http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: جامع المسائل [آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (2، 3، 4، 5، 9، 13، 17، 18، 29)]المؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661 – 728 هـ) تحقيق: جـ 1 – 6، 8 (محمد عزير شمس)، جـ 7 (علي بن محمد العمران)، جـ 9 (عبد الرحمن بن حسن قائد) راجعه: جـ 1 – 4، 7 (سليمان بن عبد الله العمير، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 5، 6 (سليمان بن عبد الله العمير، جديع بن محمد الجديع، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 9 (سليمان بن عبد الله العمير، على بن محمد العمران) الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الثانية (للمجموعات من 1 – 9)، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الأجزاء: 9 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
وهذه الأمور التي تحبها النفوس والقلوب بفطرتها هي المعروف، والتي تبغضها هي المنكرِ، فإن المعروف هو إحساس مع محبة، والإنكار إحساس مع بغْضة. فأما ما لم يُحَسّ بحال فلا يُعرف ولا ينكر، وما لا يُحب وَلا يبغض بحال فلا يُعْرف ولا ينكر. وإذا حُدِّث الرجل بحديث فأنكره لجهله فإنه أنكر ما لا أحبه سمعُه، وكذلك الحديث المنكر عند أهل الحديث هو ما لم يسمعوه فيحبوه لصحته وصدقه، فإذا سمعوا بذلك أنكروه بعد إحساسه.
والمقصود هنا أن محبة هذه الأمور الحسنة ليس مذمومًا بل محمودًا، ومن فعل هذه الأمور لأجل هذه المحبة لم يكن مذمومًا ولا معاقبًا، ولا يُقال إن هذا عمله لغير الله، فيكون بمنزلة المرائي والمشرك، فذاك هو الشرك المذموم. وأما من فعلها لمجرد المحبة الفطرية فليس بمشرك ولا هو أيضًا متقربًا بها إلى الله، حتى يستحق عليها ثواب من عمل لله وعبده، بل قد يثيبه عليها بأنواع من الثواب: إما بزيادة فيها في أمثالها، فيتنعَّم بذلك في الدنيا، ولهذا كان الكافر يُجزى على حسناته في الدنيا وإن لم يتقرب بها إلى الله، ولو كان فِعْل كل حَسَنٍ إذا لم يُفعل لله مذمومًا يستحق به صاحبه العقاب لما أطعم الكافر بحسناته في الدنيا إذا كانت تكون سيئاتٍ لا حسنات، وإذا كان قد يتنعّم بها في الدنيا ويُطعم بها في الدنيا، فقد يكون من فوائد هذه الحسنات ونتيجتها وثوابها في الدنيا أن يهديه الله إلى أن يتقرب بها إليه، فيكون له عليها أعظم الثواب في الآخرة.
(5/196)
وهذا معنى قول بعض السلف (1): طلبنا العلم لغير الله فأبي أن يكون إلا لله. وقول الآخر لما قيل له: إنهم يطلبون الحديث بغير نيَّة، فقال: طلبهم له نيَّة، يعنى نفس طلبه حسن ينفعهم. وهذا قيل في العلم لخصوصيته، لأن العلم هو الدليل المرشد، فإذا طلبه بالمحبة وحصَّله عرَّفه الإخلاصَ لله والعملَ له.
ولهذا قال من قال: هو من النظر الأول الذي هو مُقدمة العِرفان، فإن القصد والنية مشروط بمعرفة المقصود المنوي به، فإذا لم يعرفه بعدُ كيف يتقرب إليه؟ فإذا نظر بمحبة أو غيرها فعلم المعبود المقصود صح حينئذ أن يعبده ويقصده. وكذلك الإخلاص كيف يخلص من لم يعرف الإخلاص؟ فلو كان طلب علم الإخلاص لا يكون إلا بالإخلاص لزم الدَّوْر، فإن العلم هو قبل القصد والإرادة من إخلاص وغيره، ولا تقع الإرادة والقصد حتى يحصل العلم.
وعلى هذا فما ذكره الإمام أحمد عن نفسه هو حسن، وهو حال النفوس المحمودة المستقيمِ حالُها. ومن هذا قول خديجة رضي الله عنها للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك لتَصلُ الرحمَ وتَصْدُقُ الحديثَ وتَقْرِيْ الضيفَ وتَحمِلُ الكلَّ وتكسِبُ المعدومَ وتُعِينُ على نوائب الحق.
فهذه الأمور كان يفعلها محبة لها، خُلق على ذلك وفُطر عليه، فعلمت أن النفوس المطبوعة على محبة الأمور المحمودة وفعلها لا يوقعها الله فيما يضاد ذلك من الأمور المذمومة، لما قال لها: “قد خشيتُ
__________
(1) رُوي ذلك عن معمر وغيره، انظر: “جامع بيان العلم” (1/ 748 وما بعدها) و”الجامع” للخطيب (775).
(5/197)
على نفسي”. قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا …. الحديث، وهو في الصحيحين (1).
وقد تنازع الناس في النبوة: هل هي مجرد إنباء الله لعبده، أو هي راجعة إلى صفات كمالٍ فيه؟ كما تنازعوا في النبوة: هل هي مجرَّد تعلق خطاب الشارع، أو هي راجعة إلى صفات يتميز بها، ولابد من خطاب إلهي أو إنباء؟ ولهذا كانت النبوة أجزاءً، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جُزءًا من النبوة”. رواه أهل السنن (2)، فهذا في العمل. وقال في العلم: “الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءً من النبوة” (3). وقال: “ثلاث من أخلاق المرسلين” (4).
وهذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حُسن وقُبح، وكل حمدٍ وذم، فإنه لولا الإحساس الذي يُعتد به في حب حبيب وبغض بغيض لما وجدت حركة إرادية أصلاً تحرك شيئًا من الحيوان باختياره، ولَمَا كان أمرٌ ونهي وثواب وعقاب،
__________
(1) البخاري (3 ومواضع أخرى) ومسلم (160) عن عائشة.
(2) أخرجه أحمد (1/ 296) والبخاري في “الأدب المفرد” (468، 791) وأبو داود (4776) عن ابن عباس.
(3) أخرجه البخاري (6989) عن أبي سعيد الخدري. وفي الباب عن أبي هريرة وعبادة بن الصامت وغيرهما في الصحيحين.
(4) أخرجه الطبراني في الكبير مرفوعًا وموقوفًا على أبي الدرداء بلفظ “ثلاث من أخلاق النبوة … “. قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (2/ 105): الموقوف صحيح، والمرفوع في رجاله من لم أجد من ترجمه.
(5/198)
فإن الثواب إنما هو بما تحبه النفوس وتتنعم به، والعقاب إنما هو بما تكره النفوس وتتعذب به، وذلك إنما يكون بَعْد الإحساس، فالإحساس والحب والبغض هو أصل ما يوجد في الدنيا والآخرة من أمور الحي، وبه حَسُنَ الأمر والنهي والوعد والوعيد. وذاك الأمر والنهي والوعد والوعيد هو تكميل للفطرة، وكل منهما عون على الآخر، فالشريعة تكميل للفطرة الطبيعية، والفطرة الطبيعية مبدأ وعون على الإيمان بالشرع والعمل به، والعبد من دان بالدين الذي يصلحه فيكون من أهل [العمل] الصالح في الآخرة، والشقيّ من لم يتبع الدين ويَعملِ العملَ الذي جاءت به الشريعة، فهذا هذا، والله أعلم.
(5/199)
فصل في انتفاع الإنسان بعمل غيره
(5/201)
قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية:
من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلاَّ بعمله فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة:
أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير.
ثانيها: أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها.
ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير.
رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك منفعة بعمل الغير.
خامسها: أن الله تعالى يُخرِج من النار من لم يعمل خيرًا قط بمحض رحمته، وهذا انتفاع بغير عملهم.
سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير.
سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) (1) فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما.
__________
(1) سورة الكهف: 82.
(5/203)
ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهو من عمل الغير.
تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير.
عاشرها: أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير.
حادي عشرها: المدين قد امتنع – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من الصلاة عليه حتى قَضى دينَه أبو قتادة (1)، وقضى دينَ الآخر عليُّ بن أبي طالب، وانتفع بصلاة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو من عمل الغير.
ثاني عشرها: أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال لمن صلى وحده: “ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه” (2)، فقد حصل له فضلُ الجماعة بفعل الغير.
ثالث عشرها: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه، وذلك انتفاع بعمل الغير.
رابع عشرها: أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه، وهذا انتفاع بعمل الغير.
__________
(1) أخرجه البخاري (2289، 2295) عن سلمة بن الأكوع.
(2) أخرجه أحمد (3/ 5، 45، 64، 85) والدارمي (1375) وأبو داود (574) وابن خزيمة (1632) عن أبي سعيد الخدري.
(5/204)
خامس عشرها: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر، وهذا انتفاع بعمل الغير.
سادس عشرها: أن جليس أهل الذكر يرحم بهم، وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له، والأعمال بالنيات، فقد انتفع بعمل غيره.
سابع عشرها: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه، وهو عمل غيره.
ثامن عشرها: أن الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد، وهو انتفاع للبعض بالبعض.
تاسع عشرها: أن الله تعالى قال لنبيه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (1)، وقال تعالى: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) (2)، وقال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) (3).
فقد رفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض، وذلك انتفاع بعمل الغير.
عشروها: أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يَمونُه الرجل، فإنه ينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له فيها.
__________
(1) سورة الأنفال: 33.
(2) سورة الفتح: 25.
(3) سورة البقرة: 251، سورة الحج: 40.
(5/205)
حادي عشريها: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون، ويثاب على ذلك ولا سعيَ له.
ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يُحصى، فكيف يجوز أن نتأول الآية الكريمة على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة؟
(5/206)
رسالة في اتباع الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
(5/207)
إلى ما خُلِقوا له من عبادتِه، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)) (1)، وقال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (2)، وقال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)) (3)، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)) (4).
وفرض على أهل الأرضِ: عَرَبِهم وعَجَمهم، وإنْسِهم وجنَهم، ودَانِيْهم وقاصيْهم اتّباعَه وطاعتَه، كما قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)) (5)، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (6).
__________
(1) سورة الذاريات: 56 – 57.
(2) سورة يوسف: 108.
(3) سورة الأحزاب: 45 – 46.
(4) سورة الشورى: 52 – 53.
(5) سورة الأعراف: 158.
(6) سورة سبأ: 28.
(5/209)
وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “فُضَلْنا على الأنبياءِ بخمسٍ: جُعِلَتْ صفوفُنا كصفوفِ الملائكة، وجُعِلتْ لنا الأرضُ مسجدًا طَهورًا، وأُحِلَّتْ لنا الغنائمُ ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلَنا، وكان النبيُّ يبعث إلى قومِه خاصةً وبُعِثتُ إلى الناس عامةً”. أخرجاه في الصحيحين (1).
وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “والذي نفسي بيده لا يَسمَعُ بي في هذه الأمة يهوديّ ولا نَصرانيّ ثمَّ لا يُؤمنُ بي إلاّ دَخَلَ النارَ”. رواه مسلم (2).
وتصديقُه قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) (3).
ولم يَجعَلْ لأحدٍ بلغَتْه رسالتُه وصولاً إلى الله وإلى رحمتِه إلاّ بمتابعتِه، كما قال تعالى: (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)) (4)، وقال في الآية الأخرى: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)) (5)، وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)) (6).
__________
(1) البخاري (335، 438) ومسلم (521) بلفظ: “أُعطيتُ خمسًا لم يُعطَهن أحدٌ قبلي … “، وليس فيه “جُعِلَتْ صفوفنا كصفوف الملائكة”، وهذا الجزء ضمن حديث حذيفة عند مسلم (522).
(2) برقم (153) عن أبي هريرة.
(3) سورة هود: 17.
(4) سورة آل عمران: 84 – 85.
(5) سورة البقرة: 137.
(6) سورة آل عمران: 31.
(5/210)
وقال الحسن البصري وغيره (1): ادَّعتْ طائفة أنهم يُحبُّون الله على عهدِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لهم: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)، فجعلَ اتباعَ الرسول مُوجِبَ محبَّةِ العبدِ ربَّه جلَّ وعلاَ، موجبًا لمحبّهِ الربِّ تعالى عبدَه ومغفرتِه ذنوبَه.
وفي الصحيح (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “كلُّ الناس يَدخُلُ الجنَّةَ إلاّ من أبَى”، قالوا: يا رسولَ الله! ومن يأبَى؟ قال: “من أطاعَنِي دَخَلَ الجنَّةَ، ومن عَصَانِي فقد أبي”. كقوله تعالِى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)) (3)، وقوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)) (4). وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (5).
وهذا بابٌ واسعٌ، وهو متفقٌ عليه بين المسلمين. فافترقَ الناسُ فيما جاء به الرسولُ ثلاثَ فِرَق:
فرقة امتنعوا من اتباعِه، كاليهود والنصارى والمشركين ونحوهم، فهؤلاء كُفّارٌ تَجِبُ معاملتُهم بما أمر الله به ورسولُه.
__________
(1) أخرجه الطبري (3/ 155) عن الحسن وابن جريج.
(2) البخاري (7280) عن أبي هريرة.
(3) سورة النساء: 13 – 14.
(4) سورة النساء: 65.
(5) سورة النساء: 64.
(5/211)
وقسم آمنوا بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا، واتبعوا ما جاء به الرسولُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقسم أظهروا الإيمانَ بألسنتهم، ولم يَدخُلِ الإيمانُ في قلوبِهم. فهؤلاء المنافقون الذين قال الله فيهم: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)) (1) إلى آخر السورة. وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)) (2) إلى تمام ثلاث عشرة آية.
وأنزل الله في صفاتهم سورة براءة، وذكرهم في غيرِ موضع من القرآن، وأمرَ رسولَه بجهادِهم كما أمرهُ بجهاد الكفار. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)) (3).
وأما الكفار فيجاهَدون حتى يُؤمنوا أو يُؤَدُّوا الجزيةَ إن كانوا من أهلِها، كما قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)) (4).
__________
(1) سورة المنافقون: 1.
(2) سورة البقرة: 8 – 10.
(3) سورة التحريم: 9، وسورة التوبة: 73.
(4) سورة التوبة: 29.
(5/212)
وأما المنافقون فجهادُهم بإقامةِ الحدود عليهم، هكذا ذكره السلف، لأنهم يُظهِرون الإسلام بألسنتهم، فإذا خَرجوا عن موجب الدين أُقِيمَ الحدُّ عليهم، وهم قسمانِ:
قوم نافقوا في أصل الدين، وأظهروا الإيمان بالله ورسوله، وليس ذلك في قلوبهم، بل هم غافلون عما جاء به الرسولُ ومُعرِضون عنه، إلى الاشتغالِ بدينِ غيرِه، والاشتغالِ بالدنيا عن نفسِ إيمانِ القلوب، وأضمروا تكذيبَ الرسولِ أو بُغضه أو معاداتَه أو معاداة ما جاءَ به. فمتى لم يكن الإيمانُ بالله ورسوله في قلوبِهم كانوا منافقين في أصلِ الدين، سواءٌ كانوا معتقدين لِضدِّ ما جاء به الرسولُ أو خَالِينَ عن تصديقِه وتكذيبه، كما أنّ كلَّ من لم يُظْهِر الإسلامَ فهو ظاهرُ الكفر، سواء تكلَّم بَضدِّه أو لم يَتكلَّم. ولا يُنْجِي العبادَ من عذاب الله تعالى إلاّ إيمان يكون في قلوبهم، حتى إذا سُئِل أحدُهم في الَقبر فقيل له: مَن ربُّك؟ وما دينُك؟ ومن نبيُّك؟ قال: ربِّي الله، والإسلامُ ديني، ومحمد نبيِّي، فيُفتَح له باب إلى الجنَّة، وينام نومةَ العروسِ الذي قد دخلَ بامرأتِه، لا يُوقِظُه إلاّ أحبُّ أهلِه إليه.
وأما المنافقُ فيقولُ: هاه هاه، لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون شيئًا فقلتُ مثلَهم، فيُضْرَبُ بمِرْزَبةٍ من حديدٍ، فيَصِيح صيحةً يَسمعُها كلّ شيء إلاّ الإنسان، ولو سمعَها الإنسانُ لصَعِقَ (1). قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 287، 288، 295، 297) وأبو داود (4753) وابن ماجه (1548، 1549) من حديث البراء بن عازب. وأصله في الصحيحين مختصرًا.
(5/213)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)) (1).
والقسم الثاني: المنافقون في بعض أمور الدين، مثل الذي يُكثِر الكَذِبَ أو نَقْضَ العهدِ أو خلافَ الوعدِ، أو يَفْجُر في الخصومة.
قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “أربع من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهنَّ كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يَدَعَها: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أخلفَ، وإذا عاهَدَ غَدَر، وإذا خاصَمَ فَجَر”.
أخرجاه في الصحيحين (2).
وقد أوجبَ الله تعالى على أهلِ دينه جهادَ مَن خَرَجَ عن شيءٍ حتى يكونَ الدينُ كلُّه لله، كما قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ). (3) فمن خَرَجَ عن بعضِ الدين إن كانَ مقدورًا عليه أُمِرَ بالكلام، فإن قَبِلَ وإلاّ ضرِبَ وحُبسَ حتى يؤديَ الواجبَ ويَتركَ المحرَّم، فإن امتنعَ عن الإقرارِ بما جَاء به الرسولُ أو شيءٍ منه ضُرِبَتْ عُنُقُه.
وإن كان في طائفةٍ ممتنعةٍ قُوتِلُوا، كما قاتلَ أبو بكر رضي الله عنه وسائرُ الصحابة مانعي الزكاةِ، مع أنهم كانوا مُقِرِّينَ بالإسلام بَاذِلينَ للصلواتِ الخمسِ، حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: واللهِ لو مَنَعُوني عَنَاقًا كانوا يُؤدُّونَها إلى رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لقاتلتُهم على
__________
(1) سورة النساء: 145 – 146.
(2) البخاري (34، 2459، 3178) ومسلم (58) عن عبد الله بن عمرو.
(3) سورة الأنفال: 39.
(5/214)
مَنْعِها (1). وكما قاتلَ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومَن معه من الصحابة الخوارجَ، الذين قال فيهم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “يَحْقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتِهم وصيامَه مع صيامِهم وقراءتَه مع قراءتِهم، يقرأون القرآن لا يُجاوِزُ حَناجرَهم، يَمْرُقون من الإسلام كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّة، أينَما لَقَيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قَتْلِهم أجرًا عند الله لمن قَتَلَهم يومَ القيامةِ” (2).
وهؤلاء الخوارجُ الحَرُوريةُ هم أولُ من ابتدعَ في الدين وخَرج عن السنةِ والجماعة، حتى إنّ أوَّلَهم خَرجَ عن سنة رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في حياتِه، وأنكرَ على النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قِسْمةَ المالِ، وأنزلَ الله فيهم. وفي أمثالِهم: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (3). قال ابن عباس وغيرُه: تبيضُّ وجوهُ أهلِ السنة وتَسْوَدُّ وجوهُ أهلِ البدعةِ والفُرقة (4).
فكلُّ من خرج عن كتابِ الله وسنةِ رسوله مِن سوائر الطَّوائِفِ فقد وجب على المسلمين أن يَدْعُوهُ إلى كتاب الله وسنّة رسوله بالكلام، فإنْ أجاب وإلا عاقبُوهُ بالجَلْدِ تارةً، وبالقتلِ أُخرى على قَدْرِ ذَنبه، وسواء كان مُنْتَسِبًا إلى الدينِ مِنَ العلماء والمشايخ أو مِن رُؤَساء الدنيا من الأمراء والوزراء، فإنَّ من هؤلاء فيهم الأبرارُ والفُجَّارُ.
__________
(1) أخرجه البخاري (1400 ومواضع أخرى) ومسلم (20) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري (3610 ومواضع أخرى) ومسلم (1064) عن أبي سعيد، وبعضه عند البخاري (3611) ومسلم (1066) من حديث عليّ.
(3) سورة آل عمران: 106.
(4) انظر تفسير ابن كثير (2/ 747).
(5/215)
فأبرارُهم هم أئمَّةُ الدِّين وهداةُ المسلمين وصالحُو المجاهدين أهلُ الإيمان والقرآن؛ والحاملُ النَّاصرُ للإيمان والقرآن، هُمْ صَفْوَةُ الله من عباده وخِيَرَتُه من خلقِه، وموضعُ نظرِ اللهِ إلى الأرضِ، وورثةُ الأنبياء وخَلَفُ الرُّسُل، قال الله تعالى فيهم: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)) (1).
والبُشْرَى قد فَسَّرَها النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بالرؤيا الصَّالحةِ يَراها المؤمنُ أو تُرَى له (2)، وبالثَّناءِ الحَسَنِ مِن المؤمنين (3).
ومُرَّ على النبيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بجنازةٍ فأَثنوا عليها خيرًا، فقال: “وَجَبَتْ وَجَبَتْ”، ومُرَّ عليه بجنازةٍ فأثنوا عليها شَرًّا، فقال: “وَجبتْ وَجَبَتْ”، قالوا: يا رسولَ الله! ما قولك وَجَبتْ؟ قال: “هذه الجنازة أثنيتُم عليها خيرًا فقلتُ وَجَبَتْ لها الجَنَّةُ، وهذه الجنازة أثنيتُم عليها شَرًّا فقلتُ وَجَبَتْ لها النَّارُ، أنتُم شُهَدَاءُ الله في الأرض” (4).
فمن شَهِدَ له عُمُومُ المؤمنين بالخيرِ كان مِن أهل الخير، ومَن شُهِدَ له بالشَّرِّ كان من أهل الشَّرِّ.
__________
(1) سورة يونس: 62 – 64.
(2) أخرجه أحمد (5/ 315، 321) والدارمي (2142) وابن ماجه (3898) عن عبادة بن الصامت. وفي الباب عن أبي الدرداء وغيره. انظر تفسير ابن كثير (4/ 1759، 1760).
(3) أخرجه مسلم (2642) عن أبي ذر.
(4) أخرجه البخاري (1367، 2642) ومسلم (949) عن أنس.
(5/216)
وهؤلاء الفُجَّارُ المنتسبون إلى عِلمٍ أو دينٍ أو إِمْرَةٍ أو رِئَاسةٍ كالذين قال الله تعالى فيهم: (إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) إلى أن قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)) (1) وقد قال تعالي كتابه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)) (2)، قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “المغضُوب عليهم: اليهودُ، والضَّالِّين هم: النصارى” (3). قال الترمذي: هذا حديثٌ حسن صحيح.
قال العلماء: فمن أُوتِيَ عِلْمًا فلم يَعْمَلْ به كان فيه شَبَهٌ من اليهود الذين عرفوا الحقَّ ولم يتَبعُوه، ومَن عَبَدَ الله بلا عِلمٍ كان فيه شَبَه مِن النصارى الذين ابتدَعُوا الرَّهبانيةَ وعبدُوه بغير شريعةٍ.
وأما المؤمنونَ حقًّا فهُمُ المتمسكُونَ بالشريعة والمِنْهَاج المحمَّدِيِّ كما قال تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) (4) وقال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)) (5).
__________
(1) سورة التوبة: 34.
(2) سورة الفاتحة: 6 – 7.
(3) أخرجه أحمد (4/ 378) والترمذي (2953، 2954) عن عدي بن حاتم.
وانظر تفسير ابن كثير (1/ 164 – 165).
(4) سورة المائدة: 48.
(5) سورة الجاثية: 18.
(5/217)
ومن أعظم هؤلاء ضَلالاً: مَن انتسَبَ إلى إمام أو شيخ من شيوخ المسلمين، وابتدَعَ في دين الله ما لم يأذن به الله، أو ضَمَّ إلى ذلك أنواعًا من التكذيب والتلبيسِ، كهؤلاء المُتَوَلِّهينَ الذين يَفْتِلُونَ شُعُورَهم، ومَن وافقهم من المُظْهِرِين كمُحَرقة النَّار واللاذَنِ وماءِ الوَرْدِ والسُّكَّرِ والعسلِ والدم مِن صُدُورهم، وإمساكِ الحَياتِ زاعمينَ أنَّ ذلك كرامة لهم؛ واحتيالاً عن الصدِّ عن سبيل الله، وأكلِ أموال الناسِ بالباطلِ.
أمَّا فَتْلُ الشُّعور ولفِيفُهَا فبدعة ما أمر بها نبىٌّ ولا رجل صالح ولا فعلها مَن يُقتدى به، بل قد شَرَعَ الله ورسوُله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – التَّرجُّل مِن تَسْريح الشَّعر ودَهْنِه.
ودخل عليه رجلٌ ثائرُ الشَعر فقال: “أَمَا وَجَدَ هذا ما يُسَكِّنُ به شَعْرَهُ؟ ” (1).
ولعَنَ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الواصلة والموصولةَ (2)، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال (3).
وأمر بإحفاءِ الشارب وإعفاء اللِّحية (4)، وقال: “مَن كان له شَعْرٌ
__________
(1) أخرجه أحمد (3/ 357) وأبو داود (4062) والنسائي (8/ 183) عن جابر بن عبد الله. وصححه ابن حبان والحاكم.
(2) أخرجه البخاري (5941) ومسلم (2122) عن أسماء. وفي الباب أحاديث أخرى.
(3) أخرجه البخاري (5885) عن ابن عباس.
(4) في أحاديث عديدة في الصحيحين وغيرهما.
(5/218)
فليُكْرِمُهُ” (1)؛ لا سيما والشَّعْرُ إذا كان لا يَدْخُلُ فيه الماءُ إلى باطنِه، لا يصحُّ الاغتسال من الجنابة، ويبقى صاحبُه لا طهارةَ له ولا صلاةَ، ومَن لا صلاة له لا دين له.
وكذلك معاشرة الرجل الأجنبي للنسوةِ ومخالطتُهنَّ مِن أعظم المنكرات التي تأباها بعضُ البهائم فضلاً عن بني آدم، قال الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (2)، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (3).
وفي “الصحيح” (4) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “إيَّاكم والدُّخُولَ على النِّساءِ” قالوا: يا رسول الله، أَفَرَأيْتَ الحَمْوَ؟ قال: الحَمْوُ المَوْتُ”.
فإذا كان قد نهَى أن يدخُلَ على المرأة حموُها أخُو زَوْجِهَا، فكيف بالأجنبيِّ؟
وقال (5): “لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بامرأةٍ، فإنَّ ثالثَهُما الشَّيطَانُ”.
وقال (6): “لا تسافرِ المرأةُ مَسِيرَةَ يومين إلا مَع زوج أو ذِي مَحْرَمٍ”.
__________
(1) أخرجه أبو داود (4163) عن أبي هريرة.
(2) سورة النور: 30.
(3) سورة النور: 31.
(4) البخاري (5232) ومسلم (2112) عن عقبة بن عامر لا ابن عباس.
(5) أخرجه أحمد (1/ 18، 26) والترمذي (2165) وابن ماجه (2363) عن عمر.
(6) أخرجه البخاري (1197) ومسلم (بعد رقم 1338) عن أبي سعيد.
(5/219)
وكان إذا صلى في مسجده يُصلِّي الرِّجالُ خلفَه وخلفَهم النساءُ، فإذا قضَى الصلاةَ مَكَثَ هو والرجالُ حتى يَخْرُجَ النساءُ لئلاَّ تختلط النساءُ بالرجال.
وقال (1): “خيرُ صفوفِ الرجالِ أولُها، وشرُّها آخرُها، وخيرُ صفوفِ النساءِ آخرُها، وشرُّها أولُها”.
وقال أيضًا (2): “يا معشرَ النِّساءِ! لا تَرْفَعْنَ رؤوسكُنَّ حتى يَرْفَعَ الرجالُ رؤوسَهم مِن ضيقِ الأُزْرِ”، لئلاَّ تَبْدُوَ عورةُ الرجالِ فتراها المرأة.
وأَمَرَ النساء إذا مَشَيْنَ في الطريق أن يمشينَ على حافةِ الطريق ولا يَحْقُقْنَ الطريقَ (3) -أي: لا يَكُنَّ في وَسَطِه- بل يكونُ وَسَطَه الرجالُ لئلاَّ يَمَسَّ مَنْكِبُ الرجلِ مَنْكِبَ المرأة، حتى يُروَى عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أو عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تَرَكَ بابًا من أبواب المسجد للنساء، ونهَى الرجال عن دخوله، فكان عبد الله بن عمر لا يدخله (4).
وقالت عائشة رضي الله عنها: “ما مَسَّتْ يَدُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَدَ امرأةٍ لم يَمْلِكْها قَطُّ” (5).
__________
(1) أخرجه مسلم (440) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري (362) ومسلم (441) عن سهل بن سعد.
(3) أخرجه أبو داود (5272) عن أبي أسيد الأنصاري.
(4) أخرجه أبو داود (462، 463) مرفوعًا وموقوفًا، وقال: وهو أصح.
(5) أخرجه البخاري (2713 ومواضع أخرى) ومسلم (1866).
(5/220)
ولما جاء النساء يُبايعْنَه، قال: “إنِّي لا أُصافحُ النِّساءَ، وإنَّما قولي لمِئَةِ امرأة كقولي لاَمرأةٍ واحدةٍ” (1).
ويروى (2) أنه وَضع يده في إناءٍ فيه ماءٌ، ووضعْنَ أيدِيَهُنَّ فيه، ليكون ذلك عِوَضًا عن مصافحة النساء. كل ذلك لئلا يمسَّ الأجانبَ، وهو رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وتزوجَ بتسع؛ وسَيدُ الخَلق وأكرمُهم عند الله تعالى، فكيف بهؤلاء الضُّلاَّل المبتدعينَ الخارجينَ عن الإسلام الذين يجمعون بين النساءِ والرجالِ في ظلمة أو غير ظلمةٍ؟
ويُوهِمُ بعضُهم للنساء أن مباشرة الشيخ والفقراء قربة وطاعة، وأنه مُسْقِطٌ للصلاة، ويتخذونَ الزِّنَا والقيادةَ عِبَادةً، ويتركون ما أمر الله تعالى به من الصلوات واجتناب الفواحش، فما أحَقَّهم بقوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)) (3).
ثم يَعُدُّونَ التَّوَلُّهَ والتجَانُنَ وقِلةَ العقل والخروجَ عن العقل والدين قُرْبَةً وطاعةً، ويوهِمون الجُهَّالَ والأغْمَارَ من الأعراب والأتراك والفلاَّحين والنِّسوان أنَّ هؤلاء صَفْوَةُ الله تعالى، وإنَّ هؤلاء قد وَرَدَ عليهم مِن الأحوالِ ما جعلهم هكذا، فيتصرَّفُون في النفوس والأموال تَصَرُّفُ اللِّصِّ الخادع والمنافقِ المُخادع، مُوهِمِينَ حُصُولَ البركةِ
__________
(1) أخرجه أحمد (6/ 357) والترمذي (1597) والنسائي (7/ 149، 152) وابن ماجه (2874) عن أميمة بنت رقيقة. وقال الترمذي: حسن صحيح.
(2) أخرجه ابن إسحاق في السيرة، كما في “الفتح” (8/ 637).
(3) سورة مريم: 59.
(5/221)
لمَنْ أفسدوا عليه دِينَه ودُنْياه، كما يَفعل الرُّهبانُ والقسِّيسونَ بعَوامِّ النصارى، وهذا شيءٌ لم يَبْعَثِ الله به نبيًّا ولا قاله رجلٌ صالح قط، ومَن كان مِن الناس قد ذهب عقلُه حتى صار مجنونًا فقد رُفِعَ القلَم عنه، كما قال النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “رُفِعَ القلمُ عن الصبيِّ حتى يبلُغ، وعن النائِم حتى يستيقِظَ وعن المجنون حتى يُفِيقَ” (1).
وينبغي أن يُعالَجَ هذا بما يُعالَجُ به المجانين، فإنَّ الجُنُونَ مَرَض من الأمراض أو عارض من الجنّ، ومِن هؤلاء قوم لهم قلوبٌ فيها تأله وإنابةٌ إلى الله تعالى ومحبة له وإعراض عن الحياة الدنيا، قد يُسَمَّونَ “عُقَلاء المَجَانِين”، وقد يُسَمَّون “المُوَلهين” فهم كما قال فيهم بعضُ العلماء: “قومٌ أعطاهم الله عُقُولاً وأحوالاً فسلَب عُقُولَهم وأبقى أحوالَهم، فأسْقَطَ ما فَرَضَ بما سَلَبَ”.
فالمجانين كالعُقَلاء فيهم مَن فيه صَلاَحٌ، وفيهم مَن لا صَلاَح له.
وسَبَبُ جُنُونِ أحدِهم: إمَّا وارِد وَردَ عليه من المحبة أو المخافة أو الحُزْنِ أو الفَرح حتى انْحَرفَ مِزَاجُه. أو خَلْط غَلَبَ عليه من السَّوداءِ. أو قَرِين قُرِنَ به من الجِنِّ.
فهؤلاء إذا صحَّ أنهم مجانينُ ومولَّهونَ كانوا في قسم المعذورين الممنوع (2) على الفساد، ولا يحلُّ الاقتداءُ بِمَن فيه منهم صلاح؛
__________
(1) أخرجه أحمد (6/ 100، 101، 144) والدارمى (2301) وأبو داود (4398) والنسائي (6/ 156) وابن ماجه (2541) عن عائشة وفي الباب عن علي.
(2) كذا في الأصل.
(5/222)
ولا اتباعُ ما يقولُ من الأقوالِ والأفعالِ إلاَّ أن يُوافِقَ الشريعةَ.
ولا ينبغي تعظيمُهم، فإنهم منقُوصُونَ مجروحون، وصالِحُو العقلاءِ أفضلُ منهم بكثيرٍ كثير، وليس فيهم وليٌّ ولا صالحٌ مشهور، وإنما يَغْتَرُّ بهم بعضُ الجُهَّال، لأنَّ جُنُونَهم يُوجبُ أن يُظْهِرَ بعض ما في بواطنهم من كشفٍ أو زُهْدٍ أو تأثيرٍ فَيَسْتَعْظِمُ الجاهلُ ذلك.
وصالحُ العقلاء قد يكونُ معه أضعافُ ذلك، ولا يُظهرُه إلاّ حيث يراه مَصْلَحَةً، وقد يكون كِتْمَانُه أصلحَ لهم؛ فأما هؤلاء المفتلون الشَّعْرَ ونحوهم، فعامَّتُهم مُتَوَلِّهُون لا مُوَلَّهُونَ، يُظهِرُون ذلك كذبًا ومكرًا ومخادعةً للجهّال، كي يَتميَّزُوا بذلك ممَّا يُريدُونَه مِن النفوس والأموال، وحتى لا ينكَرَ عليهم ما يقولونه ويفعلونه من القبيح، فيقول الجاهلُ: هذا مُوَلَّهٌ.
وأحدُهم يميِّزُ بين الدِّرْهم والدينار، والغنيِّ والفقير، ويَعْرِفُ الخَيْرَ والشَّرَّ، وله فكرٌ طويلٌ في الحيلةِ التي يَحْتَالُ على الجُهَّال بها، ويَتَوَاجدون عند السماع المُحْدَثِ أو غيره، فيصيحون ويزعقون ويَزْبدون ويتغَاشَى أحدُهم، فبعض ذلك كذبٌ ومكرٌ وحيلة، وبعضُه عادة فاسدة وطريقةٌ سيئه.
وقد يُقْرَنُ بأحدهم قرين من الجنِّ فيُعينُه على ذلك، كما أنَّ المصروعَ يُزْبِدُ ويصيحُ كما يجري لهؤلاء؛ وشيوخُهُم يُقِرُّونَهم على ذلك [للاحتيال] على الجهال وأَكْلِ أموال الناس بهم؛ وإلاّ فقد أجمع المسلمونَ بلْ واليهود والنصارى أنَّ هؤلاء ضُلاَّلٌ وفَسَقَةٌ، وأن الواجب توبتُهم واتباعُهم لِمَا أمر الله به وتَرْكُ ما نهَى عنه، بل الواجب إذا رأينا
(5/223)
مُوَلَّهًا أو مجنونًا أن نُعالِجَه حتى يصير عاقلاً، فهؤلاء يَعْمِدونَ إلى الصبيانِ يُرَبُّونهم على التولُهِ تربيةً، ويُعَوِّدُونهم الخروجَ عن العقل والدين عادةً كما يُعَوِّدُ الأنبياءُ والصالحونَ أتباعَهم ملازمةَ العقل والدين.
قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1): “مروهم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقُوا بينهم في المضاجع”.
قال العلماءُ: يجبُ على كافلِ الصبيِّ أن يُعَلِّمَه الطهارةَ والصلاةَ، ويمنعَه اعتيادَ المُحَرَّمات.
وهؤلاء بخلاف ذلك، وعامَّةُ ما يُبْدُونَه من النار ونحوها مكر وحيلة من جنس حِيَلِ الرُّهبان، فإنهم يتوسَّلُون بالطَّلق ودهْنِ الضَّفادع وماءِ النارَنْج إلى أن يَصفُوَ ذلك، ثم يَطْلُونَ به لحومَهم وثيابَهم، فتَصْبِر على النارِ مُدَّةً طويلةً من الزمان، وكذلك يصنعونَ من دَمِ الأخوين ونَبتٍ يُقال له: أمُّ عربيل ما يُظْهِرون به أنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ من أحدهم وقتَ الوَجْدِ، وكذلك اللاذن ونحوه، وأضعاف ذلك، كفعل الرُّهبان على عوامِّ النصارى حِيَلاً أعظمَ من هذه.
وللصالحين كرامات معروفة من تسخير السِّباع والنارِ لهم وتكثير الطعام والشراب ودفع البلاء، ومن المكاشفاتِ وأنواع الخوارق للعادات، في أبواب العلم وأبواب القدرة، لكن طريقةُ الصالحين
__________
(1) أخرجه أحمد (2/ 180، 187) وأبو داود (495، 496) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وإسناده حسن.
(5/224)
طاعةُ الله ورسوله وملازمةُ الكتاب والسنة، وأقلُّ أحوالهم الصدقُ والبر، كما [أنّ] علامة الفاجر الكذبُ والفجور.
قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1): “عليكم بالصدق فإنَّ الصدقَ يهدي إلى البِرِّ وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدق حتى يُكتب عند الله صِدِّيقًا، وإيَّاكم والكذبَ فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذبُ ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذَّابًا”.
وهكذا قال الله تعالى في القرآن: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)) (2).
فأخبرَ أنَّ الشياطين تنَزَّلُ على الكذَّاب في قوله، الفاجر في فعله، كما كانت تنَزَّلُ على المتنبِّئين الكذَّابين مثل الأسودِ العَنْسِيِّ ومسيلمة الكذاب والمختارِ بن أبي عبيد؛ حتى قالوا لابن عمر أو لابن عباس (3) رضى الله عنهما: إن المختارَ يَزْعُم أنه يُنَزَّلُ عليه فقال: صَدَقَ: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)).
وقالوا لآخر (4): إنه يزعُمُ أنه يوحى إليه، فقال: صَدَقَ: (وَإِنَّ
__________
(1) أخرجه البخاري (6094) ومسلم (2607) عن عبد الله بن مسعود.
(2) سورة الشعراء: 221 – 222.
(3) هذا مرويّ عن عبد الله بن الزبير، كما في تفسير الطبري (19/ 77). وروي عن ابن عمر وابن عباس نحوه واستشهدا بآية سورة الأنعام. انظر تفسير ابن كثير (3/ 1356).
(4) روي عن ابن عمر في المصدر السابق.
(5/225)
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) (1).
فمن كان من أتباع الكذابين المتنبئين، فإنَّ أولئك كان يَظْهَرُ عليهم أشياءُ، والساحرُ والمُشَعْبذُ يَفعل أشياءَ، فإذا جاءت عَصَا الشريعةِ المحمدية ابتلعتْ ما صَنعَه الخارجون عنها من السِّحْر المُفْتَرَى، (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)) (2).
وقد يُفَضِّلُ شيخَه على رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – غُلُوًّا فيه، كما غَلَتِ النصارى في المسيح بن مريم عليه السلام، وغلتِ الرافضةُ في عليٍّ رضي الله عنه، بل الغاليةُ من النصارى والرَّافضة أَعْذَرُ من هؤلاء الغالية في بعض المشايخ المسلمين، كبعض المنتسبين إلى الشيخ أحمد بن الرِّفاعيّ والشيخ عَدِيٍّ أو الشيخ يونُسَ (3).
… له في الصيام وبعضُهم في الصدقة وبعضُهم في العلم وبعضهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أنواع أُخَرَ، مع اتفاق قلوبِهم واجتماع كلمتِهم واعتصامهم بحبل الله تعالى، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)) (4).
__________
(1) سورة الأنعام: 121.
(2) سورة طه: 69.
(3) سقطت بعده ورقة أو أكثر، فذهب بعض الكلام.
(4) سورة آل عمران: 102 – 103.
(5/226)
وقد يتنازعون في بعض أمور الدين، فإذا تنازعوا في شيءٍ من ذلك رَدُّوهُ إلى الله تعالى ورسوله، والكتاب والسنة، كما أمر الله ورسوله، وليس أحد بعد رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يتبعَ كلُّ ما يقوله ويفعلُه، بل كلُّ أحد يُؤخَذُ من قوله وفعله ويتركُ إلا رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه الإمامُ الذي فرضَ الله طاعتَه وأوجَب متابعتَه.
وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول في خطبتِه (1): “إنَّ أصدق الكلام كلام الله، وإن خير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة”.
فمن اتبع رجلاً غير الرسول -صلوات الله وسلامُه عليه- في كلِّ أقوالِه وأفعالِه مُعْرضًا عن الكتاب والسنة، أو غَلا في محبَّةِ بعضهم وتعظيمه حتى جاوزَ به حدَّه، وفضَّلَه على نُظَرائه تفضيلاً كثيرًا بلا بيِّنة، فهو مُضَاهٍ للنصارى الذين قال الله في حقهم: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) (2) الآية، وقال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا) (3) الآية، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (4) الآية، وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (5) الآية.
__________
(1) أخرجه مسلم (867) عن جابر.
(2) سورة التوبة: 31.
(3) سورة آل عمران: 79.
(4) سورة سبأ: 22.
(5) سورة المائدة: 77.
(5/227)
فإن الله تعالى ذَمَّ النصارى بكونهم غَلَوْا في الأنبياء والعلماء والعُبَّاد حتى جاوزوهُم حَدَّهم، فعبدُوهم حيث أطاعوهم فيما ابتدع (1) الأحبار والرهبان من الدين، وحللُوا لهم الحرام وحرَّموا عليهم الحلال، هكذا فسَّرَهُ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ واعتقدوا في المسيح نوعًا من الإلهية، وضاهاهم على ذلك مَن اعتقد في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيرِه من الأئمة أو بعض الأنبياء نوعًا من الإلهية، ومَن اعتقد في بعض الشيوخ نوعًا من الإلهية، حتى إنهم سجدوا لهم أحياءً وأمواتًا، ويَرْغَبُونَ إليهم في قبورهم في جلب المنافع ودفع المضارِّ، كما كان المشرِكون يرغبون إلى آلهتهم، ولهذا قال سبحانه وتعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)) (2).
قال ابن مسعودٍ وغيرُه (3): كان أقوام يدعون عُزَيرًا والمسيح والملائكة، فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم يتقرَّبون إلى الله كما تتقرَّبون إليه ويرجون الله ويخافونه.
كما قال بعضُ الفقهاء: إنَّ بعض الفقراء أوصاه عند موته: إذا كان لك حاجة أو أمر مُهِمٌّ أو ضيقٌ استوحِني أو استوحِ بي.
نعوذ بالله من الشرك والضلال، وهم لا يملكون كشف الضرِّ
__________
(1) في الأصل: “ابتدعوا”.
(2) سورة الإسراء: 56 – 57.
(3) انظر تفسير الطبري (15/ 72 – 73) وابن كثير (5/ 2103).
(5/228)
عنكم ولا تحويلا، وكما قال سبحانه: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (1)
وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (2) وقال تعالى: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (3).
فهؤلاء الضُّلاَّلُ عَمَدوا إلى ما لم يشرَعْه الله تعالى من البدع والضلالات والغُلُوِّ في الصالحين، وتمسَّكوا به وعَمَدُوا إلى دين الله تعالى الذي بَعَثَ به رسولَه فأعرضوا عن بعضِه؛ وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (4): “بنيَ الإسلام على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله وإقام الصلاة وإيتاءِ الزكاة وصومِ رمضان وحَجِّ البيت”.
وقال النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لمَّا سأَله جبريلُ عليه السلام عن الإسلام والإيمانِ والإحسان قال (5): “الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وإنَّ محمدًا رسولُ الله وتُقيمَ الصلاة وتُؤتي الزَّكاة وتَصومَ رمضان وتَحُجَّ البيتَ، والإيمانُ أن تؤمن بالله وملائكته [وكتبه] ورسلِه والبَعْثِ بعد الموت
__________
(1) سورة سبأ: 22 – 23.
(2) سورة البقرة: 255.
(3) سورة الأنبياء: 28.
(4) أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) عن ابن عمر.
(5) أخرجه مسلم (8) عن عمر. وأخرجه البخاري (50، 4777) ومسلم (9، 10) عن أبي هريرة نحوه.
(5/229)
وتُؤمنَ بالقدر خيرِه وشرِّه، والإحسانُ أن تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكن تراه فإنَه يراكَ” وقال: “هذا جبريلُ أتاكمْ ليُعَلِّمَكُم”.
فالمؤمنُ يدعو إلى الدين وينتسبُ إليه، وعليه أن يَدْعُوَ إلى الإسلام والإيمان والإحسان، ومِن ذلك: عِمارةُ المساجد بالصَّلوات الخمس وقراءةُ القرآن وذكرُ الله تعالى ودُعاؤه وأنواعُ العبادات وتعلُّم العِلم وتَعليمُه، كما كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وخُلَفاؤُه عليه، فإنَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد أخبرَ أنَ أمتَه ستفترقُ على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً كُلُّها في النار إلا واحدةً، قالوا: [مَن هي يا رسول الله؟ قال:] “هي الجماعةُ” (1)، وفي رواية (2): “مَن كان على مِثْلِ ما أنا عليه اليومَ وأصحابي”.
قال الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (3) الآية، وقال تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) (4) الآية، وقال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (5).
فأمرَ الله بالصلاة والمحافظة عليها؛ والذَّمُّ لمن أضاعها أكثرُ مِن
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (3992) عن عوف بن مالك. وفي الباب عن معاوية بن أبي سفيان عند أحمد (4/ 102) والدارمي (2521) وأبي داود (4597).
وسعد بن أبي وقاص عند عبد بن حميد في مسنده (148).
(2) رواها الترمذي (2641) عن عبد الله بن عمرو، وقال: هذا حديث حسن غريب مفسَّر.
(3) سورة النور: 36.
(4) سورة الأنعام: 52.
(5) سورة طه: 132.
(5/230)
أنْ يُذكر هنا، حتى إنه أوجب الصلاةَ في الأمن والخوف، رجالاً وركبانًا في الإقامة والسفر، وفي الصحةِ والمرضِ، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لعمران بن حُصين (1): “صَلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْبٍ”.
وحتى إنه إذا عَدِمَ الماء أو خاف الضَّرر باستعماله أُمِرَ بأنْ يتيممَ بالصَّعيدِ الطيِّب والتمسُّحِ له، ولا يجور تأخيرُها عن وقتها بحالٍ من الأحوال، إلا أنه في حال العُذْرِ يكونُ الوقت مشتركًا بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فيجوز الجمعُ بين العشاءين.
وشرعَ اللهُ ورسولُه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الصلواتِ الخمسَ والجماعاتِ، حتى أمرهُم الله أنْ يُقيموها في الجماعةِ حالَ الخوف، قال الله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) (2) الآية.
وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (3): “لقد هَمَمْتُ أنْ آمُرَ بالصلاة فتُقامَ، ثمَّ أنطَلِقَ مع رجالٍ معهم حُزَم مِن حَطَبٍ إلى قومٍ لا يشهدونَ الصلاةَ، فأُحَرقَ عليهم بيوتَهم بالنار”.
وقال (4): “تفضُلُ صلاةُ الجماعة على صلاة الفَذ خَمْسًا وعشرين درجةً”.
__________
(1) أخرجه البخاري (1117) عن عمران.
(2) سورة النساء: 102.
(3) أخرجه البخاري (644 ومواضع أخرى) ومسلم (651) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاري (646) عن أبي سعيد.
(5/231)
وقد شرع الله للمسلمين سماع كتابه في الصلاة وخارج الصلاة، لا سيَّما في صلاة الفجر، كما قال تعالى: (وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)) (1).
وكان أصحابُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول (2): “يا أبا موسى ذَكَرْنَا ربَّنا” فيقرأُ وهم يستمعون.
وقد رُوي عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه خرج على أهل الصُّفَّةِ فوجدَ فيهم رجلاً يقرأ وهم يستمعون، فجلس معهم يستمعُ (3).
وكان أصحاب رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عند السَّماع كما ذكر الله تعالى في كتابه توجَلُ قلوبُهم وتقْشعِرُّ جلودُهم وتَدْمَعُ عيونُهم. قال الله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (4)، وقال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) (5)، وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (6)، وقال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا
__________
(1) سورة الإسراء: 78.
(2) أخرجه الدارمي (3496) عن الزهري عن أبي سلمة.
(3) أخرجه أحمد (3/ 357، 397) عن جابر نحوه.
(4) سورة الزمر: 23.
(5) سورة المائدة: 83.
(6) سورة الحديد: 16.
(5/232)
لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)) (1).
فلما كان التابعون فيهم مَن يموتُ أو يَصْعَقُ عند سماع القرآن فمِنَ السلف مَن أنكرَ ذلك ورآه بدعةً، وأنَّ صاحبَه متكلِّف، وأمَّا أكثرُ السَّلف والعلماء فقالوا: إنْ [كان] صاحبُه مغلوبًا، والسماع مشروعًا، فهذا لا بأس به، فقد صَعِقَ الكليمُ لما تجلَّى ربُّه للجبل، بل هو حال حَسَن محمود فاضِل بالنسبة إلى مَن يَقْسُو قلبُه.
وحالُ الصحابة ومَنْ سلك سبيلَهم أفضلُ وأكملُ، فإنَّ الغَشِيَّ والصرَاخَ والاختلاجَ إنَّما يكون لقوة الوارد على القلب، وضَعْفِ القلب عن حَمْلِهِ، فلو قَوِيَ القلبُ -كحال نبينا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأصحابه- لكان أفضلَ وأكملَ.
ولو لم يَرِدْ على القلبِ ما يحرِّكُه لكان قاسيًا مذمومًا، كما ذمَّ الله تعالى اليهود على قسوة القلوب.
وما زال السلفُ كذلك إلى حَدِّ المئة الثالثة، صار قوم من العبَّاد يجتمعونَ لسماع القصائد المرقِّقة، وربما ضَرَبوا بالقضيب لذلك، ويُسَمُّون ذلك التَّغْبيرَ، فأنكر الأئمةُ ذلك، ورأَوا أنه بدعةٌ محدثةٌ؛ إذْ لم يفعلْه السلفَ حتى قال فيهم الشافعيُّ رضي الله عنه: خَلَّفْتُ ببغداد شيئًا أحْدَثَتْهُ الزَّنادقة يُسَمُّونَه التَّغْبِير، يَصدُّون به الناسَ عن القرآن.
__________
(1) سورة الأعراف: 204.
(5/233)
وكَرِهَ أحمد الجلوسَ معهم فيه، وقال: هو مُحْدَثٌ أكرهُه، ورأى أنَّهم لا يُهْجَرونَ؛ لأنهم مُتأولُون.
وحضر هذا السَّماعَ المُحْدَثَ قوم من الصالحين وكرهوه.
وتركُهُ أفضلُ من حضورِه. والذين حضروه اشترطوا له شروطًا كثيرة مثل المكان والخُلاَّن والخلوة من المفاسد.
ومع هذا فالحجَّةُ من الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة مع من كرِهَهُ، ونهى عن التعبُّدِ به، وإن كان يُرَخَّصُ في الأفراح للنساء والصبيان في أنواع من الغناء وضرب الدُّف كما جاءت به السنة، فهذا نوع من اللهْو واللعِب، ليس هو من نوع العبادات والقُرب والطَّاعات، كما يفعله المبتدعون للسَّماع المحدث، وبكل حالٍ فالإكثارُ منه حتى يُفعَلَ في المساجد، وحتى يُشتَغل به عن الصلوات، وحتى يُقَدَّمَ على القراءةِ والصلاةِ، وحتى يُجعلَ شعار الشيخ وأتباعِه، وحتى يُضرب بالمعازف، لا ريبَ أنَّه مِن أعظم المنكرات، وهو مُضاهاة لعبادة المشركين الذين قال الله تعالى فيهم: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) (1). قال السلف: المكاءُ: الصَّفِيرُ نحوُ الغناء، والتَّصْدِيَةُ: التَّصفِيقُ باليد.
فَمَنِ اتخذ الغناءَ والتصفيقَ قُربةً ففيه شَبَه من هؤلاء، وإذا شَغَلَهُ عمَّا أمر به وفَعَلَهُ في المسجد، فقد انْدَرج في قوله: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ) الآية، وفي قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا
__________
(1) سورة الأنفال: 35.
(5/234)
الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)) (1)؛ وفي قوله: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) (2)، لا سيما وقد قيل: إنها نزلت في أعيادِ الجاهلية المشابهة لهذا السَّماع المشتمل على اللهو واللعب.
قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) (3)، وقيل: إنَّ هذا من الزُّور. وقد قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (4). وقال الله تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) (5). وقال تعالى: (وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)) (6).
وقد روى الطبراني (7) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن الشيطان قال: يا ربِّ اجعلْ لي قرآنًا، قال: قرآنكَ الشِّعرُ، قال: اجعلْ لي مؤذنًا، قال: مؤذنك المزمار، قال: اجعلْ لي بيتًا، قال: بيتك الحمَّام”.
والأحاديثُ في هذا كثيرة.
فإذا كان الشيخ يَزعُمُ أنَه يدعو إلى الله وإلى طاعته، ليس شعارُهُ إلا جمعَ الناس على مزمورِ الشيطان ومؤذِّنِه وقراءتِه، وقَلَّ أنْ يَجمعَهم
__________
(1) سورة مريم: 59.
(2) سورة الأنعام: 70.
(3) سورة الفرقان: 72.
(4) سورة لقمان: 6.
(5) سورة الإسراء: 64.
(6) سورة النجم: 16.
(7) في “المعجم الكبير” (11/ 103).
(5/235)
على أذان الله وقراءتِه وصلاتِه، كان إمامًا من أئمة الضَّلال الذين (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)) (1)، وكان من اتَّبعهُ له نَصِيبٌ من قوله تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)) (2).
وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)) (3).
والناسُ وإن كانوا قد تكلَّموا في الغناء، هل هو حرامٌ أو مكروهٌ أو مُباحٌ؟ فما قال أحدٌ من المهتدين: إنه قربة أو طاعةٌ، ومَن قال ذلك فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، ودخل في مشابهة النصارى والصابئين، ولهذا ذكر العلماء أنه من إحداثِ الزنادِقَة.
وكيف يتصَوَّرُ أن يكون قربةً، وقد مضت القرون الثلاثة: قرنُ الصحابة والتابعين وتابعيهم، وذلك لا يُفْعَلُ في شيءٍ من أمصار المسلمين، لا في الحجاز ولا في اليمن ولا في الشام ولا في العراق ولا في مِصر ولا في خُراسان ولا في المغرب.
فالواجب على أهل الإسلام التعاونُ على البر والتقوى، والتواصي
__________
(1) سورة القصص: 41.
(2) سورة الأحزاب: 66 – 68.
(3) سورة الفرقان: 27 – 29.
(5/236)
بالحق، والتواصي بالصبر والبر، واتباعُ شرائع الإسلام، وكَبْتُ هذه الطرق الجاهلية والضَّلالات الخارجية، ورَدُّ ما تنازعَ الناسُ فيه إلى كتاب الله تعالى و [سُنَّةِ] رسوله، وهو الطريق المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتجنُّبُ طريق المغضوب عليهم اليهود ومن شابههم في بعض أمورهم من غواة المنتسبين إلى الفقه والحكمة، ومن طريق الغالين المنتسبين إلى التَّعبُّدِ والتَّصَوُّفِ والفقر.
وعلى أهل الإسلام أن ينصَحَ بعضُهم لبعضٍ كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1): “الدينُ النصيحةُ، الدينُ النصيحةُ، الدين النصيحةُ”، قالوا: [لِمَنْ؟، قال:] “لله ولرسوله ولأئمةِ المسلمين وعامَّتِهم”.
وقد قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)) (2)، وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (3).
فهؤلاء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر أطِبَّاءُ الأديان، الذين تُشفَى بهم القلوب المريضة، وتهتدي بهم القلوب الضالة، وترشُدُ بهم القلوبُ الغاوية، وتستقيم بهم القلوبُ الزائغة، وهم أعلامُ الهدى ومصابيح الدُّجى.
__________
(1) أخرجه مسلم (55) عن تميم الداري.
(2) سورة آل عمران: 104.
(3) سورة التوبة: 71.
(5/237)
والهدى والمعروفُ اسمٌ لكل ما أُمر به من الإيمان ودعائمه وشعَبه، كالتوبة والصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والإخلاص والرضَا والإنابة وذكر الله تعالى ودعائه والصدق والوفاء وصلة الأرحام وحسن الجوار وأداء الأمانة والعدل والإحسان والشجاعة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وغير ذلك.
والمُنْكَرُ اسمٌ لكلِّ ما نهى اللهُ عنه من الكفر والكذب والخيانة والفواحش والظلم والجور والبخل والجبن والكبر والرياء والقطيعة وسوء المسألة واتباع الهوى وغير ذلك.
فإن كان الشيخُ المتبوعُ آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، داعيًا إلى الخير، مصلحًا لفساد القلوب، شافيًا لمرضاها، كان من دُعاة الخير وقادة الهُدى وخِيارِ هذه الأُمَّة.
نسألُ الله أن يُكثر من هؤلاء ويُقويهم، ويَدْمغَ بالحقِّ الباطلَ، ويُصلحَ هذه الأمة. والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
(تمَّت الرسالةُ بعون الله ومَنِّه من كلام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية، قدَّس الله روحه وسقى ضريحه).
* * *
(5/238)
شرح حديث “لا يَزني الزاني حينَ يَزني وهو مؤمنٌ”
(5/239)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الحافظ الإمام، شيخ الإسلام، وأستاذ العلماء الأعلام، تقي الدين أحمد بن [عبد الحليم بن] عبد السلام، الشهير بابن تيمية رحمه الله تعالى وجزاه عن المسلمين خيرًا:
فصل
في قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح (1): “لا يَزني الزَّاني حين يَزني وهو مؤمنٌ، ولا يَشرب الخمرَ حين يَشربُها وهو مؤمن، ولايَسرِقُ السارقُ حين يسرق وهو مؤمن، ولا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذاتَ شرفٍ يَرْفعُ النَّاسُ إليه فيها أبصارَهم وهو حين يَنْتَهِبُها مؤمن”.
وللناس في هذا وأمثاله كلام كثير مضطرب، فإن هذه من مسائل الأسماء والأحكام.
فالخوارج والمعتزلة يحتجون بهذا على أن صاحب الكبيرة لم يَبْقَ معه من الإيمان بل ولا من الإسلام شيء أصلاً، بل يستحق التخليد في النار، ولا يخرج منها بشفاعة ولا غيرها.
ومعلوم أن هذا القول مخالف لنصوص الكتاب والسنة الثابتة في غير موضع.
__________
(1) أخرجه البخاري (2475 ومواضع أخرى) ومسلم (57) عن أبي هريرة.
(5/241)
والمرجئة والجهمية يقولون: إيمان الفاسق تام كامل لم ينقص منه شيء، ومثل هذا إيمان الصديقين والشهداء والصالحين. ويتأولون مثل هذا الحديث على أن المنفي موجب الإيمان، أو ثمرته، أو العمل به، ونحو ذلك من تأويلاتهم.
والصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأهل الحديث، وأئمة السنة يقولون: لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، بل يخرج منها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، بخلاف قول الخوارج والمعتزلة.
ويقولون: إن الإيمان يتفاضل، وليس إيمان من نفى الشارع عنه الإيمان كإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ومنهم من ينفي عنه إطلاق الاسم، ويقول: خرج من الإيمان إلى الإسلام، كما يُروى ذلك عن أبي جعفر الباقر وغيره. وهو قول كثير من أهل السنة من أصحاب أحمد وغيرهم، وقال بمعنى هذا القول حماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل في غير موضع، وسهل بن عبد الله التُّسْتَرِيّ وغيرهم من أئمة السنة.
فإن أصحاب المنزلة بين المنزلتين ينفون اسم الإسلام، وأولئك يقولون بالتخليد في النار، وأولئك يقولون: ليس معه من الإيمان شيء. وهم لا يقولون معه من الإيمان شيء ما يَخرج به من النار ويدخل به الجنة، وبين القولين هذه الفروق الثلاثة.
وعلى هذا قول من يقول إن الأعراب الذين قالوا: (ءَامَنَّا)،
(5/242)
وقال الله: (لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) (1) لم يكونوا منافقين، بل كانوا دخلوا في الإسلام، ولَمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم فيثيبهم الله على الطاعة، ويعاقبهم على المعصية، كما قال تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شيئًا) (2). وهذا قول أكثر أهل الحديث.
وقيل: بل هؤلاء كان إسلامهم إسلام نفاق، فلا يكون مسلمًا مثابًا على العمل إلا من هو مؤمن.
والتحقيق أن نفي الإيمان وإثباته باعتبارين:
فمن في قلبه مثقال ذرة من إيمانٍ لم يدخل جميع الإيمان في قلبه، وإنما دخل في قلبه شيء منه، فهذا يثاب على أعماله وهو مسلم ومعه إيمان، ولما يدخل كمال الإيمان في قلبه بل إيمانه ناقص، ولهذ كان الصحابة وجمهور السلف على أن الإيمان يزيد وينقص.
فالفاسق معه إيمان ناقص نقصًا هو نقص جزء واجب، وما كان كذلك فإنه يُنفَى، وإن كان قد أُثيب على فعل ما فَعَل لكن ما تبرأ ذمته، ولا يُعاقَبُ عقوبةَ من لم يفعل شيئًا. كمن ترك بعض واجبات العبادة فيقال: صلِّ فإنك لم تُصلِّ، ولا يكون من ترك الطمأنينة كمن ترك جميع الصلاة، ولهذا تكمَل الفرائض يوم القيامة من النوافل، والعبد ينصرف من صلاته ولم يُكتب له منها إلا نصفها،
__________
(1) سورة الحجرات: 14.
(2) سورة الحجرات: 14.
(5/243)
إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها (1). ورُبَّ صائمٍ حظه من صيامِه الجوعُ والعَطَشُ (2)؛ وليس بمنزلة المفطر، بل وإن لم يحصل له ثواب فهل يرفع عنه عقاب الترك؟ وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا بيان كيف يُنفَى الإيمان بفعل الكبائر. وذلك أن الإيمان الواجب لابد أن يكون الله ورسوله أحب إلى صاحبه مما سواهما، ولابد أن يخشى الله ويخافه، فمن لا يحب الله ورسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ولا يخشى الله تعالى فهذا ليس بمؤمن، بل قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (3). وقال تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)) (4).
فبين سبحانه أنه لا يوجدُ مؤمن يوادُّ المحاد لله ورسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن المؤمنَ لا يمكنُ أن يتولى الكافر، والمودةُ والموالاةُ تتضمن المحبة، فدلَّ ذلك على أنه لابد في الإيمان من محبة الله ورسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مما ينافي
__________
(1) كما في حديث عمار بن ياسر الذي أخرجه أحمد (4/ 321) وأبو داود (796) والنسائي في الكبرى (525). وهو حديث حسن.
(2) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه أحمد (2/ 373) وابن خزيمة (1997).
(3) سورة المجادلة: 22.
(4) سورة المائدة: 81.
(5/244)
محبة من حادَّ الله ورسوله، ولهذا لا تكون موالاة الله ورسوله إلا بمعاداة من عادى الله ورسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. كقول إبراهيم والذين معه: (قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (1).
وفي الصحيحين (2) أنه قال: “والذي نفسي بيدِه لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه وولدِهْ والناسِ أجمعين”.
وفي صحيح البخاري (3) أن عمر بن الخطاب قال: “والله يا رسول الله لأنتَ أحبُّ إليَّ مِن كلِّ شيء إلا من نفسي! “. قال: “لا يا عمر، حتى أكون أحبَّ إليكَ من نفسِكَ”. قال: “فلأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسي”. قال: “الآن يا عمر”.
بل أبلغ من ذلك قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)) (4). فهذا وعيد لمن كان أهله الذين يحبهم وأمواله التي يحبها أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله. فكيف إذا كان الصور المحرمة والمال المحرم ومكاره كثيرة، فكيف إذا كان هذا وهذا؟ وهو أحب إليه من الله
__________
(1) سورة الممتحنة: 4.
(2) البخاري (15) ومسلم (44) عن أنس.
(3) برقم (6632).
(4) سورة التوبة: 24.
(5/245)
ورسوله بدون الجهاد.
فَعُلِمَ أن الزاني والشارب أبعد عن كون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما من هؤلاء التاركين للجهاد، وإن كانوا يحبون الله ورسوله، لكن لم يقل له: إنها أحب إليه مما سواهما، ولا إنه مُتَّصِف بذلك وقتَ الشّرب، فقد يتصف العبد بالأحبِّية في حال دون حال، ولابد في الإيمان مِن أنْ يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
ومن هنا غلطت الجهمية والمرجئة؛ فإنهم جعلوا الإيمان من باب القول: إمّا قول القلب الذي هو علمه (1)، أو معنى غير العلم عند من يقول ذلك. وهذا قول الجهمية ومن تَبعهم كأكثر الأشعرية، وبعض متأخري الحنفية. وإما قول القلب واللَسان كالقول المشهور عن المرجئة؛ ولم يجعلوا عمل القلب مثل حب الله ورسوله ومثل خوف الله من الإيمان، فغلطوا في هذا الأصل.
وغلطوا غلطًا آخر غَلِطَت الجهمية فيه أعظم، وهو أنهم ظنوا القلب يقوم به الإيمان قيامًا لا يظهر على الجوارح. فظنوا أن [الإنسْان] (2) يقوم بقلبه تصديق تام للرسول، ومحبة تامة للرسول، وهو مع هذا يشتمه ويلعنه ويَضْربه من غير إكراه، فصاروا لا يجعلون شيئًا من الأعمال الظاهرة مستلزمًا للكفر الباطن، بل يقولون: نحن نحكم بكفره ظاهرًا، وقد يكون في الباطن من أولياء الله.
__________
(1) في الأصل: “عمله”. والمثبت يقتضيه السياق.
(2) في الأصل: “الإسلام”. والمثبت يقتضيه السياق.
(5/246)
وغلطوا غَلْطة ثالثة فقالوا: كل من حكم الشارع بكفره في الظاهر (1) فذلك دليل على أنه لم يكن مصدقًا في الباطن.
وهذا مكابرة ظاهرة، فصاروا يقولون: إن إبليس وفرعون وعلماء اليهود وأمثال هؤلاء هم في الباطن جاحدون لوجود الخالق لأنه ثبت أنهم ليسوا مؤمنين في الباطن. والإيمان عندهم مجرد علم القلب، فاحتاجوا إلى نفي هذا.
والتحقيق أن الإيمان الباطن المنجي من عذاب الله لابد فيه من قول القلب، وعمل القلب، فلابد فيه من حب الله ورسوله، ولهذا أطلق أكثر السلف القول بأن الإيمان قول وعمل.
وإذا كان القلب فيه تصديق للرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ومحبة تامة له فلابد أن يظهر ذلك على الجسد، فإن الإرادة الجازمة مع وجود القدرة تستلزم وجود المقدور، والمحبة الجازمة تتضمن الإرادة الجازمة لتعظيم الرسول وتوقيره. فإذا كان قادرًا على ذلك امتنع أن يصدر منه موالاةُ من عادى الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يصدر منه شتمه وضربه وقتله طائعًا غير مكره؟
وإذا كان كذلك فمعلوم أن الذنوب كالزنا والسرقة وشرب الخمر تتضمن شهوة ذلك ومحبته، فحب الشهوات من الصور والمطاعم والأموال يُوقِعُه في الزنا والشرب والسرقة. وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (2):
__________
(1) في الأصل: “الباطن”، وهو مخالف للسياق.
(2) أخرجه أحمد (2/ 291، 392، 442) والبخاري في الأدب المفرد (289،=
(5/247)
“أَكْثَر ما يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الأجوفان: الفَمُ والفَرْجُ، وأكثر ما يُدخِل الناسَ الجنَّة: تقوى الله وحسنُ الخلق”.
والمحبوب المشتهَى يصرف عنه طلب ما هو أحب إلى المرء منه، ويصرف عنه خوف ما يكون دفعه أحب إلى النفس من ذلك المشتهى.
فمن أحبَّ امرأة فأتاه من هو أحبُّ إليه منها، وقيل لا يُعطى هذه إلا بترك تلك اشتغل بها عنها، فإن أُعطي من المال ما هو أحب إليه منها، أو من الأولاد ما هو أحب إليه منها، على طريق المعاوضة، اشتغل عنها بالضدين اللذين لا يجتمعان، إذا كان أحدهما أحب إليه تَرَكَ الآخر لأجله.
وكذلك إذا خاف من مقامه معها ضربًا، أو حبسًا، أو أخذ مالٍ، أو عزلاً، كان دفع هذا المكروه أحب إليه منها المغرمُ (1)، وأما المحب الذي لا يؤثر عليها شيئًا من هذه المحبوبات، ولا دفع هذه المكروهات فهذا لا يتركها لذلك. وإذا كان كذلك فالمؤمن المحب لله ورسوله الذي يحبَ الله ورسوله أعظم من كل شيء، والله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والذي يخشى الله ويخافه إذا عصاه هو في حال حصول حبه التام وخوفه في قلبه لا يفعل شيئًا
__________
= 294) والترمذي (2004) وابن ماجه (4246) عن أبي هريرة. قال الترمذي: صحيح غريب.
(1) كذا في الأصل.
(5/248)
من ذلك، بل حب الله ورسوله الذي وجد حلاوته وهو أحب إليه من هذه المنهيات التي يبغضها الله ورسوله، ومتى وقع فيها نقص ذلك الحب وتلك اللذة الإيمانية.
فلو كانت اللذة الإيمانية الكاملة موجودة (1) لما قَدّم عليها لذة تَنقُصها وتزيلها، ولهذا يجد العبد في قلبه إذا كان مخلصًا لله واجدًا لحلاوة العبادة والذكرِ والمعرفةِ الصارف قلبَه عن هذه المحرمات فلا يلتفت إليها، كالمشغول بالجوهر إذا لاحت له قشور البصل، بخلاف ما إذا عَدِمَ هذه الحلاوة الإيمانية، فإنه حينئذٍ يميل إلى شيءٍ من المحرمات، وكذلك إذا كان في قلبه خوف الله التام وهو مؤمن، فإن هذا المحرم سبب يفضي به إلى عذاب الله وعقابه، بل إلى سخطه وغضبه والبعد عنه، فمتى خاف زوالَ محبوب أحبَّ إليه من ذلك، أو حصول مكروه أكره إليه من ذلك لم [يعد إلى] (2) هذه المحرمات.
فالذنب تارة يُعدَم لعدم المقتضي، وتارة لوجود المانع، والثاني هو الغالب، فإنه الداعي في النفس، والأول موجود إذا حَصَلَ في القلب من حلاوة الإيمان وطيبه ما يغنيه عن الذنب لم يبق له داعِ، كالجائع الذي أكل من الطعام الطَّيب ما يُغنيه عن الرديء، فإذا شبع لم يبق له داع، بل إذا كان قادرًا على هذه كان مكتفيًا عن ذلك.
وكذلك العطشان، والنفس مطلوبها ما يَسرُّها ويلذها، فإذا وجدت اللذة والسرور التام في أمر لم تشتغل عنه بما هو دونه في اللذة.
__________
(1) في الأصل: “مأخوذة”.
(2) في الأصل: “لم يبعد”.
