصحابه الاتحادية فعندهم أسماء الله نِسَب وإضافات بين الوجود ليس موجودة، فهو يقول: إضافة بين الوجود الذي هو الله عنده وبين الثبوت؛ وغيرُه يقول: نسبةٌ بين أجزاء الوجود وجزئياته. وهؤلاء أعظم الناس إلحادًا في أسماء الله.
إذا عُرِف هذا فالفرق بين اسم الله والاسم الرحمن أن الرحمن متضمن للرحمة المتعلقة بالخلق، والاسم الله متضمن للعموم أو لخصوص الإلهية التي هي استحقاق العبادة. فأما كون هذا واصفًا والآخر موصوفا فهذا شيء ليس له دخولٌ في معنى اسم الله والاسم الرحمن.
ثم يُقال لهم: فهل كان اللهُ في كانِه قبلَ نزولِه إلى سِرِّ شأنِه مستحقٌّ لهذه الأسماء أم لا؟ فإن قالوا: لا، فهذا كفرٌ، وإن قالوا: نعم، قيل: فأنتم قد جعلتم الرحمن متأخرا عن نزوله إلى سرِّ شأنه!

(4/415)


فصل
اعلم أن قول هؤلاء المنتسبين إلى ابن حمويه مضطربٌ مخبط، فإنه ليس توحيدًا محضًا، ولا إلحادًا محضًا، وإنما يظهر بظهور مذهب أهل التوحيد من المسلمين وسائر أهل الملل، وبظهور مذهب الملحدة الاتحادية مثل أصحاب ابن عربي وابن سبعين والتلمساني، ثمّ يتبينُ قولُ هؤلاء، فنقول:

أما مذهب المسلمين وسائر أهل الملل من اليهود والنصارى بل وسائر المقرِّين بالصانع فهو أن الله سبحانه حق موجود بنفسه، متميز عما سواه، وهو ربّ العالمين وخالق الخلق، وأنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاتِه شيء من ذاته، وأن جميع الكائنات عبادٌ لله فقراءُ إليه، وهو مالكهم وربهم وخالقُهم.
والقرآن من أوّله إلى آخره يذكر هذا التوحيد ويُبيّنه.
ومع هذا فلله أسماءٌ وصفاتٌ وصف بها نفسه ووصفَه بها رسولُه، ومن الجهمية من يُنكِرها أو بعضَها، ويَصِف الله بصفاتٍ سلبية تنافي ما جاءت به الرسل، وتكون تلك الصفات مستلزمة للتعطيل، لكن النفاة لا يُقِرُّون أو لا يعتقدون أنها تستلزم التعطيل.
والفلاسفة الصابئة القائلون بقِدَم العالم يقولون بواجب الوجود وبأنه ليس هو العالَم ولا جزءًا منه، لكن يُحكَى عن فريقٍ من الدهرية إنكارُ الصانع، وهذا هو الذي ذكره الله في القرآن عن فرعون أنه

(4/416)


أنكر ربّ العالمين، ولكن كان هو وقومه كما قال الله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)) (1)، قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ 0 وقال له موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) (2).
وكان قدماء الجهمية الذين ينكرون أن يكون الله فوقَ عرشه يقولون: إنه بذاته في كلّ مكانٍ، وإنه حالٌ في كل مكانٍ، وهو رأيَ طائفةٍ من متصوفة الجهمية مثل الديلمي ونحوه، وأما علماء الجهمية وفضلاؤهم فلا يصفونه إلاّ بالسلب، ليس داخلَ العالم ولا خارجَ العالم، ولا هو فوقَ العرش ولا في العالم ونحو ذلك. وكان السلف وأئمة الدين يعلمون أن هذا القول يستلزم نفيَ ذاته، ويقولون: إنما يدورون على التعطيل.
وهذا هو الذي أوقعَ هؤلاء الملاحدة الاتحادية في زعمهم أنه هو هذا الوجود، فإن العابد لا يَقدِر أن يَعبُد إلاّ شيئًا موجودًا، فإن الإرادة والقصد لا يتعلق بمعدوم، بخلاف الوصف والكلام، فإنه يتعلق بموجود وبمعدوم. فالمتكلمون بالنفي إذا لم يُثبتوا وجودًا تكون قلوبهم خالية من تحقيق العبادة، لأن ذلك ليس هو مطلوبهم ومقصودهم، ولهذا يَغلِب عليهم القسوة والإعراض عن العبادة لله ولغيره، وأما أهل الإرادة والعبادة من الصوفية والعامة ونحوهم إذا لم يتوجهوا بقلوبهم إلى رب العالمين الذي وصفتْه رسلُه
__________
(1) سورة النمل: 14.
(2) سورة الإسراء: 102.

(4/417)


لمحمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (1)، الذي هو فوق السماوات، فلابُدَّ أن تتعلق قلوبهم بموجودٍ ما، فتارةً يتعلقون بأنه بذاته في كلّ مكان، وتارةً تتعلق بحلوله أو اتحادِه ببعض الأشخاص كالمسيح وعُزَير وغير ذلك، وتارةً يتعلقون بعبادة الملائكة أو الكواكب والأصنام ليتقربوا بها إليه، فإنه لابُدَّ للقلب من صَمَد يُقْصَد إليه بالعبادة حق موجودٍ.
والصفات السلبية لا يتعلق بها القلبُ ولا يطمئن، فإنّ قصدَ العدم كعدمِ القصد، وعبادة المعدوم كعدمِ العبادة.
فهذا الجهل والضلال بصفات ربّهم هي التي أوقعتْهم في عبادة ما سواه. ثم إنه يحصل من أحدهم توجُّهٌ إلى الله وعباد له، فيشهد بقلبه الوجود القائم بأمره، ويرى أن حكم الله وسلطانَه سارِي في جميع الكائنات، فيعتقد أن ذلك هو الله الخالق، مثل من رأى شعاع الشمس فاعتقد أنه رأى الشمس وإنما رأى أثرها، وهكذا هؤلاء ما شهدوا بقلوبهم إلاّ صُنْعَ الخالق وخَلْقَه وملكَه وسلطانه، ولهذا تارةً يجعلون الربّ في ذلك كالروح في الجسد، وتارةً كالماء في الصوفة، وهذا قولٌ بالحلول، والربُّ -كما قال عبد الله بن المبارك والإمام أحمد وسائر أئمة السنة والمعرفةِ- فوقَ سماواته على عرشِه، بائنٌ من خلقِه. فجاء هؤلاء الاتحادية المستأخرون جعلوه نفسَ الموجودات لم يُخلوه منها، وجعلوا الوجود المخلوق
__________
(1) سورة الحديد: 4.

(4/418)


المصنوع هو الوجود الخالق. ثُمَّ قد علموا أنّ ثَمَّ خالقًا ومخلوقًا، فاضطربوا هنا:
فأما صاحب “الفصوص” فإنه يقول: أعيان الممكنات ثابتة في العدم، كما يقول من يقول من المعتزلة والشيعة: إن المعدوم شيء، ويقول: إن نفسَ وجود الحقّ فاضَ عليها وظهرَ فيها، فوجودُها هو وجود الحقّ، وذاتها ليست ذات الحق، ويقول: ما كنتَ به في ثبوتك ظهرتَ به في وجودك، وإنّ الله ما أحسن إلى أحدٍ ولا أنعمَ على أحد، وإنما الذوات الثابتة في العدم هي المحسنة المسيئة بما قبلتْه في فيض وجود الحق عليها. ويجعل أسماء الله هي النسبة بين وجوده وبين ثبوت الممكنات.
وهذا القول كفرٌ، وهو باطلٌ من وجهين:
من جهة أنه جعلَ المعدومَ شيئًا ثابتًا، وفرَّق بين الثبوت والوجود، فإن هذا قول باطل وفرق فاسد، وشبهتُه ثبوتُها في علم الحقّ، ولا يلزم من علم الحقّ بها ثبوتُها في نفسها ولا وجودُها.
الوجه الثاني: أنه لو فُرِض أن الأعيان ثابتة فليس وجودها وجودُ الحقّ، بل الِربُّ أبدعَ وجودَها وخلقها، كما قال تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)) (1)، وقال: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (2).
وهكذا يقول من يقول بأن المعدوم شيء من المعتزلة وغيرهم،
__________
(1) سورة طه: 50.
(2) في مواضع كثيرة من القرآن.

(4/419)


يقولون: إنه خلقَ وجودَه، لا يقولون: إن وجوده هو نفس وجود الحق.
وأما سائر الاتحادية فلا يفرقون بين الوجود والثبوت، ولا يقولون: إن المعدوم شيء، بل منهم من يفرِّق بين الوجود المطلق والمعين، كالقونوي فإنه يقول: الحق هو الوجود المطلق، فإذا تعيَّن لم يكن هو الحقّ. وعلى قول هذا ليس لله وجودٌ إلاّ ما يقوم بالمخلوقات، فلو زالت لزال وجودُها. وهو أيضًا جَحْدٌ لربّ العالمين في الحقيقة، وإثباتٌ للوجود الذي أقرَّ به فرعون.
وأصحاب هذا القول والذي قبلَه يُفرِّقون بين المظاهر والمراتب والمجالي وبين الظاهر المتجلِّي، فيقولون: ظهرَ وجودُه في أعيان الممكنات -على رأي صاحبه “الفصوص”، أو ظهرَ الوجودُ المطلقُ في المتعينات- على رأي صاحبه الرومي.
وأما التلمساني وغيرُه فعندهم ما ثمَّ غيرٌ ولا سِوى بوجهٍ من الوجوه، ولا يُفرّقون بين المطلق والمعيّن والوجود والثبوت، بل هو الله عندهم كالبحر وأمواجه. وهم تارةً يُشبِّهون الله بالشمع والفضّة الذي يظهر في صورٍ مختلفة وهو هو.
ثم يقول الرومي: هو المادة المشتركة المطلقة، وأما أعيان الصور فليس هو. وأما ابن العربي فيشبهه بظهور النور في الزجاج، يظهر في كل زجاجة بحسب لونها، وهو واحدٌ في نفسه. وأما التلمساني ونحوه فأبلغ من هؤلاء.

(4/420)


وأما هذا الكلام المذكور المضاف إلى سعد الدين بن حمويه فهو مركَب من مذهب المسلمين وسائر أهل الملل الذي جاءت به الرسلُ عن الله، ومن مذهب هؤلاء الاتحادية، وهو إلى الاتحادية أقرب، وما فيه من الإلحاد فهو يُشبِه قولَ صاحب “الفصوص” من وجهٍ، وقولَ صاحبِه الرومي من وجهٍ، وليس مَثلَهما. وذلك أنه جعل ثبوتَ الحقائق في علم الله بمنزلة ثبوتها في الخارج ليجعل التجلي عليها، وثبوتُ الحقائق في علم الله صحيح، لكن يمتنع أن يحصل التجلّي على شيء عُلِمَ قبلَ أن يُوجَد. ثم جعل تجلِّيَ الحقّ لها بمنزلة ظهور وجودِه في الأعيان الممكنة.
فهذا القول أقل كفرًا، لكنّه أظهرُ تناقضًا، فإنه لم يُصرِّح بأنّ وجودَها عينُ وجودِه، ولا صرّح بثبوتِ ذواتها، لكنّه زعم أن تجلّيه لأعيانها الثابتة في علمه، مثلَ ما ذكرَ صاحبُ “الفصوص” أنه حصولُ وجودِ الحقّ في أعيانِ الممكنات. وتكلّم في التعيّن بكلامٍ قاربَ مذهبَ القونوي، كما سنذكره إن شاء الله.
وهذا التفصيل الذي نذكره نحن لمذاهب هؤلاء أكثرُهم لا يفهمونه، ولعل فاضلَهم يَفهم بعضَ مذهبَ نفسِه فقط، لأنها أقوال هي في نفسِها متناقضة، فاضطربوا فيها كما اضطربت النصارى في الأقانيم وفي الحلول والاتحاد. وهذا شأن الباطل، كما قال تعالى.
(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)) (1)، وكما قال تعالى.
__________
(1) سورة الذاريات: 8 – 9.

(4/421)


(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)) (1).
فصاحبُ هذا القول يقول: “هو في كانه يتجلَّى لنفسه بوحدتِه الذاتية، يشهد نفسه ويشهد الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة له، فلما أراد أن يعرض نفسه على تلك الحقائق نزل التجلي من كانه إلى شأنه التي يظهر فيه الحقائق الكونية، فظهر هو في تلك الحقائق”.
وهنا يضطرب أمرُه، فلم يُصرِّح بأن وجودَه قامَ بالأعيان الممكنة كما صرَّح ابن العربي، فيكون اتحاديًّا محضًا، ولا اكتفَى بمجرَّد كونِه يَعلم أن تلك الحقائق أو بعضها ستعلمه كما هو الواقع، فإن الله إذا عَلِم الأشياء وعَلِمَ أنها ستعلمه لتكن حينئذٍ قد صارت موجودةً عالمةً حتى توجد. بل استعملَ اللفظ المشترك كما فعلَه في عين الحقّ، فجعل ثبوتها في علمه بمنزلة ثبوتها في الخارج، وظهوره لها علمًا بمنزلة ظهور وجودِه في ذواتها.
فتدبَّر هذا، فإنه يُبين حقيقةَ مطلوب هذا، ومعلومٌ أن وجودَه الذاتي إن ظهر في الأعيان فأول ما يظهر باسم “أنا”، لأنه على زعمهم في وحدته الذاتية لا يتعين، ولا يكون له اسمٌ إلاّ إذا ظهر في أعيان الحقائق المعلومة، عند هذا وعند ذاك ظهرت، وهذا التعيين هو النقطة الذي قد سماها عقدة حقيقة النبوة، وهو صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصفة المعلومة،
__________
(1) سورة النساء: 82.

(4/422)


وذلك لأن الحق كان متجليًا نفسه لنفسه، ثم لما نزلت الحلية من كانه إلى شأنه تجلَّى للأعيان المشهودة له، وأعظمها حقيقة النبوة التي هي الإنباء والإخبار عن الوجود المطلق الذي كان في كانه.
فهذه النقطة هي في مشهوداته مطابقة لعلمه بذاته. ولهذا كانت صورة علم الحق بنفسه المطابقة للصفة المعلومية لأنه كان يعلم نفسه، وتجلَّى لهذه النقطة كما تجلَّى لنفسه، فصار شهودُها له مطابقًا لشهوده لنفسِه، ولهذا قال: فصارت مرآةً لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتميّز صفاته القديمة.
لأن الذي كان في كانه من تجليه لنفسه بوحدته المطلقة ليس فيه عندهم صفات متميزة ولا أسماء، وهذا متفق عليه بين الاتحادية أنه الحق عندهم في نفسه، ليس له اسم ولا صفةٌ أصلاً. وهذا وإن كان مطابقًا لقوله غالية الصابئة الفلاسفة والباطنية الذين يقولون: الحق الأول ليس له اسمٌ ولا صفةٌ، ولا يقولون: هو عالم ولا قادر ولا موجود، ولا يقولون: يعلم ولا يقدر ولا غير ذلك، فأولئك إذا حكى عنهم أنه يجعلونه عينَ مخلوقاته، فإن كان أولئك يجعلونه ساريًا في المخلوقات فقولهم هو قول هؤلاء الملاحدة. وهذا صحيح، فإني وقفتُ على مقالة غلاةِ الإسماعيلية والنصيرية في كتبهم التي يَضنُّون بها إلاّ على خواصّ أكابرهم، فرأيتهم يصرِّحون فيها بنفي الصانع الخالق وجحوده بالكلية، كالمذهب الذي ذكره الله عن فرعون وحِزبِه، وعن الذي حاجَّ إبراهيم في ربّه. وهكذا حكى عنهم من وقف على سرّ دعوتهم، كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني والقاضي أبي يعلى والقاضي أبي بكر ابن العربي، وقد ذكر كلامهم

(4/423)


والردّ عليهم أبو عبد الله البصري وأبو الوفاء ابن عقيل وأبو حامد الغزالي وأبو القاسم الشهرستاني وغيرهم.
وأما غالبُ الخلق فإنما ينقلون عنهم ما يظهره لهم من دون هؤلاء، وهو نفي الأسماء والصفات عن ذاتِه، كما يُظهِره هؤلاء الاتحادية، ليظنّ الجهال أن هذا تحقيق عظيم وتوحيد تائمٌ، وليقربوا بذلك من الصابئة الفلاسفة الذين يقولون: [ليس] له إلاّ صفة سلبية أو إضافية.
وقريبٌ منه مذهب الجهمية النافية للصفات، فإن هؤلاء لا ينفون الأسماء ولا الأحكام التي هي الصفات القولية الخبرية، وهو الإخبار عنه بأنه يخلق ويرزق، وإنما ينفون المعاني التي يستحقها بنفسه. وقد قَرَّرتُ فسادَ مذاهب هؤلاء في مواضع، وبيّنتُ في مخالفتَها للكتاب والسنة والإجمَاع ولفطرة الله التي فطر الناس عليها، وفسادها بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة.
وقد رأيتُ هؤلاءِ الغالية من الإسماعيلية الباطنية قالوا في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي هو الدرجة السابعة، وهو آخر المراتب عندهم، وهو جحود الصانع بالكلية وجحودُ النبوات والشرائع والجزاء في الآخرة، قالوا: إن أقرب الطوائف إليهم هم المتفلسفة الصابئة، قالوا: لكن ليس بيننا وبينهم خلافٌ إلاّ في واجب الوجود، يعنون الذي صدرتْ عنه الممكنات، فإنهم يُثبتونه ونحن لا نُثبته.
وهكذا حدثني بعض أكابر مشايخ هؤلاء الاتحادية، وكنتُ لما بينتُ له حقائقَ أمرِهم يتعجبُ من ذلك ويستعظمه ويقول: هؤلاء الفقهاء لا يفهمون هذا، صُمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون، حدثني أن

(4/424)


سعد الدين ابن حمويه كان يقول: ليس بين التوحيد والإلحاد إلاّ فرقٌ لطيف. وهذا حقيقة هذا القول المحكيّ عنه، فإن الإلحاد المحض نفي الصانع بالكلية، وأن هذا العالم الموجود ليس له صانع، فإذا قال القائل: إن هذا العالم الموجود هو الصانع، وهو الصانع المصنوع، فقوله مثل قول الملحدة المحضة في جحود ربّ العالمين. لكن ذاك لا يحتاج أن يقول: ظهرَ فيه صانعُه، وهذا يقول: هو صانعُه وما هو غير صانعه، لكن الصانع له ذات، وهو الوجود المطلق المرئي الذي له اسم ولا صفة، وله أسماءٌ وصفات، وهي نسبةُ ذلك الوجود إلى مظاهرِه ومجاليه أو نحو هذه العبارات التي ليس لها حقيقة في الخارج، وإنما كلّ منهم يتخيَّلُ نوعًا من الكفر ويقوله، ويقول: إنه غاية التحقيق ونهاية التوحيد وحقيقة النبوة، فيحتاج أهل العلم والإيمان إلى مجاهدتهم بالقلب واليد واللسان، فيحتاجون إلى شرح مقاصدهم -لتتبيَّنَ أنواع كفرهم، ولئلاّ يحسب الجهّال بهم أنَّ تحتَها حقائق إيمانية، فيؤمنون بالجبت والطاغوت مجملاً أو مفصَّلا، لأنهم منتسبون إلى الإسلام ومدَّعون أنهم سادات العالم وأفاضل الخلق، حتى قد يتفضلوا على الأنبياء -كاحتياج موسى إلى جهادِ فرعون، وإبراهيم الخليل إلى مناظرة الذي حاجَّه في ربّه، واحتياج المؤمنين إلى جهاد القرامطة الباطنية، فالله يفتح بين أهل العلم والإيمان (1).
__________
(1) انتهى ما في الأصل. وكتب بعده فيه: “بياض كبير”.

(4/425)


مقَدّمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذه مجموعة خامسة من “جامع المسائل” تحوي 18 رسالة وفتوى لم تُنشر ضمن “مجموع الفتاوى” (طبعة الرياض)، اعتمدتُ في إخراجها على أصول خطية، ووجدتُ اثنتين منها (برقمي 3 و 9) ضمن كتب مطبوعة، فاعتمدتُ عليها لعدم العثور على مخطوطاتهما في المكتبات التي زرتُها أو راجعتُ فهارسها.
والرسائل الآتية بأرقام (1، 4، 6، 7، 10، 12، 13، 14) تُطبع هنا لأول مرة، والبقية طُبِعتْ من قبلُ طبعاتٍ متفاوتةً في الصحة وعلى مناهج مختلفة في التعليق والتحقيق. ومجملُ ما لاحظتُه في أكثر هذه الطبعات -مع اعترافي بفضل السبق للقائمين عليها- أنهم لم يهتمّوا بضبط النصّ وتحريرِه وإخراجه سالمًا من التصحيف والتحريف والسقط، بل انصرفوا إلى التعليق عليها، ونَقْل كلام المؤلف من كتبه الأخرى في صفحات، والتعريف بالأعلام والبلدان والفرق، وإحصاء الفروق بين النسخ (وجلُّها من تحريف النسّاخ). وألحقَ بعضُهم بالكتاب فصولاً ليست منه، كما في “الأموال السلطانية” (الطبعة الثانية بمكة المكرمة 1409) ص 93 – 99، وفي “شرح حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن” (ط. دار ابن حزم) ص 46 – 55.

(5/5)


ومن أمثلة الاضطراب ما وقع في الكتاب الثاني المشار إليه (ص 39): “وما نقله بعض المفسرين في أنه تزوجها، وإنما هو منقول عن أهل الكتاب إن لم يكن قد افتراه غيرهم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “كان لا يصلُ إليها”. وأن يوسف تزوجها بعد ذلك فوجدها عذراء، فهذا ونحوه من الإسرائيليات مما لا يجوز لمسلم أن يصدِّق به، فإن هذا لم يخبر بنقله أحد عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [وقد] قال: “إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذّبوهم”.
انظر السياق الصحيح في طبعتنا (ص 253، 254) لتعرف مدى الخلط والاضطراب الحاصل في هذه العبارة.
ومنهم من اجتهد في إخراج النصّ بالاعتماد على نسخٍ متأخرة وناقصة، ولم يطلع على الأصل القديم الموجود في بعض المكتبات، وبعضهم اعتمد على أصول قديمة ولم يُحسِن قراءتها. والأمثلة على ذلك كثيرة، لا أحبُّ الخوض فيها وبيان ما حصل من الناشرين من أوهام وتصرفات، وأقول: جزى الله من أحسن منهم وتجاوز عمّن أساء، ووفقنا جميعًا لما فيه الخير والصواب، إنه سميع مجيب.

• وصف الأصول المعتمدة
الأصول التي اعتمدتُ عليها في النشر تتفاوت في الجودة والقِدم، وفيها ما يصعب الاستفادة منها بسبب رداءة الخط وكثرة التصحيف والتحريف، وقد بذلتُ الجهد في قراءتها قراءةً صحيحة دون الإشارة إلى الأخطاء والتحريفات الواقعة فيها، وتوقفتُ عند

(5/6)


بعض العبارات والألفاظ أيامًا حتى توصّلتُ إلى حلّها وفكّ الرموز عنها، وأشرتُ إلى المواضع التي لم أهتدِ فيها إلى الصواب، وهي قليلة. وفيما يلي وصفُ هذه الأصول:
(1) “ضابط التأويل”: توجد نسخته الخطية في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة ضمن مجموعة المكتبة المحمودية برقم [2775]، وهو أول كتاب من “مجموعة رسائل” لشيخ الإسلام بخطوطٍ مختلفة في تواريخ متباعدة. عدد أوراقه 22 ورقة، وليس كاملاً، فقد كُتِب في آخره: “آخر ما وُجد، والله أعلم، وليست كاملة”. ويبدو أنه مأخوذ من “الكواكب الدراري”، فقد ذكر في آخر الكتاب: “وهو آخر المجلد الخامس بعد المئة من الكواكب الدراري، ولله الحمد والمنة، وصلواته وسلامه وبركاته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. غفر الله لمؤلفه ولكاتبه ولقارئه ولمن نظر فيه ولجميع المسلمين. يتلوه في السادس بعد المئة تفسير سورة سبّح، وهي مكية” وفي النسخة بياض في مواضع، أشرتُ إليها في التعليقات، وفيها اضطراب وغموض وشطب وإلحاق كثير، وكأنّ الناسخ نقلَ من الأصل فرسَم الكلمات كما وجدها دون أن يفهمها.
والكتاب في الأصل ردٌّ على من انتقد “الرسالة المدنية في الصفات” التي أرسلها المؤلف إلى الشيخ شمس الدين الدُّباهي، فقد اقتبس منها ومن كلام المنتقد لها الذي لم يُسمِّه، وأطالَ في الردّ عليه، ولم يصل إلينا بتمامه. وخطبة الكتاب مسجوعة، ولا غرابةَ فيها، فقد وجدنا المؤلف يميل إلى السجع في مقدماتِ بعض كتبه، مثل

(5/7)


“شرح حديث إنما الأعمال بالنيات” (الذي وصل إلينا بخطه) وكتاب “تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل” (الذي نقل خطبته بتمامها ابن عبد الهادي في “العقود الدرية” ص 29 – 35) وغيرهما.
(2) “قاعدة في الوسيلة”: توجد نسختها في مكتبة الدولة ببرلين برقم [2088 (
We. 1708)] (الورقة 83 – 99)، وذكر المفهرس أنها من القرن التاسع (1). والنسخة بخط نسخي، وفيها بعض الأخطاء من الناسخ الذي لم يذكر اسمه.
(3) “الفتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله) “: ذكرها ابن رشيِّق (2) وقال: إنها بضع وعشرون ورقة، وذكرها أيضًا ابن عبد الهادي (3) ولم أعثر على نسخة خطية منها، والمنشور هنا يُمثل قطعة منها توجد في “شرح الكوكب المنير” (2/ 34 – 45 من طبعة جامعة أم القرى سنة 1400).
(4) “فتوى في الخضر”: ذكر ابن رشيق (4) رسالة في الخضر هل ماتَ أو هو حيٌّ؟، وذكرها ابن عبد الهادي (5) وقال: “واختار أنه مات”.
وقد نُشر في “مجموع الفتاوى” (4/ 338 – 340) ما يخالف
__________
(1) انظر فهرس مكتبة برلين (2/ 449).
(2) “أسماء مؤلفات شيخ الإسلام” ضمن “الجامع” (ص 235).
(3) “العقود الدرية” (ص 36).
(4) “أسماء مؤلفات شيخ الإسلام” (ص 237).
(5) “العقود الدرية” (ص 54).

(5/8)


هذا الاختيار، واستشهد به أحد علماء اليمن، فردَّ عليه قطب الدين الخيضري (ت 894) في كتابه “افتراض دفع الاعتراض”، وقال (ق 13 أ): “هذا الذي نقله عن ابن تيمية ليس هو اعتقاده في مسألة الخضر، وإنما نقله عن الطائفة القائلين بحياته. والمنقول عن ابن تيمية ترجيح القول بوفاته، وقد تتبعتُ جوابَ ابن تيمية في هذه المسألة الذي نقل عنه الطحاوي هذا الكلام، فلم أزل حتى ظفرتُ به، فوجدتُه قد قال بعد حكاية هذا القول واحتجاج القائلين به ما نصُّه … “.
ثم نقل الفتوى، وقال بعدها (ق 14 ب): “فهذا هو المحفوظ عن ابن تيمية في حال الخضر. وقد تكلم على ذلك في عدة مواضع من تصانيفه وفتاويه، وقد وقفت له على فتاوى كثيرة سئل عنها في هذا المعنى”.
ونظرًا لأهمية هذه الفتوى ننشرها في هذه المجموعة بالاعتماد على ما ورد في كتاب “افتراض دفع الاعتراض” نسخة مكتبة الدولة في برلين برقم [2530 (
Lbg. 604)] ، (الورقة 13 أ-14 ب) (1). والقول بوفاة الخضر هو المعروف عن الشيخ، كما في كتابه “الرد على المنطقيين” (ص 184 – 185) و”مختصر الفتاوى المصرية” (ص 198) و”مجموع الفتاوى” (4/ 337، 27/ 100)، وهو الذي نقله ابن القيم عن شيخه في “المنار المنيف” (ص 68).
__________
(1) أشكر أخي الأستاذ أحمد الحاج الذي أوقفني عليه وصور لي الصفحات المطلوبة منه.

(5/9)


(5) “سؤال في يزيد بن معاوية”: توجد نسخته الخطية في مكتبة جامعة برنستون برقم [520] (الورقة 63 ب-71 ب)، وهي نسخة مصححة ومقابلة على الأصل، فقد كتب في آخرها: “بلغ مقابلةً على الأصل، ولله الحمد”. ولعلها من مخطوطات القرن الثامن. وكانت في ملك الشيخ عبد السلام بن عبد الرحمن الشطي الحنبلي سنة 1280، كما يدلُّ عليه التملك الموجود بخطه على صفحة العنوان.
وللشيخ كلام آخر في هذا الموضوع في “مجموع الفتاوى” (4/ 481 – 488) يختلف عما هنا. وذكر ابن رشيق (1) وابن عبد الهادي (2) له رسالة في أمر يزيد هل يُسبُّ أم لا؟ ولا ندري هل هي إحداهما أو غيرهما.
(6) “فصل في اسمه تعالى القيوم”: أصله في دار الكتب المصرية برقم [330 تفسير تيمور] (ق 102 – 115) ضمن مجموع، وهو بخط حديث لم يكتب عليه تاريخ النسخ واسم الناسخ، وفي هوامشه بعض التصحيح.
(7) “فصل في معنى الحنيف”: هو ضمن المجموع السابق (ق 88 – 97).
(8) “فصل إذا كان في العبد محبة”: توجد مخطوطته ضمن
__________
(1) أسماء مؤلفات شيخ الإسلام (ص 237).
(2) “العقود الدرية” (ص 54).

(5/10)


مجموعة في مكتبة المكتب الهندي بلندن برقم [عربي 1857 من مجموعة دلهي] (الورقة 117 – 121)، وهي بخط نسخي حديث، وليس عليها اسم الناسخ. وفي أول هذه المجموعة ما يفيد أنها كانت في “ملك الفقير أحمد الباسطي بن عبد الصمد، ثم ملكه عبد الرحمن أحمد خادم الإمامين الأعظمين”.
وقد نشره الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله ضمن “دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى محمود محمد شاكر” (ص 437 – 452) ط. القاهرة 1403، وهي نشرة جيدة.
(9) “فصل في انتفاع الإنسان بعمل غيره”: هذا الفصل مقتبس من كلام الشيخ في “حاشية الجمل على تفسير الجلالين” (4/ 236 – 237)، وقد أرشدني إليه الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، فجزاه الله خيرًا. ووجدتُه باختصارٍ في مصادر أخرى، مثل: “حاشية محيي الدين شيخ زاده على تفسير البيضاوي” (4/ 416) و”حاشية الصاوي على تفسير الجلالين” (4/ 142) و”روح البيان” لإسماعيل حقي (9/ 248 – 249).
ولشيخ الإسلام فتوى في هذا الموضوع ضمن “مجموع الفتاوى” (24/ 306 – 313) قرَّر فيها أن أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بدعاء الخلق له وبما يُعمل عنه من البرّ، وأن هذا مما يُعلَم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف ذلك كان من أهل البدع. ثم سردَ بعض هذه الأدلة.

(5/11)


وقال في “شرح حديث أبي ذر” ضمن “مجموع الفتاوى” (18/ 143): “وقد بيّنا في غير هذا الموضع نحوًا من ثلاثين دليلاً شرعيًّا يبيِّن انتفاع الإنسان بسعي غيره”.
وهذا كله يؤكد صحة نسبة الفصل المذكور إلى الشيخ.
(10) “رسالة في الاتباع”: هي ضمن مجاميع المدرسة العمرية في دار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع رقم 18 (عام 3755)].
(الورقة 6 – 20)، مخرومة من أولها، وقد ذهب ذلك بعنوانها. وفيها خرمٌ آخر بين الورقتين 14 و 15، فالكلام ليس بمتصل فيهما. والنسخة جيدة كتبت بخط نسخي واضح من خطوط القرن الثامن تقديرًا. وقد عنونها مفهرسُ المجاميع بـ “رسالة في التوحيد” (1)، والكلام فيها يدور حول اتباع السنة ونبذ البدع، فيحسُن أن تسمَّى “رسالة في الاتباع”.
ولشيخ الإسلام “قاعدة في وجوب الاعتصام بالرسالة، وأن كلّ خير في العالم فأصله متابعة الرسل” (2)، و”قاعدة في أن كل عمل صالح أصله اتباع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ” (3)، و”اتباع الرسول بصريح المعقول” (4).
(11) “شرح حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن”: ذكر
__________
(1) انظر “فهرس مجاميع المدرسة العمرية” (ص 82).
(2) “العقود الدرية” (ص 49). ونشرت ضمن “مجموع الفتاوى” (19/ 93 – 105).
(3) “العقود الدرية” (ص 47) و”أسماء مؤلفات شيخ الإسلام” (ص 46).
(4) ضمن “مجموع الفتاوى” (10/ 430 – 453).

(5/12)


ابن عبد الهادي (1) أن الشيخ شرح هذا الحديث مراتٍ عديدة. وقد وصل إلينا أحد شروحه للحديث في النسخة الخطية الموجودة بدار الكتب المصرية تحت رقم [20545 ب] (ق 1 – 9)، وقد كتبت بخط نسخي جيد، وليس عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ، ولعلها من خطوط القرن التاسع تقديرًا. وهذه النسخة كثيرة الأخطاء والتحريفات، وفيها اضطراب شديد في موضع أشرتُ إليه فيما مضى.
(12) “فصل في قوله: أصدق كلمة قالها شاعر … “: هو ضمن المجموع الموصوف سابقًا برقم (7)، الورقة 97 – 102.
(13) “المسألة الخلافية في الصلاة خلف المالكية”: وصلت إلينا ثلاث نسخ منها:
إحداها: ضمن مجاميع المدرسة العمرية بدار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع 40] (الورقة 320 – 325) بخط العلاّمة المحدّث ابن الملقِّن (ت 804)، فقد جاء في آخرها: “تمت الفتيا وجوابها على يد عمر بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري الأندلسي الشافعي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين”. وهو ابن الملقن كما ذكرنا، ولم يثبت تاريخ النسخ، ولعله كتبها في أواخر القرن الثامن.
والنسخة الثانية: في الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية [204 مجاميع] الرسالة الخامسة ضمن المجموع، بعنوان “جواب عن حكم
__________
(1) “العقود الدرية” (ص 62).

(5/13)


الصلاة خلف المالكية وغلط المانع”. وهي بخط قديم (1).
والنسخة الثالثة: ضمن “الكواكب الدراري” لابن عروة، في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [578] (الورقة 6 – 8)، وفيها بعض الأخطاء.
وتوجد هذه المسألة ضمن “مجموع المنقور” (1/ 111 – 115)، ولكنها مختصرة هناك، واعتمدتُ على النسخة الأولى في إثبات النصّ لكونها أصحّ من غيرها.
(14) “رسالة إلى الملك المؤيد”: توجد نسختها الخطية ضمن المجموعة التي سبق وصفها برقم (9)، الورقة 121 ب-126 أ. وقد ذكرها ابن رشيق (2) وابن عبد الهادي (3) بعنوان “رسالة إلى ملك حماة”.
(15) “رسالة إلى الملك الناصر في شأن التتار”: توجد النسخة الفريدة منها في مكتبة كوبريللي برقم [1142] (الورقة 174 – 179)، وقد كتبت سنة 758 بخط نسخي ممتاز. وللشيخ رسالة أخرى إلى الملك الناصر بعد فتح جبل كسروان، نشرتْ ضمن “العقود الدرية” (ص 182 – 194). ولعلها تلك التي أشار إليها ابن رشيق (4) وابن عبد الهادي (5) بعنوان “رسالة إلى ملك مصر”.
__________
(1) انظر فهرس الخزانة التيمورية (4/ 30).
(2) “أسماء مؤلفات شيخ الإسلام” (ص 249).
(3) “العقود الدرية” (ص 51).
(4) “أسماء مؤلفات شيخ الإسلام” (ص 249).
(5) “العقود الدرية” (ص 51).

(5/14)


(16) “قاعدة في الانغماس في العدوّ”: ذكرها ابن عبد الهادي (1)، وتوجد نسخة خطية منه بعنوان “رسالة في الجهاد” ضمن مجموع رسائل لشيخ الإسلام في دار الكتب المصرية برقم [444 فقه تيمور]، وهي في 48 صفحة بخط حديث، كُتِبت في 25 من محرم سنة 1319. وناسخها عبد الحميد … ، كما في خاتمة الرسالة الثانية من هذا المجموع. والنسخة كثيرة الأخطاء والسقط، وقد أشرتُ إلى بعضها في التعليق.
(17) “مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة”: هي الرسالة الثالثة ضمن المجموع السابق، في 75 صفحة، بخط الناسخ المذكور.
(18) “قاعدة في الأموال السلطانية”: توجد منها نسخة في مكتبة جامعة برنستون برقم [1377] (الورقة 23 ب-29 ب)، كتبت في 15 من شعبان سنة 814 بخط نسخي جيّد، وهي مقابلة على الأصل كما يظهر من الدوائر المنقوطة. وقام بنسخها محمد بن أبي شامة في مدرسة أبي عمر بدمشق، وقد قال في أول الرسالة: “نقلتُها من النسخة التي نُقِلت من خط شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن قُوبلتْ”.
ومنها نسخة أخرى بعنوان “قاعدة شريفة في الأموال المشتركة” في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم [13754] (في 7 ورقات)، وهي مكتوبة بخط فارسي حديثٍ، وليس عليها اسم الناسخ وتاريخ
__________
(1) المصدر نفسه (ص 48).

(5/15)


النسخ، ولعلها كُتِبت في أوائل القرن الرابع عشر. وهذه النسخة كثيرة الأخطاء، ولذا لم أرجع إليها إلاّ في مواضع قليلة لاستدراك السقط أو تصحيح الخطأ في النسخة الأولى.
وبعد، فهذا وصف إجمالي للأصول المعتمدة في تحقيق هذه الرسائل، وأرجو أنني قد وُفّقت في قراءتها وإخراجها ضمن هذه المجموعة. ولا يفوتني أن أشكر هنا أولئك المحققين الأفاضل الذين قرأوا هذه المجموعة قبل دفعها إلى المطبعة، وأبدوا لي ملاحظات وتصويبات مهمة.
والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وهو حسبي ونعم الوكيل.

محمد عزير شمس

(5/16)


نماذج من النسخ الخطية

(5/17)


ضابط التأويل

(5/33)


بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يَسِّرْ و [أعِنْ] (1)
قال الشيخ الإمام العالم العامل شيِخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية قدَّس الله روحَه ونوَّرَ ضريحَه:
الحمد لله ربّ العالمين، مالك يوم الدين، والحمد لله الذي بعثَ إلينا رسولاً يتلو علينا آياتِه و [يُزكِّينا]، ويُعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنّا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين. إنه أكمل لنا [ديننَا]، وأتمَّ علينا نعمتَه، ورضيَ لنا الإسلام دينا، وأخبرَ أنّ الدين عنده الإسلام هذا الدين، فمن يَبتغِ غيرَ الإسلام دينًا فلن يُقبَل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. وجعلَ الكتابَ الذي أنزلَه بيانًا للناس وهُدًى وموعظةً [للمتقين]، وأخبرَ أنه أنزلَه بلسانٍ عربيٍّ مبين، كما أخبرَ أنه ليسَ على الرسول [إلاّ البلاغ المبين]، وذكرَ أن آياتِه أُحْكِمَتْ ثُمَّ فُصلَتْ، إذ الإحكام والتفصيل يجمع خبرًا وطلبًا، وكمال القصد واللفظ الذي تتمُّ به وتتبيَّنُ الأشياء، (مِن لدُن حَكِيمٍ) يحصلُ بحكمتِه الإحكامُ، (خَبِيرٍ (1)) (2) يُفصِّل الخطاب للمخاطبين. [فليس] كل من هُدِي للحق يسدد الخطاب، كما أنه ليس كلّ من سدّد الخطاب يَبلُغ
__________
(1) ما بين الأقواس المربعة في هذه الصفحة مطموس أو مخروم، وقد أثبتنا ما يناسب السياق.
(2) سورة هود: 1.

(5/35)


إلى أفهام المستمعين بالإفصاح البليغ يكون قد هُدِي للحق. ولهذا قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لعلي بن أبي طالب (1): “يا عليُّ! سَلِ الهدى والسداد، [واذكُر بالهدى] هدايتك الطريق، وبالسداد تسديدك [السهم] ” إلى كمال العلم والقصد والقول والعمل. فهذا الدعاء المبين وما وَصَف سبحانه كتابه ورسوله من البيان والتفصيل والهدى والتبليغ والإفتاء والموعظة والشفاء والقصص والشهادة والرحمة، كقوله سبحانه وتعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ … ) (2).
ثم إنه سبحانَه دعا إلى التفكر والتذكر والتأ [مّل] والفقه لهذا البيان عبادَه المبلَّغين، وجَعلَ رسولَه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هو [المبيِّن] لما حَصَل مجملاً أو مشكلاً على المكلَّفين، وثبتَ بالأدلة المتعددة ضَبْطُ علماء أصحابه لمعانيه كضَبْطهم لحروفه المنقطعة القرين، وكانوا يُلْقُون ما تَلَقَّوه عن رسولهم – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى أصحابهم من التابعين من الكتاب ظَهرًا وبطنًا ومن الحكمة صورةً ومعنًى مشتركين دون مختصّين، فيشتركون كلُّهم أو أكثرهم في كثير من ذلك أو أكثر، ويختصُّ بعضهم ببعضِ ذلكَ وكلٌّ على ما يأثِرُه أمين، شائع بينَهم معرفةُ أصول دينهم وعمل ملّتهم جملةً وتفصيلاً ليسوا فيها مختلفين، وإن كان قد يمتاز بعضهم من زيادة العلم ببعضِ ذلك بما ليس عند الباقين، واستفاضتِ النقول عنهم أنهم تعلَّموا من نبيِّهم – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جميعَ ما يحتاجون إليه فيصيرون من الكاملين وما يصيرون به من الأكملين.
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 268). وأصله عند مسلم (2725).
(2) سورة النحل: 44.

(5/36)


ولهذا كانت البدعُ محرمةً في وقتِ جماعتِهمِ، لعدمِ مُقْتضيها أو لوجودِ مُنافِيها عن هذا الدين، ثم نبغتِ البدع وتعَدَّت من الصغير إلى الكبير على قضاءٍ سبق من الكتاب المبين، فلما قُتِلَ الخليفة المظلوم الشهيد وافترقت الأمة بعده على خلافة الخلفاء الراشدين نَبغ في آخر خلافة النبوة بدعتانِ متقابلتانِ تقابُلَ المغضوب عليهم والضالّين: الخوارج يُكفِّرون الخليفتين ومن تولاّهما، يُحِلُّون دماءَ أهل القبلة، ويفعلون بأهلِ الإيمان فعلَ اليهود بالنبيين؛ والروافض يَغْلون فيمن يَستحقُّ الولاية والمحبَّةَ، فيُطْرونَه إطراءَ النصارى، حتى وَصفوا البشرَ بالإلهية، وألحقوا الأئمة بالمرسلين. فتولَّى أميرُ المؤمنين عقوبة الطائفتين: بقتالِ الطائفة الممتنعة من المارقين، وقَتْل المقدورِ عليه من الغالين، والتعزير بجَلْدِ المفترين.

ثمَّ لما صارتِ الجماعةُ على الأقذاء، وانصرف عن ضبطِ دقيقِ الدين وعنايةِ الأمرِ في أواخرِ عصر الصاحبين حدثتْ أيضًا بدعتان متقابلتانِ: بدعة القدرية والمرجئة على منهاج الأولين، هؤلاءِ عَظَّمُوا أمرَ المعاصِي، حتى أوجَبُوا نفُوذَ الوعيد بجميع أهل الكبائر أو جميع المذنبين، ومَنَعوا شفاعة الشفعاء ورحمة أرحم الراحمين، وأعظَموا أن يكون الله قدَّرَها أو شاءَها أو يَسَّرها، وسَلَبوا الإيمانَ بالكلية لمن اتصفَ بها من المسلمين. وهؤلاءِ استخفُّوا بأمر الواجبات والمحرمات، حتى استبعدَ بعضُهم نُفُوذَ الوعيدِ على الكبائر المُوبِقاتِ، وزعموا أن ذلك نوع من التخشين. وربما احتجُّوا لنفوسِهم بالقدرِ السابق، وتَشَبَّثُوا بكونهم مجبورين، وسَوَّى عامَّتُهم في الإيمان والدين بين الأبرار والفُجَّار والصالحين والفاسقين.

(5/37)


ثمَّ مَن تمسكَ ببعضِ شُعَب الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ولم يُوافِقْهم على أصلِ بدعتِهم وَلا دَعَا إلى مذهبهم كثيرٌ من المتقدمين، وهم جمهور من روى عنه أصحاب الصحيح ممن يُنسَب إلى بعض هؤلاء المخطئين. فقام يَرُدُّ هذه البدعةَ بقايا الصحابة العالمين، كابن عمر وابن عباس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الغُرِّ الميامين.
ثم لمَّا فرغَ الشيطان من المؤمنين ببدعتين رفعًا وخَفْضًا، ومن الدين ببدعتين إبرامًا ونقضًا، شَرَعَ في ربّ العالمين، فحَدَثَتْ بدعتا الجهمية في أواخر عصر التابعين: هؤلاء ينفون عنه ما جاءت به الرسلُ من الصفات، كأنه عندهم من الأمور المعدومات، مضاهاةً لضُلاَّل الصابئين. ثم كثير منهم أو أكثرهم إن اضطُرَّ إلى إثباتِه جعلَه لآخر شاملاً لمخلوقاتِه شمولَ الكلِّ لأجزائِه شائعًا، حتّى قد خصّهم بالبحر وأمواجه في مصنوعاته مشاع الجنس المطلق في أفراده (1)، وجعلوه الوجود المطلق الذي لا يوصف بتغييره في مُعيَّنين، وبعضهم يجعله ساريًا في المحدثات بحيث لا يبقى له عندهم حقيقة خارجية من الأرض والسماوات. تعالى الله عن افتراء الظالمين.
فشاركوا النصارى في الحلول والاتحاد، وزادوا عليهم بعموم الحلول والاتحاد في الموجودين. ثم ضربُوا للكتب الإلهية أنواع التحريف والتبديل وأصنافَ المجاز والتأويل، ولا أبقوا العقول كما فطرت عليه من المعقولات وما أتى إليها من المسموعات، تارةً بدعوى النظر الثاقب للنُّظَّار، وتارةً بدعوى الوجد الصادق للعابدين.
__________
(1) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.

(5/38)


ثم آل الأمرُ بكثيرٍ منهم إلى أن عمَّمَ هذا فيما جاءت به الرسلُ من الوعد والوعيد، وما وصفتْه من النعيم والعذاب في داري الكفار والمؤمنين، فسَلَبوا داري القرارِ ما عُرِفَ لهما من الصفات ونفوهما، إذ أثبتوهما كإثباتِهم إله المؤمنين، فحملوا مثل ذلك في المحارم والعادات، تارة ينفون عن الأفعال أحكامها الشرعية، وتارةً يثبتُون ذلك في حقّ العموم دون المتميزين، وعصامهم في جميع ذلك نوع تعطيلٍ يسمونه بالمعقول، ونوعُ تحريفٍ يسمونه بالتأويل ويُزخرِفونه بالتزيين.
وهؤلاء الممثِّلة يُمثِّلون صفاتِه بصفات المخلوقات، ويجعلونه من جنس المصنوعاتِ وصِنْفِ الآدميين، حتى وصفَه بعضُهم باللحم والدم والعظام -تعالى الله عن ذلك- مُضاهاةً لكثير من اليهود في تمثيلهم لربِّهم بالمخلوق، حتى عَبَدُوا العِجْلَ وكانوا أتباعَ الدّجال اللعين، وإن كان كثير من اليهود أو أكثرُهم معطِّلةً جهميةً ذاتَ تحريفٍ يسمونه التأويل، يَفِرُّون به -زعموا- من تحيُّزِ ذي القوة المتين، فإنه قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1): “لَتَركِبُنَّ سنَنَ مَن قبلَكم حَذوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حتى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتُموه”، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: “فَمَنْ”. وجبَ بمقتضى هذا الخبر البيِّن أن يكون في أمتنا ما كان في أهل الكتابين قبلنا. هذا، ثم المهتدي منهم قبل المبعث ضلَّ بعدم اتباع نبينا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلذلك افترقت أمتنا زيادةً عليهم ثلاثةً وسبعين.
__________
(1) أخرجه البخاري (3456، 7320) ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري.

(5/39)


واليهود والنصارى فيهم معطِّلةٌ وممثلّةٌ، وإن كان الغالبُ على خاصّتهم التعطيل، فلذلك كانت المعطِّلة فينا أكثر من الممثّلين، حتى إنّ المعطِّلة يكثر وجودُهم، والممثّلة لا يكاد يُوجَد منهم إلاّ الواحد بعد الواحد في الأحايين.
فلما حدثتْ بدعةُ التعطيل والتمثيل أنكر ذلك فقهاء التابعين، وكذلك من بعدهم من العلماء ورثة الأنبياء وأئمة المتقين، وكان ذلك عندهم أعظمَ من جميع بدع المبتدعين، حتى أَعْظَمَ السلفُ أمرَ الجهمية ونحوهم وكَفَّروهم، وإن كانوا عن غيرهم متوقفين، واحتاجوا لانتشار البدع إلى ضبط السنن الدامغة للمبتدعين، وكان أسعدُ الناس بهذه الوراثة أصحابَ الكتاب والآثار المأخوذةِ عن سيّد المرسلين -وهم أهل القرآن والحديث- الباحثين (1) في كلّ باب في العلم عن آثار الصحابة والتابعين، العالمين بصحيحه وعليلِه، الفاهمين بمنطوقِه ودليلِه، السالكين سبيلَ السابقين، الذين أخبرَ بهم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حيث يقول: “يَحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدولُه، ينفون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهَلين” (2). وكانوا هم أئمةَ الإسلام الذين هم قدوةُ المؤمنين، بحيث كان
__________
(1) كذا بالنصب هنا وما بعده، وهو صفة لـ “أصحاب الكتاب … “.
(2) أخرجه البيهقي (10/ 209) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 59) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص 29) من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً. ورُوِي موصولاً من حديث أسامة بن زيد، وصححه العلائي في بغية الملتمس (ص 34).

(5/40)


أربابُ هذه البدع في أيامِهم أصاغِرَ مَقموعِينَ، [و] كانت دلائلُ الحقّ وآياتُه ظاهرةً مشهورةً لمن كان لها يستبين. فقُتِلَ برأيهم غَيْلاَن القدري والجَعْدُ بن درهم والجهم بن صفوان المعطِّلان ونحوهم من الظالمين.
إلى أن كان في أواخر المئة الثانية قَلَّ أولئك الهُداةُ وكثُر هؤلاء الغُوَاة، واستعوزُوا إلى باطلهم بعضَ الوُلاَةِ، حتى ظهرتْ محنةُ الصفاتِ في علماء المسلمين، ودَعَوهم إلى القولِ بخلق القرآن، إذ هو مفتاحُ جُحودِ الصفات، وأقربُ من غيرِه إلى المبتدئين. وظهرَ في الإسلام ما لم يُعْهَد مِثلُه من الفتنةِ في الدين، حتى عدَّ الناسُ من قام به ما كان أسى وصبرًا من العلماء، ومن أطفأَ شَرَرها من الخلفاء دفعًا بجراءة، مُفَضلاً على غيرِه من الأولين، وانكسرتْ بذلك سَوْرَةُ أهل البدع ظاهرًا، ولكن في النفوسِ مِن طواياها كَمِيْن مَكيْن.
وصارَ من أسباب الفتنة أنَّ نَقَلَةَ الآثار قَلَّ فيهم الفقهُ والعَقْلُ، كما أنّ ذوي النظر والاعتبار ضَعُفَ علمُهم بآثار النبيين، ولن يتِمَّ الدينُ إلاّ بمعرفةِ الآثار النبوية والسَّلَفية وفِقْه لما قَصَدُوه من المعاني الدينية، كما كان علماء السالفين، وصارَ ذلك سببًا لإعراض كثير من طلبةِ العلم من أعيانهم عن النظر في قواعدِ الدين.
وظهرَ في الدولة المعتصميّة مُقاربًا للمحنة الجهمية من الطائفة الخرَّمِيَّة مَن يقول بتواتر النبيين جَريًا على منهاج الفلاسفة وسلوكًا لسبيلِ الصابئين، حتى جَرَت بينهم وبين المسلمين من الحروب ما هو مشهورٌ عند المؤرخين.

(5/41)


وظهَرَ بأثرِ ذلك من أَبْطَنَ ذلك من القرامطةِ الباطنية والطائفة الإسماعيلية الذين كثُرَ فسادُهم على الخاصة والعامة للدنيا والدين. وانتدبَ للردِّ على صُنُوْفِ الكُفَّار والمبتدعةِ طوائفُ من المتكلمين بِحُجَجٍ بعضها صحيح قويّ وبعضها مَهِيْن، لِصعوبَة الزام (1) علمًا وقصدًا، وعسر الاستبداد في هذا الباب بدرك اليقين، والهوس بفرح ما يقوم لها من الحجة على المنازع قبل تعقب ما يلزم الحجْةَ في سائر المواضع (2). وهذا من أعظم الآفة على الناظرين والمناظرين، فيحتاج أن تطرد تلك الدلالة، ويلتزم من اللوازم ما لا يظن أن فيه إحالة، وإن كان مخالفًا لنصِّ مبين.
وهذا هو السبب كثيرًا أو غالبًا في البدع المخالفة للنصوص أو الدافعة لما عليه كلُّ ذي عقل رصين، حتى صار من نَصَرَ السنةَ في غالب الأمر يُعدُّ من متكلميها، وإن اضطرَّه تحققُ حدِّه وطردُ دليلِه أحيانًا إلى ما ينافيها، إذ ذلك غامضٌ إلاّ على الأقلين. وخَرَج كثير ممن ينصر السنة بالآثار إلى الاحتجاج بما لا يَسُوغُ لأولي الأبصار، إمّا لضعف الإسناد، وإمّا لعدم المتن المتين، وكثُر في العلماء المحسنين في أكثرِ قولهم من المتأخرين مَن يقع في كلامِه من المخالفةِ للسنةِ ما يَرُوجُ عليه وعلى كثير من الناظرين، فيردُّ هذا عليه سائر حقِّه لأجل باطلِه، ويُلحِقُه بالمعطِّلين، ويَقبَلُ هذا جميعَ كلامِه لاعتقادِه فيه أنه كالسلف الماضين، ثم إذا صارتِ الشبهاتُ أهواءً أخرجتْ من النفوس الداءَ الدفين.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.

(5/42)


وصَار كثير من طلبة العلم وأذكياءُ المباحثين يقفون على أقسام محصورةٍ وأمثال مَسْبورةٍ في كلام كثير من الآخرين، فتُوجبَ حُسْنَ الظنّ بعقولٍ تُدرِك تلك المطالب، وافتقارَ رجالٍ ذهبوا تلك المذاهب، وإن كانوا للسلف مخالفين، إذ ليس عندهم من السلف إلاّ أسماءٌ مستطيرة وكلمات ليست بالكثيرةِ المعتبرة. ولولا أُبَّهةُ الإسلام في قلوبهم لعدُّوهم من العَمِيْنَ، وإن كان في الناس مَن يَعتقد هذا أو يتوقف فيه، وإنما سببه ضعف آثار المرسلين.
وإذا قيل “أهل الحديث” ذهبتْ أوهامُهم إلى قومٍ من الرواة وضَرْب من النساخ والمستمعين، وإن رفعوا البابةَ إلى قومٍ من الحفّاظ لبعض الأسماء واللغات إذا حدَّثوا، وظهر من الجهل والظلم اللذين وصف الله بهما الإنسان ما أوجبَ نقصَ العلم والدين. فهذا وأمثالُه أسباب لما قضى به قدر الله في العالمين.
ثم مع ذلك فللهِ في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسُلِ -كما قال الإمام أحمد (1) – بقايَا من أهل العلم، يَدعُون مَن ضلَّ إلى الهدى، ويَصبِرون منهم على الأذى، يُحيُون بكتاب اللهِ الموتَى، ويُبَصِّرُون بنور الله أهل العمَى، وإن كانوا هم الأقلينَ. بهم تقوم حجةُ الله في دِقّ الدين وجلِّه، ويُحفَظ بهم عمودُ الدين فرعُه وأصلُه إلى يوم الدين. هم الوَسَطُ في هذه الأمة، كما أن هذه الأمة هم الوسط في الناس، فهم شُهَداءُ عليهم بما أخذوه عن خاتم النبيين، وهم ورثةُ الأنبياء فيما جاءوا به من العلم، وخُلفاءُ الرسُلِ فيما قاموا به من البلاغ المبين،
__________
(1) في مقدمة “الرد على الجهمية والزنادقة”.

(5/43)


وقد يتفرَّقُ فيهم علمُ النبوةِ إذا لم يَقُم به واحد، ويُغفَر للمخطئ منهم في مجتهداتِه إذا لم يكن عن سنن الاجتهاد بحائدٍ، كما يُعذر بعَدَمِ البلاغ كثير من المؤمنين.
فالحمد لله على ما بيَّن وأمرَ، وعلى ما قَضَى وقدَّر من هذه الأقانين (1)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك [له]، شهادةً تُحصن قائلَها من النارِ وتُوجبُ له نورَ المتقين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسَله بأفضلِ كتاب وأَقْومِ دين، وأيده بأكمل الآيات وأَشرفِ البراهين، وبعثَه في خير أمةٍ وأتمِّ مكان وحِيْنٍ، وبيَّن به الحق بأفصحِ لغةٍ وأبلغ تبيينٍ، وأخرجَ به الخلقَ من الظلماتِ إلى النور المستبين، وجعله سراجًا منيرًا، كما جعلَ الروحَ الذي أوحاه إليه نورًا يَهدِي به المهتدين، وعَصمَه من مخالفةِ سِرِّه لعلانيته لا سيَّما في إيمائِه وخطابِه المستمعين، إذ لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنةُ الأعين (2)، ولا يُومِضُ إيماضًا يَخفَى على الحاضرين، كلُّ ذلك تحقيقًا لكمالِ البلاغ وتنزُّهًا عن ظنون الملحدين، صلى الله عليه وعلى آله كما صلَّى على إبراهيمَ إمام المسلمين، وباركَ عليه وعلى آله كما باركَ على آل إبراهيم في العالمين، إنه سبحانَه حميد مجيب سميع لدعاءِ الطالبين، والسلامُ عليه ورحمةُ الله وبركاته وعلينا وعلى عبادِ الله الصالحين.
أما بعد، فقد كان جَرى بيني وبين بعضِ الناس من نحوِ عشرِ
__________
(1) كذا في الأصل، ولعله جمع “قانون” على غير المشهور.
(2) كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (2683، 4359) والنسائي (7/ 105) عن سعد بن أبي وقاص.

(5/44)


سنينَ أو قريبٍ منها أو أكثر منها مناظرة في الصفاتِ والكلام على مذهب أهل التأويل فيها، التمسَ مني بعد ذلك بعضُ الأصحاب حكايتَها، فكتبتُها إليه، مع أن الكتابةَ لابُدَّ فيها من نوع زيادةٍ غيرِ متعمدةٍ ونقصانٍ، لكن المنقوصَ كثير، إذ الخطاب يحتملُ مَن البسط ما لا يحتمله الكتابُ، ومن الوَرعِ أن تنقُصَ من الحكايةِ ولا تزيدَ فيها.
وتلك المناظرة -مع ما اشتملت عليه من القواعد المقررة والأصولِ المحرَّرة- لم تخْرُج مخرجَ تصنيفٍ، وإن كان لا غَرْوَ في جَعْلِها تصنيفًا.
وصورةُ ما كاتبتُ به الطالبَ: فإن الله سبحانَه وتعالَى خلقَ عبادَه على الفِطرة، وكمَّل فطرتَهم بالنبوة، واصطفَى من الملائكة رسُلاً ومن الناس، ليُعلِّموا الأممَ ما لم يكونوا يعلمونَه، كما قال سبحانَه وتعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)) (1). ولم يَبعَثْ رُسُلَه بغير فطرتِه التي فَطَرَ عبادَه عليها، ولا بإفسادِ عقولهم التي بها ينالون علمَ ما أنزلَه عليهم، بل بَعَثَ الرسُلَ بتعليم ما تَقصُرُ عقولُهم عن دَرْكِه، لا ما تَقضِيْ عقولُهم بإحالتِه، وأمرَهم بتقريرِ الفِطَر لا بتغييرِها. ولهذا قال لنبيه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)) (2)، وقال في صفة المستحقين الرحمةَ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
__________
(1) سورة البقرة: 151.
(2) سورة الأعراف: 199.

(5/45)


وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) (1). وجَعَلَ حجتَه التي يَستحقُّ العذابَ تاركُها رُسُلَه المنذرين، دونَ مجرَّدِ الفطرةِ والعقل، كما قال سبحانَه وتعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)) (2). فأخبر أنه أرسلَ الرسُلَ لئلاّ يَبقَى لأحدٍ حجة، فعُلِمَ أنّ الحجة قامت على أهل الأرض بالرسل، وأنه لم يَبْقَ لأحدٍ بعدهم.
و”الحجةُ” اسم لما يُحتجُّ به، سواءٌ كانت بينةً أو شبهةً، وإن كان قد اصطلح كثير من المتأخرين قَصْرَ هذا اللفظِ على البينات دون الشُّبُهات. فإنّ الأول هو لغة القرآن ولغةُ العرب، كما قال سبحانه: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (3)، وقال تعالى: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) (4). وهي اسم لما يقصده المُحَاجُّ ويَؤُمُّه في حجاجه، ومثل قول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ما أحد أحبَّ إليه العذرُ من الله، من أجلِ ذلك بعثَ الرسُلَ مبشّرين ومنذرين” (5).
وقال سبحانه وتعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
__________
(1) سورة الأعراف: 157.
(2) سورة النساء: 163 – 165.
(3) سورة البقرة: 150.
(4) سورة الشورى: 15.
(5) أخرجه مسلم (2760) من حديث ابن مسعود.

(5/46)


مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)) (1). فأخبرَ سبحانَه أن كلَّ عامل يَلزَمُه عملُه، وأنَّ منفعةَ هداه وضلالته عائدةٌ عليه، وأنه لا يَحمل من سيئاتِ غيرِه شيئًا، وأنه لا يُعذَّبُ أحد حتى يُبعَث إليه رسول، وأنّ القُرى إنما تُهلَكُ بعد فِسقِ مُتْرَفيها.
وقال سبحانَه وتعالى: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)) إلى قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)) (2).
فهذه الآيات تُشْبِهُ تلك الآيات.
وأخبر سبحانَه عن عذاب الآخرة مثلَ ما أخبرَ به عن عذابِ الدنيا، فقال سبحانَه وتعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) إلى قوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى
__________
(1) سورة الإسراء: 13 – 16.
(2) سورة القصص: 47 – 59.

(5/47)


بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)) (1). فأخبر سبحانَه عن المعذَّبين من الجن والإنس أن الرسل قد جاءتهم، وأخبرَ أنه لا يُهلِكُ القرى إلاّ بعد الرسل المذكِّرين.
وقال سبحانَه: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)) (2). فأخبر سبحانَه أنّ الزمر المَسُوقةَ إلى جهنم من الذين كفروا قد جاءتهم رسلُ الله يتلون عليهم آياتِه ويُنذِرونهم يوم القيامة.
وقال سبحانه: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)) (3). فأخبر سبحانَه وُتعالى أن كلَّ فَوج يُلقَى في النار يَعترِف بمجيء النذير ويُقِرُّ بتكذيبه، وأنه لو كان لهم عقلٌ أو سمع لكان ذلك سببًا لنجاتهم.
وهذا نظيرُ قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) (4)، وقولي تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى
__________
(1) سورة الأنعام: 128 – 131.
(2) سورة الزمر: 571
(3) سورة الملك: 6 – 10.
(4) سورة الحج: 46.

(5/48)


لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (1). ودل ذلك علي أنه ليس مرادُه بالعقل أو بالقلب العاقلِ ما يستغني به عن الرسول بعد مجيئه، لأنه قد أخبر عن هؤلاء الذين قالوا: “لو كنا نسمع أو نعقل” أنّ النذيرَ جاءَ كلَّ فوجٍ منهم، فكذَّبوه وأنكروا رسالته فعلم أن مع هذا التكذيبِ لا يَبْقَى عَقْل مُنْجِي، وإن كان العقلُ باقيًا.
وكذلك في الآية الأخرى قال سبحانه وتعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (2)، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) (3)، فإنما ذكر ذلك لبيان الاعتبار بآثار المُهْلَكِين من الأمم الذين كذَّبوا الرسلَ وعصوهم، وهذا إنما هو عقلٌ يُنتَفَعُ به في الإيمان بالرسلِ وطاعتهم، وإن لم يحصل ذلك بلسانه أو بأمر لأخبارهم المفصلة، إذْ من الناس من يتدبر بنفسه، ومنهم من يحتاج إلى مُوقِظ. وقد أخبر سبحانَه وتعالى في غيرِ موضع العقلَ المتعلقَ بآياته، كقوله سبحانَه وتعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)) (4).
وقال سبحانه وتعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدم أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
__________
(1) سورة ق: 37.
(2) سورة ق: 36 – 37.
(3) سورة الحج: 46.
(4) سورة العنكبوت: 43.

(5/49)


وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)) (1). فبيَّن سبحانَه أن من تَرَك عهدَ الله إليه وَضَل عنه لم يكن يَعقل.
وقال سبحانَه وتعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)) (2). وقال أيضًا: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)) (3). قال ابن عباس (4): تكفَّل اللهُ لمن قرأ القرآن وعَمِلَ بما فيه أن لا يَضِل في الدنيا ولا يَشقَى في الآخرة، وقرأ هذه الآية.
فأخبر سبحانَه أن من اتبعَ ما جاءَه من الهدى على ألسُنِ الرسلِ لا يَضِلُّ ولا يَشقى، فلا يحزن ولا يُعذب، وأنّ من أعرضَ عنه فإنه يُعذَّب بالمعيشة الضَّنْكِ، وأنه يكون أعمى يوم القيامة، ضِدّ المتبع لهداه. ثم بيَّن سبحانَه أنه يَعمى في الآخرة وإن كان بصيرًا في الدنيا، لأنَّ آياتِ اللهِ أَتَتْه فتَركها وأعرضَ عنها.
__________
(1) سورة يس: 60 – 62.
(2) سورة البقرة: 38 – 39.
(3) سورة طه: 123 – 127.
(4) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 147).

(5/50)


وفي هذا بيانٌ واضح لأن المعرضَ عن آيات الله بتركِ الاستهداءِ بها يَعمَى ويُعَذَّب، ولا ينفعُه بَصَرُه وعقلُه. وبيَّن أن هذا الحقّ يَلْحَقُه وإن لم يكن مكذّبًا للرسل، لأنه علَّقه بمجرد الإعراض عن ذكره، وبيَّن أن ذلك نِسيانُ آياته التي هي تركها.

ثم قال: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ)، فمجردُ عدمِ الإيمان هو المؤثر وإن لم يكن ثَمَّ تكذيبٌ، فإنَّ للناس في الرسل ثلاثة أحوال: إمّا التصديقُ، وإمّا التكذيبُ، وإمّا عَدَمُهما. وكلّ واحد من التكذيبِ وعدمِ التصديق كفرٌ.
ولما كانَ الغالبُ على المعرضين عن هدى المرسلين الإعجابَ بآرائهم وبصائرِهم وعقولهم، والاستخفافَ بأتباعِهم، قال سبحانَه عن قومِ هود: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)) (1). فأخبرَ سبحانَه أن السمعَ والبصرَ والفؤادَ لا يُغنِي مع الجحود بآياتِ الله.
ومثل ذلك قوله سبحانَه: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) (2). فأخبرَ أن المنذَرين
__________
(1) سورة الأحقاف: 26.
(2) سورة غافر: 83 – 85.

(5/51)


أُعجبُوا بما عندهم من العلم، وهذه حالُ من استغنى بعقلِه وعلمِه عمّا جاءت به الرسلُ. وأخبرَ سبحانَه أنَّه أحاطَ بهم ما كانوا يستهزئون به ممَّا أنذرتْ به الرسلُ. وهذه حالُ عامة المتكايسِين من هؤلاء الذين يُنكرون العقوباتِ التي أخبرتْ بها الرسلُ.

وأخبرَ سبحانَه أنَّ الرسالةَ عمَّتِ الأممَ كلَّهم بقوله سبحانَه وتعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)) (1)، وقال سبحانَه: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)) (2).
وكما أخبرَ سبحانَه أنه لم يكن معذِّبًا أحدًا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث رسولا، أخبر سبحانَه أنه بعثَ في كل أمة رسولاً، لكن قد كان يَحصُلُ في بعض الأوقاتِ فَتَرات من الرسُل، كالفترةِ التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلَّم، كما قال سبحانه وتعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)) (3).
وزمان الفَترةِ زمان دَرَسَتْ فيه شريعةُ الرسول وأكثرُ الدُّعاةِ إليها
__________
(1) سورة النحل: 36.
(2) سورة فاطر: 24.
(3) سورة المائدة: 19.

(5/52)


إلاّ القليل، ولم يَدْرُسْ فيها علمُ أصولِ دينِ المرسلين، بل يَبقَى في الفترةِ من الدُّعاةِ من تقومُ به الحجةُ، كما قال الإمام أحمد (1) رحمه الله: “الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمانِ فَتْرَةٍ من الرسلِ بَقَايَا من أهل العلم، يُحيُون بكتاب الله الموتَى، ويُبصِّرونَ بها أهل العَمَى”.
وكما قال علي بن أبي طالَب -رضي الله عنه- في حديث كُمَيْل بن زياد: “لن تَخلُوَ الأرضُ مِن قائمٍ لله بحجةٍ، لئلاَّ تَبْطُلَ حُجَجُ الله وبيِّناتُه، أولئك الأقلون عددًا والأعظمون عند الله قدرًا” (2).
فمن قامت عليه الحجةُ في الإيمان والشريعة التي جاء بها الرسولُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وجبَ عليه اتباعُ ذلك، ومَن دَرَسَتْ عنه شرائعُ الرسُلِ أو لم يكن رسولُه جاء بشريعة سوى القدر المشترك بين المرسلين ففرضُه ما تواطأتْ عليه دعوة المرسلين، من الإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح، دونَ ما تميَّزَت به شريعةٌ عن شريعة. وهؤلاء -والله أعلم- هم الصابئون المحمودون في قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بالله وَالْيَوْمِ الآخر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (3).
__________
(1) في مقدمة كتابه “الرد على الجهمية والزنادقة” كما سبق.
(2) أخرجه أبو نعيم في “الحلية” (1/ 79 – 80) والخطيب في “الفقيه والمتفقه” (1/ 49 – 50) ضمن حديث طويل. قال الخطيب: هذا الحديث من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظًا. وشرحه ابن القيم شرحًا وافيًا في كتابه “مفتاح دار السعادة” (1/ 123 – 153). وفي إسناده أبو حمزة الثمالي وهو ضعيف، وشيخه عبد الرحمن بن جندب الفزاري مجهول.
(3) سورة البقرة: 62.

(5/53)


فحمِدَ سبحانَه من هذه الأصناف الأربعة مَن آمن بالله واليوم الآخر وعملَ صالحًا، وجعلَهم من السعداء في المعاد، وهذا يُبيِّن أنّ في الصابئين من يكون سعيدًا في الآخرة حميدًا عند الله.
وكذلك قال في سورة المائدة (1): (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ)، والنصارى مقدَّمون على الصابئين كما في سورة البقرة، ويُشبه -والله أعلم- أنهم قُدِّموا هنا لفظًا لتقدُّم زمنِهم، وجيئَ بهم بَصيغة الرفع ليبيّن أن مرتبتهم التأخير، لأنّ المعطوفَ على “إنَّ” واسمِها بصيغة المرفوع إنما يُعطَف بعد تمام الكلام. والصابئ هو الخارج، ولهذا كانوا يُسمُّون مَن خَرج من دينهم الصابئَ. والعلماء وإن كانوا قد اختلفوا في الصابئين فالأشبهُ بظاهر القرآنِ والعربية وما دلَّت عليه السِّيَر وما تقتضيه أصول الشريعة: أنَّ الصابئين هم المهتدون المستمسكون بأصول دين الأنبياء، وهو المتفَّقُ عليه من الإيمان والعمل الصالح دون شريعة معينة، لأنهم يكونون بذلك يَصْدُق عليهم أنهم خارجون من خصوصِ كل شريعة، ويَصدُق عليهم أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحًا.
فأما من كان صابئًا لا يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر و [لا] يعمل صالحًا فهؤلاء الكفّار منهم، كعُبَّاد الكواكب ونحوهم، والقوم الذين بُعِث إليهم إبراهيم كانوا صابئة، وكذلك فرعون وقومُه، وكذلك أكثر
__________
(1) الآية 69.

(5/54)


أهل الأرض، وكان غالبُهم مشركين، وعلماءُ الصابئين هم الفلاسفةُ، فمن كان من أولئك الفلاسفة مؤمنًا بالله واليوم الأخر عاملاً صالحًا فهو من الصابئين الذين أثنى الله عليهم، ومَن لا فلا (1).
وهذا بخلاف المجوس والذين أشركوا فإنّ الله لم يَحْمَد أحدًا منهم، وإنما ذكرَهُم لبيان حكم الله بينهم وبينَ غيرِهم يومَ القيامة في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (2).
ولما كان معلومًا أن اليوم الآخر هو يوم القيامة، ولا يؤمن بيوم القيامة إلاّ أتباعُ الأنبياء، إذ مَن لم يتبع الأنبياءَ من الصابئين وغيرِهم إنما يؤمن من المعاد بمعاد الأرواح فقط، كما يؤمن به المجوس وبعض المشركين، وذلك ليس هو اليوم الآخر عُلِمَ أنّ من اهتدى من الصابئين فإنما اهتدى باتباع الأنبياء.

فتبيَّن أن كلَّ هدًى حصل به سعادةُ الآخرة فهو باتباع الأنبياء، وأنّ كل عذاب اسْتُحِقَّ في الدار الآخرة فهو بالإعراض عمّا جاءوا به، ومَن لم تبلُغْه دعوتُهم فقد ورد أنَّه يُكلَّف في الدار الآخرة، وليس غرضُنا ذِكْر ذلك.
ويُبيِّن ما قدَّمناه أنّ من استَقْرأ أخبارَ الأمم -علمائِها وعوامِّها-
__________
(1) ذكر المؤلف في “درء تعارض العقل والنقل” (7/ 334) القسمين من الصابئين، كما ذكر هنا.
(2) سورة الحج: 17.