(5/249)
والإنسان إنما يفعل السيئات القبيحة إما لجهله بقبحها، وإما لحبه الداعي له إلى ذلك، وهو يتضمن حاجته إلى ذلك، فإن المشتهي للشيء من مطعوم أو منكوح أو منظور أو غير ذلك يجد في قلبه فاقة إليه وحاجة إليه، فإذا لم يحصل له بقي في ألمٍ يؤذيه بحسب شهوته، فإذا استغنى بما يزيل عنه الشهوة والحاجة لم يبق عنده داع يدعوه إلى ذلك. ولهذا قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1): “إذا أَعْجَبَتْ أحَدَكم امرأة فليأتِ أهلَه، فإن معها مثل ما معها”. وفي الدعاء المأثور (2): “اللهمَّ أَغْنِنَا بحلالِك عن حرامك، وبفضلِك عمَّن سواك”.
والناس إذا وقعوا في البدع والمعاصي نقص عليهم إيمانهم، وإلا فمن كان عالمًا بالحق قاصدًا له أغناه ذلك عن أن يعتقد الباطل ويتبعه. ولهذا كانت الصحابة رضوان الله عليهم من أبعد الناس عن الذنوب والبدع، لاستغنائهم بالعلم والإيمان بالله [وما] تلقوه عن الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا تجد أحدًا وقع في بدعةٍ إلا لنَقْصِ اتباعِه للسنة علمًا وعملاً. وإلا فمن كان بها عالمًا، ولها متبعًا لم يكن عنده داع إلى البدعة، فإن البدعة يقع فيها الجُهَّال بالسنة، وكذلك الزنا والسرقة وشرب الخمر، إنما يزني من عنده شهوة يطلب قضاءها.
فأما من قضى شهوته بما هو أحب إليه وفَتَرَتْ، فلا يبقى عنده داعٍ، ومن أحبَّ طلب شيء آخر فشهوته لم تُقْضَ بل قُضِيَ بعضها،
__________
(1) أخرجه مسلم (1403) عن جابر.
(2) أخرجه الترمذي (3563) وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/ 153) عن علي. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(5/250)
وقضاء الشهوة إنما هو حصول المطلوب كله، فممتنع معه أن يطلب ما يُحصل ما قد حَصَل.
وكذلك السارق إنما يسرق لِما عنده من إرادة المال، ولكن من الناس من لا يقف عند حدٍّ، بل لو حَصَلَ عنده أي شيء كان أحبَّ الزيادة، ولهذا يسرق وإن لم يكن ثَمَّ منافعُ أُخَر.
وكذلك شارب الخمر يشربها لما يطلب بها من حصول اللذة وزوال الغم، فإذا كانت اللذة الحاصلة بالصلاة وذكر الله أكمل وهي تصده عن ذلك لم يكن عنده داعٍ إليها.
ومما يُبيِّنُ هذا قوله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) (1)، مع قول الشيطان: (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)) (2)، وقال تعالى في حق يوسف الصديق: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) (3)، فإن عباده تعالى هم الذين عبدوه وليس المراد كل من خلقه، فإن الشياطين عباد بهذا الاعتبار، بل هذا كقوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) (4)، وقوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) (5)، وقوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) (6).
__________
(1) سورة الإسراء: 65.
(2) سورة ص: 82 – 83.
(3) سورة يوسف: 24.
(4) سورة الفرقان: 63.
(5) سورة الإنسان: 6.
(6) سورة الجن: 19.
(5/251)
وفي الصحيحين (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “تَعِسَ عبدُ الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، إن أُعطِيَ رضي، وإن مُنِعَ سخط، تَعِسَ وانْتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش”.
فعبدُ الله الذي هو عبدُه لابد أن يكون الله أحب إليه مما سواه، فإن الذين جعلوا لله أندادًا يحبونهم كحب الله مشركون لا مؤمنون، والذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله، ولابد أن يكون الله أخوف عندهم مما سواه، ومن كان كذلك صُرِفَ عنه السوء والفحشاء كما صُرِفَ عن يوسف.
بخلاف المشركين الذين جعلوا لله أندادًا يحبونهم كحُب الله، فهؤلاء ليسوا عباده، و (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (2)، فالمشرك به لا يحصل له ما يقر عينه، ويغني قلبه عن الأنداد، بل هذا لا يحصل إلا بعبادة الله وحده. فإن الله سبحانه خلقَ عِبادَهُ حنفاء؛ وللسلف في “الحنيف” عبارات، قيل: المستقيم، كقول محمد بن كعب القرظي. والمتَّبع، كقول مجاهد. والمُخْلِص، كقول عطاء. وأما تفسيره بالمائل فهذا من قول بعض متأخري أهل اللغة، وهو مبسوط في موضع آخر (3).
وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (4): “كل مولود يولد على الفطرة”. وفي رواية (5):
__________
(1) أخرجه البخاري (2886، 2887) عن أبي هريرة. ولم أجده عند مسلم.
(2) سورة الأنبياء: 22.
(3) انظر “فصل في معنى الحنيف” ضمن هذه المجموعة.
(4) أخرجه البخاري (1385) ومسلم (2658) عن أبي هريرة.
(5) رواها ابن حبان في صحيحه (1/ 341) عن الأسود بن سريع.
(5/252)
“على فطرة الإسلام”. فالقلب مخلوق حنيفا مفطورًا على فطرة الإسلام، وهو الإستسلام لله دون ما سواه. فهو بفطرته لا يريد أن يعبد إلا الله، فلا يطمئن قلبه ويحصل لذته وفرحه وسروره إلا بأن يكون الله هو معبوده دون ما سواه، وكل معبود دون الله يوجبُ الفساد، لا يَحْصُل به صلاح القلب وكماله وسعادته المقتضية لسَروره ولذته وفرحه، وإذا لم يحصل هذا لا يبقى طالبًا لما يلتذ به فيقع في المحرمات من الصُّوَر والشرب وأخذ المال وغير ذلك.
ولهذا لَمَّا كانت امرأة العزيز مشركة طالبةً للفاحشةِ، ويوسف شاب غريبٌ، فالداعي المطيع معه أقوى، لكن معه من الإيمان ما يَصدُّه عن ذلك، وتلك هي وقومها كانوا مشركين، ولهذا قال لهم: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) إلى قوله: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (1).
وما نقلَه بعضُ المفسرين من أن زوجَها (2) كان لا يصل إليها، وأن يوسف تزوَّجَها بعد ذلك فوجدَها عذراءَ، فهذا ونحوه من الإسرائيليات مما لا يجوز لمسلم أن يُصدِّقَ به، فإن هذا لم يُخبِر
__________
(1) سورة يوسف: 37 – 40.
(2) من هنا إلى حديث “إذا حدّثكم أهل الكتاب … ” مضطربٌ في المخطوط غايةَ الاضطراب، وقد تأملتُ في هذه الفقرة حتى اهتديتُ إلى السياق الصحيح. ولا حاجة إلى نقل العبارات المضطربة.
(5/253)
بنَقْلِه أحدٌ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما هو منقولٌ عن أهل الكتاب إن لم يكن قد افتراه غيرُهم. وقد ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إذا حَدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تُصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم”. لا سيما وقد نقلوا في قصة يوسف أشياء تخالف القرآن، وتلك يجب القطع بأنها كذب، وأما ما لم يُعلم صدقه ولا كذبه يتوقف فيه.
وهذه الحكاية كذب؛ فإن هذا خلاف العادة الغالبة على بني آدم، وإنما يقع مثل هذا نادرًا ولو وقع لأخبر به.
والمراد لو كان الداعي لها مجرد الشهوة لِعَدَم الزوج لكان في الرجال كثرة، وإذا لم يحصل لها يوسف حصل لهَا غيرُه، ومعلوم أن الجائع والشَّبِقَ إذا طلب غلامًا يشتهيه فيتعذَّر عليه لم يصبر عن الجوع والشبق بل يتناول ما تيسَّر له، ولهذا يوجد صاحب الشبق يقضي شهوته بأخسَّ ما يمكن، فمن الرجال من يأتي بهيمةً وكلبًا وحمارًا وطيرًا، ومن النساء مَن تُمكِّن منها قردًا وحمارًا أو غير ذلك لغلبة الشهوة، ومن النساء من تتخذ آلة الرَّجلِ على صورة عضو الرجل عند تَعذر الرجال إلى أمثال ذلك، فكيف إذا حصل للمرأة رجل، وللرجل امرأة؟
فعُلِمَ أن المرأةَ هَوِيَتْ يوسف لجماله، لا لكون زوجها لا يأتيها.
__________
(1) البخاري (4485، 7362، 7542) عن أبي هريرة نحوه. واللفظ المذكور في حديث أبي نملة الأنصاري الذي أخرجه أحمد (4/ 136) وأبو داود (3644).
(5/254)
وكذلك ما ينقله بعضهم عن يوسف أنه حَلَّ سراويله، وأنه رأى صورة يعقوب وغير ذلك، كل ذلك من الأحاديث التي غالبها أن يكون من كَذِب اليهود. فإن الله تعالى قال: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) (1). فقد أخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء فلم يفعل سوءًا ولا فحشاء، فإن ما صرفه الله عنه انصرف عنه. ولو كان يوسف قد أذنب لتاب، فإن الله لم يذكر ذنب نبي إلا مع التوبة، ولم يذكر عن يوسف توبة، فعُلِمَ أنه لم يُذنب في هذه القضية أصلا، والله أعلم. إنما أخبر عنه بالهمِّ وقد تركه لله فهو مما أثابه الله عليه.
وفي الصحيحين (2) عن ابن عباس عن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: “إن الله كتب الحسناتِ والسيئات ثم بَيَّن ذلك، فمن هَمَّ بحسنة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هَمَّ بها فعمِلها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله [له عنده حسنةً كاملةً، فإنْ هو هَمَّ بها فعَمِلها كتبها الله له] سيئةً واحدةً” (3).
فقد أخبر – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح أن من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة. وفي الحديث الآخر (4) قال: “يقول الله:
__________
(1) سورة يوسف: 24.
(2) البخاري (6491) ومسلم (131).
(3) الزيادة من الصحيحين ليتم السياق.
(4) أخرجه مسلم (129) عن أبي هريرة.
(5/255)
اكتبوها له حسنة فإنما تركها من جَرَّائي”. أي: من أجلي. فالعبد إذا هَمَّ بالسيئة وتركها لله كان تركها لله حسنة كاملة، ولم يكن عليه إثم بذلك الهمِّ.
فيوسف الصديق لم يفعل قط سيئةً، بل هَمَّ وتَرَكَ ما هَمَّ به لَمَّا رأى برهان ربه، فكَتبَ الله له حسنة كاملة.
وبرهان ربه ما تبيَّن له به ما يوجب الترك، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)) (1).
فالشيطان إذا زين المعصية يجعل في القلب ظلمة، ويضعف نور الإيمان، ولهذا سماه طائفًا، أي: يطيف بالقلب مثل ما يطيف الخيال بالنائم، ويغيب عن القلب حينئذٍ من أمرِ الله ونهيِه ووعدِه ووعيدِه ما يناقض ذلك، فإذا كان العبد متقيًا لله أمدَّه الله تعالى بنور الإيمان، فذكر ما في الذنب من عذاب الله وسخطه، وما يفوته به من كرامة الله وثوابه.
والبرهان ببصيرة القلب، فيوسف الصديق أبصرَ برهانَ ربه بقلبه، فتركَ ما همَّ به كل ذلك.
وأما ما يُذكر أنه تمثلَ له يعقوبُ في صورة جبريل وأنه عضَّ يده، أو أن جبريل أو يعقوب مسحَ على ظهره، أو رأى أنه مكتوب (2) =
__________
(1) سورة الأعراف: 201 – 202.
(2) انظر تفسير ابن كثير (4/ 1836).
(5/256)
فكل هذا لا يجوز لأحد أن يُصدقَ بشيء منه، بل هذا مما يُعلم كذبه من وجوه متعددة، فإن من لم يتنبَّه إلا بهذا يكون من أفجر الناس، فكيف يقال لمن وصفه الله بالعفة والتقوى ما لا يوصف به إلاّ من هو أفجر الناس؟
قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) (1). وما ذُكر يقتضي أنه لم يُصرف عنه إلا الجماع، وإلا فقد فَعَلَ مقدماته وحرص عليه، وهذا كالفاعل، ولو حصل لمشرك دون هذا لامتنع من الفاحشة بدون ذلك، بخلاف امتناع يوسف، مع كمال الدواعي فإن هذا لا يُعرفُ لغيره، فإن التي راودته سيدته التي تملكه، وقد استعانت عليه بعد ذلك بالنساء وحبسوه على ذلك بضع سنين، وهو شاب غريب، وزوجها لم ينهها ولم يعاقبها، ولم ينصر يوسف عليها، وهو في بلد غربة ليس هناك أهله الذين يستحي منهم، بل لو أتاها لم يَعْلَم أَحَدٌ من الناس.
وما يُذكر من حكاية مسلم بن يسار (2) أنه رأى يوسف، قال: “أنا يوسف الذي هممتُ، وأَنتَ مسلم الذي لم تَهُمَّ! “. فمُسلم رآه بحسبِ حاله، وفيه دليل على صلاح مُسلم، وإلا فأين حال هذا من حال يوسف؟، تلك امرأة بدوية ظلمته في بريةٍ ولا حُكمَ لها عليه، وهو شيخ كثير العبادة، فدواعي الزنا منصرفةٌ عنه، وموانعه موجودة، بخلاف يوسف؛ فإن دواعي البشرية كانت تامةً في حقه موجودة،
__________
(1) سورة يوسف: 24.
(2) ذكرها المؤلف في “مجموع الفتاوى” (15/ 144).
(5/257)
وصوارف السوء كانت منتفية، وإنما صُرِفَ عنه السوء والفحشاء بإخلاصه، وترك ما همَّ به لما رأى برهان ربه. وهَمُّهُ الذي تركَه كُتِبَ له به حسنات كاملة، ولو تساوت القضيتان لكان هو أفضل، فكيف وبينهما من الفرقان ما لا يخفى إلا على العُميان؟
وكثير من المؤمنين يُطلب منه الفاحشة، ويراودُه من يراوده ويمتنع، لكن لا تجتمع معه هذه الأمور ولا يكون معهودًا هذا الضمير (1)، ولا يصبر على حبس بضع سنين= يختار ذلك على فِعل ما طُلب منه في خلوة عن الوطء لم يمتنع عن مقدماته، ويوسف صرف الله عنه السوء والفحشاء فلم يفعل كبيرة ولا صغيرة، ولا أَمَرَتْهُ نفسُه بسوء، بل كان ممن رحم الله، فلم تكن نفسُه أمَّارةً بسوءٍ، بل امرأة العزيز هي التي كانت نفسها أمَّارة بالسوء؛ فإنها راودته، وقَدَّتِ القميص، وكَذَبَتْ عليه، واستعانت بالنساء ثم حبسته، ولهذا قالت: (أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) (2) أي: في مغيبته عني.
وقد بُسِطَ الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبُيِّنَ أن قوله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) هو من تمام كلام امرأة العزيز، وكما دلَّ على ذلك القرآن في غير موضع (3).
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) سورة يوسف: 51 – 52.
(3) انظر “مجموع الفتاوى” (15/ 138 – 156)، ففيه رسالة للمؤلف في هذا الموضوع، ولكنها ناقصة الأول.
(5/258)
ومن قال إنه من كلام يوسف فقد قال باطلاً، والنقولات في ذلك عن ابن عباس ضعيفة بل موضوعةٌ. ولو قُدِّرَ أنه قال ذلك فبعضُ ما يُخبره هذا وعبد الله بن عمرو من الإسرائيليات كله مما سمعوه من أهل الكتاب، فلا يجوز الاحتجاج به.
والصاحب والتابع فقد يَنقُلُ عنهم ما لم يَتبَيَّن [له أنه كذِبٌ، فإن تبيَّنَ] (1) لغيره أنه كَذِبٌ لم يجز نقله إلا على وجه التكذيب، كما قال كثير منهم: إن الذبيح إسحاق، ودلائل الكتاب والسنة وغير ذلك أنه إسماعيل (2)، وأمثال ذلك.
وكثير من السلف يروي أحاديث عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إما مسندة وإما مرسلة، فإن كان لم يعلم أنها كذب فيجوز له روايتها، وإن كان غيره ممن عَلِمَ أنها كذب لا يجوز له روايتها. وعامة ما ينقله سلفنا من الإسرائيليات إذا لم يكن عن نبينا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فهو دون المراسيل عن نبينا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بكثير؛ فإن أولئك النقلة من أهل الكتاب، والمدة طويلة، وقد عُلِم الكذبُ فيهم والله أعلم.
__________
(1) زيادة يستقيم بها السياق.
(2) انظر كلام المؤلف في “مجموع الفتاوى” (4/ 331 – 336). وللقاضي أبي بكر بن العربي والسيوطي والفراهي رسائل مستقلة في هذا الموضوع.
(5/259)
فصل في قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد:
ألاَ كلُّ شَيءَ مَا خَلاَ اللهَ باطِلُ
(5/261)
فصل في قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصدقُ كلمةٍ قالَها شاعر كلمةُ لَبيد:
ألاَ كلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ الله باطِلُ
فقد جَعَلَ هذه الكلمةَ أصدقَ كلمةٍ قالَها شاعر، وهذا كقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) (1)، وقال: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) (2)، ونحو ذلك يتناولُ كلَّ معبودٍ من دون الله من الملائكة والبشرِ وغَيرِهم من كل شيء، فهو باطل، وعبادتُه باطلةٌ، وعابدُه على باطلٍ، وإن كان موجودًا كالأصنام.
و”الباطل” يُرادُ به: الذي لا يَنفع عابدَه، ولا ينتفع المعبودُ بعبادتِه. فكلُّ شيء سِوى اللهِ باطل بهذا الاعتبار، حتى الدرهم والدينار، كما في الدعاء المأثور: “أشهدُ أنّ كلَّ معبودٍ من لَدُنْ عرشِك إلى قرارِ أرضِك باطل إلاّ وَجْهَك الكريم” (3)، فإنّ كلَّ نفسٍ لابُد لها أن تألَهَ إلهًا هو غايةُ مقصودِها، فكلُّ ما سِوى اللهِ باطل، وهو ضالّ عن عابِدِه، كما أخبرَ بذلك في كتابِه.
__________
(1) سورة الحج: 62.
(2) سورة يونس: 32.
(3) أخرجه ابن قدامة في “التوابين” (ص 50 – 56) من حديث ابن عباس في حديث إسرائيلي طويل.
(5/263)
و”الضلال” يُراد به الهلاك، كما قال تعالى: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (1) قالوا: معناه هَلكْنا وصِرْنَا تُرابًا. وأصلُه من قوله: ضَلَّ الماءُ في اللَّبَن، إذا هَلَكَ فيه وتَلاَشَى. فإذا كان الضَّالُّ في الشيء هالكًا فيه، فالضالُّ عنه هالك عنه. ولهذا قال: (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (2) أي: هَلَكَ وذهبَ، وهو بمعنى بَطَلَ.
فكلُّ معبودٍ سِوى الله فهو باطل وضالّ، يُضِلُّ عابدَه ويَضِل عنه، ويَذهبُ عنه، وهالكٌ عنه، إلا وجهَ الله. فعبادةُ ما سِواه فاسدةٌ وباطلٌ وضلال، والمعبود سواه فاسدٌ.
قال مجاهد في قوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (3) قال: إلاّ ما أرِيدَ به وجهُه. وقال سفيان الثوري: إلاّ ما ابتُغِيَ به وجهُه. كما يقال: ما يَبقَى إلاّ الله والعملُ الصالحُ. وفي الحديث: “الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذِكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم” (4). فأيّ شيء قصدَه العبدُ وتوجَّه إليه بقلبِه أو رَجَاه أو خافَه أو أحبَّه أو توكَّل عليه أو والاه، فإنّ ذلك هالكٌ مُهلِلك، ولا ينفعُه إلاّ ما كان لله.
__________
(1) سورة السجدة: 10.
(2) سورة الكهف: 104.
(3) سورة القصص: 88. وانظر أقوال المفسرين في تفسير ابن كثير (6/ 2682) و”فتح الباري” (8/ 505).
(4) أخرجه الترمذي (2322) وابن ماجه (4112) عن أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(5/264)
وهذا بخلاف قوله: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)) (1)، فإنّه حَصرَ كلَّ مَن عليها ولم يَستثنِ، مع أنَّ هذا المعنى يَدلُّ عليه، فإنّ جميعَ الأعمال تَفنَى، ولا يَبقَى منها شيء يَنفَعُ صاحبَه إلاّ ما كانَ لوجهِ ذي الجلال والإكرام، كما قال مالك: ما كان لله فهو يبقَى، وما كانَ لغيرِ الله لا يدومُ ولا يَبقَى.
وقال تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) (2)، ولهذا قيل: الناس يقولون: قيمةُ كل امرئٍ ما يُحسِنُ، وأهلُ المعرفةِ يقولون: قيمةُ كلِّ امرئ ما يطلب. ومما رُوِي عن بني إسرائيل: “يقول الله: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، ولكنّي إنما أنظر إلى همتِه”.
وقد رُوِي أنّ الله سبحانَه يقول (3): “إنّ أدنَى ما أنا صانعٌ بالعالمِ إذا أحبَّ الدنيا أن أَمنعَ قلبَه حلاوةَ ذِكري”. وتصديقُ ذلك في القرآن: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (4)، وقال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (5). وفي الصحيح (6) حديثُ الثلاثة الذين أوّل ما سُعِّرتْ بهم النارُ، ذكر منهم العالم الذي يقول: تعلَّمتُ العلمَ فيك وعلمتُه فيك، فيُقال له:
__________
(1) سورة الرحمن: 26 – 27.
(2) سورة النحل: 96.
(3) ذكره ابن عبد البر في “جامع بيان العلم” (1/ 671) بلا إسناد. قال العراقي في “تخريج الإحياء” (4/ 56): غريب لم أجده.
(4) سورة النجم: 29 – 30.
(5) سورة الروم: 7.
(6) مسلم (1905) عن أبي هريرة. وزيادة خبر معاوية عند الترمذي (2382).
(5/265)
كذبتَ، بل أردتَ أن يقال فلانٌ عالمٌ، وقد قيل، ثمّ يُؤمر به فيُسحَب إلى النار. ومعاويةُ لمّا سمعَ هذا الحديثَ بكَى وقال: صدقَ الله وبلَّغَ رسولُه، ثمَّ قرأ قولَه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)) (1).
وكذلك في الحديث في السنن (2): “مَن طَلَب علمًا مما يُبتغَى به وجهُ الله، لا يَطلبُه إلاّ لِيُصيبَ به عرضًا من الدنيا، لم يَرِحْ رائحةَ الجنَّة”. وفي الحديث الآخر (3): “من طَلَبَ علمًا -أو قال: من تعلَّم علمًا- ليُجارِيَ به العلماءَ ويُمارِيَ به السُّفَهاءَ، ويتأكَّلَ به الدنيا، ويَصْرِفَ به وجوهَ الناسِ إليه، لقيَ الله وهو عليه غَضبانُ”.
وفي رواية: “لم يَجِدْ عَرْفَ الجنةِ”.
وهذا باب واسعٌ قد بُسِطَ في غير هذا الموضع، وتكلَّمنا فيه على آية هود وآية سبحانَ وآية الشورى وغير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار في ذمِّ العالمِ وغيرِه المريد للدنيا والقَالَةِ، وبَيَّنا فيه أماراتِ ذلك، وبَيَّنا أن الدينَ كلَّه لله، وأن الله أغنى الشركاء عن الشركِ، وأن الصحابة والسلف كانوا أخوفَ الخلق في هذا المقامِ الخطِر.
والمقصود أن هذا العالم لمّا لم يكن مقصودُه إلاّ الدنيا بما عَلِمَه
__________
(1) سورة هود: 15 – 16.
(2) أخرجه أحمد (2/ 338) وأبو داود (3664) وابن ماجه (252) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه الترمذي (2654) عن كعب بن مالك، وابن ماجه (253) عن ابن عمر، وابن ماجه (260) أيضًا عن أبي هريرة. وفي أسانيدها ضعف.
(5/266)
من العلم وبما يُعلِّمه، وذلك مما يُبْتَغَى به وجهُ الله، لم يكن له عند الله قيمةٌ، ولم يكن للعلم في قلبه حلاوة، ولم يَرْتَعْ في رياضِ الجنَّة في الدنيا، وهي مجالس الذكر، فلم يَرِحْ رائحة الجنة. فالأولُ طلبَ العلم لكسب الأموال والجاهِ، فكان عقوبتُه أن لا يجدَ رائحةَ الجنَّة.
والثاني طَلَبه لمقاصدَ مذمومةٍ من المباهاةِ والمماراةِ وصَرْفِ وجوهِ الناس، فكان جنسُ مطلوبِه محرَّمًا، فلقيَ الله وهو عليه غَضبان.
والأول جنسُ مطلوبِه مباحٌ، فلم يجد رائحةَ الجنةِ في الدنيا، فلم يَرتَعْ في رياضِها، فقلبُه محجوبٌ عنها بما فيه من طلب الدنيا.
وفي حديث مكحولٍ المرسل (1): “مَن أخلصَ لله العبادةَ أربعين صباحًا تفجَّرتْ ينابيعُ الحكمةِ من قلبه على لسانه”. وحُكِي عن أبي حامدٍ قال: أخلصتُ لله أربعين صباحًا فلم يُفَجَّرْ لي شيءٌ، فذكرتُ ذلك لبعضِ أهل المعرفة، فقال: إنك لم تُخلِصْ لله، وإنما أخلصتَ للحكمة.
وكذلك الحكاية المشهورة عن الحسن (2) في ذلك الرجلِ الذي كان يَتعبَّدُ ليراهُ الناسُ ولِيُقَال، فكان الناسُ يَذُمُّونَه، ثمَّ أخلصَ لله ولم يُغَيِّر عملَه الظاهر، فألقَى الله له المحبةَ في قلوب الناس، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)) (3).
__________
(1) أخرجه المروزي في “زيادات الزهد” (1014) وابن أبي شيبة في “المصنف” (13/ 231) وهنّاد بن السري في “الزهد” (678) مرسلاً. ورُوِي موصولا ولا يصحّ، انظر “الضعيفة” للألباني (38).
(2) انظر تفسير ابن كثير (5/ 2254).
(3) سورة مريم: 96.
(5/267)
وإذا كانت العبادةُ تبقى ببقاءِ معبودِها فكلُّ معبودٍ سوى الله باطل، فلا تَبقَى النفسُ، بل تَضلُّ وتَشْقَى بعبادةِ غيرِ الله شقاءً أبديا، كما قال تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (1). إنما كان بقاؤها ببقاءِ معبودِها لأنها مريدةٌ بالذات، فلابُدَّ لها من مُرادٍ محبوبٍ هو إلهها الذي تَبقَى ببقائِه، فإذا بَطَلَ بَطلَتْ وتَلاشَى أمرُها، وما ثَمَّ باقٍ إلاّ الله. والأفلاكُ وما فيها كلُّه يَستحيلُ، والملائكةُ مخلوقون يَستحيلون، بل ويموتون عند جمهور العلماء.
والعبدُ ينتفع بما خُلِقَ بشيء من حيث هي من آيات الله له فيها، فهي وسيلة له إلى معرفة الله وعبادته، ولو كان العلمُ هو الموجب لما يَطلُبه هؤلاءِ لكانَ هو العلم بالله، فإنه هو الحق، وما سِواه باطل، ومَن له مِن مخلوقاتِه فالعلمُ به تابع للعلم بالله، والعلمُ الأعلى هو العلم بالأعلى. كما قال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)) (2)، فهو ربُّ كلِّ ما سِواه، فهو الأصلُ، فكذلك العلم به سيِّدُ جميع العلوم وهو أصلٌ لها.
__________
(1) سورة الحج: 31.
(2) سورة الأعلى: 1.
(5/268)
المسألة الخلافية في الصلاة خلف المالكية
(5/269)
بسم الله الرحمن الرحيم
ما تقول السادة الفقهاء أئمةُ الدين وعلماء المسلمين -وفَّقهم الله لطاعته- في رجلٍ يزعم أنه فقيه على مذهب الشافعي، قال للعامة: لا تجوز الصلاةُ خلفَ أئمة المالكية، ومَن صلَّى خلفَ إمامٍ مالكي المذهب لم تصحَّ صلاتُه، ويَلزمُه إعادةُ ما صلَّى خلفَ الإمام المالكي. فلما سمعَ العامةُ كلامَه امتنعوا من الصلاة خلفَهم لأجلِ ما سمعوه منه، وطلبوا فتاوى الأئمة، إما بصحة ما قاله المذكور أو ببطلانه. وإذا لم يصحَّ قولُه ماذا يجبُ عليه؟ وهل على ولي الأمر زَجْرُه ورَدْعُه ومَنْعُه من ذلك حتى يَتَّعِظَ به غيرُه أم لا؟ وإذا رُدع وزُجِر اتعظَ به غيره. أفتونا مأجورين.
فأجاب
شيخ الإسلام فريدُ عصرِه ونحريرُ زمانِه، المميَّزُ على شيوخه وأقرانِه، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام مفتي المسلمين أبي الفضل عبد الحليم بن شيخ الإسلام مجدالدين عبد السلام بن تيمية الحراني، فسحَ الله في عمره:
الحمد لله وحده. إطلاقُ هذا الكلام من أنكر المنكرات وأشنع المقالات، يستحق مُطلِقه التعزيرَ البليغ، فإن فيه من إظهار الاستخفاف بحرمة هؤلاء الأئمة السادة ما يُوجِبُ غليظَ العقوبة، ويُدخِل صاحبَه
(5/271)
في أهل البدع المُضِلَّة. فإن مذهب الإمام الأعظم مالك بن أنس -إمام دار الهجرة ودار السنة، المدينة النبوية التي سُنَّتْ فيها السننُ، وشُرِعَتْ فيها الشريعةُ، وخرجٍ منها العلم والإيمان- هو من أعظم المذاهب قدرًا، وأجلها مرتبة. حتى تنازعت الأمَّة في إجماع أهل المدينة هل هو حجةٌ أم لا؟ ولم يختلفوا في أن إجماع أهلَ مدينةٍ غيرِها ليس بحجة. والصحيح أن إجماعهم في زمن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان، فإن أمير المؤمنين عليًّا -رضي الله عنهم- انتقل عنها إلى الكوفة. وفيما نقلوه عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كالصاع وتَرْكِ صدقة الخضرات ونحو ذلك حجة يجب اتباعُها.
وكذلك الصحيح أن اجتهاد أهل المدينة في ذلك الزمن مُرجَّحٌ على اجتهادِ غيرِهم، فيُرَجَّح أحدُ الدليلين بموافقة عمل أهل المدينة.
وهذا مذهب الشافعي، وهو المنصوص عن الإمام أحمد وقول محققي أصحابه.
وكان لمالك بن أنس -رحمه الله- من جلالة القدر عند جميع الأمة، أمرائها وعلمائها ومشايخها وملوكها وعامتها، من القدر ما لم يكن لغيره من نظرائه، ولم يكن في وقته أجلُّ عند الأمَّة منه. وقد رُوِي حديثٌ نبويٌّ (1)، وفُسر به. ومن جاء بعده من الأئمة -رحمهم الله-
__________
(1) أخرج أحمد (2/ 299) والترمذي (2680) عن أبي هريرة قال قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “يُوشِك أن يَضرِب الناسُ آباطَ المطىّ في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلمَ من عالمِ المدينة”. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ثم نقل تفسيره بمالك وغيره.
(5/272)
مثل الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما؛ فهم أشد الناس تعظيمًا لأصوله وقواعده، ومتابعةً له فيها. وهم متفقون على أن مذاهب أهل المدينة رأيًا ورواية أصحُّ مذاهب أهل المدائن الإسلامية في ذلك الوقت.
وكيف يستجيزُ مسلم يُطلِقُ مثلَ هذه العبارة الخبيثة، وقد اتفق سلفُ الأمة من الصحابة والتابعين على صلاة بعضهم خلفَ بعض، مع تنازعهم في بعض فروع الفقه، وفي بعض واجبات الصلاة ومبطلاتها. ومَن نهى بعضَ الأمةِ عن الصلاة خلفَ بعضٍ لأجل ما يتنازعون فيه من موارد الاجتهاد؛ فهو من جنس أهل البدع والضلال الذين قال الله فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (1)، وقال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (2)، وقال تعالى: (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (3)، إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف.
ودلَّتْ نصوصُ الكتاب والسنة وإجماع سلفِ الأمة أنّ وليَّ الأمر -إمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب والفيء، وعامل الصدقة- يُطاعُ في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يُطيعَ أتباعَه في مواردِ الاجتهاد، بل عليهم طاعتُه في ذلك وتَرْكُ رأيهم لرأيه، فإن مصلحة
__________
(1) سورة الأنعام: 159.
(2) سورة آل عمران: 103.
(3) سورة آل عمران: 105.
(5/273)
الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظمُ من أمر المسائل الجزئية. ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضُهم حكمَ بعضٍ.
وشبهةُ هذا المتفقه وأمثاله، ممن قد سمع بعض غَلَطاتِ بعض الفقهاء، فيما إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبَه، أو فعل ما يعتقد المأمومُ فسادَها به، فإن من الناس من قد يُطلِق القولَ ببطلان صلاة المأموم مطلقًا، ومنهم من لا يصحح الصلاة خلف من لا يأتي بالواجبات حتى يعتقد وجوبها.
وهذه الاطلاقاتُ خطأٌ مخالفٌ للإجماع القديم، ولنصوص الأئمة المتبوعين. مثال ذلك: أن يصلي المأموم خلفَ من ترك الوضوء من خروج النجاسات من غير السبيلين كالدم، أو خلفَ من ترك الوضوء من مسِّ الذكر، أو ترك الوضوء من القهقهة، ويكون المأموم يرى وجوبَ الوضوء من ذلك، أو يكون الإمام قد ترك قراءة البسملة، أو ترك الاستعاذة، أو ترك الاستفتاح، أو ترك تكبيرات الانتقال، أو تسبيحات الركوع والسجود، ويكون المأموم يرى وجوب ذلك.
فالصواب المقطوعُ به صحةُ صلاة بعضِ هؤلاء خلف بعض، وهذا مذهب الأئمة، وإن كان قد يُحكَى عن بعضهم خلافٌ في بعض ذلك.
فهذا الشافعي -رضي الله عنه- كان دائمًا يصلي خلف أئمة المدينة وأئمة مصر، وكانوا إذ ذاك مالكية لا يقرأون البسملة سرًّا ولا جهرًا، ولو سمع الشافعي من يطعن في صلاته خلف مشايخه مالكٍ وأقرانه، وهو دائمًا يفعل ذلك؛ لحكمَ عليه بالضلال، وعَدَّه هو وسائر الأمة بعد ذلك خلافًا للإجماع.
(5/274)
والإمام أحمد يرى الوضوء من الدم الكثير، فقيل [له]: فإن كان الإمام لا يتوضأ من ذلك، أَأُصلِّي خلفه؟ قال: سبحان الله!
أتقول: إنه لا يُصلَّى خلف سعيد بن المسيب، وخلف مالك بن أنس، أو كما قال. يعني أن هؤلاء الأئمة الذين اجتمعت الأمةُ على الصلاة خلفهم؛ كانوا لا يتوضؤون من الدم من غير السبيلين.
وكذلك أبو يوسف -فيما أظن- لما حجَّ مع هارون الرشيد، فاحتجمَ الخليفة، فأفتاه مالك أنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لأبي يوسف: أصليتَ خلفه؟ فقال: سبحان الله! أمير المؤمنين!؟
يريد بذلك أن تَرْكَ الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل [أهل] البدع، كالرافضة والمعتزلة والخوارج.
فهذه النصوص وأمثالها عن هؤلاء الأئمة تُخالِف من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأمومُ وجوبَه لم يَصِحَّ اقتداؤه به.
يُوضِّحُ ذلك أن مذهب عامة أئمة الإسلام -مثل مالك والشافعي وأحمد- أن الإمام إذا ترك الطهارة ناسيًا، مثل أن يصلي وهو جنب أو مُحدِث ناسٍ لحَدَثِه، ثم تَذكَّر بعد صلاته؛ فإن صلاة المأموم صحيحة، ولا قضاء عليه. وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين مثل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وغيرهما من الصحابة. فالإمام إذا كان مُخطئًا في نفسِ الأمر كان بمنزلةِ الناسي، وقد دلَّ الكتاب والسنة (1) أنَّ الله تجاوزَ لهذه الأمةِ عن الخطأ والنسيان. فإذا كانت
__________
(1) في آخر سورة البقرة: 286 (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). وقد قبل الله =
(5/275)
صلاة المأموم تَصِحُّ خلفَ إمام تجبُ عليه الإعادة؛ فخلف إمام لا تجب عليه الإعادة أولى.
وذلك أن صلاة المأموم إن لم تكن مرتبطة بصلاة الإمام، بل كلٌّ منهم يصلِّي لنفسه؛ فلا محذور. وإن كانت مرتبطة؛ فالإمام معفوٌّ عنه في موارد الاجتهاد، فصلاته أيضًا باجتهادٍ صحيحةٌ عند المأموم.
وإنما غَلِطَ الغالطُ في هذا الأصل بحيث يَتوهَّمُ أن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام، وليس كذلك، فإنه إذا صلى باجتهاده السائغ؛ لم يكن في هذه الحال محكومًا ببطلان عبادته، بل بصحتها، كما يُحكَم بصحة حكمه في موارد الاجتهاد حتى يُمْنَع نقضُه.
فأما فعلُ المحظورات ناسيًا فأسهل، فإن أكثر الأئمة -مثل مالك والشافعي وأحمد في إحدى روايتيه- لا يرون الكلام في الصلاة ناسيًا يُبطِلُ الصلاة، ولا يوجب الإعادة، فالإمام إذا فعلَ محظورًا متأولاً؛ فالمخطئ كالناسي. وإذا لم تجب الإعادة عليه فكيف لا يصح الائتمامُ به؟
__________
= هذا الدعاء كما في حديث ابن عباس الذي رواه مسلم (125، 126).
وأخرج ابن ماجه (2045) عن ابن عباس مرفوعَا: “إنّ الله وضعَ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرِهوا عليه”. وقد رُوِي من طرقٍ، وأعلَّه أحمد وأبو حاتم. انظر تفسير ابن كثير (2/ 677).
(5/276)
وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “يُصلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم”. وهذا نص صريح في أنّ الإمام إذا أخطأ كان خطؤُه عليه لا على المأموم، والمجتهد غايتُه أن يكون أخطأ بتَرْكِ واجب اعتقدَ أنه ليس واجبًا، أو فِعْلِ محظورٍ اعتقدَ أنه ليس محظورًا. ولا يَحِلُّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالفَ هذا الحديثَ الصحيح الصريحَ بعدَ أن يَبلُغَه.
وقد روى الإمام أحمد (2) وأبو داود (3) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول: “مَنْ أمَّ الناسَ فأصابَ الوقتَ وأتمَّ الصلاةَ فله ولهم، ومن انتقصَ من ذلك شيئًا فعليه ولا عليهم”.
وروى ابن ماجه (4) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول: “الإمام ضامنٌ، فإن أحسنَ فله ولهم، وإن أساءَ – يعني: فعليه ولا عليهم”.
وهذه السنة الصحيحة الصريحة قد اتصلَ بها الإجماعُ القديمُ، وعُمِلَ بها زمنَ القرون الثلاثة الفاضلة في جميع الأمصار، فإنه قد كان في عهد الصحابة من يقرأ البسملةَ سرًّا، ومن يقرأ بها جهرًا،
__________
(1) برقم (694).
(2) 4/ 145، 154، 156، 201.
(3) برقم (580). ورواه أيضًا ابن خزيمة (1513) وابن ماجه (983).
(4) برقم (981).
(5/277)
ومن لا يَقرأ بها سرًّا ولا جهرًا، وكلٌّ منهم يُصلِّي خلفَ الآخر وإن كان يُرجِّح قولَه.
ومن أجودِ ما احتجَّ به من يَرى الجهرَ بالبسملة حديثُ معاوية (1)، لما قَدِمَ المدينةَ فتَرك قراءةَ البسملة في الركعة الأولى في أولِ الفاتحة وأولِ السورة، حتى هَتَفَ به الصحابةُ فقرأها في الركعة الثانية. وقد اعتمد الشافعي على هذا الأثر في “الأم”، وفيه إجماع أولئك الصحابة على الصَّلاةِ خلفَه وإن كان قد تركَ ذلك، وإن كانوا قد أنكروا تركَه.
ومن قال من المتفقهة أتباعِ المذاهب: إنه لا يَصِحُّ اقتداؤه بمن يخالفُه إذا فَعَلَ أو ترك شيئًا يقدح في الصلاة عند المأموم؛ فقَوْدُ مقالتِه يُوقِعُه في مذاهب أهل الفرقة والبدعة، من الروافض والمعتزلة والخوارج، الذين فارقوا السنة، ودخلوا في الفرقة والبدعة.
ولهذا آل الأمرُ ببعض الضالّين إلى أنه لا يُصلِّي خلفَ من يَرفَعُ يديه في المواطن الثلاثة، والآخر لا يرى الصلاة خلفَ من ترك الرفعَ أول مرة، وآخر لا يصلي خلف من يتوضأ من المياه القليلة، وآخر لا يصلي خلف من لا يتحرز من يسير النجاسة المعفو عنها عنده، إلى أمثال هذه الضلالات التي توجب أيضًا أن لا يُصلِّي أهلُ
__________
(1) أخرجه الشافعي في “المسند” (1/ 74) و”الأم” (1/ 94) والحاكم في “المستدرك” (1/ 233) عن أنس بهذا. ورواه الشافعي أيضًا من طريق إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه بهذا الخبر.
(5/278)
المذهب الواحد بعضُهم خلف بعض، ولا يُصلِّي التلميذ خلف أستاذه، ولا يصلي أبو بكر خلف عمر، ولا عليٌّ خلف عثمان، ولا يصلِّي المهاجرون والأنصار بعضُهم خلف بعض.
ولا يخفى على مسلمٍ أن هذه من مذاهب أهل الضلال، وإن غَلِطَ فيها بعضُ الناس. فهذه الفتوى لا تحتمل بسطَ هذا الأصل العظيم الذي هو جماع الدين.
والواجب على ولاة الأمور المنعُ من هذه البدع المُضِلَّة، وتأديب من يُظهِر شيئًا من هذه المقالات المنكرة، وإن غلط فيها غالطون، فموارد النزاع إذا كان في إظهارها فساد عام؛ عُوقِبَ مَن يُظهِرها، كما يُعاقَب من يشرب النبيذ متأولاً، وكما يُعاقَب البغاةُ المتأولون، لكفِّ الجماعة، وان الناس (1) بعضهم عن البعض.
وهذه الأصول الثلاثة التي يشتمل عليها هذا الواجب: (أن موارد الاجتهاد معفوّ فيها عن الأئمة، وأن الاجتماع والائتلاف مما تجب رعايته، وأن عقوباتِ المعتدين متعينة) هي من أجلِّ أصول الإسلام.
وقد أخرجا في الصحيحين (2) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال لأصحابه عامَ الخندق: “لا يُصلِّينَّ أحدٌ
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) البخاري (946، 4119). ورواه مسلم (1770) بلفظ: “لا يُصلينّ أحدٌ الظهرَ إلاّ في قريظة”. انظر كلام الحافظ عليه في “الفتح” (7/ 408 – 409).
(5/279)
العصرَ إلاّ في بني قريظةَ”، فأدركتْهم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلِّي إلاّ في بني قريظةَ، فصَلَّوا بعد الغروب، وقال آخرون: لم يُرِد منّا توقيتَ الصلاة، فصلَّوا في الطريق. فبلغ ذلك النبيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يَعِبْ على واحدةٍ من الطائفتين. فقد أقرَّهم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على اجتهادهم في حياتِه، فبعدَ وفاتِه أولى وأحرى. والحمد لله وحدَه.
(تمت الفُتيا وجوابها على يد عمر بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري الأندلسي الشافعي، غَفَر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين).
(5/280)
رسالة إلى السلطان الملك المؤيَّد
(5/281)
بسم الله الرحمن الرحيم
من أحمد بن تيمية إلى المولى السيِّد السلطانِ الملكِ المؤيَّد، أيده الله بتكميل القوتينِ النظريةِ والعلميةِ، حتى يُبلِّغَه أعلى مراتب السعادةِ الدنيويةِ والأخرويةِ، ويجعلَه ممن أتمَّ عليهِ نِعَمَه الباطنَةَ والظاهرة، وأعطاه غايةَ المطالب الحميدةِ في الدنيا والآخرة، وجعلَه معَ الذين أنعمَ عليهم من النبيين والصدِّيقينَ والشهداءِ والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.
ففي الهُدَى كمالُ القوةِ العلمية، وفي الرَّشادِ كمالُ القوة العملية، وبهما أخبرَ أنه أرسلَ رسولَه حيثُ قال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)) (1).
فالهدى يتضمنُ كمالَ القوة العلمية، ودينُ الحق يتضمنُ كمالَ القوةِ العملية.
وقد نزهه عن ضدِّ ذلك في مثلِ قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) (2).
فنزَّهَه عن “الضلالِ” المناقضِ للهدى، وهو النقص في القوة العلمية، وعن “الغَيّ” المناقضِ للرشاد، وهو النقص في القوة العملية.
__________
(1) سورة التوبة: 33، سورة الفتح: 28، سورة الصف: 9.
(2) سورة النجم: 1 – 4.
(5/283)
ثم أخبرَ بكمالِه فيهما بقوله (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)) وهو هَوى النفس المُفسِدُ للقوة العملية، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) وهو أعلى مراتبِ إعلامِ اللهِ لعبادِه، وإن كان أهلُه متفاضلين فيه.
فكمال التنزُّهِ عن الخطأ للأنبياء صلواتُ الله عليهم وسلامُه، وهم فيه متفاضلون، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) (1)، وقال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (2).
وقد استوعبَ سبحانَه أنواعَ جنسِ تكليمه لعباده في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (3)، فجعل ذلك ثلاثة أنواع:
الوحي الذي منه ما هو إلهام للأنبياء يَقَظَةً ومنامًا، فإنّ رؤيا الأنبياءِ وحي.
والتكليم من وراءِ حجاب، كما كلَّمَ موسَى بن عمرانَ حيثُ نادا وقَرَّبَه نَجِيًّا.
والتكليم بإرسال رسول يُوحي بإذنِه ما يشاءُ هو تكليمُه بواسطةِ إرسال الملَكِ، كما قال تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18)) (4)، أي علينا أن نجمعَه في قلبك، ثمَّ علينا أن نقرأه
__________
(1) سورة الإسراء: 55.
(2) سورة البقرة: 253.
(3) سورة الشورى: 51.
(4) سورة القيامة: 17 – 18.
(5/284)
بلسانك. وهذا على أظهر القولين، وهو أن “قَرَأ” بالهمزة من الظهور والبيان، وقولهم: مَا قَرَأَتِ الناقةُ بسَلاَ جَزُوْرٍ قَطُّ، أي ما أَظهرتْه، بخلاف “قَرَى يَقْرِيْ” فإنه من الجَمع، ومنه سُمِّيتِ القريةُ قريةً، والمَقْرَاةُ مُجتمع الماء.
فقوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) أي قرأناه بواسطةِ جبريل (فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18)). وهذا كقوله تعالى: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ) (1)، وإنما ذلك بتوسُّط قراءةِ جبريلَ وتلاوته، كقوله: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (2). فإنّ هذا قد جعله سبحانَه أحدَ أنواع الجنس العامّ المقسوم، وهو تكليمُ الله لعبادِه، ولهذا قال عُبادةُ بن الصامت: رؤيا المؤمنِ كلامٌ يُكلِّم به الربُّ عبدَه في منامِه.
وأدنَى مراتب ذلك الوحي المشترك: الذي يكون لغير الأنبياء، كقوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) (3)، وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (4).
وهذا الوحي المشترك هو الذي أدرجَه في النبوة من الفلاسفةِ مَن أدرجَه، كابن سِينا وأمثالِه، فإنّ أرسطو وأتباعَه القدماءَ ليس لهم في النبوةِ كلامٌ، إذْ كان أرسطو هو وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني
__________
(1) سورة القصص: 3.
(2) سورة الشورى: 51.
(3) سورة المائدة: 111.
(4) سورة القصص: 7.
(5/285)
الذي يُؤَرَّخ له التاريخ الرومي، وبه يُؤَرِّخ كثير من اليهودِ والنصارى، وكان قبل المسيح عليه السلامُ بنحوِ ثلاثمائةِ سنةٍ. وبعدَ المسيح بنحوِ ثلاثمائةِ سنةٍ كان قُسْطَنْطِينُ الذي أقامَ دينَ النصارى بالسيف، وفي عهدِه أحدثوا الأمانةَ وتعظيمَ الصليب واستحلالَ الخنزير والقولَ بالتثليثِ والأقانيمِ بمَجْمَعِهِم الأوّل المسَمَّى بمجمعِ نِيْقِيَة.
وهذا الإسكندر المقدوني هو الذي ذهبَ إلى أرضِ الفُرْسِ وغَيَّر ممالِكَهم، وليس هو ذا القَرنين المذكور في القرآن، الذي بَنَى سَدَّ يأجوجَ ومأجوجَ، فإنّ هذا كانَ متقدمًا على ذلك، وكان موحدًا مسلمًا.
والمقدوني لم يَصِل إلى تلك الأرض، وكان هو وقومُه مشركين يعبدون الهياكلَ العُلْوِيةَ والأصنامَ الأرضيةَ، ولم يزالوا على ذلك حتى وصلتْ إليهم دعوةُ المسيحِ عليه الصلاةُ والسلام، فأسلمَ منهم من أسلمَ، وكانوا متبعينَ لدينِ المسيحِ الحقِّ، إلى أنْ بُدِّلَ منه ما بُدِّلَ.
وهؤلاء كانوا بأرض الروم وجزائرِ البحر، لم يَصِلْ إليهم من أخبار إبراهيم وآل إبراهيم -كموسى بن عمران وغيرِه- ما عَرَفوا به حقيقةَ النبوة، ولهذا كان أرسطو أوَّلَ من قالَ بقِدَمِ الأفلاكِ من هؤلاء، بخلافِ مَن قبلَه كأفلاطونَ وشيخِه سُقراطَ، وشيخِ سقراط فيثاغورسَ، وشيخ فيثاغورسَ انبدقلس، فإنّ هؤلاء كانوا يقولون بحدوث صورة الفلك، ولهم في المبادئ كلام طويل قد بَسطناهُ في الكتاب الكبير (1) الذي ذكرنا فيه مقالاتِ العالَم في مسألة
__________
(1) لعله يقصد به “درء تعارض العقل والنقل”، فقد أطال فيه الكلام على مسألة حدوث العالم والردّ على حجج الرازي، وخاصة في المجلدين الثاني والثالث منه.
(5/286)
حدوثِ العالم وقِدَمِه، فإنها منشأُ نزاع الأولين والآخرين في أقوالِ الربّ وأفعالِه، وعنها تنازعَ أهلُ المللَ من المسلمين وأهلِ الكتاب في كلام الربّ: هل هو قديمُ النوع أو العينِ؟ وهل هو قائمٌ به أو مباينٌ لهَ؟ وهل يتكلمُ بقدرته ومشيئتِه أو هو لازمٌ له لزومَ الحياة؟
وكذلك تنازعوا في دوامِ الحدوثِ ووجودِ ما لا يتناهَى منها في الماضي والمستقبلِ: هل هو ممتنعٌ في الماضي والمستقبل؟ كما يقوله الجهمُ وأبو الهذيل، أو هو جائز في المستقبل ممتنعٌ في الماضي؟ كما يقوله كثير من المتكلمين، أم هو جائز فيهما، كما يقوله أئمةُ أهلِ الملل وأئمة الفلاسفة، لكنَّ أئمةَ أهلِ المللِ لا يُجوِّزون ذلك إلا في قديم واحدٍ، لا يُجوزون أن يكون شيئانِ كل منهما قديم أزليّ يقومُ به حوادثُ لا بدايةَ لها ولا نهايةَ، فيكون ما لا يتناهَى لا في الماضي ولا في المستقبل قابلاً لأن يُزادَ عليه.
وهذا المحالُ إنما يَلْزَمُ مَن قال بقِدَمِ الأفلاك، وأما أئمة أهلِ السنة -كالصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ ومَن سَلَك سبيلَهم من أئمة المسلمين- فهؤلاءِ أَتَوا بخلاصةِ المعقولِ والمنقول، إذْ كانوا عالمين بأنَّ كلاًّ من الأدلة السمعية والعقلية حق، وأنَّها متلازمةٌ، فمن أعطَى الأدلةَ العقليةَ اليقينية حَقَّها من النظرِ التام عَلِمَ أنها موافِقة لِمَا أخبرتْ به الرسُلُ، ودَلتْهُ على وجوب تصديقِ الرسُل فيما أخبروا به. ومَن أعطَى الأدلَّةَ السمعيةَ حقَّها مَن الفهم عَلِمَ أنَّ اللهَ أرشدَ عِبادَه في كتابه إلى الأدلة العقلية اليقينية، التي بها يُعلَم وجودُ الخالقِ وثبوتُ صَفاتِ الكمالِ له، وتنزُّهُه عن النقائصِ وعن أن يكون له مِثْل في شيء من صفاتِ الكمال، و [التي تَدُلُّ] على
(5/287)
وحدانيتِه ووحدانيةِ ربوبيتِه ووحدانية إلهيتِه، وعلى قدرته وعلمِه وحكمتِه ورحمتِه، وصِدْق رُسُلِه ووجوب طاعتِهمِ فيما أوجَبوا وأَمَروا، وتصديقِهم فيما أعلَموا به وأخبروا، وأنَّهم كمَّلُوا بما أُوتُوا من الهُدَى ودينِ الحق للعِبادِ ما كانتْ تَعْجزُ مجردُ عقولهم عن بلوغِه.
إذْ كانت طُرُقُ العلمِ ثلاثةً: الحسّ، والنظر، والخبر. فأتباعُهم جمعَ الله لهم غايةَ الفضائلِ العلمية والعملية، ولهذا كانت أمة محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خير أمةٍ أخرجت للناس، فإنّ الله جمعَ لهم من الفضائل ما فرقَه في غيرِهم من الأمم، فجمعوا إلى ما خصَّهم الله به ما كان عند غيرِهم من أهل الكتاب ومن فلاسفةِ اليونانِ والفُرسِ والهند وغيرِهم.
ولما كان سلفُ هذه الأمة عالمين بغاياتِ العلوم العقلية والسمعية وعَلِمُوا تَلازُمَهما، لم يكن بينهم تنازع ولا تعارض. وقد أخبرَ الله في كتابه بما دَلَّ به على أنَّ كلاًّ من العقل والسمع يُوجبُ النجاةَ، فقال تعالى عن أهل النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)) (1)، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)) (2)، وقال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (3).
__________
(1) سورة الملك: 10.
(2) سورة الحج: 46.
(3) سورة ق: 37.
(5/288)
فدَل على أنَّ مجردَ العقل يُوجبُ النجاةَ وكذلك مجردُ السمع، [و] معلوم أن السمع لا يُفيد دونَ العقل، فإنّ مجردَ إخبارِ المخبرِ لا يَدُل إن لم يُعلَم صِدقُه، وإنما يُعلَم صِدقُ الأنبياء بالعقل، لكن طائفةً من أهل الكلام ظنُّوا أنَّ دلالةَ السمع إنما هي من جهةِ المخبرِ فقط، وقد عَلِمُوا أن الخبرَ لا يُفِيد إن لم يُعلَم بالعقلِ صدقُ المخبِرِ، فجعلوا دلالةَ العقلِ خارجةً عما جاءت به الأنبياء.
وأما حُذَّاقُ المتكلمين فعَلِموا أن الرسول بَيَّنَ للناسِ الأدلةَ العقليةَ التي بها يُعرَف إثباتُ الصانع وتوحيدُه وصفاتُه وصِدْقُ رسوله، وعَلِمُوا أنه لا يكون عالمًا بالكتاب والسنَّةِ إلاّ مَن عَلِمَ ما فيهما من الأدلة العقلية التي تَدُل على المطلوب، مثلَ العلمِ بصدْقِ المخبِرِ، وأنَّ الله إنما بعثَ رسولاً إلى الخلقِ ليَهديَهم ويُخرِجهم من الظلماتِ إلى النور، ويَهدِيَهم إلى الصراطِ المستقيم، ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسنُ. إذْ بعثَه بالهدى ودينِ الحق، وقد أكملَ له ولأمتِه الدِّينَ، وأتمَّ عليهم النعمةَ.
وقد تضمَّنَتْ رسالتُه ما به يُعلَم ذلك من الأدلة العقلية، وإلاّ فمجرَّدُ إخبارِ المخبرِ قبلَ العلمِ بصِدْقِه لا يُفِيدُ علمًا. وكذلك الأدلة العقلية لا يكونُ النَاظرُ فيها قد أعطاها حقَّها حتَّى تَدُلَّه على صِدْقِ الرسول، فإنَّ الأدلة العقلية اليقينية مستلزمة لذلك، وثبوتُ الملزِوِم بدون ثبوتِ اللازم محال. ولهذا قال أهل النار لما قيل لهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى) (1) الآية إلى (السَّعِيرِ (11)). فدَل ذلك على
__________
(1) سورة الملك: 8 – 11.
(5/289)
أنهم كذَّبوا الرسُلَ فاستحقُّوا العذابَ، ودَلَّ على أنهم لم يكونوا يعقلون، وأنهم لو عَقَلُوا لصَدَّقوا الرسُلَ.
فلمّا كانَ السلفُ عالمينَ بحقائق الأدلة العقلية والسمعية وأنها متلازمة، عَلِمُوا أنه يَمتنعُ أن تكون متعارضة، فإنّ الأدلةَ القطعية اليقينية يَمتنِعُ تعارضُها، لوجوب ثبوتِ مدلولها، فلو تعارضتْ لَزِمَ إمّا الجمعُ بين النفي والإثبات، وَإمّا رَفْعُهما. والنقيضانِ لا يجتمعانِ ولا يرتفعانِ. لكن جاءَ بعدَهم من أهل الكلام مَن قَصَّرَ في معرفةِ ما جاء به الرسولُ وما يُوجبُه النظَرُ المعقولُ، فظَنُّوا في أقوالِ الربِّ وأفعالِه في مسألة حدوثَ العالَمِ وغيرِها ظُنونًا مُخطِئةً، ليستْ مطابقةً لخبرِ الرسُلِ ولا لموجب العقلِ، وصارَ يَظُنُّ من لا يَعرِف دينَ الرسُلِ أن هذا هو دينُهم، ورأوا في ذلك ما يُناقِضُ صريحَ العقلِ.
فكان هذا من أسبابِ اضطرابِ الناسِ في أمر الرسُلِ:
فطائفة تقول: إنما جاءوا في العلوم الإلهية بطريقِ التخييل وخطابِ الجمهور.
وطائفة تقول: بل جاءوا بطريقٍ لا يَدُلُّ على المقصود، بل يُشْعِرُ بنقيضِه، ليَعرِفَ الناسُ الحقَّ بأنفسِهم لا من جهة الأنبياء. ثمّ يتأوَّلون ما قالتْه الأنبياءُ على ما عندهم.
وطائفة تقول: فيما جاءت به الأنبياءُ متشابه لا يَعلَم معناه لا الأنبياءُ ولا غيرُهم، ظَنُّوا أنَّ الوقفَ على قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) (1)، وأنه إذا كان الوقفُ على هذا فالمرادُ بالتأويلِ صَرْفُ اللفظِ
__________
(1) سورة آل عمران: 7.
(5/290)
عن الاحتمالِ الراجح إلى الاحتمالِ المرجوح. وصارَ مِن هؤلاء مَن يقول: هذه الألفاظ تُجرَى على ظاهرِها، ولا يَعلَم تأويلَه إلاّ الله، فيَجمعُ بين النقيضَيْنِ.
ولم يَعلَموا أنَّ لفظَ “التأويلِ” بحسبِ تعدُّدِ الاصطلاحات صارَ مشتركًا في ثلاثة معانٍ:
معناه في القرآن هو ما يَؤُوْلُ إليه الكلامُ وإنْ وافقَ ظاهرَه، كقوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (1). وهذا التأويل لا يَعلمه إلاّ الله، كوقتِ الساعة.
ويُرادُ بالتأويل نفسُ الكلام وما قُصِدَ إفْهامُ الناسِ إيَّاهُ، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم. ولا يجوز أن يُنزِل اللهُ كتابا يأمر بتدبُّرِه وعَقْلِه، وقد فسَّرهُ النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأصحابُه كُلَّه للمسلمين، ويكون فيه ما لا يَعلَمُ تفسيرَه لا النبيُّ ولا أحد من أمته.
ويُرادُ بالتأويل تحريفُ الكلمِ عن مواضعِه، وتفسيرُ الكلامِ بغيرِ مرادِ المتكلِّم، كتحريفِ أهلِ الكتاب لِمَا حَرَّفوه من الكتاب، وتحريفِ الملاحدةِ وأهلِ الأهواء لِما حَرَّفوه من معاني هذا الكتاب. وهذا تأويلٌ باطلٌ يَعلَم اللهُ أنه باطلٌ، لا أنه يَعلَم أنه حقّ، كما قال تعالى: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (2). فإنه سبحانَه
__________
(1) سورة الأعراف: 53.
(2) سورة يونس: 18.
(5/291)
يَعلم الأشياءَ على ما هي عليه، يَعلمُ الموجودَ موجودًا والمعدومَ معدومًا، فما كان معدومًا لا يَعلمه موجودًا. وهذا باب واسع.
والسلطانُ -أيَّدَه الله وسَدَّدَه- هو مِن أحقِّ مَن تَجبُ معاونتُه على مصالح الدنيا والآخرة، لِمَا جَمَعَ الله فيه من الفضائلَ والمناقب.
وكان من أسباب هذه التحية أنَّ فلانًا قَدِمَ، ولكثرةِ شكرِه للسلطانِ وثنائِه عليه ودُعاَئِه له حتى في الأسحارِ وغيرِها يُكثِرُ المفاوضةَ في محاسنِ السلطان، ويُجَدِّدُ بحضورِه للسلطانِ من الثناءِ والدعاءِ ما هو مِن بُشْرَى المؤمن، كما قالوا: يا رسول الله! الرجلُ يَعملُ العملَ لنفسِه فيَحْمَدُه الناسُ عليه، فقال: “تلكَ عَاجِلُ بُشْرَى المؤمنِ” (1).
فالسلطانُ جَعلَ اللهُ فيه مِن الاشتمالِ على أهلِ الاستحقاقِ ما يَأجُرُه الله عليه. وفلانٌ هذا من خِيارِ الناس وأصدقِهم وأنفعِهم، ومن بيت معروف، وقد جعلَ الله فيه من المحبَّهِ والثناء على السلطان ما هو من نِعَم الله عليه، وهو من أهل الخيرِ والدين معروف، فجَمعَ الله بسببه للسلطان قلوبًا تُحِب السلطانَ وتَدعُو له. واللهُ تعالَى يَجمع له خير الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى سائرِ من يُحيط به العناية الكريمة. والحمد لله ربِّ العالمين.
__________
(1) أخرجه مسلم (2642) عن أبي ذر.
(5/292)
رسالة إلى السلطان الملك الناصر في شأن التتار
(5/293)
بسم الله الرحمن الرحيم
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)) (1).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)) (2).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شيئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
__________
(1) سورة التوبة: 33.
(2) سورة الصف: 9 – 14.
(5/295)
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)) (1).
إلى سلطان المسلمين، نصرَ الله به الدين، وقمعَ به الكفّار والمنافقين، وأعزَّ به الجند المؤمنين، وأدالَهم به على القوم المفسدين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنّا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. ونسألُه أن يُصلي على محمدٍ عبدِه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا.
أما بعد، فإن الله قد تكفَّل بنَصْر هذا الدين إلى يوم القيامة، وبظهورِه على الدين كلِّه، وشهد بذلك، وكفى بالله شهيدًا. وأخبر الصادقُ المصدوق – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خَذَلَهم إلى يوم القيامة (2)، وأخبر أنهم بالناحية الغربية عن مكة والمدينة (3)، وهي أرضُ الشام وما يليها.
كما أخبرنا أنه لا تقوم الساعةُ حتى تقاتلوا (4) التُّركَ، قومًا صِغارَ
__________
(1) سورة التوبة: 38 – 41.
(2) أخرجه مسلم (1920) عن ثوبان. وفي الباب عن المغيرة بن شعبة وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله ومعاوية وعقبة بن عامر وغيرهم أخرج أحاديثهم مسلم وأحمد وغيرهما.
(3) في حديث سعد بن أبي وقاص الذي أخرجه مسلم (1925): “لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة”.
(4) في الأصل: “تقاتل”.
(5/296)
الأعينِ دُلْفَ الآنف، ينتعلون الشَّعْرَ، كأن وجوههم المَجَانُّ المُطرقة (1).
وأخبر (2) أن أمتَه لا يزالون يقاتلون الأمم حتى يقاتلوا الأعورَ الدجَّالَ، حين ينزل عيسى بن مريم من السماء على المنارة البيضاء شَرْقِيَّ دمشق، فيَقتُل المسلمون جُندَه القادمَ معه من يهود أصبهان وغيرهم.
وأخبر – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن الله يبعث لهذه الأمة على رأسِ كلِّ مئة سنةٍ مَن يُجَدِّدُ دينَها (3). ولا يكون التجديد إلاّ بعد استهدام.
وقال: “سألتُ ربّي أن لا يُسلِّطَ على أمتي عدوًّا من غيرهم فيجتاحُهم، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يُهلِكهم بسَنةٍ عامةٍ، فأعطانيها” (4).
وما زالت دلائل نبوته – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تَظهر شيئًا بعد شيء. وقد أظهر الله في هذه الفتنة (5) من رحمته بهذه الأمة وجُنْدِها ما فيه عبرةٌ، حيثُ ابتلاهم بما يُكفر به من خطاياهم، ويُقبِل بقلوبهم على ربّهم، ويجمع كلمتهم على وليّ أمرِهم، ويَنزِعَ الفُرقةَ والاختلاف من بينهم،
__________
(1) أخرجه البخاري (2928) ومسلم (2912) من حديث أبي هريرة.
(2) كما في حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم (2937) وغيره.
(3) أخرجه أبو داود (4291) من حديث أبي هريرة.
(4) أخرجه مسلم (2890) عن سعد بن أبي وقاص.
(5) يشير بها إلى وقعة قازان سنة 699، التي انكسر فيها جيش السلطان الملك الناصر أمام التتار بوادي الخزندار، وقُتل فيها جماعة من الأمراء وخلقٌ كثير من العوام، وأبلوا بلاء حسنًا. انظر “نهاية الأرب” (31/ 384) و”البداية والنهاية” (17/ 718).
(5/297)
ويُحرك عَزَماتِهم للجهاد في سبيل الله وقتال الخارجين عن شريعة الله.
فان هذه الفتنة التي جَرتْ، وإن كانت مُؤلمةً للقلوب، فما هي -إن شاء الله- إلاّ كالدواء الذي يُسقَاه المريضُ ليحصل له الشِفاءُ والقوة. وقد كان في النفوس من الكِبْر والجهل والظلم ما لو حَصل معه ما تشتهيه من العِزّ لأعقَبها ذلك بلاءً عظيما. فرحمَ الله عبادَه برحمتِه التي هو أرحم بها من الوالدة بولدها، وانكشف لعامة المسلمين شَرْقًا وغَرْبًا حقيقةُ حالِ هؤلاء المفسدين الخارجين عن شريعة الإسلام وإن تكلموا بالشهادتين، وعَلِمَ مَن لم يكن يعلم ما هم عليه من الجهل والظلم والنفاق والتلبيس والبُعد عن شرائع الإسلامٍ ومناهجه، وحَنَّتْ إلى العساكر الإسلامية نفوس كانت مُعرِضة عنهم، ولانَتْ لهم قلوبٌ كانت قاسية عليهم، وأنزل الله عليهم من ملائكته وسكينته مالم يكن في تلك الفتنة معهم، وطابتْ نفوسُ أهلِ الإيمان ببَذْلِ النفوس والأموال للجهاد في سبيل الله، وأعدُّوا العدَّة لجهاد عدوِّ الله وعدوهم، وانتبهوا من سِنَتِهم، واستيقظوا من رَقْدَتِهم، وحمدوا الله على ما أنعمَ به من استعداد السلطان والعسكر للجهاد، وما جمعه من الأموال للإنفاق في سبيل الله.
فإنّ الله فَرضَ على المسلمين الجهاد بالأموال والأنفس، والجهادُ واجب على كل مسلمٍ قادرٍ، ومن لم يَقدِر أن يجاهد بنفسه فعليه أن يجاهد بمالِه إن كان له مالٌ يتّسَع لذلك، فإن الله فرض الجهاد بالأموال والأنفس. ومن كَنَزَ الأموالَ عند الحاجة إلى إنفاقها في الجهاد، من الملوك أو الأمراء أو الشيوخ أو العلماء أو التجّار أو الصُّنَاع أو الجند أو غيرهم، فهو داخل في قوله سبحانه (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
(5/298)
وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)) (1)، خصوصًا إن كانت الأموالُ من أموال بيت المال، أو أموالٍ أُخِذتْ بالربا ونحوه، أو لم تُؤَدَّ زكاتُها ولم تُخرَج حقوقُ الله منها.
وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يحضُّ المسلمين على الإنفاق في سبيل الله، حتى إنه في غَزَاة تبوك حَضَّهُم، وكان المسلمون في حاجةٍ شديدة، فجاء عثمان بن عفان بألفِ راحلةٍ من ماله في سبيل الله بأَحْلاسِها وأَقْتابِها، وأعوزتْ خمسين راحلة فكمَّلها بخمسين فرسًا، فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ما ضَرَّ عثمانَ ما فَعَلَ بعدَ اليوم” (2).
وذمَّ الله المخلَّفين عن الغزو في سورة براءة بأقبح الذمّ حين قال: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)) (3). وقال: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
__________
(1) سورة التوبة: 34 – 35.
(2) أخرجه أحمد (4/ 275) والترمذي (3701) من طريق فرقد أبي طلحة عن عبد الرحمن بن خباب السُّلَمي. وفرقد لا يعرف، وباقي رجاله ثقات. وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن سمرة أخرجه أحمد (5/ 63) والترمذي (3702) وحسنه.
(3) سورة التوبة: 24.
(5/299)
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) (1).
فمن تَركَ الجهادَ عذَّبه الله عذابًا أليمًا بالذُّلّ وغيره، ونَزَعَ الأمرَ منه فأعطاه لغيره، فإن هذا الدين لمن ذَبَّ عنه.
وفي الحديث عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “عليكم بالجهاد، فإنه بابٌ من أبواب الجنة (2)، يُذهِب الله به عن النفوس الهمَّ والغمَّ” (3). وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (4): “لن يُغلَب اثنا عشر ألفًا من قلَّةٍ وقتالٍ، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العُسْر يُسرًا”.
ومتى جاهدت الأمَّةُ عدوَّها ألَّف الله بين قلوبها، وإن تركتِ الجهادَ شغَلَ بعضَها ببعض.
ومن نِعَمِ الله على الأمة أنها قد اجتمعت على ذلك في الشرق والغرب، حتى إن المؤمنين من أهل المشرق قد تحرَّكتْ قلوبُهم انتظارًا لجنود الله، وفيهم من نوى أنه يخرج مع العدوِّ إذا جمعوا، ثُمَّ إمّا أن يقفز عنهم وإمّا أن يُوقع بهم. والقلوبُ الساعةَ محترقةٌ مهتزَّةٌ لنصر الله ورسوله على القوم المفسدين، حتى إن بالموصل
__________
(1) سورة التوبة: 39.
(2) في الأصل: “أبواب الله”.
(3) أخرجه أحمد (5/ 319) عن عبادة بن الصامت.
(4) أخرجه ابن ماجه (2827) عن ابن شهاب عن أنس. وأخرجه أحمد (1/ 294، 299) وأبو داود (2611) والترمذي (1555) والدارمي (2443) من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس. وليس عندهم إلاّ الفقرة الأولى مما ذكر هنا.
(5/300)
والجزيرة وجبال الأكراد خَلْقًا عظيمًا مستعدين للجهاد مرتقبين العساكر، سواء تحرك العدوُّ أو لم يتحرك.
وكذلك قدمتْ (1) بنتُ بَيْدَرَا (2) وكانت مأسورةً في بيت قازان (3)، فأخبرتْ بما جرى بينه وبين أخيه وأمّه مما يؤيّد ذلك، وهي الساعةَ في نِيتِها تذهبُ إلى مصر، وقد أقامت في بيتهم مدَّةً إلى نصف شوَّال على ما ذكرتْ.
وسواء ألقَى الله بينهم الفرقةَ والاختلافَ وأهلكَ رؤساءَهم أو لم يكن، فإن الأمر إذا كان كذلك فهذا عونٌ عظيمٌ من الله للمسلمين.
وقد اتصل بالداعي أخبار صادقة من جهات يُوثَق بها بما قد مال مع المسلمين من أمراء تلك البلاد حتى من المغول، ولابدّ أن السلطان يُطالعُ بذلك من تلك البلاد، فإنّ هناك قوم صالحون (4) ساعون في مصالح المسلمين، كشيخ الجزيرة الشيخ أحمد.
وجاءتنا أخبار مع غير واحدٍ بأن الخَرْبَنْدا أخا قازانَ (5) قد قَدِمٍ الرومَ وهو يجمع العساكر للقدوم. وقدمتْ بنت لبَيْدَرا كانت مأسورة في بيت قازان (5)، وذكرتْ أحوالاً من الكلام بين قازان (5) وأخيه الخربندا وأمِّه، تَدُلُّ على ذلك، وأن الخربندا هو في نية فاسدة
__________
(1) في الأصل: “قدم”.
(2) كان من ملوك التتار.
(3) في الأصل: “قزان”.
(4) كذا في الأصل مرفوعًا.
(5) في الأصل: “قزان”.
(5/301)
للمسلمين، وأمُّه تنهاه عن ذلك، وهو لا يَقبل، ويُوقع بينهم فتنةً.
فليس من الواجب أن يترك نَصْرُ الله ورسوله والجهادُ في سبيل الله إذا كان عدوّ الله وعدوّ المسلمين قد وقع البأسُ بينَهم، بل هناك يكون انتهاز الفرصة، ولا يَحِلّ للمسلمين أن ينتظروهم حتى يطأوا بلاد المسلمين كما فعلوا عام أوّل، فإنّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “ما غُزِيَ (1) قومٌ في عُقْر دارِهِم إلاّ ذَلُوا” (2).
والله قد فرض على المسلمين الجهاد لمن خرجَ عن دينه وإن لم يكونوا يقاتلونا، كما كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وخلفاؤه يُجهّزون الجيوش إلى العدو وإن كان العدوُّ لا يَقصِدُهم، حتى إنه لما توفي رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وكانت مصيبته أعظم المصائب، وتفرق الناس بعد موته واختلفوا، نَفَّذَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه جيشَ أسامة بن زيد الذي كان قد أمره رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى الشام إلى غزو النصارى، والمسلمون إذ ذاك في غاية الضعف.
فلما رآهم العدوُّ فزِعوا وقالوا: لو كان هؤلاء …. (3) ما بعثوا جيشًا.
وكذلك أبو بكر الصديق لمّا حضرتْه الوفاةُ قال لعمر بن الخطاب: لا يَشغلكم مصيبتكم بي عن جهادِ عدوِّكم (4). وكانوا هم قاصدين
__________
(1) في الأصل: “غزا”.
(2) انظر “النهاية” لابن الأثير (3/ 271). وهو معروف من كلام علي ضمن خطبة له في “البيان والتبيين” (2/ 53) و”الكامل” للمبرد (1/ 30) و”العقد الفريد” (4/ 70) و”الأغاني” (16/ 267) و”نهج البلاغة” (ص 69) وغيرها.
(3) بياض في الأصل بقدر كلمة. ولعلها “ضعافًا” أو ما في معناها. وانظر عن تنفيذ جيش أسامة وما كان فيه من المصالح: “البداية والنهاية” (9/ 421 – 424) و”تاريخ دمشق” (30/ 315).
(4) انظر تاريخ الطبري (3/ 414).
(5/302)
للعدو لا مقصودين.
وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في مرض موته، وهو يقول: “نَفِّذوا جيش أسامة، نَفِّذوا جيش أسامة” (1)، لا يَشغَلُه ما هو فيه من البلاء الشديد عن مجاهدة العدوّ. وكذلك أبو بكر.
والساعةَ لما ذهب أميرٌ بحلب بعسكرٍ إلى الجزيرة وتصيَّد هناك، طارَ الصيتُ في تلك البلاد بمَجيءِ العسكر، فامتلأت قلوب البنجاي (2) رعبًا، حتى صاروا يريدون أنَ يُظهِروا زيَّ المسلمين لئلاّ يُؤخَذوا، وفي قلوب العدوّ رُعبٌ لا يعلمه إلا الله، وقد هُيِّئ لهم في البلاد إقامات كثيرة من الشعير وغيره، والمسلمون هناك يدعون الله أن يكون رزق المسلمين.
وأقلُّ ما يجب على المسلمين أن يُجاهِدوا عدوَّهم في كلِّ عام مرةً، وإن تركوه أكثر من ذلك فقد عَصوا الله ورسولَه، واستحقوا العقوبة، وكذلك إذا تقاعدوا حتى يطأ العدوُّ أرضَ الإسلام. والتجربةُ تدلُّ على ذلك، فإنه (3) لما كان المسلمون يقصدونهم في تلك البلاد لم يزالوا منصورين، وفي نَوبتَيْ حمص الأولى والثانية لما مَكّنُوهم من دخول البلاد كاد المسلمون في تلك النوبةِ أن ينكسروا لولا أن ثبَّتَ الله، وجَرى في هذه المدة ما جرى. وما قَصَدَهم المسلمون قَطُّ
__________
(1) أخرجه ابن إسحاق معلقًا كما في “سيرة” ابن هشام (2/ 650) وابن سعد في “الطبقات” (2/ 249) من طريق الواقدي.
(2) كذا في الأصل.
(3) في الأصل: “فان”.
(5/303)
إلاّ نُصِروا، كنوبةِ عينِ جَالوت والفرات والروم، ونحن نرجو أن يستأصلهم الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، فإن البشارات متوفِّرة على ذلك.
وقد حدَّثنا أبي رحمه الله أنه كان عندهم كتاب عتيق وقف عليه من أكثر من خمسين سنة قبل مجيئ التتار إلى بغداد، وهو مكتوب من سنين كثيرة، وفي آخره: والتتار يُقلِعهم المصريون. وقد رأى المسلمون أنواعًا من المبشرات بنصر الله ورسوله، وهذا لاشكّ منه إن شاء الله.
وليست هذه النوبة كتلك، فإن تلك المرة كان فيها أمورٌ لا يليق ذكرُها عفا الله عنها، وما فعلَه الله بالمسلمين كان أحمدَ في حقّهم.
ثمَّ لاشك أنّ الله يَنصُر دينَه وينتقم من أعدائه، وقد قال تعالى: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)) (1).
ثم في الحركة في سبيل الله أنواعٌ من الفوائد:
إحداها (2): طمأنينة قلوب أهل البلاد حتى يعمروا ويزدرعوا (3)، وإلاّ فما دامت القلوب خائفةً لا يستقيم الحال.
__________
(1) سورة محمد: 4 – 7.
(2) في الأصل: “أحدها”.
(3) في الأصل الفعلان بإثبات النون.
(5/304)
الثانية: أن البلاد الشمالية كحلب ونحوها فيها خير كثير ورزق عظيم ينتفع به العسكر.
الفائدة الثالثة: أنه يُقويّ قلوبَ المسلمين في تلك البلاد من الأعوان والنصحاء، ويزداد العدوُّ رُعبًا. وإن لم تَحصُلْ حركة فَتَرت القلوبُ، وربما انقلب قوم فصاروا مع العدوّ، فإن الناس مع القائم.
ولما جاء العسكر إلى الشام كان فيه مصلحة عظيمة، ولو تقدم بعضهم إلى الثَّغْر كان في غاية الجودة.
الفائدة الرابعة: أنهم إن ساروا أو بعضُهم حتى يأخذوا ما في بلد الجزيرة من الإقامات والأموال السلطانية من غير إيذاء المسلمين كان من أعظم الفوائد، وإن ساروا قاطنين متمكنين نَزَلتْ إليهم أمراءُ تلك البلاد من أهل الأمصار والجبال، واجتمعت جنود عظيمة، فإن غالب أهل البلاد قلوبهم مع المسلمين، إلاّ الكفّار من النصارى ونحوهم، وإلاّ الروافض، فإن أكثر الروافض ونحوهم من أهل البدع هواهم مع العدوّ، فإنهم أظهروا السرور بانكسار عسكر المسلمين، وأظهروا الشماتةَ بجمهور المسلمين. وهذا معروف لهم من نَوبةِ بغداد وحلب، وهذه النوبة أيضًا، كما فعلَ أهلُ الجبلِ الجرد والكِسْرَوان، ولهذا خَرَجنا في غزوهم لما خرجَ إليهم العسكر، وكان في ذلك خيرة عظيمة للمسلمين.
فإذا كانت عامَّهُ القلوب هناك وهنا مع هذا العسكر المنصور، وقد أقامه الله سبحانه وأيَّده وأمده بنعمته على محمد وأمته، وقلوبُ العدوِّ في غاية الرعب منه، والله لقد رأى الداعي من رُعْبِهم مالا
(5/305)
يوصف، حتى إن وزيرَهم يحيى قال قُدام الداعي ومولاي يسمع: واحد منكم يغلب ستةً من هؤلاء، وهكذا يُخبِر القادمون من هناك أنهم مرعوبون جدًّا، فمن نعمة الله على المسلمين أن يُيسِّر غزاةً ينصر الله بها دينَه هنا وهناك. وما ذلك على الله بعزيز.
وليس من شريعة الإسلام أن المسلمين ينتظرون عدوَّهم حتى يقدم عليهم، هذا لم يأمر الله به ولا رسولُه ولا المسلمون، ولكن يجب على المسلمين أن يقصدوهم للجهاد في سبيل الله، وإن بدأوا هم بالحركة فلا يجوز تمكينُهم حتى يَعبُروا ديارَ المسلمين، بل الواجبُ تقدُّمُ العساكر الإسلامية إلى ثغور المسلمين، فالله تعالى يخـ[ـتار للمسلميـ]ـن في جميع الأمور ما فيه صلاح الدنيا والآخرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله وحده، وصلّى الله على محمد عبده ورسوله.
* * *
(5/306)
قاعدة في الانغماس في العدوّ وهل يُباح؟
(5/307)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ لله نَسْتَعينه ونَسْتَغْفره، ونَعُوذُ بالله من شُرور أَنْفُسِنَا ومن سيئات أَعْمَالِنَا، مَن يَهْده الله فلا مُضِلَّ لَهُ، ومن يُضلِل فلا هادي له (1).
ونَشْهَدُ أن لا إله إلا الله، ونَشْهَدُ أن محمدًا عبده ورسوله، أَرْسَلَهُ بالهُدَى ودينِ الحق ليُظهِرَه عَلَى الدِّينِ كلِّه، وكَفَى بالله شهيدًا، صلَّى الله عليه وعَلَى آله وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فهذه مسألة يحتاجُ إليها المؤمنون عُمومًا، والمجاهدون منهم خصوصًا، وإن كان (2) الإيمان لا يَتِمُّ إلاّ بالجِهاد، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) (3) الآية.
ولكن الجهاد يكون للكفار والمنافقين أيضًا، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) في مَوْضِعَين من كتاب الله (4).
ويكون الجهادُ بالنفْس والمال، كما قال تعالى: (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (5). وَيكونُ بغيرِ ذلك ويَنْفعُه، لما ثبتَ في الصحيحين (6) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “مَنْ جَهَزَ غازيًا فقد غَزَا، ومَن خَلَفَه في أهلِه
__________
(1) في الأصل: “إليه”، وهو خطأ.
(2) في الأصل: “جاز”.
(3) سورة الحجرات: 15.
(4) سورة التوبة: 73 وسورة التحريم: 9.
(5) سورة التوبة: 41.
(6) البخاري (2843) ومسلم (1895) عن زيد بن خالد.
(5/309)
بخير فقد غَزَا”. ويكون الجهاد باليد والقلب واللِّسان، كما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1): “جاهِدُوا المشركينَ بأيديكم وألسنتِكم وأموالِكم”، وكما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح (2): “إن بالمدينة لَرِجالاً ما سِرْتُمْ مَسِيرًا ولا قَطَعْتُمْ واديًا إلا كانوا معكم حَبَسَهُم العُذرُ”. فهؤلاء كان جهادهم بقلوبِهم ودُعائِهم.
وقد قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)) (3).
وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (4): “السَّاعِي (5) عَلَى الصَّدَقَة بالحقِّ كالمجاهِدِ في سبيلِ الله”.
وقال أيضًا (6): “المُجَاهِدِ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في الله”، كما قال (7):
__________
(1) أخرجه أحمد (3/ 124، 153) والدارمي (2436) وأبو داود (2504) والنسائي (6/ 7، 51) عن أنس بن مالك.
(2) البخاري (2839، 4423) ومسلم (1911) عن أنس بن مالك.
(3) سورة النساء: 95.
(4) أخرجه أحمد (4/ 143) وأبو داود (2936) والترمذي (645) وابن ماجه (1809) عن رافع بن خديج بلفظ: “العامل على … “. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(5) في الأصل: “الساعين”.
(6) أخرجه أحمد (6/ 21، 22) وابن ماجه (3934) عن فضالة بن عبيد.
(7) ضمن الحديث السابق. وبعضه عند البخاري (10، 6484) عن عبد الله بن عمرو، وعند مسلم (41) عن جابر.
(5/310)
“المؤمنُ مَن أَمِنَهُ النَّاسُ على دِمائهم وأموالِهم، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى الله عنه، والمسلمُ مَن سَلِمَ المسلمونَ مِن لِسانِهِ ويِده”.
والجهادُ في سبيلِ الله أنواع متعدِّدة … (1) سبيل الله، ويفرق بينهما النِّيّة واتِّباع الشَّريعة. كما في “السنن” (2) عن مُعاذٍ عن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “الغَزْوُ غَزْوَانِ: فأمَّا مَن ابتغَى وَجْهَ الله، وأطاعَ الإمامَ، وأنفق الكَرِيمَةَ واجتنبَ الفسادَ؛ فإنّ نَوْمَه (3) [ونُبْهَهُ] كُلّه أجر. وأما مَن غَزَا فَخْرًا ورياءًا وسُمعة، وعَصَى الإمام، وأفسدَ في الأرضِ؛ فإنه لم يَرْجِع بالكَفَافِ”.
وفي الصحيحين (4) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله! الرجل يُقاتِلُ شَجَاعة ويُقاتِلُ حَمِيَّةً، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: “مَن قاتَلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا فهو في سبيلِ الله”. وقد قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (5).
وهذه المسألة هي في الرجل أو الطائفة يُقاتل منهم أكثر من ضِعْفَيْهم (6)، إذا كان في قتالِهم منفعة للدِّين، وقد غَلَبَ على ظنِّهم
__________
(1) هنا بياض في الأصل، والكلام بعده غير متصل.
(2) أخرجه أحمد (5/ 234) والدارمي (2422) وأبو داود (2515) والنسائي (6/ 49، 7/ 155).
(3) في الأصل: “يومه”.
(4) البخاري (123 ومواضع أخرى) ومسلم (1904).
(5) سورة البقرة: 193.
(6) في الأصل: “ضعيفهم” تحريف.
(5/311)
أنهم يُقْتَلُون، كالرجل يَحْمِلُ وَحْدَهُ على صف الكفَّار ويَدْخُل فيهم، ويُسَمِّي العلماء ذلك الانغماس في العدوّ؛ فإنه يَغِيبُ فيهم كالشيء يَنْغَمِسُ فيه فيما يَغْمُره.
وكذلك الرجل يَقْتُل بعضَ رُؤَساء الكُفار بين أصحابه، مثل أن يَثِب عليه جَهْرة إذا اخْتَلَسَه، ويرى أنه يَقْتُله ويُقتَل (1) بعد ذلك.
والرجل يَنْهزِم أصحابه فيُقاتِل وحده أو هو وطائفةٌ معه العدوَّ، وفي ذلك نِكَاية في العَدو، ولكن يظنُّون أنهم يُقْتَلُون.
فهذا كُلُّه جائزٌ عند عامة علماء الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرِهم، وليس في ذلك إلا خلاف شاذّ. وأمَّا الأئمة المُتَبّعَون كالشافعي وأحمد وغيرهما فقد نصُّوا على جواز ذلك. وكذلك هو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما.
ودليلُ ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة.
أما الكتاب فقد قال الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)) (2). وقد ذُكِرَ أن سبب نزول هذه الآية أن صُهَيبًا خَرَجَ مُهاجرًا من مكة إلى المدينة إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلَحِقَه المشركون وهو وحدَهُ، فنَثَل كِنانتَه، وقال: والله لا يأتي رجلٌ منكم إلا رَمَيْتُه. فأراد قتالهمِ وحدَه، وقال: إنْ أَحْبَبْتُم أنْ تَأخُذوا مالي بمكة فخُذُوه، وأنا أدُلُّكم عليه. ثم قَدِمَ
__________
(1) في الأصل: “يغتفل”، ولعل الصواب ما أثبته أو “يُعتَقل”.
(2) سورة البقرة: 207.
(5/312)
على النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “رَبح البَيع أبا يَحْيَى” (1).
ورَوَى أحمد (2) بإسنادِه أن رَجُلاً حَمَلَ وحدَه على العدو، فقال الناس: أَلْقَى بيَدِهِ إلى التَهْلُكة، فقال عمر: كلاّ بل هذا مِمَّن قال الله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)).
وقولَه تعالى: (يَشْرِي نَفْسَهُ) أي يبيع نفسه، يُقال: شراه وباعَه سواء، واشتراه وابتاعَه سواء، ومنه قوله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) (3) أي باعوه. فقوله: (يَشْرِي نَفْسَهُ) أي يبيعُ نفسَه لله تعالى ابتغاءَ مرضاته، وذلك يكون بأن يبذل نفسه فيما يُحبُّه الله ويرضاه، وإن قُتِلَ أو غَلَبَ على ظنِّه أنه يُقْتَل. كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)) (4).
وهذه الآية وهي قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
__________
(1) انظر تفسير الطبري (2/ 186 – 187) وابن كثير (2/ 525).
(2) لم أجده في “مسنده”. وانظر المصدرين السابقين.
(3) سورة يوسف: 20.
(4) سورة التوبة: 111 – 112.
(5/313)
وَأَمْوَالَهُمْ) تدلُّ على ذلك أيضًا، فإنَّ المشترِي يسلم إليه ما اشتراه، وذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله وطاعته، وإن غَلَبَ على ظنِّه أن النفس تُقْتَل والجواد يُعقَر، فهذا من أفضل الشهادة، لما روى البخاري في “صحيحه” (1) عن ابن عباس قال: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ما مِن أيَّامٍ العملُ الصالحُ فيها [أَحَبُّ] إلى الله مِن هذه الأيَّامِ” يعني أيام العَشْرِ. قالوا: يا رسولَ الله! ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟ قال: “ولا الجهادُ في سبيلِ الله إلا رجل خَرَجَ بنفسِهِ ومالِه ثم لم يَرجِعْ مِن ذلك بشيءٍ”. وفي رواية (2): “يعقر جواده وأهريق دمه”.
وفي “السنن” (3) عن عبد الله بن حُبْشيٍّ أنَّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سُئِلَ أيُّ العمل أفضلُ؟ قال: “طُولُ القِيام”. قيل: أَيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال: “جَهْدُ المُقْلِّ”. قيل: فأيُّ الهِجْرَةِ [أفضلُ؟ قال: “مَن هَجَرَ ما حَرَّمَ الله عليه”.
قيل: فأيُّ الجهاد أفضلُ؟] قال: “مَن جاهَدَ المشركينَ بنفسِه ومالِه”.
قيل: فأيُّ القتلِ أشرفْ؟ قال: “مَن أهريقَ دمُه وعُقِرَ جوادُه”.
وأيضًا فإنَّ الله سبحانه قد أخبر أنه أَمر خليله بذبح ابنه ليبتليه هل يَقْتُل ولدَه في محبَّة الله وطاعتِه؟ وقَتْلُ الإنسان ولدَه قد يكون أَشَقَّ عليه من تَعْريضِه نفسه للقتل، والقتالُ في سبيل الله أحَبُّ إلى
__________
(1) برقم (969) نحوه. واللفظ المذكور عند أحمد (1/ 224، 346) وأبي داود (2438) والترمذي (757) وغيرهم.
(2) أخرجها الطبراني في “الصغير” (889).
(3) أخرجه أحمد (3/ 411) والدارمي (1431) وأبو داود (1325، 1449) والنسائي (5/ 58، 8/ 94).
(5/314)
الله مِمَّا ليس كذلك.
والله سبحانه أمر إبراهيم بذبح ابنه قُربانًا ليَمْتَحِنه بذلك، ولذلك نسخ ذلك عنه لمَّا عَلِمَ صِدْق عَزْمِه في قتلِه؛ فإن المقصود لم يكن ذبحه لكن ابتلاءُ إبراهيم.
والله تعالى يبتلي المؤمنين ببذلِ أنفسِهم؛ ليُقْتَلوا في سبيل الله ومحبَّة رسوله؛ فإن قُتِلُوا كانوا شهداء، وإن عاشُوا كانوا سُعداء.
كما قال: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (1).
وقد قال لبني إسرائيل: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ) (2). أي ليَقْتُل بعضكم بعضًا. فألقَى عليهم ظلمة، حتى جَعَلَ الذين لم يعبدوا العِجْل يقتلون الذين عَبَدوه.
فهذا الذي كان في شرعِ مَن قبلَنا من أَمْرِهِ بقَتْل بعضهم بعضًا قد عَوَّضَنا الله بخيرٍ منه وأنفع؛ وهو جهاد المؤمنين عدو الله وعدوَّهم، وتعريضهم أنفسهم لأن يُقتلوا في سبيله بأيدي عدوِّهم لا بأيدي بعضهم بعضًا، وذلك أعظم درجة وأكثر أجرًا. وقد قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)) (3).
__________
(1) سورة التوبة: 52.
(2) سورة البقرة: 54.
(3) سورة النساء: 66 – 68.
(5/315)
وأيضًا فإنَّ اللهَ أمر بالجهادِ في سبيلِه بالنَّفْسِ والمال مع أنَّ الجهاد مَظنَّة القتل، بل لابُدَّ منه في العادة مِن القتل. وذَمَّ الذين يَنْكُلُون عنه خوف القتل، وجَعَلهم منافقين، فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) إلى قوله: (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (1). وقال تعالى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)) (2).
فأخبر سبحانه أنَّ الفِرَار مِن الموتِ أو القتل لا ينفع، بل لابُدَّ أنْ يموتَ العبدُ، وما أكثرَ مَن يَفِرّ فيموت أو يُقْتَل، وما أكثرَ مَن ثَبت فلا يُقْتَل (3).
ثمَّ قال: ولو عِشتْمُ لم تُمَتَّعوا إلا قليلاً ثمَّ تموتوا. ثمَّ أخبر أنَّه لا أحدَ يعصمهم مِن الله إن أرادَ أنْ يرحمهم أو يعذَبهم، فالفرار مِن طاعتِه لا يُنَجِّيهم. وأخبر أنه ليس لهم مِن دون الله وليّ ولا نصير.
وقد بيَّنَ في كتابه أنَّ ما يُوجبُه الجُبْنُ مِن الفرار هو من الكبائر الموجبةِ للنَّار، فقال: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
__________
(1) سورة النساء: 77 – 78.
(2) سورة الأحزاب: 15 – 17.
(3) بعده في الأصل بعض الآيات السابقة والكلام المذكور في هذه الفقرة، فحذفناه.
(5/316)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)) (1).
وأخبرَ أن الذين يخافون العدوَّ خوفًا منَعَهم من الجهاد منافقون، فقال: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)) (2).
وفي الصحيحين (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنَّه عَد الكبائر؛ فذكر الشرك بالله، وعُقُوق الوالدين، والسِّحر، واليمين الغَمُوس، وقذف المُحْصنات الغافلات المؤمنات. وذكر منها الفرار من الزَّحْف في الصَّفَّيْن.
[و] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “شَرُّ ما في المَرْء: شُحٌّ هالِعٌ، أو جُبْنٌ خالِعٌ” (4).
وأما دلالةُ سنة رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على ذلك فمن وجوه كثيرة:
منها: أن المسلمين يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عدوهم بقدرهم ثلاث مرات أو أكثر، وبدر أفضل الغزوات وأعظمها.
فعُلِمَ أنَّ القوم يُشْرَع لهم أن يُقاتِلوا من يَزِيدون على ضِعْفِهم، ولا فرقَ في ذلك بين الواحد والعدد، فمُقَاتَلة الواحد للثلاثة كمُقَاتَلة الثلاثة للعَشَرة.
__________
(1) سورة الأنفال: 15 – 16.
(2) سورة التوبة: 56 – 57.
(3) البخاري (2766، 6857) ومسلم (89) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه أحمد (2/ 302، 320)، وأبو داود (2511).
(5/317)
وأيضًا فالمسلمون يوم أُحُد كانوا نحوًا من رُبُع العدو؛ فإن العدو كانوا ثلاثة آلاف أو نحوها، وكان المسلمون نحو السّبعمائة أو قريبًا منها.
وأيضًا فالمسلمون يوم الخندق كان العدو بقَدْرِهِم مرَّات، فإنّ العدوّ كان أكثرَ من عشرة آلاف، وهم الأحزابَ الذين تَحَزَّبوا عليهم من قريش وحلفائِها وأحزابِها الذين كانوا حول مكة وغَطَفان وأهل نجد، واليهود الذين نَقَضُوا العهد وهم بنو قريظة جيران أهل المدينة، وكان المسلمون بالمدينة دون الألفَيْن.
وأيضًا فقد كان الرجل وحْدَهُ على عهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَحمِلُ على العدو بِمَرْأى من النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ويَنْغمسُ فيهم، فيُقَاتل حتى يُقْتل. وهذا كان مشهورًا بين المسلمين على عهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وخلفائه.
وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن أبي هريرة قال: بَعَثَ رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عشرةَ رَهْطٍ عَيْنًا، وأمَّرَ عليهم عاصمَ بنَ ثابتٍ الأنصاريَّ جَدَّ عاصمِ بنِ عمر بن الخطابِ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهَدْأَةِ بين عُسْفَانَ ومكة ذُكِرُوا لِحي مِن هُذيلٍ يُقال لهم بَنُو لِحْيَانَ، فنَهَدُوا إليهم بقريب مِن مائة رجلٍ رام -وفي روايةٍ: مائتي رجل- فاقْتَفوا آثارَهم، حتى وجدوا مأكَلَهم التمر في منزل نزلوه فقالوا [هذا] تَمْرُ يَثْرِبَ.
فلما أحسَّ بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع -وفي رواية إلى فَدْفَدٍ، أي إلى مكان مرتفع- فأحاط بهم القومُ، فقالوا لهم:
__________
(1) برقم (3045 ومواضع أخرى).
(5/318)
انزلوا فأَعْطُوا أيديكم ولكم العَهْدُ والميثاقُ، لا يُقْتَلُ منكم أحدٌ. فقال عاصم بنُ ثابتٍ: أيها القوم! أمَّا أنا فلا أنزلُ على ذِمَّةِ كافرٍ، اللهمَّ أخْبرْ عَنَّا نبيَّكَ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فرموهم بالنَّبْلِ فقتلوا عاصمًا في سبعةٍ. ونزل إليهَم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خُبَيْبٌ وزيد بنُ الدَّثِنَة، ورجلٌ آخر. فلما استمكنوا منهمِ أطلقوا أوتار قسِيِّهم فربطوهم بها. قال الرجل الثالثُ: هذا أوَّلُ الغدْرِ، والله لا أصَحبكم، لي بهؤلاء أُسوةٌ؛ يريد القَتْلَى. فجَرَّروه وعالجوه؛ فأبي أنْ يصحبهم، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد بن الدَّثِنَة حتى باعوهما بمكة بعد وقعةِ بدرٍ. فابتاع بنو الحارث بن عامرِ بن نوفلِ بن عبد منافٍ خبيبًا، وكان خبيبٌ هو قَتَلَ الحارثَ بنَ عمرو يومَ بدر. ولبث خبيبٌ عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله. فاستعار مِن بعض بنات الحارث موسى يسْتَحِدُّ بها، فأعارتْه فدَرج بُنَي لها وهي غافلة حتى أتاه [قالت: فوجدتُه] مُجْلِسَه على فخِذِه والموسى بيَدِه؛ قالت: فَفَزِعْتُ فَزْعةً عرفَها خبيب. فقال: أتخْشَيْنَ أن أَقْتُلَه؟ ما كنتُ لأفعل ذلك. قالت: والله ما رأيتُ أسيرًا خيرًا من خبيب، فوالله لقد وجدتُه يومًا يأكل قِطْفًا من عنبٍ في يدِه، وإنه لمُوثَق في الحديد وما بمكة مِن ثمرٍ. وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبًا. فلما خرجوا به من الحَرَم ليقتلوه في الحِلِّ، قال لهم خبيبٌ: دعوني أُصلِّي ركعتين. فتركوه فركع ركعتين. فقال. والله لولا أنْ تحْسَبُوا أنَّ ما بي جَزَع لزدتُ، اللهمَّ أَحْصِهِم عددًا، واقتُلْهم بدَدًا، ولا تُبْقِ منهم أحدًا. قال:
فَلَسْت أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا … عَلَى أَيِّ جنب كَانَ لله مَصْرَعِي
(5/319)
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلهِ وإِنْ يَشَأْ … يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سَنَّ لكلِّ مسلمٍ قُتِلَ صَبْرًا الصَّلاة. وأخبَرَ النبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الصحابة يوم أُصيبوا خبرَهم. وبعث ناس من قريشٍ إلى عاصم بن ثابت حين حُدِّثوا أنَّه قد قُتل أن يؤتى بشيءٍ منه يُعْرَفُ، وكان قَتَلَ رجلاً مِن عظمائِهم. فبعث الله لعاصم مثلَ الظلَّةِ [مِن الدَّبْر]، فحَمَتْهُ من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا منه شيئًا.
فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المئةَ أو المئتين، ولم يستأسِروا لهم حتى قتلوا منهم سبعة. ثم لما استأسروا الثلاثة امتنع الواحد من اتِّباعهم حتى قتلوه. وهؤلاء من فُضَلاء المؤمنين وخيارهم.
وعاصم هذا هو جدّ عاصم بن عمر، وعاصم بن عمر جدّ عمر بن عبد العزيز (1)؛ فإنَّ عمر بن الخطاب كان قد نَهَى الناس أن يَشُوبَ أحد اللَّبنَ بالماء للبيع (2)، فبينما عمر ذات ليلةٍ يَعُسّ إذ سمع امرأة تقول لأخرى: قُومي فَشُوبي اللبن. فقالت: إنَّ أمير المؤمنين قد نهى عن ذلك. فقالت: وما يدري أمير المؤمنين؟ فقالت: لا والله
__________
(1) يقصد بالجدّين هنا الجدَّين للأم.
(2) بعده في الأصل عبارة لعلها من كتابة أحد القراء على الهامش، فدخلت في الأصل، وهي: (وكذلك في مراسيل الحسن: أنَّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نهى عن ذلك، لأنه يُفْضِي إلى غِشٍّ لا يَعْلَم به المُشْتَري؛ فإن البائع وإن أَخْبَر المُشتري بأنه مغشوش؛ لكنه لا يتميَّز قدر الغِشّ، ولهذا نهى العلماء عن مثل ذلك).
(5/320)
لا نُطِيعه في العلانية ونَعْصِيه في السِّر. فَعَلَّمَ عمر على [الباب] (1)، فلما أصبح سأل عن أهل ذلك البيت، فإذا به أهل بيت عاصم هذا الأمير (2) المُسْتَشْهَد، والمرأة المُطيعة ابنته، فخَطَبَها وتزوَّجَها (3).
وقد رُوِي أنه زوَّجها ابنه عاصم هذا، وإن كان عمر قبل ذلك تزوَّج ابنة عاصم هذا فولدت له عاصمًا ابنه، وصدق عمر بن عبد العزيز من ذرية عاصم.
وأيضًا ففي السنن (4) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “عَجِبَ ربُّنا مِنْ رَجُلَيْنِ: رجلٍ ثارَ عن وِطائِه مِن بينِ حَيِّهِ وأهله إلى صلاتِه، فيقولُ الله عز وجل لملائكتِه: انظروا إلى عبدي، ثارَ عن فِراشِهِ ووِطائِه مِن أهله وحَيِّهِ إلى صلاتِهِ، رَغْبَةً فيما عندي وشَفَقًا ممَّا عندي. ورجلٍ غَزَا في سبيلِ الله، فانْهَزَمَ مع أصحابه، فعَلِمَ ما عليه في الانهزام وما له في الرُّجُوعِ، فرجع حتى يُهرِيقَ دَمُهُ. فيقولُ اللهُ لملائكتِه: انظروا إلى عبدي رَجَعَ رَغْبةً فيما عندي وشفقًا ممَّا عندي حتى يُهرِيقَ دمه”.
فهذا رجل انْهَزَمَ هو وأصحابه، ثم رجع وحده فقاتل حتى قُتِل.
وقد أخبر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنَّ الله يَعْجَب منه؛ [و] عَجَبُ الله من الشيء يدلُّ
__________
(1) هنا بياض في الأصل.
(2) في الأصل: “أمير المؤمنين”.
(3) انظر “طبقات ابن سعد” (5/ 331).
(4) أخرجه أحمد (1/ 416) وأبو داود (2536) عن ابن مسعود.
(5/321)
على عِظَم قَدْرِه، وأنَّه لخروجه عن نظائرِه يعظم درجته ومنزلته.
وهذا يدلُّ على أن مثل هذا العمل محبوب لله مَرْضيٌّ، لا يُكتفَى فيه بمجرّد الإباحة والجواز؛ حتى يقال: وإن جاز مُقاتَلة الرجل حيث يَغْلب على ظَنِّه أنه يُقْتَل فَتَرْكُ ذلك أفضل.
بل الحديث يدلُّ على أنَّ ما فعله هذا يُحِبُّه الله ويرضاه، ومعلوم أن مثل هذا الفعل يُقْتَلُ فيه الرجل كثيرًا أو غالبًا، وإن كان ذلك لتوبته من الفرار المحرَّم، فإنَّه مع هذه التوبة جاهَدَ هذه المجاهدة الحسنة.
قال الله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)) (1).
وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “المُهاجِر مَن هَجَرَ ما نَهَى الله عنه” (2).
فمن فَتنهُ الشيطان عن طاعة الله لمَّ هَجَرَ ما نهى الله عنه وجاهد وصبر كان داخلاً في هذه الآية. وقد يكون هذا في شريعتِنَا عِوضًا عمّا أُمِرَ به بنو إسرائيل في شريعتهم لما فُتِنوا بعبادة العِجْل بقوله: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (3).
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)) إلى قوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ .. ) (4).
__________
(1) سورة النحل: 110.
(2) سبق تخريجه (ص 344).
(3) سورة البقرة: 54.
(4) سورة النساء: 64 – 66.
(5/322)
وذلك يدل على أن التائب قد يُؤمَرُ بجهادٍ تعرض به نفسه للشَّهادة.
فإن قيل: قد قال الله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله: (الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) (1). وقد قالوا: إنَّ ما أَمَرَ به من مُصابرة الضعف (2) في هذه الآية ناسخٌ لما أَمَرَ به قبل ذلك من مُصابرة عشرة الأمثال.
قيل: هذا أكثر ما فيه أنه لا تجب المُصابرة لما زاد على الضِّعف، ليس في الآية أن ذلك لا يُسْتَحَبُّ ولا يجوز.
وأيضًا فلفظُ الآية إنما هو خبرٌ عن النَّصر مع الصَّبر، وذلك يتضمن وجوب المُصابرة للضَعف، ولا يتضمَّن سقوطَ ذلك عما زاد عن الضِّعف مطلقا، بل يقتضي أن الحكم فيما زاد على الضعفين بخلافه، فيكون أكمل فيه، فإذا كان المؤمنون ظالمين لم يجب عليهم أن يُصابِروا أكثر من ضعفيهم، وأما إذا كانوا هم المظلومين وقتالُهم قتال وَقَعَ عن أنفسهم فقد تجب المصابرةُ كما وجبت عليهم المُصابرة يوم أُحد ويوم الخندق، مع أنَّ العدو كانوا أضعافهم. وذَمَّ الله المُنْهَزِمين يوم أُحد والمُعْرِضين عن الجهاد يوم الخندق في سورة آل عمران والأحزاب، بما هو ظاهر معروف.
__________
(1) سورة الأنفال: 65 – 66.
(2) في الأصل: “الضعيف” تحريف.
(5/323)
وإذا كانت الآية لا تنفي وجوبَ المُصابرة لِمَا زاد على الضِّعفين في كل حال، فأنْ لا تنفِي الاستحبابَ [و] الجوازَ مُطلقًا أوْلَى وأحْرَى.
فإن قيل: قد قال الله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (1).
وإذا قاتل الرجل في موضع فغَلَبَ على ظنه أنه يُقْتَل فقد أَلْقَى بيده إلى التهلكة.
[قيل]: تأويل الآية على هذا غلط، ولهذا ما زال الصحابة والأئمة يُنْكِرون على من يتأوَّل الآية على ذلك، كما ذكرنا أنَّ رجلاً حَمَلَ وحْدَه على العدو، فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر ابن الخطاب: كلاَّ ولكنه مِمَّن قال الله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ) (2).
وأيضًا فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي (3) من حديث يزيد ابِن أبي حبيب -عالمِ أهل مصرَ من التابعين- عن أسلم أبي عِمرانَ قال: غزَوْنا بالمدينة نُريدُ القُسطنطينيَّةَ وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والرُّومُ مُلصقُو ظهورهم بحائطِ المدينة، فحَمَلَ رجلٌ على العدوِّ؛ فقال الناس: لا إلهَ إلا الله! يُلْقِي بيدِه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نَزَلَتْ هذه الآية فينا معشر الأنصار، لمَّا نَصَرَ الله نبيَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأَظْهَرَ الإسلامَ قلنا: هَلُمَّ نُقِمْ في أموالِنا ونُصلِحْها، فأنزل الله عز وجل:
__________
(1) سورة البقرة: 195.
(2) سورة البقرة: 207.
(3) أخرجه أبو داود (2512) والنسائي في الكبرى (299، 1029) والترمذي (2972).
(5/324)
(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (1). فالإلقاءُ بالأيدي إلى التهلكة أن نُقِيمَ في أموالِنا ونُصْلِحَها ونَدَعَ الجهادَ. قال أبو عمران: فَلَمْ يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفِنَ بالقسطنطينية. قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.
وأبو أيوب من أجل السابقين الأولين من الأنصار قَدْرًا، وهو الذي نزل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في بيتِه لما قَدِمَ مهاجرًا من مكة إلى المدينة. ورَهْطُه بنو النَّجَّار هم خير دور الأنصار، كما أخبر بذلك النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (2)، وقَبْرُه بالقسطنطينية. قال مالك: بلغني أنَّ أهلَ القسطنطينية إذا أجدبوا كَشَفوا عن قبرِه فيَسْتَقُون.
وقد أنكر أبو أيوب على من جعل المنغمس في العدوّ مُلقيًا بيده إلى التهلكة دون المجاهدين في سبيل الله، ضدّ ما يتوهمه هؤلاء الذين يُحَرفون كلام الله عن مواضعِه؛ فإنهم يتأوَّلون الآية على ما فيه ترك الجهاد في سبيل الله. والآية إنما هي أمر بالجهاد في سبيل الله، ونهي عما يَصُدّ عنه.
والأمر في هذه الآية ظاهر كما قال عمر وأبو أيوب وغيرهما من سلف الأمة؛ وذلك أن الله قال قبل هذه الآية: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) إلى قوله: (وَقَاتِلُوهُمْ
__________
(1) سورة البقرة: 195.
(2) أخرجه البخاري (3789 ومواضع أخرى) ومسلم (2511) عن أبي أسيد.
(5/325)
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)) إلى قوله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)) (1).
فهذه الآيات كلها في الأمر بالجهاد في سبيل الله وإنفاق المال في سبيل الله، فلا تُناسب ما يُضادُّ ذلك من النهي عمَّا يكمل به الجهاد وإن كان فيه تعريض النَّفس للشهادة، إذ الموت لابُدَّ منه، وأفضل الموت موت الشهداء. فإن الأمر بالشيء لا يُناسب النَّهي عن إكماله، ولكن المناسب لذلك النهي عما يُضِلّ عنه؛ والمناسب لذلك ما ذُكِرَ في الآية من النَّهي عن العُدوان، فإنَّ الجهاد فيه البلاء للأعداء؛ والنُّفُوس قد لا تقف عند حدُود الله بل تتبع أهواءها في ذلك، فقال: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)). فنَهَى عن العدوان؛ لأن ذلك أمر بالتقوى، والله مع المتقين كما قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)). وإذا كان الله معهم نَصَرَهم وأَيَّدَهم على عدُوِّهم فالأمر بذلك أيسر، كما يَحْصُل مقصود الجهاد به.
وأيضًا فإنه في أول الآية قال: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وفي آخرها قال: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)) فدل ذلك على ما رواه أبو أيوب من [أنَّ] إمساك المال والبخل عن إنفاقِهِ في سبيل الله والاشتغال به هو التهلكة.
__________
(1) سورة البقرة: 190 – 195.
(5/326)
وأيضًا فإنَّ أبا أيوب أخبر بنزول الآية في ذلك؛ لم يتكلَّم فيها برأيه، وهذا من ثابت روايته عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو حجَّة يجب اتباعها.
وأيضًا فإن التهلكة والهلاك لا يكون إلا بترك ما أمر الله به أو فِعْل ما نَهَى الله عنه. فإذا ترك العباد الذي أُمِرُوا به، واشتغلوا عنه بما يصدهم عنه من عِمَارة الدنيا، هلكوا في دنياهم بالذلّ وقَهْرِ العدو لهم، واستيلائه على نفوسهم وذراريهم وأموالهم، وردِّه لهم عن دينهم، وعجْزِهم حينئذ عن العمل بالدِّين. بل وعن عِمَارة الدنيا وفُتور هممهم عن الدين، بل وفساد عقائدهم فيه. قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)) (1). إلى غير ذلك من المفاسد الموجودة في كل أمة لا تقاتل عدوها سواء كانت مسلمة أو كافرة.
فإن كل أمة لا تقاتل فإنها تهلك هلاكًا عظيمًا باستيلاء العدو عليها وتَسَلُّطه على النفوس والأموال. وترك الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا كما يُشاهده الناس، وأما في الآخرة فلهم عذاب النار.
وأما المؤمن المجاهد فهو كما قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)) (2). فأخبر أن المؤمن لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين: إما النصر والظَّفَر وإما
__________
(1) سورة البقرة: 217.
(2) سورة التوبة: 52.
(5/327)
الشهادة والجنة، فالمؤمن المجاهد إن حَيِيَ [حَيِيَ] حياة طيبة، وإن قُتِلَ فما عند الله خير للأبرار.
وأيضًا فإن الله قال في كتابه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ) (1). وقال في كتابه: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)) (2). فنهى المؤمنين أن يقولوا للشهيد إنه ميت. قال العلماء: وخُصَّ الشهيد بذلك؛ لئلا يظن الإنسان أن الشهيد يموت فَيَفِرّ عن الجهاد خوفًا من الموت. وأخبر الله أنه حيّ مَرْزُوق؛ وهذا الوصف يوجَدُ أيضًا لغير الشهيد من النبيين والصدِّيقين وغيرهم، لكن خُصَّ الشهيد بالنهي لئلا يَنْكُل عن الجهاد لفرار النُّفُوس من الموت.
فإذا كان هو سبحانه قد نهى عن تسميته ميِّتًا واعتقاده ميتًا؛ لئلا يكون ذلك مُنَفِّرًا عن الجهاد فكيف يسمى الشهادة تهلكة؟ واسمُ الهلاك أعظم تنفيرًا من اسم الموت. فمن قال: قوله (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) يُراد به الشهادة في سبيل الله، فقد افترى على الله بهتانًا عظيمًا.
وهذا الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنِّه أنه يُقتل قسمان:
أحدهما: أن يكون هو الطالب للعدو. فهذا الذي ذكرناه.
والثاني: أن يكون العدو قد طلبه، وقتاله قتال اضطرار. فهذا أولى وأوكد. ويكون قتال هذا إمَّا دفعًا عن نفسه وماله وأهله ودينه،
__________
(1) سورة البقرة: 154.
(2) سورة آل عمران: 169.
(5/328)
كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1): “مَن قُتِلَ دونَ مالِه فهو شهيد، ومَن قُتل دون دمِه فهو شهيد، ومَن قُتل دون حرمته فهو شهيد”. قال الترمذي: [حديث حسن صحيح. و] (2) يكون قتاله دفعًا للأمر عن نفسه أو عن حرمته، وإن غلب على ظنه أنه يُقْتَل، إذا كان القتال يُحَصِّل المقصود، وإمَّا فعلا لما يَقْدر عليه من الجهاد، كما ذكرناه عن عاصم بن ثابت وأصحابه.
ومن هذا الباب: الذي يُكرَهُ على الكفر فيصبر حتى يُقتَل ولا يتكلم بالكفر؛ فإن هذا بمنزلة الذي يُقاتِله العدو حتى يُقتَل ولا يستأسِر لهم، والذي يتكلم بالكفر بلسانه [وهو] موقنٌ من قلبه بالإيمان بمنزلة المستأسِر للعدو. فإن كان هو الآمر النَّاهي ابتداء كَان بمنزلة المجاهد ابتداء. فإذا كان الأول أَعَزَّ الإيمان وأَذَلَّ الكفر كان هو الأفضل.
وقد يكون واجبًا إذا أفضى تركه إلى زوال الإيمان من القلوب وغلبة الكفر عليها وهي الفتنة، فإنَّ الفتنة أشدُّ من القتل. فإذا كان بترك القتل يحصل من الكفر ما لا يحصل بالقتل، وبالقتل يحصل من الإيمان ما لا يحصل بتركه= تَرَجَّح القتل واجبًا تارةً ومُستحبًّا أُخرى. وكثيرًا ما يكون ذلك تخويفًا به فيجب الصبر على ذلك.
قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
__________
(1) أخرجه أحمد (1/ 190) وأبو داود (4772) والترمذي (1421) والنسائي (7/ 116) عن سعيد بن زيد.
(2) زيادة ليستقيم السياق. فقول الترمذي هو الحكم على الحديث فقط، وما بعده من كلام المؤلف.
(5/329)
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)) (1).
فأخبر أن الكافرين لا يزالون يُقاتِلون المؤمنين حتى يردُّوهم عن دينهم. وأخبر أنَّه من ارتدَّ فمات كافرًا خالدًا في النار.
ومن هذا ما ذكره الله عن عباده المؤمنين في كتابه، كما قال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)) إلى قوله: (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (2).
وقال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) إلى قوله: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)) (3).
وقال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)) (4).
__________
(1) سورة البقرة: 217.
(2) سورة غافر: 26 – 28.
(3) سورة الأعراف: 127 – 128.
(4) سورة البقرة: 87.
(5/330)
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (1).
وقال تعالى: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)) (2).
وقال تعالى: (وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) إلى قوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)) (3).
وقال تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)) إلى قوله: (مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)) (4).
وقد روى مسلم في “صحيحه” (5) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صُهيب أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “كان مَلِك فِيمَنْ كان قَبْلَكُمْ، وكان له سَاحِرٌ، فلمَّا كَبِرَ قال للمَلِكِ: إنِّي قد كَبِرْتُ، فابْعَثْ إليَّ غُلامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فبَعَثَ إليه غُلامًا يُعَلِّمُه. وكان في طريقِه إذا سَلَكَ راهِب، فقَعَدَ إليه وسَمِعَ كلامَه. فكان إذا أتَى السَّاحرَ مَرَّ بالرَّاهِبِ وقَعَدَ
__________
(1) سورة آل عمران: 21.
(2) سورة البقرة: 61.
(3) سورة آل عمران: 110 – 112.
(4) سورة البروج: 4 – 7.
(5) برقم (3005).
(5/331)
إليه، فإذا أتَى السَّاحِرَ ضَرَبَه، فشَكَا ذلك إلى الرَّاهِب، فقال: إذا خِفت السَّاحرَ فقُل: حَبَسَني أَهْلِي، فإذا خِفْتَ أهلَك فقل حَبَسَني السَّاحرُ. فبينما هو كذلك، إذ أتى على دابَّةٍ عظيمةٍ قد حَبَسَت الناس، فقال: اليومَ أَعْلَمُ الساحرُ أفضلُ أم الرَّاهِبُ أفضلُ؟ فأخذ حجرًا، فقال: اللهمَّ إنْ كان أمرُ الراهب أحبَّ إليك مِن أمرِ الساحرِ فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. فرماها وقتلها، ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أيْ بُنَيَّ أنتَ اليومَ أفضلُ مِني، وقد بَلَغَ مِن أَمرِكَ ما أَرَى، وإنَّكَ ستبتَلَى فإن ابتُليتَ فلا تَدُلَّ عليَّ. وكان الغلام يُبْرِئُ الأكمهَ والأبرصَ ويُداوي الناس [مِنْ] سائرِ الأدواءِ. وأصبح جليسُ الملك كان قد عَمِيَ فأتَاهُ بِهَدايا كثيرةٍ. فقال: ما ههنا لك إن أنتَ شَفَيْتَنِي. قال: إنِّي لا أَشفي أحدًا إنَّما يَشْفِي الله عز وجل، فإنْ آمنتَ باللهِ دَعَوتُ الله فشفاكَ، فآمنَ بالله فشفاهُ اللهُ عزَّ وجلّ. فأتى المَلَكَ فجلسَ إليه كما كان يجلسُ.
فقال له الملك: مَن رَدَّ عليكَ بَصَرَكَ؟ قال: ربي. قال: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قال: ربِّي وربُّكَ الله. فأخذه فلم يزل يعذِّبُه حتى دَلَّ على الغلامِ، فجيءَ بالغلامِ، فقال له الملك: أيْ بُنَيَّ قد بَلَغَ مِن سحرِك ما تُبْرئُ الأكمَهَ والأبرصَ، وتَفْعَلُ وتَفْعَلُ. قال: فقال إني لا أشفي أحدًا، وإنما يَشفي الله عزَّ وجلّ. فأخذه فلم يزل يعذِّبُه حتى دَلَّ على الراهب. فجيءَ بالراهب؛ فقال له: ارجعْ عن دينكَ؛ فأبَى.
فدعا بالمِنْشَارِ؛ فوَضَعَ المِنْشَارَ في مَفْرِقِ رأَسِه، فشَقَّه حَتَّى وقَعَ شِقَّاهُ. ثم جيءَ بجليسِ الملكِ فقيل له: ارجع عن دينكَ؛ فأبي.
فوضع المنشار في مِفْرِقِ رأسِه، فشقَّه به حتى وقعَ شِقَّاهُ. ثم جيء
(5/332)
بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبي. فدفعَه إلى نَفَرٍ من أصحابه.
فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به إلى الجبل فإذا بلغَتم ذِرْوَتَه فإنْ رَجَعَ عن دينه وإلا فاطْرَحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهمَّ اكفنيهم بما شئتَ. فرَجَفَ بهم الجبلُ فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملكِ. فقال له الملكُ: ما فعل أصحابُكَ؟ قال: كفانيهِمُ اللهُ. فدفعَه إلى نفير آخر من أصحابِه فقال: اذهبوا به فاجعلوه في قُرْقُورٍ، ثم توسَّطوا البحرَ فإذا رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهمَّ اكفنيهِمْ بما شئتَ. فانكفَأَتْ بهم السَّفينةُ، فغرِقوا، وجاء يمشي إلى الملكِ، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهمُ اللهُ. فقال: إنَّك لستَ بقاتلي حتى تفعلَ ما آمرُكَ به. فقال: ما هو؟ قال: إنك تجمع الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وتَصلُبُني على جذْعٍ، ثم خذْ سَهْمًا مِن كِنَانَتِي، ثم ضَع السَّهْمَ في كَبدِ القوسِ، ثم قَل: باسمِ اللهِ ربِّ الغُلامِ، ثم ارْم، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وصلبَه على جِذْع، ثم أَخَذَ سَهْمًا مِن كِنانتِه، ثم وَضَعَ السَّهْمَ في كبد القوسِ. ثمِ قال: باسمِ الله ربِّ الغلامِ، ثم رماه فوقَع السهم في صُدْغِه، فوَضعَ يده في صُدْغِه، فمات. فقال الناسِ: آمنَّا بربِّ الغُلامِ. فأُتيَ الملكُ، فقيل له: أرأيتَ ما كنتَ تَحْذرُ، قد والله نَزَلَ بك حَذَرُكَ؛ قد آمنَ الناسُ.
فأَمَرَ بالأخدُودِ بأفواهِ السِّكَكِ فخُدَّتْ، وأضرمت فيها النيران، وقال: مَن لم يرجع عن دينه فأَقْحِموه فيها أو قيل له: اقْتَحِمْ. ففعلوا، حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها فتَقَاعَستْ. فقال لها الغلام: يا أُمَّهْ اصبِرِي فإنَّكِ على الحَقِّ”.
(5/333)
ففي هذا الحديث أنه قُتِل جليس الملك والراهب بالمناشير، ولم يرجعَا عن الإيمان. وكذلك أهل الأخدود صبروا على التَّحريق بالنار وَلم يَرْجِعوا عن الإيمان. وأما الغلام فإنه أَمَرَ بقتل نفسِه لما عَلِمَ أنَّ ذلك يُوجِبُ ظُهُورَ الإيمان في النَّاس، والذي يصبر [حتى] يُقْتَل أو يَحْمِل حتى يُقْتَل لأنَّ في ذلك ظهورَ الإيمان= من هذا الباب.
وفي صحيحِ البخاري (1) عن قيس بن أبي حازم عن خَبَّاب بن الأرَتِّ قال: شَكوْنَا إلى رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له فيَ ظِلِّ الكعبةِ. فقلنا: أَلا تَسْتنصِرُ لنا؟ أَلا تَدْعُو لنا؟ فقال: قد كان مَن قبلَكم يُؤخَذ الِرَّجل، فيُحْفَر له في الأرض، فيُجعَل فيها، ثم يؤتى بالمِنْشارِ، فيُوضعُ على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمْشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دون لَحْمِهِ وعَظْمِه، [وما] يَصُدُّه ذلك عن دينه. والله ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمرَ حتى يسيرِ الرَّاكِبُ مِن صنعاءَ إلى حضرموتَ لا يَخافُ إلا الله أو الذِّئِبَ على غنَمِه، ولكنَّكم تستعجِلُونَ”.
وفي رواية (2): أَتيتُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِل الكعبةِ وقد لَقِيْنا مِن المشركينَ شِدَّةً، فقلتُ: أَلاَ تَدْعُو اللهَ. فقَعَدَ وهو مُحْمَرٌّ وجهُه فقال: “لقد كان مَن قبلَكم يُمْشَطُ بأمشاطِ الحديد”.
والنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إنَّما قال لهم ذلك آمرًا لهم بالصَّبر على أذى الكفَّار، وإن بَلَغُوا بهم إلى حدّ القتل صَبْرًا، كما قَتَلوا المؤمنين صَبْرًا؛
__________
(1) برقم (3612).
(2) عند البخاري (3852).
(5/334)
ومَدْحًا لِمَن يصبِر على الإيمان حتى يُقْتَل.
(والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تمت بعونه تعالى في 25 محرم 1319).
(5/335)
مسألة في المرابطة بالثغور أفضلُ أم المجاورة بمكة؟
(5/337)
بسم الله الرحمن الرحيم
وهو حسبي ونعم الوكيل
مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرَّفها الله تعالى؟
الجواب
الحمد لله. المُرابَطَة في ثُغور المسلمين -وهو المُقَام فيها بنيَّة الجهاد- أفضلُ من المجاوَرَة في الحرمين باتِّفاق أئمة المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. وليست هذه المسألة من المشكلات عند من يعرف دين الإسلام؛ ولكن لكثرة ظهور البدع في العبادات وفساد النِّيَّات في الأعمال الشَّرعيات صار يَخْفَى مثل هذه المسألة على كثير من الناس، حتى صاروا يُعَظِّمون الأماكنَ التي كان المسلمون يُعَظِّمونها لكونها ثُغُورًا ظانِّين أن تعظيمها لأمور مبتدعة في دين الإسلام، فاستبدلوا بشريعة الإسلام بدعًا ما أنزل الله بها من سلطان. فإنه يوجد في كلام السلف وحكاياتهم في ذِكْر غزة وعسقلان والإسكندرية وجبل لبنان وعكَّة وقزوين، ومن أمثال ذلك، ومن وجود الصالحين بها ما يُوجِبُ شرف هذه البقاع.
وإنما كان ذلك لكونها كانت ثُغُور المسلمين، فكان صالِحُو المسلمين يتناوبونها لأجل المرابطة بها، لا لأجل الاعتزال عن الناس
(5/339)
وسكنى الغِيْران والكُهُوف، أو نحو ذلك مما يظنّه الجهال أهل البدع والضلال.
ثم إنَّ مِن هذه البقاع ما غَلَبَ عليه العدو، أو سَكَنَه أهل البدع والفُسَّاق؛ ففسد حالُ أهله، مثل ما جَرَى على لبنان ونحوه. وكون المكان ثغرًا هو مثل كونه دارَ الإسلام ودارَ الكفر مثل كون الرجل مؤمنًا وكافرًا، هو من الصِّفات التي تعرض وتزول، فقد كانت مكة -شرَّفها الله- أُم القرى قبلَ فتحها دارَ كُفْر وحَرْب تَجبُ الهجرة منها، ثم تَغَيّر هذا الحكم لمَّا فتِحَت. حتى قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1). “لا هِجْرَة بعد الفتح ولكن جهاد ونيَّة”. وقد كان البيت المُقَدَّس بأيدي العدو تارة، وبأيدي المسلمين أخرى.
فالثغور هي البلاد المتاخمة للعدو من المشركين وأهل الكتاب التي يُخِيفُ العدو أهلها ويُخيف (2) أهلها العدو، والمرابطة بها أفضل من المُجاورة بالحرمين باتفاق المسلمين. كيف والمرابطة بها فرض على المسلمين إمَّا على الأعيان وإما على الكفاية.
وأما المجاورةُ فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل العلماء متنازعون هل هي مستحبَّة أم مكروهة؟ فاستحبها طائفة من العلماء من أصحاب مالك والشافعي، وكرهها آخرون كأبي حنيفة وغيره، قالوا: لأن المُقَام بها يُفْضي إلى الملْكِ لها، وأنه لا يأمن من مواقعة المحظور؛ فيَتَضاعف عليه العذاب. ولأنه يضيق على أهل البلد.
__________
(1) أخرجه البخاري (2783) ومسلم (1353) عن ابن عباس.
(2) في الأصل: “يخيفوا”، والتصويب من الهامش.
(5/340)
قالوا: وكان عمر يقول عَقِب المواسِم: يا أهل الشام شامكم، يا أهل اليمن يمنكم، يا أهل العراق [عراقكم].
ولأن المُقيم بها يفوتُه الحجّ التَّام والعمرة التَّامَّة؛ فإنَّ العلماء مُتَّفقون على أنه إنْ أنشأ سَفَرَ العمرة من دُوَيرة أهله كان هذا أفضل أنواع الحج والعمرة. وهم متفقون على أنه أفضل من التَّمَتعُّ والقِران ومن الإفْرَاد الذي يعتمر عقب الحَجّ.
وأما ما يظنه بعض الناس من أن الخروج بأهل مكة في رمضان أو غيره إلى الحلِّ للاعتمار؛ وهو المراد بقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (1): “عمرة في رمضان تَعدِلُ حَجَّةً مَعِي”، حتى صار المُجاوِرُون وغيرهم يُحافِظُون على الاعتمار من أَدْنَى الحِل أو أقصاهُ، كاعتمارهم من التَّنعيم التي بها المساجد التي يقال لها مساجد عائشة، أو من الحديبية والجعرانة= فكلُّ ذلك غلط عظيم، مُخالف للسنَّة النبويّة ولإجماع الصحابة. فإنه لم يعتمر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أمثالهم من مكة قَطُّ، لا قبلَ الهجرة ولا بعدَها، بل لم يعتمر أحد من المسلمين على عهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من مكة إلاّ عائشة فقط، فإنها قَدِمَت مُتَمَتّعة، فحَاضَت، فمَنَعَها الحيض من الطَّواف قبل الوقوف بعرفة، فسألت النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن يُعمرها بعد الحج (2)، ثم بعد ذلك بُنيَت هذه المساجد التي هناك، وقيل لها: مساجد عائشة.
__________
(1) أخرجه البخاري (1863) ومسلم (1256) عن ابن عباس.
(2) أخرجه البخاري (1561 ومواضع أخرى) ومسلم (1211) عن عائشة.
(5/341)
وأما عمرة الحديبية فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَهَلَّ هو وأصحابه من ذي الحليفة، ثم حَلُّوا بالحديبية لمَّا صدهم المشركون عن البيت، فكانت الحديبية حِلَّهم لا ميقاتَ إحرامهم. وهذا متواتر يعلمُه عامَّة العلماء وخاصَّتُهم، وفي ذلك أنزل الله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) (1) الآيات باتفاق العلماء.
وأما عمرة الجعرانة فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لما قاتل هوازن بوادي حنين الذي قال الله فيها: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شيئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)) (2). وحاصر الطائف ونَصَبَ عليها بمنجنيق، ولم يفتحها، وقسم غنائم حنين بالجعرانة، فلما قسَّمها دخل إلى مكة معتمرًا ثم خَرَجَ منها؛ لم يكن بمكة فَخَرَجَ منها إلى الحِلِّ ليعتمر كما يفعل ذلك من يفعله من أهل مكة.
بل الصحابة رضي الله عنهم وأئمة التابعين لم يستحبوا لمن كان بمكة ذلك، بل رأوا أن طوافه بالبيت أفضل من خُرُوجه لأجل العمرة، بل كرهوا له ذلك، كما قد بَسَطْنا هذه المسألة في غير هذا الموضع (3).
__________
(1) سورة البقرة: 196.
(2) سورة التوبة: 25 – 27.
(3) انظر مجموع الفتاوى (26/ 248 – 301).
(5/342)
والمقصود هنا أنَّ مِن العلماء مَن كَرِهَ المُجاورة بمكة لِمَا ذكر من الأسباب وغيرها، ولكن الجمهور يستحبونها في الجملة إذا وَقَعَت على الوجه المشروع الخالي عن المفسدة المكافئة للمصلحة أو الرَّاجِحة عليها.
قال الإمام أحمد، وقد سُئل عن الجوار بمكة، فقال: وكيف لنا [به]، وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنَّكِ لأحب البِقَاع إلى الله، وإنَّكِ لأحب إلي” (1). وجابر جاوَرَ مكة، وابن عمر كان يُقيم بمكة.
وقال أيضًا: ما أَسْهَل العِبادة بمكة، النَّظَرُ إلى البيت عِبَادة.
واحتج هؤلاء بما رواه عبد الله بن عَدِيِّ بن الحمراء الزُّهْرِيِّ أنه سمع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول، وهو واقف بالحَزْوَرَةِ في سوق مكة: “والله إنكِ لخيرُ أرضِ الله، وأَحَبُّ أرضِ الله [إلى الله]، ولولا أَنِّي أُخْرِجْتُ منكِ ما خَرَجْتُ” رواه الإمام أحمد وهذا لفظه، والنسائي وابن ماجه والترمذي (2)، وقال: حديث حسن صحيح.
ورواه أحمد (3) من حديث أبي هريرة أيضًا. وعن ابن عباس قال قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ما أَطْيَبَكِ مِن بلدٍ وَأَحَبَّكِ إلَيَّ، ولولا أنَّ قَومي أَخرجوني منك ما سَكَنْتُ غَيرَكِ”. رواه الترمذي (4)، وقال: حديث حسن صحيح غريب.
__________
(1) سيأتي تخريجه.
(2) أخرجه أحمد (4/ 305) والنسائي في الكبرى (4252) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108) والدارمي (2513).
(3) 4/ 305.
(4) برقم (3926).
(5/343)
قالوا: فإذا كانت أحبَّ البلاد إلى الله ورسوله، ولولا ما وَجَبَ عليه من الهجرة لما كان يسكن إلا إيَّاها، عُلِمَ أن المُقام بها أفضل إذا لم يُعارض ذلك مصلحة راجحة، كما كان في حق النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – والمهاجرين؛ فإن مُقامهم بالمدينة كان أفضل من مُقامهم بمكة لأجل الهجرة والجهاد، بل ذلك كان الواجب عليهم، وكان مُقامهم بمكة حرامًا حتى بعد الفتح، وإنما رَخَّصَ للمهاجر أن يُقيم فيها ثلاثًا. كما في الصحيحين (1) عن العَلاَءِ بن الحَضْرَمِيِّ أنَّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أرخص للمهاجِر أن يقيم بمكة بعد قضاءِ نُسُكِهِ ثلاثًا.
وكان المهاجرون يكرهون أن يكونوا بها، لكونهم هاجروا عنها وتَرَكُوها لله، حتى قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث المتفق عليه (2)؛ لما عاد سعد بن أبي وقاص، وكان قد مَرِضَ بمكة في حجة الوَدَاع فقال: يا رسول [الله]! أُخَلّف عن هجرتي، فقال: “لعلَّك أن تُخلَّفَ حتى يَنتَفِعَ بكَ أقوام، ويُضَرَّ بك آخرون، لكن البائس سعد بن خولةَ” يَرْثي لَه رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن ماتَ بمكة.
ولهذا لما مات عبد الله بن عمر بمكة أوصَى أن لا يُدْفَن في الحرم، بل يخرج إلى الحِلّ لأجل ذلك، لكنه كان يومًا شديد الحر، فخالفوا وصيته، وكان قد توفي عام قَدِمَ الحَجَّاج، فحاصَر ابن الزبير وقَتَلَه لما كان (3) من الفتنة بينه وبين عبد الملك بن مروان.
__________
(1) البخاري (3933) ومسلم (1352).
(2) البخاري (1295) ومسلم (1628) عن سعد.
(3) بعده في الأصل: “للناظرين” ومكانها الصحيح بعد ستة أسطر.
(5/344)
قالوا: ولأن في المجاورة بها من تحصيل العبادات وتضعيفها ما لا يكون في بلد آخر، فإن الطَّواف بالبيت لا يمكن إلا بمكة وهو من أفضل الأعمال، ولأن الصلاة بها تضاعف هي وغيرها من الأعمال. وقد قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)) (1). رُوِيَ أنه ينزل على البيت في كل يومٍ مئةٌ وعشرون رحمة: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، [وعشرون للناظرين] (2).
ولهذا قال العلماء: إن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بالثّغر، مع قولهم: إنَّ المُرابَطة بالثغر أفضل وتضاعف السيئات فيه، وإذا كان المكان دَوَاعِي الخير فيه أَقْوَى، ودواعِي الشر فيه أضعف، كان المُقام فيه أفضلَ مما ليس كذلك.
ولا نزاع بين المسلمين في أنه يُشرَعُ قصدُها لأجل العبادات المشروعة فيها، وأن ذلك واجب أو مُسْتَحب. وأما النِّزاع في المجاورة فلما فيه من تعارض للمصلحة والمفسدة كما تقدم. وحينئذٍ فمن كان مجاورته فيما يُكْثِرُ حسناته ويُقِلُّ سيئاته فمجاورته فيها أفضل من بلد لا يكون حاله فيه كذلك. فأفضل البلاد في حق كل شخص حيث كان أبرّ وأتقى، وإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم.
ولهذا لما كتب أبو الدّرداء إلى سلمان الفارسي، وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد آخى بينهما، وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق،
__________
(1) سورة الحج: 26.
(2) أخرجه ابن عدي في “الكامل” (6/ 278) عن ابن عباس. وإسناده ضعيف.
(5/345)
فكتب إليه أبو الدرداء أنْ هَلُمَّ إلى الأرض المُقَدَّسة، فكتب إليه سلمان: إنَّ الأرض لا تُقَدِّس أحدًا؛ وإنما يُقَدِّس الرَّجلَ عَمَله الصالح (1). ومقصوده بذلك أنه قد يكون بالأرض المَفْضولة من يكون عمله صالحًا أو أصلح بما يحبه الله ورسوله.
وهذا مما يبين أن جنْس المُرابَطَة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين كما اتفق عليه الأئمة. فإذا كانت نية العبد في هذا خالصة، ونيته في هذا خالصة، ولم يكن ثَمَّ عملٌ مفضل يُفضَّلُ به أحدُهما، فالمرابطة أفضلُ؛ فإنها من جنس الجهاد، وتلك من جنس الحَجِّ، وجنس الجهاد أفضل من جنس الحج.
ولهذا قال أبو هريرة: لأن أُرَابط ليلةً في سبيلِ الله أحبّ إلي من أنْ أقوم ليلة القدر عند الحَجَر الأسود. وفي لفظ رواه سعيد بن منصور في “سننه” (2) عن عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال: “رِبَاطُ يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أقومَ ليلة القدر في أحد المسجدين -مسجد الحرام ومسجد رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – – ومَن رابط أربعين يومًا في سبيل الله فقد استكمل الرِّباط”.
وقد قال تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً
__________
(1) أخرجه مالك في “الموطأ” (2/ 769). وفي الأصل: “عمله صالحا”.
(2) 3: 2/ 193. ورواه أيضًا عبد الرزاق في “المصنف” (5/ 280).
(5/346)
عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)) (1).
وفي صحيح مسلم (2) عن النعمان قال: كنت عند منبر رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رجل: لا أُبالِي أن لا أَعْمَلَ عملاً بعدَ الإسلامِ إلا أن أَسْقِيَ الحاجَّ. وقال الآخر: إلا أن أَعْمُرَ المسجدَ الحرام. وقال آخر: الجهادُ في سبيل الله أفضلُ مِمَّا قلتم، فزَجَرَهم عمر بن الخطاب، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صَلَّيتُ الجمعةَ دخلتُ فاسْتَفْتَيْتُهُ فيما اخْتَلَفْتُم فيه، فأنزلَ اللهُ: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هو الآية.
وعن عثمان بن عفان قال، سمعت رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول: ” [رِبَاطُ] يومٍ في سبيل الله خيرٌ من ألفِ يوم فيما سواهُ”. رواه الإمام أحمد، والنسائي وهذا لفظه، والترمذي (3) وقال: حديثٌ حسن غريب من هذا الوجه، وأبو حاتم بن حبان البستي في “صحيحه” (4). ولفظ الإمام أحمد (5): عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال: سمعت
__________
(1) سورة التوبة: 19 – 21.
(2) برقم (1879).
(3) أخرجه أحمد (1/ 62، 65، 75) والنسائي (6/ 39، 40) والترمذي (1667) والدارمي (2429) وغيرهم.
(4) برقم (4609).
(5) 1/ 75.
(5/347)
عثمان يقول على المنبر: أيُّها الناس! إنِّي كَتَمْتكُم حديثًا سمعته من رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كراهية تفرُّقكم عَنِّي، ثم بَدَا لي أن أحدِّثكم، ليَختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول: “رباط يومٍ في سبيلِ اللهِ خير من ألفِ يومٍ فيما سواهُ من المَنَازِل”.
فقد بيّن لهم عثمان هذا الحديث مع كونهم كانوا مقيمين عنده بالمدينة النبوية؛ مُصَلّين في المسجد الذي قال فيه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “صلاة في مسجدي هذا خير من ألفِ صلاةٍ فيما سواهُ من المساجد إلاَّ المسجد الحرامَ” (1).
ودلَّ ذلك على أن تضعيف الصلاة لا يقاوم تضعيف اليوم الذي يعمُّ جميع الأعمال، فإن الجهاد يقاوم ما لا يمكن المُداومة عليه من صيام وقيام. كما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله! ما يَعْدِلُ الجهادَ في سبيلِ الله؟ قال: “لا تَسْتَطيعون”. قال: فأعادوا عليه مرَّتينِ أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: “لا تَستطيعون”. قال في الثالثة: “مَثَلُ المجاهدِ في سبيلِ الله كمَثَلِ الصائمِ القائمِ القانتِ بآيات الله لا يَفتُرُ من صيامٍ ولا صلاةٍ حتى يَرْجعَ المجاهدُ في سبيلِ اللهِ”. هذا لفظ مسلم.
ولفظ البخاري (3): جاءَ رجلٌ إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقال: دُلَّني على
__________
(1) أخرجه البخاري (1190) ومسلم (1394) عن أبي هريرة.
(2) البخاري (2785) ومسلم (1878).
(3) الموضع المذكور.
(5/348)
عملٍ يَعْدِلُ الجهاد؟ قال: لا أَجِدُهُ. قال: “هل تستطيعُ إذا خَرَجَ المجاهدُ أن تَدْخُلَ مسجدَك فتَقُومَ لا تَفْتُرَ، وتصومَ لا تُفْطِرَ؟ ” قال: ومَن يستطيعُ ذلك؟ قال أبو هريرة: إن فَرَسَ المجاهد لَيَسْتَنُّ في طِوَلهِ فيُكْتَبُ له حسناتٍ.