(5/55)


لم يجدْ أحدًا متمسكًا بتوحيد الله وعبادتِه وحدَه لا شريك له إلاّ من كان متبعًا للأنبياء جملةً وتفصيلا، ومن أعرضَ عن الأنبياء فلابدَّ أن يُشرِك، حتى المنافقين من هذه الأمة لا يَجدُ من أعرضَ عن اتباع حقيقةِ الدين في الباطن إلاّ ولابدّ أن يُشرِك، إلاّ ما شاء الله. وأن اتباعَ الوحي لابُدَّ فيه من فِطرةٍ بها يعقل ويفقه، وأن الهدى متوقف على صلاح الفطرةِ والشِّرعةِ، فلذلك عَمَدَ الشيطانُ من بني آدم، فاجتالَهم تارةً عن الفطرة، وزيَّنَ لهم تارةً تحريف الشِّرعةِ، وغَرَّهُم عن الفطرةِ الصحيحة السليمة بالقياسِ الفاسدِ الذي قد يُسمُّونه معقولاً وإن لم يكن، وعن الوحي المنزلِ بالتحريف الذي يسمُّونه تأويلا وإن كان فاسدًا.
وذلك أنّ العلوم لبني آدم نوعان:
نوع يَختصُّ الله به من يشاء من عبادِه، كما يوحيه إلى الأنبياء.
ونوع مشترك، يُنَالُ بالتعاطي، كالعلوم النظرية الحسابِ ونحوِه.
وكلّ واحدٍ من المختصّ والمشترك منه ما يَحصُل في القلب بواسطةِ دليل، ومنه ما يَحصُل لا بواسطةِ دليل، كالعلوم المشتركة التي لا تقف على دليل كالبديهية والحسّيّة، والتي تفتقر إلى دليلٍ هي النظريَّة. والمختصة التي تقف على دليلٍ قد يكون دليلُها أيضًا مختصا، وقد لا يكون مختصًّا، وإنما دَرْكُ العلمِ به هو المختص.
وأما المختصة التي لا تَقِفُ على دليل فهو ما يُوحِيْهِ الله إلى قلبِ مَن يشاءُ من عبادِه بلا دليلٍ أصلاً، بل تكون للخاصَّة بمنزلة البديهية للعامَّة.

(5/56)


وزعمَ فريقٌ من المتفلسفة أنَّ علومَ الأنبياء المختصة لابدَّ لها من وسطٍ، وإنما خاصَّتُهم دَرْكُ وَسَطٍ لا يُدرِكُه غيرُهم، وأنّ الحَدْسَ هو دَرْكُ الوسط، ثم الانتقال منه إلى المطلوب، بخلاف التفكُّر فإنه تصوُّرُ المطلوبِ أولاً ثم طلبُ الوسط.
وهؤلاء بَنَوا هذا على أصلهم الفاسد في أن النبوةَ كمالٌ علميّ وعملي مِن جنسِ كمالِ النوع المكتَسَب، لكنَّه أرفعُ درجاتِه، وأن النبوةَ ليست خارجةً على القوى المعتادة، ولاهي تنزيلاً خاصًّا من عندِ الله إلى من يختصُّه بمشيئتِه. ولم يعلموا أن لا مانعَ من أن يكون للنبي علم بديهيّ مختص لا يَقِفُ على دليل أصلاً، بل هذا يكون لغيرِ النبي ككثيرٍ من الأولياء، فكيفَ بما يُكلَم الله به النبيَّ أو يَنزِلُ به إليه الملكُ؟
ثمَّ هؤلاء يَزعمون انحصارَ العلم في القياس، ولعَمري إنّ القياسَ لَطريق صحيح إذا استُعمل على وجهِه، لكن لم تَنحصِرْ طرقُ العلم فيه، فوقَعَ عليهم من استعمالِه حيث لا يَمشي ومن نَفْي ما سواه وهو الحق (1).
ثمَّ إن كثيرًا من متكلمي أمتِنا وغيرهم من أتباع الأنبياء أقرُّوا بطريق القياس، لكن شركوهم في القياس الفاسد، فصار القياسُ طريقًا لهم في كثيرٍ من العلم الإلهي، وضَعُفَ عِلْمُهم وإيمانُهم بآثار المرسلين، فقابلوها إمّا بالردِّ والتكذيب، وإمّا بالتحريف والتأويل،
__________
(1) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.

(5/57)


معتمدين -زعموا- على ما أوجبَه ذلك القياسُ العقلي. وبإحْكَامِ دلالاتِ الوحي والقياس يَبِيْنُ الحقُّ من الباطل.
ولستُ أعني بالقياسِ هنا مجردَ قياس التمثيل الذي هو تشبيه أمر معين بأمر معين إما بجامع وإما بغير جامع، وإن كان كثيرٌ من فقهائنا يزعم أن هذا هو القياس، وأن ما سواه قياسٌ مجازًا؛ ولا مجرد قياس التأصيل الذي هو إدراج الخاص [تحت] العام، كقولنا: كل مسكرٍ خمرٌ، وكل خمرٍ حرام، وإن كان طائفة من متكلمينا وفقهائنا يزعم أن هذا هو القياس، وأن ما سواه باطل. بل أعني به ما هو أعمُّ من ذلك على ما تقتضيه اللغة، فإن جميع هذا قياس. وتسميةُ الأول قياسًا ظاهر، إذ القياس تقدير الشيء بنظيرِه، كما يقال: قِستُ الجراحةَ بالميلِ، وقستُ الأرضَ أو الثوب بالذراع. وأما الثاني فلأن الخاصَّ إذا أدرجتَه تحتَ المعنى العام فلا بدَّ أن يقوم في ذهنك عام مطابق لتلك الأعيان الموجودة وأنتَ تطلبُ مماثلةَ تلك الأعيان الموجودة بذلك المثال المعلوم القائم في قلبك الذي هو مقياس تلك الأعيان، وهو عام باعتبار شموله لكل منها.
وهذا العلم هو من لوازم الإنسان وبه [تُدْرَكُ] العلوم العامة الكلية، فإذًا لا يمكنك هذا القياس إلاّ بهذا العلم العام الكلي، والشأن كل الشأن في حصول هذا العلم الكلي العام، فإن المعلوم إذا لم يكن له نظائر يرتسمُ بمعرفة الواحد منها مثالٌ في الذهن يُوزَن به سائرُها، ولا كانت حقيقتُه مما يمكن أن تتعدد، حتى يأخذها العقل كليةً، وإن لم تكن في الوجود متعددة، بل كانت حقيقتُه لا متعددة ولا قابلة للتعدد، بل هو الأحد الذي لا أحد غيره، كيف يمكن أن يُعلَم

(5/58)


هذا الذات بالقياس العقلي أبدًا؟ ولهذا قال ابن عباس …. (1)
فتبيَّن أن خواصَّ الربّ سبحانَه لا تُعلَم بالقياس الكلّي الذي يُسميه المتكلمون الدليل العقلي. بل قد تُعلَم بالقياس الأمور المشتركة بينه وبين غيرِه، لدخولها تحت القياس. ولهذا كان عامةُ ما يُدرِكُه أهلُ القياس من معرفةِ الأمور السلبية أو الإضافية أو المشتركة منهما، لأن نفي الأمر عنه هو حكم على ذلك الأمرِ بالعدم، وذلك الأمر المعدومُ يدخلُ تحت القياس الكلي، وكذلك إضافة أمرٍ إليه هي حكم على ذلك المضافِ باستلزام الإضافة إلى أمرٍ ما، وذلك المضافُ يدخل تحت القياس والأمر بالمعدومات، وأما علم [الصفات] التي هي خواصُّه فتُعلَم تارةً بالفطرة العامة المشتركة بين الخلق، وتارةً بالهداية الخاصة التي يمتاز بها المؤمنون، وتارة بالتعريف الخاصّ الذي يختص به علماء المؤمنين، وتارةً بالوحي الذي يمتاز به الأنبياء، وكلٌّ من هذه الأقسام فأهلُه فيه على درجاتٍ غيرِ محصورةٍ لنا. فهذا أصلٌ ينبغي ضبطُه.
وأما الوحي فكتاب الله ثم سنة رسوله، ثم سيرةُ خير قرون هذه الأمة تَشهدُ بأن الله ورسولَه بيَّنَ وهَدَى وشَفَى، وأنه بَلَّغَ البلاغ المبين، وبيَّن باللسان العربي المبين، وأنه لم يُحِلِ الخلقَ على غيرِه في هذا الباب، ولا وَكَلَهم إلى القياس الذي لا يُجدِيْ كما تقدم، بل تولَّى بيانَ ما تحتاج إليه الأمة. وهذه جملةٌ سيأتي -إن شاء الله- تفصيلُها.
__________
(1) بعده كتب في الأصل: “بياض”.

(5/59)


ثم لما كان للقياسِ على العقول سلطان عظيمٌ إذا لم يهتدِ إلى مواقفه ومجاريه، وللوحي في القلوب برهانٌ عظيم لعلمِها بما اشتملَ عليه، ورأى أكثرُ الخلقِ أن بينَ مقتضى القياس والوحي تعارضًا بينًا وتنافِيًا واضحًا، تحزَّبَ الناسُ هنا فِرَقًا:
فريقٌ غلبَ عليهم معرفةُ القياس دون الأثارة (1)، فاتبعوا موجبَه، ثم ردُّوا ما بلغَهم من الأثارة أو تأولوها.
وفريقٌ غلبَ عليهم معرفة الأثارة، ورأوا للقياس وأهلِه سلطانًا عظيمًا، فأحجموا عن النظرِ فيه ومفاوضةِ أهلِه، صونًا لأبْصارِهم من العمَى ولقلوبهم من الحيرة. وهؤلاء أحسن حالاً، بل هم على نهج سلامةٍ.
وفريقٌ أعرضوا عن تدبُّرِ هذا والنظرِ في هذا، وشَغَلُوا نفوسَهم بغير هذا.
وفريق قَوِيَ إيمانُهم بالأثارة، وأحسُّوا بسُوءِ حالِ أهل القياس، فذَمُّوهم وعابوهم على طريق الإجمال، وإن لم يستطيعوا فَكَّ أقيادِهم ولاتذليلَ قيادهم، وهذه حالُ كثير من علماء الأثارة، وهي حال حسنة، وإن كان قد ترتَّب عليها الجورُ أحيانًا، لكن من كان [من] هؤلاء سببًا لدلالةِ الأثارة نافيًا عنها تحريفَ المخالفين كان من علماء الدين، وإن كان دفعُه للمعارضِ إجماليا.
__________
(1) هنا وفيما يأتي وردت كلمة “الأثارة” بدل “الآثار”، وفي القرآن: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)).

(5/60)


وفريقٌ فوقَ هؤلاء، آمنوا بالأثارة، ثم أُوتُوا من الهداية الخاصة ما عَلِمُوا به فسادَ القياسِ تفصيلاً، فزالتْ عنهم المعارضاتُ بالكلية، ومنهم من يرفع إلى هداية يدرك بها حقيقة بعض ما جاءت به الآثار، فيكون ذلك مُثبتا لفؤادِه.
ثم هذه الطرق قد تنفصل في المسائل، فكثير من أرباب القياس قد خلصَ إليه من الأثارة ما لا يمكن دفعُه، فكان حكمُه في ذلك حكم أرباب الأثارة في غيره، فربّما أخذَ يُؤيِّد بالقياس ما جاءت به الأثارة، وإن كان لولا مجيءُ الأثارة لم يَطمئن إلى موجبِ القياس.
وقومٌ منهم ضَعُفَ علمُهم أو إيمانُهم بالأثارة حتى نَأَوْا عن الهُدَى، ثمّ عَظُمَ قدرُ الأنبياء في قلوبهم بكمال التخيل في دعوة الخلق بضروب الاستعارات وأنواع الإشارات. ولا يَشُكُّ لبيبٌ أن الموغلين في القياس إذا طَرَقَ سَمْعَهم جمهورُ ما جاءت به الأثارة بقُوا متحيرين كما يُخبرون به عن نفوسهم، فإن القياس أيضًا يَقضِي باستحالةِ اجتماع هذه الأثارة وهذا القياس، فصار القياسُ يَقضِي بفساد القياس.
وأما جمهور أرباب الأثارة فسوطيهم (1) بالقياس وأهله يرد عليهم، ثم كثير ما يسمعونه من اعتراف أهل القياس المخالفين لهم بالحيرة والتردد، وما يسمعونه عنهم ومنهم من الخصام والتلدُّد، وما يقترن به من شهادة عموم الأمة التي لا تشهدُ إلاّ بحقّ، وما يُخبِر به أهل
__________
(1) كذا في الأصل.

(5/61)


البرّ والتقوى الذي أشربت القلوب لهم خالص المودة من سُوءِ حالِ هذا وحُسْنِ حال هؤلاء، وما يرى ويسمع من البشرى التي وعد الله بها أولياءَه في الحياة الدنيا من المبشرات المنامية ولسان الصدق المنشور، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي توجِب رجحانَ موازينهم وخِفّةَ موازينِ مخالفيهم، صارت تُثبتُ أفئدتهم وتَزيد إيمانهم وتدفع عنهم شُؤم المعارضات.
والأمرُ كما أصِفُ وفوقَ ما أصِف، وكان حَصَلَ عندي من هذا ما حَصَلَ، فاجتمع لي من مدة عشر سنين أو قريب منها أو أكثر من قال لي، فلما كان في هذه الأوقات حَدَثَ من الأسباب ما اقتضى أن وقف على حكاية هذه المناظرة أحد الفضلاء المبرزين والنبلاء المتبحرين، عينُ أعيان المناظرين وفرسان المتكلمين ومَن تتبيّن الفوائد بمذاكرته وتُستفاد المقاصد بمناظرته، فعَلق عليها من الأسْولةِ ما التمسَ حَلها، ومن المباحثِ ما اقتضى فرعها وأصلها ….. (1)
قلتُ في حكاية المناظرة (2): “قال لي بعض الناس: إذا أردنا أن نسلكَ سبيلَ السلامة والسكوت، وهي الطريق التي تصلح عليها العامة، قُلنا كما قال الشافعي رضي الله عنه: آمنتُ بالله وما جاء عن الله على مرادِ الله، وآمنت برسولِ الله وما جاء عن رسول [الله] على مراد رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإذا سلكنا طريقَ البحث والتحقيق فإن الحقَّ مذهبُ مَن يتأَوَّلُ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَ الصفات من المتكلمين.
__________
(1) كتبت بعده في الأصل: “بياض”.
(2) انظر “مجموع الفتاوى” (6/ 354)

(5/62)


فقلتُ له: أما ما قالَه الشافعي فإنه حق يجبُ على كل مسلمٍ أن يقوله ويعتقدَه، ومن اعتقده ولم يأتِ بقولٍ يُناقِضه فإنه سالك سبيلَ السلامةِ في الدنيا والآخرةِ. وأما إذا بَحَثَ الإنسانُ وفَحَصَ وَجَدَ ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ الحديث كلَّه باطلاً، وتيقَّنَ أنَّ الحقَّ مع أهل الحديث ظاهرًا وباطنًا. فاستعظم ذلك وقال … (1).
قال الفاضل الباحث على قولنا “إذا بَحثَ الإنسانُ وفَحَصَ وجدَ ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث باطلاً”: الكلامُ على [هذا] من ثلاثة أوجُهٍ:
أحدها: القول الموجب، فإن المخالفة القول بما يُخالف قولَهم ويُناقِضه، لا القول بما لم يُصرِّحوا بنفيه ولا بإثباتِه، ولا أُسَلِّم أنَّ المعتبرين من المحدثين مَنَعُوا تأويل المعتبرين من المتكلمين، فإنْ نُقِلَ ما ظاهرُه ذلك حَملناه على التأويل بغيرِ دليلٍ أو على غيرِ القواعد العلمية، توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم عن تخطئةِ بعضِهم. وبالجملة فلا أُسلِّم أنَّ معتبرًا حزَمَ تأويلاً يَشهَدُ العقلُ بصحتِه عند الحاجةِ إليه، لعالمٍ متبحرٍ لا يَرضى بأسرِ التقليد، ولا يرى أن يستعمل في كتب الحقائق نور الحقائق الذي هو من أجلِّ نِعَمِ الله على العباد.
فإن قيل: فقد اشتهَرَ النهيُ عن الكلام في التأويل.
__________
(1) اقتبس المؤلف من كلامه هذا القدر لأنه المقصود بالبحث هنا، وتتمته في المصدر السابق.

(5/63)


قلتُ: لعلَّ ذلك للعوامِّ، أو على طريق الورع لا التحريمِ، لِمَ قُلتم إن الأمر ليس كذلك؟
والوجه الثاني: لو سلَّمنا أنّ بعضَهم حرَّم ذلك، فهل نُقِلَ التحريمُ عن نصِّ الله أو عن نصِّ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أو عن إجماع الأمة؟ فإن الحجةَ ليستْ في قولِ البعض، لاسيما إذا خالفوا البعضَ الآخر.
الوجه الثالث: أنّا ننقلُ عنهم الإجماعَ على التأويل في بعض المواضع على ما سيأتي، ونطالبُ بالفرق.
والجواب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من مقامين:
المقام الأول: في بيان أنّ هذه الأسوِلةَ هل هي متوجهة واردة يَجبُ الجواب عنها أم لا؟
والثاني: في التبرُّع بالجواب بتقديرِ عَدَمِ وجوبِه.
أما المقام الأول
فيمكن أن يقال: نحنُ نطالبكم بتوجيه هذه الأسولةِ، فإنه ليس منها شيء واردًا، فضلا عن أن يستوجبَ جَوابًا.
أما القول بالموجب فعليه أولاً مناقشة معروفة، وهو أن القول بالموجب إنما يَرِدُ على الأدلة دون الدعاوي، فإن الدليل الصحيح يجب القول بموجبه، ولهذا قيل: إن القول بالموجب سؤال يَرِدُ على كل دليلٍ. لكن المعترض يَدَّعي أنه يقول بموجب دليلِ المستدلّ من غير التزامٍ لدعواه، ببيان عدم دلالتِه على محلّ النزاع،

(5/64)


وحاصلُه أنه يمنع دلالةَ الدليلِ على محل النزاع، ويُضيف إلى ذلك أنه قائلٌ بموجبه، وموجبُه غيرُ محلِّ النزاع، فالقولُ بالموجب إبداءٌ لسندِ المنعِ.
أما الدعوى قبلَ ذكرِ دليلِها، فإذا قيل بموجبها، بأن كانَ قولاً بموجب قصد المدعي، فهو موافقةٌ في المسألة وليس باعتراضٍ، فإن من قال: لا يُقتَلُ مؤمنٌ بكافرٍ، فقيل له: تقول بموجب هذا؟
أي تقول بما قصدتَه بهذه العبارة، كان هذا وفاقًا لا سؤالاً، وإن كان قولاً بموجب لفظه لا يوجب معناه، بأن يكون اللفظ مشتركًا أو مجملاً ونحو ذلك، فيقال بموجبه الذي لم يقصده المدعي، مثل أن يقال فيما إذا ادعى لا يُقتَل مؤمنٌ بكافرٍ: تقول بموجبه في الحربي والمستأمن؟ كان هذا كلامًا قليل الفائدة، ولم يُعَد من الأسولةِ الواردةِ، بل يُعَدُّ من المناقشات اللفظية إن لم يكن ظاهرُ اللفظ ينفي القول بالموجب. فإنه يقال له: لم تحرّر الدعوى، بل ادَّعيتَ الذي ادعيتَ بلفظٍ مجملٍ أو مبهم بخلاف مقصودك. فأما إن كان ظاهره يَنفي القولَ بالموجب فلا مناقشة فيه أصلاً. ثمَّ إذا توجَّهت المناقشة اللفظية مِن الناس مَن يترك مثلَ هذا السؤال ويقول: هو خروجٌ عن مقصود المسألة، والكلام فيها كأنه بمنزلة مناقشة المتكلم على لفظٍ قد لحن فيه. ومنهم من يُورِده ويَعدُّه من ضَبْطِ آداب المناظرة، والأمر في ذلك قريب.
أما مسألتُنا فالدعوى محرَّرةٌ تمنع القول بالموجب إلاّ على سبيل الموافقة، وعلى سبيل الموافقة لا يَبقَى نزاعٌ، فإنا قلنا: “إذا بَحثَ الإنسانُ وفحصَ وجدَ ما يقولُه المتكلمون من التأويل الذي يخالفون

(5/65)


به أهلَ الحديث كلَّه باطلاً، وتيقَّنَ الحقَّ مع أهلِ الحديث ظاهرًا وباطنًا”. والمخالفةُ لا تكون إلاّ بما يخالف قولَهم ويناقضه، فنصيرُ مدَّعينَ أنَّ قولَ المتكلمين الذي يناقض قولَ أهلِ الحديث قول باطل، كما لو قلنا: إنّ قول المتكلمين الذي يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو المعقولَ قول باطل. وهذا ليس بدليلٍ حتى يكون القول بموجبه سؤالاً جاء في دلالته، وإنما هي دعوى، فإمّا أن نُوافَق عليها أو نُخالَف، فإنْ خُولفْنا فالسؤال على الدليل الآتي، وإن وُوْفِقْنا فالحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.
يَبقَى أن يُقال: فهل للمتكلمين قولٌ يخالف قولَ أهلِ الحديث، بحيث يكون الكلام في وجوده؟ أم هو كلام على هذه الحقيقة مع قطع النظرِ على وجودها وعدمها؟ ولا شكَّ أن مرادَنا هو القسم الأول، وإن كان تفسير اللفظ بالثاني ممكنًا، بأن نقول: إن كان للمتكلمين قول مخالف لأهل الحديثِ فهو باطل، وإلاّ فلا نصَّ.
ومثل هذا السؤال إذا قيل: كلّ قول للفلاسفة يخالف الأنبياء فهو باطل، فإن المتفلسف المتأول يزعم أن الفلاسفة موافقون الأنبياءَ لا مخالفون، وإنما يَعتقد مخالفتَهم لهم عوامُّ أهلِ الملل ومتكلمو أهلِ الجدل، فإذا قال: أنا قائل بموجب قولكم لم يكن هذا سؤالاً، لكن إن فهم من المتكلم دعوى وجود المخالفة فله أن يطالب بتعيينها.
ومع هذه المناقشة فتسميةُ مثل هذا الكلام قولاً بالموجب لا تأباه اللغة العربية، بل تساعد عليه، وقد يستعمله الناسُ في مناظراتهم، فإن السائل يقول: ما أوجبتَه بدعواك من بطلان أحد القولين المتناقضين

(5/66)


أنا أقولُ به، لكن لم تُوجَد المناقضةُ بين القولين، فكأنك تدَّعي بطلانَ ما لا وجودَ له، وأنا قائلٌ بموجب عبارتك لا بموجب إرادتِك. وأنتَ تحكمُ على أهل الكلام بمخالفة أهل الحديث، وهذا لم يُوجَد. لكن إذا قال السائل هذا قال له المدَّعي: أنتَ كما قد وافقتَني على مُدَّعايَ، فإن لفظي إمّا أن يَعنِيَ نوعًا أو عَينًا، إن عُنِيَ به النوعُ فليس من ضرورة الحكم على النوع وجودُه في الخارج، بل قد يقول: [من] كذب بسورة يس أو جحد بشيء من القرآن فهو كافر، إن لم يعلم وجود ذلك.
وإن عُنِيَ به العينُ كان التقديرُ: هذا التأويل المعيَّن الذي يخالف أهلُ الكلام [فيه] أهلَ الحديث تأويل باطل، فإذا قيل بموجب هذا كان موافقة في بطلان التأويل المعين، ثم تَبقَى المنازعةُ في تسميتِه خلافًا لأهل الحديث. ومعلوم أن هذا ثَلْمٌ للمسألة ونزاع في نَفْيِها.
فحاصلُه أن القول بالموجب تسليم للمسألة إن عُنِي بها النوعُ وتنازع في وجودِها، أو تسليم لعينها ونزاع في صفتِها، فإن كان الأول فهو نزاع فيما لم يدلَّ عليه اللفظ، وإن كان الثاني فهو تسليم للمسألة، ولا يَضُرُّ بعد ذلك النزاعُ في اسمها.
وتحريرُ السؤال أن يقال: لا نُسَلِّم أن أهلَ الكلام خالفوا أهلَ الحديث، فإنهم لو خالفوهم لقلنا: الصوابُ مع أهلِ الحديث، وهو أن القول بالموجب على تقدير ثبوت المخالفة تسليم للمسألة بتقديرِ وجودِها، وقد منع ذلك في السؤال بقوله: لو سلّمنا أن بعضهم حرَّم ذلك فهل نُقِلَ التحريم عن الله أو رسوله أو أهلِ الإجماع، ومن سَلَّم الحكمَ لم يكن له أن يُطالِبَ بالدليل، لأنه منعٌ بعد تسليم، وهو غير مقبول.

(5/67)


وأما السؤال الثالث -وهو نقلُ الإجماع على بعض التأويلات- فلا يَرِدُ أيضًا، لأن ذلك إن صحَّ لم يدخل في الدعوى، لأنّا قلنا: تأويلُ المتكلمين المخالفُ لأهل الحديث باطل، وما أجمعوا عليه ليس من هذا الباب. نعم، يبقى هذا من باب المعارضة لأهل الحديث، وهي أن يقال: كيف تُبطِلون بعضَ التأويلات وتُصحِّحون البعض؟ والمعارضة لا تورد عند الدعوى، وإنما تورد بعد الأدلة.
وأيضًا مما يُبيِّن عدمَ ورودِ هذه الأسوِلة: السؤال الأول، وهو منعُ الاختلاف بين أهلِ الحديث وأهل الكلام في التأويل، فإن المناظرة كانت مع مَن يدَّعي أن الحق مع أهل التأويل دونَ مَن خالفَهم، فإن لم يكن لهذا وجود كان ردًّا على من نَصَرَ أهل الكلام المخالفين لأهل الحديث، لا على من نَصَرَ أهلَ الحديث.
وأيضًا فإنه عَقِبَ هذا الكلام قد قلنا (1): “إنّ أمهاتِ المسائل التي خالفَ فيها متأخرو المتكلمين لأهل الحديث ثلاث: مسألة وصفِ الله بالعلُوّ، ومسألة القرآن، ومسألة تأويل الصفات”. وهذا تعيين لهذه المسائل الثلاثة المختلَف فيها، والخلاف في هذه المسائل أشهرُ من أن يُحتَاجَ إلى نَقْلٍ.
فإن قيل: لا نُسلِّم أن أحدًا خالفَ أحدًا في هذه المسائل، بل كلُّ تأويلٍ فيها للمتكلمين فإنّ أهلَ الحديث لم يَنفُوه، بل سكتوا عنه.
__________
(1) “مجموع الفتاوى” (6/ 354، 355).

(5/68)


قيل: النقل المتواتر والعلم الاضطراري وما مَهَّدَتْه الكتب المصنَّفَة دليلٌ على وقوع الخلاف في أعيان هذه المسائل وأدلتها السمعية.
وأيضًا فإنّ الفاضل المُباحِث -أيَّده الله- قد حكَى في مَباحثِه هذه عن القاضي عياض (1): “أما من قال منهم بإثباتِ جهةِ “فوق” له تعالى من غير تحديدٍ ولا تكييف مِن دَهْماءِ المحدثين والفقهاء وبعض المتكلمين منهم فيَتأوَّل “في السماء” بمعنى على، وأما دَهْماءُ النُّظَّار والمتكلمين وأصحاب الإثبات [والتنزيه] المُحِيْلِيْنَ أن يختصَّ به جهة أو يُحيط به حدٌّ، فلهم فيه تأويلات بحسب مقتضاها”.
ومعلوم بأنّ هذا تصريح بأنّ لهؤلاء النُّفاةِ تأويلاتٍ يخالف فيها المثبتون لكونه فوقَ العرش، وهذه التأويلات مما قضَينا بإبطالها، فكيفَ يَتوجَّهُ مع هذا أن يُقال: ليس للمتكلمين تأويل يخالفون به أهلَ الحديث؟

ونحن لم نَقُل: إن كلَّ تأويلٍ باطل، حتى يُنقَض علينا بصورةٍ، بل قلنا: كلُّ تأويلٍ للمتكلمين يخالفهم فيه أهلُ الحديث فهو باطلٌ.
ومعلوم أن هذا تكفِي فيه صورة واحدة، وهذه صورة قد سلمتُموها وحكيتُموها.
وهَبْ أنهم أجمعوا على تأويلها -وإن كنَّا سنتكلَّم على هذا إن شاء الله- لكن مضمون هذه العبارةِ أن التأويل الذي أثبتَه المتكلمون ونَفَاه أهلُ الحديث باطل.
__________
(1) إكمال المعلم (2/ 465).

(5/69)


وأيضًا فقد قلنا في عَقِبَ هذا (1): “إنَّ مذهب السلف وأهل الحديث أنها تُصَانُ عن تأويلٍ يُفضِي إلى تعطيل، وتكييفٍ يُفضي إلى تمثيل”. وقلتم: هذا حقٌّ صريح وحكم صحيح، فهذا التأويلُ الذي يُفضي إلى التعطيل معلومٌ أنه قد وُجِدَ، فإن كثيرًا من المتأوِّلينَ يَنفي الصفات كلَّها وأحكامَها، وبعضهم يثبتُ أحكامَها، وبعضهم يثبت أحوالَها، وبعضهم يثبت بعضها دونَ بعض، فهؤلاء مُعطِّلةُ الصَفاتِ أو بعضِها، وأهلُ الَحديث يخالفونهم في هذا.
ولم نُرد بالتعطيلِ تعطيلَ اللفظ عن معنًى، فإن التأويل لا يتصَوَّر أن يُفضي إلى هذا التعطيل، لأنَّ المتأوّل لابُدَّ أن يَحمِلَه على معنًى مَّا، فلا يكون قد عَطَّله عن جميع المعاني، وإنما عَطَّل الصفةَ التي دلَّ عليها النصُّ، وعَطَّلَه عن معناه المفضول المفهوم. ومعلوم أن التأويل المُفْضي إلى هذا التعطيل قد وقعَ فيه كثيرٌ من المتكلمين نُفَاةِ الصفاتِ أو بعضِها، ومعلوم أنّ هذا التأويل يُنكِره أهل الحديث، وكلُّ من وافقَهم من المتكلمين على إثباتِ صفةٍ فإنه يُنكِر التأويلَ الذي يُفضي إلى تعطيلها. فكيف يَصِحُّ بعد هذا أن يُقال بالموجب إلاّ بالموافقة؟
نعم، لو قيل: بعضُ هذه التأويلات التي ينفونَها نقول بصحتها، لكان هذا سؤالاً متوجِّهًا، وهو غير السؤال المذكور، ومع هذا فليس هذا موضعَه، وإنما موضعُه الأدلة.
__________
(1) “مجموع الفتاوى” (6/ 355).

(5/70)


ثمّ إنا قد فرضنا بأن الدعوى عامة، وإنما أقمنا الدليلَ على بطلان التأويل في صفة اليد، وهي بعض صورة الخلاف، لأن هذا حكاية مناظرةٍ جَرَتْ، وكان الكلامُ في صفة اليد نموذجًا يُحتَذَى عليه غيرُه من الكلام في غيرِها.
وأيضًا فإنا قلنا: “إذا بَحثَ الإنسانُ وَجَدَ ما يقولُ المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ الحديث كلَّه باطلا”. فكان موجبه القول بالموجب: إنّا لا نُسلِّم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين، وليس هذا المنع مطابقًا للدعوى، فإنّا لم نقلْ: إن تأويل المعتبرين من المتكلمين الذين يخالفون به المعتبرين من المحدثين باطل، وإنما قلنا: “تأويل المتكلمين المخالف”، ومعلوم أن المتكلمين اسم عام، فتأويلُهم المخالفُ لأهل الحديث يَدخُلُ فيه تأويلُ كلِّ متكلم من الجهمية والنجارية والمعتزلة، بل ومن الفلاسفة والقرامطة الباطنية والإسماعيلية، فما الذي أوجبَ أن يُحملَ هذا اللفظُ العام على تأويل خاص من تأويلات المتكلمين؟
من غيرِ أن يكون في اللفظ ما يدلُّ عليه، بل تمامُ الكلام يُصرِّح بالعموم حيثُ قلنا: “أمهات المسائل التي خالفَ فيها متأخرو المتكلمين -ممن يَنتحِلُ مذهب الأشعري- لأهل الحديث ثلاثة”.
فهذا يدلُّ على أن المتقدمين من المتكلمين خالفوا أهلَ الحديث في أكثر من ذلك، وهذا هو الواقع، فكيف يكون المنعُ المتوجّهُ “لا نُسلم أن معتبري المتكلمين خالفوا معتبري أهل الحديث”؟ وهل هذا إلاّ بمنزلةِ أن يُقال: ما خالفَ به الفلاسفةُ الأَنبياءَ فهو باطل، فيقال: لا نُسَلِّم أن فُضَلاءَ الفلاسفة خالفوا الأنبياءَ؛ أو يقال: ما خالفَ به

(5/71)


المتكلمون للكتاب والسنة فهو باطل، فيقال: لا نُسلِّم أن معتبريهم خالفوا الكتاب والسنة؛ أو يقال: ما خالف فيه بنو آدم للأنبياء فهو ضلال، فيقال: لا نُسَلِّم أنَّ معتَبرِي الآدميين خالفوا الأنبياءَ؛ أو يقال: كُفَّارُ مكةَ من قريش والعرب في النار، فيقال: لا نُسَلِّم أن المعتبرين من أهل مكة أو قريش والعرب كفروا.
وأيضًا فقولكم -أحسن الله إليكم-: “لا أُسلِّم أن المعتبرين من المحدثين مَنَعُوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين”، أما الذين تَعنُون بالمعتبرين من المتكلمين لا يَخلُو: إمّا أن تُريدوا بالمعتبرين ناسًا معيَّنينَ أو موصوفينَ، فإن أردتم ناسًا معيَّنين فاذكروا مَن شِئتم من جميع أعيان المتكلمين، حتى أذكُرَ لكم أنَّ أقوامًا من أعيان المتكلمين رَدُّوا عليه تلك التأويلات وأبطلوها، فضلاً عن أهلِ الحديث. بل سَمُّوا مَن شِئتم، حتَّى أُبيِّنَ أنه نفسه يَرُدُّ بنفسِه على نفسِه، وأنّه يتأوَّلُ التأويلَ في كتابٍ، ثمَّ يمنعُه أو يُبطِلُه في كتابٍ آخر، وربما فَعَلَ ذلك في المصنَّفِ الواحدِ.
وإن أردتم بالمعتبَرِين موصوفِين، مثل أن يقال: المعتبرُ مَن له بَصَرٌ ثاقب وعلم بما يجوز ويجب ويمتنع على اللهِ وما يَسُوغُ في لسان العرب، حتى يتأوَّل بعقلِه وعلمِه ومعرفتِه بالمعقولاتِ والمسموعاتِ تأويلاً سائغًا= فهذا أوسعُ عليكم من الأول، فإن المتكلمين أنواعٌ مختلفة، وكلٌّ منهم يَرُدُّ على الآخر تأويلاتِه ويُبطِلُها ويُحرمُها عليه، بل كثير منهم يُكَفِّر الآخر ببعضِ تلك التأويلات، حتى إنّ التلميذَ منهم يُكَفِّر أستاذَه.

(5/72)


وأهلُ الحديث موافقون لهم جميعهم في إنكار تلك التأويلاتِ لا في إثباتِ شيء منها:
فنُفاةُ الرؤيةِ من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة يتأولون النصوصَ فيها تارةً برؤية أفعال الله، وتارةً برؤية القلب الذي هو زيادة العلم، ومُثبِتُو الرؤية من أهل الحديث والكلام يَرُدُّون ذلك ويُنكِرونَه.
ومُنكِرُوْ الكلامِ الحقيقي يتأولون “قال الله ويقول” بمعنى أنه أحدثَ في غيرِه كلامًا خاطبَ به عبادَه، ومُثبِتو الكلامِ الحقيقي من أهل الحديث والكلام يُبطِلون هذا التأويلَ ويُحرِّمونَه.
ونفاةُ الصفات يتأولون (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (1) و (ذُو الْقُوَّةِ) (2) والسمع والبصر ونحو ذلك، ومُثبتو الصفاتِ من أهل الحديث والكلام يُنكِر [ونَ] هذه التأويلات. بَل الأشعريةُ المتمسكون بالقولِ الثاني -كالأشعري في “الإبانة”، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاّني، وابن شاذان، وابن فورك وغيرهم- يُنكِرون على من يتأؤلُ صفةَ اليد والوجه وغير ذلك، كما صَرحوا به في كُتُبهم (3).
والمسلمون جميعًا يُنكِرون على متكلمي الفلاسفة الذين يتأوَّلون ما وردَ في صفة الملائكة والجنّ والجنّة والنّار والقيامة وحَشْر الأجساد.
وأهلُ الإثبات جميعًا -أهل الحديث وأهل الكلام- يُنكِرون
__________
(1) سورة النساء: 166.
(2) سورة الذاريات: 58.
(3) انظر “الإبانة” للأشعري (ص 35 – 39) و”التمهيد” للباقلاني (ص 295 – 298).