وفي الصحيحين (1) عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً أتى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقال: أَيُّ الناسِ أفضلُ؟ فقال: “رجل مجاهد في سبيل الله بمالِه ونفسِه”. قال: ثم من؟ قال: “ثُمَّ رجل مُعْتَزِل في شِعْبٍ مِن الشِّعابِ يَعْبُدُ ربَّه، ويَدَعُ الناس مِن شَرِّه”. لفظُ مسلمٍ.
وقد جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بفضل الجهاد على الحجّ، كما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أي الأعمال أفضل؟ قال: “الإيمانُ بالله ورسوله”. قيل: ثم ماذا؟ قال: “الجهاد في سبيلِ الله”. قيل: ثم ماذا؟ قال: “حَج مبرور”.
وفي الصحيحين (3) أيضًا عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله! أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: “الإيمانُ بالله، والجهاد في سبيلِه”.
فهذا موافق ما دلّ عليه القرآن من تفضيل الجهاد على الحَجّ.
وقد رُوِيَ: “غزوة لا قتالَ فيها أفضل مِن سبعين حجّة”. وهذا لا يناقض ما في الصحيحين (4) عن ابن مسعود قال سألت رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
__________
(1) البخاري (2786) ومسلم (1888).
(2) البخاري (26، 1519) ومسلم (83).
(3) البخاري (2518) ومسلم (84).
(4) البخاري (527) ومواضع أخرى ومسلم (85).
(5/349)
أي العمل أفضل؟ قال: “الصلاةُ لِوَقْتِها”. قلت: ثم أي؟ قال: “بِرُّ الوالدينِ”. قلت: ثم أي العمل أفضل؟ قال: “الجهادُ في سبيلِ الله”. حدَّثني بهنَّ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو استزدته لزادني.
فإنَّ هذا الحديث أيضًا يدلُّ على فضل الجهاد على الحجّ وغيره.
وأما الصلاة فإنها قد تدخل في مُسَمَّى الإيمان. كما في قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (1) قال البراء بن عازب وغيره (2): صلاتكم إلى بيتِ المقدِس، إذ هي بمنزلة الشهادتين في أنها لا تسقط بحال، ولا ينوبُ فيها أحد عن أحدٍ، ويدخل بها في الإيمان، وقد جاءت النصوص بإطلاق الكفر على تاركها.
ثم في صحيح مسلم (3) عن جابر قال: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ليس بين العبدِ وبين الكفر والشرك إلا ترْكُ الصلاةِ”.
وفي السنن عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر”. رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي (4)، وقال: حديثٌ حسن صحيح غريب. أطلق الكفر على جاحِد الصلاة (5).
__________
(1) سورة البقرة: 143.
(2) انظر تفسير ابن كثير (1/ 427).
(3) برقم (82).
(4) أخرجه أحمد (5/ 346، 355) والترمذي (2621) والنسائي (1/ 231) وابن ماجه (1079).
(5) هذه الجملة جاءت في الأصل بعد آية (وَقَضَى رَبُّكَ …. )، ومكانها هنا. والجحود: إنكار الشيء مع العلم به، والمقصود هنا ترك الصلاة مع العلم بفرضيته.
(5/350)
وفي الترمذي (1) عن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب محمد لا يَعُدُّون شيئًا مِن الأعمالِ تَرْكُه كفرٌ إلا الصلاة.
وفي البخاري (2) أن عمر بن الخطاب لما طُعِنَ وأُغْمِيَ عليه، قيل: الصلاة! فقال: “نعم، ولا حظَّ في الإسلام لِمَن تَرَكَ الصلاة”.
وعن غير واحد من الصحابة والتابعين أنهم ذكروا أن من ترك الصلاة فقد كفر.
فهذه الخاصية التي للصلاة تقتضي أن تدخل في قوله: “إيمانٌ باللهِ، وجهاد في سبيله، ثم حج مبرور”.
وكذلك برّ الوالدين قد قُرِنَ حَقّهما بحقِّ الله، في مثل قوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) (3)، وفي قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (4). وكما في الصحيحين الحديث: “كُفْرٌ بالتهِ: تَبَرُّؤ مِن نَسَب وإن دَق، ومن ادعَى إلى غير أبيهِ فقد كفر، ولا تَرْغَبوا عن آبائِكم، فإنه كفرٌ بكم أن تَرْغَبوا عن آبائكم” (5).
__________
(1) برقم (2622). ووصله الحاكم في “المستدرك” (1/ 7) عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال.
(2) لم أجده عنده. وقد أخرجه مالك في “الموطأ” (1/ 39 – 40) عن المسور ابن مخرمة عن عمر.
(3) سورة لقمان: 14.
(4) سورة الإسراء: 23.
(5) هذه مجموعة أحاديث ذكرها المؤلف في سياق واحد، أخرج بعضها أحمد (2/ 215) وابن ماجه (2744) عن عبد الله بن عمرو، والبخاري (3508) =
(5/351)
وإن كان كذلك فيمكن أن يقال: إنّ هذا دخل في مسمَّى الإيمان أيضًا، أو يقال: بر الوالدين إنما يجب على من له والدان، فذكرهما في حديث ابن مسعود؛ لأن ابن مسعود كان له والدة؛ فكان ذلك حُكْم مَن حاله كحاله. وأما حيث لم يذكرهما فذكر ما يعمُّ من الأعمال؛ فيدخل فيه من ليس له أبوان.
ثم الجهاد إذا صار فَرْضَ عين كان أَوْكَد من مُطْلَق بر الوالدين، فيجاهد في هذه الحال بدون إذنهما، وإن كان عليه أن يقوم بما يجب عليه من برهما المُتَعيّن عليه، وإن كان لا يجاهد إذا لم يتعيَّن عليه إلا بإذنهما.
وأما الصلاة فإذا تعارضَت هي والجهاد المتعيّن فإنه يُفعَل كلاهما بحسب الإمكان، كما في حالة الخَوْف الخَفيف والخوف الشَّديد.
قال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) (1). قال تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا .. ) إلى قوله: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ
__________
= عن أبي ذر، والبخاري (6830) عن ابن عباس، والبخاري (6768) ومسلم (62) عن أبي هريرة.
(1) سورة البقرة: 238 – 239.
(5/352)
مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)) (1).
فقد أَمَرَ اللهُ بالجمع بين الواجبين -الصلاة والجهاد- لكنه خفف الصلاة في الخوف من صلاة الأمن؛ بإسقاط أُمور تجب في الأمن، وإباحة أفعال لا تُفْعَل في الأمن.
وصلاة الخوف قد استفاضت بها السنن عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وذكرها الأئمة كلهم، وقد صح عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه صلاَّها على وجُوه متعددة.
وأما حال المُسايفة فللفقهاء ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو قول الجمهور، أنهم يُصَلُّون بحسب حالهم مع المُقابلة؛ وهذا مذهب الشافعي وغيره وظاهر مذهب أحمد.
والثاني: أنهم يُؤخرون الصلاة؛ وهو قول أبي حنيفة.
والثالث: أنهم يُخَيرون بين الأمرين وهو أحد الروايتين عن أحمد.
وقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) هو مع ما قد ثبتَ في الصحيح (2) عن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال عام الخندق: “شَغَلُونا عن الصلاةِ الوُسْطَى
__________
(1) سورة النساء: 101 – 103.
(2) البخاري (2931، 4111، 4533، 6396) ومسلم (627) عن علي.
(5/353)
صلاةِ العصرِ حتى غربت الشمس، مَلأَ الله أجوافَهم وقبورَهم نارًا”؛ قد احْتُجَّ به وبغيره على أن تأخير الصلاة في حال الخوف منسوخ بهذه الآية.
وأجابوا بذلك عمَّا احتج به من جوَّز الأمرين من قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث المتفق عليه (1) عن ابن عمر أنه قال: “لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصرَ إلا في بَني قُريظةَ”، فصَلَّى قومٌ في الطريق وقالوا: لم يرِد مِنَّا تَفْويت الصلاة، وأَخَّر قوم الصلاة حتى وصلوا إلى بني قُريظة، وقد فاتتهم الصلاة، فلَمْ يُعَنِّف النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – واحدةً من الطائفتين. فهذا الحديث حُجَّة في جواز الأمرين، لكن قال أولئك: [إنه] منسوخ بالآية.
فقد تبين أن الصلاة لما كانت أَوْكَد من الجهاد؛ فإنها عند مُزاحمة الجهاد لها أخفُّ، حتى لا تفوت مَصْلحة الجهاد، وقد يحصلُ من الفساد بترك الجهاد وقتَ الضرورة ما لا يُمكن تَلافيه.
وهذا أيضًا كالحج وإن كان دون الصلاة باتفاق المسلمين. فإذا تضيق وقته وازدحم هو والمقصود، مثل أن يكون ليلة النحر وهي ليلة عرفة ذاهبَا إلى عرفة؛ فإنْ صَلَّى صلاة مُسْتَقِر فاتَهُ الوقوف، وإنْ سارَ ليُدْرِك عرفة قبل طوع الفجر فاتته الصلاة. فللفقهاء ثلاثة أقوال: قيل: يُقدِّم الوقوفَ؛ لأن عليه من تفويت الحج ضررًا عظيمًا.
وقيل: بل يُقدِّم الصلاةَ لأنها أوكد.
__________
(1) البخاري (946، 4119). وعند مسلم (1770) “الظهر” بدل العصر. وانظر كلام الحافظ عليه في “الفتح” (7/ 408، 409).
(5/354)
وقيل: بل يأتي بهما جميعًا، فيُصَلي بحسب الإمكان صلاة لا تُفَوّته الوقوف. وهذا أَعْدَلُ الأقوال، وهو قول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي وغيرهما.
والعلماء مُتفقون على أن الخائف المَطْلوب يُصلي صلاة خائف. فأما الطالب فتنازعوا فيه، وفيه عن أحمد روايتان: إحداهما أنه يُصلِّي أيضًا صلاة الخوف. كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن كأبي داود (1) عن عبد الله بن أنيس قال: بَعَثَني رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى خالدِ بن سفيانَ الهُذَليَ، وكان نحوَ عُرَنَةَ وعرفاتٍ، فقال: اذهب فاقْتُلْه. قال: فرأيتُه وحَضَرَت الصلاةُ صلاةُ العصرِ فقلتُ: إني أخافُ أن يكون بيني وبينَه ما إن أُؤَخر الصلاةَ. فانطلقْتُ أَمْشِي وأنا أُصلي أُومِئُ إيماءً نحوَه. فلما دنوتُ منه قال لي: مَن أنت؟ قلت: رجل مِن العرب بلغنيِ أنَّكَ تَجْمَعُ لهذا الرجلِ، فجئتك في ذاكَ، قال: إني لَفِي ذاكَ. فمَشَيتُ معه ساعةً، حتى إذا أَمكَنَني عَلَوتُه بسيفي حتى بَرَدَ.
ومن قال هذا القول راعَى أن مصلحة الجهاد مأمور بها أيضًا، فلا يمكن تفويت إحداهما، وإن لم يكن من تفويت الجهاد في هذا الوقت مفسدة ظاهرة كما أنه ليس في تأخير الصلاة مفسدة ظاهرة.
ولو كان تكميل الصلاة مُقَدَّمًا على الجهاد لكان ينبغي أن يترك الجهاد إذا علم أنه لابد فيه من تحقيق الصلاة.
__________
(1) أخرجه أحمد (3/ 496) وأبو داود (1249) وابن خزيمة (982، 983).
(5/355)
فلما ثبت بالسنة المتواترة أن الجهاد يفضل مع العلم بأنه يقصر فيه الصلاة بقَصْرِ العمل الذي هو قصر العدد فإنَّ قَصْر العدد سُنَّة السَّفَر، وأما قَصْر العمل فسنة الخوف. ولهذا إذا اجتمع الأمران شُرِع القَصْر المُطلق، كما في قوله: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (1). والآية على ظاهرها؛ فإن القَصْر المطلق المتضمن لِقصر العدد وقصر العمل إنما يكون مع الأمرين. وقد بيَّنَت السنة أن مجرد الخوف يُفيدُ قصر العمل، ومجرد السفر يفيد قَصْر العدد.
فهذا كله مما يبين أن الصلاة وإن كانت أفضل الأعمال فإنها إذا اجتمعت مع الجهاد لم يترك واحد منهما، بل يُصَفَى بحسب الإمكان مع تحصيل مصلحة الجهاد بحسب الإمكان. وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)) (2). فأمر بالثبات والذكر معاً.
وكانت السنة على عهد رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وخلفائه وأصحابه وخلفاء بني أمية وكثير من خلفاء بني العباس أنَّ أمير الحرب هو أمير الصلاة في المقام والسفر جميعًا.
وما ذكرناه يبين بعض حِكمة كون النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – والمهاجرين كان مقامهم بالمدينة أفضل على أحد قولي العلماء؛ فإنهم كانوا بها مهاجرين
__________
(1) سورة النساء: 101.
(2) سورة الأنفال: 45.
(5/356)
مجاهدين مُرابطين بخلاف مكة.
وهذا حيث كان الإنسان كذلك كان أفضل من المقام بالحرمين، حتى إنَّ مالكًا رضي الله عنه -مع فرط تعظيمه المدينة وتفضيله لها على مكة وكراهية الانتقال منها- لما سئل عمَّن بدار وهو مقيم بالمدينة يأتي الثُّغور كالإسكندرية وغيره، أجاب: بأن عليه أن يأتي الثغور؛ لأن المرابطة بالثغور أفضل من مُقامِهِ بالمدينة. وما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرِّبَاط، وكان هذا على عهد أبي بكر وعثمان أكثر، حتى كان عبد الله بن (1) وغيره مُرابطين.
وكان عمر مَنْ يسأله عن أفضل الأعمال إنما يَدُلُّه على الرباط والجهاد، كما سأله عن ذلك من سأله، كالحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وأمثالهم، ثم كان بعد هؤلاء إلى خلافة بني أمية وبني العباس. ولهذا يُذْكَرُ من فضائلهم وأخبارهم في الرباط أُمُور كثيرة.
وكانوا على طريقتين:
إحداهما: أن يُرابط كل قوم بأقرب الثُّغور إليهم، ويقاتلون من يليهم. كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) (2). وهذا اختيار أكثر العلماء كالإمام أحمد وغيره، ولهذا كان أصحاب
__________
(1) كذا في الأصل بدون ذكر الأب.
(2) سورة التوبة: 123.
(5/357)
مالك كابن القاسم ونحوه يرابط (1) بالثغور المصرية.
والطريقة الثانية: يجوزون الرباط بثغور الشام ونحوها بما فيه قتال النصارى. فكان عبد الله بن المبارك يَقْدَم من خُراسان فيُرابط بثغور الشام، وكذلك إبراهيم بن أدهم ونحوهما، كما كان يُرابِطُ بها مشايخ الشام كالأوزاعي وحذيفة المرعَشي ويوسف بن أسباط وأبي إسحاق الفزاري ومخلد بن الحسين وأمثالهم. وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان، وبقيت تحت حكمهم أكثر من ثلاثمائة سنة. وكانت “سِيْس” ثغر المسلمين، و”طَرَسُوس” كانت من أسماء الثغور، ولهذا تُذْكَر في كتب الفقه المُصَنَّفة في ذلك الوقت، وتولى قضاءها أبو عبيد الإمام وصالح بن أحمد بن حنبل وغيرهما.
وكان ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم يقولون: إذا اختلف الناسُ في شيء فانظروا ما عليه أهل الثَّغْر، فإن الحق معهم؛ لأن الله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (2).
وبالجملة إن السَّكَن بالثغور والرِّباط والاعتناء به أمر عظيم، وكانت الثغور معمورة بخيار المسلمين علمًا وعملاً، وأعظم البلاد إقامة بشعائر الإسلام وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كل من أحب التبتل للعبادة والانقطاع إلى الله وكمال الزهد والعبادة والمعرفة يدلُّونه على الثغور.
__________
(1) كذا في الأصل بصيغة الإفراد.
(2) سورة العنكبوت: 69.
(5/358)
وإنما اختار من اختار الرباط بثغور النصارى للحديث الذي في سنن أبي داود (1) عن ثابت بن قيس قال: جاءت امرأة إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقال لها أُمُّ خَلاَّد وهي منتَقِبَةٌ تَسْأل عن ابنها وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جئْتِ تَسْألين عن ابنك وأنتِ منتقبةٌ! فقالت: [إن] أُرْزَأْ ابني فلنَ أُرْزَأَ حيائِي، فقال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ابنُكِ له أَجْرُ شَهيدينِ”. قالت: ولِمَ ذاكَ؟ قال: “لأنه قَتَلَه أهلُ الكتاب”.
وهذا بعض [الأخبار التي] تبين فضيلة سُكْنَى الشام؛ فإن أهل الشام ما زالوا مُرَابطين من أوَّل الإسلام لمُجاورتهم النصارى ومجاهدتهم لهم، فكانوا مرابطين مجاهدين لأهل الكتاب. ولهذا فضَّل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جُنْدَهم على جُنْد اليمن والعراق؛ مع ما قاله في أهل اليمن (2).
ففي سنن أبي داود وغيره (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إنكم ستُجَنَّدون أَجنادًا؛ جُندًا بالشام وجُندًا باليَمَنِ وجُندًا بالعراقِ”، قال: فقلت يا رسول الله! خِرْ لِي، فقال: “عليكَ بالشامِ، فإنها خِيرةُ الله مِن أَرْضِه، يَجْتَبِي إليها خِيرتَه مِن عبادِه، فمن أبي فليلحق بيمنه، وليسق من غُدُره فإن الله قد تكفَّل لي بالشامِ وأهلِه”. قال الحوالي: ومن يتكفل الله به فلا ضيعةَ عليه.
__________
(1) برقم (2488).
(2) أخرجه البخاري (4388) ومسلم (52) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه أحمد (4/ 110، 5/ 33، 288) وأبو داود (2483) عن عبد الله بن حوالة.
(5/359)
وفي سنن أبي داود (1) أيضًا عن عبد الله بن عمرو عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إنه سَتكونُ هِجْرةٌ بعدَ هِجرةٍ، فخِيارُ أهلِ الأرضِ ألزَمُهم مُهاجَرَ إبراهيم، ويَبقى في الأرض شرَارُ أهلِها تَلفِظُهم أَرضوهُم، تَقْذَرُهم نفسُ الرحمن، تَحشُرُهم النارُ مع القِرَدة والخنازيرِ”.
وفي صحيح مسلم (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “لا يزالُ أهل الغَرْب ظاهِرين”.
قال الإمام أحمد: أهل الغرب هم أهل الشام. يعني: ومن يغرب عنهم؛ فإن التَّغْريب والتشريقَ من الأمور النِّسبية، والنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تكلَّم بذلك وهو بالمدينة النبوية، فما تغرب عنها فهو غَرْب المدينة، كما أن حران والرقَّة ونحوهما خلف مكة.
والكلام في هذا ونحوه يطولُ ويَتَعَذَّر، بحيث لا تحتمله هذه الفتوى، لكن هذه الأمور المُتيسّرة تعود إلى أفضل الأحوال: الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله كما ثبت ذلك بالنصوص. وقد قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)) (3).
فالجهاد تحقيق كون المؤمن مؤمنًا؛ ولهذا روى مسلم في صحيحه (4) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “مَن مات ولم يَغْزُ ولم يُحَدِّث
__________
(1) برقم (2482).
(2) برقم (1925).
(3) سورة الحجرات: 15.
(4) برقم (1910).
(5/360)
نفسَه بالغزو مات على شُعْبة مِن نفاق”.
وذلك أن الجهاد فرضٌ على الكفاية، فيُخاطَب به جميع المؤمنين عمومًا، ثم إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. ولابد لكل مؤمن من أن يعتقد أنه مأمورٌ به، وأن يعتقد وجوبه وأن يعزم عليه إذا احْتِيجَ إليه، وهذا يتضمن تحديث نفسه بفعله. فمن مات ولم يغز أو لم يُحدِّث نفسه بالغزو نَقَصَ من إيمانه الواجب عليه بقَدْرِ ذلك؛ فمات على شُعبة نفاق.
فإن قيل: فإذا كان الجهاد أفضل من الحجّ بالكتاب والسنة فما معنى الحديث الذي رَوَتْه عائشة أم المؤمنين قالت: يا رسول الله!
أرى الجهادَ أفضلَ العملِ أفلا نُجاهِدُ؟ قال: “لَكُنَّ أفضلُ الجهادِ: حَجّ مبرورُ” رواه البخاري (1)، ورواه النسائي (2)، وفيه: ألا نخرج نُجاهِد مَعَك فإني لا أرى عملاً أفضل من الجهاد. قال: “لا، ولكن أَحْسَن الجهاد وأجمله حجُّ البيت حج مبرور”.
قيل: أفضل الجهاد للنساء حجّ مبرور. فأخبرها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن أفضل الجهاد للنساء حج مبرور. وكذلك جاء مُبَيّنًا، رواه النسائي (3) عن أبي هريرة، عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “جهادُ الكبير والصغير والضعيف والمرأة: الحجّ والعمرة”. وفي حديث آخر (4): “الحجُّ جهادُ كل
__________
(1) برقم (1520).
(2) 5/ 114، 115.
(3) 5/ 113.
(4) أخرجه أحمد (6/ 294، 303، 314) وابن ماجه (2902) عن أمّ سلمة. وهو ضعيف.
(5/361)
ضعيف”. وفي حديث آخر (1): هل على النساء جهاد؟ قال: “جهاد لا قتالَ فيه: الحج والعمرة”.
سياقُ الحديث المُتَقَدِّم بيَّن ذلك، فإنها قالت: نَرَى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد معك؟ قال: “لَكُنَّ أفضل الجهاد: حجّ مبرور”. فقد أقرَّها على قولها: “نرى الجهاد أفضل العمل”، ثم ذكر أن “أفضل الجهاد الحج المبرور”.
وفي اللفظ الآخر (2): ألا نَخْرُج فنجاهِد معكَ فإنِّي لا أرى عملاً في القرآن أفضل مِن الجهاد؟ قال: “لَكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله حجّ مبرور”. فأقرها على قولها بفضل الجهاد، ثم لما استأذنته في الجهاد (3) المعروف قال: “لا، ولكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله حج البيت”، وجعل فضلَه بكونه جهادا، ومعلوم بالحس أن الجهاد لا يقاوم الجهاد في الكفار والمنافقين؛ فعُلِمَ أنه أراد جهاد النساء، واللام للتعريف، ينصرفُ إلى ما يعرفه المُخَاطب.
ومقصود الناقل هنا الجهاد الذي هو أفضل العمل له عند الله؛ فَبَيَّن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن الجهاد الذي هو مقصوده ومطلوبه هو الحجّ؛ فإن السائل ضعيف؛ والحج جهادُ كل ضعيف. وفي صحيح مسلم (4) عن أبي هريرة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “المؤمنُ القَوِيُّ خير وأَحَبُّ إلى
__________
(1) أخرجه أحمد (6/ 165) وابن ماجه (2951).
(2) هذا لفظ رواية البخاري (1861).
(3) في الأصل: “الحج” وهو خطأ.
(4) برقم (2664).
(5/362)
الله من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كل خير، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، واستَعِن باللهِ ولا تَعْجزْ، وإن أصابك شيءٌ فلا تَقُل لو أَنِّي فعلتُ كذا لكان كذا، ولكنَ قل: قَدَرُ اللهِ وما شاءَ فَعَلَ، فإنَّ لو تَفْتَحُ عملَ الشيطانِ”.
وقد جاء في فضائل الرِّباط أحاديث في الصحاح والسنن تُبيِّن ما ذكرناه:
فرَوَى البخاري في صحيحه (1) عن سهل بن سعد أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “رِباطُ يومٍ في سبيلِ الله خير من الدنيا وما عليها”.
وفي صحيح مسلم (2) عن سلمان الفارسي عن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيامِ شهرٍ وقِيامِهِ، وإن مات فيه جَرَى عليه [عَمَلُه] الذي كان يعملُه، وأُجْرِيَ عليه رزقُهُ، وأَمِنَ الفتَّان”.
وفي السنن (3) عن فضالة بن عبيد قال: قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ما من ميت يموت إلا خُتِمَ عليه عملُه إلا من ماتَ مُرابطًا في سبيل الله، فإنه يَنمُو له عملُه إلى يومِ القيامةِ، ويُؤمَنُ مِن فتنةِ القبرِ” رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه والترمذي بمعناه. وزاد: سمعت رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول: “المجاهد [مَنْ جاهَد] نفسه في طاعةِ الله” قال الترمذي: حسنٌ صحيح.
__________
(1) برقم (2892).
(2) برقم (1913).
(3) أخرجه أحمد (6/ 20) وأبو داود (2500) والترمذي (1621).
(5/363)
وقد تقدم حديث عثمان: “رباطُ يوم في سبيلِ الله خير مِن ألف يومٍ فيما سواه مِن المنازل”.
وقد جاء عن السلف آثار فيها ذكر الثُّغور مثل غزَّة وعسقلان والإسكندرية وقزوين ونحو ذلك.
وأما الأحاديث المَرْوية عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بتعيين قزوين والإسكندرية ونحو ذلك فهي موضوعة كَذِب بلا ريب عند علماء الحديث (1)، وإن كان ابن ماجه قد روى في سننه (2) الحديث الذي في فضل قزوين؛ وقد أنكر عليه العلماء ذلك، كما أنكروا عليه رواية أحاديث أخرى بضعة عشر حديثًا من الموضوعات؛ ولهذا نَقَصَت مرتبة كتابه عندهم عن مرتبة أبي داود والنسائي.
وقد قدمنا كون البلد ثغرًا صِفة عارِضة لا لازمة؛ فلا يمكن فيه مدح مُؤَبَّد ولا ذَمّ مُؤَبَّد، إلا إذا عُلِمَ أنه لا يزال على تلك الصِّفة.
وإذا تبين ما في الرِّباط من الفَضْل؛ فمن الضَّلال ما تجد عليه أقوامًا ممَّن غرضه التقرب إلى الله والعبادة له بما يحبه ويرضاه يكون في الشام أو ما يقاربها، فيسافر السفر الذي لا يُشْرَع بل يُكْرَه، ويترك ما هو مأمور به واجب أو مستحب.
مثال ذلك أن قومًا يَقْصِدون التعريف بالبيت المقدس، فيقصدون زيارته في وقت الحجّ ليعرفوا به، ويَدَعو [نَ] المُقام بالثغور التي تُقاربه.
__________
(1) انظر موضوعات ابن الجوزي (2/ 55).
(2) برقم (2780) عن أنس بن مالك. وفي إسناده داود بن المحبّر وضّاع.
(5/364)
وهذا في غاية الضلال والجهل والحِرمان من وجوه:
أحدها: أن التعريف بالبيت المُقَدَّس ليس مشروعًا لا واجبًا ولا مستحبًّا بإجماع المسلمين، ومن اعتقد السفر إليه للتعريف قُرْبة فهو ضالٌّ باتفاق المسلمين، بل يُستتاب فإن تاب وإلا قُتِل، إذ ليس السفر مشروعًا للتعريف إلا للتعريف بعرفات.
وأقبح من ذلك تعريفُ أقوام عند بعض قبور المشايخ والأنبياء وغير ذلك من المشاهد أو السفر لذلك، فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين. بل تنازع السلف في تعريف الإنسان في مِصْره من غير سفر، مثل أن يذهب عشية عرفة إلى مسجد بلده فيدعو الله ويذكره، فكَرِهَ ذلك طوائف؛ منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما. ورخص فيه آخرون؛ منهم الإمام أحمد، قال: لأنه فعله ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حرب بالكوفة. ومع هذا فلم يستحبه أحمد، وكان هو نفسه لا يعرف ولا ينهى من عرف. وقد قيل عنه: إنه يستحب.
وأما السفر للتعريف بغير عرفة فلا نزاع بين المسلمين أنه من الضلالات، لا سيما إذا كان بمشهد مثل قبر نبيّ (1) أو رجل صالح أو بعض أهل البيت، فإن السفر إلى ذلك لغير التعريف مَنْهِيٌّ عنه عند جمهور العلماء من الأئمة وأتباعهم. كما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (2): “لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصى، ومسجدي هذا”. وقد رأىَ بصرة بن أبي بصرة الغفاري أبا هريرة
__________
(1) في الأصل: “قربى”!.
(2) أخرجه البخاري (1189) ومسلم (1397) عن أبي هريرة.
(5/365)
راجعًا من زيارة الطور فقال: لو رأيتك قبل أن تزوره لم تزرْه، فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصى، ومسجدي هذا” (1).
[وقد] قال من قال من هؤلاء كأبي الوفاء ابن عقيل وغيره: إن المسافر لمجرد الزيارة لبعض المشاهد لا يقصر الصلاة لأنه عاص بسفره، وإنما رخَّص في هذا السفر طائفة من المتأخرين، ولكن الزيارة المشروعة إذا اجتاز الرجل بالقبور أو خرج إلى ما يُجاوره من القبور كما كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يخرج إلى البقيع، وكما زار قبر أمه لما اجتاز بها في غزوة الفتح. وقد ثبت عنه في الصحيح (2) أنه قال: “استأْذَنْتُ ربِّي أن أزور قبر أمِّي؛ فأذِنَ لي، واستأذنته في أن أستغفرَ لها؛ فلم يأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة”.
وكان – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُعَلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهمِ: “السلامُ عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحِقُون، ويَرْحَمُ الله المُسْتَقْدِمينَ منا والمُستأخِرينَ، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرَهم ولا تفتنا بعدَهم” (3).
وقد رُوِي عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال (4): “ما مِن رجلٍ يَمُرُّ بقبرِ الرجلِ
__________
(1) أخرجه النسائي (3/ 114).
(2) مسلم (976) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه مسلم (975) عن بريدة، و (974) عن عائشة، ما عدا الجزء الأخير، فقد روي ضمن الدعاء في الصلاة على الجنازة.
(4) أخرجه ابن عبد البر في “الاستذكار” (1/ 234) عن ابن عباس، وصححه =
(5/366)
كان يعرفه في الدنيا فيُسَلِّم عليه إلا رَدَّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام”.
والزيارة المشروعة للمسلم: أن يُسَلَّم عليه ويُدعَى له، كما أن الصلاة مقصودها الدُّعاء له. ولهذا نهى الله نبيه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن الأمرين في حقِّ المنافقين. كما قال تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (1)، نهى نبيه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم؛ فكان في ذلك دلالة على أن المؤمنين يُصلَّى عليهم ويُقامُ على قبورهم. وقد قال طوائف من السلف والخلف: وهو القيام على قبورهم بالدعاء والاستغفار.
فزيارة قبر المؤمن من نبي وغيره مقصودها التحية والدعاء له، فأما اتخاذ القبور مساجد أو الاشراك بها فذلك كله حرام بإجماع المسلمين. كما في الصحيحين (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال في مرضه الذي مات فيه: “لَعَنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائِهمِ مساجد”؛ يُحذِّر ما صَنَعوا. قالت عائشة (3): ولولا ذلك لأبْرِز قبره، ولكن كُرِهَ أن يتخَذَ مسجدًا.
__________
= عبد الحق الإشبيلي في “الأحكام الصغرى” (1/ 345) و”الأحكام الوسطى” (2/ 152، 153).
(1) سورة التوبة: 84.
(2) البخاري (435، 436 ومواضع أخرى) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس.
(3) أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529).
(5/367)
وفي صحيحِ مسلم (1) أنه قال قبل أن يموتَ بخمس: “إنِّي أَبرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، ولو كنتُ مُتَّخِذًا خليلا لاتَّخذْتُ أبا بكرٍ خليلاً، ألا وإنَّ مَن كان قبلَكم كانوا يَتَّخذونَ قبورَ أنبيائِهم مساجدَ، ألا فلا تَتَّخِذوا القبورَ مساجدَ فإني أنهاكم عن ذلك”.
وفي السنن (2) عنه أنه قال: “لعنَ الله زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجدَ والسُّرُجَ”.
وقد اتفق أئمة المسلمين على أنه لا تُشْرَع الصلاةُ عند القبور، وقَصْدُها لأجل الدعاء عندها، ولا التَّمَسُّح بها وتَقْبيلها؛ سواء في ذلك قبور الأنبياء وغيرهم. بل ليس تحت أديم السماء ما يُشرع التمسحُ به وتقبيلُه إلا الحجر الأسود، والركن اليماني يستحب التمسح به.
وقد صح عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأصحابه والتابعين (3)، فلم يَمْسَحوا إلا الرُّكنين اليمانيين، ولم يمسحوا سائر جوانب البيت ولا مقام إبراهيم الذي هناك؛ فكيف بمقام إبراهيم في تلك البقعة ومقامِ غيره من الأنبياء والصالحين؟ وقد قال الله في كتابه: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)) (4). قال طوائف من الصحابة
__________
(1) برقم (532) عن جندب بن عبد الله.
(2) أخرجه أحمد (1/ 229، 287، 324، 337) وأبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/ 94) وابن ماجه (1575) من طريق أبي صالح عن ابن عباس. وانظر الكلام عليه في “الضعيفة” (225).
(3) في الأصل: “التابعون”.
(4) سورة نوح: 23.
(5/368)
والتابعين: “هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلمَّا ماتوا عَكَفُوا على قبورهم، ثم لما طال عليهم الأمد صَوَّروا صورهم، فكان ذلك مبدأ عبادة الأوثان”.
ولهذا قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ما رواه مالك في الموطأ (1): “اللهمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعْبَد”. وفي السنن (2) عنه أنه قال: “لا تتخذوا قبري عيدًا”.
فالسفر للتعريف ببعض المشاهد حرام، فيكون بمنزلة لحم الخنزير، وأما السفر للتعريف ببيت المقدس مثلاً، والسفر لزيارة بعض القبور أو البقاع غير المساجد الثلاثة فهو أيضًا مَنْهِيّ عنه، وإن كان وجد في ذلك من عمد إلى هذه البدع التي فيها من الشرك ما فيها، وتعبد بها وأقامَ بها، وقصد ما يقصده من البقاع لأجلها، وترك أن يقصد من البقعة أو ما هو قريب منها لأجل الرباط في سبيل الله الذي هو من أفضل الأعمال بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، أليس هو ممن استبدل السيئات بالحسنات؟
الوجه الثاني: أنه لو قدر أنه قَصَدَ بعض هذه البقاع قصدًا مشروعًا مثل السفر إلى بيت المقدس على الوجه المشروع للصلاة فيه والاعتكاف فيه، فإن هذا عمل صالح باتفاق المسلمين، وإن كان قد دخل فيه بدع كثيرة، مثل البدع التي تفعل هنا من السماع
__________
(1) 1/ 172 عن عطاء بن يسار مرسلاً.
(2) أبو داود (2042) عن أبي هريرة.
(5/369)
للمكاء والتصدية في النصف وعشر ذي الحجة ونحو ذلك، ومثل استلام بعض ما هناك من الأحجار، فإنه لا يشرع أن يستلم أحد قط إلا الركنين اليمانيين للبيت العتيق، ومثل اعتقادهم أن ذلك القدم المصنوع قدم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وظن أجهل منهم أنه قدم الله وأشباه هذه الجهالات. فالزيارة إذا سَلِمَت عن هذه البدع وغيرها كانت شرعية، والسفر إلى الثغر للرباط أفضل منها، والعُدُول عن الفاضل إلى المَفْضُول مع استوائهما غير محمود.
الوجه الثالث: أن من الناس من يَقْصِد المُجاورة ببيت المَقْدس ويدع المُجاورة بالثغر الذي هو قريب منه. وهذا البابُ من أفضل الأفضل وأجلها، وهو فرض على الكفاية، ومعلوم أن هذا أعظم خُسْرانًا، وأشد حِرْمانًا، وأبعد عن اتباع الشريعة؛ فإن المُجاور بالحرمين قد يتعسر عليه ذلك دون المُرابطة لاختلاف المكانين. أما مع تفاوت المكانين فالعدول عن هذا إلى هذا لا يصدر إلا من جهل أو من ضعف إيمان، اللهم [إلاّ] إذا نَذَر هذا فيكون هذا معذورًا. وإنما الكلام فيمن يقدر على الأمرين.
ولهذا [لما] كان أهل البدع مُهْمِلين أمر الجهاد مُعَظمين للزيارات، استولى الكفار على كثير من الثغور، حتى قتل ببيت المقدس وقتلوا فيه من المجاورين من شاء الله، وكان قد جَرَت فيه بدع كثيرة.
ومن ذلك من يقصد بعض هذه البقاع، إما جبل لبنان وإما غيره، إما لزيارته لظنه أن فيه الصالحين من الأبدال وغيرهم، ويدع أن يقصد للرباط في سبيل الله، فإن هذا أيضًا من الضلال العظيم، وأصل السفر
(5/370)
إلى الزيارة غير مشروع ولا مأمور به، بل هو من البدع والضلال.
وكذلك السِّياحة لغير قصدٍ مُعَيَّن ليس ذلك مشروعًا لنا. قال الإمام أحمد: ليست السياحة من أمر الإسلام في شيء، ولا من فِعْل النبيين ولا الصالحين. والسياحة المذكورة في القرآن ليست هذه السياحة؛ فإن الله قد قال: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)) (1).
ومعلوم أن نساء النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ونساء المؤمنين لا يُشْرع لهن هذه السياحة. ولكن قد فُسِّرت السياحة بالصيام، وفُسِّرت بالجهاد (2)، وكلاهما مَرْوي عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أما الأول: فرواه عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُرسلاً.
وأما الثاني فقال أبو داود في سننه (3): “باب النهي عن السياحة”؛ وروى فيه حديث العلاء بن الحارث عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله! ائذَن لي بالسِّياحةِ؟ قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنَّ سِياحةَ أُمَّتي الجهادُ في سبيلِ الله”.
وكذلك أيضًا رُوي (4): “إن رَهْبانية هذه الأمة: الجهادُ في سبيل الله”. إذ لا رهبانية في الإسلام، وأما ما ذكره في كتابه أن النصارى
__________
(1) سورة التحريم: 5.
(2) انظر تفسير ابن كثير (4/ 1712 – 1713).
(3) برقم (2486).
(4) أخرجه أحمد (3/ 266) عن أنس بن مالك.
(5/371)
ابتدعوا الرهبانية فقد نهانا الله ورسوله عن البدع.
وثبت عنه في صحيح مسلم (1) وغيره عن جابر أنه كان يقول في خطبته: “إنَّ أصدَقَ الحديث كلام الله، وخيرُ الهَدْي هَدْي محمدٍ، وشَرُّ الأمورِ مُحْدَثاتُها، وكلُّ بدعة ضلالة”.
وثبت عنه في السنن (2) الحديث الذي صححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: وعَظَنا رسولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – موعظةً بَليغةً فقال رجل: يا رسولَ الله! كأن هذه موعظةُ مُودِّع فماذا تَعْهَدُ إلينا؟ فقال: “أُوصيكم بالسَّمعِ والطاعةِ فإنَّ مَن يَعِشْ منكم سيَرَى بعدي اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المَهْديِّين، تمسكُّوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكم ومُحْدَثات الأمُور؛ فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالة”.
فكيف بما نهى الله عنه ورسوله من العبادات المُبتدعةِ؟ كما أخرجا في الصحيحين (3) -واللفظ لمسلم- عن أنس بن مالك أنَّ نفرًا من أصحاب النبيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سأَلوا أزواجَ النبيِّ عن عَمَلِهِ في السِّرِّ؟
فقال بعضُهم: لا أتزوَّجُ النِّساء. وقال بعضُهم: لا آكُلُ اللَّحْمَ.
وقال بعضُهم: لا أنامُ على فِراشٍ. فحمدَ الله وأثنَى عليه فقال: “ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكنِّي أُصلِّي وأنامُ، وأَصومُ وأُفْطِرُ، وأتزوَّجُ النساءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنتي فليس مِنِّي”.
__________
(1) برقم (867).
(2) أخرجه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (24، 44).
(3) البخاري (5063) ومسلم (1401).
(5/372)
ولفظ البخاري (1): جاء ثلاثة رهط بيوتَ أزواج النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يسألون عن عبادة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوها! فقالوا: وأين نحن من النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فإني أُصلِّي الليل أبدًا. وقال الآخر: أنا أصوم الدَّهر أبدًا. وقال الآخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء رسول الله [فقال]: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إنِّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأَرْقُد، وأَتزوَّجُ النِّساءَ، فَمَن رَغِبَ عن سنَّتي فليسَ مِنِّي”.
وفي الصحيحين (2) عن سعد بن أبي وقاص قال: رَدَّ رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على عثمان بن مَظْعُونٍ التبتَّل، ولو أذِنَ له لاخْتَصينا.
وفي صحيح البخاري (3) وغيره عن ابن عباس أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رأى رجلاً قائمًا في الشَّمس فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يجلس ولا يستظل وأن يصوم، فقال: “مُرُوه فلْيَجْلِس، وليَسْتَظِلَّ وليَتكلم وليتِمَّ صومَه”.
فلما كان هذا النَّاذِرُ نَذَرَ ما هو سُنَّة وما هو بدعة أَمَرَه بالوفاء بالسنة دون البدعة، كما في صحيح البخاري (4) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “مَن نَذرَ أن يُطيعَ الله فليُطِعْهُ، ومَن نذر
__________
(1) في الموضع المذكور.
(2) البخاري (5074) ومسلم (1402).
(3) برقم (6704).
(4) برقمي (6696، 6700).
(5/373)
أن يعصي الله فلا يَعْصِهِ”.
وهذا متفق عليه بين أئمة الدين، لكن تنازَعُوا هل عليه كفارة يمينٍ أو نذرِ ما ليس مشروعًا؛ بعد اتفاقهم على أنه لا يفعله؟
فقيل: لا شيء عليه، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما لأنه ليس في هذا الحديث وغيره أنه أمر له بالتكفير.
وقيل: بل عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما ثبت في صحيح مسلم (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “كفارةُ النَّذْرِ كفارةُ يمينٍ”. وفي السنن (2) عنه أنه قال: “لا نَذْرَ في معصيةٍ وكفارتُه كفارةُ يمينٍ”.
وقد ثبت في الصحيح (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “أفضلُ الصيام صيامُ داود، كان يصومُ يومًا ويُفْطِرُ يومًا، وأفضلُ القيام قيام داود كان ينامُ نصف الليل ويقوم ثُلُثه وينام سُدُسه”. وقد استفاض عنه في الصحيح (4) أنه نهى عن مداومة الصيام والقيام وقراءة القرآن في أقل من ثلاث. وأمثال ذلك من النصوص التي تُبيِّن ما بَعَث الله به رسوله من الحنيفية السمحة. كما جاء في الحديث: “أَحَبُّ الدين إليَّ الحنيفية السَّمحة” (5).
__________
(1) برقم (1645) عن عقبة بن عامر.
(2) أخرجه أبو داود (1525) والترمذي (1525) والنسائي (7/ 26، 27) وابن ماجه (2125) عن عائشة.
(3) البخاري (1131) ومسلم (1159).
(4) البخاري (5052) ومسلم (1159).
(5) أخرجه أحمد (5/ 266) والبخاري في الأدب المفرد (287) عن ابن عباس نحوه.
(5/374)
وفي الصحيح (1) عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إنَّ هذا الدِّين متين وإنه لَن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلا غَلَبَهُ، واستَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوحَةِ وشيء من الدُّلجَةِ، والقصدَ القصدَ تبلغوا”.
وفي الصحيحين (2) عنه أنه قال: “اكْلَفُوا مِن العَمَلِ ما تُطِيقُونَ؛ فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا”.
وفي السنن (3) عنه أنه قال: “لكل عامل شِرَّةٌ وفتر، فمن كانت فترته إلى سُنَّة فقد اهتدى، ومن أخطأَها فقد ضَلَّ”. وفي لفظ: “ولكل شِرَّةٍ فَتْرَ؛ فإن [كان] صاحبها سَدَّدَ وقارب فارجوه، وإن أُشير إليه بالأصابع فلا تَعُدُّوهُ”.
فقيل للحسن البصري لما رَوَى هذا الحديث: “إنَّك إذا مَرَرت بالسُّوق فإنَّ النَّاس يُشِيرون إليك؟ فقال: “لم يُرِد ذلك، وإنما أرادَ المُبْتَدِع في دينه والفاجر في دنياه”. وهو كما قال الحسن رضي الله عنه، فإنَّ من الناس من يكون له شدَّة ونشاط وحدة واجتهاد عظيم في العبادة، ثم لابُدَّ من فُتُور في ذلك. وهم في الفَتْرَة نوعان:
منهم: من يلزم السنَّة فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نُهِيَ عنه بل يلزم عبادة الله إلى الممات؛ كما قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) (4)، يعني الموتَ، قال الحسن البصري: لم يَجْعَل
__________
(1) البخاري (39، 6463) عن أبي هريرة.
(2) البخاري (6465) ومسلم (782) عن عائشة.
(3) الترمذي (2453) عن أبي هريرة. وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه أحمد (2/ 188) عن عبد الله بن عمرو.
(4) سورة الحجر: 99.
(5/375)
الله لعباده المؤمنين أجلاً دون الموت.
ومنهم: من يخرج إلى البدعة في دينه أو فُجُور في دنياه حتى يُشير إليه الناس، فيقال: هذا كان مجتهدًا في الدِّين ثم صار كذا وكذا. فهذا مِمَّا يخاف على من عَدَل (1) عن العبادات الشرعية إلى الزيارات البدعية. ولهذا قال أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: “اقتصاد في سُنَّة خير من اجتهادٍ في بِدْعة”.
ومع هذا فجِنْس الجهاد أفضل، بل قد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: مَرَّ رجل مِن أصحاب رسولِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بشعبٍ فيه عُيَينة مِن ماءٍ عَذْبة فأَعْجَبَتْهُ. فقال: لو اعتزلتُ الناس، فأَقَمتُ في هذا الشِّعْب، ولن أفْعَلَ حتى أَستأذِنَ رسولَ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذَكَرَ ذلك لرسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقال: “لا تفعل فإنَّ مُقامَ أحدِكم في سبيلِ الله أفضلُ من صلاتِه في بيتِه سبعينَ عامًا، أَلاَ تُحِبُّونَ أن يَغفِرَ اللهُ لكم ويُدْخِلَكم الجَنَّة؛ اغْزُوا في سبيلِ الله، مَن قاتلَ في سبيلِ الله فَوَاقَ ناقةٍ وجَبَتْ له الجَنَّةُ” (2). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفَوَاقُ النَّاقة: ما بين الحلبتين.
وجماع الأمر ما قاله الفضيل بن عياض في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (3) قال: أَخْلَصُه وأَصْوَبُه، قالوا يا أبا علي! ما أَخْلَصُه
__________
(1) في الأصل: “بدل”.
(2) أخرجه أحمد (2/ 446، 524) والترمذي (1650).
(3) سورة الملك: 2.
(5/376)
وأَصْوَبُه؟ قال: إنَّ العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقْبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقْبَل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالِص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُنَّة.
وهذا كما قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)) (1). وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهمَّ اجعل عملي كُلّه صالحًا، واجعله لِوَجهِك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا.
والعملُ الصالح هو المشروع، وهو طاعة الله ورسوله، وهو فِعل الحسنات التي يكون الرجل به مُحْسنًا. قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)) (2). وقال: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) (3).
ولابد في الرِّباط والهجرة والجهاد وسائر الأعمال الشرعية من السنة التي هي روح العمل، كما في الصحيحين (4) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إنما الأعمالُ بالنيّات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه”.
__________
(1) سورة الكهف: 110.
(2) سورة النساء: 125.
(3) سورة البقرة: 112.
(4) البخاري (6953 ومواضع أخرى) ومسلم (1907) عن عمر.
(5/377)
وفي الصحيحين (1) عنه أنه قيل له: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: “مَن قاتلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُلْيا فهو في سبيل الله”.
قال تِعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)) (2).
فالله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يُحِبُّه ويرضاه لنا من الأحوال والأعمال الباطنة والظاهرة، ويُجَنِّبنا ما يكرهه لنا من ذلك كُلِّه.
وأعظم من ذلك أن يتشاغل المسلمون بقتال بعضهم بعضًا، كما يجري بين أهل الأهواء من القبائل وغيرها، كقيس ويمن وجَرْم وتغلب ولَخْم وجُذَام وغير هؤلاء، مع مجاورتهم للثغور، فيَدَعون الرِّباط والجهاد الذي هو سعادة الدنيا والآخرة -كما قال تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) (3) يعني: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة- ويشتغلون بقتال الفتن والأهواء الذي هو خسارة الدنيا والآخرة.
وفي الصحيحين (4) عن أبي بكرة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه [قال]: “إذا
__________
(1) البخاري (7458) ومسلم (1904) عن أبي موسى الأشعري.
(2) سورة الأنفال: 39 – 40.
(3) سورة التوبة: 52.
(4) البخاري (31) ومسلم (2888).
(5/378)
التَقَى المسلمانِ بسيفَيْهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النارِ”. فقيل: يا رسول الله! هذا القاتلُ فما بالُ المقتولِ؟ قال: “إنه كان حريصًا على قتلِ صاحبِهِ”.
وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)) (1).
وهذه الفتيا لا تحتمل البسط في هذه الورقة، وإنما نبهنا على النكت الجامعة.
(والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل). تمت
__________
(1) سورة آل عمران: 102 – 107.
(5/379)
قاعدة في الأموال السلطانية
(5/381)
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل
الأموالُ السلطانية والأموالُ العقدية من وقفٍ ونذورٍ ووصيةٍ ونحو ذلك، الأصلُ في ذلك مبنيٌّ على شيئين:
أحدهما: أن يَعلم المسلمُ بما دلَّ عليه كتابُ الله وسنةُ رسوله وإجماعُ المؤمنين نصًّا واستنباطًا.
ويَعلم الواقعَ من ذلك في الولاةِ والرعيَّهِ، ليعلمَ الحق من الباطل، ويعلمَ مراتبَ الحقِّ ومراتبَ الباطلِ، ليستعملَ الحق بحسب الإمكان، ويَدَعَ الباطلَ بحسب الإمكان، ويُرجِّحَ عند (1) التعارضِ أحقَّ الحقَّينِ، ويَدفعَ أبطلَ الباطلَيْنِ.
فنقول: إن الأموال المشتركة السلطانيةَ الشرعيةَ ثلاثةٌ: الفَيء، والمغانمُ، والصدقةُ. وإذا صَنَّف العلماءُ كُتُبَ الأموالِ -ككتاب “الأموال” لأبي عُبيد ولحُمَيْد بن زَنْجويه، و”الأموال” للخلاَّل من جوابات أحمد، وغير ذلك- فهذه هي الأموالُ التي يتكلَّمون فيها.
وكذلك من العلماء مَن يَجمع الكلامَ فيها في الكُتُب المصنَّفةِ في رُبُع الأموال، كما في “المختصر” للمُزَني و”مختصرِ” الخَرَقي وغيرِهما
__________
(1) في الأصل: “عن”.
(5/383)
كتابُ قَسْمِ الفَيء والغَنائم والصدقة، يَذكُرونَه قبلَ قَسْمِ الوصايا والفرائض بعد قسْم الوقوف. ومنهم من يذكر قَسْمَ الصدقةِ في كتاب الزكاة، وقَسْمَ المغانمِ والفيء في الجهاد، كما هي طريقةُ كثيرٍ من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرِهم. ومنهم من يذكر الخراجَ والفيءَ في كتاب الإمارة، كما فعلَ أبو داود في “السنن” في كتاب الخراج والإمارة.
وهذه الأموالُ الثلاثة ثابتة مُستَخْرَجُها ومَصروفُها بكتابِ الله وسنةِ رسوله، وأكثرُها مُجتَمع عليه، وفيها مواضعُ مُتنازعٌ فيها بين العلماء. فإنّ الله فرضَ الزكاةَ في الأموال وذكرَ أهلَها في كتابه بقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) الآية (1). والنبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد بيَّن من ذلك ما أجملَه الكتابُ بما سَنَّه من نُصُبِ الزكاةِ وفَرائضِها، وفَسَّرَ من مواضعِها، وعَمِلَ به خلفاؤُه من بعدِه.
وكذلك المغانم، قد أحلَّها الله بكتابه وسنَّةِ رسوله، وقَسَمَها رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وخلفاؤه الراشدون، وهيَ المالُ المأخوذُ من الكفّارِ بالقتال، وما أُخِذَ من المرتدّين والخارجين عن شريعةِ الإسلام، فتفصيلُه ليس هذا موضعَ ذِكرِه. ويُسمَّى أيضًا فَيْئًا وأنفالاً.
وكذلك الفَيءُ الخاصّ، وهو ما أُخِذَ من الكفّارِ بغيرِ قتالٍ، ذكره الله في سورة الحشر (2)، وجَرَى قَسْمُه في سنة رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
__________
(1) سورة التوبة: 60.
(2) الآيتين 6 – 7.
(5/384)
وسنَّةِ خلفائه الراشدين على الوجهِ الذي جَرى عليه. ويَلتحِقُ به الأموالُ المشتركةُ التي لم تُؤخَذْ من الكفّار، كالمواريثِ التي لا وارثَ لها، والأموالِ الضائعةِ التي لا يُعلَم لها مُستحِقّ معيَّنٌ، ونحو ذلك من الأموال المشتركة.
ثُمَّ خلفاءُ الرسولِ أهلُ العدل من العلماءِ والأمراءِ الجامعين بين العلم والإمارة مع العدل -كالخلفاءِ الراشدين- قد يجتهدون في كثيرٍ من هذه الأموالِ قبضًا وصَرْفًا، كما يجتهدون في الأحكامِ والولاياتِ والأعمالِ والعقوباتِ ونحوِ ذلك، واجتهادُهم سائغٌ، والأموالُ المأخوذةُ بمثل هذا الاجتهادِ سائغةٌ، وإن اعتقَد الرجلُ تحريمَ بعضِ ذلك، فليس له أن يُنكِرَ على الإمام المجتهد في ذلك، ولا على من أخذَ باجتهادِه، كما لا يُنكِرُ على ما أعطاه الحاكمُ بحكمِه في الفرائضِ والوقوفِ ونحوِ ذلك. ولكن هل يُباحُ له بالحكم ما اعتَقَدَ تحريمَه قبل الحكم؟ على روايتين.
وكذلك يُخَرَّجُ في القَسْم، فإن قَسْمَ الإمامِ المالَ الذي يَجِبُ عليه قَسْمُه هو كحكمِه، وأما قِسْمَتُه لغير ذلك فهي بمنزلةِ فِعْلِ الحاكم، كتزويج الأيامَى وبيع أموال اليتامَى. وهل فِعْلُ الحاكمِ حُكم فلا يَسُوغُ نَقضُه، أم هو كفعلِ غيرِه فيجوزُ نقضُه حتى يُنَفِّذَه أو غيرُه من الحكام؟ فيها وجهانِ.
ثمَّ إذا قلنا: هو حرام عليه، فليس حرامًا على غيرِه، ويَحِل له -إذا أخذَه غيرُه بتأويلٍ- أن يأخذَه منه بابتياع واتِّهاب ونحوِ ذلك من العُقود. هذا هو الصواب، فإنَّ ما قَبَضَه المسلمُ بالتأويل أولَى
(5/385)
بالإباحةِ مما يَقبِضُه الكفّار من أهلِ الحرب والذمةِ بالتأويل. وإذا كان الكفّارُ فيما يعتقدون حِلَّه إذا أسلموا لوَ تحاكموا إلينا بعد القبضِ حَكَمنا بالاستحقاقِ لمن هو في يدِه، وحَلَّلْناه لمن قَبَضَه من المسلمين منه بمعاوضة، وحَلَّلناه له بعد إسلامِه، فالمسلم فيما هو متأوِّل في حُكمِه باجتهادٍ وتقليد إذا قَبَضَه أولَى أن تَحِلَّ معاملتُه فيه، وأن يكونَ مباحًا له إذا رَجَعَ بعدَ ذلك عن القولِ الذي اعتقدَه أوَّلاً، وأن يُحكَمَ له به بعدَ القبضِ، كما لو حَكَمَ به حاكمٌ.
وقد ذكرتُ هذه المسألةَ في غيرِ هذا الموضع، وذكرتُ فيها روايتين أصحُّهما ذلك، بناءً على أنّ حُكْمَ الإيجاب والتحريم لا يثبُتُ في حكم المكلَّفِ إلاّ بعدَ بلوغِ الخطابِ، وأنَه [لا] يَجبُ عليه قضاءُ ما تَرَكَه من الواجبات بتأويلٍ، ولا رَدُّ ما قَبَضَه من المَحرَّماتِ بتأويلٍ كالكفَّار بعد الإسلام وأولَى، فإنّ المسلم في ذلك أَعذَرُ.
وتنفيرُ الكفّارِ عن الإسلام كتنفيرِ أهلِ التأويل عن الرجوع إلى الحقّ والتوبةِ من ذلك الخطأ. وهذا في الأنكحة والمعاوضات والمقاسمات.
وكذلك ما أتلَفَه أهلُ البَغْي على أهلِ العدلِ من النفوسِ والأموال، لا يَجبُ عليهم ضمانُه في ظاهرِ المذهب الموافق لقولِ جمهورِ العلماء، وهو قولُ أبي حنيفة والشافعي في أَحدِ قولَيْهِ، كما أجمعَ عليه السلفُ من الصحابة والتابعين. قال الزهري: وَقعتِ الفتنةُ وأصحابُ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – متوافرون، فأجمعوا أن كل دمٍ أو مال أو فرجٍ أُصِيْبَ بتأويل القرآن فإنه هَدَر. وذلك لأنهم متأوِّلون، وإن كان ما فَعلوه حرامًا في نفسِ الأمر.
(5/386)
وفي أهل الرِّدَّة أيضًا روايتان، أصحُّهما أنهم لا يَضمَنُون كأهلِ الحرب، كما أشارَ به عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه، لمَّا قالَ لأهل الردَّةِ: تَدُوْا قَتْلاَنا ولا نَدِيْ (1) قَتْلاَكم، فقال عمر: لا، لأنهم قومٌ قتِلُوا في سبيل الله واستُشْهِدوا. دَلَّ على ذلك كتابُ الله في عَفْوِه عن الخطأ، وسُنَّةُ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في قصّةِ أسامةَ بن زيدٍ (2) وقصّةِ عمّار بن ياسرٍ (3) وعديّ بن حاتم (4) وأبي ذَر (5) وغير ذلك.
فما قَبَضَه المسلم بعَقْدٍ متأوِّلاً فيه مَلَكَه، ولو تَحاكَمَ اثنانِ في عَقْدٍ اعتقدَا صِحَّتَه بعد القبض فينبغي للحاكمِ أن يُقِرَّهما على ذلك التقابُضِ.
ويجوز معاملةُ المسلم فيما قبضَه بهذا الوجه، ولهذا أمرَ أحمد لمن يُعامِلُ السلطانَ في وقتِه أن يكون بينه وبينه آخر، وكلَّما بَعُدَ كان أجودَ، لأنّ المباشرَ لهم قد يَستحِلُّ من المعاملةِ باجتهادٍ أو تقليدٍ ما لا يَستحِلُّه المستفتي، فإذا قَبَضَه المباشرُ بتأويلِه حَلَّ للمستفتي حينئذٍ.
ونظيرُ هذا قولُ عمر في الخمر والخنزير: وَلُّوهُم بَيْعَها وخُذُوا أثمانَها، ولا تَبِيعُوها أنتم (6). فإنّ المسلمَ لا يَحِلُّ له بيعُ الخمرِ
__________
(1) في الأصل: “تؤدوا … نؤدي”.
(2) أخرجها البخاري (4269) ومسلم (96) عن أسامة.
(3) أخرجها البخاري (338 ومواضع أخرى) ومسلم (368) عن عمار.
(4) أخرجها البخاري (1916) ومسلم (1090) عن عدي.
(5) أخرجها أبو داود (332، 333) والترمذي (124) والنسائي (1/ 171) عن أبي ذر.
(6) أخرجه عبد الرزاق (6/ 23).
(5/387)
والخنزيرِ، ويَحِلُّ له قَبْضُ ثمنِ ذلك ممن باعَه بتأويلِه في دينه.
فالمسلم الذي قَبَضَ بتأويل أولَى. فهذا مأخذ لقولِ أحمد.
وله مأخذ ثانِ: أنَّ الظالمَ إذا باعَ المغصوبَ فالمشتري قَبَضَ عِوَضَ مالِه، والأموالُ التي بأيديهم مجهولةُ الملكِ، فالعِوَضُ فيها كالمعوَّض. فالمستفتي قَبَضَ ممن قَبَضَ عِوَضَ [مالِه]، ولم يَقبِضْ ممن قَبَضَ نفسَ مالِ الغير. ولهذه القاعدة فروعٌ في جواباتي في الفتاوى.
وما قَبَضَه الإمامُ من الحقوقِ -الزكَوات والخراج وغير ذلك- بتأويلِ من اجتهادٍ أو تقليل وَجَبَتْ طاعتُه فيه، كما يَجبُ طاعةُ الحاكمِ في الحكم المتنازع فيه، فإذا طلبَ أخْذَ القيمةِ أَو أَخْذَ ما فَضَلَ عن الفرائضِ ونحو ذلَك أُطِيعَ في ذلك، وتَبْرَأ ذِمَّةُ المسلمِ بما يَدفعُه من ذلك.
وهل يُجزِئُه ذلك إذا كان يعتقد أنه لا يُجزِئه لو فعلَه؟ الصواب أنه يُجزِئُه، كما ذكر أصحابُنا في الخلطة أنه لو أخذ القيمة أو الكبير عن الصغير فإنه يَرجِعُ أحدُ الخليطينِ على الآخر بذلك، وإطلاقُهم يَقتضي أنه يُجزِئُ.
ونظيرُ هذا من مسائل العبادات البدنية الصلاةُ، فإن المأمومَ يجب عليه متابعةُ الإمام فيما يَسُوغُ فيه الاجتهادُ وإن كان المأموم لا يراه، كما لو قنَتَ الإمامُ في الفجر، أو زاد في تكبير الجنازة إلى سبع. لكن لو أخلَّ في الصلاة بركن أو شرط في مذهب المأموم دون مذهبه فهذهِ فيها الخلاف. وهو يُشبه إجزاءَ إخراجِ الزكاة من بعض الوجوه، لكن إن كان الإمامُ لا يطلبُ منه الزكاةَ وإنما هو بَذلَها له،
(5/388)
فقبضها الإمام (1) باجتهاده، فهذا نظيرُ صلاتِه خلفَه؛ وإن كان الإمام يطلب منه الزكاة بحيث يجب طاعتُه، فهذا نظيرُ أن يُصلي خلفَه ما لا يُمكِنُه فِعلُه خلفَ غيرِه، كالجمعة والعيدين ونحوهما. ولهذا إذا قلنا: لا تَصِحُّ الصلاةُ خلفَ الفاسق، فإنه يجب فعلُ هذه الصلوات خلفَه، وفي الإعادة روايتان. فالأمرُ بفعل الصلاةِ خلفَه وبالإعادةِ يُشبِه الأمرَ بإيتاء الزكاة وبالإعادة.
ومع هذا فمذهب أهل السنة المأثور عن الصحابة أنه يُجزِئ دفعُ الزكاة إلى الإمام الذي يَجُورُ في قَسْمِها، فإجزاؤها مع أخذِها بالاجتهاد أولى، وإن كان ربُّ المال لا يُجزِئُه صَرفُها في غيرِ المصارف، لكن المأثور عن الصحابة الأمرُ بدفعِ الزكاة إليهم وبالصلاةِ خلفَهم.
والمفسدةُ في الزكاةِ أشدُّ، فإذا ساغ ذلك فهذا أسوغُ.
والسلف لم يأمروا مَن صلَّى خلفَهم بإعادة، ولا مَن دفعَ الزكاةَ إليهم بإعادة، ولهذا قال أحمد في رسالته في “السنة” (2): إن من أعاد الجمعة فهو مبتدع. لكن المسألتان واحدة، فالمتفق عليه حجة على المختلَف فيه، وتخرج في صورة الوفاقِ ما في صورة النزاع، فإن طائفة من السلف ذهبوا إلى أنه لا يدفع إليهم الزكاة، كعبيد بن عمير وغيره، وكان عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين رضي الله عنه، الذي انتشرت الرعيةُ في زمنه، وكثرت الأموالُ، وعدلَ فيها صادقًا بارًّا راشدًا تابعًا للحق، فوضعَ الخراجَ على ما فتحَه عَنْوةً،
__________
(1) في الأصل: “فقبضها الاجتهاده”.
(2) ضمن “طبقات الحنابلة” (1/ 244).
(5/389)
كأرضِ السوادِ ونحوِها، ووَضع ديوانَ العطاء للمقاتِلة وللذُّزيَّة، وكان عثمان بن حُنَيف على الخراج، وزيد بن ثابت -فيما أظن- على ديوان العطاء. وما زالت هذه التسميةُ معروفةً: “ديوان الخراج” وهو المستخرَج من الأموالِ السلطانية؛ و”ديوان العطاء” كديوان الجيش وديوان النفقات ونحو ذلك.
ولِوُلاَةِ الأمور من الملوك ودُوَلِهم في ذلك عاداتٌ واصطلاحات، بعضها مشروع، وبعضُها مجتهَد فيه، وبعضُها محرَّم، كما للقضاة والعلماء والمشايخ، منهم من هو من أهل العلم والعدلِ كأهل السنة، فيتبعون النصَّ تارة والاجتهادَ أُخرى؛ ومنهم أهل جهلٍ وظلمٍ كأهل البدع المشهورة من ذوي المقالات والعبادات، وذوي الجهل والجور من القضاة والولاة.
وكانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في غاية الاستقامة والسَّداد، بحيث لم يُمكِن الخوارجَ أن يَطعنوا فيهما فضلاً عن أهل السنة. وأما عثمان وعلي رضي الله عنهما فهما من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وسيرتهما سيرة العلم والعدل والهدى والرشاد والصدق والبر، لكن فيهما نوع مجتهَد فيه، والمجتهِد فيما اجتهد فيه إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطؤُه مغفور له، فاجتهاد الخلفاءِ أعظمُ وأعظمُ.
وأما عثمان فحصلَ منه اجتهاد في بعضِ قَسْمِ المال والتخصيصِ به، وفي بعض العقوبات هو فيها رضي الله عنه مجتهد، والعلماءُ منهم من يَرى رأيَه، ومنهم من لا يراه. وعلي رضي الله عنه حصل
(5/390)
منه اجتهادٌ في محاربة أهل القبلة، والعلماء منهم من يرى رأيَه، ومنهم من لا يراه. وبكل حالٍ فإمامتُهما ثابتة، ومنزلتُهما من الأمة منزلتُهما، لكن أهل البدع الخوارج الذين خرجوا على عثمان وعلى علي جعلوا آراءهم وأهواءَهم حاكمةً على كتاب الله وسنة رسوله وسيرةِ الخلفاءِ الراشدين، فاستحلُّوا بذلك الفتنةَ وسفكَ الدِّماءِ وغيرَ ذلك من المنكرات.
وأما مَن بعد الخلفاء الراشدين فلهم في تفاصيل قبضِ الأموالِ وصَرْفِها طرق (1) متنوعة:
منها ما هو حق منصوص موافق للكتاب والسنة والخلفاء الراشدين.
ومنها ما هو اجتهاد يَسُوغُ بين العلماء، وقد يسقط الوجوب بأعذارٍ، ويباحُ المحظورُ بأسباب، وليس هذا موضع تفصيل ذلك.
ومنها ما هو اجتهاد، لكن صدوره لعدوانٍ من المجتهد وتقصيرٍ منه، شابَ الرأي فيه الهوى، فاجتمعت فيه حسنة وسيئة. وهذا النوع كثير جدًّا.
ومنه ما هو معصية محضة لا شبهة فيه بتركِ واجب أو فعلِ محرَّمٍ.
وهذه الأنواع الأربعة موجودة في عامة تصرفاتهم من الحكم والقَسْم والعقوبات وغير ذلك، إما أن يوافق سنة الخلفاء أو لا يوافق، والذي لا يوافق إما أن يكون معذورًا فيه كعذر العلماء المجتهدين
__________
(1) في الأصل: “طريق”.
(5/391)
أو لا يكون كذلك، والذي لا يكون معذورًا فيه عذرًا شرعيًّا إما أن يكون فيه شبهة واجتهاد مع التقصير والعدوان أو لا يكون فيه شبهةٌ ولا تأويلٌ.
ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية وظفوا على الناس وظائف تُؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل، وإن كان التغيير قد وقع في أنواعِها وصفاتِها ومصارفِها، نعم كان السواد مخارجة عليه الخراج العُمَرِيّ، فلما كان في دولة المنصور -فيما أظن- نقله إلى المقاسمة، وجعل المقاسمة تعدل المخارجة كما فعلَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بخيبر. وهذا من الاجتهادات السائغة.
وأما استئثارُ وُلاةِ الأمور بالأموالِ والمحاباةُ بها فهذا قديم، بل قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – للأنصار: “إنكم ستَلْقُون بعدي أثرةً، فاصبروا حتى تَلقَوني على الحوض” (1). وقد أخبر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بحالِ الأمراء بعدَه في غيرِ حديثٍ، وكان الخلفاءُ هم المُطَاعِين في أمرِ الحرب والقتال وأمر الخراج والأموال، ولهم عُمَّالٌ ونُوَّاب على الحروب، وعُمَّال ونُوَّاب على الأموال، ويُسمُّون هذه ولاية الحرب وهذه ولاية الخراج.
ووزراؤهم الكبار ينوبون عنهم في الأمرين إلى أثناء الدولة العباسية بعد المئة الثالثة، فإنه ضَعُفَ أمرُ خلافةِ بني العباس وأمرُ وزرائهم بأسبابٍ جَرتْ، وضُيِّعَتْ بعضُ الأموال، وعَصَى عليهم قوم من النوّاب
__________
(1) أخرجه البخاري (3793) عن أنس، ومسلم (1845) عن أنس عن أسيد بن حضير.
(5/392)
بتفريطٍ جرى في الرجال والأموال. فذكر ثابت بن سنان بن ثابت بن قُرَّة فيما علمتُه من “التاريخ” (1) أنه في سنة أربع وعشرين وثلاث مئة فوَّض الراضي الخليفةُ الإمارةَ ورئاسةَ الجيش وأعمالَ الخراج وتدبيرَ سائرِ المملكة إلى مُقدَّم اسمُه محمد بن رائق، وجعلَه أمير الأمراء، وأمرَ بأن يُخطَب له على سائر منابر المملكة، ولم يكن قبل ذلك شيء من ذلك.
قال: وبَطَلَ قبل ذلك أمرُ الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من النواحي ولا الدواوين، ولا كان له اسم غيرُ اسمِ الوزارة فقط، وأن يحضرَ في أيام المواكب دار السلطان بسواد وسيف ومنطقةٍ، ويقفَ ساكنًا. وصار ابنُ رائق وكاتبُه ينظرانِ فيما كان الوزراءُ ينظرون فيه، وكذلك كلُّ من تقلَّد الإمارةَ بعد ابن رائق، وصارت أموالُ النواحي تُحمل إلى خزائن الأمراء، فيأمرون فيها ويُنفِقون منها، ويُطلِقون لنفقاتِ السلطان ما يريدون، وبطلت بيوتُ الأموال.
ثم إنه بعد ذلك حدثَتْ دولةُ بني بُويه الأعاجم، وغَلبوا على الخلافة، وازداد الأمرُ عما كان عليه، وبَقُوا قريبًا من مئةِ عام إلى بعد المئة الرابعة بنحو من ثلاثين سنة أو نحوها حدثت دولة السلاجقة الأتراك، وغلبوا على الخلافة أيضًا.
وكان أحيانا تقوى دولةُ بني العباس بحسن تدبير وزرائهم -كما جرى في وزارة ابن هبيرة- بما يفعلونه من العدل واتباع الشريعة،
__________
(1) لم يصل إلينا. وانظر “البداية والنهاية” (15/ 95، 96).
(5/393)
وينهضون به من الجهاد، وكان ملوك النواحي يعطونهم السّكة والخطبة وطاعةً يسيرة تُشبه قبول الشفاعة. فأما الولايات وإمارة الحروب وجباية الأموال وإَنفاقها فكانوا خارجين فيه عن أمر الخلفاء.
وكانت سيرة الملوك تختلف، فمنهم العدل المتبع للشريعة ذو القوة والأمانة، المقيم للجهاد وللعدل، كنور الدين محمود بن زنكي بالشام والجزيرة ومصر؛ ومنهم الملك المسلم المعظِّم لأمرِ الله ورسوله، كصلاح الدين؛ ومنهم غير ذلك أقسام يطول شرحُها.
وهكذا هم في وضع الوظائف، فمن الملوك والوزراء من يُسرِف فيها وضعًا وجبايةً؛ ومنهم من يَستَنُّ بما فُعِل قبله، ويجري على العادة، فيجري هو والذي قبلَه على القسم الرابع؛ ومنهم من يجتهد في ذلك اجتهادًا ملكيًّا يُشبه القسم الثالث؛ ومنهم من يقصد اتباعَ الشريعة وإسقاطَ ما يخالفُهَا، كما فعلَ نور الدين لما أسقطَ الكُلَفَ السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر والجزيرة، وكانت أموالاً عظيمةً جدًّا، وزاد الله البركات، وفَتحَ البلادَ وقَمعَ العدوَّ بسبب عدلِه وإحسانِه.
ثمَّ هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في سنةِ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وسنةِ خلفائه الراشدين، ولا ذكرها أهل العلم المصنِّفون للشريعة في كتب الفقه من الحديث والرأي، هي حرام عند المسلمين، حتى [ذكر ابن حزم] (1) إجماعَ المسلمين على ذلك، فقال (2). ومع هذا
__________
(1) الزيادة من النسخة البغدادية.
(2) كذا في الأصل، ولم ينقل المؤلف النص. وانظر “مراتب الإجماع” (ص 121).
(5/394)
فبعض من وضعَ بعضَها وَضَعه بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك الفتوى والرأي من بعض علماء ذلك الوقت ووُزَرائِه، فإنه [لمّا] قامت دولة السلاجقة ونصروا الخلافة العباسية، وأعادوا الخليفة القائم إلى بغداد، بعد أن كان أمراءُ مصر من أهل البدع أولئك الروافض قد قهروه وأخرجوه عن بغداد، وأظهروا شعارَ البدع في بلاد الإسلام، وهي التي تُسمَّى فتنة البساسيري في نصف المئة الخامسة= حدثت أمورٌ:
منها: بناء المدارس والخوانق ووقفُ الوقوف عليها، وهي المدارس النظاميات بالعراق وغيره، والرباطات كرباط شيخ الشيوخ وغير ذلك.
ومنها: ذهاب الدولة الأموية من المغرب وانتقال الأمر إلى ملوك الطوائف.
وصنّف أبو المعالي الجويني كتابًا للنظام سماه “غياث الأمَم في التياث الظلم”، وذكر فيه (1) قاعدة في وضع الوظائف عند الحاجة إليها للجهاد، فإن الجهاد بالنفوس والأموال واجب، بل هو من أعظم واجبات الدين، ولا يمكن حصولُ الجهاد إلاّ بأموالٍ تُقَام بها الجيوش، إذْ أكثر النّاسِ لو تُرِكُوا باختيارهم لما جاهدوا لا بأنفسهم ولا بأموالهم، وإن تُرِكَ جمع الأموالِ وتحصيلُها حتى يحدث فتق عظيم من عدوّ أو خارجي كان تفريطًا وتضييعًا. فالرأي أن تُجمعَ الأموالُ ويُرصَدَ للحاجة.
وطريق ذلك أن توظَّف وظائفُ راتبةٌ لا يَحصُل بها ضررٌ، ويَحصُل
__________
(1) ص 283 وما بعدها.
(5/395)
بها المصلحة المطلوبةُ من إقامة الجهاد. والوظائف الراتبة لابدّ أن تكون على الأمور العادية، فتارةً وظَّفوها على المعاوضات والأملاك، مثل أن يضعوا على البائع والمشتري في الدواب والحبوب والثمار وسائر الأطعمة والثياب مقدارًا، إما على مقدار المبيع وإمّا على مقدار الثمن، ويضعوا على الجعالات والإجارات، ويضعوا على العَقار من جنس الخراج الشرعي، وكان ما وضعوه تارةً يُشبه الزكاة المشروعة من كونه يُوجَد في العام على مقدار؛ وتارةً يُشبِه الخراج الشرعي؛ وتارةً يُشبِه ما يُؤخَذ من تجار أهل الذمة والحرب.
ومنهم من يَعتدي، فيضع على أثمان الخمور ومهور البغايا ونحو ذلك مما أصلُه محرَّم بإجماع المسلمين، ومنهم من يضعٍ على أجور المغاني من الرجال والنساء، فإن الأثمان والأجور تارة تكون حلالاً في نفسِها، وإنما المحرَّم الظلم فيها، كغالب الأثمان والأجور، وتارةً تكون في نفسها حرامًا، كأثمان الخمور ومُهُور البغايا. وكان بعد موت الملك العادل بالشام قد وضعه ابنه ذلك على دار الخمر (1) والفواحش، فبَقِيَ غيرَ ممنوعٍ من جهة السلطان، لما له عليه من الوظيفة، وكان ذلك سنة خمس عشرة [وست مئة].
وفي ذلك الوقت ظهرت دولة المغل جنكسخان بأرض المشرق، واستولى على أرض الإسلام، وظهرت النصارى بمصر في مملكة الأفرون، وظهرت بدع في العلماء والعُبَّاد، كبحوث ابن الخطيب (2)
__________
(1) في الأصل: “ودار الخمر”.
(2) أي كتب الرازي الكلامية والفلسفية.
(5/396)
وجست العميدي (1) وتصوّف ابن العربي وخِرقة اليونسية وبعض الأحمدية والعَدَوية وغير ذلك.
وحقيقة الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث أو الرابع، فإن هذا إذا صدر باجتهاد فهو في الأصلِ مشوب بهوىً ومقرون بتقصيرٍ أو عدوان، وإن التقصير أو العدوان صادر أيضًا من أكثر الرعية، فإن كثيرًا منهم أو أكثرهم لو تُرِكوا لما أدَّوا الواجبات التي عليهم، من الزكوات الواجبة والنفقات الواجبة والجهاد الواجب بالأنفس والأموال، كما أنه صادرٌ من كثير من الولاة أو أكثرهم بما يقبضونه من الأموال بغير حق، ويَصرِفونه في غير مَصرِفه، ويتركون أيضًا ما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فجمعُ هذه الأموال وصرفُها هي من مسائلِ الفتن، مثل الحروب الواقعة بين الأمراء بآراءٍ وأهواءٍ، وهي مشتملة على طاعاتٍ ومعاصِي وحسناتٍ وسيئاتٍ، وأمور مجتَهد فيها تارةً بهوىً وتارةً بغير هوىً اجتهادًا اعتقاديًّا أو عمليًّا، نظير الطرائق والمذاهب من الاعتقادات والفتاوى والأحكام، وأنواع الزهادات والعبادات والأخلاق، وما في ذلك من مسائل النزاع بين أهل العلم والدين في الأصول والفروع والعبادات والأحوال، فإنها أيضًا مشتملةٌ على حسناتٍ وسيئاتٍ، طاعاتٍ ومعاصي، وأمورٍ مجتهدٍ فيها تارةً بهوىً وتارةً بغير هوىً اجتهادًا اعتقاديًّا أو عمليًّا.
__________
(1) أي طريقة العميدي في الجدل والخلاف، وهي طريقة ابتكرها وقلَّده فيها المتأخرون.
(5/397)
فالواجب أن ما شهد الدليلُ الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحتِه عُمِل به، ثم يُعامَل الرجال والأموالُ بما تُوجِبُه الشريعةُ، فيُعفَى عما عَفَتْ عنه، وإن تضمن تركَ واجبٍ أو فعلَ محرَّمٍ، ويثنَى على ما أثنت عليه، وإن كان فيه سيئات ومفاسد مرجوحة. وهذه المشتبهات في الأقوال والأعمالِ والأموالِ داخلة في الحديث الذي هو أحد مباني الإسلام، حديث النعمان بن بشير المشهور في الصحاح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “الحلال بَيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يَعلمهنَّ كثير من الناس، فمن تَرك الشُّبُهاتِ استبرأ لدينه وعِرضِه، ومن وقع في الشبهاتِ وَقَعَ في الحرام، كالراعي يَرعَى حولَ الحِمَى يُوشك أن يَقَع فيه، ألا وإن لكلِّ مَلِكٍ حِمىً، وإن حِمَى الله محارمُه. أَلا وإن في الجسد مُضْغَةً إذا صَلحَتْ صَلَحَ لها سائر الجَسَد، وإذا فَسَدتْ فَسَدَ لها سائر الجسد، ألا وهي القلب”.
فإنه ضمن هذا الحديث الأكل والشرب من الطيبات والعمل الصالح، كما أمر به في قوله: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) (2)، إذ أمر به المرسلين والمؤمنين، كما في حديث أبي هريرة المخرج في صحيح مسلم (3). وذكر فعل المعروف وترك المنكر الذي هو صلاح القلب والجسد والحلال والحرام، كما قال: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (4).
__________
(1) البخاري (52 ومواضع أخرى) ومسلم (1599).
(2) سورة المؤمنون: 51.
(3) برقم (1015).
(4) سورة الأعراف: 157.
(5/398)
وذكر أن الشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فدلَّ ذلك على أن من الناس من يعلمها، فمن تبيَّنت له الشبهاتُ لم يبقَ في حقِّه شبهةٌ، ومن لم تتبيَّنْ له فهي في حقِّه شبهةٌ، إذ التبيُّن والاشتباه من الأمور النسبية، فقد يكون الشيء متبينًا لشخصٍ مشتبهًا على الآخر.
وبيَّن أن الحَزْمَ تركُ الشبهات، والشبهات قد تكون في المأمور به، وقد تكون في المنهي، فالحزْمُ في ذلك الفعلُ وفي هذا التركُ، فإذا شكَّ في الأمر هل هو واجبٌ أو محرَّمٌ فهنا هو المشكلُ جدًّا، كما في الاعتقادات، فلا يحكم بوجوبه إلاّ بدليل ولا بتحريمه إلا بدليل، فقد لا يكون لا واجبًا ولا محرَّمًا وإن كان اعتقادًا، إذْ ليس كلُّ اعتقادٍ مطلقٍ أوجبَه الله على الخلق، بل الاعتقاد إمّا صواب وإمّا خطأ، وليس كلُّ خطأٍ حرَّمَه الله، بل قد عفا الله عن أشياءَ لم يُوجِبْها ولم يُحرِّمْها. والله أعلم.
(تم بحمد الله تعالى وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، في خامس عشر من شعبان المكرم سنة أربع عشرة وثمان مئة، بمدرسة أبي عمر قدَّس الله تعالى روحه ونوَّر ضريحه).
(5/399)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذه مجموعة جديدة من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية التي لم تُنشَر ضمن “مجموع الفتاوى”، وقد اعتمدتُ في تحقيقها وإخراجها على أصولٍ خطية موجودة في مكتبات مختلفة كما سيأتي وصفها، وهذه الأصول تتفاوت في الصحة والجودة، وبعضها كثيرة التصحيف والتحريف تطلَّب استخراجُ النصّ الصحيح منها جهدًا كبيرًا. وقد كنت أقف أحيانًا ساعاتٍ لإصلاح الأخطاء والتحريفات في بعض الرسائل، وأقرأ الفقرة مرات، وأراجع كلام المؤلف في الموضوع نفسه في كتاباته الأخرى، حتى أهتدي إلى الصواب أو ما يقاربه ويستقيم السياق.
ومنهجي فيها هو الذي التزمتُ به في المجلدات السابقة، من ضبط النص وتقسيمه إلى فقرات واستخدام علامات الترقيم، والتخريج المختصر للأحاديث، وتوثيق النقول، وعدم استعمال الأقواس إلاّ عند إضافة ما لا بدَّ منه على الأصل، وعدم الإشارة إلى التحريفات والأخطاء الواضحة.
أما التعريف بالأعلام والأماكن والقبائل، وشرح المسائل الفقهية والكلامية واللغوية، وجمع طرق الأحاديث واستقصاء الكلام حولها، فليس مكانه التعليق على النصّ المحقق، بل ينبغي أن يُفرد لكل غرضٍ منها كتابٌ مستقل كما فعلَ ذلك سلفُنا رحمهم الله.
(مقدمة 6/5)
تحتوي هذه المجموعة على رسائل مهمة لشيخ الإسلام في موضوعات مختلفة، وهي ثابتة النسبة له، وقد نُسِب كثير منها له في النسخ الخطية، والبقية التي ليس عليها اسمه مكتوبة بأسلوبه المتميز
في العرض والنقد والإحالة إلى مواضع أخرى من كتاباته، وتتناول الموضوعات التي عُرِف بالكتابة فيها والاحتجاج لها. ويتفق رأيه فيها هنا مع رأيه في كتبه الأخرى.
وقد بحثت في فهرس مؤلفاته عن عناوين رسائل هذه المجموعة، فلم أجد إلاّ ثلاثة منها، وهي: “قاعدة في مواقيت الصلاة” و”قاعدة في الجمع بين الصلاتين” (العقود الدرية ص 46) و”قاعدة في ضمان البساتين هل يجوز أم لا؟ ” (العقود الدرية ص 48). ولعل الرسالة الثانية عشرة (فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين) هي المذكورة في “العقود” بعنوانين منفصلين، ويمكن أن تكون غيرها، لكثرة المؤلفات والقواعد التي كتبها الشيخ في هذه الموضوعات الفقهية، حتى عجز المترجمون له عن إحصائها.
والرسالة الثامنة عشرة (مسألة في ضمان البساتين والأرض) هي المذكورة بعنوان “قاعدة في ضمان البساتين” في “العقود”، وقد نُشِر منها جزء في “مجموع الفتاوى” (30/ 220 وما بعدها)، وينقصه الثلث الأخير، وفيه زيادات في أوله عما هنا، لأن الناسخ هنا اختصر.
أما بقية الرسائل والمسائل فلم أجد لها عناوين محدَّدة في كتب التراجم، فاعتمدت في إثباتها على النسخ الخطية، واستنبطت بعضها من أوائل هذه الرسائل.
(مقدمة 6/6)
* وصف الأصول المعتمدة
اعتمدت في إخراج هذه الرسائل على عدة مجاميع ورسائل مفردة من مكتبات مختلفة، وفيما يلي وصفها مرتبةً حسب ورودها في المجموعة:
(1) “قاعدة في الإخلاص لله تعالى، وعبادته وحدَه لا شريك له هي حقيقة الدين … “: توجد نسخته الخطية ضمن مجموعة في مكتبة جار الله بإستانبول برقم [1729] (ق 1 – 18 أ)، وعنوان هذه المجموعة مطموس في الصفحة الأولى منها، وقد كُتِب في أعلاها “فهرست ما في
هذه المجموعة … ” ثم ذكرتْ عناوين بعض الرسائل. وعليها تملكٌ بخط مالكه ظهر منه: “تزايدت نعمُ الله على أبي عبد الله ولي الدين جار الله سنة 1143”.
والمجموعة في 122 ورقة، كتبتْ بخط نسخي جيّد، وآخرها ناقص، فلم يظهر لنا تاريخ النسخ واسم الناسخ، ولعلها من خطوط القرن التاسع، وفي الصفحات الأولى منها طمس ذهب بكثير من الكلمات. ومع كونها مجوَّدةً في الخط فهي كثيرة التصحيف والتحريف، وغالبًا ما يرسم الناسخ الكلمةَ ويُعجِمها فيُبعِد النجعة، وفيها غير قليل من الأخطاء اللغوية والنحوية.
وتحوي المجموعة تسع رسائل للشيخ، نشرتْ ثلاث منها ضمن “مجموع الفتاوى”، والبقية تُنشَر ههنا.
(2) “فصل في حق الله على عباده، وقسْمِه من أم القرآن، وما
(مقدمة 6/7)
يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه ونحو ذلك”: هي الرسالة الثانية ضمن المجموعة السابقة (ق 18 أ-28 أ). وفي آخرها: “تمت هذه القاعدة بحمد الله وعونه، والحمد لله وحده”.
(3) “فصل في صفات المنافقين”: هي الرسالة الثالثة ضمن المجموعة السابقة (ق 28 ب-35 أ). وينتهي الكلام في النسخة دون الإشعار بنهايتها، فلعل آخرها ناقص.
(4) “فصل في التوحيد”: هي الرسالة الرابعة ضمن المجموعة السابقة (ق 35 ب-56 ب).
(5) “فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل صالح”: ضمن المجموعة السابقة (ق 56 ب-100 ب).
(6) “قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله وطلبه والتعليل به ونحو ذلك”: أصلها ضمن المجموعة السابقة (ق 101 أ-106 ب).
(7) “فصل في الإسلام وضدِّه”: يُوجد أصله ضمن مجموعة خطية في مكتبة جامعة أم القرى بمكة المكرمة برقم [1491] (ق 13 ب-22 ب)، وهي بخط نسخي جيّد، كتبها أحمد بن أبي بكر الطبراني الكاملي، وجمع فيها مختارات من كتب مختلفة، ومنها بعض رسائل شيخ الإسلام. ولعل الناسخ من القرن التاسع، وقد بحثتُ عن ترجمته في المصادر، فوجدت في “شذرات الذهب” (7/ 212): شهاب
(مقدمة 6/8)
الدين أحمد بن أبي بكر بن علي المعروف ببواب الكاملية الحنبلي (ت 835)، قال العليمي في طبقاته: عُني بالحديث كثيرًا وسمع، وكان يتغالى في حبّ الشيخ تقي الدين، ويأخذ بأقواله وأفعاله، وكتب بخطه تاريخ ابن كثير، وزاد فيه أشياء حسنة. فليُنظَر هل الناسخ هو المترجم له هناك؟
ونسخة هذه الرسالة ناقصة الآخر، والورقة التي تليها في المجموعة ليست متصلة بما قبلها. والنسخة صحيحة، يندر فيها وجود الخطأ، فإنها بخط عالم.
(8) مسألة في مقتل الحسين وحكم يزيد: توجد نسخته ضمن مجموعة خطية بعنوان “المسائل والأجوبة” في مكتبة بلدية الإسكندرية برقم [4 فقه حنبلي] (ق 14 ب-25 أ). وقد كتبت بخط نسخي جميل، وفي آخرها ذكر الناسخ وتاريخ النسخ بقوله: “وكتب في سادس عشر من ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، على يد الفقير محمد بن عيسى بن أبي الفضلى الشافعي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين”.
وعدد أوراق هذه المجموعة 85 ورقة، وأولها ناقص، ولا ندري مقدار النقص، فقد بدأت بالأسطر الأخيرة من فتوى لشيخ الإسلام ضمن “مجموع الفتاوى” (24/ 10 – 13). والمجموعة تحتوي على مسائل مهمة للشيخ لم يُنشر بعضها ضمن “مجموع الفتاوى”.
(9) “مسألة في الاستغفار”: وصلت إلينا قطعة منها ضمن المجموعة الموصوفة سابقًا برقم (7)، (الورقة 12 أ- 13 ب). ولا
(مقدمة 6/9)
ندري مقدار ما ضاع من أولها.
(10) “مسائل في الصلاة”: هي ضمن المجموعة السابقة برقم (7)، (ق 23 أ-26 ب)، وهي مجموعة فصول في مسائل من الصلاة، لم يَصل إلينا أولها، ولا نعرف مقداره، ولم نجد منها نسخة
أخرى تكمِل النقص.
(11) “فصل في الصلاة الوسطى”: ضمن المجموعة السابقة برقم (7)، (ق 26 ب-30 ب)، وآخرها ناقص، ولم نجد في المجموعة ما يكمل النقص.
(12) “فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين”: وصلت إلينا نسختان منه، إحداهما: ضمن “الكواكب الدراري” (المجلد 83) نسخة دار الكتب الظاهرية برقم [578] (ق 9 ب-21 ب)، وليس عليها تاريخ النسخ، ولكنها كتبت حوالي سنة 830 كما يظهر من تاريخ نسخ الأجزاء الأخرى الموجودة من الكتاب، وهي نسخة جيدة قليلة الأخطاء.
والثانية: مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة برقم [7921 فلم] عن مصدر مجهول، ولعلها كانت في مصر، فقد كتب أحد القراء في أسفل الصفحة الأولى منها: “طالعه ورقم أوراقه الفقير إلى عفو ربه أبو نهلة أحمد بن عبد المجيد بن هريدي بالقاهرة المحمية في الخامس من ربيع الأول سنة 1400 من الهجرة النبوية”.
ويبدو من دراستها أنها حديثة الخط، وقد جاء في آخرها: “بلغ
(مقدمة 6/10)
مقابلةً على الأم المنقول منها، وهي نسخة مضطربة”. ولعل الأم المنقول منها هي النسخة الموجودة ضمن “الكواكب”، فلا فرقَ بين النسختين إلاّ نادرًا، وكان الثانية طبق الأولى.
(13) “مسألة في رجل فقير وعليه دَيْن، هل لأخيه الغني دَفْعُ الزكاةِ إليه؟ “: أصلها ضمن “أجوبة عن مسائل فقهية” في مكتبة شهيد علي بإستانبول برقم [2751] (ق 143 أ-145 أ)، والنسخة بخط نسخي جيد، كتبها محمد بن كامل الشافعي كما في الورقة (173 ب). ولعلها من خطوط القرن التاسع.
(14) “مسألة في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد”: هي ضمن المجموعة السابقة (ق 161 أ-170 أ)، ويبدو أن الناسخ لم ينسخها بتمامها، فقد اختصر كلام الشيخ وحذف منه، كما أشار إلى ذلك في آخرها بقوله: “واستشهد بغير ذلك، حذفتُه اختصارًا لضيق الوقت”، ودلَّ عليه بقوله: “ثم قال” في أثناء المسألة مرارًا. وليتَه نسخَها على وجهها!
(15) “مسألة في أكل لحم الضبع والثعلب وسنَّور البرّ وابن آوى وجلودها”: نسختها في مكتبة حسن حسني عبد الوهاب ضمن دار الكتب الوطنية بتونس برقم [18567]، وهي مكتوبة بخط نسخي قديم، والمسألة في صفحة واحدة، وقبلها “فتوى فيمن يؤخر الصلاة عن وقتها” (= ضمن “مجموع الفتاوى” 22/ 27 – 38 ثم 24/ 27 – 28)، وفي أولها ذِكْر الشيخ والدعاء له بقوله: “أطال الله بقاءه” مما يدلُّ على أنها كتبت في حياته.
(مقدمة 6/11)
(16) “مسألة في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعُها دون الجلد؟ “: توجد نسختها الخطية ضمن المجموعة الموصوفة برقم (13)، (ق 160 ب-161 ب).
(17) “مسألة في إجارة الإقطاع”: هي ضمن المجموعة التي وُصِفت برقم (8)، (ق 1 أ-3 ب).
(18) “مسألة في ضمان البساتين والأرض”: أصلها ضمن المجموعة الموصوفة برقم (13)، (ق 145 أ-157 أ)، وجاء في آخرها: “قال الناقل لنفسه -عفا الله عنه-: اختصرتُ جواب الشيخ تقي الدين، وحذفتُ منه المكرر وغيره، والله أعلم”. وليتَه نقلها بتمامها، ولم يحذف منها شيئًا!
وبعد فهذا وصف موجز للأصول المعتمدة، وأرجو أنني وُفّقتُ في قراءتها وإخراجها في هذه المجموعة. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وله الحمد في الأولى والآخرة، عليه توكلتُ وإليه أنيب.
محمد عزير شمس
(مقدمة 6/12)
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسِّر ولا تعسِّر
قال [الشيخ الإمام] (1) العالم الزاهد العابد الورع أبو العباس أحمد ابن الشيخ [الإمام العالم] عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العالم أبي البركات ابن تيمية رضي الله [عنه] وأرضاه:
الحمد لله الأحد الصَّمد، الذي لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى كل أحد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا بلا عدد.
أما بعد، فهذه قاعدةٌ في الإخلاص لله تعالى، وعبادته وحده لا شريكَ له، هي حقيقة الدين، ومقصود الرسالة، وزبدة الكتاب، ولها خُلِقَ الخلقُ، وهي الغاية التي إليها ينتهون، وبذكرها تَحصُل السعادةُ لأوليائه، وبتركها تكون الشقاوةُ [لأعدائه]، وهي حقيقة لا إله إلا الله، وعليها اتفقت الرسل، ولها قامت السموات والأرض.
وقد تكلمتُ على هذا الأصل بأنواع من القواعد المتقدمة، مثل: قاعدة الشهادتين، وقاعدة المحبة والإرادة، وقاعدة الأعمال بالنيات. والمقصود هنا أن كل عمل يعمله عامل فلا بدَّ فيه من شيئين: من مرادٍ بذلك العمل هو المطلوب المقصود، ومن [حركةٍ إلى] المراد وهي الوسيلة، فلا بد من الوسائل والمقاصد … (2) المطلوبة بالوسائل،
__________
(1) ما بين المعقوفتين مطموس في الأصل، وكذا فيما يأتي.
(2) هنا طمس في الأصل، وكذا في المواضع الآتية.
(6/5)
والإرادة في الباطن … الظاهر، فتقوم بالجسم. فنسبة النية إلى العمل الظاهر نسبةُ الروح إلى الجسد، … أرواح أجسامها أجسام أرواحها النيات، ولا بدّ لكل جسم حي من روح، ولا بدّ لكل جسم حي من إرادة ونية.
ثم إن الروح إن كانت (1) طيبةً كان الجسم طيباً، وإن كانت خبيثة كان الجسم خبيثاً، فكذلك العمل والنيّة، ولهذا قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث المشهور: “إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نَوَى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ” (2).
فهذا اللفظ عام (3) في كل عمل كائنًا ما كان، هو بنيَّته، سواء كانت صورته صورة العبادات، كالطهارة والصلاة والحج، أو صورة العادات، كالسفر والاكل والشرب وغير ذلك.
وسبب الحديث كان مما صورتُه صورةُ العادات من وجه، [وصورة العبادات من وجه، فالعادة] من جهة كونه سفراً، وهو السفر من مكة إلى المدينة، والدين (4) من جهة كونِ السفرِ كان إلى دار الإسلام ومُقامِ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ومن معه من المؤمنين المجاهدين، وبهذا الاعتبار سمي هجرة، ثم إن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جعله نوعين: أحدهما: ما كان
__________
(1) غير واضحة في الأصل.
(2) أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب.
(3) في الأصل: “عاما”.
(4) الكلمة غير واضحة في الأصل.
(6/6)
إلى الله ورسوله، والثاني: ما كان لغير ذلك، مثل السفر (1) للنكاح.
وقوله: “وإنما لكل امرئ ما نوى” يُوجب أنه ليس للعامل من العمل إلا ما نواه، وهو المقصود المراد بالعملَ. وهذا الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية كما جعله بعض الفقهاء، وهو كلام تام لا يحتاج إلى إضمار قَبول الأعمال أو غير ذلك، كما يُضمِره بعضُ الفقهاء، وإنما حَمَلَهم على ذلك توهُّمُهم أن النية المراد بها النيةُ المقبولةُ، أو الصحيحةُ المأمور بها، فزادوا في لفظ الحديث ما لم يُذكَر، ونَقَصُوا من معناه ما أريد. والحديث من جوامع الكلم، ومن أمهات الدين، والأصل في الكلام عدم الإضمار وعدم التخصيص.
ثمَّ إنّ هذا (2) ممتنع، لأنه قال في تمام الحديث: “فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها”، فقد جمعَ في العمل الذي هو الهجرة بين الثنتين: المقبولة والمردودة، والمحمودة والمذمومة، والصحيحة والفاسدة، وقوله: “وإنما لكل امرئ ما نوى” يَعُمُّ من نوى المقصود المحمود، وهو من أراد الله ورسوله، ومن نَوَى غير ذلك، وهو المرأة والمال، فكيف يجوز أن يقال مع ذلك: إنه أراد قبولَ الأعمال وصحتَها بالنيات، أو صحة الأعمال الدينية؟
ثم ما أضمروه يَرِدُ عليه نوعٌ من الفساد ليس هذا موضعه.
__________
(1) الكلمة مطموسة في الأصل.
(2) في الأصل: “هنا”.
(6/7)
ثم الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود.
أما الأول: فكلُّ حيٍّ يتحرك بإرادته واختياره فلا بد أن يكون له في ذلك العمل مطلوب مَّا، ولهذا قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنّ أصدقَ الأسماء الحارثُ وهمَّام” (1)، فالحارث: الكاسب العامل، والهمام: صاحب الهمّ الذي يكون له إرادة وقصد. وقد بينتُ فيما تقدم أن طلبَ المخلوقِ لا بدَّ أن يتعلق بغيره، فكما أنه لا يكون فاعلَ نفسه، لا يكون مطلوبَ نفسه، وبينتُ أن المخلوق كما لا يكون فاعلاً، لا يكون مطلوبًا، فليس المطلوب الحقيقي إلا الله، ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.
والغرض هنا أن المخلوق لا بدَّ له في كل عمل من مطلوب ومرادٍ، وحظ ونصيب، لا يمكن غير ذلك، فاعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ، سواءً كاًن من الملائكة أو النبيين أو الصدِّيقين أو الشهداء أو الصالحين أو الجن أو الشياطين أو الكفار والمنافقين، فما نسمعه من الكلمات المأثورة عن بعض المشايخ مما ينافي هذا فأحد الأمرين
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 345) والبخاري في الأدب المفرد (814) وأبو داود (4950) من حديث أبي وهب الجشمي، وفي إسناده علة بيَّنها ابن أبي حاتم في “العلل” (2/ 312،313)، مفادها أن أبا وهب هو الكلاعي التابعيّ لا الجشمي الصحابي، وعلى هذا فالحديث مرسل. وأخرجه ابن وهب في “الجامع” (ص 7) عن عبد الوهاب بن بخت مرسلاً، ورواه أيضاً عن عبد الله بن عامر اليحصبي مرسلاً. وصححه الألباني في الصحيحة (1040) بمجموع هذه الطرق.
(6/8)
فيه لازم: إما أنه لفظ مجملٌ لم يفهم مراد صاحبه، أو صاحبه غالِطٌ فيما أمر به أو أخبر به.
مثالُ ذلك قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل.
فهذا الكلام إذا أريد به في جانب الله أن يكون مفوّضاً إليه أموره فيما يقدر عليه مما ليس فيه ترك واجب ولا مستحب، فهذا معنى صحيح، لكن دلالة اللفظ عليه بعيدة، وظاهرُه يُعطي أنه لا يكون له من نفسه حركة قط حتى تُحرَّك تحريكًا جبرياً، فهذا باطل ممتنع. ثم إن الممكن منه محرَّم في الدين على الإطلاق، وذلك أن الميت لا تقوم به حركةٌ ببدنه ولا إرادة تحرك بدنه، والحي ليس كذلك، فإن جسده يتحرك حركة اختيارية (1)، وهذا أمر لا بد منه، فلا بد من الحركة الاختيارية، ويمتنع أن يُحرّكَ حركةً ينتفي حكمُ إرادتِه فيها، فالأمر فيه عكس الميت من وجهين: الوجود والعدم، فإن الميت لا يتحرك بدنه في العادة باختياره، وهو يُحرَّك دائمًا بغير اختياره، وقول المطلق احتراز على المقيد ونحوه ممن غسّل، فذاك لا فعلَ له بحالٍ، فهذا بطلانُه وامتناعُه.
وأما مخالفتُه للدين والشريعة، فإن الله لم يأمرنا بعدم الإرادة والحركة، ولا مراده في دينه منا أن نكون مسلوبي (2) الاختيار والحركة
__________
(1) في الأصل: “اختياره”.
(2) في الأصل: “مسلوبين”.
(6/9)
والعمل، وإنما المراد منا أن نكون مطيعين له ولرسوله، وأن تكون حركتُنا واختيارنا تبعاً لأمره الذي بعث به رسوله، فعلينا أن نختار ونعمل ما أوجب علينا عمله واختياره، وهو يحب لنا ويرضى أن نختار ونعمل ما يستحب لنا في دينه، ويعاقبنا على عدم الإرادة والعمل المستحب.
وهنا قد تغلط طائفة من المتصوفة فيقولون: ما المراد؟ (1) قد يستعملون ذلك فيما فيه ترك مستحبات، وقد يتعدَّون إلى ما فيه ترك واجبات، فيقال: ليس المراد منا الانقياد لكل حكم قاهر، ولا الاستسلام لكل ذي سلطان قادر، وإنما المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له، وطاعة أمره ونهيه: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (2)، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)) (3). فإن الدين: الإيمان والبر والتقوى وطاعة الله ورسوله والإحسان والعمل الصالح ونحو ذلك هو المطلوب منا والمراد بنا في دين الله تعالى وكتابه، فأما الحوادث التي تكون بغير أفعالنا فالأقسام فيها ثلاثة:
تارةً نُؤمَر بدفعها بالباطن أو الظاهر، كما يُؤمَر بجهاد الأعداء عن الدين.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) سورة النساء: 69.
(3) سورة النساء: 13.
(6/10)
وتارةً نُؤمَر بالصبر عليها، وهو ما قُضي من المصائب ولا فائدةَ في الجزع عليه، كالمصائب في الأنفس والأموال والأعراض، والرضى بهذه أعظم من الصبر. وهل هو واجب أو مستحب، على قولين أصحُّهما أنه مستحب.
وتارة نُخيَّر بين الأمرين بين دفعِها وقبولها، وإن كان قد يترجح أحدُهما، كدفع الصائل عن المال، وكالتداوي أحيانًا ونحو ذلك، وقد فصَّلنا مسائل هذا الباب في غير هذا الموضع.
وكذلك الأمور التي ليست حاصلةً عندنا، منها ما نُؤمَر بطلبه واستعانة الله عليه، كأداء الواجبات، ومنها ما نُنهَى عن طلبه كالظلم، ومنها ما نُخيَّر بين الأمرين، فكيف يقال مع هذا: إن العبدَ ينبغي له أن يكون كالميِّت بين يدي الغاسل؟ هذا مع الله.
وأما كونه كذلك مع الشيخ ففيه تنزيلُ الشيخ منزلةَ الرسول، وهذا على إطلاقه باطل، لكن فيه تفصيل ليس هذا موضعه.
ومما يُغلَط فيه ما يُذكَر عن الشيخ أبي يزيد رضي الله عنه أنه قال في بعض مناجاته لما قيل له: ماذا تريد؟ فقال: أريد ألاَّ أريدَ، لأني أنا المراد وأنت المريد. ويتحذلقُ بعضُهم على أبي يزيد (1)، فيقول: فقد أراد بقوله “أريد”. وهذا الاعترض خطأ لوجهين:
أحدهما: أنه من قيل له: ماذا تريد لم يُطلَب منه عدم الإرادة، وإنما
__________
(1) في الأصل: “أبو يزيد”.
(6/11)
طُلِب منه تعيينُ المراد.
الثاني: أن انتفاء الإرادة ممتنع، وهو محزَمٌ، بل عليه أن يريد ما أراده منه، ولا بدَّ له من ذلك.
وأما قوله: “أريد أن لا أريد، لأنِّي أنا المراد وأنت المريد”، فلا ينبغي أن يفهم من قوله: “أن لا أريد” أن لا تكون لي إرادة، فإن هذا باطل محرم، وإنما أراد أن لا يكون ابتداءُ الإرادة مني، بل إرادتي تابعة لك لأنك أنت مرادي، فأريد أن لا أريد إلا إياك. وهذا حقيقة الحنيفية والإخلاص، فإذا كنتُ لا أريد إلا إياك لم أحب (1) ولا أفعل إلا ما أمرتني به، فكان حقيقة قوله: أريد أن لا أعبد إلا إياك، ولا أريد شيئًا قطّ إلا وجهَك الكريم، وهذا عين ما أوجبه الله لكل عبد، وهي الإرادة الدينية الشرعية.
وأيضاً فقد يقول: أريد ألاَّ تكون لي إرادة إلا ما أمرتَني أن أريده، وأردتَه لي إرادةَ محبةٍ ورضًى، لجهلي وعجزي. وأريد أن أكون عبدًا محضًا، فلا أريد إلا ما تريده أنت، بحيث يكون المرادُ (2) المختار أمرًا دينيًّا وقضاءً كونيًّا لا يخالف الأمر الديني. فهذا الكلام يكون إخلاصًا وتفويضًا، وكلاهما إسلام وجهه لله.
وأيضًا فإنه قد يقول هذا في مقام الفناء والاصطلام، إذا غلبَ على قلبه، حتى غاب به عن شهود نفسه وإرادته، فهو يُحب هذا الفناء، لأنه
__________
(1) الكلمة غير واضحة في الأصل.
(2) في الأصل: “المريد”.
(6/12)
متى رجع إلى نفسه أرادت بهواها، فهو يريد أن يَفنَى عن نفسه حتى يكون الحق هو الذي يريد له وبه.
ثم إنه مع الفناء في نوع من الإرادة لله التي هي أعظم الإرادات، لكنه غائبٌ كغيبته عن نفسه مع وجودها. وهذا كله حسن، وإن كان البقاء أفضل ما لم يُفْضِ (1) الأمرُ إلى ترك مأمور به جريًا مع الكوني.
ومما (2) يَغلَطُ فيه بعضُهم قولُ طوائفَ منهم: إن من طلب شيئًا بعبادته لله كان له حظ، وكان يَسْعَى لحظه، وإنما الإخلاصْ أن لا تطلب بعملك شيئًا، ولا يكون لك حظٌّ ولا مرادٌ. ثم يقولون: لا يريد إلا اللهَ، ولا يطلب إلا وجهَه، هذا في الدنيا، وفي الآخرة لا يَطلُب إلا رؤيته.
وبعضهم قد يقول: إذا طلبتَ رؤيته كنتَ في حظِّك، بل لا يكون لك مطلوب. ويُنشِد قول بعضهم (3):
أحبُّك حبَّينِ: حبُّ الهوى … وحبٌّ لأنكَ أهلٌ (4) لذاكا
فأما الذي هو حبُّ الهوى … فكَشْفُك للحُجْبِ حتى أراكا
وأما الذي أنت أهل (5) له … فحبِّي خُصِصْتَ به عن سواكا
__________
(1) في الأصل: “لم يفضي”.
(2) في الأصل: “وما”.
(3) الأبيات في حلية الأولياء (9/ 348).
(4) في الأصل:”أهلاً”.
(5) في الأصل: “أهلاً”.
(6/13)
فما الفضلُ في ذا ولا ذاك لي … ولكن لك الفضل في ذا وذاكا
وهذا الكلام فيه حقٌّ، ويقع فيه غلطٌ، فأما [الحق] (1) فهو ما اشتمل عليه من الإخلاص لله وإرادة وجهه دون ما سواه، وطلب النظر إلى وجهه، والشوق إلى لقائه، كما في الحديث المأثور عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من وجهين، أحدهما من حديث عمار بن ياسر، و [الثاني] من حديث زيد بن ثابت، فيه: “أسالك النظرَ إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائِك في غير ضرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فتنةٍ مُضِلَّة” (2).
وأما الغلط فتوهُّم المتوهمِ أن إرادة وجه الله والنظر إليه ليس فيها حظٌّ للعبد ولا غرض، وأن طالبها قد ترك مقاصده ومطالبه، وأنه عامل لغيره لا لنفسه، حتى قد يُخيَّل أن عمله لله بمنزلة كسب العبد لسيده وخدمة الجند لمَلِكِهم. وهذا غلط، بل إرادة وجه الله أعلى حظوظ العبد، وأكبر مطالبه وأعظم مقاصده، والنظر إلى وجهه أعظم لذَّاته، ففي الحديث الصحيح عن أهل الجنّة قال: “فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة”، رواه مسلم (3) عن صهيب.
__________
(1) زيادة يستقيم بها السياق.
(2) أخرجه أحمد (4/ 264) والنسائي (3/ 54) من حديث عمار بن ياسر، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (5/ 191) والطبراني في المعجم الكبير (4932) والحاكم في المستدرك (1/ 516) من حديث زيد بن ثابت، وصححه الحاكم، وقال الذهبي: “أبو بكر ضعيف فأين الصحة؟ “.
(3) برقم (181).
(6/14)
وإنما العبد له حظانِ: حظ من المخلوق (1)، وحظٌّ من الخالق، وله لذتان: لذة تتعلق بالمخلوق، ولذة تتعلق بالخالق. فتركَ أدنى الحظين واللذتين لينال أعلاهما، وما عملَ إلا لنفسه ولا حَطَبَ إلا في حَبْلِه، قال تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) (2). وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “أسألك لذة النظر” كما تقدم.
وقال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (3)، وقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (4)، وقال: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (5) وقال: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)) (6). والله سبحانه أمره بما يحتاج إليه في سعادته، وأحب له أعلى السعادات وأعظم اللذات، وإن كان لمحبة الرب عبده ولعمله الصالح تعلُّق بالله ليس هذا موضعه، فالعبد إذا لم يتصرف إلا بأمر الله ورسوله فهو بمنزلة من لا يتصرف إلا بأمر مالكه العالم بحاله، والناصح له، لا بأمر المالك الذي ينتفع به في حياته، قال الله تعالى (7): “يا عبادي إنكم لن تَبلُغوا ضُرّي فتضروني، ولن
__________
(1) الكلمة غير واضحة في الأصل.
(2) سورة فصلت: 35.
(3) سورة فصلت: 46.
(4) سورة الإسراء: 7.
(5) سورة البقرة: 286.
(6) سورة النمل: 40.
(7) في الأصل: “يقول”.
(6/15)
تَبلُغوا نفعي فتنفعوني” (1)، وقد كتبت فيما تقدم العمل لله والعمل للمالك، وبهذا تزول جهالاتٌ كثيرة من بعض العابدين المحبين.
قال تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)) (2)، فأخبر أنه هو الذي منَّ بهدايتهم للإيمان، إلا أنهم يمنُّون على رسوله إسلامهم، فتدبَّرْ هذا، فإن فيه معانيَ (3) لطيفةً، منها: أنه إنما منَّ بهدايتهم للإيمان التي هي دعوتهم إليه بالرسالة، وإنعامُه عليهم بالاهتداء، لم يكن مجرد الدعوة إليه ولا مجرد الإسلام الظاهر، ولأنه يشركهم في الأول الكافر، وفي الثاني المنافق، ولهذا قال: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا.
ومنها: أن (4) مَنَّهم على رسوله الإسلامَ الظاهر الذي قد ينتفع به الرسول في نصره وموافقته وغير ذلك، فكان ذلك تنبيهًا على إنكارِه مَنَّهم على الله الغني الحميد، الذي لا يبلغون ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه، فالله هو الذي أنعم على عبده المؤمن بأمره وتعبيده له، وهو الذي منَّ عليه بهدايته وإرشاده، فله الحمد في كونه هو المعبود، وفي كونه هو المستعان، وهو الأول والاَخر، وهو بكل شيء عليم، والعبد إنما عمل في مطلوبه مراده الذي هو معبوده وإلهه، وإذا أحبَّه (5) ربه،
__________
(1) أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر.
(2) سورة الحجرات: 17.
(3) في الأصل: “معان”.
(4) في الأصل: “أنه”.
(5) في الأصل: “وإذا حبه”.
(6/16)
وأحبّ عبادته ودينه (1) ورضي ذلك، فما للعبد من ذلك فهو نعمة من الله عليه، وما للرب في ذلك فهو منه وإليه، وهو الغني عن خلقه.
والعبادُ أعجز من أن يبلغوا ضره فيضروه، أو يبلغوا نفعه فينفعوه من وجهين:
من جهة الأسماء والصفات، وهو أنه سبحانه أحد صمد قيومٌ لا تأخذه سِنة ولا نوم، ويمتنع عليه أضداد أسمائه الحسنى التي وجبت له بنفسه.
ومن جهة القضاء والقدر، وهو أنه لا يكون في ملكه إلا ما يشاؤه ويريده، ولا حول ولا قوة إلا به، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به.
وأما قول العابدة المحبة القائلة:
أحبُّك حبَّينِ: حبّ الهوى … وحبٌّ لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حبُّ الهوى … فكَشْفُك للحُجْبِ حتى أراكا
وأما الذي أنت أهلٌ له … فشيء (2) خُصِصْتَ به عن سواكا
فلكلامها وجهان:
أحدهما: أن تريد بالحب الأول من جهة إنعامه على عباده، وهو الحب المأمور به. وبالثاني محبته لذاته. والأولى متفق عليها، والثانية
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) في ص 13: (فحبي).
(6/17)
حق عند أهل السنة والجماعة، وفيهم أهل العلم والمعرفة واليقين، فإنهم متفقون على محبته لذاته، وقد قررتُ هذه المسألة في غير هذا الموضع.
الوجه الثاني: أن تريد بالحب الأول: الحب الذوقي الذي لا يتقيد بالأمر المحض، فإن من عرف الله ولو بعقله ونظره أحبه وعظمه، حتى المشركون فيهم محبة الله، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) (1) أي كحبهم الله، لا كحب المؤمنين لله، فإن الذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله، ثم إن المحبين (2) من الأنبياء عليهم السلام، وأهل العلم والايمان كثيرًا ما يستعملهم الحب في أشياء ويدعوهم إلى أشياء من طلب، وسؤال عبادة، واجلال، ونعوت، لابتغاء الوسيلة، وطلب نيل الفضيلة، وإن لم تكن تلك الأشياء قد أُمِروا بها، لكن إذا لم يكونوا نُهُوا عنها، بل وغير الحب من الأحوال المحمودة قد يَفعل مثلَ ذلك، من الرحمة للخلق، والرجاء لرحمة الله، والخوف من عذابه، فإن الأفعال ثلاثة: مأمور به، ومنهي عنه، وما ليس مأمورًا به ولا منهيُّا عنه.
فكثير من المحبين يفعل ما يراه محصلاً لمقصوده من محبوبه إذا لم يكن منهيًّا عنه، حتى إن منهم من يُنهى أويُمنع كما مُنِعَ موسى عليه السلام عن النظر لما ساله، وانما دعاه إليه قلق الشوق والمحبة، كما أن نوحًا لما سال في ابنه قيل له: (فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (3)،
__________
(1) سورة البقرة: 165.
(2) في الأصل: “المحبون”.
(3) سورة هود: 46.
(6/18)
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) (1). وأما نبينا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فلا يفعل إلا ما أمر به (2) من دعاء وعبادة، فإن نبينا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – العبد المحض الذي لا يفعل إلا ما أمرَه به ربُّه، فلهذا أمره بالدعاء فقيل له: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)) (3)، وقيل له: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (4)، وإذا كان يوم القيامة وردَّ الأنبياء إليه الشفاعة العظمى، وجاءته الأمم، يجيء إلى (5) ربه، ويخرُّ ساجدا، ويحمد ربه بمحامد يفتحها عليه، فيقول له: “أي محمد! ارفعْ رأسَك، وقلْ يُسمَعْ، واشفَعْ تُشَفَّع” (6)، فلا يشفع إلا بعد أن يؤمر بالشفاعة، فلا يقال له: أعرض عن هذا، ولا يقال له: لاتسألني ما ليس لك به علم.
وقد أوجب الله على أهل المحبة متابعته بقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (7)، فهؤلاء المتَّبعون لأمره، المستمسكون بسنته في الباطن والظاهر، هم خالص أمته، وأما من كان من أهل المحبة أو الخوف أو الرجاء أو الإخلاص، استعمله
__________
(1) سورة هود: 74 – 76.
(2) في الأصل: “فلا يفعلون إلا ما أمروا به”.
(3) سورة طه: 114.
(4) سورة محمد: 19.
(5) في الأصل: “اليه” تحريف.
(6) أخرجه البخاري (4476) ومسلم (193) من حديث أنس في حديث الشفاعة المشهور.
(7) سورة آل عمران: 31.
(6/19)
حاله في أعمال لم يؤمر بها، ولم تُسمَح له، مثل كلام المكاء والتصدية التي تحرك حبه أو حزنه أو خوفه أو رحمته أو رجاءه، ومثل الشدة في عقوبة (1) الفساق حتى يدعو عليهم، أو يعاقبهم بقوة عظيمة لله، من غير أمر منه بذلك، ومثل فرط الرحمة لهم حتى يشفع فيمن يحب الله، ويرضى عقوبته والانتقام له، أو تركه، بترك عقوبته، ولهذا يقول الله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا) (2)، (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (3)، وقال تعالى: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر) (4)، ومنهم من يَحمِلُه حبُّ أقاربه حتى يدعو لهم بدعوة لم يؤمر بها، وغير ذلك.
وهذا كثير في أرباب الأحوال المتأخرين من هذه الأمة، وهم في هذه الأمور خارجون عن سنة رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وسنة خلفائه الراشدين، بمنزلة خروج من خرجَ من ولاة الأمور في السياسات الظاهرة عن طريقة الخلفاء إلى نوع من الملك في العقوبات وفي الولايات وفي الأعطية، فإن تصرف هذا وهذا ببُغضِه للحرمات من جنس واحد، لكن هذا بباطنه وهذا بظاهره، وكذلك عطاء هذا وهذا برحمته للعباد من جنس واحد، ثم كل منهما قد يكون مقصوده الرئاسة إما الباطنة وإما
__________
(1) في الأصل:”عونه”.
(2) سورة المائدة: 8.
(3) سورة المائدة: 2.
(4) سورة النور: 2.
(6/20)
الظاهرة، وقد يكون مقصوده الديانة، وإنما تصرف بحاله لا بالأمر.
وهذا باب عظيم ننبِّه عليه في مواضع، وإنما أشرنا إليه هنا لما ذكرنا محبة الهوى التي لم تتقيد بالعلم والأمر، وإن كانت محبة الله إذا لم تكن منهيًّا عنها، ولهذا قالت:
فكَشْفُك للحُجْبِ حتى أراكا
أي هذا الحب يستدعي طلب الرؤية كما طلبها من طلبها في الدنيا.
وأما المحبة الثانية فهي العبودية المحضة للذي يحبه لذاته، فلا يفعل إلا ما أمر به، ولا يطلب إلا ما أمر به، ولا يستحق شيء أن يُحَبَّ لذاته إلا الله، فإنه لا إله إلا الله، والإله هو الذي يُعبد لذاته، فلذلك قالت: لأنك أهلٌ لذاكا، وقالت: فشَيْءٌ خُصِصْتَ به عن سواكا.
الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل.
أما المقصود المطلوب لذاته، وهو المعبود، فلا يجوز أن يعبد إلا الله لا إله إلا هو، وهذا أصل الدين وأساسه ودِعامتُه، وأوله وآخره، وباطنه وظاهره. والوسيلة هي الأعمال الصالحة الحسنة، إذ ليس كل عمل يصلح لأن يُعبَد به الله، ويُرادَ به وجهُه، وليس كلُّ ما كان في نفسه حسنًا وصلاحًا يُراد به وجهُ الله وليس بصالح، مثل عبادات المبتدعة المخلصين، كرهبانية النصارى التي قال الله فيها: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) (1)، ومثل ما في هذه الأمة من أنواع المقالات والعبادات التي فعلها صاحبها لله، لكن بغير
__________
(1) سورة الحديد: 27.
(6/21)
إذنٍ من الله، مثل بدع الخوارج، واستحلالهم (1) ما استحلُّوه من مفارقة السنة والجماعة، حتى قال شاعرُهم (2) في قاتل علي بن أبي طالب- وهو أشقى الآخرين عبد الرحمن بن مُلجم قاتل علي-:
ياضربةً من تَقيٍّ ما أرادَ بها … إلا ليَبلُغَ من ذي العرشِ رضوانَا
إني لأذكره حينًا فأحسبُه … أو فَى البريةِ عند الله ميزانَا
وكذلك ما عليه كثير من القدرية والمرجئة والجهمية والرافضة، وغيرهم من أهل البدع الاعتقادية إذا كانوا فيها مخلصين مُريدينَ التقربَ بها إلى الله.
وكذلك ما عليه كثيرٌ من المبتدعة في العبادات والأحوال، من الصوفية والعبَّاد والفقهاء والأمراء والأجناد والولاة والعمال، فكثير من هؤلاء قد يُزيَّن له سوءُ عملِه فيراه حسنًا، ويتقرب إلى الله بشيء يظنه حسنًا، وهو شيء مكروه، وهذا باب واسع.
ومن هذا الباب عبادات اليهود والنصارى التي يتقربون بها إلى الله ويُخلصون فيها، قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (3)، وسئل عنهم سعد بن أبي وقاص فقال: “هم أهل الصوامع والديارات” (4). وسُئل عنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقالى: “هم أهل
__________
(1) في الأصل: “ولاستحلالهم”.
(2) هو عمران بن حطّان، كما في الكامل للمبرد (3/ 1085).
(3) سورة الكهف: 103، 104.
(4) أخرجه البخاري عنه (4728).
(6/22)
حَرُوراءَ” (1)
ولا منافاةَ بين القولين، فإن مثل هذا الكلام قد لا يكون للتحديد، وإنما يكون للتمثيل، كمن سُئل عن الخبز فأخذ رغيفًا وقال: هو هذا. ففسروا الضالِّين من عبَّاد الكفار وعبَّاد أهل البدع، وقد أخبر الله أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وأخبر أنهم يرون أعمالهم السيئة حسنةً، فهم مع رأيٍ وحسبانٍ غيرِ مطابقٍ للحقيقة.
القسم الثالث: ما يكون صالحًا، ولا يريد به فاعلُه وجه الله، وهذا أيضًا كثير، مثل ما يعمله العاملون من الأعمال الظاهرة المشروعة من إقراء العلم والقرآن، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وجهاد في سبيل الله، وعدل بين الناس، وإحسان إليهم من صدقة ومعروف وإصلاح بين الناس، ولهذا قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)) (2)، وقال عن المتصدقين: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)) (3) وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – “من قاتلَ لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله” (4).
وقد ثبت في صحيح مسلم (5) حديثُ أبي هريرة في متعلم العلم
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (15/ 426).
(2) سورة النساء: 114.
(3) سورة الإنسان: 9.
(4) أخرجه البخاري (123) ومسلم (1904) من حديث أبي موسى الأشعري.
(5) برقم (1905).
(6/23)
والمقتول في الجهاد وفي المتصدق إذا لم يكونوا مخلصين، وأنهم أول ثلاثةٍ تُسَجَّرُ بهم النارُ.
– القسم الرابع: الذي لا يكون عملُه خالصًا لله، وهو شرُّ الأقسام، مثل جهاد المشركين للمسلمين ينصرون بذلك آلهتهم، فلم يعبدوا به ولا أحسنوا، حيث أهلكوا أهل الإيمان.
وكذلك كل ما كان من هذا الجنس من الأعمال التي يفعلها الكفار لغير الله وليست خيرًا في نفسها، من نَصْرِ (1) أهل الكفر، وكذب على الله، وتكذيبٍ برسله، واعتقادٍ للباطل.
وكذلك اتِّباع قوم مُسَيلِمةَ لمُسَيلِمةَ، وقتالهم معه، وكذلك أهل البدع والضلال التي يقصدون بها نصر أهوائهم. وكذلك الفجور والمعاصي التي تفعلها النفوس لأجل العُلوِّ في الأرض والفساد، وهذا الضرب كثير جدًّا.
وإذا كانت الأقسام الأربعة، فالقسم الأول هو المحمود، وأهله هم السعداء من جميع بني اَدم من الأولين والاَخرين، وبذلك جاء الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) (2)، فإن أهل الكتاب تَمنَّوا هذه الأمنية
__________
(1) هذه الكلمة في الهامش، ولم يظهر منها إلا الحرف الأخير.
(2) سورة البقرة: 111، 112.
(6/24)
التي قالوا بألسنتهم، وقدروها بقولهم، وجمعوا فيها بين النفي- وهو دخول الجنة- عن غير اليهود والنصارى، وبين الإثبات لمن كان هودا أو نصارى، وهذا من باب الَّلفِّ والنَّشر. أي وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًّا، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)) فطالبهم بالبرهان على هذه القضية والدعوى الجامعة بين النفي والإثبات.
وكان في ذلك ما دلَّ على أن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل، كما طالب المثبت في قوله: (أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (1)، ومعلومٌ أنْ ليس مع اليهود والنصارى لا برهان شرعي ولا عقلي يدل على ذلك، فإن الرسل لم تخبرهم بهذا النفي، ولا هو مُدْركٌ بالعقل، ولهذا قال الله تعالى: (تلْكَ أَمَانِيُّهُمْ)، ثم قال تعالى: (بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فلة اجرة عند ربه). وهذا حصول الخير والثواب والنعيم واللذة، ثم قال: (ولا خوف عليهم) والخوف إنما يتعلق بالمستقبل، (ولا هم يحزنون) والحزن يتعلق بالحاضر والماضي، فلا هم يخافون ما أمامهم، ولا هم يحزنون على ما هم فيه وما وراءهم، ثم إنه قال في الخوف: (وَلَا خوف عليهم) ولم يقل: يخافون، فإنهم في الدنيا يخافون مع أنه لا خوف عليهم، وقال: (وَلَاهُم يحزنون) فلا يحزنون بحال، لأن الحزن إنما يتعلق بالماضي، وهم (2) فأنواع الألم منتفية بانتفاء الخوف
__________
(1) سورة النمل: 64.
(2) كذا في الأصل، ولعلها زائدة.
(6/25)
والحزن، فإن المتألم لا يخلو من حزنٍ، فإذا انتفى الحزن انتفى كل ألم.
وقال في عملهم: (بلى من اسلم وجهه لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن)، فإسلام وجهه كما قاله أئمة التفسير: هو إخلاص دينه وعمله لله، وقيل: تفويض أمره إلى الله (1). وهو (2) يَعُمُّ القسمين، كما سنبينه إن شاء الله، فإن إسلام وجهه يقتضي أنه أسلم نيته وعمله ودينه لله، أي جعله لله خالصًا سالمًا، والإحسان هو فعل الحسنات، فاجتمع له أن عمله خالص، وأنه صالح، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا” (3).
وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (4)، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
وبهذا البيان يُعرَف بالعقل أن هذا الدين الحق هو أفضل الأديان، لأن الدين هو الخضوع والانقياد والعمل، فلا بد له من شيئين، من
__________
(1) انظر تفسير الطبري (2/ 432) وابن كثير (1/ 663).
(2) في الأصل: “وهم” تحريف.
(3) أخرجه أحمد في الزهد (ص 147).
(4) سورة الملك: 2.
(6/26)
مقصودٍ هو المعبود، ووسيلةٍ هي الحركة، فأي معبود يُسَامِي الله؟ وأي قصدٍ للمعبود خيرٌ من أن يكون القاصد ذليلاً له مخلصا له، لا متكبرا ولا مشركًا به؟ وأيُ حركةٍ خيرٌ من فعل الحسنات؟ فبهذا تبين أن من أسلم وجهه لله وهو محسن، فإنه مستحق للثواب، كما تبين أنه لا أحسن منه.
وبيان ذلك أن الوجه إما أن يكون هو القصد والنية كما قال:
أستغفر الله ذنبا لستُ مُحصِيَه … ربّ العباد إليه الوجْهُ والعملُ (1)
والوجه مثل الجِهَة، مثل الوعد والعِدَة، والوزن والزِّنَة، والوصل والصِّلَة، وقد قررت هذا في غير هذا الموضع، وهذا مقتضى كلام أئمة التفسير، وهو مقتضى ظاهر الخطاب لمن كان يفقه بالعربية المحضة من غير حاجة إلى إضمار ولا تكلف، ومثل هذه الاَية قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)) (2).
روى الإمام أحمد في مسنده (3) عن أبي أمامة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال:
__________
(1) البيت بلا نسبة في كتاب سيبويه (1/ 17) ومعاني القرآن للفراء (2/ 314) والمقتضب للمبرد (2/ 321) ومصادر أخرى.
(2) سورة النساء: 123 – 125.
(3) 5/ 266. وفي إسناده علي بن زيد الألهاني، وهو ضعيف. وأخرجه أحمد =
(6/27)
“إني لم أُبْعَثْ باليهودية ولا بالنصرانية، وإنما بُعِثْتُ بالحنيفية السمحة”.
فبين الله أنه لا دينَ أحسنُ من دينِ مَنْ أسلم وجهه لله، وهو محسن غير مسيء، واتبع ملة إبراهيم حنيفًا.
وقال: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (1)، فدل بذلك على متابعة إبراهيم في محبته لله، ومحبة الله له، ولفظ “أسلم” يتضمن شيئين: أحدهما الإخلاص، والثاني الاتباع (2) والإذلال. كما أن “أسلم” إذا استُعْمِل لازمًا مثل: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (3)، وقوله: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)) (4)، يتضمن الخضوع لله والإخلاص له.
وضدّ ذلك إمّا الكبرُ وإمّا الشركُ، وهما أعظم الذنوب، ولهذا كان الدين عند الله الإسلام، فإن دين الله أن نعبده وحده لا شريك له، وهذا حقيقة قول لا إله إلا الله، وبه بُعِثَتِ الرسلُ جميعُها، ومن عبادته وحده أن لا نشرك به، ولا نتكبر عن أمره، فلا بدَّ من الإيمان بجميع كتبه،
__________
= (6/ 116، 233) من طريق عبد الرحمن بن أبي زياد عن أبيه عن عروة عن عائشة بلفظ: “إني أرسلتُ بحنيفية سمحة”. قال السخاوي في “المقاصد الحسنة”) (ص 109): سنده حسن، وفي الباب عن أبي بن كعب وأسعد بن عبد الله الخزاعي وجابر وابن عمر وأبي أمامة وأبي هريرة وغيرهم.
(1) سورة النساء: 125.
(2) في الأصل: “الاجماع” تحريف.
(3) سورة البقرة: 128.
(4) سورة البقرة: 131.
(6/28)
وجميع رسله، وإلا لم يكن العبد مسلمًا له، ولا مسلمًا وجهه لى، إذا امتنع عن الإيمان بشيء من كتبه ورسله، وهذا هو الإسلام العام الذي دخل فيه جميع الأنبياء والمرسلين، وأممهم المتبعين غير المبدِّلين.
ثم إن الإسلام في كل ملة قد يكون بنوع من الشرع والمناهج والوجه والمناسك، فلما بعث الله محمدًا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وختمَ به الرسلَ كان الإسلام لله لا يتمُّ إلا بالدخول فيما جاء به من الشرع والمناهج والمناسك، وهو الإسلام الخالص، ولهذا قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “بنيَ الإسلامُ على خمسٍ” الحديث (1).
فإن الإسلام الذي في القلب لا يتمُّ إلا بعمل الجوارح، فكُنَّ مَبَانِيَ له ينبني عليها، فالمباني الظاهرة تَحمِلُ الإسلامَ الذي في القلب كما يحمل الجسدُ الروحَ، وكما تَحمِلُ العُمُدُ السقفَ، والقبةَ الأركانُ، فالإسلام الذي هو دين الله بنيَ بمبعثِ محمد رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على هذه الأركان، وإن كان بُني بمبعثِ غيره على أركان أخرى، إذ الإسلام الخاص المستلزم للإسلام العام الذي بعث به محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بُني على هذه الخمسة. وقد تنازع أصحابنا هل يُسمَّى ما سوى ديننا هذا إسلامًا، والنزاع لفظي.
كما أخبر عن حقيقة الإسلام بقوله: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ
__________
(1) أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) من حديث ابن عمر.
(6/29)
مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (1)، فأمرهم بعد أمره لهم باتباع ملة إبراهيم أن يقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا، إلى آخر الآية، ففي ذلك الإيمان بما أنزله الله، وما اوْتيَه النبيون من ربهم، والإيمان بجماعتهم من غير تفريق بينهم، وهو الَإيمان ببعض والكفر ببعض، كما قال عن الكفار حيث قالوا: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) (2)، وكان نصيب خالصة الأمة من ذلك أن تؤمن بجميع نصوص الكتاب والسنة، لا تُفرّق بين النصوص فتتَّبع بعضها وتترك بعضها، فبذلك يصيرون من أهل السنة، دون الذين تركوا السنن والآثار أو بعضها، أو تمسكوا ببعض آي القرآن دون بعض، من أصناف المبتدعة.
وكذلك لا يُفرِّقون بين أولي الأمر من الأمة من علمائها وأمرائها، بل يُعطُون كلَّ ذي حق حقَّه، ويقبلون منه ما أمر الله بقبوله منه، ويتركونه حيث تركه الله، فيكونون أهلَ جماعةٍ لا أهلَ فُرقةٍ، وهذا فيه جمع عظيم يحتاج إلى تفصيل، وذلك أن الله أمرنا بطاعة أولي الأمر منا، وأمرنا أن نعتصم بحبل الله جميعًا ولا نتفرق، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، وَبرَّأَ نبيَّه من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا.
__________
(1) سورة البقرة: 135 – 138.
(2) سورة النساء: 150.
(6/30)
فصل
وقوله: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) (1) هذه القراءة العامة التي في المصحف الإمام، وقد كان ابن عباس يقرأ: “بما آمنتم به”، ويقول: إن الله لا مثل له (2).
وتلك قراءة صحيحة المعنى، لكن قراءة العامة أحسن وأجمع، فإنه لو قيل: بما آمنتم به، وقيل: إنه أريد به الله، لقالوا: قد آمنا بالله، فإنهم لا يكفرون بأصل وجود الخالق، وإنما يكفرون ببعض كتبه ورسله وأسمائه وصفاته ودينه، ولذلك استحقوا اسم الكفر.
وأيضًا فلو آمنوا بما آمنَّا به من غير أن يؤمنوا بمثل ما آمنَّا به، لم يكونوا مهتدين وإن آمنوا بجميع الأشياء، وذلك أنه سبحانه قال في المائدة لما أباح نساء أهل الكتاب وطعامهم، قال: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (3)، والإيمان هو: الإيمان الذي هو الدين، الذي هو الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، فإن الإيمان الذي يجب على العباد اتباعُه يجب الإيمانُ به، فمن كفر بما يفعله المؤمنون من الإيمان، فقد كفر بالله. وهذا الإيمان الذي في القلوب هو مثلٌ مطابقٌ للحقيقة الخارجة، وما في القلوب [من] (4) الإيمان متماثل أيضًا، فنحن آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم، وما أوتي النبيون من ربهم،
__________
(1) سورة البقرة: 137.
(2) أخرجه الطبري (2/ 600) وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 244).
(3) سورة المائدة: 5.
(4) زيادة يستقيم بها السياق.
(6/31)
فإذا آمنوا هم بمثل ما آمنا به -وهو ما في القلوب- فقد اهتدوا، كما أنهم لو كفروا بالإيمان الذي في القلوب لحَبِطَ عملُهم.
وهنا وجهان، أحدهما: إذا صار في قلوبهم مثل ما في قلوبنا، وآمنوا به، فقد آمنوا بمثل ما آمنا به، فإنا آمنا بما في القلوب من الإيمان، فإذا صار مثله في قلوبهم وآمنوا به فقد اهتدوا. ويكون فائدة الإيمان بالإيمان مثل ما يقال: أَعلمُ وأَعلَم أني أعلم، وأعتقدُ أن زيدًا في الدار، وأعتقد أن اعتقادي حق، فهم مؤمنون بالإيمان غير مرتابين (1) فيه، جازمون أن جَزْمَهم حق، وأيضًا فإن هذا مستلزم، وهو كمال وتمام، لأنه إذا حصل هذا الإيمان بالإيمان، وجب حصول الأول ووجوبه، مع أنهما متلازمان من وجه آخر، فإن الوجود العملي الإرادي مع الوجود … (2)، لكن على هذا الوجه (3) الضميرُ فيه يعود إلى إيماننا بما أنزل، لا إلى نفس ما أنزل.
الوجه الثاني (4): أن الإيمان الذي في القلب مثلٌ مطابق للمؤمن به، كما تقدم، وقد قررت هذا في مواضع، فإذا آمنوا بهذا المثل فقد اهتدوا، والضمير هنا عائد على “ما” كما هو الظاهر، ويكون المثل كما قد قيل في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) (5).
__________
(1) في الأصل: “مرتابون”.
(2) هنا بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات.
(3) في الأصل: “هذا على الوجه”.
(4) في الأصل:”الثالث”، تحريف.
(5) سورة الشورى: 11.
(6/32)
وقد يقال: المعنى، فإن آمنوا مثل ما آمنتم. والتقدير: فإن جاؤوا بإيمانٍ مثلِ الإيمانِ الذي جئتم به، ويكون “الذي” هنا صفة للمصدر الذي هو الإيمان، لا للمفعول به الذي هو المُؤمَن به، لكن هذا يفتقر إلى أن يقال: آمنت بمثل إيمانك، أي مثل إيمانك، وهذا يكون إذا … ) (1).
وقد يقال: “المثل” مُقحَمٌ ليتبين الكلام والتوحيد، كما قد قيل مثل ذلك في نظائره لأسباب قد تكون هناك.
وقوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (2)، صَبَغَ القلوبَ والأشياءَ بهذا الإيمان حتى أنارت به القلوب، وأشرقت به الوجوه، وظهر الفرقان بين وجوه أهل السنة وأهل البدعة، كما قال في المؤمنين: (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ) (3)، وفي الكفار: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)) (4)، وفي المنافقين: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) (5)
__________
(1) بعدها بياض في الأصل بمقدار سطر.
(2) سورة البقرة: 137، 138.
(3) سورة البقرة: 273.
(4) سورة القلم: 16.
(5) سورة محمد: 30.
(6/33)
فصل
وإذا كان الله قد شرط في من له أجرُه عند ربه ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون أن يكون محسنا مع إسلام وجهه لله، دلَّ بذلك على أن الإحسان شرط في استحقاق هذا الجزاء، وهذا الجزاء لا يقف إلا على فعل الواجب، فإن كل من أدى الواجب فقد استحق الثواب، ودرأَ العقاب، وذلك يدل على أن الإحسان واجب، وقد قال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (1) والأمر يقتضي الوجوب.
وقال تعالى: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (2)، ومن فَعلَ الواجبَ فما عليه من سبيل، إنما السبيل على من أساء بتركِ ما أمِرَ به، أوفِعْلِ ما نُهِيَ عنه.
وقال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) (3) ونظائره كثيرة.
وفي الصحيح (4) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فاحسِنوا القِتْلةَ، وإذا ذَبحتم فاحسِنوا الذِّبحةَ”، ففي هذا الحديث أن الإحسان واجب على كل حال، حتى في حال إزهاق النفوس، ناطقها وبهيمتها، فَعَلَّمَهُ أن يُحْسِن القتلةَ للَادميين والذبحة للبهائم. والإحسان الواجب هو فعل الحسنات،
__________
(1) سورة البقرة: 195.
(2) سورة التوبة: 91.
(3) سورة النمل: 89.
(4) مسلم (1955) عن شداد بن أوس.
(6/34)
وهو أن يكون عمله حسنًا، ليس المراد بذلك فعل الإحسان التطوع، وهذا الإحسان في حق الله، وفي حقوق عباده، فأما في حق الله ففعل ما أمره به من غير أن يتعلق المأمور [به]، وأما في حق عباده ففعل ما أوجب لهم من الإحسان، وترك ما لا يجوز من الإساءة. وأصل ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولهذا ثنَّى الله ذكر هذين الأصلين في القرآن في مواضع كثيرة جداً، وقال: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى) الاَية (1). وإذا كان الإحسان إلى الخلق واجبًا، وإن كان قد يكون مستحبًّا أيضًا، فالإحسان إليهم جَلْبُ ما ينفعهم ودَفْعُ ما يضرهم.
والظلم ضد الإحسان الذي يدخل فيه العدل وغيره، فإن العادل محسن من جهة عدله، وأما حيث يكون العدل هو الواجب، فالعادل أي بكمال الإحسان كالعدل بين الناس في القَسْم والحكم، بخلاف عدل الإحسان في حق نفسه في استيفاء حقوقه من غير زيادة، فإن هذا محسن من جهة أنه لم يَعْتدِ ولم يظلم.
وقد قررنا في مواضع كثيرة أن الظلم حرام كله، لم يُبَحْ منه شيء، وأصله قصد الإضرار، فإن الظلم إضرار غير مستحق، لكن الإضرار المستحق جائز تارة، وواجب أخرى، وإنما أبيح إضرار الحيوان للحاجة، والحكم المقيد بالحاجة مقدَّرٌ بقدرها، فليس للعبد أن يكون مقصوده بالقصد الأول إضرار بني آدم، بل الضرار محرم بالكتاب والسنة، قال الله
__________
(1) سورة النساء: 36.
(6/35)
تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) (1)، وقال في المطلقات: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) (2)، وقال: (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) (3).
وأما السنة فقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:” مَن شَقَّ شَقَّ الله عليه، ومَن ضَارَّ أضرَّ اللهُ بهِ” (4)، وقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “لا ضررَ ولا ضِرارَ” (5).
ومعلوم أن المُشاقَّة والمُضارَّة مبناها على القصد والإرادة، أو على فعل ضرر لا يحتاج إليه في قصد الإضرار، ولو بالمباح، أو فعل الإضرار من غير استحقاق، فهو مضار.
وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به، لا لقصد الإضرار، فليس بمضار، ومن هذا قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في حديث النخلة التي
__________
(1) سورة النساء: 12.
(2) سورة البقرة: 231.
(3) سورة الطلاق: 6.
(4) أخرجه أحمد (3/ 453) وأبو داود (3635) والترمذي (1940) وابن ماجه (2342) من حديث أبي صرمة الأنصاري. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(5) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (5/ 326) وابن ماجه (2340) من حديث عبادة بن الصامت. قال البوصيري في الزوائد: إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع. وأخرجه أحمد (1/ 255، 313) وابن ماجه (2341) من حديث ابن عباس. وفي إسناده جابر الجعفي، متهم. وفي الباب عن غيرهما من الصحابة. والحديث صحيح لشواهده. انظر “إرواء الغليل” (896).
(6/36)
كانت تضرُّ صاحبَ الحديقة، لما طلب من صاحبها المعاوضة عنها بعدة طرق، فلم يفعل، فقال: “إنما أنت مُضارّ” (1) ثم أمرَ بقَلْعِها.
فدلَّ ذلك على أن الضرار محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه، فعلى الإنسان أن يكون مقصودُه نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقا، وهذا هو الرحمة التي بُعث بها محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)) (2)، وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:”إنما أنا رحمة مُهدَاةٌ” (3).
والرحمة يحصل بها نفع العباد، فعلى العبد أن يقصد الرحمة والإحسان والنفع، لكن للاحتياج إلى دفع الظلم شُرعت العقوبات، وعلى المقيم لها أن يقصد بها النفع والإحسان، كما يقصد الوالد بعقوبة ولده، والطبيب بدواء المريض.
والمقصود بهذه النكتة أن الدين والشرع لم يأمر إلا بما هو نفع وإحسان ورحمة للعباد، وأن المؤمن عليه أن يقصد ذلك ويريده، فيكون مقصوده الإحسان إلى الخلق ونفعهم. واذا لم يحصل ذلك إلا بالإضرار ببعضهم فَعَلَه على نية أن يدفع به ما هو شرٌّ منه، أو يحصل به
__________
(1) أخرجه أبو داود (3636) من حديث سمرة بن جندب. قال المنذري في “مختصر السنن” (5/ 240): في سماع الباقر من سمرة بن جندب نظر، وقد نُقل من مولده ووفاة سمرة ما يتعذر معه سماعه منه، وقيل فيه ما يمكن معه السماع منه. والله أعلم.
(2) سورة الأنبياء: 157.
(3) أخرجه الطبراني في الصغير (1/ 95) والحاكم في المستدرك (1/ 35) والقضاعي في مسند الشهاب (1160) من حديث أبي هريرة. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(6/37)
ما هو أنفع من عدمه، فهاهنا أصلان:
أحدهما: أن هذا هو الذي أمر الله به ورسوله.
والثاني: أن هذا واجب على العبد، عليه أن يفعله، وفاعله هو البار والبرُّ، وهو المحسن المذكور في الآية.
وقد أمر الله في كتابه بالعدل والإحسان، والأمر يقتضي الوجوب، وقد يكون بعض المأمور به مندوبًا، والإحسان المأمور به ما يمكن اجتماعه مع العدل، فأما ما يرفع العدل فذاك ظلم، وإن كان فيه نفع لشخص، مثل نفع أحد الشريكين إعطاءً أكثر من حقه، ونفع أحد الخصمين بالمحاباة له، فإن هذا ظلم، وإن كان فيه نفعٌ قد يُسمى إحسانًا.
والعدل نوعان:
أحدهما: هو الغاية، والمأمور بها، فليس فوقه شيء هو أفضل منه يؤمر به، وهو العدل بين الناس.
والثاني: ما يكون الإحسان أفضل منه، وهو عدل الإنسان بينه وبين خصمه في الدم والمال والعِرْضِ، فإن الاستيفاء (1) عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانًا إلا بعد العدل، كما قدمناه، وهو أن لا يحصل بالعفو ضررٌ، فإذا حصل منه ضرر، كان ظلمًا من العافي، إما لنفسه، وإما لغيره، فلا يشرع.
__________
(1) في الأصل: “استيفا”.
(6/38)
فالعدل واجب في جميع الأمور، والإحسان قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبا، ففي الحكمِ بين الناس والقَسْمِ بينهم مَا ثَمَّ إلا العدلُ، والعدل بينهم إحسان إليهم، وفيما بين الناس وبينهم مستحبّ له الإحسان إليهم، بفعل المستحبات من الابتداء بالإحسان الذي ليس بواجب، والعفو عن حقوقه عليهم، ويدخل في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)) (1).
ونكتة هذا الكلام أن يفرق الإنسان بين العدل الذي هو الغاية، وليس بعده إحسان، وهو العدل بين الناس، وبين العدل الذي فوقه الإحسان، وهو العدل مع الناس. الأول: حقُّ الخلقِ عليه، والثاني: حقّ له عليهم. فلِكلٍّ منهما على صاحبه العدلُ، فعليه أن يُوفِّيهم العدل الذي عليه، وليس عليه أن يستوفي العدل (2) منهم، بل قد يستحب له الإحسان بتركه.
ومن العدل الواجب -كما قررته في غير هذا الموضع- أن الظالم لا يجوز أن يُظلَم، بل لا يُعتدَى عليه إلا بقدر ظلمه، كما قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) (3)، وقال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (4)، وقال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا
__________
(1) سورة الأعراف: 199.
(2) في الأصل: “عدل”.
(3) سورة البقرة: 193.
(4) سورة البقرة: 194.
(6/39)
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)) (1) وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (2)، وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (3).
وقد تقدم قول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القتلةَ، وإذا ذَبحتم فأحسِنوا الذبحةَ”.
فتبين أن الإحسان واجب حتى في القتل المستحق بإحسان القتلة والذبحة، ومعلوم أن الظلم الذي يستحق به العقوبة- سواء كان في حق الله أو حقوق عباده- لا يخرج عن ظلم في الدين، وظلم في الدنيا، وقد يجتمعان، فالأول كالكفر والبدع، والثاني كالاعتداء على النفوس والأموال والأعراض.
والغالب أن الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا، وقد لا ينعكس، ولهذا كان المبتدع في دينه أشدَّ من الفاجر في دنياه، وعقوبات الخوارج أعظم من عقوبات أئمة الجور، كما قررتُ هذا في قاعدة “بيان أن البدع أعظم من المعاصي بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وبما يعقل به ذلك من الأسباب”. ثم مع هذا لا يجوز أن يعاقب هذا الظالم ولا هذا الظالم إلا بالعدل بالقسط، لا يجوز ظلمه.
__________
(1) سورة البقرة: 190.
(2) سورة المائدة: 8.
(3) سورة المائدة: 2.
(6/40)
فهذا موضع يجب النظر فيه، والعمل بالحق، فإن كثيرًا من أهل العلم والدين والزهد والورع والإمارة والسياسة والعامة وغيرهم، إما في نظرائهم أو غير نظرائهم من نوع الظلم والسيئات، إما بدعة، وإما فجور، وإما مركّبٌ منهما، فأخذوا يعاقبونهم بغير القسط، إما في (1) أعراضهم، وإما في حقوقهم، وإما في دمائهم وأموالهم، وإما في غير ذلك، مثل أن ينكروا (2) لهم حقاً واجبًا، أو يعتدوا عليهم بفعل محرم، مع أن الفاعلين لذلك متأولون، معتقدون أن عملهم هذا عمل صالح، وأنهم مثابون على ذلك، ويتعلقون (3) بباب قتال أهل العدل والبغي، وهم الخارجون بتأويل سائغ، فقد تكون الطائفتان جميعاً باغيتين بتأويل أو بغير تأويل، فتدبر هذا الموضع، ففيه يدخل جمهور الفتن الواقعة بين الأمة، كما قال تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (4)، فأخبر أن التفرق بينهم كان بغيا، والبغي: الظلم.
وهكذا التفرق الموجود في هذه الأمة، مثل الفتن الواقعة بينها في المذاهب والاعتقادات والطرائق والعبادات والممالك والسياسات والأموال، فإنما تفرقوا بغياً بينهم من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، والباغي قد يكون متأولاً وقد لا يكون متأولاً، فأهل الصلاح منهم هم المتأولون في بغيهم، وذلك يوجب عذرهم لا اتباعهم.
__________
(1) في الأصل: “من”.
(2) في الأصل: “ان يذكر” تحريف.
(3) في الأصل: “ويتعلق”.
(4) سورة الشورى: 14.
(6/41)
فتدبَّرْ العدل والبغي، واعلم أن عامة الفساد من جهة البغي، ولو كان كل باغٍ يعلم أنه باغٍ لهانت القضيةُ، بل كثير منهم أو أكثرهم لا يعلمون أنهم بُغاة، بل يعتقدون أن العدل منهم، أو يُعرِضون عن تصور بَغْيِهم، ولولا هذا لم تكن البغاة متاولين، بل كانوا ظلمةً ظلمًا صريحًا، وهم البغاة الذين لا تاويل معهم.
وهذا القدر من البغي بتاويل (1)، وأحيانًا بغير تأويل، يقع فيه الأكابر من أهل العلم، ومن أهل الدين، فإنهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين، ولما وقعت الفتنة الكبرى كانوا فيها ثلاثة أحزاب، قوم يقاتلون مع أولى الطائفتين بالحق، وقوم يقاتلون مع الأخرى، وقوم قعدوا اتباعًا لما جاء من النصوص في الإمساك في الفتنة.
والفتن التي يقع فيها التهاجر والتباغض والتطاعن والتلاعن ونحو ذلك هي فتنٌ، وإن لم تَبلُغِ السيفَ، وكل ذلك تفرق بغيًا، فعليك بالعدل والاعتدال والاقتصاد في جميع الأمور، ومتابعة الكتاب والسنة، وردّ ما تنازعت فيه الأمة إلى الله والرسول، وإن كان المتنازعون (2) أهل فضائل عظيمة ومقامات كريمة، والله يوفقنا لما يحبه ويرضاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تمت القاعدة
__________
(1) في الأصل: “تاويل”.
(2) في الأصل: “المتنازعين”.
(6/42)
فصل في حق الله على عباده وقِسْمِه من أم القرآن، وما يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه ونحو ذلك
(6/43)
فصل
في حق الله على عباده، وقِسْمِه من أم القرآن، وما يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه، ونحو ذلك.
قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) (1) وقوله: (ما أريد منهم من رزق) هو نكرة في سياق النفي، تعم كل رزق، فيعمُ اللفظ: مِن رزقٍ لي، ومن رزقي لهم، ومن رزقٍ من بعضهم لبعض، لكن قوله بعد ذلك: (وما أريد ان يطعمون (57)) والإطعام هو رزق له، فقد يقال: هو تخصيص بعد تعميم، وقد يقال: الأول رزق المخلوق والثاني [يتعلق] بالخالق، فيكون المعنى: ما خلقتهم إلا ليعبدون، لا ليطعمون، ولا ليرزقوا (2) أحداً، فإن الله هو الرزاق الذي يرزق الخلق، وهو ذو القوة المتين.
فبيَّن الله بهذه الآية أنه خلقهم لعبادته التي أرادها منهم، فهي مراده ومطلوبه، لا يريد منهم أن يرزقوه، ولا أن يطعموه، لأنه لما نفى الإرادة عن الرزق وإطعامه، دلَّ على إثباتها للعبادة، وفي إثباتها للعبادة ونفي إرادة الرزق والإطعام دليلٌ (3) على أن له حقاً عليهم
__________
(1) سورة الذاريات: 56 – 58.
(2) في الأصل بإثبات النون، والصواب حذفها، أو إثباتها وحذف “أحدًا”.
(3) في الأصل: “دليلاً”.
(6/45)
يريده منهم، وهو محبّ له، راضٍ به.
وقال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (1) وقال: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (2)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)) (3)، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) (4)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)) (5)، وقال: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (6)، وقال: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (7)، وقال: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) في مواضع (8).
وقد جاءت السنة بذكر حقه عليهم، في الصحيح (9) عن معاذ بن جبل قال: كنتُ رديفَ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فقال: “يا معاذُ! أتدري ما حق الله على عباده؟ ” قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: “أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم”.
وروى الطبراني في كتاب الدعاء (10) مرفوعًا إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يقول
__________
(1) سورة الحج: 37.
(2) سورة فاطر: 10.
(3) سورة البقرة: 222.
(4) سورة الصف: 4.
(5) سورة المائدة: 42.
(6) سورة المائدة: 54.
(7) سورة آل عمران: 31.
(8) سورة المائدة: 119، سورة التوبة: 100، سورة البينة: 8.
(9) البخاري (128 ومواضع أخرى) مسلم (30).
(10) برقم (16) من حديث صالح المريّ عن الحسن عن أنس. وصالح ضعيف.
(6/46)
الله: يا عبدي! إنما هي أربعة: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي، فتعبدني لا تشرك بي شيئَا، وأما التي هي لك، فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك، فمنك الدعاء وعليَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي، فأتِ إلى الناس ما تُحِبُّ أن يأتوه إليك “.
وفي صحيح مسلم (1) عن أبي هريرة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول الله تعالى: “قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، فنصفهاِ لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين (2))، يقول الله: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم (3))، يقول الله: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: (مالك يوم الدين (4))، يقول الله: مجَّدني عبدي- وفيِ رواية: فوَّض إليَّ عبدي- وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قال الله: فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل”.
ففي هذا الحديث أن النصف الأول- وهو الحمد والثناء والتمجيد والعبادة- لله تعالى، والنصف الثاني- وهو الاستعانة والمسألة- للعبد، هذا مع العلم بان العبد يثاب على حمده وثنائه وعبادته، وقد يحصل له بذلك من الثواب أكثر مما يحصل بالاستعانة والسؤال، [و]__________
(1) برقم (395).
(6/47)
لا بدَّ أن تكون للنصف الذي هو للرب خاصيةٌ تعود إلى الرب، تميزها عن نصف العبد، وإلا فإذا كان للعبد في كلاهما أجر وثواب، فتخصيص أحدهما بأنه للرب، لا بدَّ فيه من خاصية للرب.
وأيضًا فإن الله أخبر (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (1)، وقال تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) الآية (2)، وقد ورد في الصحيحين (3) عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك على أصحاب النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالوا: أيُّنا لم يَظلِمْ نفسَه؟ فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:” إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيمٌ ” أو كما قال.
وفي الحديث عن طائفة من السلف، ورُوي مرفوعًا (4): “الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وهو الشرك، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا. فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئًا، فهو الشرك، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا، فهو ظلم العبد نفسه، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا، فهو الظلم للعباد بعضهم بعضًا”.
وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
__________
(1) سورة لقمان: 13.
(2) سورة الأنعام: 82.
(3) البخاري (32) ومسلم (124).
(4) أخرجه أحمد في مسنده (6/ 240) والحاكم في “المستدرك” (4/ 575) من حديث عائشة مرفوعاً. وإسناده ضعيف. قال الذهبي في تلخيص المستدرك: صدقة ضعفوه، وابن بابنوس فيه جهالة.
(6/48)
يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)) (1)، فجعل الظلم في حق الله تعالى قسمًا خارجًا عن ظلم العبد نفسه، وعن ظلم العباد، وهذا يقتضي أن لله فيه حقًّا قد ضيَّعه العبد، لا أنه مجرد ظلم العبد نفسه كالمعاصي، وإن كانت المعاصي مخالفةً لأمر الله وتركًا لما أوجبه، وجنايةً على دين الله.
وأيضًا فإن الله قد أخبر أنه يحب الحسنات المأمور بها، من الإيمان والعمل الصالح، وأنه يرضاها، ويحب أهلها، ويرضى عنهم، والحب مستلزم للإرادة، وهو مع ذلك فقد شاء جميع الكائنات، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد قررتُ هذه القاعدة في غير هذا الموضع، وبينتُ الفرقَ بين كلماته الكونيات، وما يتصل بها من أمر وإرادة وإذن وحكم وبعث وإرسال وغير ذلك، وبين كلماته الدينيات، وما يتصل بها من أمر وإرادة وحكم وبعث وإرسال، قررت هذا الأصل الفارق في غير موضع، وأن منه تزول الشبهات الحاصلة في مسائل الدين والقدر وتعارضهما.
وحقيقة ذلك تعود إلى أن الدين الذي أمر الله به شرعًا من بين سائر الكائنات، له من الله مزية واختصاص بذلك صار محبوبًا مأمورًا به، وذلك من وجهين:
أحدهما: من جهة عوده إلى الخلق، لما في الدين من مصلحتهم ومنفعتهم في الدنيا والآخرة بالثواب والنعيم المقيم المتعلق بالمخلوق، والمتعلق بالخالق، كالنظر إلى وجهه الكريم.
__________
(1) سورة البقرة: 254.
(6/49)
والثاني: من جهة عوده إلى الخالق، حتى يصح أن يكون محبوبًا لله مرضيًّا محمودًا مفروحًا به، وإلا فنفسُ تَنعُّم هذا العبد وتعذب هذا العبد، وصلاح هذا وفساد هذا، سواءٌ بالنسبة إلى الله من جهة الخلق والمشيئة والتكوين، فلابد أن يكون لأحدهما إلى الله إضافة وتعلق ونسبة بها يكون محبوبًا له، مرضيًّا مفروحًا به، محمودًا مثنيًّا على أصحابه، ويكون الآخر مسخوطًا عليه، ممقوتًا مبغضًا، ونحو ذلك، وراء ما يلحقه من العذاب.
وهذا الفرق هو حقيقة الدين، وسرّ الأمر والنهي، وغاية التكليف الشرير، ومقصود الرسالة والكتاب، ولهذا تكلم الناس في علة خلقه للخلق، ثم أمره بالدين.
فقال فريق: إنه فعل ذلك لنفع الخلق ومصلحتهم، وزعموا أن هذا وجه حسن الفعل والأمر، وإن لم يكن هذا واقعًا بالجميع ولا عائدًا منه حكم إلى الفاعل، وهذا قول المعتزلة وغيرهم من القدرية، ثم التزموا على هذا مسائل التعديل والتجوير، والتحسين والتقبيح بالقياس الفاسد على الخلق، واضطربوا فيه اضطرابًا لا ينضبط.
وقد يوافق بعض أهل السنة -من أصحابنا وغيرهم- هؤلاء في بعض المسائل التي لا تخالف الأصول المشهورة في السنة، وعارضهم كثير من متكلمة الإثبات للقدر، الذابين عن السنة في مواضع كثيرة، فقالوا: لا يجوز تعليل شيء من ذلك، بل خلقَ وأمرَ لمحض المشيئة، وصِرْف الأرادة، ولا يجوز تعليل ذلك بمصلحة العباد ونفعهم، ولا غير ذلك.
(6/50)
ثم إن كثيرًا من العلماء يعتقدون أن ليس في هذا الأصل العظيم الجامع- المتعلق بأصول الدين والتوحيد، وبأصول الفقه وبالشريعة- إلا هذان القولان (1)، إما التعليل بنفع العباد وصلاحهم، وإما ردّ ذلك إلى محض المشيئة والإرادة الصرفة، وهذا القول الثاني يلزمه من اللوازم الفاسدة- التي تتضمن التسوية بين محبوب الله ومكروهه، ومأموره ومنهيه، وأوليائه وأعدائه- أشياء فيها من البطلان والشناعة ما يُعلَم به تفريط هؤلاء وغلطهم، كما فرط الأولون.
ويقارب هؤلاء من يقول من الفلاسفة وغيرهم: إن هذه المخلوقات لازمة لذاته، وإن قالوا: إنها صادرة عن عنايته، وإن تضمنت ما تضمنت من منافع الخلق ومصالحهم بطريق اللزوم. ويجعلون ذلك علة غائية.
ثم إنهم يتناقضون فلا يجعلون ذلك مقصودًا للفاعل ولا مرادًا له بالقصد الأول، وإلا لزمهم ما لزم الأولين من التعليل، فيثبتون في أفعاله من الحِكَم والعِلَل الغائية والمنافع ما لا يصدر إلا عن قصد وإرادة، ثم يتكلمون عن الإرادة بما يناقض ما قالوه.
ومما يبين ذلك أن يقال لمنكري التعليل- الذين لا يثبِتون وراء العلم والإرادة لا حكمةً، ولا رحمةً، ولا لطفًا، ولا محبةً، ولا رضًى، ولا فرحًا، ولا غضبًا، ولا مقتًا، ولا غير ذلك، بل يجعلون لذلك إرادة أو فعلاً-: معلومٌ أن الإرادة المحضة خاصتها التخصيص
__________
(1) في الأصل: “هذين القولين”.
(6/51)
والتمييز، كتخصيص بعض الأعيان بنوع من المقادير والصفات والحركات وغير ذلك، مما يمكن ضده وخلافه. أما التخصيص بالخير دون الشر، والنفع دون الضر، والنعيم دون العذاب، وجَعْلُ هذا محبوبًا، وهذا مودودًا مرضئا، وهذا ممقوتًا مبغضًا مسخوطًا، فلا يجوز أن يكون معنى هذا الإرادة المحضة، لأن الإرادة متعلقة (1) بكل حادث، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وحكمُها في سائر أنوٍ اع الحوادث حكم واحد، فلِمَ سُمِّيَتْ هنا محبة وهنا بُغضًا؟ وهنا رضى وهنا غضبًا؟ وهنا مودةً وهنا مقتًا؟ ألا ترى أن الإرادة المتعلقة بغير المأمور به والمنهي عنه لا تتنوع إلى ذلك، فلا يقال في حق الجائع والشبعان والصحيح والمريض والاَمن والخائف والناكح والمحتلم والغني والفقير والرئيس والمرؤوس: هذا محبوب مرضيٌّ مودود، وهذا مبغض مسخوط ممقوت، وإن كان أحدهما متنعمًا بما هو فيه، والاَخر معذَّبًا بما هو فيه.
فإذا كان قد أثاب قومًا بعملهم الصالح في الدنيا والآخرة، وعاقب قومًا بعملهم السيء في الدنيا والآخرة، والجميع بمشيئته، كما أن التفريق بين الجائع والشبعان، وبأنه بمشيئته، فلم يجعل في هؤلاء محبوبًا ومكروهًا، ولم يجعل في باب الشبعان والجائع محبوبًا ومكروهًا، حيث لا يتعلق به أمر شرعي، فتعلُّقُ الحبِّ والرضى والبغض والسخط بالأمر الديني الشرعى، دون مالم يتعلق به ذلك- مع
__________
(1) في الأصل: “المتعلقة”.
(6/52)
أن الإرادة عامةُ التعلُّقِ بجميع الكائنات- دليل على أن باب أحدهما ليس هو باب الآخر.
وهذا بَيِّنٌ معقولٌ ببرهانٍ لمن تأمله، وهو دليل عقلي على ثبوت هذه الصفات، كما كان أصلُ التخصيصِ دليلاً على ثبوت الإرادة.
ويُقال لمثبتي التعليل من القدرية: عندكم أن جميع هذه الصفات تعود إلى معنى النفع والإضرار، فإن مصلحة العباد والإحسان إليهم وغير ذلك هو عندكم نفعهم، وضد ذلك إضرارهم، فعَطَّلتم صفاتِ الله من هذا الوجه، ولكم في الإرادة من الاضطراب ما هو مذكور في غير هذا الموضع.
ثم تزعمون أنه إنما خلق وأمر لنفع الخلق، فيقال لكم: وأي فرق بالنسبة إليه، نَفَعَهم أو لم ينفعهم؟ فإن جعلتم ذلك قياسًا على الخلق، فالخلق إنما يحسُنُ منهم نفع بعضهم لبعض، لأن النافع يعود إليه من نفعه مصلحة له، وإلا فحيث لا مصلحة له في ذلك، لا يكون نفعه حسنًا.
ويقال لكم أيضًا: النافع من الخلق يختلف حاله، بين ما قبلَ أن ينفع وبعدَ ما ينفع، فيُكسِب نفسَه بذلك صفةَ كمالٍ له، يُدرِك ذلك من نفسه، ويُدرِك ذلك الخلقُ منه، فنفسُ السخي الجواد أكمل وأشرف وأعظم من نفس البخيل الجبان، كما قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)) (1)، وقال: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ
__________
(1) سورة الشمس: 9، 10.
(6/53)
بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)) (1)، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة.
ويقال لكم: إذا كان المقصود مجرد النفع، والفاعل قادرٌ، فهلاَّ حصل؟ ففي انتفائه في صُوَرٍ كثيرة وحصول الضرر دليلٌ على أن هناك مقصودًا آخر.
ويُورَد عليهم ما في المخلوقات من أنواع المضار، وما في المأمورات من ذلك، وقد عُرفَ اعتذارُهم عن ذلك، وما فيه من التناقض والفساد.
ويُقال لهم: ما الموجبُ لما وقع من أنواع المضرَّات بالكفار والفساق؟ إذا كان المقصودُ نفعَهم بالتكليف، وهم لم يقبلوا هذا النفع، فما الموجب لمقابلتهم بأنواع من العقاب والسخط والمقت إذا لم يصدر منهم إلا مجرد عدم قبول نفعهم؟ لولا أن هناك أسبابًا أخرى وحكمةً أخرى لم يعلموها، ولم يتكلموا بها، فهذا هذا.
وأيضًا فالكتاب والسنة إنما أطلق الحب والبغض والودَّ والمقت والرضا والغضب والفرح والأذى، دون لفظ اللذة والألم، لأن هذين الاسمين كثيرًا ما يطلقان في خصائص المخلوق التي تنفعه وتضره، مثل الاكل والشرب والنكاح، ومثل المرض الذي هو الوَصَبُ والنَّصَبُ والجوع والعطش والعذاب بالنار ونحو ذلك، قال الله تعالى: (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ
__________
(1) سورة الليل: 5 – 10.
(6/54)
مُصَفًّى) (1)، وقال: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) (2)، وقال تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)) (3)، فالالتذاذ والانتفاع متقاربان، والتألم والتضرر متقاربان، وإن كان المنفعة والمضرة أعمَّ في الاستعمال، ولهذا قيل: إن المنفعة قرينة الحاجة، فإنما ينتفع الحي بما هو محتاج إليه، ويتضرر بما يؤلمه، وقد قال الله تعالى- فيما يُروى في الحديث الصحيح (4) -: “يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضرّي فتضروني”، وهذا الحديث ينفي بلوغَ الخلقِ لذلك، وعجزهم عن ذلك، وما فعله الخلقُ فإنما فعلوه بقوة الله ومشيئته وإذنه، ولا حول ولا قوة إلا به.
وقد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (5)، وقال: (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) (6)، وقال في الحديث الصحيح (7): “يؤذيني ابن آدم”. وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما أحدٌ أصبرَ على أذى يسمعه من الله ” (8)، كما قال: “ما أحدٌ أحبَّ إليه المدحُ من الله ” (9)، وقال: “ما
__________
(1) سورة محمد: 15.
(2) سورة الزخرف: 71.
(3) سورة الانشقاق: 24.
(4) أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر.
(5) سورة الأحزاب: 57.
(6) سورة الزخرف: 55.
(7) عند مسلم (2246) من حديث أبي هريرة.
(8) أخرجه البخاري (6099) ومسلم (2804) من حديث أبي موسى.
(9) أخرجه البخاري (4634) ومسلم (2760) من حديث ابن مسعود.
(6/55)
أحدٌ أغيرَ من الله، وما أحدٌ أحبَّ إليه العذرُ من الله” (1)، فأخبر – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه ليس أحد يحب أن يُمدح ويعذر مثل ما يحب الله ذلك، ولا أحد أصبر على أذاه وأغير على محارمه من الله، فالممدوح بإزاء المعذور يمدح على إحسانه، ويعذر على عدله وعقوبته، والصبر بإزاء الغيرة، يصبر على أذى خلقه له، ويَغَارُ أن تُرتكب محارمه.
وعن هذا خُلُق النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كما قالت عائشة: “ما انتقمَ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قطُّ لنفسه، إلا أن تُنتَهك محارمُ الله، فإذا انتُهِكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله” (2). فهذا صبر الرسول على ما يؤذي، وهذا غيرته وانتقامه لمحارم الله.
وفريق رابع يقولون: إنه فعل ذلك ليُحمَد ويُشكَر ويُمجَّد، أعني خَلْقَه سبحانه للخلق، كما دلت عليه النصوص في مثل قوله تعالى: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (3)، وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (4)، وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (5)، وقوله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (6)، وقوله: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) (7)، وقوله: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
__________
(1) أخرجه البخاري (7416) ومسلم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة.
(2) أخرجه البخاري (6853) ومسلم (2327).
(3) سورة الذاريات: 56.
(4) سورة البقرة: 21.
(5) سورة المائدة: 89.
(6) سورة البقرة: 152.
(7) سورة لقمان: 14.
(6/56)
وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)) (1)، وقوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)) (2).
وفي الأحاديث كثير، مثل قوله … (3).
لكن هؤلاء [يَردُ] عليهم سؤالان عظيمان، سؤال متعلق بالأفعال والقدر، وسؤال متعَلق بالأسماء والصفات.
أحدهما: أنه فعل ذلك، فلمَ لا حصلَ مراده مع قدرته عليه؟ فإذا كان مراده العبادة، فلِمَ لا حَصلت من جميعهم؟
وهذا السؤال لما استشعر الناس وُرُوْدَه، أجابوا عنه على أصولهم، فقال كثير ممن ينصر السنة: (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) (4): إلا ليعرفُون، يعني المعرفة العامة الفطرية الموجودة في المؤمن والكافر. وهذا الَقول ضعيف جدّا، لأنه ذمهم على ترك ذلك، ولأن ذلك لم يوجد من المجانين ولا من الجاحدين، ولأنه أيُّ مقصود له في ذلك حتى ينفيَ إطعامَهم ويُثبِتَ ذلك، إذا كان الكلُّ سواء؟
ومنهم من جعل الجنَّ والإنس هنا خاصّا لمن عبدَه، وهو ضعيف لوجوه.
ومنهم من قال: إلا لآمُرَهم بالعبادة. وهو قريب إذا تمّم.
__________
(1) سورة المائدة: 6.
(2) سورة إبراهيم: 37.
(3) بعده في الأصل:”في الأصل مكان خال مقدار سبعة أسطر”.
(4) سورة الذاريات: 56.
(6/57)
وقالت القدرية: ما أراد منهم كلهم إلا العبادة، لم يُرِدْ غيرَ ذلك، لكن منهم من خالف مرادَه كما عصى أمرَه، ومنهم من لم يخالف.
فقيل لهم: ولِمَ خلقَهم للعبادة؟
فقالوا: لنفعهم.
قيل لهم: فقد أراد ما علم أنه لا يحصل.
وقيل لهم: لأيِّ شيء أراد نفعَهم؟ فاضطربوا.
ثم قيل لهم: فلِمَ لا أعانَهم على مراده؟
فقالوا: استفرغ وسعه، ولم يُمكِنه أن يجعل لهم إرادة، وإنما أمكنه أن يجبرهم ويضطرَّهم إلى الإيمان والعبادة، وتلك لا تنفعهم. وأما العبادة الاختيارية فلا يقدر عليها إلا هم، ولا يفعلها إلا هم. والتزموا من اللوازم الفاسدة ما يطول وصفه، وردّ الناس عليهم ردودًا يطول وصفها.
وقيل لهم: وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) (1)، وقال: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (2)، قال جمهور السلف: ما دلَّ عليه الخطاب: خلقَ فريقًا للرحمة، وفريقًا للاختلاف.
فقالوا: هذه لام العاقبة والصيرورة، لا لام الغرض والقصد
__________
(1) سورة الأعراف: 179.
(2) سورة هود: 118، 119.
(6/58)
والإرادة، فإن الفاعل الذي يَقصِدُ غايةً تكون اللام في فعله للتعليل والإرادة، إذ هي العلة الغائية، والذي لا يقصدها تكون اللام في فعله لام العاقبة.
فيقال لهم: لام العاقبة إما أن تكون من جاهل بالعاقبة، كقوله: (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) (1)، أو من عاجز عن دفع العاقبة السيئة، كقولهم (2):
لِدُوا للمَوتِ وابْنُوا للخَرابِ
وقولهم (3):
وللموتِ مَا تَلِدُ الوالِدَهْ
فأما العالم القادر فعلمه بالعاقبة وقدرتُه على وجودِها ودفعِها، يبتغي أن لا يكون مريداً لها.
فافترق القدرية فرقتين:
منهم من اختار أنه لم يكن عالمًا بما يؤولُ إليه الأمرُ من الطاعة والمعصية.
__________
(1) سورة القصص: 8.
(2) هذا صدر بيت عجزه: فكلكم يصير إلى ذهابِ. واختلف في نسبته، فهو لأبي نواس في ديوانه (ص 200)، ولأبي العتاهية في الأغاني (3/ 155) وديوانه (ص 23 – 24)، وبلا نسبة في الحيوان (3/ 51).
(3) وقع هذا الشطر في شعر عدد من الشعراء، انظر “شرح أبيات مغني اللبيب” (4/ 296، 297).
(6/59)
ومنهم من اختار أنه لا يقدر على أن يَفعلَ بهم غيرَ ما فعل من الإعانة، وهؤلاء أكثر القدرية.
ولا بدَّ من بيان الكلام في ذلك على أصول العربية التي نزل بها القرآن، فإن هذه اللام التي يُنصَبُ بها الفعلُ تسميها النحاةُ لام [كَيْ]، وهي في الحقيقة لام الجرّ، أُضمِرَ بعدها “أنْ” فانتصب الفعل، ولهذا تليها الأسماء المجردة، كما في قوله: (لِجَهَنَّمَ).
والمجرور بها تارةً يكون سببًا فاعليًّا، كما تقول: فعلتُ هذا لأني اشتهيتُه وأحببتُه. وقد يكون سببًا غاليًّا، كما تقول: فعلتُ هذا ليُرضي زيدًا وليُحسن إليَّ.
وأما المنصوب على المفعول له فلا يكون إلا لسبب الفاعل، كقوله: (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) (1) ونحو ذلك، والفرق بينهما مذكور في غير هذا الموضع.
وأما الذين أَجْرَوا الآيةَ على مقتضاها مع الإيمان بالسنة، وقالوا: المراد أن يُعبد ويُحمد ويُشكر، فمنهم من يقول: قد وُجدَ ذلك من بعضهم. ومنهم من يقول: مقصوده أمرهم بذلك، لا نفس وجودَ المأمور به.
والتحقيق أن اللام هنا لام إرادة المحبة والرضا والأمر، لا لام الإرادة العامة الشاملة للكائنات. واللام في قوله: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (2) (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ) (3) لام الإرادة العامة الشاملة، فتلك الإرادة
__________
(1) سورة البقرة: 207.
(2) سورة هود: 119.
(3) سورة الأعراف: 179.
(6/60)
الدينية، وهذه الإرادة الكونية، ويجب الفرق بين اللامين والعلتين والغايتين، كما فرق بين الأمرين والإرادتين والحكمين والبعثين والإرسالين. وليس كلُّ ما يحبه ويرضاه ويفرح به لخلقه يكون، وإنما كل ما شاء يكون.
وقد رُوينا في كتاب القدر (1) عن ابن عباس: أن الأنبياء موسى وعزيرًا والمسيح سألوا عن هذه المسألة، فقالوا: أيْ رب! أنت رب عظيم، لو تشاء أن تُطاعَ لأطِعْتَ، ولو تشاء أن لاتُعصَى لما عُصِيْتَ، وأنت تُحِبُّ أن تُطَاعَ، وأنت مع ذلك تُعصى؟ فاوحى الله إليهم: “إنّ هذا سِرّي، فلا تسألوني عن سِرّي”.
وذلك أنه وإن أحث عبادتهم، فلا يجب في كل ما أحبه الحيُّ أن يفعله، بل قد يكون في حقنا من يترك محبوبه لمعارضٍ راجح، أو يتركه فلا يفعله لا لمعارض راجح، ولا نَقْصَ في ذلك، كالأفعال الحسنة التي تُستحبُّ لنا، كما قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (2). وقال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (3).
__________
(1) من الإبانة لابن بطة (2/ 314). وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/ 260)، قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (7/ 200): فيه أبو يحيى القتات وهو ضعيف عند الجمهور، وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في غيرها. ومصعب بن سوار لم أعرفه. وبقية رجاله رجال الصحيح.
(2) سورة البقرة: 253.
(3) سورة إبراهيم: 27.
(6/61)
وأيضًا فإن الله يُحِبُّ هذه الأعيان والأفعالَ والصفاتِ بتقدير وجودها، كما يسمع المسموعاتِ ويُبصر المدركات بتقدير وجودها، وأما ما لم يُوجَد منها وقد عُلِمَ أنه لا يُوجد، فلا يقال: إنه يُحِبُّ العدمَ المحض والنفيَ الصرف، كما لم يتعلق به حمد ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، والله خلق الجن والإنس، والغايةُ المحبوبة منهم التي بها يَكمُلُون ويصلحون وينالون الكرامةَ ويحبُّهم الحقُّ أن يعبدوه، فإذا لم يَبلُغوا هذه الغايةَ لم يبلغوا سعادتَهم، ولا محبوبَ الحقِّ منهم. ثم إن منهم من شاء كونَ العبادة أمنه، فأعانَه، ومنهم من لم يشأكونَ ذلك منه فلم يُعِنْه، ولكنه من ذَرْئه لجهنم.
السؤال الثاني: أيُ مقصود له في أن يعبدوه ويحمدوه إذا كان غنيّا عن العالمين؟ وهو أحدٌ صمدٌ، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد. ثم إما أن يكون يحصل بالعبادة ما لم يكن حاصلاً، فيكون قبله ناقصاً، أو يكون قبل العبادة وبعدها سواء، فسِيَّانِ عبدوه أو لم يعبدوه. ويتصل ذلك الكلام في حلول الحوادث به، إذا حصل له بالعبادة ما لم يكن حاصلاً.
وهذا السؤال هو الذي منع جمهور متكلمي أهل الإثبات عن التعليل وردّ الأصول إلى محض المشيئة، فيقولون في الجواب: غِناه عن العالمين لا يَمنع أن يحبَّ ويرضى ويفرح، والإيمان به، وعبادته، وشكره، والعمل الصالح، وأن يفرح بتوبة التائب (1)، لأن هذه الأشياء
__________
(1) في الأصل: “الساب”.
(6/62)
إذا وُجدَتْ فهو الذي خلقها وأوجدها، فلم يكن في ذلك فقرٌ إلى غيره بوجه مَن الوجوه.
وأما تجدُّد هذه العبادات فهو بمنزلة تجدُّد المسموعات والمرئيات في كونه يسمعها ويراها، فما كان الجواب عن تلك فهو الجواب عن هذه.
كما يقال: إما أن يكون بالسمع والبصر يَحصُلُ له إدراكٌ لم يكن، أو لم يَحصُلْ؟ فإذا لم يَحصُلْ فلا فرق بين وجودها وعدمها، وإن حصل لزم أن يكون قبل ذلك ناقصًا، ولزِمَ حلولُ الحوادث به.
فإذا أُجيب عن ذلك بأن ذلك ليس بكمال بالنسبة إليه، أو أنَّ المتجدِّد هوَ أمر عدمي لا أمر ثبوتي، وقنع العقل بذلك الجواب، فهو الجواب هنا.
وإن قيل: الكمال أن يكون بحيثُ يَسمع ويُبصِر كلَّ ما يحدث من مسموع ومرئي.
قيل: والكمال أن يكون يحبّ ويفرح بكل ما يحدث من محبوبٍ ومرضيّ ومفروح به.
وإذا قيل: ليس ثبوت هذا الإدراك بمنزلة حلول الحوادث بالمخلوق التي تستلزم حدوثَه وإمكانَه.
قيل: وليس (1) ثبوت هذه الأحوال المتعلقة بالإدراك- من المحبة
__________
(1) في الأصل: “وليست”.
(6/63)
والرضا والفرح والغضب- بمنزلة حلول الحوادث بالمخلوق، التي تستلزم حدوثه وإمكانه.
وإن قيل: إن علمه وسمعه وبصره وإرادته تتعلق بالأنواع الكلية الحافظة لما يتجدَّدُ من الأشخاص التي تندرج فيها.
قيل: وكذلك محبته ورضاه وفرحه تتعلق بالأنواع الكلية الحافظة لما يتجدد من الأشخاص التي تندرج فيها.
فما كان جوابًا عن أحد البابين، وهو ما أُثْبِتَ من الصفات كالسمع والبصر والإرادة، فهو الجواب عن الباب الآخر، وهو المحبة والرضى والفرح ونحو ذلك. وإنما يتخيَّلُ الفرقُ لكثرة النظر والاعتبار في أفعال الربوبية، وتعلقِها بالصفات التي بها صدرتِ الأفعالُ ودلَّت الأفعالُ عليها، فإن أكثر نظر الكلاميين والبحاثين في هذا.
وأما النظر في الغايات المطلوبة في العباد، وهو مقتضى الإلهية وما يتعلق بذلك من صفات الحب والبغض والرضا والغضب، فإن الرسل الذين دَعَوا إلى عبادة الله جاؤوا به، وإنما يحققه أهل العلم والإيمان من أهل ولاية الله تعالى وخاصته.
فإن قيل: هذا يقتضي وصفَه باللذة، ومَن وصفَه بها وصفَه بالألم، وذلك يقتضي حدوثه أو إمكانه.
قيل: العبارات المجملة لا نُطلِقُها إذا لم يجيء بها الشرعُ إلا مفسَّرةً، فالشرع جاء بالحب والرضا والفرح والضحكْ والبشبشة ونحو ذلك، وجاء أنه يُؤذى ويصبر على الأذى، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ
(6/64)
ورسوله) (1)، وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “ما أحدٌ أصبرَ على أذًى يسمعُه من الله” (2). وقال الله تعالى: “يُؤذيني ابنُ آدمَ يَسُبُّ الدهرَ وأنا الدهرُ، بيدي الأمرُ أقلِّبُ الليلَ والنهارَ” (3)، وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – للباصقِ في القبلة: “إنك قد آذيتَ الله ورسوله” (4)، وقال: “مَنْ لكعب بن الأشرفِ، فإنه قد آذى الله ورسوله” (5).
فهذه الصفات حقّ نطقَ بها الكتاب والسنة، واتفق عليها سلفُ الأمة وعامة أهل العلم والإيمان من أهل المعرفة واليقين، ودلَّ العقل القياسي والعقل الإيماني على صحتها، فلا خروجَ عن هذه الأدلةِ والسنةِ والجماعة وزمرةِ الأولياء والأنبياء.
وأما إطلاق لفظ “اللذة” فقد أطلقه قومٌ من أتباع الأوائل ومن هذه الأمةِ المتفلسفة وغيرهم، كما أطلقوا لفظ “العشق”، وهو بالمعنى الذي فسروه به ليس بباطل، لكن اتباع الألفاظ الشرعية في هذا الباب من الأدب المشروع لنا، إما إيجابًا وإما استحبابًا، فإذا تركنا إطلاق هذا اللفظ مع صحة المعنى، فلعدم جواز الخروج عن الألفاظ الشرعية في هذا الباب، أو لاستحباب ترك الخروج عن الألفاظ الشرعية في هذا الباب.
__________
(1) سورة الأحزاب: 57.
(2) سبق تخريجه قريبًا.
(3) سبق تخريجه قريبًا.
(4) أخرجه أحمد (4/ 56) وأبو داود (481) من حديث أبي سهلة.
(5) أخرجه البخاري (2510) ومسلم (1801) من حديث جابر.
(6/65)
وأما إذا كان اللفظ فيه إجمال، فإطلاقه بلا تفسيرٍ ممنوع منه، لما فيه من إضلال المستمع، وتنفير القلوب الصحيحة، ولعدم دلالته على المعنى المقصود إلا بعد مقدمات غير مذكورة، لكن هؤلاء يجعلون ذلك متعلقًا بنفسه فقط، فيقولون: هو عاشق ومحبّ لنفسه، ويلتذُّ ويبتهج بها، [و] الذي جاءت به الكتب والرسل أن حكم ذلك يتصل بعباده الصالحين، فيحبهم ويرضى عنهم ويفرح بتوبتهم، وإلى هذا دعت الرسل، وفيه نزلت الكتب.
والقراَن والإيمان يفرِّقان بين من يحبه ويبغضه، ويرضاه ويسخطه، ويودُّه ويمقته، وبذلك حصل الفرق بين أولياء الله وأعدائه. وأولئك المتفلسفة لا يصعدون إلى هذا، فإنهم صابئة، وغالبهم عُبَّاد لغير ذلك من العلويات والسفليات إلا من هداه الله، فآمن بالله واليوم الآخر، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (1).
وأما كون ذلك مستلزمًا للحدث أو الإمكان فلا دليلَ عليه البتة، بل عامة الصفات الثابتة قد يقال فيها مثل ذلك. ومن أثبتَ شيئًا من الصفات مثل إرادة قائمة، يُورَدُ عليه مثلُ ذلك، بل نفس إثبات كونه خالقًا وآمرًا بالدين، يُورَدُ عليه مثلُ ذلك، وهو إيراد فاسد، لأن مبناه على قياس الله على ابن اَدم، الذي كان معدومًا ثم وُجِدَ، ولا وجودَ له
__________
(1) سورة البقرة: 62.
(6/66)
من نفسه، وإنما وجوده بخالقه، والله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا يجوز ضربُ المثلِ له من مخلوقاته.
وإذا تبيّن أن الإرادة نوعان: منها ما هو بمقتضى الربوبية، وهي الإرادة الكونية، ومنها ما هو بمقتضى الإلهية، وهي الإرادة الدينية، فالأولى إرادة فاعلية، والثانية إرادة غائية، الأولى من اسمه الأول، والثانية من اسمه الآخر، الأولى يكون الرب بها مريدًا والعبد مرادًا إرادةَ تكوين وربوبية، ولذلك قد يكون مريدًا، والثانية يكون الربُّ بها مريدًا إرادةَ حبّ ورضًى وإلهيةٍ، والعبد أيضًا مريدًا إرادةَ عبادةٍ وديانةٍ وإنابةٍ وإرادةٍ وقصدٍ، وقد يكون بها مرادًا إرادةَ ربوبيةٍ إذا حصل ذلك.
تمت هذه القاعدة بحمد الله وعونه، والحمد لله وحده.
(6/67)
فصل في صفات المنافقين
(6/69)
(وهذا فصل من كلام الشيخ تقي الدين رضي الله عنه من غير الكلام الأول).
فصل
ذكر الله المنافقين في القرآن فوصفهم بصفاتٍ كقول الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)) (1).
وهذا كما قال من قال من السلف المفسرين، كقتادة وغيره: عرفوا ثم أنكروا، وأبصروا ثم عَمُوا، واهتدوا ثم ضلوا، ونحو ذلك. فإنه أخبر أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وهذه حال من أخذ الضلالة التي لم تكن عنده، وأخرج الهدى الذي كان عنده، وإن كان قد يُقال: إن مثل هذا قد يُقال للقادر على الأمرين، إذا ترك هذا وأخذ هذا، لكن سياق الكلام يدل على الأول، فإنه قال: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) أي طلب إيقادها وأوقدها، (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) إلى آخر الآية، فمثَّلَهم بالذي جعل لنفسه نارًا يُنتفع بضوئها، فلما أضاءت
__________
(1) سورة البقرة: 16 – 20.
(6/71)
ذهب النور، وبقي في ظلمة لا يبصر، وأخبر أنهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)) إلى الحال التي كانوا عليها من الهدى والنور.
وأما المثل الثاني وهو حال المطر الذي فيه ظلمات ورعد يُسمَع، وبرْق يرى، وأنهم يخافون من صوت الصواعق ومن لمعان البرق، فيمتنعون، فتحصل الاَفة في سمعهم وبصرهم، وأنهم مع ذلك إذا (أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) فهذه حال من يكون إدراكه الذي هو سمعه وبصره، وعمله الذي هو حركته، فيه خلل واضطراب وآفة ونقص وفساد، ولكن لم يعدم ذلك بالكلية.
وهذه تُشبِه حالَ من فيه إيمان ونفاق، وفي قلبه مرض، والأولى حال من ارتد عن الهدى بالكلية.
وقد قال أيضًا في سورة المنافقين (1): (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)) فأخبر أنهم آمنوا ثم كفروا كما ذكر نحو ذلك في سورة البقرة، وهذا يقتضي شيئين، أحدهما: أنه قد كان منهم ما هو إيمان، وأنهم رجعوا عنه، ومعلوم أنهم ليسوا كالمرتدين الظاهري الردة، فإن ذلك قسم آخر ذكره الله في القرآن في غير موضع، وله حكم آخر في الكتاب والسنة، بل هذه حال المنافقين المتناقضين، الذين يقولون قول المؤمنين،
__________
(1) الآيات 1 – 3.
(6/72)
ويقولون ما ينقض قول المؤمنين، ولو كانوا صادقين محقِّقِين القولَ الأول لم يأتوا بما يناقضه.
وليسوا أيضًا تاركين لكل ما يتركه المؤمنون ويفعلونه، بل يوافقونهم على شيء، ويوافقون شياطينهم على شيء، وهم وإن كانوا في الظاهر مع المؤمنين، ففي الباطن مع شياطينهم، وهذا هو النفاق، وقد فُسر بذلك إيمانهم وكفرهم، أي آمنوا ظاهرًا ثم كفروا باطنًا.
فالقراَن يدلّ على أنهم أولاً حصلَ لهم هدى، ثم رجعوا عنه، مع كونهم أظهروا خلاف ما يُبطِنون، وهذه حال طوائف من العباد، يُقِرون بالحق من بعض الوجوه، ولم يقروا به إقرارًا تامًّا، فهم كاذبون في دعواهم الإيمان به، ثم إنهم يتناقضون فيأتون بما ينافي الإيمان، وقد قال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) (1)، فهذا يبين أنهم دخلوا في الإسلام الذي إذا عملوا فيه عملاً صالحًا لم يُنقَصوه، ومع ذلك لم يدخل حقيقةُ الإيمان إلى قلوبهم، فكثير من الناس يُقِر بالحق ابتداءً، وإن لم يكن في قلبه إذ ذاك تكذيبٌ به أو بغضٌ له، بل لا يكون في قلبه حقيقة التصديق والمحبة، وإن كان فيه بعض ذلك، مع إقراره بلسانه وظاهره.
وفرق بين ان يقوم بقلبه نقيضُ ما أظهره، وبين أن لا يحقق بقلبه ما أظهره، فإن الأول قام بقلبه كفرٌ وجودي، وهذا لم يقم بقلبه كفر
__________
(1) سورة الحجرات: 41.
(6/73)
وجودي، لكن لم يقم بقلبه حقيقة الإيمان، وإن كان قد دخل فيهم منادي الإيمان، إذ تكلموا به، وكان له أثر في قلوبهم، فهذا- والله أعلم- حال الموصوفين في سورة البقرة والمنافقين، فإنه قال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)) (1) فأخبر أنهم في الحقيقة لم يؤمنوا، وأن في قلوبهم مرضًا، والمرض يكون ريبًا وشكًّا. وأخبر أنه إذا قيل لهم: (آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ) (2)، وأخبر أنهم يوافقون في الظاهر المؤمنين، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزؤون، ثم أخبر عنهم (3) بما يقتضي ردتهم عن هُدًى حصل لهم، فهذا- والله أعلم- يقتضي أنهم في أول الأمر حصل لهم أمر ناقص، لا يستوجبون به حقيقة الإيمان، كما ذكر عن الأعراب، ولكن لو استمروا على اتباع الحق قوي إيمانهم، فرجعوا عن ذلك الهدى ونافقوا المؤمنين.
والنفاق ينقسم إلى أكبر وأصغر، ومن تدبَّر حالَ كثير من أئمة الضلال- من المتفلسفة والقرامطة والباطنية، ومن فيه شُعَبٌ من ذلك من الجهمية والرافضة ونحوهم- وجدَهم على ذاك الحال، فإنهم يتناقضون، فيقرون بالحق وينكرونه، ويعرفونه ثم ينكرونه، ولهذا يجمعون في كلامهم بين ما هو من قول المؤمنين، وبين ما هو من قول الكفار الجاحدين، كالذي يكون مسلمًا، ثم يتفلسف وينافق شيئًا بعد شيء، كالقرامطة الذين كان أولاً فيهم إسلام، وإن كانوا مبتدعة من
__________
(1) سورة البقرة: 8.
(2) سورة البقرة: 13.
(3) في الأصل: “انهم”.
(6/74)
الشيعة مثلاً، ثم إن النفاق قوي فيهم، حتى جحدوا ما كانوا أقروا به أولاً، وصاروا يقولون: لا نقول حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا سميع ولا أصمّ، ولا بصير ولا أعمى، ولا يتكلم ولا ساكت، ونحو ذلك، فيمتنعون أن يصفوا الله تعالى بالصفات الثبوتية أو السلبية. فهذا في الحقيقة ترك الإيمان الواجب، وإن كانوا قد تركوا أيضًا الكفر الوَجودي، فإن عدم الإيمان كفر، وبذلك يزول الهدى والنور الذي حصل لهم، وكذلك إذا قالوا: هو موجود، لكن ليس بعالم ولا قادر ولا حي، وكذلك إذا قالوا: لا داخلَ العالم ولا خارجَه.
ولا ريب أن في هؤلاء طوائفَ فيهم إقرار وإنكار، وعلم وجهل، فهؤلاء لهم المثل الثاني. [والله] سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
ثم إنه سبحانه ذكر هذين المثلين للمنافقين، أحدهما: المستوقد للنار. والثاني: الصيّب، هذا بالنار، وهذا بالماء، وهذا التمثيل نظير التمثيل بهما في سورة الرعد، بقوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) (1)، فإنه ذكر أيضًا ما يعمله الماء والنار، وأن النار فيها إضاءة ونور وإشراق مع الحرارة، والماء هو مادة الحياة مع الرطوبة والحياة، والنور جماع الهدى، كما قال تعالى: (أوَ مَن كاَنَ مَيْتًا
__________
(1) سورة الرعد: 17.
(6/75)
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (1)، وقال: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ) (2).
والماء وإن كان مادة الحياة، فالنار أيضا كذلك، ولهذا فيها من الحركة والشوق والإرادة ما يستلزم الحياة، لكن الماء فيه برودة ورطوبة يحصل به الإحساس الذي لا بدَّ فيه من لين، والنار فيها الحرارة التي توجب العمل، والإرادة التي لا بدَّ فيها من حركة، فهذا مادة الإحساس، وهذا مادة الحركة الإرادية، والحياة مستلزمة لهذا ولهذا، فإن الحي المطلق لا يكون … (3)، ولهذا يجمع الله بين حقيقة هاتين النعمتين والآيتين اللتين بهما يكمل الموجود فيما ينزله على رسله، وما خاطبت به الرسل لقومها، بل أول ما يعرف به آياته أسباب الحياة والهداية، فأول ما أنزل الله على نبيه محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) (4)، فذكر الخلق والهداية عموماً وخصوصاً، وذكر خلق الإنسان من علق، إذ هو في هذا الطور يصير حيّا، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” يُجمَع خَلْقُ أحدِكم في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع
__________
(1) سورة الأنعام: 122.
(2) سورة فاطر: 19 – 22.
(3) هنا بياض في الأصل بقدر كلمة.
(4) سورة العلق: 1 – 5.
(6/76)
كلمات، فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح ” (1).
فهو بعد المضغة ينفخ فيه الروح، فلو قيل: خلقه من مضغة، لكان يُظَنُّ أن الروح خلقت من مضغة، بخلاف ما إذا قيل: خُلِقَ من علق، فإنه يعلم أن المخلوق منها هو المضغة، التي يُنفخ فيها الروح.
وأيضًا فالعلق واسطة بين النطفة وبين المضغة، وأيضًا فمن يصير علقة يُخلَق فيُميَّز رأسه ويداه ورجلاه، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) (2)، قال من فسّر ذلك من السلف: المخلَّقة ما تمَّ خلقها، وغير المخلَّقة ما أسقطها الرحم. ليبين الله لعباده مبداً خلقهم، وأنهم خُلِقوا من هذه المضغة. ولهذا تكلم الفقهاء فيما تُلقِيه المرأة، مما يثبت به حكم النفاس، وتنقضي به العدة والاستبراء، وتصير به المرأة أم ولد، فإنه إذا كان مضغة مخلَّقة فلا ريب فيه، وأما إذا كان مضغة غير مخلَّقة أو علقة ففيه نزاع، فلما قال: خلق من علق، دلَّ بذلك على أن تخليق البدن بتصوير الأعضاء كان من نفس العلقة، وهذا أخصّ من خلقه من نطفة، فإن ذلك تقدير جملته وتصويرها قبل التفصيل.
وأيضًا فالعَلَق أول الاستحالات التي يُخلَق منها، فإنه قبل ذلك كان نطفة، والنطفة لا تتعين أن تكون مبدأ الإنسان بلا ريب. ولهذا يتنازع الفقهاء أنها لو ألقت نطفة، لم يثبت به شيء من أحكام الولد، لا
__________
(1) أخرجه البخاري (3208) ومسلم (2643) من حديث ابن مسعود.
(2) سورة الحج: 5.
(6/77)
نفاس، ولا عدة، ولا استبراء، ولا استيلاد، ولا غير ذلك، بخلاف العلقة، والعلقة تنازعوا فيها، لأنه يجوز أن تكون مبدأ آدمي، ويجوز أن لا تكون، ولهذا قال من قال منهم: يرجع في ذلك إلى شهادة القوابل وغيرهن.
وأيضًا فالعلق دم، والدم فيه الحرارة والرطوبة، وهما سبب الحياة، ولهذا كان الدم مادة حياة الإنسان، وفيه الأرواح البدنية التي تكون فيها القوى. وقد دل هذا الكلام على أن الإنسان الذي هو جوهر جسم قائم بنفسه وأنه صورة- مصورة، مخلوق من هذه المادة التي هي جسم أيضًا، وهي العلق. فبان بهذا أن الحادث بعد أن لم يكن جوهر قائم بنفسه، ليس كما يطلقه بعض المتكلمين والمتفلسفة أن الحادث إنما هو صفات في الجواهر، فإن الفرق بين الصور والأجسام، وبين الصفات والأعراض، فرق ظاهر كما قد بيناه في غير هذا الموضع.
والفلاسفة يفرقون أيضًا بين الأمرين، ويقولون: الحال في المحل إن كان المحل مستغنيًا عنه فهو الموضوع، وهو الجوهر، والحال فيه هو العرض، وإن كان المحل محتاجًا إليه، فهو الهيولى، والحالّ فيه هو الصورة، ومجموعهما هو الجسم، ويقولون: إن الهيولى جوهر، والصورة جوهر، والجسم جوهر، والموضوع جوهر، بخلاف الحال في الموضوع فإنه عرض.
والجواهر عندهم خمسة (1): المادة، والصورة، والجسم،
__________
(1) في الأصل: “أربعة”.
(6/78)
والعقل، والنفس، وإن كان الذي لا ريب فيه هو الجسم والصورة، فأما ما يقوله من المادة للجسم، ومن وجود موجود قائم بنفسه ليس بجسم، فهذا لاحقيقة له، كما قد بُيِّن في موضعه.
والمقصود هنا أن الله سبحانه ذكر خلق الإنسان من علق، وهو الإنسان حيّ، فذكر خلق الحياة، ثم ذكر التعليم مطلقًا، والتعليم بالقلم، وهو الهداية التي هي النور، فذكر خلق الحي وهدايته، مبينًا بذلك أنه خالقه أول ما أنزل على نبيه، وكذلك قال: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)) (1)، فذكر أيضًا هذين النوعين. وكذلك قال موسى لفرعون: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)) (2).
وفي إثبات الربوبية بهذه الطريقة فوائد عظيمة يطول ذكرها هنا.
منها: أن ذلك تعريف للإنسان بحال نفسه ونوعه وجنسه، وذلك أقرب الأمور إليه، فهي دلالة له لازمة له ذاتية.
ومنها: أن ذلك يبين فقره وحاجته، وأنه مربوب مقهور مدبَر.
ومنها: أن ذلك يثبت القدر، وأنه خالق الحيوان وأفعالهم، وذلك يدلّ بطريق التنبيه على خلق غير الحيوان، فإن كثيرًا من الناس عرضت لهم شبهة في خلق أفعال الحيوان، لما له من العلم والقدرة والإرادة.
__________
(1) سورة الأعلى: 1 – 3.
(2) سورة طه: 50.
(6/79)
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ما يستدل به على أن الله خالق غير العبد، يُستدل به على ذلك في العبد، وإن أشبهه ذلك، حتى إن مناظري القدرية لم يتفطن جمهور متكلميهم على ذلك. وذكرنا أن الخوض في القدر أصل كل شبهة في العالم، فبين سبحانه أنه خَلَقَ وعلَّم، وخلق فسوىَ، وقدَّر فهدَى، فإنه إذا كان هو المعلم الهادي إلى خلقه، فمعلوم أن مبدأ الحركات الإرادية هو جنس العلم، والتعليم ينطبق على تعليم الناطق والبهيم، كما قال تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) (1)، وذكر الكلب المعلَّم، والفرق بينه وبين غير المعلم ثابت بالسنة الثابتة واتفاق العلماء.
ولهذا قال سبحانه: (قدر فهدى (3)) (2) فجعل التقدير قبل الهداية، كما جعل الخلق قبل التسوية، والتقدير يتضمن علمه بما قدره، وقد يتضمن تكلمه به وكتابته له، فدلَّ ذلك على ثبوت القدر، وعلى أن أصل القدر هو علمه أيضًا، فدلَّ ذلك على أنه بكل شيء عليم، ولهذا قال في السورة الأخرى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) (3)، والكتابة بالقلم تتضمن القول، والقول يتضمن العلم، وهذه الثلاثة هي مراتب التقدير العلمي، وذلك مذكور بعد خلق العين، فذكر إحداثه لذاته وصفاته وأفعاله، فانظر كيف كانت الرسالة تتضمن الدلالة بهذين الأصلين: الخلق المستلزم للحياة، والهدى
__________
(1) سورة المائدة: 4.
(2) سورة الأعلى: 3.
(3) سورة العلق: 4، 5.
(6/80)
والنور الذي هو كمال الحياة.
وكذلك قال الخليل عليه السلام لما قال: (ربى الذى يحيي ويميت) (1)، ذكر الأصل الأول، ثم ذكر أن الله يأتي بالشمس من المشرق، وفي الشمس الضياءُ والنور الذي يُعِيش الناس، فذكر الحياة والنور.
فهذه المعاني في التمثيل بالماء والنار، وأيضا فالماء رطب، والنار حارة، والحياة إنما تحصل بالحرارة والرطوبة، ولما ذكر الله في سورة الواقعة خلقه للنسل والحرث للخلق والرزق بقوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)) (2)، وقوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)) (3)، فذكر النسل والحرث، وذلك يتضمن خلق الإنسان وخلق طعامه، كما قال: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)) (4) الآية، ثم ذكر بعد ذلك ما يتم به الحرث والنسل من الماء والنار، فقال: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)) (5)، (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)) (6).
وأيضا فالتمثيل بالنار يقتضى الحركة، وحرارة الطلب والإرادة،
__________
(1) سورة البقرة: 258.
(2) سورة الواقعة: 58، 59.
(3) سورة الواقعة: 63، 64.
(4) سورة عبس: 24.
(5) سورة الواقعة: 68.
(6) سورة الواقعة: 71.
(6/81)
والشوق والمحبة، والنور والهدى مع ذلك، فتبين أن العلم لا يحصل إلا بعمل، والعمل مقارن للعلم، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وبينَّا تلازم العلم والعمل، وذلك أنها مثل الحياة.
وأيضًا ففي النار إنارة وحرارة وأشواق، ففي التمثيل بذلك إشارة إلى أن النور والهدى في القلب، لا يحصل إلا بنوع من الحرارة التي تكون عن الحركة والشوق والمحبة، فإن الحب والشوق والطلب يوجب للقلب أعظم من حرارة النار البسيطة، هكذا يقوله الطبيعيون، وكذلك يجربه العاشقون، كما قال بعضهم: إن لم تكن نار المحبين أعظم من نار جهنم، وإلا كان كذا وكذا.
فإذا كان النور مع الحرارة المقارنة للحركة والمحبة والإرادة، دل ذلك على أن الهدى ينال بذلك، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (1)، قال معاذ بن جبل: والبحث في العلم جهاد.
وقال تعالى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (2) فعلق الهداية بالإنابة، وقال: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) (3)، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)) (4).
__________
(1) سورة العنكبوت: 69.
(2) سورة الشورى: 13.
(3) سورة المائدة: 16.
(4) سورة النساء: 66 – 68. في الأصل بياض بعد “لآتيناهم”.
(6/82)
وأما الماء ففيه رطوبة وبرودة، وفيه إرواء وإغراق، وهذا يدفع ضررَه الحرارةُ التي في النار، كما أن العطشان يجد حرارة العطش، فإذا شرب الماء رَوِيَ، فكذلك طالب الهدى يكون عنده شوق وطلب وحرارة حين يكون طالبًا، فإذا أتاه الهدى، وأحيا قلبه بحياة العلم والإيمان، رَوِيَ بذلك، ووجد له اللذة، وأما إذا كان عنده الحرارة النارية التي توجب له الحياة المشوقة له ولم يشرب، فإنه يكون عذابًا له، كالذي يَصْلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها ولا يحيى، فإن حياته لم تحصل مقصودها من الهدى واللذة، وما لم يحصل مقصوده يصح نفيه، فإن الشيء إنما هو مطلوب لأجل مقصوده، كما يقال عما لا ينفع: ليس بشيء. وهذا باب مبسوط في موضعه، كقوله: “لا نكاح إلا بولي” (1)، “ولا بيعَ فيما لا يملك” (2)، ونحو ذلك.
وهو لم يمت أيضًا، لأنه فيه حياة، وهذا باب واسع، قال الإمام أحمد في أول خطبته (3): “الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليسَ قد أحيَوْه، وكم من ضال
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 394، 413، 418) وأبو داود (2085) والترمذي (1101) وابن ماجه (8181) من حديث أبي موسى الأشعري. وصححه الترمذي وغيره.
(2) أخرجه أحمد (3/ 402، 434) وأبو داود (3503) والترمذي (1232، 1233، 1235) والنسائي (7/ 289) وابن ماجة (2187) من حديث حكيم بن حزام. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
(3) في كتابه “الرد على الزنادقة والجهمية”.
(6/83)
تائهٍ قد هَدَوه “.
وقد قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (1)، فسمَّاه روحًا ونورًا، ليبين أن به الحياة والهدى، والهدى يتضمن اهتداء الحي إلى ما ينفعه هو، الذي يوجب لذته وفرحه وسروره، وذلك كما قال الله تعالى: (أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (2)،ولهذا قالت الملائكة: حيَّاك الله وبيَّاك (3)، أي أضحكك، والضحك إنما يكون عند السرور.
__________
(1) سورة الشورى: 52.
(2) سورة آل عمران: 169، 170.
(3) أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 325) في أثرٍ لسالم بن أبي الجعد.
(6/84)
فصل في التوحيد
(6/85)
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الشيخ الإمام العالم الزاهد القدوة المحقق أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العالم الورع عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العالم الورع الفاضل أبي البركات بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه:
فصل في التوحيد
قال الله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)) (1)، قد كتبنا فيما تقدم قواعد تتعلق بذلك في توحيد الربوبية، وفي توحيد الإلهية، وفي أنه كما يمتنع أن يكون للخلق رَبان، يمتنع أن يكون له إلهان، وتكلمنا على العللِ والأسباب الفاعلية والغائية، وما يتعلق بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) وفي أن جميع الحركات ناشئة عن المحبة التي هي حقيقة العبادة، وبسطنا الكلام في هذه المواضع بسطًا شريفا نافعا كاشفًا، ولله الحمد.
فنقول: إنه يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له، لما فيه من الدور القَبْلِيّ، ولا يمتنع شيئان كل منهما مع الآخر بشرط فيه، وهو الدور المَعِيّ.
وقد بينَّا هذا في جواب مسائل الدَّور، وذلك أن العلة والسبب
__________
(1) سورة الأنبياء: 22.
(6/87)
والفاعل يجب أن تتقدم المعلول والمسبب والمفعول، فإذا كان هذا علة ذاك، وجب أن يكون هذا قبله. وإذا كان ذاك علة هذا وجب أن يكون ذاك قبله، فيجب أن يكون هذا قبل ذاك، وذاك قبل هذا، وهو ممتنع، إذ هذا إذا كان قبل ذاك، وذاك قبله، كان ذاك قبلَ قبلِ نفسِه، وهو لو كان قبل نفسه كان ممتنعًا، لالتزامه اجتماع النقيضين، إذ هو قبل نفسه معدوم، فإذا كان قبلها كان معدومًا موجودًا، فيلزم هنا اجتماعهما مرتين.
وكذلك إذا قيل: يلزم أن يكون ذاك قبل هذا، وهذا قبله، يلزم مثل ذلك، فيلزم أن يكون ذاك قبلَ قبلِ نفسِه، وهذان الاجتماعان هما ذانك باعيانهما، وإنما فيه التقديم والتأخير، ومضمونه أن يكون الشيء موجودًا قبل أن يكون موجودًا بدرجتين، فإن كون الشيء فاعلاً لنفسه ممتنع، فكيف يكون فاعلاً لفاعل نفسه، وكذا كونه علة نفسه يعني أن نفسه وُجدَت فأوجدتْ نفسَه، وهذا الممتنع لازم في العلتين جميعًا، فيلزم اجَتماع النقيضين أربع مرات.
وكذلك يمتنع في العلة الغائية، التي يقال لها الحكمة والعاقبة، سواءً كانت العلة جوهرًا أو عرضًا. وذلك أن الغائية يجب تأخرها عن المعلول في الوجود، كما يجب تقدم العلة الفاعلة التي هي السبب، فإذا كان هذا علة ذاك لزم تاخر هذا عن ذاك، وبالعكس، يلزم تاخر ذاك عن هذا، فيكون هذا متاخرًا عن نفسه بدرجتين، فيلزم هنا مثل ما لزم هناك، وهو اجتماع النقيضين أربع مرات، فإن امتناع تأخر هذا عن نفسه بدرجة أو درجتين، وهكذا ذاك.
(6/88)
وكذا إذا قدر أن الغاية عرض من الأعراض، كاللذة مثلاً والتنغُم والانتفاع وغير ذلك، فإنه يجب تأخر هذا عن ذاك، وذاك عن هذا، فيلزم ما تقدم من التناقض أربع مرات.
وأيضًا فالعلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية، لأنها متقدمة في العلم والقصد، فيجب أن يكون هذا متقدمًا على ذاك علمًا وقصدًا، فيكون هو المقصود بالقصد الأول، وأن يكون ذاك متقدمًا على هذا، فيكون هو المقصود بالقصد الأول، فيلزم تقدم هذا على ذاك، أو تقدم ذاك على هذا، وبالعكس، فيلزم تقدم كل منهما على نفسه بمرتبتين، فكما لا يفعل هذا لذاك، وبالعكس، لا يكون هذا هو المقصود من فعل ذاك وبالعكس.
وهذا يبين في الفاعل الواحد الذي هو القاصد، قُدِّر كل منهما فاعلاً مفعولاً، والغاية غيرهما، وهنا قدِّر كل منهما مفعولاً وغايةً، والفاعل غيرهما، ويجوز أن يكون اثنان مفعولان لفاعل واحد معًا، ويكون وجود أحدهما مشروطًا بالآخر، بحيث لا يوجد كل منهما إلا مع الآخر، كالمتضايفات، مثل: الأبوة والبنوة وغيرهما، فهما مقترنان متلازمان لفاعل ثالث، فكذلك يجوز أن تكون غايةً واحدةً مقصودةً من مفعولين، ويكون وجود أحدهما مشروطًا بوجود الآخر، لا يوجد إلا معه، والغاية أمر ثالث غيرهما، كالأجزاء المركبة، والأمور المتلازمة، والأعضاء ونحو ذلك.
والفاعلان إذا تعاونا على فعل واحدٍ كتعاونِ المتناظرين والمتحاملين والجيش والسابين ونحو ذلك، لم يكن أحدهما فاعلاً
(6/89)
للمفعول، ولا للفاعل الآخر، بل كل منهما فاعل بعض ذلك المفعول، ومفعول أحدهما مع مفعول الآخر وشرط فيه، فالفعلان معاً كالأخوين كالوالد والولد.