(5/73)


على القدرية الذين يتأولون آياتِ الإضلال والختم والطبع والإغواء ونحو ذلك من نصوصِ القدر.
وأهلُ الحديث قاطبةً مع مَن وافقَهم من أهل الكلام يُنكِرون على من يتأوَّلُ النصوصَ المُدْخِلةَ للأعمال في الإيمان.
وجميعُ أهل القبلة إلاّ الوعيديَّة يُنكِرون على الخوارج والمعتزلة تأويلهم نصوصَ الشفاعة.
والمسلمون جميعًا يُنكِرون على القرامطة والباطنية والإسماعيلية وزنادقةِ الفلاسفة وغُلاةِ الصوفيةِ تأويل نصوصِ الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والجنايات ونحو ذلك.
وأهلُ الحديثِ قاطبةً والفقهاءُ والصوفية مع من اتبعَهم من المتكلمين وجماهير أهل القبلة يُنكرون على المتكلمين والمتفلسفة الذين يتأولون نصوصَ الفوقية والعلوّ. وكذلك يُنكرون على الذين يتأوَّلون نصوصَ الصفات بما سنذكره إن شاء الله.
وأهلُ القبلة جميعًا محدِّثوهم وفقهاؤهم ومتكلموهم إلا الخوارج والمعتزلة ينكرون تأويلَ هاتينِ الفرقتين النصوصَ المُدخِلةَ للعُصاةِ في اسم الإيمان في الجملة.
دعَ التأويلات المتعلقةَ بأصول الدين، هؤلاء الفقهاء لا يزال بعضُهم يَرُدُّ تأويلاتِ بعضٍ ويُبيِّنُ فسادَها قديمًا وحديثًا، ويُوافقُهم على ذلك الردّ أهل الحديث، مع أن الفقهاء معتبرون، فكيف يقال: لا نسلِّم أن معتبرًا ردَّ تأويلَ معتبرٍ، بل مفسِّرو القرآن وشُرَّاح الحديث

(5/74)


لا يزال أهل الحديث وغيرهم يَرُدُّون بعض تلك التفسيرات والتأويلات وينكرون، وذلك أشهرُ وأكثرُ من أن يُسَطَّر.
ثمّ كلٌّ من هؤلاء الممنوع من ذلك التأويل المردود تأويلُهُ معتبر، بمعنى أنه ذو ذهنٍ ذكيّ وعلمٍ واسع وفضيلةٍ جيدة، بل كثير من هؤلاء المردود عليهمِ يَعتقد أتباعُه فيه أنه أفضلُ من كثيرٍ من المعظَّمين عند غيرِه، فإن فسَّرتَ “المعتبر” بأنه المهتدي أو الذي أجمع المسلمون على أمانته، فالجواب من وجوه:
أحدها: أنا لا نُسلِّم أن تأويلَ مثلِ هذا لا يُرَدُّ، بل تأويلُه الباطل يُرَدُّ، كما تُرَدُّ فتواه الضعيفة وحديثُه الذي غَلِطَ فيه.
الثاني: أن مثل هذا لا يدخل في مطلق اسم المتكلمين عندنا، كما يَشهَدُ به استعمالُ لفظ المتكلمين.
الثالث: أنّ هذا منع لغير ما ذُكِر، فإنا قلنا: تأويل المتكلمين المخالف لتأويل المحدثين باطل، فقيل: لا نُسَلم أن تأويل من [عُلِمَ] هداه أو من استفاض عند الأمة هداه باطلٌ، ونحنُ ما ادَّعَينا هذا قَطُّ، وما ذكرناه من هذا الكلام إنما هو نزولٌ مع المخاطب، فإنه فَهِمَ من قولنا “أهل الحديث” المحدثين الذين يروون الحديث أو يحفظونه، وهذا لا يدلُّ عليه لفظُنا ولم نَعْنِه، فإنّ أهلَ الحديث هم المنتسبون إليه اعتقادًا وفقهًا وعملاً، كما أن أهل القرآن كذلك، سواء رَوَوا الحديث أو لم يَروُوه، بحيث يدخلُ في مثل هذه العبارة اسم التابعين وتابعيهم، كالفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب وذَوِيْه، وعلقمة والأسود وطبقتهما، وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والنخعي

(5/75)


والزهري ومكحول ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني وابن عون ويونس بن عبيد ومالك والحمادَيْن والسفيانَين والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر بن الحارث.
فإن قلتم: مرادُنا لا نسلِّم أن المعتبرين من المحدثين حرَّموا على المتكلم المعتبر أن يتأوَّل، بمعنى أنهم لم يمنعوه من جنس التأويل، لا أنهم لم يمنعوه من التأويل المعيَّن، لكن سوَّغوا له أن يتأول، كما يسوغ للمفتي أن يفتي وللقاضي أن يقضي، وإن كان يخالف في بعض أقضيته وفتاويه، كذلك المتأول قد يخالف في بعض تأويلاتِه، وإن لم يكن ممنوعًا من جنسها.
قلنا أولاً: كلامُكم يخالف هذا، لأنكم قلتم: إنْ نُقِلَ ما ظاهرُه المنعُ من التأويل حَملناهُ على التأويل بغير دليل أو على غيرِ القواعد الكلية، ومعلوم أنّ كلَّ من تأوَّلَ تأويلاً من المشاهير وقد ردَّه عليه غيرُه فإنما تأؤله بدليل من عندِه، وعلى القواعد العلمية عنده، بل يُقيم الأدلة التي يَزعُم أنها قاطعة في وجوب ذلك التأويل وامتناعِ الإقرار على الظاهر، مع مخالفةِ جماهير علمَاءِ القبلة وقَطْعِهم بأنه ضالٌّ أو مخطئ في تأويلِه، ولعلَّ كثيرًا منهم أو أكثرهم أو كلّهم قد يُكفِّرونه بذلك التأويل، كما يُكفِّرون نُفاةَ حَشْرِ الأجساد، وإنْ تأوَّلُوا ما جاءت به الرسُلُ لأدِلَّةٍ ادَّعوها وعلى قواعدَ وَضَعوها.
وأعجب من هذا -ولا عَجَبَ- قولُكم: “توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم من تخطئِه بعضهم”، فهل إلى هذا من سبيل؟ وقد عُلِمَ بالاضطرار اختلافُ أهلِ القبلةِ في كثيرٍ من تأويل الآيات والأحاديث: هل تُصْرَف عن ظاهرها أم تُقَرُّ على ظاهرِها؟ وإذا صُرِفَتْ فهل تُصْرَفُ

(5/76)


إلى كذا أم إلى كذا؟ بل الكتبُ والنقول مشحونةٌ بتكفير بعض المتأولين فضلاً عن تخطئتِه. وأما تخطئةُ بعضِ المتأولين فهذا أمرٌ معلومٌ بالاضطرار في الأصول والفروع والتفسير والحديث والشعر واللغة وغير ذلك، بل عامةُ الاختلاف بين أهل القبلة إنما هو من تخطئةِ بعضهم في فهمِه للكتاب والسنة وتأويلهما على وجهٍ يخالفُه فيه الباقونَ.
فإن قلتم: كلُّ من تأوَّلَ بدليلٍ على القواعد سَوَّغناه له، وإن كان قد يُخطِئُ.
قلنا: فيكون تأويلُ الجهمية والقدرية والخوارج والروافض والوعيدية والباطنية والفلاسفة كلُّها سائغةً وإن كانت خطأً، وهذا مما عُلِمَ بالإجماع القديم بل بالاضطرار من دينِ الإسلام أنَّ جميعَ هذه التأويلات ليست سائغةً، بل تسويغ جميعِ هذه التأويلات على خلافِ إجماع هذه الفرق كلها، فإن جميع فرق الأمة لا يسوِّغ جميع التأويلات.
وقلنا ثانيًا: فنحنُ إنما قلنا: “تأويل المتكلمين الذي يخالفون به أهلَ الحديث باطل”، وهذا تأويل موصوف، ولا يلزم من بطلانِ النوع المقيَّد بطلانُ الجنس المطلق، فإذا أبطلنا التأويلَ المخالفَ لأهل الحديث [لا] يلزمنا أن نمنعَ كلَّ تأويلٍ في الدنيا، وأن نُحرِّم على كلّ معتبرٍ أن يتأوَّل تأويلاً لا يخالف أهلَ الحديث ….. (1).
__________
(1) كتب في الأصل بعده: “بياض”.

(5/77)


وقلنا ثالثًا: نحنُ قلنا: “هذه التأويلات باطلة”، أما كونُها سائغةً أو محرمةً فهذا لم نتعرضْ له في هذا الكلام، فقولكم “إن المعتبرين لم يمنعوا المعتبرين أن يتأولوا، وإنّ معتبرًا لم يُحرِّم التأويل الموصوف” كلامٌ لا يَمَسُّ كلامَنا ولا يُقابلُه، بل هو أجنبيٌّ عنه غيرُ متوجهٍ، فلا يستوجبُ الجواب. نعم، إن ادَّعيتم أن كل تأويل المتكلمين أو بعضه حق أو صوابٌ فهذا نقيضُ قولنا، ففَرقٌ بينَ صحةِ التأويل وفسادِه وبينَ حرمتِه وحِلِّيتِه، ألا تَرى أن الفقهاء في تأويلهم نصوصَ الأحكام يجوزُ لهم التأويلُ في الجملة، وإن كان كثيرٌ من تأويلِ بعضهم قد يَظهر أنه خطأ، كما يجوز للفقيه الاجتهادُ في الفتيا والقضاء، وإن كان قد يُحكَم ببطلان بعض الفتاوى والأقضية.
على أنّ من قال: كلّ مجتهدٍ مصيبٌ، لا يُمكِنُه أن يقول: كل متأؤل مصيبٌ، فإن المتأول يقول: الله أراد بهذه الآية كذا، والآخر يقول: لم يُرِد هذا، والنفيُ والإثبات لا يجتمعان، اللهم إلاّ أن يقول قائلٌ: إن الله أراد من زيد أن يفهم هذا، وأراد من عمروٍ أن يفهم هذا، وهذا في الأمور الاعتقادية ما يكادُ يقوله إلا من يخالفه جمهورُ الناس، وإن كان قد قاله في العمليات طائفة من المتكلمين.
فإن قلتم: أردنا بالمعتبرين من المتكلمين صِنفًا من الطوائف كالمتكلمين من أصحاب الأشعري مثلا، أو كافة المعتزلة أو المتكلمين من الفقهاء ونحو ذلك.
فالجواب عنه من وجوه:
أحدها: أنه ما من واحدٍ من هؤلاء إلاّ له تأويلاتٌ يُنكِرُها عليه

(5/78)


بعض أصحابه مع أهل الحديث وغيرهم، بل من هؤلاء [مَن] هو نفسه يُحرِّم التأويل أو يُبطِله تارةً، ويُسِيْغُه ويُصحِّحه أخرى لأصحاب الحديث.
أما المعتزلة فمن أكثر الناس في التأويل، وأهلُ الحديث وغيرهم من علماء المسلمين يُنكِرون عليهم تأويلاتهم المخالفة لهم تحريمًا وإبطالاً.
وأما أصحاب الأشعري فهم ثلاثة أصناف:
صنف يُحرم تأويل الصفات السمعية المذكورة في القرآن كالوجه واليد والعين، ويُبطِل ذلك. وهذا هو الذي ذكره الأشعري في “الإبانة”، حكاه عن أهل السنة جميعهم، وهو الذي ذكره أبو بكر ابن الباقلاني أفضلُ أصحابه (1)، وأبو علي بن شاذان، وذكره أبو بكر بن فورك في اليد وغيرها، وعليه الأشعرية المتمسكون بالقول الثاني.
وصنف يُحرِّم التأويل، ولا يتكلم في صحته ولا فسادِه. وهذا الذي ذكره أبو المعالي الجويني في رسالته “النظامية” (2)، وهو قولُ أكثرِ المفوِّضة من المتكلمين.
وصنف يُبيحه للعلماء عند الحاجة، ومنهم من يُبيحه مطلقًا.
وهذا قولُ الجَويني في “إرشادِه” (3) وغيره، وجميعُ هؤلاء مختلفون في صحة بعض التأويلات وفسادها.
__________
(1) سبقت الإحالة إلى كتابي الأشعري والباقلاني فيما مضى.
(2) ص 32 – 33.
(3) ص 67 – 71.

(5/79)


فهؤلاء -كما ترى- مختلفون في التأويل تحريمًا وجوازًا، وصحةً وفسادًا.
وأما المعتزلة فهم وإن كانوا أكثر تأويلاً فإنهم مختلفون في عامة التأويلات صحةً وفسادًا، ومختلفون أيضًا في جنس كثير من التأويل، مثل اختلافهم في نصوص عذاب القبر ونعيمه: هل تُتأؤل أو تُجرَى على ظاهرها؛ وفي نصوص الصراط والميزان والحوض: هل تُتأوّل أو لا تُتأوّل، إلى غير ذلك. منهم من يُبيح تأويلَ ذلك ويصححه، ومنهم [مَن] يُحرِّمُه ويُبطِله.
وسأذكر إن شاء الله مذاهبَ الأمة في أجناس التأويلات، وإنما الغرض هنا أن من تعصَّب لفرقةٍ من أهل الكلام وجَعَلَهم هم المعتبرين دون غيرهم، بحيث يُبيح لهم التأويل ويَدَّعي أن أحدًا من المعتبرين لم يَحْظُره عليهم= لم يصحَّ له ذلك؛ إذ ما من طائفة إلاّ وقد حُرِّم وأنكِرَ عليها أنواع من التأويل.
الوجه الثاني: أن تعيينَ القائل طائفةً دون غيرِها وتسميتها بالمعتبرين لا يَخفَى أنه نوعٌ من التحكّم والتعصب، فإن مجرَّد [قول] القائل: أنا معتزلي أو أشعري، أو أنا من أهل الحديث أو من الفقهاء، أو إني حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي، [لا] يصير به من المعتبرين عند الله ورسوله، بحيث يُباحُ له في الشرع بذلك ما كان محظورًا، ويسوغ له من التأويل ما كان محجورًا عليه.
الوجه الثالث: أنّا قلنا: “تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث باطل”، وذلك لا يُوجب أن يكون تأويلُ طائفة معينة باطلاً،

(5/80)


ولا يُوجب أن يكون تأويل معتبرٍ باطلاً، فلا يَرِدُ هذا علينا.
الوجه الرابع: أنّا سننقل إن شاء الله من النقول الكثيرة ما يُبيِّن ما عليه أهل الإسلام من إنكار التأويلات الصادرة عن كل طائفة من طوائف المتكلمين إن شاء الله.
فهذا كلُّه في عدم توجيه سؤال القول بالموجب الذي جعل سَنَده “لا نُسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين”.
قولكم: “فإن نُقِلَ ما ظاهرُه المنعُ حَملناه على التأويل بغير دليل، أو على غير القواعد العلمية، توفيقًا بين العلماء وصيانةً لهم عن تخطئة بعضهم” غير واردٍ لوجوهٍ:
أحدها: أن التأويل بغير دليلٍ وبغير قواعدَ لا يُبيْحه ولا يَسلكه أحدٌ من عقلاء الناس المنتسبين إلى العلم، سواءَ كانوا كفّارًا أو مؤمنين، مستنة أو مبتدعة، فإن أشد الناس تأويلاً من الفلاسفة والباطنية إنما يتأولون -زَعَموا- لقيام الأدلة العقلية الموجبة لتلك التأويلات عندهم، ويزعمون أنهم يُجرونَها على القواعد العقلية والسمعية.
وأما المعتزلة فأمرهم في ذلك أظهر، فإنهم يزعمون أنهم فُرسان الكلام ودُعاة الإسلام، الحافظين (1) له بالقواعد العقلية والموارد السمعية، وأن مَن خالفَهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والأشعرية والكُلاّبية والكرَّامية وغيرهم هم حَشْوُ الناس. وهم أهل فتنة واضطراب،
__________
(1) كذا في الأصل منصوبًا.

(5/81)


ثم بَين البصريين منهم والبغداديين من الاختلاف في القياس ما الله به عليم، ثم بين شيوخ البصريين وشيوخ البغداديين خلاف عظيم، وكلٌّ منهم إنما يتأوَّل بدليلٍ عنده وعلى القواعد العلمية.
بل الأشعرية ونحوهم من المتكلمين المنتسبين إلى أهل الحديث مختلفون في التأويل صحةً وفسادًا وحِلاًّ وحَظْرًا، والمتأوّل منهم إنما يتأول للدليل وعلى القواعد.
فإذا كان كلُّ متأوّل إنما تأوَّل بدليلٍ وعلى القواعد، فقد خالفَه غيره من أهل الحديث وغيرهم في التأويل، فكيف يمكن أن يُحمَل إنكارُهم على التأويل الخالي من الدليل والقواعد؟
فإن قلتم: إنما أنكروا التأويل الذي لا يَعضُده دليل صحيح، ولم يكن جاريًا على القواعد الصحيحة، وإن كان متأوِّلُه يزعم اعتضاده بدليل صحيح وقواعد صحيحة.
قلنا: فهكذا نقول في جميع تأويلات أهل الكلام المخالفة لأهل الحديث: إنها خاليةٌ عن دليلٍ صحيح وعن القواعد الصحيحة.
وإذا كان هذا مدّعيًا لم يَسُغْ أن يقال بموجبه إلاّ على سبيل الموافقة لنا، وإنما يسوغ أن يطالب ببيان خلوها عن الدليل والقواعد الصحيحة، أو أن يُبين المتأوّل اقترانَ تأويلِه بدليلٍ وقواعد ليبين فساد قوله.
الوجه الثاني: أن المنكرين للتأويل إبطالاً وتحريمًا صرَّحوا بذلك في أعيان التأويلات التي ادَّعى المتأولون اقترانَها بالدليل، وسنذكر إن شاء الله من ذلك بعضَ ما حَضَر. وصرَّحوا أيضًا بتحريم التأويل وإن زعمَ صاحبُه اقترانَه بدليل.

(5/82)


الوجه الثالث: أنّا لم نحكم إلاّ ببطلان تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث، فإذا قلتم بإبطال أو بتحريم التأويل الخالي عن الدليل والقواعد لم يكن هذا نفيًا لوجود ما أبطلناه، لأنه يمكن أن يقال: هذا التأويل الذي رفعناه خليٌّ عن الدليل والقواعد، فإنا أبطلنا نوعًا من التأويل، ووافقتم على إبطالِ نوع منه. فإن قلتم: هذه التأويلات جارية على الأدلة والقواعد، نازَعْناكم فيها.
فحاصله أن ما ذكرتموه لا يَصلُح مستندًا لمنع أن يكون أهل الحديث خالفوا المتكلمين في أعيان التأويلات.
الوجه الرابع: قولكم “إن التأويل المقرون بدليلٍ الجاري على القواعد العلمية صحيح”، لا نُنازِعُكم فيه، وإنما الشأنُ في تقريرِ الدليلِ المصحِّح للتأويل وتثبيتِ القواعد المحقِّقة له، فإنكم تعلمون أن جميع أهل التأويل من القبلة لهم قواعدُ يضعون تأويلاتهم عليها.
ثمَّ هذا القدر لا يَصلُح أن يكون سندًا لقولكم “لا نُسَلِّم أنّ أهلَ الحديث منعوا تأويلَ المعتبرين من المتكلمين” كما تقدم، والغرضُ هنا أنّ القول بالموجب لا يتوجه. وأما تقرير مذهب أهل الحديث فليس هذا موضعَه، لأنّا بعدُ في تحرير الدعوى وما يَرِدُ عليها.
قولكم: “لا أسلِّم أن معتبرًا حرَّم تأويلاً يَشهدُ العقلُ بصحته عند الحاجة إليه، لعالم متبحرٍ لا يرضى بأَسْر التقليد، ولا يرى أن يَستعمل في كشف الحقائق نورَ البصيرة الذي هو من أجلّ نعم الله على العبيد”.
فنقول أوّلاً: مَن الذي حكى عن أحدٍ من الناس تحريمَ مثلِ

(5/83)


هذا؟ هذا شيء لم نذكره ولم نَقصِده، فمنعُه منعُ شيء أجنبي خارج عن كلامنا، وهذا منع لا توجيهَ له.
ونقول ثانيًا: نحن قررنا بطلانَ التأويل وفساده، لم نتعرض لتحريمه بنفي ولا إثبات، والكلام في صحة التأويل وفسادِه غيرُ الكلام في حله وحَظْرِه، ولا يلزم من عدم تحريم الاجتهاد والإفتاء والحكم أن يكون الاستدلال والفتيا والقضاءُ صحيحًا، كذلك لو فرضنا جواز الإقدام على هذه التأويلات لم يلزم أن تكون صحيحةً، بل جاز أن تكون باطلةً، يعني أنها غير مطابقة لمراد المتكلم، سواء كان آثمًا أو معفوًّا عنه أو مأجورًا.
ونقول ثالثًا: التأويل الذي نتكلم فيه هو صرفُ الكلام [من] الاحتمالِ الراجح إلى المرجوح لدليل يعتضد، كما تقدم بيانه.
وكلّ تأويل فإنما هو بيان مقصودِ المتكلم أو مرادُه بكلامه، ومعلومٌ أن العقل وحده لا يَشهد بمعرفةِ مقصود المتكلم ومرادِه، فإن دلالة الخطاب سمعية لا يستقلُّ بها العقلُ، نعم العقلُ أخذَ باستفادته هذه الدلالة، فإذا انضمَّ [إلى] المعقول العلمُ بلغة المتكلم وعادتِه في خطابه فقد يَحصُل بمجموع هذين العلمين العلمُ بتأويلِ كلامِه، نعم قد يُعلَم بالعقلِ وبأدلةٍ أخرى أن المتكلِّم لم يُرِد معنًى من المعاني، سواء قيل: إنه ظاهر اللفظ، أو قيل: إنه ليس بظاهره، كما يعلم أن الله لم يُرِد بقوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (1) أنها أوتيتْ مُلْكَ
__________
(1) سورة النمل: 23.

(5/84)


السماوات وملكَ سليمان وفَرْجَ الرجل ولحيتَه؛ ولم يُرِد بقوله: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) (1) أنها تُدمر السماوات والجنة والنار؛ ولم يُرِدْ بقوله: (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (2) شمولَ ذلك للخالق بصفاتِه. ونعلم أن الله لم يُرِد بقوله: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (3) يَدَيْنِ مثل يَدَي الإنسان، ولم يُرِد بقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (4) نفيَ الصفاتَ المذكورة في الكتاب والسنة.
فإذا كان العقلُ وحدَه يَشهد بصحة تأويلٍ، وإنما قد يَشهدُ بعدمِه، فالتأويل الذي يدَّعي صاحبُه أنه عَلِمَ بمجردِ العقل صحتَه تأويلٌ مردودٌ محرمٌ. نعم إن فَسَّرتم كلامَكم أن العقلَ بما استفاده من العلوم السمعية وغيرِها يعلم صحةَ التأويل، فهذا حقٌّ وإن لم يكن ظاهرُ اللفظ دالاًّ عليه، ونحن ما حكينا تحريمَ مثلِ هذا التأويل عن أحدٍ، ولا يَمنعُ تحريمَه كلامٌ آخر.
وسنتكلم -إن شاء الله- عليه متبرعين، فإنّ الغرضَ تقريرُ الحقائق وتحصيلُ الفوائد، لا ما يَقصِده المبطلون من التجاهل والتعانُد.
ونقول رابعًا: قولكم “عند الحاجة إليه” موافقة لما يقوله كثير من الناس من [أنّ] التأويل اضطرَّ إليه العلماء، وبيانُ ذلك أنّا إذا علمنا بالأدلة العقلية والسمعية مثلاً انتفاءَ أمرٍ من الأمور، ورأينا بعضَ
__________
(1) سورة الأحقاف: 25.
(2) سورة الأنعام: 102.
(3) سورة ص: 75.
(4) سورة الشورى: 11.

(5/85)


النصوص تقتضي إثباتَه ظاهرًا، احتجنا إلى تأويله، لأنا إن قلنا بمقتضى الدليلين لزِمَ الجمعُ بينَ النقيضين، وإن قلنا بنفيهما لزمَ انتفاءُ النقيضين، ثم فيه تعطيلُ الدليلَين من دلالتهما، ومحذور التأويل جزء من هذا المحذور، إذ غايتُه تعطيلُ دلالة أحدهما، فلابدّ من ثبوتِ أحدهما وانتفاء الآخر، ولا يجوز أن يُقدَّم الدليلُ المُثْبت لأنه ظاهر، والنافي قطعي، والقطعي لا يجوز تخلُّفُ مدلولَه عنه، بخلافِ الظنّي. فتعيَّنَ إثباتُ مدلولِ الدليل القطعي دون الظاهر.
ولأن القَطعي إذا كان عقليًّا، فلو رَجَّحنا عليه الظاهرَ السمعيَّ لَزِمَ القدحُ في ذلك الدليل العقليّ، والعقلُ أصل السَّمْع، فالقدحُ في العقلي القطعي قَدْحٌ في أصل السمعي، والقدحُ في الأصل قدح في فرعِه، فيصيرُ تقديمُ السمعي قدحًا في السمعي، وإثباتُ الشيء بما يقتضي نفيه محال. وإذا تعيَّن إثباتُ مدلولِ القطعي العقلي دون الظاهر السمعي، فنحنُ بين أمرين: إمّا أن نُفَوِّض معنى الظاهر إلى الله سبحانَه وتعالى، مع علمنا بانتفاءِ دلالتِه الظاهرة، أو أن نؤوِّله على وجهٍ يسوغ في الكلام.
والقائلون بهذا التقرير يُسمُّون طريقَ المفوِّضة النفاة طريقَ السلف، وهو عندهم طريق أهل الحديث وأحدُ قولَي الأشعري وغيرِه من أهل الكلام. ثم هم في هذا على أقوالٍ:
فغُلاةُ المتكلمين يُحرِّمون هذا ويُوجبون التأويل، وذهب إلى هذا ابنُ عقيل في أحد أقوالِه، وهو قول أكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية، ومن هؤلاء مَن يُفيد كلامُه بأنه يجب على العلماء دون العامة.

(5/86)


ومنهم من يُحرم التأويلَ، كأبي المعالي الجويني في آخر قوليه (1).
ومنهم من يُحرِّمُه على أكثر الخلق إلاّ على القليل، كأبي حامد الغزالي (2) وغيره.
ومنهم من يُسوغِّ كلَّ واحدٍ من التفويض والتأويل، ويَعُدُّ هذا من العلوم التطوُّعية التي لا تجب ولا تحرم، كالعلم بأحاديث الملاحم والفتن وأخبار الأمم والأحاديث الإسرائيليات، والأحاديث المتضمنة لأوصافِ الملائكة والجنّ ونحو ذلك، وإن كانت هذه العلوم قد يكون ضبطها فرضًا على الكفاية.
منعُكم أن التأويل قد تدعو الحاجة إليه كما تقدم، فلا يحرم على العالم المتبحر لوجوهٍ:
أحدها: أن لا مُوجب لتحريمه، والأصل الإباحة، فمن ادعى التحريم فعليه الدليل.
الثاني: أن هذا من باب طلب العلم ومعرفة مرادِ الله ورسوله، وجنس العلم خير من جنس الجهل، فكيف العلم بتأويل كلام الله وكلام رسوله؟ كيف يكون هذا محرَّمًا؟
الثالث: أن المخالف للحق من الكفّار والمبتدعة إن لم نتأوَّل لهم هذه النصوص لَزِمَ سوءُ الظن بالرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووقوعُ شبهة
__________
(1) في “العقيدة النظامية” كما سبق.
(2) في كتابه “إلجام العوام عن علم الكلام”.

(5/87)


الاختلاف في كلام الله وكلامِ رسوله، ونفورُ الناس عن القرآن والإسلام، ونفورُ أهل الباطل عن الحق. والتأويلُ هو أسرعُ إلى القبول وأدعَى إلى الانقياد، فأقلُّ أحوالِه أن يكون بمنزلةِ تعليل الأحكام الشرعية المنصوصة، فإن التعليل فيه فائدة الاطلاع على حكمة الشارع التي يحصل بسببها من العلم والإيمان ما لا يَحصُل بدونها، مع أن الحاجة لا تدعو إليها، فكيف بتأويل الخطاب الذي عارض ظاهرُهُ القواطع العقلية والسمعية.
الرابع: أن الطالب الذكي يَضيق صدرُه بأسْرِ التقليد، ويُحِبُّ أن يخرج إلى بُحْبُوحة العلم، فلا تقنَع نفسُه ويَرضَى عقلُه إلاّ بالوقوفِ على التأويل، وهو بدونه يعتور عقله الشبهات وصدره الحرج والضيق، فإذا عرفَ التأويل اطمأنّ قلبُه وانشرحَ صدرُه ورَضِيَ عقلُه، والبدنُ لو احتاجَ إلى طعام وشراب لغذاءٍ أو دواءٍ يَحصلُ له الضَّرَرُ بفَقدِه لأباحَهُ الله له، بل قد أباحَ الأكلَ في الصوم الواجب للمريض والمسافر إذا وَجَدَ مشقةً بالصوم، وأباحَ تركَ القيام في الصلاة إذا خافَ زيادةَ المرض أو لِطول البُرْء. فكيف لا يُبيحُ ما يَضرُّ عَدَمُه القلوبَ لِعقولها والنفوس لِوجودِها، ويَزِيد بعَدَمِه مرضُ القلب والدين، أو يتأخر بفَقْدِه الشفاءُ من مرضِ الكفرِ والنفاق. وكما أَن الأطعمة والأشربة تختلف شهوةُ الناس وحاجتُهم إليها باختلاف قُواهم وأمزاجهم، فرُبَّ مزاج يَقْرَمُ إلى اللحم ما لا يَقْرَمُه غيرُه، ومن كان مقيمًا بطَيْبَةَ إبَّان الجدادِ كانت شهوتُه إلى الرُّطَب بخلافِ شهوة سُكّان الشام، ومن كانت رياضتُه البدنية أقوى وأكثر -كالحمّالين والحرَّاثين- كانت حاجتهم إلى الطعام أشدَّ.

(5/88)


كذلك العلوم والطرق، فمن كان ذكيًّا كان شوقُه إلى دَرْكِ الأمور الدقيقة أشدَّ، ومن راضَ عقلَه بكثرة النظر في العلوم والبحث عن أسبابها وأصنافِها كانت حاجتُه إلى الازديادِ منها والوقوف عليها أشدَّ. والمتعمقون في الكتاب والسنة ولو في الأحكام فقط يحصل لهم من الحاجة والشوق إلى معرفة معاني كثير من النصوص ما لا يحصل لغيرهم من المعرضين. وإذا كان نقل الواجب والمستحب قد يَستلزمُ الحاجةَ والشوقَ إلى أشياءَ، فكيف يحرم؟ وإنما الشوق بحسب الإدراك. ولهذا من لم يَرَ المطاعم الشهيَّة والمناظرَ البهيَّة لا يشتهيها كشهوةِ المبتلَى بها. فمن لم تَنفتِحْ عينُ بصيرتِه لصنوف المعارف، ولا توسَّعَتْ في قلبه أنواع المعالم، لا يحتاج إلى الإدراك كحاجة أولي البصائر الوقَّادَة والمعارف المستفادة، ولا يَشتاق كاشتياقِهم. وهذا تقريرُ قولِ السائل -أيدهُ الله-: “لعالمٍ متبحِّر لا يَرضى بأسرِ التقليد”.
الخامس: أن نعمة الله على عبادِه بنفوذ البصيرة من أفضل النِّعَم، وإدراك حقيقة مرادِ الله ورسوله من أفضل إدراك الحقائق، فكيف يحرم استعمال هذه النعمة الجليلة في مثل هذا المطلوب الشريف؟ وهل ذلك إلاّ أقبح من تحريم استعمال قُوَى الأبدان في دَفْع أعداءِ الدين وعبادةِ ربّ العالمين، وتحريم إنفاق الأموالِ في سبيَل الله. بل تحريمُ هذا تحريم لطلب الدرجاتِ العُلَى والنعيم المقيم، والله لا يُحرم مثلَ هذا، بل يَستحبُّه إن لم يُوجِبْه.
السادس: أن إبقاءَ النصوصِ المصروفة عن دلالتها الظاهرة بلا تأويل معين بنفيها ذريعةٌ إلى اعتقادِ موجبِها وتقلُّد مقتضاها. وتأويلُها

(5/89)


يَحْسِم هذه المادةَ، فيصير الأولُ مثلَ بناء الأسوار للأمصار، والثاني كتركِها بلا سوْرٍ. بل الأول بمنزلة كشفِ النساءِ الحِسان لوجوههن، والثاني كسَتْرِها، أو الأول بمنزلة تركِ المُرْدَانِ الصِّباحِ يُعاشِرون الأجانبَ، والثاني كصَوْنهم من هذه العِشرة. فإن لم يكن الثاني واجبًا أو مستحبًّا فلا أقلّ من أن يكون مباحًا.
وهذا معنى قولِ بعضِ الناسْ طريقةُ السلَف أسلمُ، وطريقةُ الخلفِ أَحْزَم وأَحْكَم؛ لأنّ طريقة أهل التأويل فيها مخاطر بالإخبار عن مُرادِ الله بالظنّ، الذي يجوز أن يكون صوابًا ويجوز أن يكون خطأً، وذلك قولٌ عليه بما لا يُعلم، والأصلُ تحريمُ القول عليه بالظنّ، وكان تركُها أسلم. وفي طريقة أهلِ التأويل حَسْمُ موادِّ الاعتقادات الفاسدة والشبهات الواردة، فكانت أحْزَمَ وأحكمَ.
وصار في المثال بمنزلة قوم من المسلمين بلغَهم أن العدوَّ قاصدُهم، وبيتُ المالِ خالٍ، فهل يسوغُ أن يجمع من أموالهم ما يَبني به سُورَهم لحفظِهم من العدوّ إلى لحوق الذرى، واندفاع العدو بشدة البرد (1) المخاطرة بأخذِ الأموال بغيرِ طيب نفوسِ أصحابها، وفيه إحكام الحفظ للنفوس وباقي الأموال، والَحَزْم بضبطِ الدين عن الانحلال.
وهَبْ هذه مسألة اجتهادية يرى فيها قومٌ الحظرَ، وقومٌ الوجوب، وقوم يُخيِّرون بين الأمرين، وقوم يُوجبون فعلَ الأصلح. ويختلفُ الأصلحُ باختلاف الأعصار والأمصار والأشخاص.
__________
(1) كذا في الأصل، وفي العبارة غموض.

(5/90)


السابع: أن السلف تكلَّموا في تفسير القرآن كلِّه، وما رأيناهم حَرَّموا تفسير شيء منه، إلاّ أن يُنقَل عن أحدِهم أنه تَرَكَ القولَ فيه، أو حرَّم القولَ على غيرِه بغيرِ علم، أو تَركَه خَوفَ الخطأِ على سبيل الورع ونحوه. وكتبُ التفسير مشحونة بالروايات عن الصحابة والتابعين في آيات الصفات وغيرِها، فكيف يَدَّعِي هذا أن المعتبرين حَرَّموا ذلك؟
فهذا (1) تقرير لما ذكرتموه من قولكم: “لا نُسَلِّم أنَّ معتبرًا حِرَّم تأويلاً يَشهَدُ العقل بصحتِه عند الحاجة إليه، لعالمٍ متبحِّر لا يَرضى بأسْرِ التقليد، ولا يرى أن يَستعمل في كشف الحقائق نورَ البصيرةِ الذي هو من أجلِّ نِعَمِ الله على العبيد”.
وجوابه من وجوهٍ:
أحدها: ما تكلَّمنا في تحريم جنس التأويل وجوازه شيئًا، وإنما تكلمنا في صحته وفسادِه، فقلنا: “إذا بَحثَ الإنسانُ وفَحَصَ وَجَدَ ما يقولُه المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهلَ [الحديث] باطلاً، وتيقَّن [أن] الحق مع أهلِ الحديث ظاهرًا وباطنًا”.
وسنبيِّنُ إن شاء الله بالنقول المستفيضة أن الخلاف وقعَ في أعيانٍ هل هي صحيحة أو فاسد، بل قد بيّنَّا في نفس تلك المناظرة
__________
(1) الكلام السابق في أربع صفحات من قوله (ص 79) “منعكم أن التأويل” إلى هنا تقريرٌ وتوضيحٌ من المؤلف لكلام الخصم، ثم بدأ في الردّ عليه، ولم يصل إلينا تمامُه.

(5/91)


فسادَ تأويلِ اليدِ بما ذكروه فيها من التأويل (1)، ولم نتعرض للتحريم ولا للتحليل. وإذا كان أوَّلُ الكلام وأوسطُه وآخره إنما هو في صحة التأويل المعيَّن والمطلق وفسادِه، فالكلامُ في التحريمِ نفيًا وإثباتًا كلامٌ آخر ليس بواردٍ علينا. ولولا أنّا في هذا المقام غرضنا بيان عدمِ ورود الأسولةِ علينا بالكلية لذكرنا نصوصَ المختلفين، وإنما نؤخر ذلك إلى المقام الثاني إن شاء الله.
إن الأسولةَ تارةً تكون موجَّهةً واردةً، وتارةً لا تكون كذلك، والسؤال الواردُ منه [ما] يُوجبُ انقطاعَ المستدلّ، ومنه ما لا يُوجب انقطاعه، إن أجاب عن ضبط حدود النظر والمناظرة هُدِيَ إن شاء [الله] إلى الهدى والسَّداد، اللَّذَين أمر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عليًّا بمسألتِهما من الله، والغرض الضبط العلمي الديني، لا الضبط العِنادي الذي مضمونُه الكلامُ بلا علمٍ أو عدمُ قصد الحقّ. وأما الاصطلاح المحضُ فأنتَ فيه بالخيار، ويَجِب أن تعرف حقيقة هذا النقل وتدين في قولهم: “الإسنادُ من الدين، لولا الإسنادُ لقال من شاء ما شاءَ” (2). فإن كان النقلُ مشهورًا -مثل أن يقال: مذهبُ أهل الحديث أنّ الله يُرى في الآخرة، والإيمان بالشفاعة، أو جمهورهم ونحو ذلك- لم يُطلَب في مثل هذا الإسنادُ. فإن نُقِلَ: مذهبُ أهلِ الحديث بأن الله يُرى هو الصحيح، فقد تضمنَ هذا نقلاً وحكمًا، فيجوز أن يُقالَ: لا نُسلِّم أنه هو الصحيح، وقد يقال أيضًا: من أين علمتم؟
__________
(1) انظر “مجموع الفتاوى” (6/ 362 – 372).
(2) قاله عبد الله بن المبارك، كما روى ذلك عنه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 15).

(5/92)


فالمستدلُّ في الأدلة في خطاب أو كتابٍ إذا قال: مذهبُ فلانٍ كذا، لم يَرِدْ علمه لا مَنْع ولا معارضتُها، وقد يُعتَرضُ النقلُ بنقل آخر. وفي الحكم ورد عليه منعُ النقلِ ومعارضتُه بأن: مَن ذكرَ هذا؟ أو مَن حكاه؟ أو قد نَقَلَ فلان عنه بخلافِه. لكن فرق بين مَنع النقل وبين منع الحكم وبين منع الدلالة، فإن النقل لا يُمنَع منعًاَ محضًا إلاَّ أن يكون المانعُ يعلم انتفاءَ ذلك المنقول، مثل أن يعلم أن مذهب الشخص أو روايته بخلاف ذلك، كمن قال: سَمِعَ مالك ابنَ عمر يقولُ كذا، فحقول المعترضُ: ما سمعَ مالكٌ منه شيئًا. وأما إن كان صدقُه ممكنًا، فإن غَلَبَ على الظنّ خيرته وعدالتُه اكتفي بذلك.
(آخر ما وُجِد، والله أعلم. وليست كاملة).