وكذلك الفعلان، إذا كان لكل منهما غاية، والغايتان متعاونتان مشتركتان، بحيث يكون قصد إحداهما مع قصد الآخر، كالزوجين المتناكحين، وكالمتبايعين ونحوهما ممن يقصد كل منهما بفعله الآخر نظيرَ ما يقصد الآخر بفعله، فهنا ليست واحدة من الغايتين علة للأخرى، بل كل منهما علة فعل الآخر قاصدها، ولكن كل من العلتين المقصودتين الغائيتين معاونة للأخرى ومقارنة لها ودائرة معها دورًا معيَّا، والفاعلان المتعاونان كل منهما لفعله سبب غير المعاون، كذلك المقصودان الغايتان لكل منهما حكمة مقصودة غير الغاية المعاونة، وقد يكون سبب الفاعلين واحد، كالفاعلين بعضوين، كالذي يأمر رجلين بالتعاون، وكالذي يغسل إحدى اليدين بالأخرى. وقد يكون مقصود المقصودين وغايتهما واحدة، كالغاية من المتناكحين، وهو انعقاد الولد.
فصل
الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين، وكذلك المعلول الواحد في الحقيقة لا يكون عن علتين تامتين.
وقول من قال من الفقهاء: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين، يعنون به تعليل الحكم الواحد بالنوع، كالملك وحلّ الدم، والحكم الواحد بالنوع له علة واحدة بالنوع، والواحد بالعين له علة واحدة
(6/90)
بالعين.
وإذا تعددت أشخاص النوع من العلل تعددت أشخاص الأنواع من الأحكام، وإذا كانت هناك جنس من العلل له علل مختلفة كان لها أحكام مختلفة، وإن كان جنس من الأحكام له أنواع مختلفة كان له أسباب مختلفة، ومثل هذا يجوز، فلا نزاع، لكن هذا يُعلم بالنص والإجماع.
وأما إذا وجدنا حكمًا واحدًا وهناك وصفان مناسبان له، فهل يجوز جعلهما علتين كل منهما مستقل بالحكم بدون الآخر، بدون أن نعلم ذلك بدليل غير الاستنباط؟ أو الواجب تعليق الحكم بهما جميعًا وجعلهما جزءا العلة؟ الصواب هو الثاني، وهو معنى قول من قال: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين لا مستنبطتين، وهو في الحقيقة واحد النوع، أي كل منهما مستقلة بالحكم في محل آخر.
وبهذا يظهر الفرق وعدم التأثير، فإن الفرق معارضه في الأصل وفي الفرع بأن يُبدِي الفارق في الأصل وصفًا آخر غير وصف المستدل له مدخل في التعليل، أو يُبدِي في الفرع وصفًا مختصًّا به يمنع من إلحاقه بالأصل، فإذا عارض في الأصل بوصف آخر، فلو كان كل وصف مناسب يمكن جعله علةً مستقلةً لما أمكن الفرق قط، لإمكان أن يقول المستدل: وصفي علة، وهذا الوصف علة أخرى، فلا يقدح هذا في تعليل الحكم بوصفي.
وهذا باطل لا ريب فيه عند الفقهاء، إلا أن يبيق المستدل استقلال ذلك الوصف بالحكم، وذلك إنما يكون باعتبار الشارع له وحده بدليل
(6/91)
اَخر، غير المناسبة ومجرد التأثير الذي لا يقتضي استقلاله بالحكم.
وأما عدم التأثير فأن يُبيِّن المعترضُ ثبوت الحكم بدون الوصف، كما أن النقض إبداء الحكم بدون الوصف فإن ذلك يبين أن الحكم غني عن الوصف، فلا يكون مؤثرًا فيه، بل المؤثر في الحكم غيره.
وهذا إنما يكون إذا لم يخلف ذلك الوصفَ وصفٌ آخر، فإن كان قد ثبت الحكم عند انتفاء هذا الوصف لعلة أخرى لم يقدح فيه، لكون الحكم له علتان، مع عدم إحداهما كان لوجود الأخرى.
فالفارق يقول: هذا الوصف ليس هو المؤثر، بل المؤثر هو والوصف الآخر، أو الوصف الآخر، فلا يكون هو العلة.
ونافي التأثير يقول: هذا الوصف ليس هو المؤثر، لأن الحكم ثابت بدونه، ففي كل من الوضعين قد بين استغناء الحكم عن كون الوصف علة، تارةً بوجوده دونه، وتارةً بأن معه غيره.
فذاك وجود الحكم بدون وجوده، وهذا وجود الحكم بدون تأثيره واقتضائه، وكلاهما معارضة في عليَّة الوصف.
كما أن النقض أيضًا معارضة، وإذا كان في الفرق مع قولنا: يصح تعليل الحكم بعلتين، ليس له دعوى ذلك، إذا لم يثبت العليَّة إلا بالاستنباط، بل الأصل أن تكون العلة جميع الأوصاف، لا أن كل وصف علة.
كذلك في عدم التأثير، ليس له أن يقول: ثبوت الحكم بدون هذا الوصف كان لعلة أخرى إن لم يبين تلك العلة، لأن الأصل عدم علة
(6/92)
أخرى، والأصل زوال الحكم لزوال علته.
وأما إمكان أن تخلفها علة أخرى فتحتاج إلى ثبوت علة أخرى غيرها، وإلى بيان وجودها، وهذا لا يكون مجرد الاستنباط، فليس له أن يقول: إنما وجد الحكم هناك لوجود الوصف الآخر المناسب، وذاك علة أخرى، بل يقال له: ذاك جزء العلة، كما يقول الفارق سواء، فإن وجود الحكم بدون الوصف المعلل به كوجود الحكم بدون كونه علة، وكلاهما معارضة في كون الوصف المعلل به علة، لكن هذا بيّن ذلك بوجود الحكم مع غيره، فلم يكن هذا المقتضي له.
وبهذا يتبيّن صحة سؤال عدم التأثير مع قولنا بجواز تعليل الحكم بعلتين وكذلك سؤال الفرق، فإنهما سؤالان مشهوران مستعملان عند أئمة الفقهاء القائلين بجواز تعليل الحكم بعلتين، وذلك أنهم قالوا: “يجوز في الجملة”. لم يقولوا: إنا نحكم به حيث رأينا وصفين، ولا أنه يسوغ أن يُدَّعى تعليل الحكم بعلتين لمجرد ذلك، بل هم إنما أثبتوا ذلك في تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلل منصوصة، فهذا شرطان موجودان فيما ذكروه من الصور.
وقد ظهر الكلام في أحد الشرطين، وهو النص، وأما الكلام في الشرط الثاني، وهو المناسب لهذا المقام، فإن الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب، فلا يخلو إما أن يكون كلّ منها مستقلاًّ به لو انفرد.
أما الأول: فظاهر أنها علة واحدة، والأوصاف أبعاضها، لا أنها علل.
(6/93)
وأما الثاني: مثل الردة والزنا والقصاص في حل الدم، ومثل الحيض والجنابة في إيجاب الغسل، ومثل المسّ والبول في نقض الوضوء.
فهذا وان حصل نزاع في كون الحكم وإن حصل واحدًا أو متعددًا، فالصواب أنها أحكام متعددة، وعلى ذلك نص الأئمة، كما قال الإمام أحمد في بعض ما ذكره: هذا مثل لحم خنزير ميّت، حرام من وجهين، فلو كان الحكم واحدًا لم يفرق بين الخنزير الميت وبين الميتة من غير الخنزير، بل أثبت فيه تحريمين.
وكذلك حلّ الدم بالأسباب المجتمعة هو حلّ متعدد، ولكن ضاق المحل، ولهذا إذا زال الواحد بقي الآخر، ولو كان الحلّ واحدًا لوجب إذا زال أحدها أن يكون قد زال بعضه، فيكون الباقي بعض حلّ، فلا يباح، لكن قد تتداخل هذه الأحكام، فتداخلها لا يمنع تعددها.
وعلى هذا، فإذا وجبت عليه حدود، فالواجب عقوبات متداخلة من جنس، وقول الفقهاء: تتداخل، كمن سرق ثم سرق، أو شرب ثم شرب، دليل على أن الثابت أحكام، لكن لاتحاد الجنس في مثل هذا تداخلت، وإلا فالشيء الواحد لا يُعقلُ فيه تداخلٌ، وإنما التداخل مع التعدد.
وهذا كله مما يبين أن الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان، وكذلك الفعل الواحد والمفعول الواحد، لا يتصور أن يصدر عن فاعلين تامَّين، فالشخصان المتعاونان على حمل شيء يقوم بذات كل
(6/94)
منهما من الفعل ما لا يقوم بذات الآخر، فليس فعلهما واحدًا بل متعددٌ.
وأما المفعول، وهو أثر فعلهما، وهو ما قام بالمحمول من الحمل، فأثرُ فعلِ أحدهما الموجود في المحمول ليس هو أثر فعل الآخر، بل هو غيره، والمحمول لم يكن محمولاً بفعل هذا وحده وأثره، ولا بفعل هذا وحده وأثره، بل بالمجموع، فليس كل منهما فاعلاً بل جزء فاعل، والفاعل مجموعهما، وليس كل منهما مستقلأً بالحمل في مثل هذا، بل المعلوم بالاضطرار أن المفعول بين فاعلين لا يكون كل منهما مستقلاًّ به، فإن المستقل هو الذي يفعل الفعل وحده، فإذا قُدّر أن له فيه شريكًا وقيل مع ذلك: إنه مستقل، كان جمعًا بين النقيضين، وكان التقدير أنه ما فعله إلا وحده، وأنه ما فعله إلا هو وغيره، فيكون فيه إثبات فعل الغير، وهذا جمعٌ بين النقيضين.
وإذا لم يكن أحدهما مستقلأّ بالفعل في صورة التعاون، فهل يقال: لو انفرد أحدهما لاستقلَّ به؟
هذا قد لا يمكن في صور كثيرة، وفي صورٍ يمكن، كأن يكون حينئذ الفعلُ الموجود من المستقل أكملَ منه إذا كان له معين وشريك.
وأما أن يقال: فعله إذا كان له شريك معاون، مثل فعله إذا كان مستقلاًّ، فهذا باطل، وفيه جمعٌ بين النقيضين أيضًا، لأنه إذا كان له شريك معاون، وقُدِّر أن المفعول الموجود معه هو مثل الموجود في صورة الاستقلال سواء، فإن لم يكن لهذا الشريك تأثيرٌ فيه لم يكن شريكًا، وإن كان له تأثيرٌ فقد فعل بعض المفعول، فلا يكون إلا فاعلاً
(6/95)
لبعضه، وفي الاستقلال فعله كله.
ومن الممتنع أن يكون بأنه يفعل الجميع وحده، مساويًا لما به يفعل البعض من القدرة والعمل إذا كان له شريك، بل هو أكمل معه، كما نجده في الواقع أن الإنسان إذا فعل عملاً وحده ما كان يفعله هو وشريكه بغير عمله، ولم يكن حالى الانفراد مثله حال الاشتراك، كما يظهر ذلك في الاشتراك المعوق، كازدحام الرؤساء، فإنه إذا زال الشريك حصل بانفراد الرئيس راحة له وتمكن. كما يتمكَّن الشريكُ من التصرف في الملك المشترك إذا صار له وحده ما لم يكن يتمكَّن حين كان معه شريكه، وقد يعجز عن أن يفعل وحده ما كان يفعل هو وشريكه، وقد يَقدِر لكن بنوع من زيادة العمل، وهذا كله موجود.
والمقصود هنا أنه من البيّن في بدائه العقول عند وجود التصرف أن الفعل الواحد لا يكون من فاعلين، ولا المقدور من الواحد قادر بينهما، لما اشتركا فيه وُجدَ من كل منهما بعضُه لا كله، إذ صدوره من كل منهما جمع بين النقيضَين، وبذلك يتبين أن الاشتراك في الفعل في كل من الشريكين، فإنه إذا لم يكن قادرًا على الفعل وحده كان عاجزًا، وإن كان قادرًا على العمل وحده فوجود الآخر معه منعه عن نفاذ قدرته، إذ هو لا يمكن مع معاونة الآخر أن يفعل الفعل كله، بل بعضه، فإن كان الكل مقدورًا كان ممنوعًا، وإن لم يكن الكل مقدورًا كان عاجزًا، والممنوع كالعاجز، فالمشاركة في العمل تقتضي عجز كل منهما، وعدم كمال قدرته على ذلك العمل حين الاشتراك. وهذا تمانع بأن المنع من فعل البعض كالمنع من فعل الجميع، فظهر أن الاشتراك
(6/96)
نفسه مع التعاون والتناصر هو تمانع يقتضي عجز كل منهما.
وأما التمانع الذي قدروه -أعني المتكلمين- فذاك تمانع الإرادتين، فهذا لا يكون إلا مفروضًا، لا يمكن أن يكون موجودًا، فلا يتصور صُدور العالم عن ربَّين متمانعين، بل المتمانعان لا يفعلان شيئًا.
وظنهم أن هذه الآية هي دليل التمانع غلط عظيم، فإن التمانع لا يُقدّر في فعل موجود أصلاً، وقولهم: لو قدَّرنا ربَيْنِ لكان إذا أراد أحدهما تحريكَ جسم، وأراد الآخر تسكينه، إما أن ينفذ مرادهما، فيجتمع الضدان، أو لا ينفذ مرادهما، فيكونا عاجزين، أو ينفذ مراد أحدهما، فهو الرب القادر والاَخر مربوب عاجز= لا يدل (1) على امتناع الاشتراك فيما وجد، وإنما يدلّ على أن المتمانعين لا يفعلان شيئًا ما داما متمانعين، إذ حينئذ يلزم اجتماع الضدين أو عجز الربَّين، والعاجز لا يفعل، لكن ليس فيه ما يدلّ على أنهما إذا لم يتمانعا بل تعاونا أنهما لا يفعلان، فمن أين بدلّ هذا على أن الفعل الموجود لا يكون عن اثنين؟
لكن دَلُوا به من وجه آخر، وهو أنهما لو وُجدَا لتمانعا في الفعل، فكان لا يوجد، وقد وُجدَ، فلم يتمانعا، فلم يوجَدا، فاستدلوا بوجود الفعل على انتفاء التمانَع. والتمانع إما أن يكون لازمًا لوجودهما أو ممكنًا، فإذا قُدّر لم يلزم محال، أو لا يكون ممكنًا، فيكون كل منهما غير قادر على منع الآخر من مراده، والعاجز لا يكون ربًّا، فثبت عجز
__________
(1) السياق: “قولهم لو قدرنا …. لا يدل”.
(6/97)
كل منهما إذا لم يقدر على منع الآخر.
وهذا بعينه هو العجز حال التعاون إذ كان كل منهما عاجزًا عن الفعل وحده، فظهر بما ذكرناه أن دليل التمانع إنما يصح إذا كان التمانع لازمًا لهما أو جائزًا عليهما، وأما إذا قدّر وجوب اتحاد الإرادتين، كان هو الدليل الأول المذكور في امتناع الفعل الواحد من فاعلين، ولزوم العجز للمتعاونين، لكن ذاك عجز عن الاستقلال بالفعل، وهذا عجز عن منع الآخر منه.
وأيضا فإن المتعاونين لأنه لا يتميز مفعول أحدهما عن مفعول الآخر، فلا يكون الشيء الواحد الموجود في العالم واحدًا فِعْلَ أحدهما.
ومعلوم أن العالم يتميز فيه هذا عن هذا، يدلّ عليه قوله: (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ) (1)، ولهذا قال الثنوية: بأن مفعول النور ليس هو مفعول الظلمة، بل زعموا باختلاط المفعولين وامتزاجهما مع التباين، كما زعم من زعم من الثنوية بأن نفس الأصلين امتزجا واختلطا ثم تميزا، فلم يقل أحد من العقلاء: إن المفعول الواحد صدر عن اثنين، وهذا توحيد الربوبية، وهو متفق عليه بين العقلاء، ولم يكن هو المقصود بالذكر ولا الآية أنزلت لتقريره، كما يظنه من يظنه من المتكلمين، وإنما هي لتوحيد الإلهية المستلزم لتوحيد الربوبية، وهو الذي قصدناه في هذا الموضع.
__________
(1) سورة المؤمنون: 91.
(6/98)
فصل
فنقول: كما استحال أن يكون ربَّانِ كل منهما فاعل الشيء، فكذلك يستحيل أن يكون إلهان كل منهما معبودٌ لشيء، كما قدمنا أنه إذا استحال كون كل من الشئين فاعلاً للآخر وعلة له، فيستحيل أن يكون كل منهما هو المقصود للآخر، والعلة الغائية له، لمفعول لهما، سواء اشتركا في مفعول أو انفرد كل منهما بمفعول مباين.
وكذلك يستحيل أن يكون الشيء فاعلاً لنفسه محدثًا لها، ويستحيل أن يكون هو الغاية المقصودة من فعل نفسه لفاعلها، فكما لا يكون شيء من الموجودات ربًّا لنفسه فاعلاً، فلا يكون شيء منها مقصودًا لنفسه، هي الغاية المطلوبة من وجوده، بل كما وجب أن يكون لجميع المصنوعات ربٌّ غيرُها فعلَها وأحدثَها، وجب أن يكون ثبوته بعد أن خلقهم، إذ الحاجة إلى المقصود قبل الافتقار إلى ألوهيته، وهو أعظم الوجهين، فقد يكون لفعلهما جميعًا مقصودًا مرادًا غيرها.
والخارج عن الممكنات المحدثات هو الله الذي لا رب غيره، ولا إله إلا هو، فهو ربها كلها وخالقها ومليكها، وهو إلهها جميعًا، الذي يجب أن يكون هو المعبود المقصود المراد بها جميعها، فهو نفسه هو الفاعل لأجل نفسه، إذ لا يجوز أن تكون الغاية المقصودة له غيره، كما لا يجوز أن يكون الرب الفاعل غيره.
ومعلوم أن كل واحد من العلتين -الفاعل والغاية- خارج (1) عن
__________
(1) في الأصل: “خارجًا”.
(6/99)
الشيء المفعول، وإنما جزآه المادة والصورة، إذ المادة والصورة هما ماهيته وحقيقته، فلا يجوز أن يكون في المخلوقات ما هو فاعل لها.
كذلك لا يجوز أن يكون فيها ما هو المقصود المراد لفاعلها، ومن هنا تندفع مسائل الإرادة الموجبة بالذات والتعليل والتجوير، وتعليل أفعاله، فإن المعللين أوجب ذلك عليهم رعاية الحكمة، والمانعين أوجب المنع عليهم رعاية الغنى، فإن الفاعل لأجل غيره مفتقر إلى ذلك الغير، فأما إذا فعل لأجل نفسه كان غاية ما يقال: إنه فعل لنفسه، كما يقال: واجب بنفسه.
وهذا خيال باطل، إنما يُتوهَّم صدقُه لأنه يظن أن نفسه منفصلة عن نفسه، وأن الشيء الفاعل نفسه هو شيء متقدم عليها، والشيء المطلوب المقصود هو شيء منفصل عن نفسه التي لها القصد والإرادة. وكل ذلك باطل، بل هو سبحانه القائم بنفسه الذي هو موجود بها، ومريد لها، ومحب لها، ومسبح لنفسه، ومُثني على نفسه، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “لا أُحصِيْ ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك” (1).
ومن هنا يظهر الفرق بين ما يحبه ويرضاه، وبين ما يريده من غير محبته، فإن ذلك محبوب لنفسه مَرضِيٌّ لها، وهذا مراد من جهة الربوبية.
لكن يُقال: هو فعل الأفعال بإرادته، فالوجود كله بمشيئته، لكنه
__________
(1) أخرجه مسلم (486) من حديث عائشة.
(6/100)
يحب ويرضى شيئًا دون شيء، وذلك في مفعولاته وأفعال عباده، فهو فعل لوجود ما يحبه ويرضاه، ومراده وجود المحبوب المرضي، وهو ألوهيته وكونه هو المقصود المراد، وإن كان في ضمن ذلك قد فعل ما أراده، وهو لا يحبه ويرضاه، لأن فعله له وسيلة إلى ما يحبه ويرضاه، فهو مراد بالقصد الثاني. وقد بسطنا في غير هذا الموضع من كلامنا في القدر، وتكلمنا على أنواع تتعلق بذلك.
ومن هنا يعرف قوله عليه الصلاة والسلام: “والشرّ ليس إليك” (1)، فإن الله إليه المنتهى من جهة إلهيته، والشر لا ينتهي إليه، ولا يصعد إليه، ولا يصل إليه، ولا يحبه، ولا يرضاه، فهو قطع له من جهة الألوهية، وهذا نحو قول من قال: لا يتقرب به إليك، ألا ترى كيف قال في الأضحية: “اللهم منك ولك” (2).
لكن قد يُقال: المعروف إن قال: هذا العمل لله، فكان مناسبه أن يُقال: والشرّ ليس إليك. وأما “إلى” فيُعدَّى بها الفعل، كما قال الخليل عليه السلام: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)) (3)، وقال: (إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا) (4).
فيقال: وقد قال (5):
__________
(1) أخرجه مسلم (771) من حديث علي.
(2) أخرجه أبو داود (2795) وابن ماجه (3121) من حديث جابر.
(3) سورة الصافات: 99.
(4) سورة الانشقاق: 6.
(5) شطر بيت سبق ذكره وتخريجه.
(6/101)
ربّ العبادِ إليك الوجهُ والعملُ
وأما من جهة الربوبية فهي مخلوقة، لكن بالقصد الثاني لأجل غيره، وليس هو أيضَا مرادًا بالإرادة الأولى، ولا مخلوقًا بالقصد الأول، فليس هو مضافَا إليه من جهة كونه شرَّا، إذ لم يقصده ويُرِدْه من هذه الجهة، ولكنِ من جهة ما هو وسيلة إلى الخير الذي هو يبدئه، كما قال تعالى: (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (1)، وقال: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (2)، وهو لم يقل: الشر ليس بك ولا منك ولا من عندك، بل قد يُقال: كل من عند الله في الحسنات والسيئات، التي هي المسارّ والمصائب، كما قد بينته في غير هذا الموضع.
وقد يُعترض على هذا فيقال: قد فرق بينهما في قوله: (فمن الله) و (فمن نفسك) (3) في هذه الآية، وفي قوله: (فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ) (4) الآية، و (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ) (5)، وقد قال تعالى: (وَمَا بِكُم من نعْمَةً فَمِنَ الله) (6)، وقال: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) (7) ولم يقل في الشرّ مثل ذلك.
__________
(1) سورة السجدة: 7.
(2) سورة النمل: 88.
(3) سورة النساء: 79.
(4) سورة النساء: 72.
(5) سورة النساء: 73.
(6) سورة النحل: 53.
(7) سورة هود: 9.
(6/102)
فالمقصود هنا أنه سبحانه كما أنه واجب بنفسه، فهو محبوب لنفسه، مَثنيّ على نفسه، ومن هذا صلواته بثنائه على نفسه وطلبه من نفسه، وهذا غير صلاته على عباده. 0. (1) يحب ما أمر به، ويحب عباده المؤمنين.
وقد خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)) (2)، وفي الصحيحين (3) عن معاذ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “أتدري ما حقّ الله على عباده؟ ” قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ ” قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “حقهم عليه أن لا يعذبهم”.
وفي الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء (4) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:”يقول الله: يا عبدي! إنما هي أربعة: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئًا، وأما التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما الذي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي، فأتِ إلى الناس ما تُحِبُّ أن يُؤتَى إليك”.
فهو سبحانه قد جعل عبادته حقاً له على عباده، كما بيّن أنه خلقهم
__________
(1) هنا بياض في الأصل بقدر كلمة.
(2) سورة الذاريات: 56، 57.
(3) البخاري (128، 129) ومسلم (30).
(4) سبق تخريجه. وفي الأصل: “باب الدعاء”.
(6/103)
لعبادته، ومعلوم أن عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذلّ له، فهي متضمنة كونه هو المراد المقصود المحبوب المعبود.
فإذا كان قد خلقهم لعبادته، وذلك يتضمن أنه أمرهم بها وأحبَّها ورضيَها وأرادَها إرادةَ شرعٍ، فمعلوم أنّ محبة الوسيلة تبعٌ لمحبة المقصود، فمن أحبَّ محبة محبوب ومُحِبِّي محبوبٍ، كانت محبته لذلك المحبوب هي الأصل، وكانت ثابتة بطريق الأولى، وكان إنما أحبَّ أن يُحبَّ، وأحبَّ محبته لكونه محبوبًا له، وكان ذلك فرعًا لهذا الأصل.
ولهذا كانت محبة المؤمنين لما يحبه الله من الأعمال والأشخاص، والحب لله، والبغض دئه، والحب في الله، والبغض في الله، كل ذلك تبعٌ وفرعٌ على محبتهم لله، فإذا أحبوه أحبوا ما أحبه هو من الأعمال والأشخاص، إذ محبوب المحبوب محبوب، وبغيض المحبوب بغيض. وكذلك محب المحبوب محبوب، ومبغض المحبوب مبغض، فالمؤمنون يحبون ربهم، وكانت محبتهم لما يحبه الله ولما يحب الله فرعًا وتبعًا لمحبتهم له، والله تعالى يحبهم ويحب ما يحبونه وما يحبهم، حتى قال أبو يزيد: إن الله لينظر إلى رجال في قلوب رجال، وينظر إلى رجال من قلوب رجال.
فالأول: حال من أحبه المؤمنون، فينظر الله إلى قلوبهم، فيجد فيها أولئك المحبوبين.
والثاني: حال من أحب المؤمنين (1)، فينظر إليهم من قلوب
__________
(1) في الأصل: “المؤمنون”.
(6/104)
المؤمنين، فهو يرحم من يحبه أولئك، ومن يحبه أولياؤه، وإذا كان كذلك كانت محبته لما أحبه من الأعيان والأعمال ومحبته لمن يحبه تبعًا وفرعًا لمحبته لنفسه بطريق الأولى والأحرى، وذلك يتبيّن من وجوه:
أحدها: أن كل محب فإما أن يحب الشيء لذات المحبوب أو لذات نفسه، فيحبه لمحبته لنفسه، والفرق بين الموضعين أن الأول يتنعم بنفس المحبوب، والثاني يتمتع بما يصل إلى نفسه من نفع المحبوب. فهذا أحَّط النفعَ الواصل، فكانت ذات ذلك وسيلة إليه لا غرض له فيها، بحيث لو حصل النفع بدونه لم يكن له بذاته محبة، وذاك أحبَّ نفسَ المحبوب، لا لأجل نفع يصل إليه سوى نفعه وانتفاعه بذاته، كما تنعَّم ذلك وانتفع بما وصل إليه من المحبوب، وهذا شبيه بمن يحب إحدى زوجتيه لتمتعه بجمالها، ويحب الأخرى لكونها تنفق عليه مالها، ويحب شخصًا لما فيه من العلم والدين، ويحب آخر لكونه محسنًا إليه. وقد جُبلَت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
وإذا تبيّن ذلك فالله سبحانه إذا أحب شيئًا، فإن أحبه لأجل نفسه تعالى وجب أن تكون نفسه هي المحبوبة، حتى يصح أن يحب الغير لأجلها، ولا يمتنع أن يحب شيئًا لأجل شيء إن لم تكن الغاية هي المحبوبة ابتداءً.
وهكذا كل من فعل شيئًا لكذا، فإنه يحب أن يكون المفعول له هو المراد ابتداءً، وهذه هي العلة الغائية، وهي متقدمة في الإرادة
(6/105)
والقصد، ولكونها مرادة ابتداءً صار الفعل المؤدي إليها مرادًا، وإن قُدّر أنه تعالى يحب شيئًا لذات ذلك الشيء، فمن المعلوم أنه هو الذي خلق تلك الذات، وجعلها على الوجه الذي يحبه هو، فإذا كان محب المحبوب محبوب (1)، فكيف بفاعل المحبوب ومُبدِعه وخالقه؟ فقد وجب أن تكون محبته لنفسه هي الأصل في القسمين، في الأول من جهة الغاية، وفي الثاني من جهة السبب، من جهة الألوهية، ومن جهة الربوبية.
الوجه الثاني: أنه يحب من يحبه، ومن يتقرب إليه بما يحبه، كما ثبت ذلك بنصوص الكتاب والسنة، ومحبة محبِّ الشيء ومحبة المتقرب إلى الشيء والساير في مراضي الشيء، تبع وفرع على محبة ذلك الشيء محبوبًا، امتنع أن يحب محبه (2)، ويحب من يتقرب إليه بمحابه، ويسعى في مراضيه، وإذا كان الله يحب من يحبه، ومن يتقرب إليه بمحابه ويسعى في مراضيه، كان هو أحقَّ بأن يكون هو المحبوب لنفسه المرضي، إذ هو المحبوب المقصود بالقصد الأول.
الوجه الثالث: أنه يبغض ويمقت أعيانًا وأفعالاً، والموجود لا يُبغض إلا لكونه مانعًا من المحبوب. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع في “قاعدة المحبة” (3)، وبيَّنا أن البغض تبعٌ للحب، وأن الحب هو الأصل، فإذا كان بغضه لأمور مستلزمًا محبته لأضدادها، فمحبة تلك الأمور مستلزمةٌ محبتَه لنفسه، كما تقدم.
__________
(1) كذا في الأصل مرفوعًا.
(2) كذا في الأصل، ولعل هنا سقطا.
(3) في “جامع الرسائل” (2/ 193 وما بعدها).
(6/106)
الوجه الرابع: أنه يحب من يبغض تلك الأمور، ويجاهد أهلها، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)) (1)، وإنما أحبهم لإعانتهم على حصول محبوبه، فتكون محبته لنفسه التي أحب من أعان على محبوبها أولى وأحرى.
فإن قيل: فتلك الأمور التي يبغضها هو خلقها بإرادته، فكيف يريد مايبغضه؟
فيقال: الشيء الواحد [قد] يكون (2) مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه، كما يوجد في حقنا شرب الأدوية الكريهة، فإنها مكروهة من جهة إيلامها لنا، مرادة من جهة تحصيلها للدنيا في المستقبل، وهو سبحانه إنما خلق الحوادث وأرادها لحكمة فيها، فتلك الغاية التي هي الحكمة هي محبوبة له مرضية، وإن كان بعض ما هو وسيلة إليها قد يكون مكروهًا مبغضًا مع كونه مرادًا، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
وأما المأمورات فهي كلها محبوبة بتقدير وجودها، إذ هي الغايات، لكن قد يريد أن تكون إذا كانت الغاية المترتبة عليها مما يحبه ويرضاه، وقد لا يريد أن تكون في بعض الصور، وإن كانت لو وقعت لأحبها، لأن وجودها قد يكون مستلزمًا لوقوع ما يبغضه ويكرهه، فكما أن المكروه قد يُراد وقوعُه لأنه وسيلة إلى المحبوب، فالمحبوب
__________
(1) سورة الصف: 4.
(2) في الأصل: “لا يكون”.
(6/107)
لا يراد وقوعه [لأنه] وسيلة إلى مكروه، وإن كان لو تجرد عن تلك السيئة كان محبوبًا، كما قد يُقال في قوله: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) (1)، وإن كان ذلك الانبعاث هو المأمور به، وإلا فيكون مكروهًا لنفسه إذا لم يكن على الوجه المأمور به.
لكن قوله: (فَثَبَّطَهُمْ) هو دليل على أنه كره وقوعه كونًا، لما فيه من الشرّ بالمؤمنين، وذلك يقتضي أنه لو تجرد عن هذه العاقبة لم يكن وقوعه مكروهًا له كونًا، ولم يكن يثبط عنه، بل غايته أن يكون بمنزلة ما يقع من المعاصي المكروهة، فإنه قد لا يثبط عنها إذا كانت مُفضِيةً إلى ما يحبه. وأما هذا فثبط عنه لإفضائه إلى ما يكرهه بالمؤمنين.
وهذا باب فيه بسط وتفصيل مذكور في غير هذا الموضع، وهو من المقامات الشريفة الهائلة، التي اضطرب فيها الأولون والآخرون، مسألة اجتماع الشرع والقدر، وإنما المقصود هنا بيان أنه سبحانه هو المقصود المراد المحبوب لنفسه ممّا فعله خلقًا وأمرًا، وبهذا يتبين أن حقه على العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا، ويظهر الفرق بين ما أمر به لأنه حق له، وبين ما أمر به لينتفع به العامل، وإن كانا متلازمين، كما بيناه في غير هذا الموضع. ولكن يظهر الفرق بحسب القصد الأول، فإذا كان حقه على عباده أن يعبدوه، وهو يستحق ذلك عليهم، علم أنه يحب ذلك ويطلبه ويريده منهم إرادةً دينية. ومن أحب حقه على غيره، وأنه يعطيه حقَّه، فمن المعلوم أنه لولا أنه يحب نفسه التي
__________
(1) سورة التوبة: 46.
(6/108)
لها الحق وإلا لما تصور أن يكون له حق، ولهذا الإنسانُ إنما يطلب حقوقَه التي يحبها ويرضاها، ولولا تعلق المحبة والرضى بتلك الأمور لما عقل كونها حقوقًا.
ومن هذا الباب أنه يفرح بتوبة عبده التائب أعظمَ من فرح الفاقدِ لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، إذا وجدها بعد اليأس، فهذا المثال فيه أنه فقد ما يحتاج إليه وتقوم به نفسه من المنفعة التي لا بد له منها، وهي الطعام والشراب، وما يدفع به المضرة، وهو الركوب للخلاص من تلك المفازة. ومعلوم أنه لولا محبته لنفسه لما أحب ما يجلب إليها من المنفعة، ويدفع عنها من المضرة. فإذا كان فرح الرب بتوبة التائب أعظم من ذلك، وهو سبحانه يحب التوابين ويحب المتطهرين، فمعلوم أن الفرح العظيم بحصول الشيء المحبوب فرع على المحبة العظيمة له، ومحبة المحبوب فرع على محبة النفس التي كان لها ذلك محبوبًا.
فصل
فإذا كان هو رب كل شيء ومليكه، ولا وجود لشيء إلا بقدرته ومشيئته، فهو إله الخلق كلهم، لا إله غيره، ولا صلاح للخلق إلا بأن يكون هو المعبود المقصود بالقصد الأول من جميع حركاتهم.
فكما أن ما لا يريده ويشاؤه لا يكون، فما لا يراد لأجله ويقصد له فإنه فاسد لا صلاح فيه، فكل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه.
ومن المعلوم أن المخلوق لم يخلق نفسه، ولا وجد من غير
(6/109)
خالق، فلا بد له من خالق غيره خَلَقَه. كما قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)) (1)، فكذلك المخلوق ليس هو المقصود بوجوده وفعله، ولا وجد من غير مقصود، فوجب أن يكون المقصود بوجوده وفعله شيئًا غيره، كما تقدم بيانه.
ثم إنه في نفسه، كما أنه لا يكون شيء من أفعاله إلا بإعانة الله، فلا يصلح شيء من حركاته وِأفعاله إلا أن يكِون لله، ولهذا [كان سرُّ] (2) القرآن في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) كما قال بعض السلف: إن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمعَ سرَّها في الكتب الأربع، وجمعَ سرَّ الأربعة في القرآن، وجمع سرّ القرآن في المفصل، وجمع سرّ المفصل في الفاتحة.
ففرق بالنسبة إلى خالقه بين ربوبيته له وخلقه- وهو السبب- وبين مقصوده ومراده- وهو الغاية-. وفرق بالنسبة إليه بين فعله أنه لا يكون إلا بحبه، وبين فعله أنه لا يصلح إلا لإلهه، فلا يجوز إلا بمعونة الله، ولا يصلح إلا لوجه الله.
ويتبين ذلك فيه بالنسبة إلى نفسه، كما يتبين بالنسبة إلى خالقه، وذلك أن فعله وقصده يمتنع أن يكون وُجدَ من غير سبب، ويمتنع أن يكون وُجدَ بقصدٍ منه وفعل آخر، لأنه يفضَي إلى التسلسل والدور، فلا بد أن يكَون وجوده بسبب من غيره، وهو داخل في جملته التي تناولها
__________
(1) سورة الطور: 35.
(2) بياض في الأصل بقدر كلمة.
(6/110)
قوله: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)) (1).
وكل ما دلّ على أن الحوادث الممكنات مخلوقة لله، فهو يدلّ على أفعال العباد، إذ هي جزء من الحوادث الممكنات، فاستدلالُ بعضهم على ذلك لكونها ممكنة فتفتقر إلى مرجِّح- كما سلكه أبو عبد الله الرازي- ليس هو أبلغَ من الاستدلال على ذلك بكون ذلك محدَثًا بعد أن لم يكن، فيفتقر إلى مُحدِث، بل هو أبلغ وأكمل، فإن افتقار المحدَث إلى المحدِث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجِّح، ولكن هو وطائفة من أهل الكلام قبله عكسوا الأمر في إثبات الصانع، فجعلوا طريقةَ الاستدلال بالمحدَث على المحدِث مبنيةً على طريقة افتقار الممكن إلى المرجح، وهذا غلط جدًّا، فإنه إذا قيل: إن تلك معلومة بالضرورة فالضرورة هنا أرجح بكثير، والمحدَث شيء موجود، كان بعد أن لم يكن، حدوثه أمر خارجي موجود في الخارج.
وأما الممكن فإنما يقدَّر مستوي الطرفين في النفس، إذ هو في الخارج إما واجب بنفسه وإما ممتنع بنفسه، ولهذا منع طائفة من الفلاسفة أن يقال في الموجودات: إنها ممكنة بنفسها. وخالفوا ابن سينا في ذلك كما ذكره ابن رشد الحفيد. فالعلم بثبوت الممكن فيه من الصعوبة ما ليس في العلم بحدوث المحدث، فإن حدوث المحدثات مشهود بالحس، وهو صفة خارجية ثابتة ليست مقدرة في العقل.
ثم افتقار المحدَث إلى مُحدِثٍ أظهر وأبين وأَبْدَهُ للعقل من كون
__________
(1) سورة الطور: 35.
(6/111)
الممكن المستوي الطرفين مفتقرًا إلى المرجح، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
وإنما المقصود هنا أن كل ما دلَّ في بعض الموجودات أنه مخلوق لله، فهو يدلّ على ذلك في أفعال العباد، فيعلم بذلك كثرة الأدلة وقوتها على هذا المطلوب. ولهذا قال من قال من أئمة السلف، كحماد بن زيد وغيره: من قال: أفعال العباد لم يخلقها [الله]، بمنزلة من قال: السماء والأرض لم يخلقها الله.
والمقصود هنا أنه إذا كان قصده وفعله مخلوقًا لله مربوبًا له، لا يوجد إلا بمشيئته وقدرته وربوبيته وإعانته، إذ يمتنع أن يكون حادثًا بنفسه، أو حادثًا من غير مُحدِث، فكذلك أيضًا يجب أن يكون لله، مُبتَغى به وجهُ الله، لا يفعل إلا لمحبته ورضاه وإلهيته وعبادته، فإنه لا يجوز أن يكون ليس فيه مقصود مراد، إذ القصد والعمل لغير مقصودٍ مرادٍ ممتنعٌ، كما أن الحادث من غير محدِثٍ ممتنعٌ.
ولا يجوز أن يكون هو المقصود المراد المحبوب بعمله، كما لا يجوز أن يكون هو الخالق له، لأنه يفضي إلى التسلسل والدور، فكما قلنا: لو كان قصده حادثًا بقصد آخر، فإن كان ذلك القصد الثاني حادثًا بالأول لزم الدور، وإن كان حادثًا بغيره لزم التسلسل.
فيقال: لو كان هو المقصود بذلك، فإما أن يكون مقصودًا لنفسه أو لأمرٍ آخر، ويمتنع أن يكون مقصودًا لنفسه، كما يمتنع أن يكون مُحدِثًا لنفسه، لأن المقصود يجب أن يتأخر عن القاصد، كما يجب أن يتقدم الفاعل على المفعول، فإذا لم يجز أن تَفعَلَ نفسُه نفسَه لم يجز أن
(6/112)
تقصد نفسُه نفسَه، لوجوب تأخر نفسه عن نفسه، ولوجوب تقدم نفسه على نفسه في العلم والقصد، وهذا بيّن، إذ لا بد أن يتأخر هذا المقصود عن وجود ذاته، فتكون ذاته قبل وجود هذا المقصود، فإذا كانت ذاته هي المقصود وهي القاصد، لزم أن لا تكون إلا متقدمة، وأن لا تكون إلا متأخرة، فتكون موجودة معدومة أربع مرات، كما تقدم بيانه.
وقد يُقال: إن هذا ظاهر فيما إذا كان نفس ذاته هي العلة الغائية من وجودها، وهذا تقدم، وإنما الكلام هنا في قصده لفعل نفسه الذي يفعله هو.
فيقال: مقصوده بفعله كإحداثه لفعله، كما أن مقصود فاعله به كإحداث فاعله له، وقد تبيّن أن حدوث قصده لا يجوز أن يكون ابتداءً منه بل من الله، وأن كونه منه يفضي إلى التسلسل والدور.
فكذلك لا يجوز أن يكون هو منتهى قصده وإرادته بعمله، بل ذلك يُفضِي إلى الفسادِ وكونِ العمل غيرَ نافع بل ضارًّا، لأن المراد المقصود بعمله إما أن يكون مصلحة لنفسه، أو لا يكون، فإن لم يكن فيه مصلحة لنفسه كان عمله فاسدا باطلاً، وإن كان فيه مصلحة لنفسه، فإن كانت تلك المصلحة حاصلةً في نفسه قبل قصده وعمله كان هذا القصد والعمل باطلاً لا فائدة فيه أيضًا، وإن لم يكن حاصلاً في نفسه لم يكن في مجرد كون النفس هي منتهى القصد ما يوجب مصلحة، فإن النفس موجودة قبل ذلك، بل لا بد أن يطلب المصلحة بالقصد من غير النفس، فيكون ذلك هو المقصود لمصلحة النفس، فإن المطلوب لها
(6/113)
إذا لم يكن فيها لا يطلب إلا من غيرها، وهذا مبين نظير ما قلناه في الأسباب، فإن المطلوب للنفس من المصلحة بهذا القصد والعمل إن كان حاصلاً فيها لم يكن في القصد والعمل فائدة، وإن لم يكن حاصلاً فيها لم يطلب حصوله بالقصد والعمل إلا من غيرها.
فكما استدللنا على أن حدوث أفعال النفس لا تُوجَد بمجردها، بل لا بد من سبب منفصل، فكذلك نستدل على أن أفعال النفس لا تنفعها وتفيدها وتصلحها بمجرد النفس، بل لا بدَّ من غاية منفصلة يكون في قصدها صلاح النفس ومنفعتها وخيرها.
ولهذا كل من عمل عملاً لنفسه كان طالبًا لمصلحتها من الأمور الخارجة عنها، مثل من يصنع الطعام للأكل، والثياب للباس، والكرسي للجلوس، فإن الغاية المقصودة للطعام هي الأكل، وغاية الأكل هي وجود اللذة والمنفعة بالاكل والشبع ودفع ألم الجوع، فهذه المنفعة واللذة المطلوبة للنفس لا تطلب من النفس، بل يُطلب حصولُها لها بسبب آخر غيرها، كما أن الإنسان لا تتحرك إرادته إلا بسبب منفصل، مثل أن يحس ما يوجب حركته أو يسمع بذلك، فإن الإرادة لا تتحرك إلا بشعور وإحساس، وذلك لا يكون ابتداءً إلا بأسباب منفصلة، إذ هي وحدها لا تقتضي الحركة والإرادة، كما أنها وحدها لا تحصل اللذة والمصلحة.
يُبيِّن ذلك أنها إذا قصدت بفعلها أمرًا فالمقصود إن كان حاصلاً فيها كان ذلك تحصيلاً للحاصل، وهو محال، وإذا لم يكن المقصود فيها امتنع أن تكون هي منتهى القصد وغاية المراد، إذ المقصود المراد
(6/114)
يُطلَب حينئذٍ لها من غيرها، فإذا جعل الإنسان غاية مقصوده هو نفسه وهوى نفسه، لم يقصد ما يصلح نفسه وينفعها، بل ما يضره أو لا ينفعها، كما قال تعالى: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) (1).
وبيان ذلك بالبرهان المشابه لبرهان الإحداث أن يقال: هو إذا فعل فعلاً فإما أن يصلح أن يكون ذلك الفعل بمجرده مقصودًا لنفسه، أو لا بد أن يقصد به شيئًا آخر، فإن صلح أن يكون مقصودًا لنفسه وغاية الفاعل، جاز في كل فعلٍ مقصود أن يكون مقصودًا لنفسه، وحينئذ فيلزم أن يصلح للنفوس كل ما يحبه ويهواه، ومعلوم أن هذا مستلزم للفساد، وإن لم يجز أن يكون مقصودًا لنفسه، بل وجب أن يقصد به شيئًا آخر، فإما أن يكون هوي نفسه ومراده أو أمرًا آخر، فأما الأول فيفضي إلى الدور، وذلك أنه إذا قصد بفعلِ أمرٍ لكون نفسه تهواه وتقصده وتحبه، فكونها تحب ذلك وتهواه وتقصده إما أن يجوز أن يكون غايةً مقصودةً بالفعل أو لا يجوز، فإن لم يجز ذلك بطل هذا، وإن جاز أن يكون غاية مقصودة بالفعل صلح في فعلها الأول الذي قصدت به هذا أن يكون لمجرد كونها تحبه وتقصده وتهواه.
ومتى صلح ذلك لم يجب أن تكون لهذه الغاية ولا غيرها، فصار كون هذا مقصودًا لنفسه يمتنع أن يكون مقصودًا لنفسه، وذلك هو الدور. وصار كون الفعل يصلح أن يكون مقصودًا، وذلك يوجب أن لا يمنع متحرك من حركته التي يهواها، ومعلوم أن هذا مستلزم للفساد،
__________
(1) سورة الحج: 13.
(6/115)
فوجب أن يكون مقصودُه بذلك الفعل أمرًا آخر، لا مجرد ما تهواه نفسه وتحبه وتريده.
وهذا يبيّن بالدليل العقلي أن اتباع الأهواء مطلقًا موجب للفساد، وأنه لا يصلح أن يعبد الإنسان مجرد ما يهواه، كما قال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (1)، وأنه لا بد أن يكون المعبود المقصود يُعبَد لمعنًى فيه، لا لمجرد إرادة النفس وهواها، وحينئذ فذلك المعنى الذي اختص به وصار لأجله محبوبًا معبودًا إما أن يكون لنفع منه إلى المحب القاصد العابد، وإما أن يكون لذاته، بمعنى أن في قصده ومحبته صلاح القاصد العابد.
أما الأول فقد تبين في المقام الأول أن الله هو رب، كل شيء وخالقه، فليس غيره مستقلاًّ بالنفع، وإن كان غيره سببًا فيه، فذلك النفع الذي يفعله إما أن ييسره الله أو لا يُيسِّره، فإن يسّره وصل إليك منه، سواء قصدته أو لم تقصده، وإن لم يُيسِّره لم يصل إليك منه، سواء قصدته أو لم تقصده، فلم يكن في عبادته ما يوجب وصول تلك المنفعة إليك.
وأيضًا فذاك المعبود إما أن يَعلَم بعبادتك أو لا يَعلَم، فإن لم يعلم لم يجز أن يقصد إيصال النفع إليك، وإن علم فالعالم الشاعر لا يعمل إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة. وكونك تعبده وتقصده وتجعله هو الغاية المطلوبة بعملك ليس له في هذا منفعة ولا مصلحة، لأنه لو جاز
__________
(1) سورة الجاثية: 23.
(6/116)
أن تكون نفسه غاية له مقصودةً بعمل غيره، لكان أن تكون غاية له بعمل نفسه أولى وأحرى.
وقد تبين أنه لا يجوز أن تكون نفسه غاية نفسه بعمل نفسه، فأن لا تكون غاية له بعمل غيره أولى وأحرى.
وهذا كما نقول في جانب الربوبية: إذا [كان] كل من المخلوقات فقيرًا عن أن يقيم نفسه، ويكون وجودها به، فهو عن أن يكون مقيمًا لغيره وجوده به أولى وأحرى، إذ ذاته أقرب إلى ذاته من غيره، فإذا لم يجز أن يكون فاعلاً لنفسه، ولا يصلح أن يكون غاية مقصوده لها بعمله، لم يجز أن يكون فاعلاً لغيره ومقصودًا لغيره.
وقد تبين أن المخلوق إذا لم يكن له في مجرد كونه معبودًا مصلحة، فإن حصل له بعبادة غيره له غرض آخر من غيره، مثل إقامة رئاسته وتعظيمه عند الخلق، ونحو ذلك مما يلتذ به، كان ذلك إحسانًا إليه، وكان ما يعطيه إياه من باب المعاوضة، فالمعبود من الخلق مفتقر إلى شيء غيرِه منفصلٍ عنه يحصل به مقصوده من عبادة غيره الذي يحسن إليه بقوة نفسه، وهذا فقير إلى غيره في هذا كفقره إلى غيره في هذا.
وأما ما يكون محبوبًا معبودًا لذاته، بأن يكون في مجرد ذلك مصلحة ومنفعة لقاصده، مع تقدير أنه لا يقصد نفع قاصده، فهذا كما يتمتع الإنسان بالنظر إلى المناظر الجميلة، ويتمتع بسمع الأصوات المطربة، وهذا قد يكون من الجانبين، كما أن كلاًّ من الزوجين يتمتع بالاَخر، فهذا يقصد انتفاعه بهذا، وهذا يقصد انتفاعه بهذا، إذ في
(6/117)
مباشرة كل منهما للآخر لذة وسرور. وكذلك المتعاونان على علم أو عبادة أو تجارة أو غير ذلك.
وبالجملة فعامة أمور بني آدم إما معاوضة وإما مشاركة، وكل منهما يقصد ما ينتفع به من الآخر، لا يقصد نفع الآخر، لكن تارة يكون الانتفاع بذاته كما في الزوجين، وتارة بما منه كما في شريكي العنان.
وكل من هذين النوعين لا يجوز أن يكون معبودًا محبوبًا لذاته، فإنه إنما يُحَبُّ لأمر عارض لذاته ليس بلازم لها، ثم ذلك المحبوب تنقضي محبته بحصول الغرض منه، كما ينقضي غرض أحد الزوجين من الآخر إذا انقضت المنفعة.
وكذلك المتمتع بالنظر إلى منظر بهيج، وكلّ ما يُذكر عن عُشَّاق الصور والمال والرئاسة، فإنه لأمر عارض في المحبوب، وعارض في المحب، ليس لذات واحد منهما، ولهذا تكون المحبة في وقت دون وقت، وقد تتبدل بالبغضاء، وما كان الشيء فإنه باق ببقاء ذاته، وإنما هذه المحبوبات تتناول لقضاء الحاجة، وإذا زادت على الحاجة ضرَّتْ على الإنسان وأفسدته.
ولهذا يُقال: إنها في الحقيقة دفع آلام، ولا ريب أن لذَّات الدنيا متضمنةٌ دفعَ ألمٍ، بخلاف لذَّات الآخرة، فإنه يتمتع بها من غير دفع ألم، لكن مع هذا لا يجوز أن تكون هي المقصود لذاته في الأفعال الاختيارية، وذلك أن العلة أكمل من المعلول، سواءً كانت فاعلية أم غائية.
(6/118)
فكما أن الفاعل المبدع أكمل من المفعول، فالمفعول لأجله -الذي هو المحبوب المقصود المعبود- أكمل من الفاعل، بل العلة الغائية أكمل من العلة الفاعلية، فإنها هي التي جعلت الفاعل فاعلاً، ولولا ذلك لم يكن فاعلاً، وإن كان الفاعل مستغنيًا عنها من جهة نفسه، لا من جهة كونه فاعلاً، والغائية غير مفتقرة إلى، الفاعل من حيث كونها غاية ومطلوبة، بل هي في نفسها غاية ومطلوب، سواء قُدِّر وجود الفاعل أو عدمه، لكن لا ينال المقصود بها إلا بالفاعل، فحصول المقصود بها كحصول الفعل من الفاعل.
فالفعل سبب ووسيلة إلى المقصود بها، ومعلوم أن المقاصد أشرف من الوسائل، ولهذا قدم سبحانه قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) لأن العبادة هي المقصود المطلوب، والاستعانة سبب ووسيلة إليها.
وكونه سبحانه إلهًا معبودًا للخلق أكمل من جهة كونه ربًّا مُعِينًا لهم من جهتهم ومن جهته.
أما من جهتهم فإن من لم يعبده منهم، فلم يؤمن به، ولم يطع رسله، يكون شقيًّا معذَّبًا، وإن كان مربوبًا مخلوقًا، وإنما سعادتهم إذا عبدوه فآمنوا به وأطاعوا رسله.
وأما من جهته فإنه يكون إلهًا يفتقرون إلى ذاته، ويكون ربًّا يفتقرون إلى ما منه، وكون الشيء مقصودًا لنفسه أشرف من كونه مقصودًا لغيره.
(6/119)
وبالجملة فمن المستقر في فِطَرِ الناس أنَّ ما يُطْلَب لغيره فذلك الغير أشرف منه، وأن المقاصد أشرف من الوسائل.
ولهذا يقال: إن العالي لا يفعل لأجل السافل، وإذا كان كذلك، فكل ما يُقدر أنه هو المقصود المعبود لذاته دون الله تعالى، فإنه محتاج إلى ما يكون مقصودًا معبودًا لذاته، فإن الحي لا بد له من إرادة، ولا بد لكل إرادة من مراد لذاته، فإن المراد إما مراد لنفسه وإما مراد لغيره، واذا أريد لغيره فذلك الغير إما أن يكون مرادًا لنفسه أو لغيره، فإن كان ذلك الغير هو الأول لزم الدور القبلي، وان كان غيرًا آخر لزم التسلسل في العلل، وكلاهما ممتنع. وكل ما دل على أن كل محدَث فله محدِث، وكل ممكن فله واجب، وأن الممكنات المحدثات لا بد لها من قديم واجب بنفسه، قطعًا للدور القبلي والتسلسل في العلل، فإنه يدلّ على أن كل مريد فلا بد له من مراد، وكل متحرك بالإرادة فلا بد له من غاية، وأنه لا بد لجميع الإرادات والحركات الاختيارية من مراد لنفسه ينقطع به الدور القبلي في العلل، فإذن كل متحرك بالإرادة من المخلوقات، بل كل مريد فلا بد له من مراد لنفسه هي الغاية. والمراد لنفسه أكمل من المراد لغيره، فكل مريد من المخلوقات مفتقر إلى مراد لنفسه يكون أكمل منه، فلو كان شيء محبوبًا مرادًا لذاته لكان المحب له يحب محبوبه، لأن محبوب المحبوب محبوب، ومراد المراد مراد بطريق اللزوم. فإن استلزام الحب الأول للأول كاستلزام الحب الثاني للثاني، فكما أن المحبّ لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، فالمحبوب كذلك لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، ولا تتم مصلحة محبوبه إلا بحصول مصلحته، لأنه إذا فسد حال المحبوب فسد حال محبه، فإذا
(6/120)
قُدِّر أن من المخلوقات ما يحب لنفسه، وذلك مستلزم لمحبته محبوبه الذي هو أكمل منه، كان الاكمل محبوبًا مرادًا بطريق اللزوم والقصد الثاني، وكان الأنقص محبوبًا مرادًا بطريق الأصالة والقصد الأول. ومعلوم أن هذا فساد ينافي الصلاح، فإن الحب والإرادة إن لم يتعلق بالأشياء على ما تستحقه الأشياء، لزم حال الحب الفاسد.
وأيضًا فالفطرة السليمة تنافي ذلك، ولا يقع مثل هذا إلا عند فساد الفطرة وتغيرها. وإلا فمن كان تلذذُه بالماَكل الرديئة دون تلذذِه بالمآكل التي هي أطيب منها، دلّ على نوع فساد فيه، وذلك يستلزم الفساد، كما يحصل للمريض من تلذذه بالمآكل الرديئة الضارة دون الجيدة النافعة.
وكذلك القلوب فُطِرَتْ على الصحة، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “كل مولود يولد على الفطرة” (1)، فهي مع السلامة لا تطمئن إلا بذكر الله، ولا تسكن إلا إليه، ولا تتألَّه إلا إياه، وافتقارها إلى معرفته وذكره وعبادته لا يشبهه شيء من الأشياء. فإذا قلنا: كافتقار الجائع إلى الطعام، والعطشان إلى الماء، والمغتلم إلى الجماع، كان ذلك كله تمثيلاً ناقصًا.
وكما أن هذه المفتقرات إلى هذه الأمور تفسد إذا لم يحصل ما يصلحها، ففساد النفوس إذا لم تعرف الله وتحبّه وتعبده أعظم بكثير كثير، وهذا حال كل من في السموات والأرض من الملائكة والجن
__________
(1) أخرجه البخاري (1358) ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة.
(6/121)
والإنس، لا يجوز أن يصلح حالهم إلا بأن يكون الله إلههم ومعبودهم، وتكون حركاتهم لأجله عبادة له تجمع كمالَ محبته وكمالَ الذلّ له، فإن العبادة تجمع كمال الحب وكمال الذلّ، وهذا شأن المراد لذاته المقصود لذاته، وكلّ ما سواه فمفتقر إلى هذا المراد المحبوب المعبود لذاته، فلا يكون هو مرادًا محبوبًا لذاته، فإن محبته مستلزمة محبة محبوبه ومعبوده الذي هو أكمل منه، بل هو معبود له. والفساد أن يكون كل من الشيئين محبوبًا، والتابع لغيره محبوب لذاته، والمتبوع محبوب لغيره.
وهذا الأصل هو أصل أصول الشرائع والملك، فإن الرسل جميعهم إنما بعثوا لأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وكما أنه مبرهن بالمعقول والقياس والنظر، فهو أيضًا معروف بالوجد والإحساس والذوق، فإن العبد يحس من قلبه فقرًا ذاتيًّا إلى ذكره وعبادته، غير فقره إليه من جهة إعطائه سُؤلَه، وجلب المنافع له، ودفع المضار عنه، فإن الفقر إليه من هذا الوجه هو أظهر في الابتداء، ولكن الإنسان يجد نفسه إلى أي موجود توجه بقلبه وذكره، لا يجد الطمأنينة ولا السكينة حتى يذكر الله ويُوجّهَ قلبه إليه، فإنه يجد الطمأنينة والسكينة فلا يبقى عنده منازعة إلى شيءآخر.
فكما أن السائل الداعي الراغب في قضاء حاجته إذا توجّه إلى الله بصدقٍ اطمأنَّ طمأنينة من وصل إلى من نال منه المطالب والحاجات، فكذلك المريد المحب [السائل] (1) لما يطمئن إليه إذا توجه إلى الله
__________
(1) بياض في الأصل بمقدار كلمة.
(6/122)
بصدقٍ، اطمأنَّ طمأنينة من حصَّل بُغْيَته ووجد محبوبَه ومألوهَه وطَلِبَتَه، وهذا الأصل إنما يستقر لأهل المِلَلِ أتباع ملة إبراهيم، أهلِ الحنيفية، فأما غيرهم فلا، حتى المتفلسفة الإلهيونَ ومن سلك سبيلهم من أهل الملل مع دعواهم أنهم حققوا المعارف اليقينية والحكمة الحقيقية، وقالوا: سعادة النفوس كمالها علمًا وعملاً، هم من أبعد الناس عن هذا، وذلك أن عندهم غاية سعادة النفوس نيل العلم فقط، وحقيقة العلم بالكليات التي لا وجود لها في الخارج كليات، والوجود الذي يثبتونه لواجب الوجود هو من هذا النمط.
ويقولون: غاية الإنسان أن يصير عاقلاَ معقولاً موازيَا للعالم الموجود.
ويقولون: كمال الإنسان أن يتشبه بالخالق بحسب الإمكان.
وقد سلك نحوَا من سبيلهم أبو حامد في “المقصد الأسنى (1) في شرح الأسماء الحسنى”، وهم يزعمون أن الأفلاك إنما تتحرك للتشبيه في قوتها، وهم في هذا ضالون من وجوه:
أحدها: جعلهم غاية العبادة مجرد العلم، والنفس لها قوة العلم وقوة الحب والإرادة، فإذا حصل مجرد العلم من غير معلوم محبوبٍ مرادٍ لذاته فسدت النفس، فكيف يكمل مجرد ذلك؟
__________
(1) في الأصل: “القصد”. وانظر “المقصد الأسنى” (ص 45 – 58) حيث ذكر أن كمال العبد وسعادته في التخلق بأخلاق الله تعالى والتحلي بمعاني صفاته وأسمائه بقدر ما يتصور في حقه.
(6/123)
ومن هنا تجدهم معرضين عن العبادات، بل مستخفين بأهلها، وقد يظنون أن الرسل إنما أمروا بحفظ قانون يُستعان به على نيل الحكمة النظرية (1) فقط، كما ذكر ذلك من ذكره من متفلسفة المسلمين واليهود وغيرهم. وأما الرسل فأول دعوتهم الأمر بعبادة الله، ولهذا كان نهاية المتفلسف أول قدم يدخل به الإنسان في الإسلام.
الوجه الثاني: أنهم جعلوا المعلوم الذي تكمل به النفوس هو العلم بالمجردات التي عند التحقيق لا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع. فاما الموجودات الخارجية فهم لا يعلمونها بأنفسها، ولا يعترفون بالله ولا ملائكته، وإنما يقرون بوجودِ مطلقٍ بشرط الإطلاق لا حقيقةَ له في الخارج.
الثالث: جعلهم غاية كمال الإنسان التشبّه بالإله، وأن المتحركات العلوية إنما تتحرك للتشبُّه بمن فوقها، مع أنهم أشد الناس إنكار، للتشبيه، وأدخلهم في التعطيل، [فينكرون] (2) من التشبيه ما يخلقه الله، ويدعون من التشبيه ما يفعلونه بكسبهم.
وقد استدل أبو حامد (3) بحديث ذكره مرفوعا إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “تخلَّقوا بأخلاق الله” (4).
__________
(1) في الأصل: “والنظرية”.
(2) هنا بياض في الأصل بقدر كلمة.
(3) في المقصد الأسنى (ص 150).
(4) حديث لا أصل له قال ابن القيم في مدارج السالكين (3/ 341): باطل، وانظر الضعيفة (2822).
(6/124)
وأنكر أبو عبد الله المازري وغيره ذلك، وقالوا: ليس للرب خلق يتخلق به العبد. وتحقيق هذا في موضع آخر.
وذكر هذا أبو طالب المكي، وأنكره عليه الشيخ أبو البيان الدمشقي، فيما أنكر عليه.
الرابع: أن هذا القدر في ثبوته نزاع مذكور في غير هذا الموضع، كما قرره أبو حامد وغيره، فليس الكمال والسعادة في أن يقصد العبد التشبّه بالرب فقط، بل أن يقصد عبادته، فإنه بدون أن يكون معبودًا له مقصودًا، يفسد حاله، فلا تكون له سعادة بحال، وإذا عبده مع نقيض اتصافه بصفات الكمال حصل له من السعادة بقدر ما عبده، فإذا اتصف مع ذلك بما يحبه الرب كانت سعادته أكمل، وجميع ما في العباد من صفات المدح والكمال التي يوصف الرب بالكمال المطلق فيها كالعلم والرحمة والقدرة ونحو ذلك، إنما يصير صاحبها سعيدًا كاملاً نائلاً سعادته إذا قصد المقصود المعبود لذاته، فأما بدون ذلك فلا سعادة له أصلاً. فمثل هذه الصفات من توابع الكمال والسعادة ومكملات ذلك، وأما عبادة المعبود المقصود لذاته فإنه من لوازم السعادة والفلاح، لايتصور وجود السعادة والفلاح بدون ذلك.
فالمتحركات العلوية جميعها حركاتها عبادة لله، كما وصف الله بذلك الملائكة وغيرهم، وقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ثم قال (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) (1)، فبيّن بذلك أنه ليس
__________
(1) سورة الحج: 18.
(6/125)
المراد بالسجود مجرد دلالتها على الخالق وشهادتها، بل إن الحال له فإن هذا يشترك فيه جميع الناس (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)) (1)، وقال تعالى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)) (2).
ولهذا عدل أبو الحكم بن بَرَّجان في شرحه للأسماء الحسنى من لفظ التخلق والتشبه إلى لفظ التعبد، فصار يذكر معنى الاسم واشتقاقه، ثم الاعتبار إثبات مقتضاه في المخلوقات، ثم تعبد العبد بما شرع له من مقتضاه.
فقد تبيّن بذلك أنه لا يصلح أن يكون شيء من المخلوقات مقصوداً لنفسه، لا مقصوداً له ولا مقصوداً لغيره، وأن ذلك مستلزم لكون شيء من المخلوقات لا يكون ربًّا بنفسه، لا ربّا لنفسه ولا ربّا لغيره.
لكن هذا ممتنع الوقوع كما اعترف به المشركون.
وأما الأول فهو محرم الوقوع، بمعنى أنه إذا وقع كان فيه فساد، لكون الحركات إلى غير غاية نافعة، بل إلى غاية ضارة، كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (3)، ولم يقل: عُدِمَتا، إذْ لو جاز أن يشرع أن تكون المخلوقات آلهة مقصودة معبودة لذواتها لزم من
__________
(1) سورة فصلت: 38.
(2) سورة ص: 18، 19.
(3) سورة الأنبياء: 22.
(6/126)
ذلك تجويز عبادة كل شيء، وتجويز كل فعل وكل قصد، وذلك مستلزمٌ فساد السموات والأرض، قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (1)، فإذا لم يكن الدين لله فتكون حركات العباد لغير الله، كانت الفتنة والفساد، فالصلاح أن تكون الحركات لله، والفساد أن تكون لغير الله، وهذا- والله أعلم- من أحسن الأمور، لكنه يحتاج إلى بسط وإكمال.
ولهذا يستدل بالحركات السماوية على وجود الرب وعلى أنه هو الإله المعبود، فإن الحركة تستلزم وجود مبدأ هو السبب الفاعل، وغاية هي المنتهى المقصود، والمقصود بتلك الحركات لو كانت المتحركات يقصد بها غير الله لزم الفساد في المتحركات.
كما بيناه في أنه متى قدر أن يكون المخلوق مقصودًا لذاته لزم الفساد، ومعلوم أن الحركات السماوية جارية على انتظام لا فساد فيها، فعُلِمَ أنها عائدة بهذه الحركات لله قاصدة له، كما دلّ على [ذلك] الكتاب والسنة، لا كما يقوله المشَّاؤون من الفلاسفة أن ذلك لاستخراج الأيُون والأوضاع، فإن ذلك من أفسد الكلام.
وأما المبدأ فقد عُلِمَ أن الحركة ليست طبيعية، لأن تلك إنما تكون إذا خرج المتحرك عن مستقره، وذلك إنما يكون في الحركات المستقيمة، فأما إذا كان المطلوب من جنس المتروك امتنع أن يكون تاركًا لأحدهما طالبًا للآخر، فعُلِمَ أن الحركة إرادية.
__________
(1) سورة الأنفال: 39.
(6/127)
والحركة الصادرة عن إرادة إما أن تكون الإرادة أحدثها ذلك المتحرك أو غيره من المخلوقات، لا يجوز أن يكون هو المُحدِث لها، ولا غيره من المخلوقات، لأن إحداثه لها يجب أن يكون بإرادة، فيلزم الدور والتسلسل، فوجب أن تكون تلك الإرادة المقتضية للحركة حدثت بإرادة من الله، وهذا هو المقصود.
وأيضا فمن المعلوم أن كل واحد من ذوي الحركات المختلفة السماوية له حركة تخصه، فلا يجوز أن تكون حركة أحدهما بحركة الآخر، كحركة الشمس والقمر الخاصتين بهما، فتبين أنه ليس بعضها خالقًا لبعضٍ ومُحدِثًا لحركتِه، فيكون المُحدِث لذلك غيرها، وهو المقصود.
ولا يجوز أيضا أن يكون المحدث لذلك هو الفلك الأعلى وحركته، لأنها حركة واحدة بسيطة متشابهة الأجزاء، ولو كانت هي المُحدِثة لما سواها لوجب أن تكون جميع الحركات من جنس واحد بسيطة، ومعلوم أن الأمر ليس كذلك، وهذا يبين أن حركات الأفلاك والكواكب الحركات المختلفة ليست صادرة عن الفلك، فعُلِمَ أن المحرِّك لها غير الفلك، وإذا ثبت أن المحرك لها غير الفلك التاسع، ثبت وجود موجود غير الفلك التاسع يكون مبدأ الحركات.
ومعلوم أن حركة الفلك التاسع من جنس هذه الحركات، بل الفلك من جنس هذه الأفلاك، فإذا كانت هذه محدَثةً مخلوقة امتنع أن لا يكون الفلك التاسع وحركته محدثة مخلوقة، لأن القديم الواجب الوجود لا يكون مثل المخلوق المحدث، ولأن الفلك التاسع لو كان
(6/128)
وحده قديمًا واجبًا- وهو أيضا محرك للأفلاك، ولهذا أيضًا حركته من غيره- لكان في الأفلاك محرِّكانِ كل منهما قديم واجب الوجود، فإن اختلفا في الإرادة لزم تضادُّ الحركات والتمانع، وهو خلاف الواقع. وإن اتفقا في الإرادة لزم اتفاقهما في الفعل، والاتفاق في الفعل يوجب أن لا يكون أحدهما فاعلاً له مستقلاًّ به، لا هذا ولا هذا، وإذا كان ذلك يوجب عجز كل منهما عن أن يكون فاعلاً- والعاجز يمتنع أن يكون قديمًا واجب الوجود خالقًا- امتنع أن يكون الفلك كذلك.
(6/129)
فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل صالح
(6/131)
فصل
في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل صالح.
وهذا المعنى قد تكلمنا عليه مرارًا في القواعد المتقدمة وغيرها، وفي مراسيل مكحول عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “من أخلصَ لله أربعين صباحًا تفجرتْ ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه ” (1)، هكذا رواه الإمام أحمد فيما رواه عنه المروذي في الإخلاص ونحوه من أعمال القلوب. وقد روي هذا- فيما أظن- من حديث يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس، ويوسف ضعيف ساقط.
ولهذا ذكر أبو الفرج بن الجوزي هذا الحديث في “الموضوعات” (2)، وطعن على الصوفية الذين جعلوه عمدتهم فيما يفعلونه من الخلوة أربعين يومًا، وأبو الفرج فيما ينكره على الصوفية في مثل “تلبيس إبليس” ونحوه، قد شاركه طوائف في إنكار ما أنكره، وكلّ من المُنكِرين والمُنكَر عليهم مجتهدون، لهم علم ودين، والصواب تارة يكون مع هذا الطرف، وتارة يكون كل منهما مصيبًا من وجه مخطئًا من وجه، فيقتسمان الصواب والخطأ، ويكون الصواب
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (13/ 331) وهناد في الزهد (678) وأبو نعيم في الحلية (10/ 70) عن مكحول مرسلاً. وإسناده ضعيف، انظر “المقاصد الحسنة” للسخاوي (ص 395).
(2) “الموضوعات” (3/ 144، 145).
(6/133)
تارة في غير ما عليه الطائفتان المتقابلتان، وهذا في مواضع كثيرة، ولعل هذا منها.
فأما الطعن في الإخلاص لله أربعين صباحًا فهذا ليس بسديد، فإن نفس الإخلاص وكونه أصل كل خير قد دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه الأمة، وسنذكر من ذلك ما شاء الله.
وأما توقيته بأربعين ففيه هذا الحديث المرسل، ولكن لم يذكره أبو الفرج، فما أظنُّه بلغَه، ورآهم اعتمدوا حديثًا ضعيفًا، فكثيرًا ما يعتمدون على أحاديث واهية.
ثم مراسيل مكحول فيها نظر، وفي الاستدلال بالمرسل نزاع، لكن يُقال: المرسل إذا عَضَدتْه أدلة أخرى استدل به.
والأربعين فيها يتحول الإنسان من حال إلى حال، كما ثبت في الصحيحين (1) من حديث [ابن مسعود]، عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “يُجمَعُ خَلْقُ أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يُنفَخ فيه الروح “.
ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن (2): “مَن شرب الخمر لم تُقبَل له صلاةُ أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم
__________
(1) البخاري (7454) ومسلم (2643).
(2) أخرجه أحمد (2/ 35) والترمذي (1862) من حديث ابن عمر. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد روي نحو هذا عن عبد الله بن عمرو وابن عباس عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(6/134)
تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم تُقبل له صلاةُ أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها كان حقا على الله أن يَسقِيَه من طِيْنةِ الخَبال”.
وفي صحيح مسلم (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “من أتى عَرَّافًا فسأله عن شيء لم تُقبَل له صلاة أربعين يومًا”.
ومثل هذا كثير، وقد جمع الحافظ عبد القادر الرُّهاوي في أول كتابه في الأربعين حديثاً أربعين بابًا، في كل بابٍ حديثٌ فيه ذِكرُ الأربعين.