(5/93)


قاعدة في الوسيلة

(5/95)


بسم الله الرحمن الرحيم
ما تقولُ السادةُ العلماءُ أئمةُ الدين وهُداةُ المسلمين -رضي الله عنهم أجمعين- فيمن عابَ أقوالاً نَقَلَها جماعة من أكابرِ الأئمةِ وأعيانِ ساداتِ هذه الأمة:
أولها: ما أوردَه الشيخ أبو الحسين القُدوري الحنفي في كتابه الكبير في الفقه المسمَّى بشرح الكرخي (1) في باب الكراهية، وصورةُ اللفظ: “قال بِشرُ بن الوليد: حدثنا أبو يوسف، قال: قال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: لا ينبغي لأحدٍ أن يَدعُوَ الله إلاّ به، وأكرهُ أن يقولَ: بمَعَاقدِ العِز من عرشِك أو بحقِّ خَلْقِك. وهو قول أبي يوسف.
قال أبو يوسف: “بمعقدِ العزِّ من عرشك” هو الله، فلا أكرهُ هذا. وأكرهُ أن يقولَ: بحقِّ فلانٍ، أو بحقِّ أَنبيائك ورسلك، وبحقّ البيتِ والمشعرِ الحرام.
قال القدوري: المسألة بخلقِه لا تجوز، لأنه لا حقَّ للخلقِ على الخالق، فلا يجوز.
__________
(1) شرح مختصر الكرخي من أمهات الكتب في الفقه الحنفي، توجد نسخه الخطية في مكتبات تركيا والهند. انظر “تاريخ التراث العربي” (3:1/ 102).
والمسألة مذكورة في “نتائج الأفكار شرح الهداية” لقاضي زاده أفندي (10/ 64) و”الفتاوى الهندية” (5/ 318) وحاشية ابن عابدين (6/ 395 – 397).

(5/97)


وثانيها: ما ذكره الشيخ أبو القاسم القُشَيري في كتابه المسمَّى “التحبير في علم التذكير” المشتمل على تفسير معاني أسماء الله عزَّ وجلَّ، وصورةُ اللفظ أنه قال (1): عَلِمَ الحقُّ سبحانَه أنه ليس لك أَسَام مرضية، فقال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، (2) وَلأن تكون بأسماءِ ربك داعيًا خيرٌ لك من أن تكونَ بأسماء نفسك مَدْعِيًّا، فإنك إن كُنتَ بك كنتَ بمن لم يكن، وإذا كُنتَ به كنتَ بمن لم يَزَلْ، فشَتَّانَ بين وصفٍ وبين وصفٍ.
وقال (3): مَن عرفَ اسمَ ربَه نَسِيَ اسمَ نفسِه، بل مَن صَحِبَ اسمَ ربِّه تَحَقَّق بروحِ أنْسِه قبلَ وصوله إلى دارِ قُدْسِه، بل مَن عرفَ اسمَ ربِّه سَمَتْ رتبتُه، وعَلَتْ في الدارينِ منزلتُه.
وثالثُها: ما ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه (4) المشهورة، وصورةُ اللفظِ أنه قال: لا يجوزُ التوسُّلُ في الدعاء بأحدٍ من الأنبياء والصالحين إلاّ برسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إن صحَّ حديث الأعمى.
وزعمَ العائبُ لهذه الأقوالِ والطاعنُ على معانيها أنَّ فيها تنقُّصًا بعبادِ الله الصالحين، واستخفافًا بحرمةِ البيتِ والمشعر الحرام.
فهل في هذه الأقوال المذكورةِ تنقُّصٌ واستخفافٌ والحالةُ هذه أو لا؟
__________
(1) ص 23.
(2) سورة الأعراف: 185.
(3) التحبير (ص 22).
(4) ص 83.

(5/98)


وهل يجوز ردُّها بمجرد رأي الإنسان وما جَرَتْ به عَوائدُ بعضِ أهل الزمانِ أم لا؟
وهل اشتهرَ عن الأئمة الأكابرِ المتبوعين خلافٌ لهذه الأقوال؟
وهل صحَّ حديثُ الأعمى الذي أورده الترمذي في جامعِه (1)؟
وهل في صريح لفظِه ما يُبطِلُ الأقوالَ المذكورةَ ويُوجِبُ اعتقادَ خلافِها؟
وهل يجوز الحلفُ بغير الله تعالى؟ وإذا لم يَجُزْ هل يجوز التحليفُ والإقسامُ بغير الله؟
والرادُّ لهذه الأقوالِ المتقدمِ ذكرُها والطاعاتِ فيها، إذا لم يكن عنده دليل شرعي قاطع يدفعُها به، هل يُردَعُ عن ذلك ويُزْجَرُ؟
فأجاب -رضي الله عنه-
الحمد لله، ليس في شيء من هذه الأقوال تنقُّصٌ ولا استخفاف، لا بصالحي عبادِ الله ولا بشعائرِ الله، وإنما يكون متنقِّصًا من نقصَهم عن منزلتِهم التي جعلَهم الله بها، كمن لا يَرى حجَّ البيتِ قُربة وطاعةً لله، ولا يَرى الوقوفَ بعَرفةَ ومزدلفةَ ومِنًى، كما كان بعضُ أهلِ الجاهلية لا يَرَونَ الصفا والمروةَ من شعائرِ الله، وكان بعضهم يَخافُ -إذْ كانوا يُعظِّمونها في الجاهلية- أن لاتكون من شعائرِ الله
__________
(1) برقم (3578). وسيأتي الكلام عليه.

(5/99)


في الإسلام، فأنزلَ الله قولَه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (1) جوابًا للطائفتين، كما ثبت ذلك في الصحاح (2).
وكمن لا يَرى تعظيمَ الهَدْي والضحايا التي قال الله فيها: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)) (3).
وكمن لا يَرى تعظيمَ حُرُماتِ الله، فلا يُحرِّمُ صيدَ الحرم ونباتَه وسائرَ ما حرَّم الله تعالى من المحرّمات، فإنّ الواجبَ على الخَلقِ فِعلُ ما أمر الله به من العبادات، واجتنابُ ما حرَّمه من المحرَّمات، فإنَّ هذا وهذا من دين الله الذي بَعثَ به رُسُلَه، ولهذا قال الله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (4).
ومن تمام تعظيم البيتِ أن يُعبَد اللهُ فيه كما شَرعَه رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيُطَاف به، ويُستَلم الركنانِ اليمانيانِ، ويُقبَّل الحجرُ الأسودُ.
فلو قال قائلٌ: من تعظيمه استلامُ الركنينِ الشاميينِ، وتقبيلُ مَقام إبراهيم والمَسْحُ به، أو تقبيلُ غيرِ الحجرِ الأسودِ من جُدران الكعَبة، ونحو ذلك مما قد يَظنُّه بعضُ الناس تعظيما= كان هذا غلطًا. وإذا نهاهُ ناهٍ عن ذلك فقال: نَهْيُك لي عن هذا تنقُّصٌ واستخفاف بحرمة البيت، كان قد غَلِطَ غلطًا ثانيًا.
__________
(1) سورة البقرة: 158.
(2) أخرجه البخاري (1643) ومسلم (1277) من حديث عائشة.
(3) سورة الحج: 32 – 33.
(4) سورة الحج: 30.

(5/100)


ولهذا لمّا طافَ ابنُ عباس ومعاويةُ بالبيت فكان ابن عباس لا يَستلم إلاّ الركنينِ اليمانيين، واستلم معاويةُ الأركانَ الأربعةَ، فقال ابن عباس: إن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يستلم إلاّ الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ليس من البيتِ شيء مهجور، فقال له ابن عباس: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (1)، فسَكتَ معاويةُ ووافقَ ابنَ عباس (2).
فمعاويةُ احتجَّ بأنّ البيت كلَّه معظَّم لا يُهجَر منه شيء، فأجابَه ابن عباسٍ بأن العباداتِ يجبُ فيها اتباعُ ما شَرَعَه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لأمّتِه، ليس لأحدٍ أن يَشرعَ برأيه عبادةً لما يراه في ذلك من تعظيم الشعائر.
فوافقَه معَاويةُ، وعَلِمَ أنَ الصوابَ مع ابن عباسٍ.
وكذلك ما ثبت في الصحيحين (3) أن عمر بن الخطاب لمّا قَبَّلَ الحجرَ الأسودَ قال: والله إني أعلَمُ أنكَ حجرٌ لا تَضرُّ ولا تَنفَعُ، ولولا أني رأيتُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُقبِّلُك لَمَا قَبَّلْتك.
بيَّن عمر -رضي [الله] عنه- أنّ العباداتِ مبناها على متابعة الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذْ كان دينُ الإسلام مبنيًّا على أصلينِ:
أحدهما: أن لا يعبُد إلا الله، لا يُشرِك به شيئًا.
__________
(1) سورة الأحزاب: 21.
(2) أخرجه بنحوه أحمد (1/ 217) من طريق مجاهد عن ابن عباس. وللحديث طرق أخرى ذكرها الحافظ في الفتح (3/ 473، 474). وأصله عند البخاري (1608)، والجزء المرفوع منه فقط عند مسلم (1269).
(3) البخاري (1597، 1605، 1610) ومسلم (1270).

(5/101)


والثاني: أن يَعبده بما شرع من الدين، لا يعبده بشَرْع مَن شرعَ مِن الدين ما لم يأذَن به الله، كالذين قال فيهم: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (1).
فأخبرَ عمرُ أنا لم نُقبِّلْك نَرجو منفعتَك ونخافُ مَضرَّتَك، كما كان المشركون يفعلون بأوثانهم، بل نعلم أنك حجر لا تَضُرُّ ولا تنفع، ولولا أن الرسول قَبلك -وقد أمرنا الله باتباعِه، فصارَ ذلك عبادةً مشروعةً- لما قبَّلْتك، لسنا كالنصارى والمشركين وأهل البدع الذين يعبدون غيرَ الله بغيرِ إذن الله، بل لا نعبد إلاّ الله بإذن الله، كما قال لنبيه: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)) (2)، فبيَّن أن رسوله يدعو إليه بما أذن فيه من الشَّرع، لا بما لم يأذن به، كالذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
وكذلك قال عمر (3): فِيْمَ الرملُ الآن والإبداءُ عن المناكب؟ وقد أَطَّأَ الله الإسلامَ ونفَى الشركَ وأهلَه، ثم قال: لا نَدَعُ شيئًا كُنَّا نفعلُه على عهد رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلاّ فعلناه.
وذلك أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أمر أصحابَه في عمرة القضيةِ بالاضطباع وبالرمل ليُرِيَ المشركين قوتَهم، ولهذا لم يأمرهم بالرمل بين الركنين
__________
(1) سورة الشورى: 21.
(2) سورة الأحزاب: 45 – 46.
(3) أخرجه أبو داود (1887) عنه. وأصله عند البخاري (1605).

(5/102)


اليمانيين، لأن المشركين كانوا بقُعَيْقِعَانَ جَبَلِ المروةِ ينظرون إليهم (1). ثمَّ إنه لما حَجِّ اضطَبَعَ ورَمَلَ من الحجر الأسود إلى الحجرِ الأسود، فجعلَ ذلك شرْعًا لأمتِه. فبيَّن عمرُ أنه لو لم يُشْرَع ذلك لما فَعَلْناه، لزوالِ السببِ الذي أوجبَه إذْ ذاك.
ومعلوم أن مكَّةَ -شرَّفَها الله- فيها شَعَائرُ الله، وفيها بيتُه الذي أوجبَ الحجَّ إليه، وأمرَ الناسَ باستقباله في صلاتهم، وحَرَّم صَيْدَه ونباتَه، وأثبتَ له من الفضائل والخصائص ما لم يثبتْه لشيء من البقاع.
وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لمكة: “والله إنكِ لخيرُ أرضِ الله وأحبُّ أرضَ الله إلى الله -وفي رواية: وأحبُّ أرضِ الله إليَّ-، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ لما خَرَجتُ” (2). قال الترمذي: حديث صحيح.
فإذا كان الله لم يَشرع أن يتمسَّح إلا بالركنين اليمانيينِ لكونهما على قواعدِ إبراهيم، ويُقبَّل الحجر الأسود لكونه بمنزلة يمين الله في الأرض (3)، فلا يُقبَّل سائرُ جُدرانِ الكعبة، ولا يُقَبَّل مقامُ إبراهيم الذي هناك ولا يتمسَّح به، ولا يُقبَّل مقام النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الذي كان يُصلي فيه ولا يُتَمسَّح به، ولا يُقبَّل قَبرُ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ولا يتمسَّح به= فمعلوم أن
__________
(1) كما في رواية ابن عباس المعلقة عند البخاري (4256)، ووصلها الإسماعيلي كما ذكر الحافظ في “الفتح” (7/ 510).
(2) أخرجه أحمد (4/ 305) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108) من حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.
(3) أخرجه ابن قتيبة في “غريب الحديث” (2/ 96) وعبد الرزاق في المصنف (5/ 39).
موقوفًا على ابن عباس، وهو صحيح عنه. ويُروى مرفوعًا عن جابر وغيره، ولا يثبت رفعُه. انظر “الضعيفة” (223) و”جامع المسائل” (13/ 63).

(5/103)


قُبورَ سائرِ الأنبيِاء والصالحين التي ببقية البلاد (مثلَ ما بالشامِ وغيرها من الأمكنة التي يُقال: إنها مقام إبراهيم أو المسيح أو غيرهما، كمقامِ إبراهيم ببَرْزَةَ، وكمغَارةِ الدّم، والرَّبوة التي يُقال: إنه كان بها المسيحُ وأمُّه، وكطورِ موسى وغارِ حِرَاءَ وغيرِهما من الجبالِ والمغاراتِ، وكسائر قبور الصالحين من الصحابة والقرابة وغيرهما، وكصَخْرةِ بيتِ المقدس وغيرها) أولَى [بأن] لا يُقبَّلَ شيء من ذلك ولا يُستَلَم ولا يُطافَ به، فلا يكون شيء من ذلك بمنزلةِ الركنين اليمانيين ولا بمنزلة الحجر الأسود. ولهذا قال عمر: والله إني لأعلَمُ أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تَنفعُ، ولولا أني رأيت رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُقبِّلُك لما قَبَّلتك. يدلُّ على أنه ليس من الأحجارِ ما يُقبَّل، إذ كان رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يشرع تقبيلَ شيء من ذلك.

والحديث الذي يرويه بعضُ الكذابين: “لو أحسنَ أحدُكم ظَنَّه بحجرٍ لَنفَعَه الله به” (1) كَذِب مُفترى باتفاقِ أهلِ العلم، وإنما هذا من قولِ عُبَّادِ الأصنام الذين يُحسِنون ظنَّهم بالحجارةِ، وقال تعالى لهم: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)) (2)، وقال تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)) (3)، وقال الخليل: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ
__________
(1) موضوع لا أصل له، قال المؤلف في مجموع الفتاوى (24/ 335): إنه من المكذوبات. وقال ابن القيم في “المنار المنيف” (ص 139): هو من وضع المشركين عباد الأوثان.
(2) سورة الأنبياء: 98.
(3) سورة البقرة: 24.

(5/104)


وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شيئًا (42)) (1)، وقال تعالى عن عُبَّاد العِجْل: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) (2). وذكر تعالى عن الخليل أنه قال لقومه: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شيئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)) (3). وفي الموضع الآخر: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)) (4).
فهؤلاء المشركون كانوا قد أحسنوا ظنَّهم بالحجارة، فكان عاقبتُهم أنهم في النار خالدون. وإنما يُحسِن العبدُ ظنَّه بربِّه، كما
__________
(1) سورة مريم: 42.
(2) سورة الأعراف: 148.
(3) سورة الأنبياء: 52 – 67.
(4) سورة الصافات: 95 – 96.

(5/105)


ثبتَ في الصحيحين (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “يقولُ الله: أنا عندَ ظنِّ عبدِي بي، وأنا معَه إذا دعاني، فإن ذكرَني في نفسِه ذكرتُه في نفسِي، وإن ذكرَني في مَلأٍ ذكرتُه في مَلأٍ خير منه”. وفي صحيح مسلم (2) عن جابر عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لا يَموتَن أحدُكم إلاّ وهو حَسَنُ الظنِّ بالله”.

وبالجملة فهذا أصل متفقٌ عليه بين أئمةِ الدين أنَّ العبادات مَبْنَاها على توقيفِ الرسولِ وطاعةِ أمرِه والاقتداءِ به، فلا يكون شيءٌ عبادة إلاّ أن يَشرعَه الرسولُ، فيكون واجبًا أو مستحبًّا، وما ليسَ بواجب ولا مستحبٍّ فليسَ بعبادةٍ باتفاقِ المسلمين. ومن اعتقدَ مثلَ ذلك عبادةً كان جاهلاً، وإن ظَنَّ أنّ ذلك تعظيمٌ لمن يَجِبُ تعظيمُه، فإن التعظيم المشروع لا يكون إلاّ واجبًا أو مستحبًّا.
ومَن نُهِيَ عن اتخاذ الأحبارِ والرُّهبانِ أربابًا من دونِ الله والمسيح ابن مريم، وعن اتخاذ الملائكةِ والنبيين أربَابًا، وعن الغُلُوِّ في الأنبياء والصالحين، فزَعمَ أنَّ هذا تنقُّصٌ واستخفافٌ بالأنبياء والصالحين والملائكة، فهو من جنس النصارى وأشباهِهم من المشركين وأهلِ البدع، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
__________
(1) البخاري (7405) ومسلم (2675) عن أبي هريرة.
(2) برقم (2877).

(5/106)


وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)) (1).
وقد قال: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2).
وقال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (3).
فهذه الأمور التي ذمَّ الله بها النصارى؛ إذْ نُهُوا عنها قالوا: هذا تنقُّص بالمسيح والأحبار والرهبان، وكانوا كفّارًا بجعلِهم هذا النهيَ تنقُّصًا مذمومًا، إذ كانوا عظَّموا الأنبياء والصالحين تعظيمًا لم يُشرَع لهم.
__________
(1) سورة النساء: 171 – 173.
(2) سورة آل عمران: 79 – 80.
(3) سورة التوبة: 30 – 31.

(5/107)


وكذلك من اتخذَ قبورَهم مساجدَ تعظيمًا لهم، أو سَجَدَ لهم تعظيمًا لهم، أو دَعَاهم وسألهِم -كما يَدعُو الله ويسألُه- بعد مَماتِهم وفي تغيّبِهم، أو رَجَاهم وخافهم كما يَرجو الله ويخافه= فإنه مشركٌ مبتدع. وإذا نُهِيَ عن ذلك فقال: هذا تنقُّصٌ، زادَ ضلالةً، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)) (1) وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)) (2).
فجعل الله الخشيةَ والتقوى والتوكُّلَ والرغبةَ لله وحدَه، وجَعَلَ للرسول أن يُطاعَ، فمن يُطِع الرسولَ فقد أطاعَ الله، وأن يرْضَوا بما آتاه، وهو ما حَلَّلَه، فلا يَطلب ما حرَّمه الله، بل الحلالُ ما حلَّله، والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرعَه. ويجب أن يكون أحبَّ إلى المؤمنين من أنفُسِهم وأهليهم، إلى غيرِ ذلك من حقوقِه (3).
ولا يُعبَد إلاّ الله، ولا يتَوكَّل إلاّ على الله، ولا يُرغَب إلاّ إلى الله، ولا يُخشَى ولا يُتَّقى إلاّ الله.
وقد اتفقتْ أئمة المسلمين على أن من قَصَد الصلاةَ في المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، وقَصَد الدعاءَ عندها، معتقدًا أن الصلاةَ فيها والدعاءَ عندها أفضلُ من الصلاةِ والدعاءِ في المساجد
__________
(1) سورة النور: 52.
(2) سورة التوبة: 59.
(3) في الأصل: “حقوقهم”.

(5/108)


المبنية لله لا على قبرِ أحد = فإنه مخطئ ضالٌّ، وإن كان كثير من الجهال يَرَى ذلك من تعظيمهم.

وكذلك اتفقَ الأئمة الأربعةُ وغيرهم على أنه لا يُشرَع لأحدٍ أن يستلمَ ويُقبِّلَ غيرَ الركنين اليمانيينِ، لا قبورَ الأنبياء ولا حجرةَ بيت المقدس ولا غيرَ ذلك، ولا مقامات الأنبياء كمقام إبراهيم الذي بمكة، والمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين وغير ذلك مما يَستلمُه ويُقبِّلُه كثير من الجهال، ويَرون ذلك من تعظيمها، وذلك ليس بواجب ولا مستحبّ باتفاق المسلمين. ومن فَعَلَ ذلك معتقدًا أنّه بِرّ وقُربة فهو ضالّ مبتدعٌ مشابهٌ للنصارى.
واتفق أيضًا أئمةُ المسلمين على أنّه لا يُشرَعُ لأحدٍ أن يَدعوَ ميتًا ولا غائبًا، فلا يدعوه ولا يَسألُه حاجةً، ولا يقول: اغْفِرْ ذنبي، أو انصُرْ ديني، أو انصُرْني على عدوّي، أو غير ذلك من المسائل، ولا يَشتكي إليه، ولا يَستجير به، كما يَفعلُه النصارى بمن يُصوِّرون التماثيلَ على صورته، ويقولون: مقصودُنا دعاءُ أصحاب هذه التماثيل والاستشفاعُ بهم، فمثلُ هذا ليس مشروعًا -لا واجبًاَ ولا مستحبًّا- في دين المسلمين باتفاقِ المسلمين. ومَن فَعَلَ ذلك معتقدًا أنه يُستحبُّ فهو ضالّ مبتدع.
بخلافِ طلب الدعاءِ والشفاعةِ من النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – والصالحين، كما كان أصحابُه يَطلبُون منه الدعاءَ ويَستشفعون به ويتوسَّلُون بدعائِه في حياته، كما ثبت في صحيح البخاري (1) عن عمر بن الخطاب أنه
__________
(1) برقمي (1010، 3710).

(5/109)


قال: “اللهمّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبْنا نتوسَّلُ إليك [بنبيِّنا فتَسْقِينا، وإنّا نتوسَّلُ إليك] بعَمِّ نبيِّنَا فَاسْقِنا”، فيُسْقَون.
وقد ثبت في الصحيحين (1) حديث أنس لما توسَّلُوا بالنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – واستشفعوا به، فطلبوا منه أن يَدعُوَ لهم، حينَ قال له الأعرابي: جُهِدتِ الأنفسُ وجاعَ العِيالُ وهَلكَ المالُ، فادعُ الله لنا، فدَعَا الله لهم، فأُمْطِروا سَبْتًا. ثم شَكَوا إليه بهَدْم الأبنية وانقطاع الطُرق، وسألوه أن يدعُوَ الله بِكَشْفِها عنهم، فدَعاه، فكَشَفَها عنهم.
وكذلك يومَ القيامة يَتوسَّلُ به أهلُ الموقفِ ويستشفعون به، فيَشفعُ لهم إلى ربّه أن يَقْضِي بينهم. ثمَّ يشفعُ شفاعةً أخرى لأهلِ الكبائرِ من أمَّتِه، ويَشفَعُ في أن يُخرِجَ الله من النار مَن في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان، كما استفاضتْ بذلك الأحاديثُ الصحيحة (2).
ولما ماتَ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – توسَّلُوا بدعاءِ العبَّاسِ عَمِّه، ولم يتوسَّلُوا به بعد موتِه، فإنهم إنما كانوا يتوسَّلُونَ بدعائه في حياتِه، وذلك ينقطع بموته، فتوسَّلُوا بدعاء العباس.
وكذلك معاويةُ بن أبي سفيان استشفَعَ في الشام وتوسَّلَ بيزيدَ ابنِ الأسودِ الجُرَشي، وقال: “اللهمَّ إنّا نتوسَّلُ إليك بخيارنا، يا يزيدُ! ارفَعْ يديك”، فرفَعَ يَدَيْه فدعَا ودَعَا الناسُ، حتى نزلَ المطَرُ (3).
__________
(1) البخاري (933 ومواضع أخرى) ومسلم (897).
(2) وهي مخرجة في الصحيحين وغيرهما.
(3) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه (1/ 602) والفسوي في المعرفة =

(5/110)


ولهذا قال الفقهاء: يُستحَبُّ الاستسقاءُ بأهلِ الصلاح والدين، والأولى أن يكونوا من أهلِ بيت رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اقتداءً بعمرَ لما استسقَى بالعبّاس. ولو كان توسُّلُهم في حياتِه هو إقسامًا به على الله وتوسُّلاً بذاتِه من غيرِ أن يدعُوَ لهم، لأمكنَ ذلك بعدَ مماتِه، ولكانَ توسُّلهم به أولَى من توسُّلِهم بالعباس. ولكن إنما كانوا يتوسَّلون بدعائه، كما ثبتَ ذلك في الصحاح أنهم توسَّلُوا في الاستسقاء بدعائه. وفي صحيح البخاري (1) عن ابن عمر قال: ربّما ذكرتُ قولَ الشاعر:
وأبيضُ يُسْتَسْقَى الغمامُ بوجهِه … ثِمَالُ اليتامَى عِصْمَةٌ للأرامِلِ
ولم يقل أحد من المسلمين إنهم كانوا في حياتِه يُقسِمُون به ويتوسَّلون بذاتِه، بل حديثُ الأعمى الذي رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وغيرهم (2)، ألفاظُه صريحة في أن الأعمى إنما توسلَ بدعاءِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قد بسطت ألفاظه في موضع
__________
= والتاريخ (2/ 380) عن سليم بن عامر، وصححه الحافظ في “الإصابة” (3/ 673). وفي طبقات ابن سعد (7/ 444): أُخبِرتُ عن أبي اليمان عن صفوان بن عمرو عن سليم، فذكره. وانظر “البداية والنهاية” (12/ 161).
(1) برقم (1009). والبيت من قصيدة أبي طالب التي أوردها ابن هشام في “السيرة” (1/ 272 – 280)، ثم قال: هذا ما صحّ لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها.
(2) أخرجه أحمد (4/ 138) والترمذي (3578) والنسائي في عمل اليوم والليلة (658، 659) وابن ماجه (1385) وابن خزيمة (1219) وغيرهم من حديث عثمان بن حنيف، وصححه الترمذي والحاكم (1/ 313، 519) وغيرهما.

(5/111)


آخر (1). وفي أول الحديث أن الأعمى سألَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن يدعوَ الله أن يَرُدَّ إليه بَصَرَه، فهو طلبَ من النبي الدعاءَ، فأمرَه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن يتوضأ ويُصلِّيَ ركعتينِ، ويقول: “اللهمّ إني أسألَك وأتوجَّهُ إليك بنبيِّك محمدٍ نبيِّ الرحمةِ، يا محمد يا رسولَ الله إني أتوسَّلُ بك إلى ربي في حاجتي لتَقضِيَها، اللهمّ فشَفِّعْهُ فيَّ”. وفيِ رواية ثانيةٍ رواها أحمد والبيهقى وغيرهما (2): “اللهمَّ شَفِّعْه فيَّ وشفِّعْنِي فيه”.
فلما سألَ النبيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن يدعوَ أمرَه أن يدعوَ هو أيضًا. كما قال له ربيعةُ بن كعب الأسلمي: أسألُ مرافقتك في الجنة، فقال: “أعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجود” (3). فإنّ شفاعةَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وسؤالَه الإنسان قد يكون مشروطًا بشروطٍ، وقد يكون هناك مانعٌ، كاستغفارِه للمنافقين.
فدعاؤه من أعظم الأسباب في حصولِ المطلوب، ولكن السبب قد يكون له شروطٌ وموانعُ، فإذا كان إبراهيم قد استغفر لأبيه فلم يُغفَر له، وقيل للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في المنافقين: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (4)، وقيل له: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (5)، لم يَمنَعْ ذلك أن يكونَ دعاءُ
__________
(1) انظر “قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة” ضمن مجموع الفتاوى (1/ 265 – 279). و”الرد على البكري” (ص 128 – 138).
(2) هذه الرواية أخرجها أحمد (4/ 138) والحاكم في المستدرك (1/ 313، 519) والبيهقي في كتاب الدعوات وغيرهم.
(3) أخرجه مسلم (489) وأبو داود (1320) والنسائي (2/ 227) عن ربيعة.
(4) سورة المنافقون: 6.
(5) سورة التوبة: 84.

(5/112)


إبراهيم ومحمد عند الله أعظمَ الدعاءِ إجابةً، وجَاهُهما عند الله أعظمَ جَاهٍ للمخلوقين، وهما الخليلان، وهما أفضل البريَّةِ. لكنَّ الدعاءَ وإن كان سببًا قويًّا فالكفرُ مانعٌ معارضٌ، فإن الله لا يَغفِرُ أن يُشرَكَ به، وقد حرَّمَ الجنةَ على الكافرين والمنافقين وإن استغفرَ لهم محمد وإبراهيم، لوجودِ المانع لا لنَقْصِ جَاهِ الشفيع العظيمِ القدير.
وكذلك ثبتَ عنه في الصحيح (1) أنه قال: “استأذنتُ ربّي في أن أستغفِرَ لأمِّي فلم يأذَنْ لي، واستأذنتُه في أن أزورَ قبرَها فأذِنَ لي”.
وقد قال تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)) (2)، ثم اعتذرَ عن إبراهيم بقوله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)) (3).
فهو – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال لربيعة: “سَلْ”، قال: أسألُ مرافقتَك في الجنة، فقال: “أَوَ غيرَ ذلك”؟ فقال: بل هو ذاك، قال: “أَعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ”. فإن المطلوبَ عَالٍ لا يُنَالُ بمجرَّدِ الدعاءِ، بل لابُدَّ من عملٍ صالحٍ يكونُ من صاحبه، يكونُ عونًا للداعي، فقال: “أعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السجود”.
__________
(1) مسلم (976) عن أبي هريرة.
(2) سورة التوبة: 113.
(3) سورة التوبة: 114.

(5/113)


كذلك أَمَرَ الأعمى -لما طلبَ منه الدعاءَ له- أن يُعِينَه هو أيضًا بصلاتِه ودعائِه، وقال: “صَلِّ ركعتينِ ثم قُلْ: اللهمّ إني أسألكَ وأتوسَّلُ إليك بنبيك محمد نبيِّ الرحمة” أي بدعاءِ نبيِّك وشفاعتِه. كما قال عمر: “كنّا نتوسَّلُ إليك بنبينا، وإنا نتوسلُ إليك بعم نبينا”.
ومعلومٌ أنهم إنما توسَّلُوا بدعاءِ العبَّاس، كما كانوا يتوسَّلُون بدعاء النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا فَعَلَه عمرُ بين المهاجرين والأنصار عامَ الرَّمَادَةِ، ولم يُنكِرْهُ أحدٌ ولم يَقُلْ له: بل التوسُلُ بذاتِ النبي أو الإقسامُ به مشروعٌ، فلِمَ يَعْدِلُ عن التوسُّلِ بالرسولِ إلى العباس؟
فلما أقرُّوا عمرَ على ذلك ولم يُنكِره أحدٌ عُلِمَ أنَّ ما فَعَلَه عمرُ وأصحابُه معَه هو المشروعُ دونَ ما يُخالِفُه.
وكذلك أمرَ الأعمى أن يتوسَّلَ بدعائِه وشفاعتِه، ويَدُلُّ على ذلك قولُه في آخر الحديث: “اللهمَّ فَشَفِّعْه فيَّ”، عُلِمَ أنه كان يدعو ويَشْفَع له، وأن الأعمى إنما توسَلَ بدعائِه وشفاعتِه، وإلاّ فكان يقول: “اللهم وهذا شفاعة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – “.

والتوسُّل بدعائه وشفاعتِه هو التوسُّل به الذي كان الصحابة يعرفونه ويفعلونه، وهو معنى التوسُّل به عندهم، كما قد بَيَّن ذلك حديثُ عمر وحديثُ الأعمى. ولكن من الناس مَن ظنَّ أن المراد بلفظ التوسُّل به هو التوسُل بذاتِه أو الإقسامُ بذاتِه، وهذا غلطٌ على الصحابة.
وأما كلامُ العلماء في أن ذلك مشروعٌ أو لا؟ فقد ذكرَ السائلُ النقلَ عن أبي حنيفةَ وأبي يوسف وغيرِهما أن ذلك منهيٌّ عنه،

(5/114)


وما ذكرَه عن أبي محمد بن عبد السلام يوافقُ ذلك. وأما استثناؤُه الرسولَ إن صحَّ حديثُ الأعمى، فهو -رحمه الله- لم يَستحضِر الحديثَ بسياقه حتى يتبيَّنَ له أنه لا يُناقِضُ ما أفتَى به، بل ظنَّ أنه يَدُلُّ على محل السؤال، فاستثناه بتقدير صحته. والحديثُ صحيح، لكن لا يدلُّ على هذه المسألة كما تقدَّم.
وأما ما نقله (1) السائلُ عن القُشَيري فأَجنبي عن هذه المسألة، لا يَدُلُّ عليها بنفيٍ ولا إثباتٍ.
وقد ذكرَ المرُّوذي في مَنسَكِه عن الإمام أحمد بن حنبل أن الداعي المسلِّمَ على النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يتوسَّلُ به في دعائِه. فهذا النقلُ يُجعَل معارضًا لما نُقِلَ عن أبي حنيفة وغيره.
ونقل أيضًا عن عثمان بن حُنَيف أنه أمر رجلاً بعد موتِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن يَدعُوَ بهذا الدعاءِ، لكن لم يقل فيه: “اللهم فشفَعْه فيَّ”.
وقد تكلَّمتُ على إسناد ذلك، وهل هو ثابت أم لا؟ وبَسطتُ الكلام على ذلك في غير هذا الموضع (2)، وبيَّنتُ أنه [على] تقديرِ ثبوته يكون معارضا لما فَعَلَه عمرُ بمحضرٍ من المهاجرين والأنصار، وإذا كانت مسألة نزاعٍ رُدَّتْ إلى الله والرسول.
وما نُقِلَ عن أحمد رضي الله عنه فإنه يُشبهُ ما نُقِلَ عنه من جوازِ الإقسامِ برسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه يجب بذلك الَكفارةُ، فإن الإقسامَ به
__________
(1) في الأصل: “فعله”.
(2) انظر مجموع الفتاوى (1/ 268 – 276).

(5/115)


في اليمين كالإقسامِ به على الله، وكالتوسُّل بذاتِه.
وهذه الرواية عن أحمد لم يُوافِقْها [أحدٌ] من الأئمة، بل جمهورُ الأئمة على الرواية الأخرى عنه، وهو أنه لا يُشرَع الحلفُ بمخلوقٍ لا النبيِّ ولا غيرِه، ولا يجب بذلك كفارة. وتلك الرواية اختارها طائفة من أصحابه ونَصَرُوها في الخلاف، كالقاضي والشريف أبي جعفر وابن عقيل وغيرهم. ثمّ أكثر هؤلاء يقولون: هذا الحكمُ مختصٌّ به، لكون الإيمان به بخصوصه ركنًا في الإيمان، لا يتمُّ الإيمان إلاّ بالشهادتين. وذكر ابن عقيل أن حكم سائر الأنبياء كذلك في انعقاد اليمين بالحلف بهم.
وأما جماهيرُ علماء المسلمين من السَّلَف والخلف فعلَى أنه لا ينعقد اليمينُ بمخلوقٍ، لا الأنبياء ولا غيرِهم، كالرواية الثانية عن أحمد. وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة واختيارُ طائفةٍ من أصحاب أحمد، وهذا القول هو الصواب، فإنه قد ثبت في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لا تحلفوا إلاّ بالله”، وقال: “من كان حالفًا فليحلِفْ بالله أو ليَصْمُت”. وفي السنن (2) عنه أنه قال: “مَن حَلَفَ بغير الله فقد أشرك”.
وقال ابن مسعود وابن عباس: “لأن أحلفَ كاذبًا أحبُّ إليَّ
__________
(1) البخاري (3836، 6108، 6646، 6648) ومسلم (1646) عن عبد الله بن عمر.
(2) أخرجه أبو داود (3251) والترمذي (1535) عن عبد الله بن عمر. قال الترمذي: هذا حديث حسن.

(5/116)


[من] أن أحلفَ بغيرِه صادقًا” (1). وذلك لأن الحلفَ بغير الله شركٌ، والشركُ أعظمُ إثمًا من الكذب. وهذا يوافقُ أظهرَ قولَي العلماء أن النهيَ عن الحلف بالمخلوقات نهيُ تحريم لا نهيُ تنزيهٍ، وهذا قول أكثرِ العلماء، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد.

وإذا كان الحلفُ بغير الله من باب الشرك، فمعلومٌ أنه لا يجوز أن يُشرَكَ به ولا يُعْدَلَ به ولا يُسَوَّى به الأنبياءُ وغيرُهم، قال تعالى: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (2)، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)) (3). قال طائفة من السلف (4): كان قوم يدعون الملائكة والأنبياء، فأنزلَ الله هذه الآية بيَّن فيها أن الملائكة والأنبياء قد يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه، كما أن سائر العباد يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه، فلا يجوز دعاءُ الملائكةِ والأنبياءِ. وقد قال رجلٌ للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما شاءَ الله وشئتَ، فقال: “أجَعَلْتَني لله نِدًّا؟ قُلْ: ما شاء الله وحدَه” (5). وقال: “لا تقولوا ما شاء الله
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في “المصنّف” (8/ 469) عن ابن مسعود.
(2) سورة آل عمران: 80.
(3) سورة الإسراء: 56 – 57.
(4) انظر صحيح البخاري (4714، 4715) وتفسير الطبري (15/ 72 – 73) وابن كثير (5/ 2103).
(5) أخرجه البخاري في “الأدب المفرد” (783) والنسائي في “عمل اليوم والليلة”=

(5/117)


وشاءَ محمدٌ، بل قولوا ما شاء الله ثمَّ شاءَ محمدٌ” (1). فنهاهم [أن] يُشرِكوا به حتى في مثلِ هذه الأقوالِ.
وقد أمرَ الله أن يقولَ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) (2) الآية. ولما قال الأعرابي: ومَن يَعْصهما فقد غَوى، قال: “بئسَ الخطيبُ أنتَ، قُلْ: ومن يَعْصِ الله ورسولَه” (3).
مع أنه قد رُوِيَ عنه أنه قال: “ومَن يَعْصِهما” (4)، وذلك لأن هذا إذا قاله من جَعَلَ طاعةَ الرسولِ تابعةً لطاعة الله ويجعله عبدًا للهِ ورسولاً، لم يُنكَر عليه الجمعُ بينهما في الضمير، بخلافِ من قد لا يَفهم ذلك، بل يجعل الرسولَ ندًّا، كقولِ القائل: ما شاء الله وشاء محمد.
وأيضًا فقد نهَى معاذًا وغيرَه عن السجودِ له، وقال: “أرأيتَ لو مررتَ بقبري أكنتَ ساجدًا لقبرِي”؟ قال: لا، قال: “فإنه لا يَصلُح السجودُ إلاّ لله” (5).
__________
= (988). وابن ماجه (2117) من حديث ابن عباس. وفي إسناده الأجلح الكندي مختلف فيه. والحديث صحيح لشواهده.
(1) أخرجه أحمد (5/ 393) والنسائي في “عمل اليوم والليلة” (984) وابن ماجه (2118) من حديث حذيفة بن اليمان. وله شواهد من حديث الطفيل بن سخيرة وقتيلة بن صيفي وجابر بن سمرة.
(2) سورة آل عمران: 64.
(3) أخرجه مسلم (870) وأبو داود (1099، 4981) والنسائي (6/ 90) عن عدي بن حاتم.
(4) أخرجه أبو داود (1097، 2119) عن ابن مسعود، وصححه النووي في شرح مسلم (6/ 160).
(5) أخرجه الدارمي (1471) وأبو داود (2140) عن قيس بن سعد.

(5/118)


وأيضًا فقد ثبتَ في الصحيح (1) أنهم لما صَلَّوا خلفَه قيامًا وهو قاعدٌ لمرضِه قال: “لا تُعظِّموني كما تُعظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضًا”.
فنهاهم أن يقوموا -مع أنّ قيامَهم كان لله- لئلاّ يُشبِهوا مَن يقوم له.
وقال: “اللهم لا تجعلْ قبري وثنًا يُعبَد” (2).
وفي الصحيحين (3) عنه أنه قال [في] مرض موته: “لعنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ” يُحذر ما فَعَلُوا. قالت عائشة (4): ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذَ مسجدًا.
وفي السنن (5) عنه أنه قال: “لا تتخذوا بيتي عيدًا، وصَلُّوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تَبلُغني”.
وفي الصحيح (6) عنه أنه قال: “لا تُطْرُوني كما أَطْرتِ النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا [عبدٌ] فقولوا: عبد الله ورسوله”.
فهذه النصوص وغيرُها تُبيِّن أنه نهاهم عن الشركِ به والغُلوِّ فيه، وسَدَّ هذه الذريعةَ بنَهْيِهم أن يتخذوا قبرَه مسجدًا، وأن يقولوا
__________
(1) أخرجه مسلم (413) عن جابر بمعناه.
(2) أخرجه أحمد (2/ 246) والحميدي في مسنده (1025) بإسناد صحيح عن أبي هريرة.
(3) البخاري (435، 436 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس.
(4) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529).
(5) أخرجه أبو داود (2042) وأحمد (2/ 367) بسند حسن عن أبي هريرة.
(6) أخرجه البخاري (3445، 6830) عن عمر بن الخطاب.

(5/119)


ما شاء الله وشاء محمد، وأنه دُفِنَ في بيتِه ولم يُظْهَر قبرُه خوفَ الإشراك.
وإذا كان كذلك، والقسم بالمخلوقِ شرك بالمخلوق، والشرك لا يجوز به ولا بغيرِه، فلا يجوز القسمُ به، كما قال الجمهورُ، ولا تنعقدُ اليمينُ به، ولا يجبُ بذلك كفارة.
وقد تنازعَ العلماءُ في الصلاة عليه عند الذبيحةِ، فكرِهَ ذلك مالك وأحمد وغيرهما، لئلاَّ يُذكرَ على الذبيحة غيرُ الله، خوفًا من الإهلال بها لغيرِ الله من أن ذلك صلاة عليه. ورخَّصَ في ذلك الشافعي وأبو إسحاق ابن شاقلا من أصحاب أحمد، قالوا: لأن الصلاة عليه من باب الإيمان، وهذا بخلافِ الإقسَامِ به، فإنَ الإقسامَ بسائرِ المخلوقات شرك به، والشرك به لا يجوز بحال.
وكلُّ ما كان من خصائص الربِّ: كالعبادة لله، والنذر لله، والصدقة لله، والتوكل على الله، والخوف من الله، والخشية لله، والرغبة إلى الله، والاستعانة به، وغير ذلك مما هو من خصائص الربِّ= فإنه لا يجوز أن يُفعَل بمخلوق، لا الأنبياءِ ولا غيرِهم، ولا يُستثنَى من ذلك أحد.
وإذا كان الإقسامُ به منهيًّا عنه لا يَنعقِدُ به اليمينُ ولا يجبُ به الكفّارة، فالاقسام به على الله أولى أن يكون منهيًّا عنه، وكذلك الإقسامُ بسائرِ المخلوقات على الله.
وكذلك التوسُّلُ بذواب الملائكة والأنبياء والصالحين أيضًا كذلك، فإن أعظم الوسائل للخلقِ إلى الله هو محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأعظم وسائل الخلقِ إلى الله التوسّل بإيمانٍ به: بتصديقِه فيما أخبرَ،

(5/120)


وطاعتِه فيما أوجبَ وأمرَ، وموالاةِ أوليائِه ومعاداةِ أعدائه، وتحليلِ ما حَلَّل، وتحريمِ ما حرَّم، وإرضائِه ومحبتِه، وتقديمِه في ذلك على الأهلِ والمال. فهذه الوسيلة التي أمرَنا الله بها في قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (1). فالوسيلة ما يتوسَّلُ به، [و] هو ما يتوصَّل [به]، والتوسل والتوصل إلى الله إنما هو بالإيمان بالرسول وتصديقِه وطاعتِه، لا وسيلةَ للخلقِ إلى الله إلاّ هذه الوسيلة. ثمّ من آمن بالرسول إذا دَعا له الرسولُ وشفعَ فيه، كان دعاءُ الرسولِ وشفاعتُه مما يتَوسَّلُ به. فهذا هو التوسُّلُ بالرسول.
فأمّا إذا قُدِّر أن الرجلَ لم يُطِعْه، وهو لم يَدْعُ للإنسانِ، فنفسُ ذاتِ الرسول لا يَنفعُ الإنسانَ شيئًا، بل هو أعظمُ الخلقِ عند الله قَدْرًا وجاهًا، وذلك فضلُ الله عليه وإحسانُه إليه، وإنما يَنتفِعُ العِبادُ من ذلك بما يقومُ بهم من الإيمان به، أو ما يقومُ به من الدعاءِ لهم. فأما إذا قام بهم دعاؤُه والإقسامُ به فهذا لا يَنفعُهم.
والدعاء من أفضل العبادات، ولم يَنقُل أحدٌ عنه أنه شَرَع لأمتِه الإقسامَ بأحدٍ من الأنبياء والصالحين على الله، فمن جَعَلَ ذلك مشروعًا -واجبًا أو مستحبًّا- فقد قَفَا ما لا عِلْمَ له به، وقال قولاً بلا حجةٍ، وشرع دينًا لم يأذَنْ به الله.
وإذا لم يكن ذلك واجبًا ولا مستحبًّا كان من فَعَلَه معتقدًا أنه واجبٌ أو مستحب مُخطِئًا في ذلك، وإذا كان مجتهدًا [أو] مقلِّدًا
__________
(1) سورة المائدة: 35.

(5/121)


فله حُكْمُ أمثالِه من المجتهدين والمقلدين يُعفَى عنِ خَطَئِه. فأما إذا أنكرَ على غيره بلا علم، ورَدَّ الأقوالَ بلا حجةٍ، وذمَّ غيرَه ممن هو مجتهد أو مقلد، فهو مستحق للتعزير والزجر، وإن كان المنازع له مخطئًا، فإن المجتهدَ المخطئَ غَفَر الله له خَطأَه، فكيف إذا كان المنازعُ له المصيبَ وهو المخطئُ؟!
ولكنّ شأنَ أهل البدع أنهم يبتدعون بدعةً، ويُوالونَ عليها ويُعادُون، ويَذُمُّون بل يُفسِّقون بل يُكفرون من خالفهم، كما يَفعلُ الخوارجُ والرافضةُ والجهميةُ وأمثالُهم. وأما أهل العلم والسنة فيتبعون الحقَّ الذي جاءَ به الكتابُ والسنة، ويَعذُرونَ مَن خالفَهم إذا كان مجتهدًا مخطئًا أو مقلدًا له، فإنَّ الله سبحانَه وتعالى تجاوَز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال في دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (1). وقد ثبتَ في الصحيح (2) أن الله استجابَ هذا الدعاء، وقال: قد فَعلتُ.
والكلامُ على هذه المسائل قد بُسِطَ في مواضعَ غيرِ هذا، وصنّفت فيه مصنفات، وللعلماء في ذلك وما يتعلقُ به من الكلام ما لا يَتَّسِعُ له هذا الموضع. والله أعلم.
(آخره. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلَّم تسليمًا).
__________
(1) سورة البقرة: 286.
(2) أخرجه مسلم (125) عن أبي هريرة، و (126) عن ابن عباس.

(5/122)


الفُتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله)

(5/123)


(قال في فُتيا له تُسمى “بالأزهرية”:)
ومن قال: إنّ القرآن عبارة عن كلام الله تعالى، وقعَ في محذوراتٍ:
أحدها: قولهم “إنّ هذا ليسَ هو كلامَ الله”، فإنَّ نَفْيَ هذا الإطلاقِ خلافُ ما عُلِمَ بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ، وخلافُ ما دلَّ عليه الشرعُ والعقلُ.
والثاني: قولهم “عبارة” إن أرادوا أنَّ هذا الثاني هو الذي عَبَّرَ عن كلامِ الله تعالى القائمِ بنفسِه، لَزِمَ أن يكونَ كلُّ تالٍ مُعبِّرًا عمّا في نفسِ الله تعالى. والمعبِّرُ عن غيرِه هو المُنشِئُ للعبارةِ، فيكونُ كلُّ قارئٍ هو المُنْشِئ لعبارةِ القرآن. وهذا معلومُ الفسادِ بالضرورة.
وإن أرادوا أنَّ القرآنَ العربيَّ عبارة عن معانيه، فهذا حق، إذْ كلُّ كلامٍ فلفظُه عبارة عن معناه، لكنَّ هذا لا يَمنع أن يكون الكلامُ متناوِلاً للفظ والمعنى.
الثالث: أنَّ الكلام قد قيل: إنّه حقيقةٌ في اللفظِ مجازٌ في المعنى، وقيل: حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ، وقيل: بل حقيقة في كلٍّ منهما. والصوابُ الذي عليه السلفُ والأئمةُ أنه حقيقةٌ في مجموعهما.
كما أنَّ الإنسانَ قيل: هو حقيقةٌ في البدنِ فقط، وقيل: بل في الروحِ فقط. والصوابُ أنه حقيقة في المجموع. فالنزاعُ في الناطق كالنزاع في مَنْطِقِه.

(5/125)


وإذا كان كذلك فالمتكلِّمُ إذا تكلَّم بكلامٍ له لفظ ومعنى، وبُلِّغَ عنه بلفظِه ومعناه، فإذا قيل: مَا بلَّغَه المبلِّغُ من اللفظ إنّ هذا عبارة عن القرآن، وأرادَ به المعنى الذي للمبلَّغِ عنه= نَفَى عنه اللفظَ الذي للمبلَّغ عنه، والمعنى الذي قام بالمبلِّغ. فمن لم يثبتْ إلاّ القرآن المسموعَ الذي هو عبارة عن المعنى القائمِ بالذات، قيل له: فهذا الكلامُ المنظومُ الذي كانَ موجودًا قبلَ قراءةِ القُرَّاءِ هو موجود قطعًا وثابت، فهل هو داخلٌ في العبارةِ والمعبرِ عنه أو غيرُهما؟
فإن جَعلتَه غيرَهما بَطَلَ اقتصارُك على العبارة والمعبرِ عنه، وإن جعلتَه أحدَهما لَزِمَك إن لم تُثْبتْ إلاّ هذه العبارةَ والمعنى القائمَ بالذاتِ أن تجعلَه نفسَ ما سُمِعَ منَ القرّاء، فتَجعلَ عينَ ما بلغَه المبلِّغون هو عين ما سمعوه، وهذا الذي فررتَ منه.
وأيضًا فيقالُ له: القارئ المبلِّغُ إذا قَرأ فلابُدَّ له فيما يقوم به من لفظٍ ومعنى، وإلاّ كان اللفظُ الذي قام به عبارةً عن القرآن، فيجبُ أن يكون عبارةً عن المعنى الذي قامَ به، لا عن معنًى قامَ بغيرِه.
فقولهم “هذا هو العبارةُ عن المعنى القائم بالذات” أخطأوا من وجهين:
أخطأوا في بيان مذهبِهم، فإنَّ حقيقةَ قولهم: أنَّ اللفظَ المسموعَ من القارئ حكايةُ اللفظِ الذي عَبَّر به عن معنى القرآن مطلقًا، وذلك أنَّ اللفظ عبارةٌ عن المعنى القائم بالذات، ولفظُه ومعناه حكايةٌ عن ذلك اللفظ والمعنى.

(5/126)


ثمَّ إذا عُرِفَ مذهبُهم بَقِيَ خَطَؤُهم في أصولٍ:
منها: زَعْمُهم أنَّ معاني القرآنِ معنىً واحد هو الأمرُ والنهيُ والخبرُ، وأنَّ معنى التوراةِ والإنجيل والقرآنِ معنى واحدٌ، ومعنى آية الكرسي معنى آيةِ الدَّين. وفسادُ هذا معلومٌ بالضرورة.
ومنها: زَعْمُهم أنَّ القرآنَ العربيَّ لم يتكلَّم الله به.
(وأطالَ في ذلك وبَرهنَ عليه بما يَطولُ هنا ذِكْرُه، وقال بعد ذلك:)
وأوَّلُ من قال هذا في الإسلام عبدُ الله بن سعيد بن كُلاَّب، وجَعَلَ القرآنَ المنزَّلَ حكايةً عن ذلك المعنى. فلما جاءَ الأشعريُّ واتبعَ ابنَ كُلاَّب في أكثرِ مقالتِه ناقشه على قوله: “إنّ هذا حكايةٌ عن ذلك”، وقالً: الحكايةُ تُماثِلُ المحكيَّ. فهذا اللفظُ يَصِحُّ من المعتزلةِ، لأنَّ ذلك المخلوقَ حروفٌ وأصواتٌ عندهم وحكايةٌ مثله، وأما على أصلِ ابن كُلاَّبٍ فلا يَصِحُّ أن يكون حكايةً. بل نقولُ: “إنّه عبارةٌ عن المعنى”.

فأوَّلُ مَن قال بالعبارةِ الأشعريُّ. وكان البلاقلاَّني -فيما ذُكِرَ عنه- إذا دَرَّسَ مسألةَ القرآن يقولُ: هذا قولُ الأشعري ولم يَتبيَّنْ صحتَه، أو كلامًا هذا معناه.
وكان الشيخ أبو حامدٍ الإسفراييني يقول: مذهبُ الشافعي وسائرِ الأئمةِ في القرآن خلافُ قولِ الأشعري، وقولُهم هو قولُ الإمام أحمد (1).
__________
(1) انظر “مجموع الفتاوى” (12/ 160 – 161).

(5/127)


وكذلك أبو محمد الجويني ذكرَ أنَّ الأشعريَّ خالفَ في مسألةِ الكلامِ قولَ الشافعيِّ وغيرِه، وأنه أخطأ في ذلك.
وكذلك سائرُ أئمةِ أصحابِ مالكٍ والشافعيّ وغيرِهما يَذكرون قولَهم في حَدِّ الكلام وأنواعِه من الأمر والنهي والخبر العامّ والخاصّ وغير ذلك، ويجعلونَ الخلافَ في ذلك مع الأشعري، كما هو مبيَّنٌ في أصول الفقه التي صنفها أئمةُ أصحابِ أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم.
(ثم قال بعدَ ذلك:) ومن قالَ من المعتزلةِ والكُلاَّبيَّة: إنّ القرآنَ المنزَّلَ حكايةُ ذلك، وظَنّوا أنَّ المبلِّغ حاكٍ لذلك الكلامِ، ولفظُ الحكايةِ قد يُرادُ به مُحاكاةُ الناسِ فيما يقولونه ويفعلونَه اقتداءً بهم وموافقةً لهم؛= فمن قال: إنَّ القرآن حكايةُ كلامِ الله تعالى بهذا المعنى، فقد غَلِطَ وضَلَّ ضلالاً مُبينًا، فإنّ القرآنَ لا يَقدِرُ الناسُ على أن يأتوا بمثلِه، ولا يَقدِر أحد أَن يأتي بما يَحكِيْه.
وقد يُراد بلفظ “الحكاية” النقلُ والتبليغ، كما يقال: “فلان حكَى عن فلانٍ أنه قال كذا”، كما يقال عنه: “نقلَ عنه”. فهذا بمعنى التبليغ للمعنى. وقد يقال: “حُكِيَ عن فلان أنه قالَ كذا وكذا”، لِما قالَه بلفظِه ومعناه، فالحكايةُ هنا بمعنى التبليغ للفظ والمعنى، لكن يُفَرَّق بينَ أن يقول: حَكيتُ كلامَه على وجهِ المماثلةِ له، وبينَ أن يقول: حكيتُ عنه كلامَه، وبَلَّغتُ عنه أنه قال مثلَ قوله من غيرِ تبليغ عنه، وقد يُرادُ به المعنى الآخر، وهو أنه بَلَّغَ عنه ما قالَه.
فإن أُرِيدَ المعنى الأولُ جازَ أن يُقالَ: هذا حَكايةُ كلامِ فلانٍ،

(5/128)


وهذا مِثلُ كلامِ فلانٍ، وليسَ هو مبلِّغًا عنه كلامَه. وإن أُريدَ به المعنى الثاني -وهو ما إذا حكى الإنسانُ عن غيرِه ما يقولُه وبلَّغَه عنه- فهنا يُقال: هذا كلامُ فلانٍ، ولا يُقال: هذا حكايةُ كلامِ فلانٍ.
كما لا يُقال: هذا مثلُ كلام فلان. بل قد يُقال: هذا كلامُ فلان بعينه، بمعنى أنه لم يُغيِّرْه ولَم يُحرِّفْ، ولم يَزِدْ ولم يَنقُص.

(5/129)


فتوى في الخضر

(5/131)


بسم الله الرحمن الرحيم
(قال بعد حكاية القول بحياة الخضر واحتجاج القائلين به ما نصه:)
وقالت طائفةٌ: هو ميت، فإنَّ حياتَه ليس فيها دليلٌ يَصلُح مثلُه للخروج عن العادة المعروفةِ في بني آدم، وذلك بأنَّ حياتَه ليس فيها خبرٌ صحيح عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ولا عن أصحابه. والحديث المذكور في مسند الشافعي (1) مرسل ضعيف. والحديث الذي يُروَى في اجتماع الخضر وإلياس كلَّ عامٍ بالموسم وافتراقِهما على تلك الكلمات (2) هو أضعفُ من ذلك الحديث، والكلماتُ كلماتٌ حسنةٌ، لكنَّ الخبرَ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – باجتماعِهما كلَّ عامٍ وافتراقِهما على هؤلاء الكلمات خبرٌ ضعيف. وإذا لم يكن فيه خبرٌ صحيح عمن عَلَّم أمَّتَه كلَّ شيء،
__________
(1) انظر ترتيبه لمحمد عابد السندي (1/ 216). ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في “دلائل النبوة” (7/ 268) عن علي بن الحسين مرسلاً. وفي إسناده شيخ الشافعي القاسم العمري متروك. وروي من وجه آخر ضعيف، ولا يصحّ. انظر “البداية والنهاية” (2/ 258).
(2) أخرجه ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (16/ 426 – 427) وابن الجوزي في “الموضوعات” (1/ 195) عن ابن عباس. قال الدارقطني في “الأفراد”: هذا حديث غريب من حديث ابن جريح، لم يحدّث به غير هذا الشيخ عنه. يعني الحسن بن رزين. وقال ابن المنادي: هو حديث واهٍ. انظر “البداية والنهاية” (2/ 261).

(5/133)


وقال أبو ذر (1): لقد توفي رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وما طائرٌ يُقلِّب جَناحَيْه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا، ونحو ذلك، مع أنه أخبرَهم بقصته مع موسى وتفصيلِ ما جَرى له معه، وقال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “وَدِدْتُ أنَّ موسى صَبَرَ حتى يُقَصَّ علينا من خبرِهما” (2). فلو كان حيًّا كانت حياتهُ أعجبَ من ذلك كلِّه، فكيف لا يُخبِر بذلك النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أم كيف يُخبِرُ به فلا يُبلغُه أصحابُه ولا كانَ هذا معروفًا عندهم؟
وأيضًا فلو كان حيًّا لكان يجتمع بالنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه قد اجتمعَ به ليلةَ المعراجِ من ماتَ قبلَه، فكيفَ لا يَجتمعُ به مَن هو حَيّ في وقتِه؟
وأيضًا كان يجب عليه الإيمانُ به والمجاهدةُ معه، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ) (3) الآية. قال ابن عباس (4): ما بعثَ الله نبيًّا إلا أخذَ عليه الميثاقَ لئن بُعِثَ محمد وهو حيٌّ ليؤمنَنَّ به ولينصُرَنَّه، وأمرَه أن يأخذ الميثاقَ على أمتِه لئن بُعِثَ محمدٌ وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصُرُنَّه.
والخضر إما نبيٌّ أو من أتباع الأنبياءِ، وعلى التقديرين فعليه أن يُؤمنَ بمحمدٍ ويَنصُرَه، ومعلوم أن ذلك لو وقعَ لكان مما تَتوفَّر الدَّواعي والهِمَمُ على نقلِه، فقد نَقَلَ الناسُ مَن آمنَ بمحمدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من الأحبارِ
__________
(1) أخرجه أحمد (5/ 153، 162) عنه.
(2) أخرجه البخاري (3401) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب.
(3) سورة آل عمران: 81.
(4) انظر تفسير ابن كثير (2/ 728).

(5/134)


والرُّهبان، فكيف لا يُنقَل إيمانُ الخضرِ وجهادُه معه لو كان قد وقعَ؟
وقولُ من قال: “الخضر كان حيًّا في حياته” بمنزلةِ قولِ من يقولُ: “يُوشَع بن نُون كان حيًّا أو بعضُ أنبياءِ بني إسرائيل كإلياسَ”، وهذا باطلٌ لمقدمتين:
إحداهما: لو كانَ حيًّا لوجبَ عليه أن يُؤمنَ به ويُهاجِرَ إليه ويُجاهِدَ معه.
والثانية: أنَّ ذلك لو وقعَ لتوفَّرتِ الدواعيْ والهِمَمُ على نقلِه.
وإذا كانَ هارونُ ونحوُه تبعًا لموسى، وكان أنبياءُ بني إسرائيلَ تبعًا لموسى، فكيفَ لا يكون الخضرُ ونحوُه إنْ قُدِّرَ نبوتُه تبعًا لمحمدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الذي ما خَلَقَ الله خلقًا أكرمَ عليه منه، وما تَلَقَّوه عن الله بواسطةِ محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أفضلُ مما تَلَقَّوه بغيرِ واسطةِ موسى.
وأيضًا فإنَ النبيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد أخبرَ بنزولِ المسيح ابنِ مريمَ آخرَ الزمانِ، وذكرَ أنه يَحكُمُ فينا بكتاب الله وسنة رسوله (1)، والمسيحُ أفضلُ من الخضرِ، فلو كان الخضرُ حَيًّا لكان يكونُ مع محمدٍ ومع المسيحِ ابنِ مريمَ. وقول بعضِ الناس (2): “إن الرجلَ الذي يقتلُه الدَّجَّالُ هو الخضرُ” لا أصلَ له.
__________
(1) أحاديث نزول المسيح متواترة، وقد جمعها السيوطي وغيره.
(2) قال معمر: بلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه. انظر مصنف عبد الرزاق (20824). وقال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان راوِي صحيح مسلم: يقال إن هذا الرجل هو الخضر. انظر صحيح مسلم (2938). وليس في مثل هذا البلاغ حجة، ولا مستندَ لهذا القول.

(5/135)


(ثم قال:) وعدمُ إيمانه بموسى إنما كان لأنَّ موسى لم يُبعَثْ إليه، كما في الحديث الصحيح (1): إنَّ موسى لمّا سلَّم عليه قال له: وأنَّى بأرضِك السلامُ؟ فقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيلَ؟ قال: نعم. وقال في أثنائِه: يا موسى إني على علمٍ علَّمنِيْه الله لا تَعلَمه، وأنتَ على علم من علمِ الله عَلَّمَكَه الله لا أَعْلَمه.
وأما محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فدعوتُه عامةٌ لجميع الخلقِ أَسْودِهم وأَحْمرِهم، فلا يُمكِنُ الخضرَ وغيرَه أن يُعامِلَ محمَدًا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ويُخاطِبَه كما عاملَ موسى وخاطبَه، بل على كلِّ من أدركَ مبعثَه أن يُؤمِنَ به ويُجاهِدَ معَه، ولا يَستغنِيَ بما عنده عما عنده. وكلُّ مَن جَوَّزَ لأحد ممن أدركَتْه دعوةُ الرسولِ أن يكونَ مع محمدٍ كما كان الخضرُ مع موسى= فهو ضَالّ ضلاَلاً مُبِيْنًا، بل هو كافرٌ يُستَتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِلَ.
ولهذا لم يكن في العلم بحياةِ الخضرِ بتقديرِ صحتِها ولا في وجودِه حيًّا مَنفعة للمسلمين، ولا فائدة لهم في ذلك، فإنه في المسند والنسائي عن جابرٍ (2) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رأى بيدِ عمر بن الخطاب ورقةً من التوراةِ، فقال: “أَمُتَهَوكَونَ يا ابنَ الخطّاب؟ لقد جِئتكُم بها بَيضاءَ نقيَّة، لو كان موسى حيًّا لَما وَسِعَه إلاّ اتباعِيْ”.
فإذا كانَ هذا حالَ الأمةِ مع موسى فكيفَ مع الخضرِ وأمثالِه؟
__________
(1) أخرجه البخاري (3401) ومسلم (2380) عن أبي بن كعب.
(2) أخرجه أحمد (3/ 387) والدارمي (441). وفي إسناده مجالد ضعيف.
ومع ذلك صححه ابن كثير في “البداية والنهاية” (1/ 458). وقد حسنه الألباني في “إرواء الغليل” (1589) لشواهده.

(5/136)


والمسيحُ إذا نَزلَ إنّما يَحكُم في الأمَّةِ بكتابِ ربِّها وسنَّةِ نبيها. فليستْ هذه الأمة محتاجةً في شيء من دِينها إلى غيرِ كتاب الله وسنة رسوله، لا إلى شيء آخر، ولا إلى غيرِ نبيٍّ لا خَضِرٍ ولاَ غيرِه، فإن الذي يَجيْئُهم إن جاءَهم بما عُلِمَ في الكتاب والسنَّةِ لم يُحْتَجْ إليه فيه، وإَن جاءَهم بخلافِ ذلك كانَ مردودًا علَيه.
ولهذا كان أكثرُ من يتكلم في هذه الأشياءِ أهلُ الضَّلالِ والحيرةِ والتهوُّكِ الذين لم يَستبينُوا طريقَ الهدى من كتاب الله وسنَّةِ رسوله، بل يتعلقون بالمجهولاتِ ويرجِعون إلى الضلالاتِ. ونجدُ كثيرًا منهم يَعنُون بالخضر الغوثَ.
(ثم أطالَ الكلامَ في تقريرِ ذلك).

(5/137)


سؤال في يزيد بن معاوية

(5/139)


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
سئل شيخ الإسلام الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في يزيد بن معاوية هل كان صحابيًّا؟ وما حكمُ مَنْ يعتقدُ أنه [كان] صحابيًا أو أنه كان نبيًّا؟ وهل في الصحابة مَنْ اسمه يزيد؟
فأجاب رضي الله عنه فقال:
الحمدُ لله رب العالمين. يزيدُ بن معاوية بن أبي سُفيان الذي تولَّى على المسلمين بعد أبيه معاوية بن أبي سفيان لم يكن من الصحابة، ولكن عمه يزيد بن أبي سفيان من الصحابة. فإن أبا سفيان بن حرب كان له عدّة أولاد: منهم يزيد بن أبي سفيان، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، ومنهم أمُّ حبيبة أمُّ المؤمنين، تزوَّجها رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانت قد آمنت قبل أبيها وأخويها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، ثم حَلَّتْ من زوجها، فخطبها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وزوَّجَها ابن عمها خالدُ بن سعيد (1). وأصدقَ النجاشيُّ صَداقَها عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (2).
__________
(1) انظر طبقات ابن سعد (8/ 99).
(2) أخرجه أحمد (6/ 437) وأبو داود (2107) والنسائي (6/ 119) عن أم حبيبة.

(5/141)


وزوجة أبي سفيان هندُ بنت عتبة بن ربيعة.
فلما كان عامُ فَتْحِ مكة أسلم أبو سفيان وامرأتُه وأولاده، وأسلم سائرُ رؤساء قريش مثل سُهَيْل بن عمرو، والحارث بن هشام أخي أبي جهل بن هشام، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عمّ النبيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغير هؤلاء، وأسلم أيضًا عِكْرِمَةُ بن أبي جهل، وصَفْوان بن أمية، وغيرُهما.
وهؤلاء كانوا سادات قريش وأكابرَهم بعد الذين قُتلوا منهم ببدْر، وكانوا قبل ذلك كُفَّارًا مُحاربين لله ورسوله، قد قاتلوه يوم أحُد ويوم الأحزاب، ثم لما فتح النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مكة مَنَّ عليهم وأطلقهم فسُمّوا الطلَقَاء.
وكان قد أخذ بعضادتَي البيت فقال (1): ماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نقولُ: أخٌ كريم وابنُ عم كريم، قال: إني قائل لكم ما قال يوسف لإخوته: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)) (2).
وكان إسلامُ أبي سفيان قبل دخول النبيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مكة بمرّ الظهران.
وهرب منه عكرمة ثم رجع فأسلم. وصفوان وغيره شهدوا حُنينًا وهم كُفّار، ثم أسلموا بعد ذلك.
__________
(1) أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 143) بإسناد حسن، ولكنه مرسل. وانظر طبقات ابن سعد (2/ 141 – 142).
(2) سورة يوسف: 92.

(5/142)


وعامةُ هؤلاء الذين أسلموا عام الفتح حَسُنَ إسلامُهم، مثل سُهَيْل بن عمرو، ومثلُ عِكْرِمَة بن أبي جهل، ومثل يزيد بن أبي سفيان، ومثل الحارث بن هشام، ومثل أبي سفيان بن الحارث.
فإنّ هؤلاء صاروا من خيار المسلمين.
فلما توفي رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – واستُخْلِفَ أبو بكر وقام بجهاد المرتدِّين والكافرين أمَّر الأمراءَ لقتال النصارى بالشام وفَتْحِ الشام. فكان ممن أمَّره يزيدُ بن أبي سفيان أخو معاوية وعمُّ يزيد الذي تولّى الملك. وأمر خالدَ بن الوليد، وأمَّر عمرو بن العاص، وأمَّر شرحبيل بن حَسَنَة، وهؤلاء كلُّهم من الصحابة.
ومشى أبو بكر الصديق في ركاب يزيد بن أبي سفيان ووصاه بوصية معروفة عند العلماء ذكرها مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وغيرهم، واعتمد عليها العلماء في الجهاد.
ففي “الموطأ” (1) عن يحيى بن سعيد أنّ أبا بكر الصدّيق بعث جيوشًا إلى الشام، فخرج معه يزيد بن أبي سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع. فزعموا أنَّ يزيد قال لأبي بكر: إمَّا أن تركب وإما أن أنزل. فقال أبو بكر: ما أنت بنازل وما أنا براكب. إني أحتسب خُطاي هذه في سبيل الله.
ثم قال: إنك ستجد قوما حَبَّسوا أنفسهم لله، فَذَرْهُمْ وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له. وستجد قومًا فَحَصُوا عن أوساط
__________
(1) 2/ 447 – 448.

(5/143)


رؤوسهم، فاضربْ ما فحصوا عنه بالسيف. وإنِّي موصيك بعشرٍ: لا تقتلنّ امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرِمًا، ولا تَقطعنَّ شجرًا مثمرًا، ولا تخربنّ عامرًا، ولا تعقرنّ شاةً ولا بعيرًا إلاَّ لمأكلة، ولا تحرقنّ نخلاً ولا تُفَرِّقنه، ولا تَجْبُنْ ولا تغلُلْ. وذكر وصية أخرى.
ويزيد هذا الذي أمَّرهُ الصدّيقُ وكان من الصحابة هو عند المسلمين من خيار المسلمين، وهو رجلٌ صالح، وهو عند المسلمين خَيْر من أبيه أبي سفيان ومن أخيه معاوية.
فلما فتح المسلمون بلاد الشام في خلافة أبي بكر وعمر وتُوفي أبو بكر واستُخلِفَ عمر، كان أبو عبيدة بن الجراح ويزيدُ بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيلُ بن حَسَنَة نُوّابًا لعمر بن الخطاب على الشام.
وكان الشامُ أربعةَ أرباع:
الربعُ الواحد: ربعُ فلسطين، وهو بيتُ المقدس إلى نهر الأردُنّ الذي يقال له الشريعة.
والربعُ الثاني: ربع الأردُنّ وهو من الشريعة إلى نواحي عجْلون إلى أعمال دمشق.
والربع الثالث: دمشق.
والربع الرابع: حمص.
وكانت سِيْسُ وأرضُ الشمال من أعمال حمص.

(5/144)


ثم إنه في زمن معاوية أو يزيد جُعل الشام خمسة أجناد، وجُعلت قِنِّسْرين والعواصمُ أحدَ الأخماس.
وكان المسلمون قد فتحوا الشام جميعها إلى سيْس وغيرها، وفتحوا قبرص. كان معاويةُ قد فتحها في خلافة عثمان بن عفّان.
وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد أخبر بغزوات البحر، وأخبر أمّ حَرَام بنت ملحان أنها تكون فيهم (1)، فكان كما أخبر به النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فلما كان في أثناء خلافة عمر بن الخطاب مات في خلافته أبو عُبيدة بن الجرّاح، ومات أيضًا يزيد بن أبي سفيان.
ولما كان المسلمون يُقاتلون الكفّار، ويزيد بن أبي سفيان أحدُ الأمراء، كان أبوه أبو سفيان وأخوه معاوية يُقاتلان معه تحت رايته، وأُصيب يومئذ أبو سفيان، أُصيبتْ عينُه في القتال.
فلما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر، ولى عمر مكانه على أحد أرباع الشام أخاه معاوية بن أبي سفيان.
وبقي معاوية أميرًا على ذلك، وكان حليمًا كريمًا، إلى أن قُتِلَ عمر. ثم أقرّه عثمانُ على إمارته، وضم إليه سائرَ الشامِ، فصار نائبًا على الشام كُلّه.
وفي خلافة عثمان وُلد لمعاوية ولدٌ سمّاه يزيد باسم أخيه يزيد.
__________
(1) أخرجه البخاري (2788، 2789 ومواضع أخرى) ومسلم (1912) عن أنس بن مالك.

(5/145)


وهذا يزيد الذي وُلد في خلافة عثمان هو الذي تولّى الملك بعد أبيه معاوية، وهو الذي قُتِل الحسينُ في خلافته، وهو الذي جرى بينه وبين أهل الحرّة ما جرىَ. وليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين المهديين، بل هو خليفةٌ من الخلفاء الذين تولَّوا بعد الخلفاء الراشدين، كأمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس.
وهؤلاء الخلفاء لم يكنْ فيهم مَنْ هو كافر، بل كلهم كانوا مسلمين، ولكن لهم حَسَنات وسَيئات، كما لأكثر المسلمين، وفيهم مَنْ هو خير وأحسنُ سيرةً من غيره، كما كان سليمانُ بن عبد الملك الذي وَلّى عمر بن عبد العزيز الخلافة من بني أمية، والمهديُّ والمُهْتَدي، وغيرُهما من خلفاء بني العباس، وفيهم مَنْ كان أعظم تأييدًا وسلطانًا، وأقهرَ لأعدائه من غيره، كما كان عبدُ الملك والمنصورُ.
وأما عمرُ بن عبد العزيز فهو أفضل من هؤلاء كلهم عند المسلمين، حتى كان غيرُ واحد من العلماء كسُفيان الثَّورِيّ وغيره يقولون: الخلفاءُ خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعمرُ ابن عبد العزيز. وإذا قيل: “سيرة العمرين” فقد قال أحمد بن حنبل وغيرُه: العُمران عمرُ بن الخطاب وعمرُ بن عبد العزيز. وأنكر أحمد على من قال: العمران أبو بكر وعمر.
وكان عمر بن عبد العزيز قد أحيا السُنَّة، وأمات البدعة، ونشر العدل، وقَمَعَ الظَّلَمَة مِنْ أهل بيته وغيرهم، وردَّ المظالم التي كان الحجاجُ بن يوسف وغيرُه ظلموها للمسلمين، وقمع أهلَ البدع – كالذين كانوا يسبّون عليًّا، وكالخوارج الذي كانوا يكفّرون عليا

(5/146)


وعثمان ومَن والاهما، وكالقدرية مثل غيلان القَدَريّ وغيره، وكالشيعة الذين كانوا يثيرون الفتن- بعلمه ودينه وعدله.
وأما غيره من الخلفاء فلم يبلغوا في العلم والدين والعدل مبلغه، ولكن كانوا مسلمين باطنًا وظاهرًا، لم يكونوا معروفين بكفرٍ ولا نِفاقٍ، وكان لهم حسناتُ كما لهم سيئات. وكثير منهم أو أكثرُهم له حسناتٌ يرحمُه الله بها، وتترجح على سيئاته، ومقاديرُ ذلك على التحقيق لا يعلمه إلاّ الله.
ويزيدُ هذا الذي ولي الملك هو أول مَن غزا القسطنطينية، غزاها في خلافة أبيه معاوية. وقد روى البخاري في “صحيحه” (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “أول جيشٍ يغزو القسطنطينية مغفورٌ له”.
ومَن قال إنَّ يزيد هذا كان من الصحابة فهو كاذب مُفْتَرٍ، يُعَرَّفُ أنه لم يكن من الصحابة، فإن أصرَّ على ذلك عوقب عقوبةً تردعُه.
وأما من قال إنه كان من الأنبياء فإنه كافر مرتدٌّ يُستتاب، فإن تابَ وإلا قُتل.
ومَن جعله من الخلفاء الراشدين المهديين فهو أيضًا ضالٌّ مُبْتَدِعٌ كاذب.
ومَن قال أيضًا إنه كان كافرًا، أو إنَّ أباه معاوية كان كافرًا،
__________
(1) برقم (2924) عن أم حَرام بنت ملحان لا ابن عمر.

(5/147)


وإنه قتل الحسينَ تشفّيًا وأخذًا بثأر أقاربه من الكفار فهو أيضًا كاذبٌ مفترٍ، ومَن قال إنه تمثل لما أُتي برأس الحسين:
لمّا بدتْ تلك الحمولُ وأَشْرَفَتْ … تلكَ الرؤوسُ على رُبى جَيْرونِ
نَعَقَ الغُرابُ فقلتُ نُحْ أو لا تَنُح … فَلَقَدْ قضيْتُ مِنَ النَّبيّ دُيوني (1)
أو “من الحسين ديوني”.
والديوان الشعري الذي يُعزى إليه عامته كذب، وأعداءُ الإسلام كاليهود وغيرهم يكتبونه للقدح في الإسلام، ويذكرون فيه ما هو كذب ظاهر، كقولهم إنه أنشد (2):
ليْتَ أَشْياخي ببَدْرٍ شَهِدُوا … جَزَعَ الخزْرجَ مِنْ وَقْعِ الأسَلْ
قَدْ قَتَلْنا الكَبْشَ مِنْ أَقْرَانِهم … وَعَدلْناهُ بِبَدْرٍ فَاعْتَدَلْ
وأنه تمثل بهذا ليالي الحرّة فهذا كذب.
وهذا الشعر لعبد الله بن الزّبَعْرَى أنشده عام أُحُدٍ لما قتل المشركون حمزة، وكان كافرًا ثم أسلم بعد ذلك وحَسُن إسلامُه، وقال أبياتًا يذكر فيها إسلامه وتوبته.
__________
(1) الشعر ليزيد في “تذكرة الخواص” لسبط ابن الجوزي (ص 261) والمصادر الشيعية، ولا شك أنه كذبٌ عليه.
(2) ذكر ذلك محمد بن حميد الرازي وهو شيعي، ونقله عنه ابن الجوزي في “المنتظم” (5/ 343) وابن كثير في “البداية والنهاية” (11/ 558). والبيتان من قصيدة لعبد الله بن الزبعري في سيرة ابن هشام (2/ 136 – 137).

(5/148)


فلا يجوز أن يُغْلَى لا في يزيد ولا غيره، بل لا يجوز أن يتكلم في أحدٍ إلا بعلم وعدل.
ومن قال: إنه إمام ابنُ إمام، فإن أراد بذلك أنه تولّى الخلافة كما تولاها سائر خلفاء بني أمية والعباس فهذا صحيح، لكن ليس في ذلك ما يوجب مدحَه وتعظيمَه، والثناء عليه وتقديمه، فليس كلُّ مَن تولّى أنه كان من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، فمجرّدُ الولاية على الناس لا يُمدحُ بها الإنسانُ ولا يستحقُّ على ذلك الثواب، وإنما يُمدحُ ويثابُ على ما يفعلُه من العدل والصدق، والأمرِ بالمعروف والنهْي عن المنكر، والجهاد وإقامة الحدودِ، كما يُذمُّ ويُعاقَبُ على ما يفعلُه من الظلم والكذب والأمرِ بالمنكر والنهْي عن المعروف وتعطيلِ الحدودِ، وتضييع الحقَوق، وتعطيلِ الجهاد.
وقد سُئل أحمد بن حنبل، عن يزيد أيُكتب عنه الحديث؟ فقال: لا، ولا كرامة، أليس هو الذي فعل بأهل الحرَّة ما فعل؟
وقال له ابنه: إنَّ قومًا يقولون إنا نحب يزيد. فقال: هل يحبّ يزيد أحد فيه خير؟ فقال له: فلماذا لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيتَ أباكَ يلعنُ أحدًا؟
ومع هذا فيزيدُ لم يأمر بقتل الحسين، ولا حُمِلَ رأسه إلى بين يديه، ولا نكتَ بالقضيب على ثناياه، بل الذي جرى هذا منه هو عبيدُ الله بن زياد، كما ثبت ذلك في “صحيح البخاري” (1)، ولا طِيْفَ برأسه
__________
(1) برقم (3748) عن أنس.

(5/149)


في الدنيا، ولا سُبي أحد من أهل الحسين، بل الشيعة كتبوا إليه وغرّوه، فأشار عليه أهلُ العلم والنُّصْحِ بأن لا يقبلَ منهم، فأرسل ابنَ عمه مسلم بن عقيل، فرجع أكثرُهم عن كتبهم، حتى قُتل ابن عمه، ثم خرج منهم عسكر مع عمر بن سعد حتى قتلوا الحسين مظلومًا شهيدًا، أكرمه الله بالشهادة كما أكرم بها أباه وغيره من سلفه سادات المسلمين.
وكان بالعراق طائفتان: طائفة من النواصب تُبغِضُ عليًّا وتشتمه، وكان منهم الحجاج بن يوسف، وطائفة من الشيعة تُظهِر موالاة أهل البيت منهم المختارُ بن أبي عبيد الثقفي. وقد ثبتَ في “صحيح مسلم” (1) عن أسماء، عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “سيكون في ثقيف كذّابٌ ومُبير” فكان الكذّاب هو المختارُ بن أبي عبيد الثقفي، والمبير هو الحجاجُ بن يوسف الثقفي.
وكان المختارُ أظهرَ أولاً التشيّعَ والانتصارَ للحسين، حتى قَتل الأمير الذي أمَرَ بقتل الحسين وأحضر رأسه إليه، ونكتَ بالقضيب على ثناياه: عُبيد الله بن زياد.
ثم أظهر أنه يوحى إليه، وأنّ جبريل يأتيه، حتى بعث ابنُ الزبير إليه أخاه مُصعبًا فقتله، وقتل خَلْقًا من أصحابه. ثم جاء عبد الملك ابن مروان فقتل مصعب بن الزبير. فصار النواصبُ والروافض في يوم عاشوراءَ حزبيْن، هؤلاء يتخذونه يوم مأتم ونَدْبٍ ونياحة،
__________
(1) برقم (2545).

(5/150)


وهؤلاء يتخذونه يوم عيدٍ وفرح وسرور. وكلّ ذلك بدعة وضلالة.
وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “ليس منا من ضرب الخدود وشقّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية”.
وروى الإمام أحمد (2) عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين، عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنَّه قال: “ما من مسلمِ يُصابُ بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدُمَتْ فيُحْدِثُ لها استرجاعًا إلا أعطاه من الأجر مثل أجره يوم أُصيب بها”.
فدلّ هذا الحديث الذي رواه الحسين على أنّ المصيبة إذا ذُكِرتْ وإن قَدُم عهدُها فالسنّة أن يُسترجع فيها، وإذا كانت السنة الاسترجاع عند حدوث العهد بها فمع تقدّم العهد أولى وأحرى.
وقد قُتل غيرُ واحدٍ من الأنبياء والصحابة والصالحين مظلومًا شهيدًا، وليس في دين المسلمين أن يجعلوا يوم قتل أحدهم مأتمًا، وكذلك اتخاذُه عيدًا بدعة. وكلُّ ما يُروى عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في يوم عاشوراء غير صومه فهو كذب (3)، مثل ما يُروى في الاغتسال يوم عاشوراء، والاكتحال، وصلاة يوم عاشوراء، ومثل ما يُروى: “مَن وسّع على أهله يوم عاشوراء وَسّع الله عليه سائر سنته” (4). قال أحمد
__________
(1) أخرجه البخاري (1294، 1297، 1298، 3519) ومسلم (103) عن ابن مسعود.
(2) 1/ 201. ورواه أيضًا ابن ماجه (1600).
(3) انظر “جامع المسائل” (3/ 94 – 95) و”مجموع الفتاوى” (25/ 299 وما بعدها).
(4) أخرجه البيهقي في “الشعب” (7/ 375) وابن عبد البر في “الاستذكار” (10/ 140) =

(5/151)


ابن حنبل: لا أصلَ لهذا الحديث. وكذلك طبخ طعام جديد فيه الحبوبُ أو غيرُها، أو ادّخارُ لحم الأضحية حتى يُطبخ به يوم عاشوراء.
كلُّ هذا من بدع النواصب، كما أن الأول من بدع الروافض.
وأهلُ السنّة في الإسلام كأهل الإسلام في الأديان، يتولّون أصحاب رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأهل بيته ويعرفون حقوق الصحابة وحقوق القرابة كما أمر الله بذلك ورسولُه، فإنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد ثبت عنه في الصحاح (1) من غير وجهٍ أنه قال: “خيرُ القرون القرنُ الذي بُعِثتُ فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”.
وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه قال: “لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدُكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه”.
وثبت عنه في “صحيح” مسلم (3) عن زيد بن أرقم أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خطب الناسَ بغدير يُدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، وذلك منصرفَه
__________
= عن جابر. قال الحافظ ابن حجر: هذا حديث منكر جدًّا. أنظر “اللآلئ المصنوعة” (2/ 63). وتكلم المؤلف عليه في “مجموع الفتاوى” (25/ 300 وما بعدها)، ونقل كلام أحمد في “منهاج السنة” (7/ 39).
(1) أخرجه البخاري (2652، 3651، 6429) ومسلم (2533) عن ابن مسعود، وأخرجه البخاري (2651، 4628، 6695) ومسلم (2534) عن عمران بن حصين.
(2) البخاري (3673) ومسلم (2541) عن أبي سعيد، ومسلم (2540) عن أبي هريرة.
(3) برقم (2408).

(5/152)


من حجّةِ الوداع. فقال: “يا أيها الناس! إني تاركٌ فيكم الثقَلَيْن أحدهما كتاب الله”. فذكر كتاب الله وحضّ عليه، ثم قال: “وأهل بيتي، أُذكّركم الله في أهل بَيتي، أُذكّركُم الله في أهل بيتي”. قيل لزيد بن أرقم: مَنْ أهلُ بيته؟ قال: الذين حُرِموا الصدقة: آل عليّ، وآل العبّاس، وآل جعفر، وآل عقيل. قيل له: كلُّ هؤلاء من أهل بيته؟ قال: نعم.
وهذه أمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أنّ يزيد بن معاوية الذي تولّى على المسلمين بعد أبيه لم يكن من الصحابة، بل وُلد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ولكن عمّه يزيد بن أبي سفيان من الصحابة، وهو من خيار طبقته من الصحابة، لا يُعرف له في الإسلام ما يُذَمُّ عليه، بل هو عند المسلمين خير من أبيه أبي سفيان، ومن أخيه معاوية. ولما مات يزيد بن أبي سفيان ولّى عمرُ أخاه معاوية مكانه، ثم بَقي متوليًّا خلافة عمر وعثمان، ثم لما قُتل عثمان وقعت الفتنةُ المشهورةُ.
وكان عليٌّ ومَنْ معه أولى بالحقّ مِنْ معاوية ومَنْ معه. كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “تَمرقُ مارقةٌ على حينِ فُرْقَةٍ من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين”. فمرقت الخوارج لما حصلت الفُرْقة، فقتلهم عليٌّ وأصحابه. فدلَّ على أنهم كانوا أولى بالحق
__________
(1) مسلم (1065) عن أبي سعيد.

(5/153)


من معاوية وأصحابه.
ثم لما قُتل عليّ وصالَحَ الحسنُ معاوية، وسلّم إليه الخلافة كان هذا من فضائل الحسن التي ظهر بها ما أخبر به النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حيث قال في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري (1) عن أبي بكرة قال: سمعتُ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقولُ للحسن: “إن ابني هذا سيّد، وسيُصْلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين”.
ومات الحسن في أثناء مُلْكِ معاوية.
ثم لما مات معاويةُ تولّى ابنُه يزيد هذا، وجرى بعد موت معاوية من الفتن والفرقة والاختلاف ما ظهر به مصداقُ ما أخبر به النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حيث قال: “سيكون نبوّة ورحمة، ثم يكون خلافةُ نبوةٍ ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك عضوض” (2).
فكانت نبوّةُ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نبوّة ورحمة، وكانت خلافةُ الخلفاء الراشدين خلافةَ نبوّةٍ ورحمة، وكانت إمارةُ معاوية مُلكًا ورحمة، وبعده وقع مُلكٌ عَضُوض.
وكان عليّ بن أبي طالب لما رجع من صِفّين يقول: لا تسبّوا معاوية، فلو قد مات معاوية لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها.
وكان كما ذكره أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
__________
(1) برقم (3746).
(2) أخرجه أحمد (4/ 273) والبزار في مسنده (1588) عن النعمان بن بشير.
وصححه الألباني في “الصحيحة” (5).

(5/154)


وقد روى مسلم في “صحيحه” (1) عن أبي موسى عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “النجومُ أمَنَة لأهل السماء، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما توعد، وأنا أمَنَة لأصحابي، فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعدون، وأصحابي أمَنَة لأمتي فإذا ذهبتْ أصحابي أتى أمتي ما يوعَدون”.
وكان كما أخبر النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإنّه لمّا توفي ارتدّ كثير من الناس، بل أكثر أهل البوادي ارتدّوا، وثبتَ على الإسلام أهلُ المدينة ومكة والطائف، وهي أمصار الحجاز التي كان لكل مصر طاغوت يعبدونه من الطواغيت الثلاثة المذكورة في قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)) (2).
فكانت اللاّت لأهل الطائف، والعُزى لأهل مكة، ومَنَاةُ لأهل المدينة، حتى أذهب اللهُ ذلك وغيرَه من الشرك برسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما ارتدّ مَن ارتدّ عن الإسلام وقَعَ في أكثر المسلمين خوف وضَعْف، فأتاهم ما يُوعَدون، فأقام الله أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه وجعل فيه من الإيمان واليقين، والقوّةِ والتأييد، والعلمِ والشجاعة، ما ثبَّتَ الله به الإسلامَ، وقمع به المرتدّين، حتى عادوا كلهم إلى الإسلام، وقتل اللهُ مُسَيْلِمةَ الكذّاب المتنبي المدّعي للنبوة، وأقر جاحدو الزكاة بها.
ثم شرع في قتال فارس والروم: المجوس والنصارى، ففتح
__________
(1) برقم (2531).
(2) سورة النجم: 19 – 22.

(5/155)


الله بعضَ الفتوح في خلافته.
ثم انتشرت الفتوحُ والمغازي في خلافة عمر بن الخطاب، ففي خلافته فُتحت الشام كلها، ومصر، والعراق، وبعض خراسان.
ثم فُتحت بعض المغرب وتمام خراسان وقبرص وغيرُها في خلافة عثمان.
ثم لما قُتل كان المسلمون مشتغلين بالفتنة، فلم يتفرغوا لقتال الكفّار وفتح بلادهم، بل استطال بعضُ الكفّار عليهم حتى احتاجوا إلى مداراتهم، وبذلوا لبعضهم مالاً. ولما اجتمعوا فتحوا في خلافة معاوية ما كان قد بقي مِن أرض الشام وغيرها. وكان معاوية أوّلَ الملوك. وكانت [ولايتُه] ولايةَ ملكٍ ورحمةٍ.
فلما ذهبت إمارة معاوية كثرت الفتن بين الأمة، ومات سنة ستين، وكان قد مات قبله عائشةُ والحسنُ وسعدُ بن أبي وقّاص وأبو هُريرة وزيدُ بن ثابت وغيرُهم من أعيان الصحابة، ثم بعده مات ابنُ عمر وابنُ عباس وأبو سعيد وغيرُهم من علماء الصحابة.
فحَدَثَ بعد الصحابة من البدع والفتنِ ما ظهر به مصداقُ ما أخبر به النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكان المسلمون لمَّا كانوا مجتمعين في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن لأهلِ البدع والفجورِ ظهور، فلما قُتلَ عثمان وتفرّق الناسُ ظهرَ أهلُ البدع والفَجور، وحينئذ ظهرتِ الخوارجُ، فكفَّروا عليَّ بن أبي طالب وعَثمانَ بن عفان ومن والاهما حتى قاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب طاعةً لله ورسوله وجهادًا في سبيله.

(5/156)


واتّفق الصحابةُ على قتالهم، لم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا في الجَمَلِ وصِفّين. وقد صحّ الحديثُ فيهم عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كما قال الإمام أحمد بن حنبل من عشرة أوجه. وقد رواها مسلم في صحيحه، وروى البخاري حديثهم من غير وجهٍ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1).
وحدثَتْ أيضًا الشيعةُ، منهم مَنْ يفضل عليًّا على أبي بكر وعمر، ومنهم من يعتقد أنّه كان إمامًا معصومًا نصّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على خلافته، وأنّ الخلفاء والمسلمين ظلموه، وغاليتُهم يعتقدون أنّه إله أو نبيّ، والغاليةُ كفّار باتفاق المسلمين، فمن اعتقد في نبيٍّ من الأنبياء كالمسيح أنه إله، أو في أحدٍ من الصحابة كعليّ بن أبي طالب، أو في أحدٍ من المشايخ كالشيخ عَدِيّ أنّه إله، أو جعل فيه شيئًا من خصائص الإلهية فإنه كافرٌ يستتاب، فإن تاب وإلاّ قُتِل.
وقد عاقب عليّ بن أبي طالب طوائف الشيعة الثلاثة فإنه حرق الغالية الذين اعتقدوا إلهيّته بالنار، وطَلَبَ قَتْلَ ابن سبإٍ لما بلغه أنّه يسبّ أبا بكر وعمر فهربَ منه. وروي عنه أنه قال: لا أُؤتَى بأحدٍ يُفضّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدتُه حدَّ المفتري (2). وقد تواتر عنه أنه قال: خيرُ هذه الأمَّة بعد نبيّها أبو بكر ثم عمر (3). ولهذا كان
__________
(1) جمع ابن كثير في “البداية والنهاية” (10/ 592 – 631) هذه الأحاديث وطرقها، وبيّن من خرجها من الأئمة بإسانيدهم.
(2) أخرجه أحمد في “فضائل الصحابة” (1/ 83).
(3) قال المؤلف في “منهاج السنة” (1/ 308): “رُوِي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجها، ورواه البخاري وغيره”. وهو عند البخاري برقم (3671) عن محمد بن الحنفية عن علي.

(5/157)


أصحابه الشيعة متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر عليه.
ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت المرجئة والقدريَّة، ثم في أواخر عصر التابعين حدثت الجهميَّة، فإنما ظهرت البدع والفتن لما خفيت آثار الصحابة. فإنهم خير قرون هذه الأمة وأفضلها، رضي الله عنهم وأرضاهم.
والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا.
(بلغ مقابلةً على الأصل، ولله الحمد).

(5/158)


فصل في اسمه تعالى “القيُّوم”

(5/159)


فصل في اسمه تعالى “القيُّوم”
وقد قرأ طائفةٌ “القَيَّام” و”القَيِّم”، وكلُّها مبالغاتٌ في القائم وزيادة (1). قال الله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) (2)، (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) (3). فهو قائمٌ بالقِسط وهو العدلُ، وقائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسبت، وقيامُه بالقسط على كلِّ نفس يَستلزمُ قدرتَه، فدلَّ هذا الاسمُ على أنه قادر وأنه عادل.
وسنبيِّن أن عدلَه يستلزمُ الإحسانَ، وأن كلَّ ما يفعله فهو إحسانٌ للعبادِ ونعمةٌ عليهم. ولهذا يقول (4) عقيبَ ما يعدده من النعم على العباد: (فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13))، وآلاؤه هي نِعَمُه، وهي متضمنةٌ لقدرته ومشيئته، كما هي مستلزمةٌ لرحمتِه وحكمتِه.
وأيضًا فلفظ “القيام” يقتضي شيئين: القوةَ والثبات والاستقرار، ويقتضي العدلَ والاستقامةَ، فالقائم ضدّ الواقع، كما أنه ضدّ الزائل،
__________
(1) انظر تفسير الطبري (3/ 109 – 110)، ففيه ذكر هذه القراءات وبيان أن معناها متقارب.
(2) سورة آل عمران: 18.
(3) سورة الرعد: 33.
(4) في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة.

(5/161)


والمستقيم ضدّ المعوجّ المنحرف، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1): “ما من قلب من قلوب العباد إلاّ وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاءَ أن يُزيغَه أزاغَه”. (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) (2)، وقال: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (3).
ومنه تقويم السَّهم والصفّ، وهو تعديله، وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول: “أقيموا صفوفكم، فإنّ تسويةَ الصفّ من تمامِ الصلاة” (4). وكان يُقوِّمُ الصَّفَّ كما يُقوَّم القِدْحُ (5).
ومنه الصراط المستقيم والاستقامة، وهذا من هذا، كما قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (6) من طريقة أهل التوراة.
وما يَهدِي إليه القرآن أقومُ مما يهدي إليه الكتاب الذي [قبلَه]، وإن كان ذلك يَهدي إلى الصراطِ المستقيمِ، لكن القرآن يَهدي للتي هي أقوم. ولهذا ذكر هذا بعد قوله: (وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) (7)، ثم قال: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 182) وابن ماجه (199) عن النواس بن سمعان.، وله شاهد من حديث أم سلمة أخرجه الترمذي (3522) وقال: حديث حسن.
(2) سورة آل عمران: 8.
(3) سورة الصف: 5.
(4) أخرجه البخاري (723) ومسلم (433) عن أنس بن مالك.
(5) كما في حديث النعمان بن بشير الذي أخرجه مسلم (436).
(6) سورة الإسراء: 9.
(7) سورة الإسراء: 2.

(5/162)


ولمّا كانَ القيامُ بالأمور بطريقةِ القرآن يَقتضي شيئين: القوة والثبات، مع العدل والاستقامة، جاء الأمرُ بذلك في مثل قوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّه) (1)، و (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) (2).
وقولُه: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) (3) يقتضي أنه يأتي بها تامّةً مستقيمةً، فإن الشاهد قد يَضعُفُ عن أدائها وقد يُحرِّفها، فإذا أقامَها كان ذلك لقوته واستقامته.
وكذلك إقامُ الصلاةِ يَقتضيْ إدَامتَها والمحافظةَ عليها باطنًا وظاهرًا، وأن يأتيَ بها مستقيمةً معتدلةً. ولمّا كانت صلاة الخوف فيها نقص لأجلِ الجهاد قال: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (4)، فإن الرجل قد يصلّي ولا يقيمٍ الصلاة لنقصِ طمأنينتِها والسكينةِ فيها، فلا تكون صلاتُه ثابتة مستقرةً، أو لنقصِ خضوعِه لله وإخلاصِه له، فلا تكون معتدلةً، فإن رأسَ العدلِ عبادةُ الله وحدَه لا شريكَ له، كما أن رأسَ الظلم هو الشرك، إذ كان الظلمُ وضعَ الشيء في غيرِ موضعه، ولا أظلم ممن وضعَ العبادةَ في غيرِ موضعِها فعَبَدَ غيرَ الله، فعبادةُ الله أصلُ العدل والاستقامة. قال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (5)، فأمرَ بإقامةِ الوجهِ له عند كلِّ مسجد،
__________
(1) سورة النساء: 135.
(2) سورة المائدة: 8.
(3) سورة الطلاق: 2.
(4) سورة النساء: 103.
(5) سورة الأعراف: 29.

(5/163)


وهو التوحيدُ وتوجيهُ الوجهِ إليه سبحانَه، فإنّ توجيهَه إلى غيرِه زَيغ. وبالإخلاصِ يكون العبدُ قائمًا، وبالشركِ زائغًا، كما قال: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) (1)، وقال: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) (2).
وإقامتُه: توجيهُه إلى الله وحدَه، وهو أيضًا إسلامُه، فإن إسلام الوجهِ لله يَقتضِي إخضاعَه له وإخلاصَه له.
وفي القرآن إقامةُ الوجه، وفيه توجيهه لله وإسلامُه لله، وتوجيهُه وإسلامُه هو إقامتُه، وهو ضدُّ إزاغتِه. فلما كانت الصلاةُ تضمنت هذا وهذا، وهو عبادتُه وحدَه وإخلاصُ الدين له وتوجيه الوجه إليه، كما فيها هذا العدل، فلابُدَّ من هذا ولابُدَّ من الطمأنينةِ فيها، وهي إنما تكون مُقَامَةً بهذا، وهذا هو الخضوع، فإن الخشوع يجمعُ معنيَينِ: أحدهما الذلُّ والخضوعِ والتواضع، والثاني السكون والثبات. ومنه قوله تعالى: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (3)، ودوله: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) (4)، وهو الانخفاض والسكون. ومنه خشوع الأرض، وهو سكونُها وانخفاضُها، فإذا أُنزِلَ عليها الماءُ اهتزَّتْ بدلَ السكون، ورَبَتْ بدلَ الانخفاض.
وقال: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (5)، (قَوَّامِينَ لِلَّهِ) (6). و”القَوَّام”
__________
(1) سورة الروم: 30.
(2) سورة الروم: 43.
(3) سورة القلم: 43.
(4) سورة الشورى: 45.
(5) سورة النساء: 135.
(6) سورة المائدة: 8.

(5/164)


هو القَيَّام، فإنَّ “قَيَّام” و”قَيُّوم” أصلُه قَيْوَام وقَيْوُوم، ولكن اجتمعت الياء والواو وسبقتْ إحداهما بالسكون فقُلِبَتْ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ إحداهما بالأخرى، لأنّ الياءَ أخفُّ من الواو. قال الفراء (1): وأهل الحجاز يصرفون الفَعَّال إلى الفَيْعَال، ويقولون للصوَّاغ: صَيَّاغ.
قلتُ: هذا إذا أرادوا الصفةَ، وهي ثباتُ المعنى للموصوف، عَدَلُوا عن “فَعَّال” إلى “فَيْعَال” كما في سائرِ الصفاتِ المعدولة، فإنّ مِن هذا قلبَ المضعَّف حرف عينه، والحروف المختلفة أبلغُ من حرفٍ واحد مشدَّد. وأما إذا أرادوا الفعلَ فهو كما قال تعالى: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، ولم يقل “قيَّامِينَ”.
وقد قرأ طائفة من السلف: “الحيُّ القيَّام”، ولم يقرأ أحدٌ قطُّ: “كونوا قيَّامين بالقسط”، لأن المقصودَ أمرُهم أن يقوموا بالقسط، والأمرُ طلبُ فعل يُحدِثُه المأمورُ. بخلافِ الخبرِ عن الموصوف بأنه صَيَّاغ، فإنه خبرٌ عن صفةٍ ثابتةٍ له. ولهذا جاء في أسماء الله “القيَّام”، ولم يَجئْ “القَوَّام”، قرأ عمر بن الخطاب وغيرُ واحد “القيَّام”، وقرأ طَائفةٌ “القَيِّم”. قال ابن الأنباري (2): هي كذلك في مصحف ابن مسعود. ومِن دعاءِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الصحيحين (3): “ولك الحمدُ، أنتَ قَيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن”.
__________
(1) “معاني القرآن” (1/ 190).
(2) “الزاهر في معاني كلمات الناس” (1/ 186).
(3) البخاري (1120 ومواضع أخرى) ومسلم (769) عن ابن عباس.

(5/165)


ولما كان لفظ “القيام” يتضمن القوةَ والثبات، وقد يتضمن مع قيام الشيء بنفسِه إقامتَه لغيرِه، خُصَّ لفظ “القَوم” بالرجال دون النساء، فلا تُسمَّى النساءُ بانفرادِهنّ “قومًا”، ولكن قد يدخلن في اللفظ تبعًا. قال تعالى: (لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ … وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) (1)، فإنه قال: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (2). ومنه قول الناظم:
ومَا أدرِيْ وظَنِّي كلُّ ظَنٍّ … أقَوْم آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ (3)
ولمّا كان “القيام” يقتضي الثباتَ -وهو ضدُّ الزوال- قال: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) (4)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا) (5). وهو يقتضي الاعتدال مع الثبات، وهو خلْقُهما معتدلتَيْنِ كما قال: (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ) (6)، وقال: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (7). والعدل لازم في كلّ مخلوق، ومأمور به كلّ أحدٍ، كما قد بُسِطَ في قوله: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)) (8).
ولِما في لفظ “القيام” من العدل سُمِّيَ ما يُساوِي المبيعَ: قيمةَ
__________
(1) سورة الحجرات: 11.
(2) سورة النساء: 34.
(3) البيت لزهير بن أبي سُلمى في ديوانه (ص 136) برواية مختلفة.
(4) سورة الروم: 25.
(5) سورة فاطر: 41.
(6) سورة البقرة: 29.
(7) سورة الملك: 3.
(8) سورة الأعلى: 2. وانظر تفسير الآية في “مجموع الفتاوى” (16/ 127 – 135).

(5/166)


عَدْل، قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1): “مَن أعتقَ شِركًا له في عَبْدٍ، وكان له من المال ما يَبْلُغ ثمنَ العبد، قُومَ عليه قيمةَ عَدْلٍ لا وَكْس ولا شَطَط، فأُعْطِيَ شركاؤُه وعُتِقَ عليه العبدُ”.
وكذلك يُسمَّى تعديلُ الحساب تقويمًا، فإذا جُمِعتْ حركةُ الشمس والقمر وغيرهما السريعةُ والبَطيئةُ، وأحدٌ يُعدِّلُ ذلك، سُمِّي ذلك تعديلاً وتقويمًا، ويُسمَّى ما يُكتَب فيه ذلك تقويمًا، كما يُصنَع بالمكان إذا أَخَذَ مُغَلُّه في إقبالِه وإدبارِه، فإنه يوجد معدّلُ ذلك، ويُقوم باعتبار ذلك.
ويقال: قامتِ السوقُ، إذا حَصَلَ فيها التبايعُ بالتراضي الذي هو أصل العدل، ولابدَّ أن يَبقَى ذلك زمنًا، ففي قيام السوق معنى العدل والثبات، قال الشاعر:
أقامتْ سُوْقها عشرينَ عامًا
ومنه قوله تعالى: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) (2)، أي يقوم عليه كما يقوم القيِّمُ على ما يقوم عليه وإن كان جالسًا معه. والإقامةُ أبلغُ من القيام، فإنّ فيها زيادةَ الهمزة والزيادة لزيادة المعنى، وهي تقتضي من الثبات والدوام أبلغَ مما يدلُّ عليه لفظُ القيام. والمُقامُ بالمكان هي السُّكنَى فيه واستيطانُه، والمقيم خلاف المسافر.
__________
(1) أخرجه البخاري (2521 – 2525 ومواضع أخرى) ومسلم (1501 وبعد رقم 1667) عن عبد الله بن عمر.
(2) سورة آل عمران: 75.

(5/167)


ولما كان اسمه “القَيوم” يتناول هذا وهذا، وهو قَيُّومُ السماوات والأرضِ ومُقِيمُ كل مخلوقٍ من الأعيان والصفات، دَلَّ ذلك على أنّ كلَّ مخلوق له نصيب من القيام، فهو قائم بالقيم الذي أقامه، كما أن له قدرًا بالخلق، فإن اسمه “الخالق” يَقتضي الإبداعَ والتقدير، فقال: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)) (1)، وقال: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)) (2).

وإذا كان لكل شيء مخلوق قيام وقدر، دَلَّ ذلك على فسادِ قولِ مَن أثبتَ الجوهرَ الفردَ، ومَن قال: العَرَضُ لا يَبْقَى زمانَيْنِ.
فإن الذين يقولون بالجوهر الفرد يثبِتُون شيئًا لا تتميَّزُ يمينُه عن يَسارِه، ولا يُعرَف بالحسِّ، وهو ممتنع وجودُه، فإنَّ وجودَ ما لا يَتميَّز منه جانب عن جانب ممتنع، وإنما يَفرِضُونَه في الذهن.
وعلى قولهم لا قدرَ له، والله تعالى قد جعلَ لكل شيء قدرًا، فما لا قدرَ له لم يُخلَقْ، بل هو ممتنع.
وما يَفرِضُه أهلُ الهندسةِ من نقطةٍ مجرَّدةٍ وخطٍّ مجرَّد وسَطْحٍ مجرَّد، هي أمور مقدَّرة في الأذهان واللسان، لا تُوجَد مجرَّدةً في الخارج، بل لا تُوجَد إلاّ نقطة معينة مثلُ نقطة الماء والحِبْرِ ونحوِ ذلك مما يتميز منه جانب عن جانب، لقوله تعالى: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3))، وقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)) (3).
__________
(1) سورة القمر: 49.
(2) سورة الطلاق: 3.
(3) سورة الفرقان: 2.

(5/168)


والله سبحانَه خالقُ الموجوداتِ العينية ومُعلِّمُ الصور الذهنية، وأول ما نزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) (1).
ومن الناس من يقول: المعدومُ شيء ثابت في الخارج، وليس بمخلوق، بل ثبوتُه قديم. وآخرون يقولون: الماهياتُ غيرُ مجعولةٍ.
وهؤلاءِ وهؤلاءِ اشتبهَ عليهم ما في الأذهانِ بما في الأعيانِ، فأخرجوا بعضَ مخلوقاتِه عن أن تكونَ مخلوقةً له.
وتحقيقُ الأمر أن كلَّ ما يُقدَّر فإمّا أن يكون ثابتًا في الأعيانِ والموجودِ الخارج، أو في العلم والوجودِ الذهني، وهو سبحانَه خالقُ هذا ومُعلِّمُ هذا، فلا يَخرجُ شيء أصلاً عن تخليقِه وتعليمِه، بل هو الذي خلقَ فسوى، وقدَّرَ فهدَى، وقال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)) (2). فهو خالقُ كلِّ شيء وقَيُّومه، وكلُّ ما أقامَه القيوم فله قِيام، والحركةُ وإن وُجدتْ شيئًا فشيئًا فلابدَّ لها من لُبْثٍ، لا يتصوَّر أن تُعْدَمَ قبلَ أن تلبَثَ زمنًا من الأزمان، وقيُّومُ السماوات هو الخالقُ الذي يُبدِعُه ويَجعلُ له ذلك القدرَ، فجَعَلَ للأعيانِ قدرًا، وللحركاتِ قدرًا، ولزمانِها قدرًا، وبعضُ ذلك يُطابِقُ بعضًا، فإن الزمان مُساوِقٌ للحركة، والحركة هي مبدأ الأحداث. قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) (3)،
__________
(1) سورة العلق: 1 – 5.
(2) سورة الشمس: 7 – 8.
(3) سورة الحج: 61.

(5/169)


والإيلاج هو بسبب الحركة الحولية، كما أن اختلافَ الليل والنهار وتكويرَ الليل على النهار وتكويرَ النهار على الليل هو بسبب الحركة اليومية.
وهو سبحانَه (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) (1)، وهو (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) (2).
فذكر أنه فالقُ الإصباح بعد ذكره فَلقَ الحب والنوى، فإنه بسبب فَلْقِه الإصباحَ وجَعْلِ الليلِ والنهارِ يَتِمُّ ما يخلقُه ويَنمو ويَحصُلُ مصلحتُه، ثم ذلك يحصل بتسخير الشمس والقمر وجَعْلِهما بحساب على وفْقِ العدلِ في الحكمة، لا يتقدم شيء على وقتِه ولا يتأخر شيء عن أجلِه، وهو سبحانَه يَسوقُ المقاديرَ إلى المواقيتِ.
واستحالةُ الأجسامِ بعضِها إلى بعضٍ معلوم بالمشاهدة، وهو مما تَطابقَ عليه أهلُ الطبائع والشرائع وأهل العادات، والأطباء يعرفون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، وغيرهم. وكذلك الفقهاءُ تكلَّموا في استحالةِ الطاهرِ إلى النجس، واستحالةِ النجسِ إلى الطاهر، وفي الماء والمائعِ إذا خالطَتْه النجاسة هل يستحيل أم لا؟
والذين أنكروا ذلك وقالوا بالجوهر الفرد زعموا أن كلَّ ما شهدَ العبادُ أنَّ الله يخلقُه من سحاب ونباتٍ ومطرٍ وإنسان وحيوانٍ، فإنَّ الله -فيما زعموا-[لَمْ] يُبدِعْ تلك الأعيانَ والجواهرَ القائمةَ بأنفسها،
__________
(1) سورة الأنعام: 95.
(2) سورة الأنعام: 96.

(5/170)


وإنما يُحدِثُ أعراضًا، وهو تركيبُ الجواهرِ بعضِها مع بعض، ثم زعموا أن الجواهر إنما يُعلَم أنه خلقَها بالاستدلال، وهو أنها لا تخلو من الأعراضِ الحادثة، وما لا يخلو إذن فهو حادث. وعلى هذا اعتمدوا في خَلْقِ الله للعالم وفي إثباتِ الصانع، وجعلوا ذلك أصلَ دين المسلمين، ثمَّ التزموا لوازمَ من إنكار الصفات أو بعضها، ومن إنكارِ الرؤية، والقول بخلق القرآن، وغير ذلك.
فتسلَّطَ عليهم السلف والأئمةُ وعلماءُ السنة بالتبديع والتكفير مع التجهيل والتضليل، وتسلَّط عليهم طوائف العقلاء الذين فهموا كلامَهم بالتجهيل والتضليل، وخالفوا الحسَّ والعقلَ والشرعَ الذي هو خبر الصادق، وهذه الثلاثة هي مدارك العلم عندهم وعند غيرهم، كما ذكروا ذلك في أولِ كتبهم.
أما مخالفة الحسّ فقولهم: إنّ الله لم يُبدِع عين الإنسان والحيوان، ولا عينَ الثمار والمطر والسحاب، وإنما أحدثَ تأليفًا. وعلى قولهم تلك الجواهرُ التي كانت في بني آدمَ باقية بأعيانها في كلِّ واحدٍ من ولدِه، ومعلومٌ أنّ هذا غير ممكن، فإنَ مَنِيَّ الرجلِ الواحد لا يحتمل أن ينقسمَ أقسامًا بعددِ كلِّ مَن وُلِد من الآدميين. وكذلك عندهم أن كلَّ بني الآدميين فيه جزء من بني نوحٍ، لأنه عندهم لم يُبدِع الله عينًا، بل نفسُ مَنِيِّ الأبِ فيه الجواهر، ركَّبَها تركيبًا آخر، وضَمَّ إليها جواهرَ أُخرَ.
وأما مخالفة العقل فإثباتُ الجوهر الفرد إثباتُ شيء موجودٍ لا يتميز منه شيء عن شيء، فإذا وُضِعَ جوهر بين جوهرينِ، فإن كان

(5/171)


الذي يُمَاسُّ هذا الجانب فقد التقَى الجوهران، وإن كان غيره فقد ثبت الانقسام.
وأيضًا فنحنُ نشاهد الهواءَ يستحيل ماءً إذا وُضِعَ في الزجاج، ونحوه ثلج صار عليه ماء يَقطُر، ومعلومٌ أن الثلجَ لم يَثْقُب الزُّجاجَ، بل الهواء الذي أحاطَ به بَردَ فاستحالَ ماءً، كما يُحِيلُ الله سحابًا وماءً. هذا مشهود، يكون الإنسانُ على حَيْدٍ، فيَرى البُخَارَ قد صَعِدَ من البحار فانعقَد سحابًا، وينظر تحته وهو أعلى منه في الشمس على رَأس الجبل. وكذلك الهواءُ يستحيلُ نارًا، فإذا قرّبَ ذُبَالةَ المصباحِ إلى النار أوقدَ، مع أنه لم يخرج من تلك النار شيء، ولكن الهواء المحيط بالذُّبالةِ استحالَ نارًا لمّا سَخُنَ سُخونةً شديدةً. فالهواء يَبْرُدُ فيستحيلُ ماءً، ويَسْخُنُ فيستحيل نارًا.
وكذلك ما يَقْدحُ النار، قال تعالى: (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)) (1)، وقال: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)) (2) الآيات، وقال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)) (3). والعرب يقولون: “في كلّ شجرٍ نار، واستَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ” (4)، يأخذون عُودَينِ أخضرين يَحُكُّون أحدَهما بالآخر حتى يَسْخُن، فإن الحركة
__________
(1) سورة العاديات: 2.
(2) سورة الواقعة: 71.
(3) سورة يس: 80.
(4) انظر أمثال أبي عبيد (ص 136) و”جمهرة الأمثال” (1/ 173) و”فصل المقال” (ص 171) وغيرها من كتب الأمثال.

(5/172)


تُوجبُ السخونةَ، والسخونةُ تحصلُ بالحركة وبالنار وبالشُّعاع، فإذا سخَنَ انقدحَ منه نارٌ باستحالةِ بعض تلك الأجزاء نارًا، وما كان هناك قبلَ هذا نارٌ، بل سبحانَه يُحدِثُ النارَ عند باقية بعينها، وهي جوهر يقوم بها الصورة كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة، فقوله خطأ، بل المادة استحالتْ فخُلِقَ منها شيءٌ آخر، والأولى هلكتْ وأعدمَها الله على هذا الوجه، كما أوجدَ ما خلقَ منها على هذا الوجه. وقد بُسِط الكلام على هذا في موضع آخر.
والمقصود الكلامُ على اسمه “القَيُّوم”، والتنبيهُ على بعضِ ما دلَّ عليه من المعارف والعلوم، فهو سبحانَه قَيُّومُ السماوات والأرض، لو أخذَتْه سِنَةٌ أو نومٌ لهلكتِ السماوات والأرض. والمخلوقُ ليس له من نفسِه شيء، بل الربُّ أبدعَ ذاتَه، فلا قِوَامَ لذاتِه بدون الربِّ، والمخلوق بذاتِه فقيرٌ إلى خالقِه، كما أن الخالقَ بذاتِه غنيٌّ عن المخلوق، فهو الأجَل الصَّمَدُ، والمخلوقُ لا يكون إلاّ فقيرا إليه، والخالقُ لا يكون إلاّ غنيّا عن المخلوق، وغِناهُ من لوازم ذاتِه، كما أن فَقْرَ المخلوقِ إلى خالقه من لوازم ذاتِه. وهذا المعنىَ مما يتعلق بقول الله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)) تعلُّقًا قويًّا.
والناسُ يشهدون إحداثه لمخلوقاتٍ كثيرة وإفناءَه لمخلوقاتٍ كثيرة، وهو سبحانَه يُحدِثُ ما يُحدِثُه من إرادةٍ يُحِيلُها ويُعدِمُها إلى شيء آخر، ويُفْنِي ما يُفنِيه بإحالتِه إلى شيء آخر، كما يُفنِي الميتَ بأن يَصِيرَ ترابًا.
وعلى هذا تترتبُ مسائل المعاد، فإن الكلام على النشأةِ الثانية فرعٌ عن النشأةِ الأولى، فمن لم يتصور الأولى فكيف يَعلم الثانية؟

(5/173)


قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)) (1). فهؤلاء غَلِطُوا في معرفة النشأة الأولى، فكانوا في معرفة النشأة الثانية أغلطَ، كما قد ذُكِرَ هذا في غير هذا الموضع.
وكان غلطهم لأنهم ظَنُّوا أن الله يُفنِي العالمَ كلَّه ولا يَبقَى موجودٌ إلاّ الله، كما قالوا: إنه لم يكن موجود إلاّ هو، فقَطَعوا بعَدَمِ كلِّ ما سوى الله. ثم اختلفوا، فقال الجهم: إنّه يُفْنِي العالمَ كلَّه، وإنّه وإن أعادَه فإنه يُفنِي الجنةَ والنارَ، فلا يَبقَى جنة ولا نار، لأن ذلك يَستلزمُ دوامَ الحوادث، وذلك عند الجهم ممتنع بنهايةٍ وبدايةٍ في الماضي والمستقبل. وقال الأكثرون منهم: بل هو إذا أعدمَ العالمَ بالكلية فإنه يُعِيدُه ولا يُفنِيه ثانيًا، بل الجنة باقية أبدًا، وفي النار قولان (2).
وهؤلاء قطعوا بإفناءِ العالم، وللنُّظَّار فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: القطع بإفنائه.
والثاني: التوقف في ذلك، وأنه جائز، لكن لا يُقطَع بوجودِه ولا عدمِه.
والثالث: القطع بأنه لا يُفنِيه. وهذا هو الصحيح، والقرآن يدلُّ على أن العالم يَستحيلُ من حالٍ إلى حالٍ، فتَنشَقُّ السماءُ فتَصير
__________
(1) سورة الواقعة: 58 – 62.
(2) انظر “قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار”.

(5/174)


وردةً كالدِّهان (1)، وتُسَيرُ الجبالُ (2) وتُبَسُّ بَسًّا (3)، وتُدَكُّ الأرضُ (4)، وتُسَجَّرُ البحارُ (5)، وتنكدرُ النجومُ (6) وتتناثَر (7)، وغير ذلك مما أخبر الله به في القرآن، لم يُخبِر بأنه يُعدِمُ كلَّ شيء، بل أخبارُه المستفيضةُ بأنه لا يُعدِمُ الموجوداتِ.
فقوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)) (8) أخبر فيه بفناءِ مَن على الأرض فقط، والفناءُ يُرادُ به الموتُ ولا يُرادُ به عَدَمُ ذَواتِهم، فإن الناس إذا ماتوا صارتْ أرواحُهم إلى حيثُ شاء الله من نعيمٍ وعذاب، وأبدانهم في القبور وغيرها، منها البالي وهو الأكثر، ومنها ما لا يَبْلَى كأبدان الأنبياء (9)، والذي يَبْلَى يَبقَى منه عَجْبُ الذَّنَب، منه بَدَأ الخَلْقُ ومنه يُرَكَّبُ (10). فهؤلاء لما قالوا: إنّه يُفنِي جميع العالمِ وإنّ ذلك واقع وممكن، احتاجوا إلى تلك الأقوالِ الفاسدة، وإلاّ فالفناء الذي أخبرَ به القرآنُ هو الفناء المشهودُ بالاستحالة إلى مادة، كما كانَ الإحداثُ
__________
(1) كما في سورة الرحمن: 37.
(2) كما في سورة النبأ: 20.
(3) كما في سورة الواقعة: 5 – 6.
(4) كما في سورة الفجر: 21.
(5) كما في سورة التكوير: 6.
(6) كما في سورة التكوير: 2.
(7) كما في سورة الانفطار: 2.
(8) سورة الرحمن: 26.
(9) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (4/ 8) وأبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/ 91) وابن ماجه (1085، 1636) عن أوس بن أوس.
(10) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (2955).

(5/175)


بالحق من مادة.
فاسمُه سبحانَه “القَيوم” يَقتضي الدوامَ والثباتَ والقوةَ، ويَقتضي الاعتدال والاستقامةَ، وقد وَصَفَ نفسَه بأنه قائم بالقِسط (1)، وأنه على صراطٍ مستقيم (2). ومنه قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)) (3)، ومنه قَامَةُ الإنسانِ وهو اعتدالُه، ومنه قيام الإنسان، فإنه يتضمن الاعتدال مع كمال وطمأنينةٍ، ومنه قول الشاعر (4):
أَقِيْميْ أمَّ زِنْباع أَقِيْميْ … صُدُورَ العِيْسِ شَطْرَ بني تَميمِ
فإنه أراد: وجهي صدورَ العِيْس نحوَ بني تميم. والعِيْسُ هي الإبل التي تُركَبُ ويُحَملُ عليها، ويقال: الإبلُ العِيْسُ، جمعُ عَيْسَاءَ.
__________
(1) كما في سورة آل عمران: 18.
(2) كما في سورة هود: 56.
(3) سورة التين: 4.
(4) البيت لأبي جندب الهذلي مطلع قصيدة له في “شرح أشعار الهذليين” (1/ 363). قال الأصمعي: وتُروى لأبي ذُؤيب. وفي “لسان العرب” (شطر) لأبي زنباع الجذامي. والرواية فيهما: أقول لأم زنباع …

(5/176)


فصل في معنى “الحنيف”

(5/177)


فصل في معنى “الحنيف”
فإن هذا الاسمِ قد تكرَّر في القرآن، وقد فرضَ الله على الناس أن يكونوا حُنَفَاءَ، فرَضَه الله على أهل الكتاب ثم على أمة محمد، وأوجبَ عليه وعليهم أن يتبعوا ملةَ إبراهيم حنيفًا، فقال تعالى في أهل الكتاب: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)) (1)، وهذا أمرٌ لجميع الخلقِ من المشركين وأهلِ الكتاب وغيرِهم.
وقال تعالى: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)) (2) وقال عن إبراهيم: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)) (3)، وقال تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)) (4)، وقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (5)، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
__________
(1) سورة البينة: 5.
(2) سورة البقرة: 135.
(3) سورة آل عمران: 67.
(4) سورة آل عمران: 95.
(5) سورة النساء: 125.

(5/179)


وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) (1)، وقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)) (2)، وقال تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (3)، وقال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)) (4).
والقرآنُ كلُّه يدلُّ على أن الحنيفيَّةَ هي ملةُ إبراهيم، وأنها عبادةُ الله وحدَه والبراءةُ من الشرك. وعبادتُه سبحانَه إنما تكون بما أمَرَ به وشرعَه، وذلك يدخل في الحنيفية. ولا يدخلُ فيها ما ابتُدِعَ من العبادات، كما ابتدَعَ اليهودُ والنصارى عباداتٍ لم يأمر بها الأنبياءُ، فإنّ موسى وعيسى وغيرَهما من أنبياء بني إسرائيل ومن اتبعَهم كانوا حُنَفاءَ بخلافِ من بَدَّلَ دينهم فإنه خارج عن الحنيفية. وقد أمر الله أهلَ الكتاب وغيرَهم أن يعبدوه مخلصين له الدين حنفاء، فبدَّلوا وتصرَّفوا من بعد ما جاءتهم البينة.
وكلامُ السلفِ وأهل اللغة يدلُّ على هذا وإن تنوعتْ عباراتهم.
روى ابنُ أبي حاتم (5) بإسناده المعروف عن عثمان بن عطاء
__________
(1) سورة الأنعام: 161.
(2) سورة النحل: 120.
(3) سورة الحج: 30 – 31.
(4) سورة الروم: 30 – 31.
(5) 2/ 674. وانظر لهذه الأقوال والآثار التي ذكرها المؤلف: تفسير الطبري=

(5/180)


الخراساني عن أبيه في قوله: (حَنِيفًا مُسْلِمًا) قال: مخلصًا مسلمًا.
قال: ورُوِيَ عن مقاتل بن حيان مثلُ ذلك. وقال خُصَيْف: الحنيف المخلص.
وذكر ذلك الثعلبي وغيرُه عن مقاتل بن سليمان بإسناده عن أبي قُتَيبةَ البصري نُعيمِ بن ثابتٍ عن أبي قِلابةَ قال: الحنيف الذي يؤمن بالرسُلِ كلِّهم.
وقال محمد بن كعب: الحنيف المستقيم.
وبإسناده المعروف عن سفيان الثوري عن ابن أبي نَجيح عن مجاهدٍ: (حَنِيفًا) قال: متبعًا، وقال: الحنيفية اتباعُ إبراهيم.
وذكره طائفة من المفسرين عن مجاهد، ورُوِي نحو ذلك عن الربيع بن أنس.
قال مجاهد: هو اتباعُ إبراهيمَ فيما أتى به من الشريعةِ التي صار بها إمامًا للناس.
وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (حَنِيفًا) قال: حاجًّا.
وقال ابن أبي حاتم: ورُوي عن الحسن والضحاك وعطية والسدّي نحو ذلك.
ونقل طائفة عن الضحاك أنه قال: إذا كان مع الحنيف المسلمُ فهو الحاجّ، وإذا لم يكن معه فهو المسلم.
__________
= (1/ 441) والبغوي (1/ 119) و”زاد المسير” (1/ 150) وتفسير ابن كثير (1/ 419) و”الدر المنثور” (1/ 337، 338).

(5/181)


وذكرَ الثعلبي ومَن اتبعَه كالبغوي (1) وغيرِه عن ابن عباس قال: الحنيف المائلُ عن الأديان إلى دين الإسلام. قالوا: وأصلُه من حَنَفِ الرِّجْل، وهو مَيْل وعِوَج في القَدَم، ومنه قيل للأحنف بن قيس ذلك، لأنه كان أحنفَ القدم.
قلتُ: والحج داخل في الحنيفية من حينِ أوجبَه الله على لسان محمد، فلا تتمُّ الحنيفيةُ إلاَّ به، وهو من ملَّة إبراهيم، وما زالَ مشروعًا من عهد إبراهيم، فحجَّه الأنبياء موسى ويونسُ وغيرُهما، وما زال مشروعًا من أول الإسلامِ، وإنما فرِضَ بالمدينةِ في آخر الأمر بالاتفاق. والصوابُ أنه فُرِض سنةَ عَشْرٍ أو تسعٍ، وقيل: سنةَ ستٍّ، والأولُ أصحُّ.
والله أمرَ محمدًا وأمتَه أن يكونوا حنفاءَ، فقال في النحل (2) -وهي مكية-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)، فكان الحج إذْ ذاك داخلاً في الحنيفية على سبيل الاستحباب والتمام، لا على سبيل الوجوب. وأمرَ الله أهلَ الكتاب أن يكونوا حنفاءَ، ولم يكن الحج مفروضًا عليهم، بل كان مستحبًّا.
ومثلُ هذا ما رواه ابن أبي حاتم (3) عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: الحنيف الذي يستقبل البيتَ بصلاتِه، ويَرى حجَّه عليه واجبًا إن استطاعَ إليه سبيلاً.
__________
(1) في تفسيره (1/ 119).
(2) الآية 123.
(3) 1/ 242.

(5/182)


فهذا تفسيرُه للحنيف بعدَ أن حُوِّلَتِ القبلةُ إلى الكعبة وأُمِرَ الناسُ باستقبالِها وبعدَ أن فُرِضَ الحجُّ، وإلاّ فقد كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ومن اتبعَه وهم بمكة حنفاءَ وهم يُصلُّون إلى بيت المقدس لما كانوا مأمورين بذلك، وإنما أُمِرُوا باستقبالِها بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة. وكذلك موسى ومن اتبعَه والمسيحُ ومن اتبعَه كانوا حُنَفَاءَ أيضًا، وكانوا يصلون إلى بيت المقدس.
وروى ابن أبي حاتم (1) وغيرُه من التفسير الثابت عن قتادة تفسير ابن أبي عَرُوبةَ عنه قال: الحنيفية شهادةُ أن لا إله إلا الله، يدخلُ فيها تحريمُ الأمهاتِ والبناتِ والأخواتِ والعماتِ والخالاتِ وما حَرَّمَ الله والختانُ، وكانت حنيفية في الشرك، وكانوا يُحرِّمون في شركِهم الأمهاتِ وما تقدَّم من القرابات، وكانوا يحجون البيتَ وينسكون المناسكَ.
فذكرَ قتادةُ أنها التوحيدُ واتباعُ ملَّةِ إبراهيم بتحريم ما حرَّم الله والخِتان، وأنهم في شِركِهم كانوا ينتحلونَ الحنيفيةَ، فيُحرِّمون ذواتِ المحارمِ ويحجُّون ويَختَتِنونَ، وهذا مما تَمسَّكوا به من دينِ إبراهيم مع شِركِهم الذي فارقوا به أصلَ الحنيفية، لكن كانوا ينتحلونها.
وكان هذا فارقًا بينهم وبين المجوسِ ومن لا يُحرم ذواتِ المحارم، وبين النصارى ومن لا يرى الخِتانَ، وبين سائر أهل الملل ممن لا يرى حجَّ البيت. فإن الحج كان من الحنيفية، لكن كان من مستحباتها
__________
(1) 1/ 242.

(5/183)


لا من واجباتها.
وكذلك قال أبو الحسن الأخفش (1): الحنيف المسلم، وقال غيره: إذا ذُكِرَ مع الحنيفِ المسلمُ فهو الحاج. قال أبو الحسن الأخفش: وكانوا في الجاهلية يقولون لمن اختتن وحج حنيفًا، لأن العرب لم تتمسك بشيء من دين إبراهيمَ غيرِ الختانِ والحج، فلما جاء الإسلامُ عادتِ الحنيفية. وقال الأصمعي: مَن عَدَلَ عن دين اليهودِ والنصارى فهو حنيفٌ عند العرب.
قلتُ: ولهذا يُوجَد في كتب بعض أهل الكتاب من النصارى وغيرِهم وفي كلامِهم معاداةُ الحنيف، وهم هؤلاء العرب الذين كانوا يحجون ويختتنون وهم مشركون، فإن النصارى لا يحجون ولا يختتنون ولا يتعبدون بالختان، بل أكثرهم ينهى عنه، وفيهم من يختتن.
وفي كلام طائفةٍ ممن ينقلُ المقالاتِ والأديانِ المقابلةُ بين الصابئين والحنفاء، وهذا يتناولُ الحنيفيةَ المحضةَ ملّةَ إبراهيم ومن اتبعَه من الأنبياء وأممِهم، فإنهم كانوا يعبدون الله وحدَه، بخلافِ الصابئين المشركين.
والصابئون نوعان: صابئون حنفاءُ، وهم الذين أثنى عليهم القرآن، وصابئون مشركون. وأما المجوس وسائر أنواع المشركين فليسوا حنفاءَ.
__________
(1) انظر “لسان العرب” (حنف).

(5/184)


وقد ذكر طائفة في الكلام والمقالات -مثل أبي بكر ابن فُورك وغيرِه- أنّ الذين ادَّعوا النبوةَ من الفُرس مثل زَردَشْت ومَزْدَك وبَهَافَرِيْد (1) كانوا ينتحلون ملةَ إبراهيمَ ويزعمون أَنهم يدعون إلى دينه.
قال ابن فُورك في مصنَّفٍ له لمَّا تكلَّم على إثباتِ النبوات والردِّ على من أنكرَها من البراهمةِ حكماءِ الهند، وذكرَ ما ذكرَه غيرُه من أهل الكلام والمقالات، قال: إنَّ البراهمة صنفان: صِنف أنكروا الرسُلَ أجمعين، وصِنفٌ أقرُّوا بنبواتِ بعضِهم، فمنهم من أقرّ بنبوةِ إبراهيم وجَحَدَ من كان بعده.
قال: فإن قال قائل: قد دَلَّلتَ على جواز بعثةِ الرسُل، فما الدليلُ على أن الأنبياءَ الذين بَعثَهم الله إلى خلقِه مَن ذكرتم دونَ غيرِهم؟
قيل له: الدليل على ذلك أنه قد نُقِلَ إلينا من الجهاتِ المختلفاتِ التي لا يجوز على ناقليها الكذبُ أنهم أتَوا بمعجزاتٍ تَخرجُ عن عادةِ الخلقِ، مثل: فلقِ البحر، وقلب العصا حَيَّةً، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وانشقاق القمر، ولم يُنقَل لغيرهم من المعجزات ممن ادَّعَى النبوةَ كما نُقِل لهم، فدلَّ ذلك على أنهم هم الأنبياء دونَ غيرِهم ممن ادعى النبوةَ ولم يكن لهم معجزة تدلُّ على صدقهم.
قال: وممّا يدلُّ على صِدْقِهم أنّا وجدنا كل واحدٍ منهم في زمانه قد مَنَعَ الناسَ عن الشهواتِ واتباع الهوى، وقَبَضَ على أيديهم، وحالَ بينهم وبين مرادِهم، وما سرت إليهَ أنفسهم، ثم مع ذلك كلَّفوهم
__________
(1) إليه تُنسَب الفرقة البهافريدية من المجوس. انظر: “البدء والتاريخ” (4/ 26).

(5/185)


البراءةَ من الآباء والأبناءِ والأقارب، ونَبْذَ أهاليهم وراءَ ظهورِهم، وبَذْلَ أموالهم، وخَفْض الجناح لهم، والائتمار لأمورهم، والجَرْي تحتَ أحكامِهم. وكلُّ هذه الأحوال مما يَنْفِرُ عنها البشرُ وتَفِرُّ وتَمَل من تكلفهم، فلولا أنهم صادقون فيما ادَّعَوه، وصحَّحوا دعواهم بمعجزاتٍ ظاهرةٍ وبراهينَ بيّنةٍ تُخرِج ذلك عن حِيَلِ المحتالين ومَخْرَقةِ الممخرقين، لما كان يُوجِبُ ظاهرُ فِعْلِهم قبولَه.
ولو كان الخلق مُكرَهين في حياةِ واحدٍ منهم لنفاذِ أمرِه وقوته وغلبتِه لكانوا من بعد موته ومفارقتِه هذا العالمَ يرجعون إلى ما شاءوا عليه، كما يرجع الملوك في الدنيا. فلما وجدنا الخلقَ جيلاً بعدَ جيلٍ وقرنًا بعد قرنٍ يزدادُوْنَ في كل يومٍ لهم محبةً وطاعةً ووُلوعًا بهم وجَزَعًا على ما فاتَهم منهم من الرؤية والصحبة= دلَّ ذلك على أنهم كانوا أنبياءَ من قِبَلِ الله، صَحَّحوا دعواهم بمعجزاتٍ ظاهرة، وبراهينَ باهرةٍ نَيِّرةٍ، وأخذوا قلوبَ الخَلْق -العالمِ والجاهلِ- بذلك.
قال: فإن قال قائل: قد وجدنا من المفترين المدَّعين قد ظهروا في العالم، وصار لهم أتباع مثلُ أتباعِ الأنبياء، قلنا لهم: مَن هم؟
فلا يَتهيَّأ أن يُسَمُّوا أحدًا له تبع ورَسْم قائم غيرَ زَردَشت ومَزْدَك ومَانِيْ وبَهَافَرِيْد.
قلنا له: زردشت ومَزْدك وبَهَافَرِيْد فإن ثلاثتهم ادَّعَوا في زَمَانِهم أنَ كلَّ واحد في زمانِه هو المستقيم على دين إبراهيم، ولم يَدع واحد منهم خلافًا عليه أي على إبراهيم. فبِرِيْحِه والانتسابِ إليهَ اجتمعَ له الأتباعُ والأصحابُ، لا بسياستِهم وسلطانهم، وإنهم لم يشرعوا دينًا، بل ادعَى كلُّ واحدٍ منهم في زمانِه أن شريعةَ إبراهيمَ

(5/186)


هي مَا كلُّ واحدٍ منهم عليه، يُزَادُ فيه ويُنقَص منه لطولِ الزمان الذي أتَى عليه، وكلُّ واحدٍ منهم تَرجَم في كتابه في زمانِه لقومِه وأتباعه على لسانهم.
قال: وأما مَانِيْ فإنه ادَّعى أنه من تلاميذ المسيح المستقيم الجاري على منهاج إبراهيم، وأنَّ غيرَه من النصارى قد زَاغُوا عن طريقِه، وأنَّ الإنجيلَ المنزلَ على عيسى هو الذي عنده، وادَّعَى أنه حينَ ارتقَى إلى السماء أُرْقِيَ إلى عيسى، وأنه بأمرِه عَمِلَ ما عَمِلَ وأسَّس ما أسَّس، فبِرِيْحِ المسيحِ تروَّح له ما تروَّح، وتَبِعَه من تَبِعَه، لا برأيِه.

قلتُ: والمشركون أعداءُ إبراهيم الذين يُبغِضُونَه ويُحِبُّونَ عدوَّه النّمرودَ موجودون إلى اليوم من مشركي التركِ والصينِ ونحوِهم، يُصورون الأصنامَ على صورةِ النّمرود كبارًا وصغارًا، وفيها ما هو كبيرٌ جدًّا، ويعبدون تلك الأصنامَ ويُسبِّحونَ باسمِ النمرود، ومعهم مَسَابِحُ يُسبحون بها: سبحانَ النمرود! سبحانَ النمرود!
وإبراهيم صلواتُ الله وسلامُه عليه هو الذي جعلَه إمامًا لمن بعدَه من الناس، فلا يُوجَد قطُّ مؤمن ولا منافق يُظهِر الإيمانَ إلاّ وهو مُعظِّم لإبراهيم. وإن كان فيهم من يُكذبُ بكثيرٍ مما كان عليه إبراهيم. وقد جعلَ الله في ذريتِه النبوة والكتاب، فالأنبياءُ بعدَه من ذريتِه، فلا يُوجَد مَن يؤمن بالأنبياء إلا وهو مؤمن بإبراهيم، ولا مَن يدعو إلى عبادةِ الله في الجملة وينهى عن الشرك إلاّ وهو مُعظِّمٌ لإبراهيم.
وإن كان فيهم من هو مكذِّب بكثيرٍ مما كان عليه إبراهيم، ومكذِّبٌ ببعض الأنبياء والرسُل= فإبراهيم بريء منه، ومن ذريته محسنٌ وظالمٌ لنفسه مبين، كما كان مُشرِكو العربِ، وكما يُوجَد عليه أهلُ الكتاب،

(5/187)


فإنه حينَ بُعِثَ إبراهيمُ كان الشركُ قد طَبقَ الأرضَ، وامتلأتْ بعبادة الكواكب العُلْوية والأصنامِ السُّفْلية، فأظهرَ التوحيدَ ودَعَا إليه، وعَادَىَ الشركَ وأهلَه، ونَصَرَه الله على قومِه.
والقرآنُ في غيرِ موضعٍ بيَّن أنه كان حنيفًا، وجعلَ الحنيفيةَ صفتَه، حتَّى إنَّ لفظ “حنيف” يُنصَب على الحال من المضاف إليه، كقوله: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (1) و (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (2)، وهذا منصوبٌ على الحال، والكوفيون يسمونَه نصبًا على القطع، لكونه لم يكن صفةً في اللفظ فقُطِعَ، وهو معنى قول البصريين إنه منصوب على الحال.
وقد قالَ بعضُ النحويين: انتصابُ الحالِ على المضاف إليه لا يجوزُ حتى يكونَ المضافُ والمضافُ إليه بمنزلة شيء واحدٍ، كقوله: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) (3) هو حالٌ من الأخ، لأنه واللحم شيء واحد. وقوله: (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) كذلك، لأنّ الملَّةَ بمنزلة البعضِ منه، كقولِ عدي بن حاتم (4) -لمَّا أتاهُ يَعرِض عليه الإسلامَ-: “إني على ديني”، كأنه قال هُجْنةً منه. ولهذا يجوز لك أن تقول: “أعمى زيدٌ علمه ودينه” فتجعلهما بدلاً من زيدٍ.
(آخر ما وُجِد. والله أعلم).
__________
(1) سورة البقرة: 135.
(2) سورة النحل: 123.
(3) سورة الحجرات: 12.
(4) أخرجه أحمد (4/ 257، 258، 379) عن عدي.

(5/188)


مسألة فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه

(5/189)


بسم الله الرحمن الرحيم
فصل
فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه، فهو يفعله لما فيه من المحبة له، لا لله، ولا لغيره من الشركاء، مثل أن يحب الإحسان إلى ذوي الحاجات، ويحب العفو عن أهل الجنايات، ويحب العلم والمعرفة وإدراك الحقائق، ويحب الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، فإن هذا كثير غالب في الخلق في جاهليتهم وإسلامهم، في قوتي النفس العلمية والعملية، فإن أكثر طلاب العلم يطلبونه محبة، ولهذا قال أبو داود للإمام أحمد بن حنبل: طلبتَ هذا العلمَ -أو قال-: جمعتَه لله؟ فقال: لله عزيز، ولكن حُبِّب إليَّ أمر ففعلته.
وهذا حال أكثر النفوس، فإن الله خلق فيها محبة للمعرفة والعلم وإدراك الحقائق، وقد يخلق فيها محبة للصدق والعدل والوفاء بالعهد، ويخلق فيها محبة للإحسان والرحمة للناس، فهو يفعل هذه الأمور: لا يتقرب بها إلى أحد من الخلق، ولا يطلب مدح أحدٍ ولا خوفًا من ذَمِّه، بل لأن هذه الإدراكات والحركات يتنعَّم بها الحيُّ ويلتذُّ بها، ويجد بها فرحًا وسرورًا، كما يلتذُّ بمجرد سماع الأصوات الحسنة، وبمجرد رؤية الأشياء البَهِجَة، وبمجرد الرائحة الطيبة.

(5/191)


وكذلك يلتذ ويفرح ويتنعَّم بمعرفة نفسه للأشياء التي تُعرف بالباطن، ويلتذ أيضًا بشهود باطنه وإحساسه، كما يلتذ بشهود ظاهره وإحساسه، وكذلك يلتذ بما تعقله نفسه من الأمور الكلية التي تعقلها، وكذلك في أفعاله وحركاته، كما يلتذ بأكله وشربه ونكاحه، وكما يلتذ برحمته وإحسانه إلى أهل الحاجات من أقاربه وغير أقاربه، ويلتذ بالجود والإعطاء، ويلتذ بالعفو عن المسيء إليه وترك معاقبة المسيء، كما يُذكر عن المأمون أنه قال: لقد حُبِّبَ إليَّ العفو حتى إني أخاف ألا أثاب عليه.
فهذه مكارم الأخلاق التي تكون في بني آدم، كما كانت تكون في أهل البادية، فهذا الحس وهذه الحركة الإرادية يتنعَّم به الحي ويتنفع به ويلتذ في الحال.
ولا يُقال: إن فعل ذلك لغير غرض ولا لجلب منفعة أو دفع مضرة، بل فيه جلب منفعة ودفع مضرة في نفسه، كما في نفس الآكل والشارب يستجلب به منفعة الشبع، ويستدفع به مضرة الجوع، فهكذا سائر هذه الأمور يدفع بها عن نفسه مضرات، ويستجلب لها بها لذات.
ولهذا يُقال: اشتفت نفسه، وشفيت صدري، فيجد شفاءً في صدره، كما يجد شفاءً في جسمه بزوال المرض وحصول العافية.
وهذه أمور محسوسة بالباطن والظاهر، وهي التي أدرك حسنها من قال: إن العقل يُقبِّح ويُحسِّن، ومن قال: إن العلم بحسنها لصفة قائمة بها معقولةٍ: إما بالبديهة وإما بالنظر، أو معلومة بالشرع.

(5/192)


ولقد صدق في قوله: إن حسنها وقبحها لمعنى قام بها، وصدق أن ذلك قد يُدْرَك بالعقل، وقد يدرك بالشرع.
وقد غَلِطَ الأول في نفيه أن يكون ذلك لما فيه من جلب منفعة إلى العبد ودفع مضرة راجعة إلى نفسه، وإن كان ذلك في الدار الآخرة أيضًا، فإن ذلك أمر محسوس.
والثاني غَلِطَ حيث اعتقد أن ذلك ليس لصفة في الفعل، وأن الحُسن والقُبح ليس إلا مجرد إضافة الفعل إلى الأمر والنهي، فأصاب بعض الإصابة في كونه جعل ذلك من الملاءمة للطبع والمنافرة عنه، ومن باب كمال المتصف بذلك ونقصه، ولكن غلط في ظنه أن الحُسن والقُبح العقليين صادرَيْن (1) عن ذلك، ولم يَغلَطْ كل الغلط، فإن الحُسن والقبح الذي يُدرك بالحس وبالعقل وبالشرع، وبالبصر والنظر والخبر، بالمشهور الظاهر وبالباطن، وبالمعقول القياسي وبالأمر الشرعي= هو في الأصل من جنس واحد، فإن كلاًّ يُعْلَم بذلك ويثبت به ما لا يُعلم بالآخر ويثبت به.
وهذه الطرق الثلاثة: السمع، والبصر، والعقل، هي طرق العلم: فالبصر -وهو المشهود الباطن والظاهر- يدرك ما في هذه الحركات والإرادات من الملاءمة والمنافرة، والمنفعة والمضرة العاجلة.
والسمع -وهو وحي الله وتنزيله- يخبر بما يَقْصر الشهود عن إدراكه من منفعة ذلك ومضرته في الدار الآخرة.
__________
(1) كذا في الأصل.

(5/193)


فتمام الدين بالفطرة وتقديرها، لا بتحويلها وتغييرها، فإن كل مولود يولد على الفطرة، والله خلق عباده حُنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرَّمت عليهم ما أحل الله لهم، وأمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزِّل به سلطانًا. هكذا أخبرنا الله فيما روى عنه رسوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (1).
فهم بفطرتهم يحبون الله وحده ويحبون تناول ما يحتاجون إليه من الطيِّبات، والمحبة تتبع الشهود والإحساس، فهذا الذي في فطرهم من الحس والحركة إلى عبادة خالقهم مما يعينهم عليها من طيبات الرزق، هو وجه الحُسن الثابت بالأفعال الحسنة: مأمُورِها ومبَاحِها، فإن ذلك كله حسن، لما فيه من هذه الملاءمة المناسبة والمحبة التي فطروا عليها، فما كان من ذلك مشهودًا في عالم الشهادة أدرك بالشهود والإحساس، وما كان غيبًا أُدرك بالسمع الذي جاء به المرسلون.
والقلب يعقل هذا المشهود وهذا المسموع، فلابد من أن يعقل ما أمر الله به وأخبر، كما لابد أن يعقل ما شهدنا وحسسنا، فيعقل الشهادة والغيب، بمعنى ضبط العلم بجريان ذلك على وجهٍ كلي ثابت في النفس.
لكن زَعْم أولئك أن العقل يُدرك من حسن الفعل وقبحه ما فيه ملاءَمة باطل، كما أن زعم أولئك أن الشرع يأتي بحسن أو قبح لا
__________
(1) برقم (2865) عن عياض بن حمار المجاشعي.

(5/194)


ملاءمة فيه باطل، فأولئك إنما نَفَوا ذلك لأنهم أرادوا أن يثبتوا للرب من جنس ما عقلوه في البشر، وأنكروا الملاءمة في حقه والمنافرة.
وهؤلاء أرادوا أن يثبتوا شرعًا محضا مبنيًّا على محض المشيئة ليس فيه ملاءمة ولا منافرة، وكلا الفريقين أنكر حقيقة محبة الله ورضاه للأفعال الحسنة، وبغضه للمسيئين بها، وهذا هو المعنى الذي يُعَبِّرون عنه في حقنا: الملاءمة والمنافرة، وإنما أتوا من جهة ما فيهم من نوع تَجهُّمٍ (1).
ولهذا أنكر أولئك -مع إنكارهم لهذه الصفات- أنكروا القدر، وهو عموم قدرته ومشيئته وخلقه، وأنكر هؤلاء ما في الشريعة من المناسبات والمحاسن التي انطوى عليها الأمر والنهي، وأنكروا أيضًا ما في خلقه ومشيئته من الحكمة والرحمة.
فهؤلاء أثبتوا القدرة والمشيئة والخلق، ولكن قصَّروا في إثبات الرحمة والحكمة والعدل، وأولئك أثبتوا شيئًا من الحكمة والعدل، ولكن قصَّروا في ذلك أيضًا، مع تقصيرهم في القدرة والمشيئة والخلق، وإن كان كل من الفريقين لا ينكر أمر الشرع ونهيه.
لكن غلاة أولئك دفعوا بعقولهم كثيرًا مما جاء به الشرع من الأمر والنهي، وقالوا: هذا يخالف الحكمة المعقولة، كما فعل إبليس وذووه. وغلاة هؤلاء دفعوا أيضًا الأمر والنهي وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، كما قال المشركون. وإبليس أغلظ كفرًا، ولهذا كانت بدعة أولئك أقرب إلى السنة والجماعة.
__________
(1) انظر “مجموع الفتاوى” (8/ 431 – 436).

(5/195)