فإخلاص أربعين يومًا له شواهد في أصول الشريعة، لكن الخلوة المعينة قد يشترطون فيها شروطًا مبتدعة خارجة عن المشروع، بل منهيًّا عنها، مثل اشتراط الصمت الدائم، والجوع الدائم، أو السهر الدائم، أو طعامًا مُعيَّنَ القدر والوصف، واشتراط شيخ يُدخِلُه الخلوة، وتسمية ذلك خلوة، ومثل ترك الصلاة في جماعة، وبعضهم قد يترك الجمعة.
وبالجملة فالمشروع من هذا الباب هو الاعتكاف الشرعي الذي كان يفعله رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في المدينة، وأما ما كان يفعله بحِراءَ قبل المبعث، فلسنا مأمورين باتباع ذلك، فإنه من حين بُعِثَ إلى الخلق وجب على الخلق كلهم طاعته واتباعه، والعبادة بما شرعه بعد المبعث دون العبادة التي لم يشرعها هو، ولو أراد أحد أن يفعل بغار حراء ما
__________
(1) برقم (2230) عن بعض أزواج النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(6/135)
كانوا يفعلونه فى الجاهلية من المجاورة فيه، وترإو الجمعة والجماعة، لنُهِيَ عن ذلك.
وقد كانوا في الجاهلية، كما قال أبو طالب في قصيدته الطويلة (1):
وراقٍ ليَرقَى في حِرَاءٍ وَنَازلِ
والمقصود هنا بيان ما دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع من أن إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى.
وفي الحديث حكاية بلغَتْنا لا أعلم إسنادها هو ثابت أم لا، لكن المعنى المقصود منها صحيح، وهو أن أبا حامد الغزالي قال: لما بلغني هذا الخبر أخلصتُ أربعين صباحًا، فلم أجد شيئًا، فذكرت ذلك لبعض شيوخ أهل المعرفة، فقال لي: يابُنيَّ، إنك لم تخلص لله، وإنما أخلصتَ للحكمة.
فإن هذا المعنى حق، وهو أن الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول، ثم الحكمة وغير ذلك يتبع ذلك، لا أن يكون غيره هو المقصود بالقصد الأول، ويجعل قصد الله وسيلة إلى ذلك.
وإن كان الناس قد يؤمرون بما يؤمرون به من الطاعة والعبادة لأمور أخرى تكون هي، مطلوبهم ومقصودهم، بل قد ينازع الناس في
__________
(1) في سيرة ابن هشام (1/ 272). وصدر البيت:
وثور ومن أرسى ثَبِيْرًا مكانَه
(6/136)
أنه هل يمكن أن يكون الله سبحانه هو المقصود المراد بالقصد الأول، بحيث يُراد لذاته فيُحَبُّ لذاته؟ فذهب طوائف كثيرون من أصناف المتفقهة والمتكلمة وغيرهم إلى امتناع ذلك، وأنكروا أن يكون الله محبوبًا لذاته، وهذا هو المشهور من قول المعتزلة ومن اتبعهم من المتكلمة والجهمية والفقهاء وغيرهم، ولم يجعلوا المقصود بالقصد الأول- وهو الغاية التي يطلبها العباد- إلا ما يحصل من تنعمهم بالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، مما وُعِدُوا به في الجنة، وجعلوا جميع ما أمروا به من العبادات والطاعات تكاليفَ إنما تُفعَلُ لتحصيل هذه الغاية المطلوبة.
وهؤلاء ينكرون أن يتنعم في الدنيا بعبادته وفي الآخرة بالنظر إليه، بل قد ينكرون أن يتنعم بذكره ورحمته، اللهم إلا من جهة لذة جنس العلم الذي لا يمكن أن ينكرها من وجدها.
وقد وافقهم على إنكار حقيقة المحبة لله وتوابعها طوائف من أصحاب الأئمة الأربعة. وأول من أنكر حقيقة المحبة لله الجعد بن درهم، الذي ضَحَّى به خالد بن عبد الله القَسْري بواسط في خطبة يوم الأضحى، وقال: “أيها الناس ضَحُّوا تقبَّلَ الله ضحاياكم، فإني مُضَح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا”. ثم نزل من المنبر فذبحه (1).
فإنكار حقيقة الخُلَّة هو إنكار حقيقة المحبة. وهؤلاء ينكرون أن
__________
(1) أخرج هذه القصة البخاري في “خلق أفعال العباد” (ص 7) وغيره.
(6/137)
يُحِبَّ وأن يُحَبَّ، ويتأولون ما ورد في ذلك على أنه يحب طاعته وعبادته، وهو يريد الإحسان إلى عبده.
وأما من وافقهم وأثبت الرؤية، فقد ينكر -إن صحت الرؤيةُ- التمتعُّ (1) بها، كما ذكر ذلك أبو المعالي في “الرسالة النظامية”، وذكر أنه من أسرار التوحيد، وزعم أن المحدَث لا يتمتع بالقديم، ولكن يخلق الله مع الرؤية لذةً بشيءآخر.
وكذلك قال ابن عَقِيل لرجل سمعه يقول: اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال: ويحك! هب أن له وجهًا، أتتلذذ بالنظر إليه؟
ومعلوم أن الدعاء النبوي قد ورد بهذا اللفظ في حديث عمار بن ياسر، وكذلك غيره- فيما أظن- والحديث في المسند والنسائي وغيرهما (2)، وفيه: “اللهم بعلمك الغيبَ، وقدرتك على الخلق، أَحْينى ما كانت الحياة خيرًا لي، وتَوَفَّني ما كانت الوفاة خيرًا لي، اللهم إني أسَألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، والقصدَ في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لاينفد، وقرةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك بَرْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضَرَّاءَ مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة، اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين “.
__________
(1) في الأصل:”نصحت الرؤية تمتع”.
(2) هو في المسند (4/ 264) وسنن النسائي (3/ 54) من حديث عمار بن ياسر، وأخرجه أحمد في المسند (5/ 191) والطبراني في المعجم الكبير (4932) والحاكم في المستدرك (1/ 516) من حديث زيد بن ثابت.
(6/138)
وأما المتفلسفة فالذي يعترفون به هو لذة العلم أيضًا فقط، إذ رؤيته عندهم بالعين ممتنعة، وكل من تكلم في لذة النظر والمشاهدة والتجلي ونحو ذلك من متصوفة المتفلسفة، فكلامه يعود إلى ذلك، وهو دونه، فإنه لا يثبت قدرًا زائدًا على ما أثبته المعتزلة، بل لا يكاد يصل إليهم، ولكن يُمَوِّهون بالتعبير على المعاني الفلسفية بالعبارات الإسلامية، وإلا فهم في الرؤية والمشاهدة لا يُجاوزون قول المعتزلة حيث يفسرونها بنوع من العلم. وفي كلام أبي حامد وأمثاله من ذلك أصناف، والفارابي.
ومن تدبر كلام الفلاسفة كابن سينا ونحوه، وجد ما يثبتونه من اللذات العقلية إنما هو لذة العلم بالموجود من حيث هو موجود، لا اختصاص للرب بذلك، اللهم إلا من حيث يولد وجوده، وغايته تلذذ بامور كلية حاصلة في ذهن العالم لا وجود لها في الخارج، لا سيما إذا قالوا: إن النفس الناطقة لا تُدرِك المغيبات التي يسمونها الجزئيات، وإنما تُدرِك الكليات، لا سيما بعد المفارقة. والكليات لا تكون كليات إلا في الذهن، فلا تكون لذة النفس عندهم إلا بأمور مقيدة فيها متصلة بها، لا بعلم شيء موجود في الخارج عنها.
وهذا في غاية البعد عن الحق، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وإنما هو إثبات النعيم بأمور مقدرة في الذهن، ولهذا كان الاتحادية وهم من خلاصة جَهْم، لا ينكرون اللذة بالمشاهدة، كما ذكر ذلك ابن العربي الطائي في بعض كلامه (1) أن المشاهدة ما التذَّ بها
__________
(1) فى الفتوحات المكية (1/ 610).
(6/139)
عارف قط.
وأما أهل السنة والجماعة من سلف الأمة وأئمتها، ومشايخ أهل التصوف والحديث، فلا ينكرون حقيقة محبة الله أصلا، وهؤلاء هم الباقون على ملة إبراهيم خليل الرحمن الذي قال الله تعالى فيه: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)) (1)، وعلى أصل هؤلاء فيظهر أن يكون الله هو المقصود بالقصد الأول، المحبوب المطلوب لذاته.
يبقى أن يقال: فالحب والإرادة فرع (2) الشعور، فكيف يكون هذا هو الأصل، وهو مسبوق بطلب وإرادة، وذلك مستلزم لحب؟ فلا بد أن يكون قد أحب شيئًا ما حتى أداه ذلك إلى هذه المعرفة المستلزمة محبةَ الله وقصدَه لذاته؟ فيجاب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أن كون الإقرار بالله لا يكون إلا نظريًّا، إنما قاله طوائف من أهل الكلام كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم، وليس هذا قول سلف الأمة وأئمتها، ولا قول مشايخ التصوف ومشايخ أهل الحديث، ولا قول جميع أهل الكلام، بل طوائف كثيرة من أهل الكلام والنظر قد يقولون: إنها لا تكون نظرية بحال، بل لا تكون إلا ضرورية.
والتحقيق أنها فطرية ضرورية، ولكن قد يحصل لبعض الفطر ما يُفسِدها، فيحيلنا إلى نظر، كما يقرن النظر بالضرورة، كما قال النبي
__________
(1) سورة النساء: 125.
(2) في الأصل:”قربه”.
(6/140)
– صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “كل مولود يولد على الفطرة- وفي لفظ: على هذه الملة، وفي لفظ: على فطرة الإسلام- فابواه يُهوّدانه ويُنصِّرانه ويُمجّسانه، كما تُنتَج البهيمةُ بهيمةَ جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها جدعاء”، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (1).
وذلك قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)) (2).
الوجه الثاني: أن الحب يتبع الشعور، فإذا شعر بالحق مجملاَ أحبه مجملاَ، وإذا شعر به مفصلاَ أحبه مفصلاَ، لا بد من الشعور به ومحبته ولو مجملا، وإن لم يكن ذلك أصل مقصوده كان معلولاَ، فإن من كان مطلوبه الحق من حيث هو حق، غير متبع لهواه المخالف للحق، فإنما مقصوده في الحقيقة هو الله، فإنه الحق المحض، إذ كل مخلوق فإنما قِوامُه به، وبه صار موجودًا، ثم إنه قد يشعر أولاَ بموجود قديم، أو موجود واجب، إذ الوجود شاهد بأنه لا بد فيه من قديم واجب، إذ يمتنع أن يكون الوجود كله مُحدَثَا ممكنًا، فإن ذلك لا يكون بنفسه، وهذا من أوضح المعارف الضرورية، فالإقرار بموجود
__________
(1) سورة الروم:30. والحديث سبق تخريجه.
(2) سورة الروم: 30 – 32.
(6/141)
قديم واجبٍ أمرٌ ضروري فطري في النفوس كلها.
ولهذا تجد جميع الأمم معرفةً بالله فطريةً، فإن أخطأ بعضهم عينَه فاعتقده غير ما هو، فالمقصود الأول هو الله، والقلب مفطور على الحنيفية التي هي الإقرار بالله وعبادته المتضمنة معرفته ومحبته. ولكن قد يَعرِضُ للفطرة ما يغيرها، وإذا كان كذلك، فقد دلّ الكتاب والسنة -في غير موضع- على أن من كان هذا مقصوده، وكان مجتهدًا في ذلك، فإنه يحصل له الهدى، وأن من اتبع هواه فلم يكن الحق مقصوده، ضلّ عن سبيله، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (1)، فإن المجاهد في الله لا بد له من شيئين:
أحدهما: محبة الله وإرادته المستلزمة بُغْضَ عدوه.
والثاني: الاجتهاد في دفع ما يبغضه الحق ويكرهه، بقهر عدوه، ليحصل ما يحبه الحق ويرضاه بعلو كلمته، وأن يكون الدين كله لله.
فالمجتهد في تحصيل محبوبه ودفع مكروهه، هو المجاهد في سبيله، وهو الذي استفرغ وُسْعَه في ذلك حتى جاهد أعداءه الظاهرين والباطنيين، فيجتمع في المجاهد في سبيله شيئان: كمال القصد، وكمال العمل.
فالأول: أن مقصوده هو الله، فهو معبوده ومحبوبه.
والثاني: أنه يستفرغ مقدوره في تحصيل هذا المقصود.
__________
(1) سورة العنكبوت: 69.
(6/142)
فهذا يُهدَى سُبُلَ الله.
وهذا مجرب في سائر المحبوبات، فكل من أحب شيئًا محبة شديدة ولَّد له شدةُ المحبة طُرقَ تحصيل المحبوب، وطُرقَ المعرفة به. وكذلك من أبغض شيئًا بغضًا شديدًا، ولَّد لهُ شدةُ البغضِ طُرُقَ دفعه وإزالته، ولهذا يُقال: الحبُّ يَفتِقُ الحيلة، كما يُقال: الحاجة تَفِتقُ الحيلة. فإن المحتاج محبّ لما احتاج إليه محبةً شديدة.
وإنما يُوقع النفوسَ في القبائح الجهلُ والحاجةُ، فأما العالم بقبح القبيح الغني عنه فلا يفعله، قال الله تعالى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)) (1)، وقد قال في ضد هؤلاء: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)) (2)، فبيّن أن اتباع الهوى يُضلّ عن سبيل الله، فمن اتبع ما تهواه نفسه أضلّ عن سبيل الله، فإنه لا يكون الله هو المقصود، ولا المقصود الحق الذي يوصل إلى الله، فلا قَصَد الحق، ولا ما يوصل إلى الحق، بل قصد ما يهواه من حيث هو يهواه، فتكون نفسه في الحقيقة هي مقصوده، فيكون كأنه يعبد نفسه، ومن يعبد نفسه فقد ضلّ عن سبيل الله قطعًا، فإن الله ليس هو نفسه.
ولهذا لما كان حقيقة قول الاتحادية: إن الرب تعالى هو العَالَم نفسه، لا يميزون بين الرب الخالق وبين المخلوق المربوب، بل كل
__________
(1) سورة الشورى: 13.
(2) سورة ص: 26.
(6/143)
موجود فهو عندهم الرب العبد، كان حقيقة قولهم إنكار محبة الله ومعرفته وعبادته. فجعلوا المعبود بذاته إنما هو الهوى، كما قال صاحب الفصوص “فصوص الحكم” ابنُ عربي: “وكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل، كما سلّط موسى عليه، حكمةً من الله ظاهرة في الوجود، ليُعبَد في كل صورة، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد أما، تلبَّستْ عند عابدها بالألوهية، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا عُبِدَ، إما عبادةَ تألُهٍ، وإما عبادةَ تسخير- إلى أن قال- وأعظم محل فيه عُبدَ وأعلاه الهوى، كما قال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (1) فهو أعظَم معبود، فإنه لا يُعبَدُ شيء إلا به، ولا يُعبَد هو إلا بذاته ” (2).
وهذا جهل منه حيث قال: “لا يُعبَدُ إلا بذاته”، فإن الهوى نفسه إن عُنِيَ به المَهْوِيّ، فكل ما هُوِيَ فهو هَوى، فإذن كل ما هُوِيَ فقد هُوِيَ لذاته، فيبطل التخصيص.
وإن عُنِيَ به نفس المصدر الذي هو نفس إرادة النفس مثلاً، فذاك هو القصد والإرادة التي تكون عبادة، فكيف تكون العبادة هي المعبود؟
وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا تكن ممن يتبع الحقَّ إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه.
فإذن هو لايثاب على ما اتبعه من الحق، ويعاقب على ما اتبعه من
__________
(1) سورة الجاثية: 23.
(2) فصوص الحكم (1/ 194).
(6/144)
الباطل، وذلك لأنه يكون إنما اتبع هواه في الموضعين، لم يتَّبع الحق لأنه حق.
فلما كان اتباع الهوى يُضِلُّ عن سبيل الله أخبر بأن الضلال مع اتباعِ الهوى في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) (1)، وقوله: (وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (2) وقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)) (3) وقال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) (4).
كما أخبر أن الهدى مع السنة التي هي اتباع سبيله، كقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)) (5)، وقال تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (6)، وقوله: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)) (7)، وقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (8).
__________
(1) سورة القصص: 50.
(2) سورة الأنعام: 119.
(3) سورة المائدة: 77.
(4) سورة الجاثية: 23.
(5) سورة النساء: 66 – 68.
(6) سورة النور: 54.
(7) سورة الشورى: 13.
(8) سورة العنكبوت: 69.
(6/145)
ولهذا كان السلف يُسمُّون أهلَ البدع أهلَ الأهواء، فإنهم على ضلال، والضلال مستلزم لاتباع الهوى، كما أن الهدى لازم لاتباع سبيله، وهذا الهدى الثاني كما في قوله: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)) (1)، قال طائفة من التابعين: لزم السنة والجماعة.
ومنهم [من قال:] من عَمِلَ بما عَلِمَ ورثه الله عِلْمَ ما لم يعلم. ومن أخلص لله أربعين صباحًا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
وذلك أن مخلص الدين لله محفوظ من الشيطان الذي يأمر باتباعِ الهوى، كما قال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)) (2)، والغي: اتباع الهوى.
وقال عنه: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)) (3)، فالمخلص لا يُغوِيه، فلا يتبع هواه، كما قال: (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)) (4)، فصرف عنه الغيَّ لأجل إخلاصه.
ولما كان الإخلاص أن يكون الدين كله لله، وعلى هذا أمر بالجهاد، وهذا يوجب الاجتماع والألفة، إذ ذلك هو دين الأنبياء الذي
__________
(1) سورهَ طه: 82.
(2) سورة الحجر: 42.
(3) سورة ص: 82 – 83.
(4) سورة يوسف: 24.
(6/146)
أُرسِلتْ به الرسل وأُنزِلتْ به الكتب، كما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:”إنا معاشرَ الأنبياء ديننا واحد” (1).
قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (2)، وقال في الآية الأخرى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (3).
فصل
وإيضاح هذا الكلام أن يقال: الإنسان له فعلٌ باختياره وإرادته، وهذا ضروري له، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:” أصدق الأسماء الحارث وهمَّامٌ ” (4)، بل وكل حيٍّ فهو كذلك.
والفعل الاختياري له مبدأ، وهو الإحساس والشعور المحرِّكُ للمحبة والإرادة والقدرة عليه، وله منتهى، وهو المقصود المراد المحبوب بذلك الفعل.
وقد بينا -فيما تقدم- أن مبادئ الفعل لا يجوز أن تكون من العبد، لأن فعله لها حادث من الحوادث، فلا يجوز أن يَحدُث بنفسه، ولا يجوز أن يحدث فعله بمبادئ فعله، لأنه يلزم أن تكون تلك
__________
(1) أخرجه البخاري (3443) ومسلم (2365) من حديث أبي هريرة بمعناه.
(2) سورة الشورى: 13.
(3) سورة الروم: 30.
(4) سبق تخريجه.
(6/147)
المبادئ علةَ فعلِه ومعلولةَ فعلِه، وذلك ممتنع إن كانت هي إياها، وإن كانت غيرها لزم أن يكون فاعلاً لفعله بفعل. وكذلك الفعل بفعل آخر، وكذلك الفعل بفعل آخر، فتحدث تلك الإرادة بإرادة، وتلك الإرادة بإرادة، وهلمَّ جرا. وهذا يُفضِي إلى وجود حوادثَ لا تتناهَى في الإنسان، والإنسان متناهي، ويمتنع وجود ما لا يتناهى فيما يتناهى، فلا بد أن تنتهي تلك الأفعال إلى أسباب خارجة من العبد، وهذا خارج من قولنا، لأنه يفضي إلى التسلسل، فإن التسلسل إن أريد به تسلسل العلل التامة التي يجب وجودها في زمن واحد، لم يجب ذلك. وإن توقف الفعل الثاني على الأول جاز أن يكون من باب الشروط التي يجوز تقدمها، فتكون كوجود حوادث لا تتناهى. وهذا فيه نزاع، فمن جوَّزَه في القديم أو المحدث لم يصح أن يبطل التسلسل فيه. ومن لم يُجوِّزه يرد عليه سؤالات مذكورة في غير هذا الموضع.
وإن شئت أن تقول: لأن الفعل القريب إما أن يكون مفعولاً عن الفعل الذي قبله بحيث يكون كل فعلِ علةً لما بعده أو شرطًا، فإن كان علة لزم وجودُ إرادات وأفعال لا تتناهى في زمان واحد، والإنسان يعلم بحسِّه وعقلِه أن الأمر بخلاف ذلك علمًا ضروريا. وإن كان شرطًا لزم ما لا يتناهى على التعاقب، وهو إما أن يكون ممتنعًا فيما يتناهى، وإن شئت أن تقول: التسلسل في الإنسان ممتنع، لأنه مستلزلم وجودَ ما لا يتناهى في زمن واحد، أو في أزمنةِ لا تتناهى في حق الإنسان، وذلك ممتنع في الوجهين.
وهذا السؤال يَرِدُ على أبي عبد الله الرازي، فإنه يقرر خلق فعل
(6/148)
العبد بشبيهِ هذا، لكن لا يبين امتناعَ التسلسل اكتفاءً منه بما قرر في حدوث العالم، وذلك متنازع فيه بين المسلمين وغيرهم، أو لظهور ذلك في حق العبد، وهو يقرره بالإمكان، وتقريره بالحدوث أظهر.
وقد ذكرنا غير مرة أن ما دلّ على حدوث الحوادث المشهودة وأنها خلقٌ لله، يدلّ على ذلك في أفعال العبد، لا فرق بين أفعاله وسائر صفاته.
والمقصود هنا الطرف الثاني، وهو أن ذلك الفعل لا بد له من منتهى هو المحبوب المقصود المطلوب به. فنقول: كما أن العبد يُوجَد فعله تارة ويُعدَم أخرى، ففعله الموجود بإرادته قد يريد به ما يصلحه وينفعه تارة، وقد يريد به ما يفسده ويضره أخرى، وذلك لأنه إما أن يصلح له أن يفعل كل ما يهواه ويحبه ويريده من الأفعال، فيقصد ويعبد ويطلب كلّ ما يهواه، أو لا يصلح ذلك إلا في بعض الأمور دون بعض.
والأول باطل، لأنه إذا فعل كل شيء يهواه ويحبه لزم وقوع الفساد المستلزم لنقيض ما يحبه ويهواه، بل لو وقع في الوجود كل ما يهواه كل إنسان لزم فساد العالم، كما قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) (1)، وذلك أن أهواء النفوس ليس لها حدّ تقف عنده إذا أعطيت القدرة، بل هذا يهوى أن يغلب هذا فيقتله أو يأخذ ماله أو رئاسته، وهذا كذلك، وهذا يهوى أن ينال ما
__________
(1) سورة المؤمنون: 71.
(6/149)
اشتهاه من الفروج والصور، وهذا يهوى ذلك، فيلزم فساد الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. وهذا يهوى أن يُعظَّم ويُعبَد من دون الله حتى لا يفعل أحد مصلحته، بل لا يفعل إلا ما يهواه، وهذا كذلك. وأمثال هذا مما يطول عدُّه. وما من عاقل إلا ويعرف ذلك.
ولهذا اتفق العقلاء على أن بني آدم لا يعيشون جميعًا إلا بشرع يستلزمونه ولو بوضع بعض رؤسائهم، يفعلون ما يأمر به، ويتركون ما ينهى عنه، فإن تركهم بدون ” ذلك مستلزم أن يفعل كل قادر منهم ما يهواه، وذلك يمنع بقاءهم، ويوجب فسادهم وهلاكهم، لأن أهواءهم وإراداتهم إذا لم تتعاونْ وتتناصرْ فإنها تتهاون تارة، وتتمانع تارة، وتتخاذل تارة، فإذا تهاونت فلم يُعِنْ هذا هذا، ولا هذا هذا، عجزوا عن مصالحهم التي لا بد لهم منها، فوقع الفساد، وإن تخاذلت فلم ينصر هذا هذا، ولا هذا هذا، لزم أن يستولي عليهم الحيوان الناطق والبهيم، بل ومن المؤذيات الجامدة ما يفسدهم ويهلكهم. وإذا تمانعت فلم يُمَكِّن هذا هذا من فعل ما يصلحه، ولم يُمكِّن هذا هذا من فعل ما يصلحه، لزم عجزهم عن جلب المنافع ودفع المضار. وإذا تغالبت فغلب هؤلاء هؤلاء تارة، وهؤلاء هؤلاء تارة، لزم فساد كل فريق إذا غُلبوا، بل وإذا غَلبوا أيضًا، إذا لم يكن لهم شرع يعتصمون به في تقاسم نفوس الأعداء وأموالهم، وأمثال ذلك.
وبهذا وأمثاله يتبين أن الدين والشرع ضروري لبني آدم، لا يعيشون بدونه، وقد بسطناه في غير موضع، لكن ينقسم إلى شرعِ غايته نوع من الحياة الدنيا وشرع فيه صلاح الدنيا فقط، وشرعٍ فيه صَلاح
(6/150)
الدنيا والآخرة، ولا يتصوَّر شرعٌ فيه صلاح الآخرة دون الدنيا، فإن الآخرة لا تقوم إلا بأعمال في الدنيا مستلزمة لصلاح الدنيا، وصلاحها غير التناول لفضولها.
وإذا تبين أن الإنسان لو فعل ما يريده ويهواه لزم الفساد والضرر المنافي لما يحبه ويرضاه، فإن المحبوب بالقصد الأول هو ما يصلحه وينفعه، فإذا كان فعله ما يهواه يستلزم وقوعَ ما يضره وخلافَ ما يهواه، كان وجود هذا مستلزمًا لضده ونقيضه في العاقبة، فلا يصلح أن يكون ذلك مقصودًا، لما فيه من الضرر والفساد المخالف للمقصود بالقصد الأول، ولأن كونه مقصودًا ينافي كونه مقصودًا، فإنه إذا فعل ما يحبه لمقصوده حصلَ المحبوب، فإذا كان حصول هذا المحبوب يستلزم نفي المحبوب ووقوعَ المكروه صار وجود هذه الغاية المقصودة مستلزمًا نقيضَ هذه الغاية وضدَّها، وما استلزم وجودُه عدمَه ووجودَ ضدِّه امتنع أن يكون علة غائية أو علة فاعلية أو غير ذلك.
كما أن في العلة الفاعلية لو كانت إرادته حادثة بلا فاعل للزم جواز حدوث حادث بلا فاعل، ولو جاز ذلك لجاز أن لا يكون لفعله وغيره من الحوادث فاعل، فيلزم حينئذ جواز حدوث فعله بلا فاعل، فلا يجب أن يكون هو الفاعل له.
ومن قال: إرادته حادثة بلا فاعل، قصد بذلك أن يكون هو المحدث لفعله، فإنه إذا جعل لها فاعلاً، صار ذلك هو الخالق لفعله، فصار ما جعله هو المحدث يستلزم أن لا يكون هو المحدث، فلا يكون صحيحًا.
(6/151)
وهنا يصير ما جعل هو الغاية مستلزما أن لا يكون هو الغاية، بل تكون الغاية تقتضيه وضده، فلا يجوز أن يكون هو الغاية.
وقولنا: لا يجوز أن يكون هو الغاية، يتضمن شيئين:
أحدهما: لا يصلح للعبد أن يعتقد ذلك ويقصده.
والثاني: أنه في نفسه لا يقع غاية، أي ما تهواه النفوس وتحبه إذا جعلته النفوس هو غايتها، لم تحصل محبوباتها وما تهواه.
فهذا بيان أن هذه الغاية لا تحصل ولا تقع، وهي حصول المحبوب المطلوب. وإن كانت النفوس تفعل لأجلها، فالفعل إذا لم يحصل غايته كان باطلاً، وهي أعمال الكفار. وإن حصل ضدها كان فاسدًا.
ولهذا قال الفقهاء: العقد والعبادة الباطلة ما لم يحصل به مقصوده، ولم يترتب عليه أثره شرعًا (1). ولهم في الفرق بين الباطل والفاسد كلام ليس هذا موضعه.
فوجود الأفعال التي لا تحصل غاياتُها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابقُ معتقداتِها، فهذا في الأفعال بالنسبة إلى الغاية، فاعتقادُ من اعتقد أنه خالق فعله بالنسبة إلى الفاعل، ووجودُ هذا الاعتقاد لا يمنع أن يكون الخالق غيره، وأنه ليس هو الخالق، وإن أخطأ في اعتقاده. كذلك عملُه لهذه الغاية الفاسدة المتناقضة، لا يمنع أن تكون الغاية
__________
(1) في الأصل بعده: “ولهذا قال”.
(6/152)
الصحيحة غير هذه، وإن ضلَّ هو في قصد هذه والعمل لها.
وإذا تبين أنه لا يمكن أن يكون ما تهواه النفوس هو الذي ينبغي أن يكون مقصودها ومرادها، بل ذلك يستلزم نقيض ما تهواه وتحبه، عُلِمَ بهذا أنه لا يصلح أن تكون الغاية من قصد الفعل وإرادته ومحبته هو كون النفس تحبه وتهواه وتقصده.
كما تبين أنه لا يجوز أن يكون ذلك القصد حادثًا عن مجرد النفس، فكما أن مبدأ الفعل والفاعل ليس من الإنسان، فغايته ومقصوده لا يصلح أن يكون في الإنسان، فكما أنه ليس هو المباع لفعله، ليس هو الغاية لفعله، بل لا بد من غاية تكون معِبوده، كما أنه لاِ بد من مبدأ يكون مستعانه، كما قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) فلا يصلح أن يفعل الإنسان لأجل نفسه بمعنى أنها هي المعبود المقصود لذاته بذلك الفعل، فيفعل ما تحبه وترضاهُ مطلقًا، لكن يفعل لأجلها بمعنى أن يفعل ما يصلحها وينفعها، ويجلب لها الخير، ويدفع عنها الشر، وذلك أن يكون مقصوده بالفعل ما يحصل مصلحتها بقصده.
وكما أن الإنسان ليس مُحدِثا لفعله بمعنى أنه هو الخالق المُباِع له ولمبادئه المستقل به، ولكن هو المُحدِث لفعله بمعنى أنه فعَله بقدرته ومشيئته واعتقاده، وذلك أنه كله مخلوق لله، فربُّه هو الربّ الخالق لفعله وإن كان هو فاعله، وإلهه هو المقصود المعبود بفعله، وإن كان العبد يقصد نفع نفسه.
وكون الرب خالقًا وربًّا للفعل لا يمنع أن يكون العبد فاعلاً كاسبًا
(6/153)
له، وكذلك كون الرب هو الإله المقصود الذي يستحق ذلك العمل ويحبه ويرضاه ويفرح به، وهو غايته ومنتهاه، لا يمنع أن يكون للعبد فيه غاية من المنفعة والصلاح والخير واللذة.
فتدبَّر هذا كله، فإنه جامع نافع، يتبين لك من هذا كون العبد إنما يعمل لنفسه مع كون الرب يستحق ذلك عليه ويطلبه منه طلب المستحقّ المحبّ المريد لما يستحقه ويحبه، كما تبين لك كون العبد فاعلاً حقيقة بقدرته ومشيئته، مع كون الرب هو الخالق لذلك، وهو ربه ومليكه.
ويتبين لك أن قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (1)، وقوله: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)) (2)، وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (3) ونحو ذلك لا يُنافِي قولَه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (4)، وقولَه: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)) (5)، وقولَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لمعاذ: “أتدري ما حق الله على العباد؟ ” قلت: الله ورسوله أعلم. قال: “حقه عليهم أن يعبدوه لا يُشرِكوا به شيئًا” (6).
__________
(1) سورة البقرة: 286.
(2) سورة النمل: 40.
(3) سورة الإسراء: 7.
(4) سورة الذاريات: 56.
(5) سورة الكهف: 50.
(6) سبق تخريجه.
(6/154)
وتبيَّن لك من غضب الله وعقابه على من أشرك به وكفر، ومحبته ورضاه وفرحه لمن أطاعه وأناب إليه وتاب إليه ونحو ذلك.
كما تبيَّن لك أن آيات الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات المخبرة بأن العباد فاعلون، لا تُنافي آيات القدر المتضمنة أن الله خلق أفعال العباد، فإن كثيرًا من الناس تاهوا في الغايات المقصودة، كما تَاهَ كثير من الناس في الأسباب الفاعلة، ولا بد من توحيد الربوبية بأن يكون الله خالق كل شيء وبأن يكون الله هو المعبود المقصود بذاته بالأفعال لا سواه. ولا يدفع ذلك من إثبات فعل العبد وقدرته ومشيئته واعتقاده، كما أنه لا بد من إثبات انتفاع العبد بالفعل، وأنه يعمل مصلحته ومنفعته، وأنه وإن قصد غيره فمقصده هذا، لأن في كون ذلك مقصودًا معبودًا صلاحه وانتفاعه.
فإن الناس يغلطون في هذا، فكثير من الصوفية لا يلحظون هنا إلاَّ (1) غاية الألوهية، ولا يستشعرون أن ذلك منفعة للنفس وصلاحها.
وكثير من أهل الكلام كالمعتزلة وغيرهم لا يستشعرون أن لله في ذلك محبة ورضًى وفرحًا، بل لا غاية له إلا ما يعود على العبد.
كما أنهم كذلك يتنازعون (2) في السبب الفاعل ما بين قدريَّةٍ مجوس وجَبْرِيَّةٍ نُفاة، ومنحرفو الصوفية يغلب عليهم في الموضعين نفيُ ما في العبد من سبب وغاية، كما أن منحرفي المتكلمين من
__________
(1) في الأصل: “الأحاديث”، وهو تحريف.
(2) في الأصل: “لا يتنازعون”، وهو خطأ.
(6/155)
المعتزلة والرافضة يغلب عليهم نفيُ ما للرب من مبدأ ومنتهى من ربوبيته وإلهيته.
وأما المثبتة من الأشعرية ونحوهم، ففي جانب القدر يوافقون الصوفية، وأما في جانب الغاية فقد يوافقون المعتزلة، فتدبر هذا فإنَّه أصلٌ عظيم.
وهذا المعنى يستقرُّ في فطر الناس، كما أنه مستقر في فطرهم افتقار العبد في فعله إلى الله، ولهذا يحتملون المكاره طلبًا للمنافع، ويتقون الشهوات طلبًا لما هو أحب منها، ودفعًا لما هو أضرّ من تركها، ويقولون: فِعْلُ ما تهوى يمنعك ما تهوى، وأمثال هذا الكلام.
وإنكارُ من أنكر من المرجئة لمعرفة حسن الفعل وقبحه بالفعل يتضمن إنكار هذه الغاية، كما أن إنكار القدرية لكون الله خالق أفعال العباد يتضمن إنكار السبب الفاعل. والفطرة والشريعة تَرُدُّ على الطائفتين، أولئك منعوا غايات الأفعال وعواقبها ومصالحها، وأنه يجب عقلاً الفرقُ بين فعل وفعل، ويجب عقلاً كون هذا الفعل مقتضيًا للمنفعة والصلاح، وهو حُسْنُه، وكون هذا الفعل مقتضيًا للمضرة والفساد، وهو قبحه، لكن ظن الأولون أن الحسن والقبح في حق الخالق والمخلوق قد يكون لذات الفعل، أو لصفة فيه، لا لغاية محبوبة أو مسخوطة، وهذا الظن الفاسد أوقع هؤلاء في نفي التفريق بين الحسن والقبيح، وسلموا الغاية الملائمة والمنافرة، لكن ظنوا أن الحسن والقبح في الشرع بغير المعنى، أو أن له حقيقة وراء هذه، وليس الأمر كذلك، بل الحسن مطلقًا هو الملائم النافع المحبوب
(6/156)
المرضي، والقبيح ضد ذلك، وصفات الكمال تعود إلى ذلك. فالحسن والقبح متعلقان بالعلة الغائية مطلقًا، وقد بسطنا هذا في غير موضع، كقاعدة مفردة في غير ذلك.
والقدرية لم ينبتوا الغاية كما ينبغي، بل تَخبَّطوا فيها، وإن كانوا من الحسن والقبح بَأصله دون تفصيله الصحيح، ثم عدلوا الله بخلقه تشبيهًا باطلاً مع غلوِّهم في إنكار التشبيه في الصفات، وإن كانوا أثبتوه هنا أصلاً، كما له أصل في الصفات، ولكن جهلوا التفصيل هنا، كما جهلوا هناك الأصل، وأنكروا أن يكون الله نفسه هو الغاية المقصودة، وأنكروا السبب، فأنكروا كونه خالقًا لأفعال العباد (1).
وإذا لم يصلح أن يكون هوى العبد هو الغاية المقصودة لذاتها مطلقًا، تبين فسادُ حالِ من اتخذ إلهه هواه، ومن عَبَدَ ما استحسن من دون الله، وهؤلاء المشركون المتبعون لأهوائهم المتخذون آلهتهم أهواءهم. ويُحكى ذلك عن البراهمة منكري النبوات، كما حكاه أبو الحسن الرَّبَعِي في كتاب “اتباع المرسلين في الاحتياط للدين “، قال: وقال قوم يُقال لهم البرهمية بقول عبدة الأصنام: ما استحسنه العبد فهو معبوده.
وهذا أيضًا حقيقة قول الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، إذ عندهم كل ما كان موجودًا يصلح أن يكون لكل عابد معبودًا، وإن كان عندهم كل عابد فهو أيضًا معبود، كما قال شيخهم صاحب الفصوص:
__________
(1) بعده بياض بقدر سطر ونصف.
(6/157)
“فليعبدني وأعبده” (1). وقال: “أعظم معبود عبد فيه الهوى” (2).
وإذا تبين أنه لا يصلح أن يكون كل ما يهواه العبد ويريده مقصودًا … (3) تبين من ذلك أنه لا يصلح أن يكون ما يوجد من اللذة هي الغاية المقصودة بفعله، لأن اللذة تتبع الشهوة، فإذا حصل ما يشتهيه وجد اللذة، فإذا امتنع أن يكون المنتهى مطلقًا مقصودًا، امتنع أن تكون اللذة مطلقًا غاية مقصودةً، لما بيناه من أن وجود ذلك يمنع وجوده، لما فيه من الفساد، ولكن لا بد في فعله من حب، ولا بد له من لذة، فالشهوة واللذة سببان في فعله، ذلك سببٌ فاعليّ، وهذا سببٌ غاليّ، بهما كان الإنسان من وجهٍ فاعلاً لفعله، ومن وجهٍ غايةً لفعله، كما تقدم بيانه.
لكن كما بينا أن هذا السبب فيه لم يحصل به مستقلاًّ، بل بالرب الذي خلقه وأعانه، فكذلك هذه اللذة لم يحصل الفعلُ لأجلها فقط، بل للغاية التي هي الرب الذي هو إلهه.
وكما أنه بدون الرب يمتنع الفعل، فبدون الإله لا يصلح الفعل، بل لا يكون إلا فسادٌ، فإن ما في العبد من القوة والإرادة مُحدَثٌ من جهة الله، كذلك كون لذته العاجلة غاية إنما كان لغاية أخرى من جهة الله، وذلك أنه كما كان المُحدَث عن عدم فلا بد له من مُحدِث، فهذه الغاية منقطعة يتعقبها العدم والزوال، فلا بد له من غاية أخرى باقية
__________
(1) فصوص الحكم (1/ 83).
(2) فصوص الحكم (1/ 194).
(3) بياض في الأصل بقدر كلمة.
(6/158)
دائمة، إذ كل ما يمنع أن تكون الحوادثُ مستغنيةً عن الفاعل يمنع أن تكون المنقطعة مقصودة بالذات، فجَعْلُه نفسه الغاية مثل جَعْلِه نفسه السبب، فكما أنه لا يجوز أن يكون مُعِينُه ومُمِدُّه لحصول قوته وقصده وعمله هو نفسه، بل من توكل على [نفسه] خذل، كذلك لا يجوز أن يكون ما يطلبه ويقصده ويحبه ويعمله هو نفسه، بل مَن عَبدَ نفسه واتبع هواه ضلّ وخسر، وما أكثر ما يتخذ العبد إلهه هواه، فيكون ما يهواه إلهه، وهو يهوى نفسه كثيرًا، فيعبد نفسه. كما يستعين بنفسه إذا أُعجِبَ بها.
وكذلك لو أدخل واسطةً، مثل الذي يستعين بغيره، وهو الذي يُعِين ذلك الغير، وذلك الغير يستعين به، فهو في الحقيقة إنما يستعين بنفسه. وكذلك إذا عمل لذلك الغير، وهو يقصد أن يكون عمل ذلك له، فهو إنما عمل لنفسه.
ونُبيِّن ذلك، فإن هذا لم يتقدم بعدُ الكلامُ فيه، بل قد تكلمنا في بيان الغاية الإلهية بكلام ثم كلام، ولم يتحقق ذلك على الوجه إلى الآن، فنقول في هذا الكلام الثالث:
كما أن الشيء لا يُوجَد من معدوم، فلا يُوجَد لمعدوم، إذ إيجاد الشيء للعدم كوجوده من العدم، فمن قصد الشيءَ لنفيه كان بمنزلة من لم يقصده، ولذا لا يفعل هذا عاقل بل سفيه، لأنه إذا قصد وجوده ليعدمه كان عدمه هو المقصود بالقصد الأول، والعدم (1) لا يصلح أن يكون مقصودًا، كما لا يصلح أن يكون فاعلاً، لأنه لا شيء، وما ليس
__________
(1) في الأصل: “العمل” تحريف.
(6/159)
بشيء لا يكون سببَا فاعليَّا ولا غاليًّا للموجود، فإن الموجود لا تكون أسبابه عدمية، كيف والأسباب الفاعلية والغائية أكمل من المسبب المفعول لغيره. وهذا ظاهر.
وأيضًا فمن كان قصده العدم لم يفعل شيئًا، بل يترك الأمر على ما هو عليه من العدم المستمر، فاما أن يقصد أن يفعل لأن يعدم فهذا إما سفيه جاهل قد تناقض في فعله، وإما مَكَّارٌ مخادع يُظهِرُ قصدَ شيء وغرضُه غيره.
وبالجملة فهذا القصد إما أن لا يكون، وإن ادعَى كونَه كان كاذبًا، كالمخادعين في الحيل المحرمة، وإن كان من الفقهاء من يظن أن القُصُود غير معتبرةٍ في ذلك، فهذا مخالف لما اقتضته الشريعة والفطرة من كون الأعمال لا تكون إلا بالنيات، مع قول الشارع: “إنما الأعمال بالنيات” (1)، وهي من أجمع الكلمات وأجلِّها وأعظمِها قدرًا.
وإما أن يكون هذا القصد من جاهل سفيه يقصد النقيضين ولا يشعر تناقضهما، فتناقض الآدميين في المقاصد والنيات كتناقضهم في الآراء والاعتقادات، كثيرًا ما يريدون النقيضين في وقت أو وقتين.
وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، تبين بذلك دلالة القرآن على هذا المجنى في مثل قوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (2)، وفي قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)) (3)،
__________
(1) أخرجه البخاري (1) ومسلم (1957) من حديث عمر بن الخطاب.
(2) سورة ص: 27.
(3) سورة القيامة: 36.
(6/160)
وقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) (1)، وقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)) (2).
وإن كان قوله: (بِالْحَقِّ) أي بقوله الحق، فهذا إشارة إلى شيء من السبب الفاعل، والآية أعم من هذا، فإن الباء باء السبب، والسبب يتناول الفاعل والغاية، فإن الغاية سبب فاعل للسبب الفاعل، ولهذا يُقال: جئتُ بسبب زيد، وبسبب تخليص هذا المال، وبسبب دفع العدو، ونحو ذلك.
والحق يعمُّ الحق المقصود والحقَّ الموجود، فالحق المقصود هو الغاية، وهو نقيض الباطل الذي في قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:”كل لَهْو يَلْهُو به الرجل فهو باطل، إلا رَمْيَه بقوسه، وملاعبتَه امرأته، وتأديبَه فرسَه، فإنهن من الحق” (3). وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
ويتبين أن النظر والاعتبار قد يُعلَم به المعاد، كما يُعلَم به مبدأُ العباد، كما عُلِمَ بالنظر والاعتبار ابتداء خلق العباد، بل الفطرة تقضي بذلك كما تقضي بالابتداء، وأن الذين أنكروا هذا من متكلمة أهل الإثبات، وقالوا لا نعلم ذلك إلا بالسمع، فذلك كقولهم: لا نعلم
__________
(1) سورة الدخان: 38، 39.
(2) سورة الحجر: 85.
(3) أخرجه أحمد (4/ 144، 148) والدارمي (3415) والترمذي (1637) وابن ماجه (2811) من حديث عقبة بن عامر. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(6/161)
الأحكام إلا بالسمع، وهم في ذلك قصدوا مناقضةَ القدرية الذين أوجبوا المعاد والجزاء بالعقل، كما أثبتوا الأحكام بالعقل.
والفلاسفة أيضا يثبتون شريعة عقلية بآرائهم، كما يثبتون معاذا عقليًّا بآرائهم، إذ الجزاء في المعاد مبنى على حسن الأفعال وقبحها، والأمر بها والنهي عنها، زيادة على ما في ذلك من صلاح الدنيا.
ولهذا أوجب الفلاسفة النبوة لصلاح العباد في الدنيا بقانون العدل المشروع لهم، ثم إنهم مع ذلك عَمُوا- أو من عَمِيَ منهم- عمَّا في الشريعة من مصالح العباد، وإن كانوا يقولون: الشريعة قصدَتْ ذلك أيضا للعامة.
لكن آفتهم من دعوى الاختصاص بما يتسلَّون به في الباطن من أخبار الرسل وأوامرها، فهم في الحقيقة يوجبون اتباع الشرائع على الجمهور، ويدَّعون أنهم أجلّ من ذلك، وهذا لما بَهَرَهم من منفعة الشرائع وحاجة العباد إليها، ثم عَمُوا مع ذلك عن حاجتهم هم بخصوصهم إليها، ووجود منفعتهم بكمالها فيها، فظنوا أنها لا تقوم بجميع مطالبهم وحاجاتهم ومصالحهم من العلم والعمل، فابتدعوا وبدَّلوا وحرَّفوا واعتدَوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، كما لا يصدر الوجود عن العدم، عُلِمَ أنَّ ما يوجد في النفوس من لذات منصرفة لا يجوز أن تكون هي الغاية، كما أن ما فيها من قصد محدث لا يجوز أن يكون هو الخالق، وذلك أنَّ ما وُجِدَ ثم عُدِمَ من غير أن يترتب على وجوده
(6/162)
مقصودٌ آخر كان وجوده ثم عدمه بمنزلة عدم وجوده، إذ قد بينا أن العدم لا يكون مقصودَا، وعِلْمُ القاصدِ بأن هذا يُعدَم بعد وجوده يمنعه أن يكون هو المقصود بالقصد الأول له، لأنه إذا علم أنه سيعدم، علم أنه حالَ عدمِه لا يكون فيه ما يقصده، بل يكون تلك الحال كحاله قبل وجوده، فلا يقصد أن يفعل ما يكون حاله بعد وجوده وعدمه كحاله قبل وجوده، إذ هذا أيضَا عبثٌ وسَفَهٌ، فكما أنه لا يقصد بالوجود العدم، فإذا علم أن الوجود يتعقبه العدم لم يقصده، إذ كان حاله بعد عدمه كحاله بعد وجوده، فإنه يكون قد قصد ما لا يفيد قصدُه فائدةَ، وإنما يقصد ذلك لأنه يحصل بوجوده مقصودٌ يبقى بعد عدمه، فإذا كان المقصود يحصل بعد عدمه أمكن أن يقصد وجوده وإن عدم، ويكون هذا الوجود مقصودَا بالقصد الثاني، والمقصود بالقصد الأول هو ما يبقى بعد العدم.
وهذا أمر بين يجده الإنسان ويعلمه بعقله وفطرته، ولهذا اتفق عقلاء الناس على أن الأمور المنقضية المنصرفة لا تكون هي غايةَ مقصودِ العامل ومنتهى مراده، لأنها إذا كانت منتهى قصده وإرادته كان حاله بعد عدمها كحاله قبل وجودها، وإنما يقصدونها ليستعينوا بها على أمور غيرها.
ثم إن الزهاد منهم يذمون المحبوبات والملذوذات المنصرفة وإن لم تكن نهايةَ المقصود، لما فيها من شَغْلِ النفوس بها عما تحتاج إليه، ومن أَلَمِ التركِ وغير ذلك، لكن الحال حال الكافرين بالمعاد، فإنه إذا لم يكن الموت ما يقصدونه ويرجونه كحال الذين لا يرجون لقاء الله، ويظن أحدهم أن لن يَحُور، فهم يجعلون المنصرفات نهايةَ مقصودهم،
(6/163)
وهؤلاء الذين قال الله فيهم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)) (1)، وقال تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)) (2)، فهذا حال من لم يُحقِّق الإيمانَ بالله واليوم الآخر، فأعرض عن ذكر ربه والعمل لمعاده، كما قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)) (3)، فاتباع هواه هو اتباع متاع الحياة الدنيا.
وقد يُقال هذا معنى الأول والآخر، فالأول ليس قبله شيء، إذ هو خالق كل شيء، والآخر ليس بعده شى، أي إليه يَصير العبادُ وتنتهي الحركاتُ، كما قال: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)) (4)، أي الغاية، لا يراد بذلك أن الأشياء تُعدَم، ويكون هو بعد وجودها، وإنما هو آخرها كما كان أولها، فمنه ابتدأت واليه تعود، كما يقال: ما بعد هذا غاية.
فالآخر قد يُعنَى به في الوجود، وقد يُعنَى به في الغايات المقصودة، فإذا عُنِي به أنت الآخر بعد كل موجود، لم يدل على الغاية، وإذا قيل: أنت الآخر أي الغاية والمنتهى لكل موجود، فليس بعدك ما يوجد ويطلب، كان هذا المعنى أبلغ، مع أن قوله “الآخر” يعمُّ
__________
(1) سورة هود: 15، 16.
(2) سورة النجم: 29، 30.
(3) سورة الكهف: 28.
(4) سورة النجم: 42.
(6/164)
القسمين، كما أن قوله “الأول” ظاهر في كونه موجودًا أولاً، وقد تضمن أنت الأول في المقصود، كما قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وغيرك إنما يُقصد بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، لكن هذا المعنى ليس وحده ظاهر الحديث (1)، لكن يُقال: الحديث أشار إليه مع المعنى الظاهر.
وأما قوله: “وأنت الآخر فليس بعدك شيء”، فظهورُ الآخرية في كونه الغايةَ المقصودةَ أظهرُ من ظهور الأولية في كونه أولاً في القصد والإرادة.
ومما يبين هذا أن الأفعال إنما تتفاضل وتُحمَد وتُذَمُّ ويُؤمَر بها ويُنهَى عنها باعتبار غاياتها وعواقبها المقصودة منها، فما كانت عاقبتُه وغايتُه أكملَ كان أعلى وأفضل عند الشارع.
ولهذا ذكرنا فيما تقدم من القواعد أنه أيُّ العملينِ كان لله أطوعَ ولصاحبه أنفعَ فهو أفضل، فإن منفعته لصاحبه تكون مصلحة وخيرًا، وبامر الشارع به يكون طاعة ودينًا وقُربةً، وهما متلازمان، فالله تعالى إنما أمر العبد بما إذا فعله العبد كان مصلحة له، ونهاه عما إذا فعله كان مضرة له، كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم حاجةً إليه، ولا نهاهم عما نهاهم بخلاً به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادهم.
ولهذا إذا وقع التنازع في كون العمل هو طاعة وقربة أم لا؟ إذ كان
__________
(1) أخرجه مسلم (2713) من حديث أبي هريرة. وفيه لفظ “الأول” “والآخر” ضمن الدعاء المأثور.
(6/165)
المجتهدون قد تنازعوا فيه، فإنه يُستدل على ذلك تارةً بالأدلة السمعية الدالة على كونه طاعةً أو ليس كذلك، وتارةً بالأدلة النظرية، وهو ما ترتب على ذلك العمل من المصلحة والمفسدة، كما قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)) (1)، فأخبر أنه سيُرِي الآيات الأفقية والنفسية التي بيَّن فيها أن القرآن حق، وهو ما فيه من الخبر والأمر والوعد والوعيد. وذلك لما يُحدِثه الله من نصر المؤمنين وجَعْلِ العاقبة لهم وعقوبةِ الكافرين، فجعل سبحانه ما يُشهَد ويُرَى من عواقب الأعمال والكمال مما يتبيَّن به الحقُّ من الباطل.
ثم قال: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53))،وهو شهادته بذلك في كلامه المسموع. فهذه الأدلة السمعية الشرعية، ولهذا قال تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)) (2)، وقال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)) (3)، وكما أنه يُستدَل بالأدلة السمعية والبصرية على الفرق بين المؤمن والكافر، فُيستدَل بها أيضًا على البر والفاجر من المسلمين، وعلى المطيع والعاصي، وعلى المصيب في اجتهاده
__________
(1) سورة فصلت: 53.
(2) سورة ق: 36، 37.
(3) سورة الحج: 46.
(6/166)
والمخطئ، والفاضل والمفضول.
كما يُستدل مع الأدلة السمعية الشرعية على فضيلة أبي بكر وعمر بما أراه الله في الآفاق وفي الأنفس، من صلاح أعمالهما وجميل سيرتهما، وفضل علمهما وقصدهما وعملهما وقدرتهما، فإن ظهور رجحان ذلك على سيرة عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين بَيّن واضح.
وكما يُستدل على [أنّ] القتال في الفتنة الكبرى وغيرها لم يكن في نفس الأمر مصلحة ولا مامورًا به، وإن اجتهد فيه من اجتهد من المغفور لهم، فيُستدل على ذلك مع الأدلة الشرعية، وهو ما ورد من الأحاديث الصحيحة في النهي عن القتال في الفتنة، وأن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خير من المُوضِع (1)، وأنه ليس في الشريعة أمرٌ بذلك، كما فيها أمرٌ بقتال الخوارج … (2) وأن من ظن أن قتال البغاة المأمور به في القرآن يتناولها، فقد وضع النص في غير موضعه، فإن القرآن لم يأمر بالقتال ابتداءً، لكن إذا اقتتلت الطائفتان فإنه أمرَ بالإصلاح، ثم أمرَ عند ذلك بقتال الباغية، فكان البغي في الاقتتال. وعلى ذلك ما وِرد من أن عمّارًا تقتله الفئة الباغية (3)، فأما أن يكون قبل القتال من بَغى يُقاتل ابتداءً فهذا لم يأمر الله به ولا رسوله، بل هذا على إطلاقه خلاف
__________
(1) أخرجه البخاري (3601) ومسلم (2886) من حديث أبي هريرة.
(2) بياض في الأصل بقدر كلمتين.
(3) أخرجه البخاري (447، 2812) ومسلم (2915) من حديث أبي قتادة.
(6/167)
الإجماع.
والفرق بين البغي بلا قتال والبغي في القتال واضح، وعلى هذا فإذا قيل: كان مأمورًا بالقتال بعد البغي فيه أمكن ذلك، ولكن تلك الحالَ عَصَتِ الطائفة العراقية فنَكَلَتْ عن القتال، فحالَ القتالِ لم يكن أمر، وحالَ الأمر لم تكن طاعةُ الأمر، وذلك يُستدل به على حكم الشارع في نحو ذلك، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
والمقصود هنا أن عواقب الأفعال وغايتها تُبيِّن ما كان منها محمودًا وأحمدَ، فمن وُفِّق لذلك في الابتداء فليحمد الله، وإلا فعليه بالتوبة والاستغفار، فإن الله يقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)) (1)، وهذا يستقيم لمن لم يتبع هواه، فقد تقدم بالبرهان العقلي المعلوم من الآيات المرئية في الأنفس والاَفاق ما يوافق ما شهد الله به في كتابه، أن اتباعَ الهوى بغير هدًى من الله ضلال عمّا ينفع العبد، وسُمِّي ضلالاً لأن متبع هواه إنما يقصد لذته بنيل ما يهواه، لكن ينبغي أن يعرف أن لذته ومنفعته ليست في نيل ما يهواه، إلا أن يكون بهُدًى من الله، وهو ما أمر به أو أباحه، دون ما نهى عنه وحظره، فإذا خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى.
والأهواء في الدين والآراء والاعتقادات والأذواق والعبادات أعظم من الأهواء في الدنيا. وأكثر ما ذُكِر في القرآن من ذم اتباع
__________
(1) سورة الزمر: 53.
(6/168)
الأهواء يتعلق بالقسم الأول، وإن كان أيضًا يتناول القسم الثاني، كما قال الله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ … ) (1).
وإذا تبين ذلك عُلِمَ أن الإرادة لا بد أن يكون لها مقصودٌ لذاته، خارج عن اللذة المنقضية، إذ اللذة المنقضية لا يجوز أن تكون مقصودةً لذاتها، كما لا يجوز أن يكون القصد الحادث حادثًا بذاته، كما تقدم من أن ما يُعقِبُه عدمٌ لا يجوز أن يحدث بذاته، ومن المعلوم أن كل مقصود فإما أن يُقصَد لنفسه أو لغيره، وعلى التقديرين يلزم وجود الموجود بنفسه، وذلك أنه إذا قصد المقصود لغيره، فذلك الغير إما أن يكون مقصودًا لنفسه، فثبت المقصود لنفسه، وإما أن يكون مقصودًا لغيره، فإن كان الغير هو الأول لزم الدور، وهو أن يكون هذا مقصوذا لأجل هذا، وهذا مقصودًا لأجل هذا، وقد تقدم بيان استحالة أن يكون كل شيء من الشيئين علة للآخر علة فاعلية أو غائية. وإن كان غير الأول لزم أن يكون لذلك المقصود مقصودٌ، ولذلك المقصود مقصودٌ، ويلزم تسلسل العلل الغائية. ومن المعلوم أن المقصود يتقدم في العلم والقصد، فيلزم أن يجتمع في علم الإنسان وقصده مقصودٌ لا يتناهى في آنٍ واحد.
وأيضا فالمقصود يتعقب الفعل الذي هو السبب التام، ثم المقصود يتعقب الآخر، كما أن السبب التام يتعقبه المسبب، فيلزم
__________
(1) سورة ص: 26.
(6/169)
اجتماعُ معلولاتٍ لا تتناهى في آن واحد، وهذا محال كاستحالة اجتماع علل لا تتناهى.
ثم إن ثبوت هذا فطري، كثبوت الواجب الوجود بنفسه. وإذا كان وجود المقصود لنفسه- وهو المعبود- ضروريًّا (1) في وجود الحركات كلها، إذ جميع الحركات إنما تصدر عن إرادة، فإنها ثلاثة: قَسْرِي، وطبعي، وإرادي. أما القسري فتابعٌ للقاسر، وأما الطبعي فإنما يتحرك إذا خرج عن مركزه، فهو فرع على غيره. وإذا كان كل من الحركتين الطبعية والقسرية تابعًا للغير وفرعًا عليه ومستلزمةً له، فلا بد من الحركة الإرادية، فتكون هي الأصل.
وإذا ثبت أن جميع الحركات صادرة عن الإرادة، وثبت أنه لا بد في الإرادة من مقصود معبود، وتبين أن ما يتعقبه عدمٌ من اللذات الموجودات لا يجوز أن يكون مقصودًا لذاته، ثبت أن المقصود المعبود لذاته يجب أن يكون باقيًا أبديًّا، كما ثبت أن الموجود بنفسه يجب أن يكون قديمًا أزليًّا. كما قال الخليل عليه السلام: (لَاَ أُحِبّ اَلأَفِليِنَ) (2).
ثم إنه كما امتنع أن يكون المخلوق ربًّا خالقًا، يمتنع أن يكون إلهًا معبودًا من جهة كونه لا يستقل بجلب المنافع ودفع المضار، ومن جهة أنه في نفسه يمتنع أن يكون هو الغاية المقصودة لغيره بالأفعال، وذلك لأنه هو في نفسه ليس الغاية المقصودة لفاعله، ولا هو أيضًا الغاية المقصودة لفعله، فإنه يمتنع أن تكون ذاته هي الغاية المقصودة له.
__________
(1) الأصل “ضروري”.
(2) سورة الأنعام: 76.
(6/170)
أما أولاً فلأن ذاته ليست فعلَه ولا نتيجة فعلِه، فيمتنع أن تكون هي الغاية المقصودة بفعله.
وأما ثانيًا فلأنه يمتنع أن يكون الشيء الواحد علةً معلولاً، فاعلاً مفعولاً، وقاصدًا ومقصودَا كما تقدم بيان ذلك.
وإذا امتنع أن تكون ذاته هي العلة الغائية لذاته ولفاعله، امتنع أن تكون هي العلة الغائية لغيره بطريق الأولى، وهو وإن كان قد يفعل للذة التي تحصل فتكون لذاته غاية له، كما يكون قصده سببًا لفعله، فيمتنع أن تكون نفسُ لذته غايةً مقصودةَ لغيره. كما يمتنع أن يكون مجرد قصده قصدًا لغيره، إذ الشهوة واللذة القائمة بالشيء، وهي القصد والغاية، لا تكون بعينها شهوةً لغيره ولذةً له وقصدًا له وغايةً، ولكن يكون له نظيرها، وذلك لا يوجب أن يكون هو المقصود.
ويمكن أيضًا أن يكون في ذاته ما يكون مقصودًا بقصد لأمرٍ آخر، كما هو الموجود في كل المحبوبات من المخلوقات، فإنها تُحَبُّ لأمرٍ آخر لا يصلح أن تكون هي منتهى المراد المقصود، ومن أحب مخلوقًا جعله غايةَ المطلوب المراد، فهذا هو الفساد الذي بينته.
كما أن من جعله هو الرب المحدث، فهذا فساد أيضًا، ولكن كما أنه يكون مُحدَثًا بفاعل غيره خلقه، كذلك يكون مقصودًا لمقصود آخر هو المعبود، كما يحب الأنبياء أو المؤمنون لله، وكما يطاعون لطاعة الله.
وما تحبه النفوس من المطاعم والمشارب والمناكح فإنه مقصود لغيره، وهو صلاح الأجساد، ومثل الذات التي يستعان بها على
(6/171)
المقصود لذاته.
ولهذا كان الإنسان إذا أحسن إلى غيره، فإما أن يقصد به معاوضته، فيكون العوض هو المقصود الأول، وإما أن يقصد به غير ذلك، إما طلب عوض من غير ذلك الشخص، وإما لما في قلبه من الرحمة والرّقة، فيقصد بذلك تسكين قلبه ولذة نفسه بالإحسان إليه، وزوال الألم عن نفسه، كما يقصد ما هو نحو ذلك، وإما أن يقصد به التقرب إلى الله.
والإنسان في لذته مثل ما هو في إرادته وشهوته، فإن هذا سبب، وهذا غاية، لكن تقدم أن اللذات المنصرمة لا يجوز أن تكون هي المقصود لذاته، فكل ما يقصده الإنسان بالإحسان إلى غيره هو أمر منصرمٌ إلا إرادة وجه الله، فإن لم يقصد ذلك أو يقصد ما يستعين به على ذلك حتى يكون مقصودًا لذلك، كان من الأعمال الباطلة الفاسدة، كما تقدم.
ومما يبين أن المخلوق لا يكون مقصودا بالقصد الأول لذاته لا لنفسه ولا لغيره ولا لفاعله، كما لا يكون فاعلاً مستقلاًّ لا لنفسه ولا لغيره ولا لمعبوده الذي هو مقصوده= أن نفسه أقرب إلى نفسه من غيره إلى نفسه، فلو كان يستحق أن يكون محبوبًا لذاته مرادًا لذاته لكانت ذاتُه أحقَّ بأن تكون هي المحبة المريدة له، لأنها أقرب وأعلم، فلما تبرهنَ امتناعُ ذلك فيه كان في غيره أعظمَ امتناعًا.
وقد تبين لنا أيضًا أنه كما أن الحادث المنصرم لا يجوز أن يكون
(6/172)
مطلوبًا لذاته، فالحادث مطلقًا لا يجوز أن يكون هو العلة الغائية، وإن كان يحدث ما يتعلق بها مما هو مقصود الفاعل، بل العلة الغائية يجب أن تكون متقدمة، وإن كان ما يقصد بالفعل لها يكون بعد الفعل، لكن لا بد من مقصود مراد متقدم بالذات على الفعل، وذلك لأن العلة الغائية هي علة ماهيتها وحقيقتها لفاعلية العلة الفاعلية، فإنما صار الفعل فاعلاً لأجلها، والعلة يجب تقديمها على المفعول.
فإن قيل: الفاعل فعلها ويتصورها، فهي متقدمة في ذلك على الفعل، وإن كانت في الوجود تتأخر عن الفعل.
قيل: هذا يكون في المقصود من الغاية لا في ذاتها، وهذا كما أن الإنسان يحب المحبوب مثلاً، فيقصد الاتصال به، كما يحب المرأة فيريد مباشرتها، فالذات المحبوبة هي الغاية متقدمة على الفعل، وأما المقصود منها كلذة المباشرة فهي تتأخر عن الفعل، وليس إذا كانت اللذة الحادثة للفاعل حادثةً بعد فعله يجب أن تكون نفس الغاية حادثة، كما أن فعل العلة الفاعلية إذا كان حادثًا لم يجب أن تكون هي حادثة.
يُبيِّن هذا أن العلة الغائية إذا كانت سابقة في العلم والتصوير والقصد والإرادة، فلا بد أن يكون لها حقيقة يجب أن تراد لأجلها، إذ العدم المحض لا يتصور هذا فيه، ولا يجوز أن يكون إنما صارت مطلوبة لإرادة الفاعل، لأن هذا يستلزم الدور، فإنه إنما أرادها لأنها تستحق أن تُراد، فعُلِم أنه لا بد من ثبوت حقيقة موجودة قبل الفعل تكون هي التي يُفعَل الفعلُ لأجلها، وتكون مرادة لذاتها، واللذة تحصل عقيب الفعل.
(6/173)
فقد تبين أن مَن عبدَ المخلوقات عبادةَ العبد لربه الذي يسأله ويرغب إليه في تحصيل ماَربه، أو عبادتَه لإلهه الذي هو مع ذلك يعبده لذاته ويحبه لذاته، كان ذلك موجبًا لفساده. والمعبود إذا رضي أيضًا بذلك لزم أيضًا فساده، بمنزلة من جعل المعدوم مقصودًا لذاته، فإن الحركة الإرادية تطلب مرادًا يكون به صلاح المريد ونفعه، فإذا لم يكن فيه لزم الفساد، وإن وجد في ذلك لذة فإنه يَستعقبه ألمًا وضررًا، بمنزلة من أكل ما يظنه عسلاً وكان فيه حلاوة، وكان سمًّا، فإنه يهلكه ويقتله.
فقد تبين بالقياس العقلي امتناعُ أن يكون معبودٌ إلا الله، كما امتنع أن يكون رب إلا الله، وهذا قصد بقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (1) قصد نفي إله سواه. ولهذا قيل: (لَفَسَدَتَا) وهذا يتضمنُ نَفْيَ رب غيره.
والمتكلمون قَصَّروا في معنى الآية من وجهين:
أحدهما: من جهة ظنهم أنه إنما معناها نفي تعدُّدِ الأرباب فقط، كما أقاموا هم الدليل على ذلك.
والثاني: ظنهم أن دليل ذلك هو ما ذكروه من التمانع، وليس كذلك، فإن التمانع يوجب عدم الفعل، والتقدير أن الفعل قد وُجد، ثم الاشتراك في الفعل يوجب العجز فيهما، والقرآن إنما أَخبر بفسادهما، لم يخبر بعدمهما، والفساد يكون عن الإرادات الفاسدة،
__________
(1) سورة الأنبياء: 22.
(6/174)
وهو ضد الصلاح الذي يكون عن الإرادات الصالحة، والله قد أمر بالصلاح ونهى عن الفساد في غير آية.
قال الله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)) (1)، وقالت الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (2)، وقال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (3)، وقال: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)) (4)، وقال: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) (5)،وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (6)، وقال (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)) (7)، وقال: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)) (8).
__________
(1) سورة البقرة: 205.
(2) سورة البقرة: 30.
(3) سورة المائدة: 32.
(4) سورة القصص: 4.
(5) سورة الإسراء: 4.
(6) سورة البقرة: 11، 12.
(7) سورة البقرة: 27.
(8) سورة القصص: 77.
(6/175)
فسبب الفساد هو معصية الله، كما أن سبب الصلاح هو طاعة الله، ورأس الفساد والمعصية هو أن تعبد غير الله، وذلك هو الفساد الناشئ من أن يكون فيهما آلهة إلا الله، فإنه كما تكون حركات المتحركين صادرة عن الارادة والمحبة صارت بالقصد الأول لعبادة تلك الأمور التي لا تصلح لأن تكون هي المقصودة، بمنزلة من لا يتقوَّتُ إلا بالزجاج، ولا يشرب إلا الماء الزُّعَاق، أو لا يدفع البردَ في الأرض الباردة إلا بالثياب الرقاق، أو لا يدفع عدوَّه عنة من القتال إلا بالأيدي، ونحو ذلك من الأفعال التي يُقصَد بها جلب منفعة يحتاج إليها، ودفع مضرة لا تكون محصلة لذلك، فهذا يوجب الفساد. وقصد غير الله بالعبادة يتضمن هذا كلَّه وأضعافَه، ولهذا قيل: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)) (1).
فصل
وإذا كان قد تبين أن الفعل الواحد [لا] يكون من فاعلين مستقلينِ، ولا يكون مقدور واحد من قادرينِ على ذلك المقدور حالَ الاشتراك، فكذلك الفعل الواحد والقصد الواحد لا يكون لمقصودينِ مستقلين، بل كما تبين أن الحكم الواحد بالعين لا يكون لعلتين مستقلتين، فسواء في ذلك العلة الفاعلية والعلة الغائية، فمتى قصد بالفعل اثنين لم يكن الفعل لا لهذا ولا لهذا.
وهذا هو الإشراك الذي تبرأ الله منه، كما في الحديث
__________
(1) سورة لقمان: 13.
(6/176)
الصحيح (1) عن أبي هريرة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “يقول الله تعالى: أنا أغنَى الشركاءِ عن الشرك، من عَمِلَ عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك ” أي أشركه، فإنه سبحانه لا شريك له، فكما لا يجوز أن يكون معه شريك في فعله لا يصلح أن يجعل له شريك في قصده وعبادته، قال الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)) (2)، وقال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) (3)، وهذا كثير في القرآن، بل هو المقصود الأعظم بتنزيل القرآن.
والمقصود هنا أن الفعل الواحد كما لا يتصور أن يكون من اثنين لا يتصور أن يكون لاثنين، فمن عمل لله ولغيره فما عبدَ الله ولا عَمِلَ له عملاً، كما أن ما تعاون عليه اثنان فما فعله أحدهما، ولا هو ربه، فكما أنه لو قُدّر أن معه شريكًا في الفعل لم يكن هو رب ذلك المفعول ومليكه، فكذلك إذا جُعِلَ له شريك في القصد والعمل، لم يكن هو إله ذلك العابد ولا معبوده، فلا يتقبل ذلك العمل، وإنما يتقبل ما كان خالصًا لوجهه.
يُوضِّح هذا أنه هو الرب المليك الخالق، فلو قُدِّر في الذهن أن معه شريكًا في الفعل امتنع أن يكون هو ربه ومليكه وخالقه، واذا امتنع
__________
(1) مسلم (2985).
(2) سورة سبأ: 22.
(3) سورة الزمر: 29.
(6/177)
ذلك بطل وجود الفعل، لأنه قد علم أن غيره لم يفعل شيئًا، فإذا كان على هذا التقدير هو أيضًا ليس برب فاعل لم يكن للفعل وجود، كذلك إذا كان هو الإله المعبود المقصود، فإذا جعل معه من يشرك به، وعبادة ذلك فاسدة باطلة، لم يَصِرْ هو معبودًا بذلك العمل، وما عمل لذلك الغير باطل فاسد، فلا يكون الفعل عبادةً ولا عملاً صالحًا، فلا يتقبل. ولا يمكن أن يقال: لِمَ لا أخذَ نصيبه منه؟ لأنه مع تقدير الاشراك يمتنع أن يكون له منه شيء، كما أنه بتقدير الإشراك في الربوبية يمتنع أن يصدر عنه شيء، فإن الغير لا وجود له، وهو لم يستقلَّ بالفعل، كذلك هنا هو لم يستقل بالقصد، والغير لا ينفع قصده. ولهذا نظائر كثيرة في الشرعيات والحسيّات إذا خُلِط بالنافع الضارُّ أفسده، كما يُخلَط الماء بالخمر، بخلاف الشركة الصحيحة، كاشتراك الناس فيما يصلح اشتراكهم فيه، فإن هذا لا يضر.
يُبيِّن هذا أنه لو سأل الله شيئًا فقال: اللهم افعلْ كذا أنتَ وغيرُك، أو دعا الله وغيرَه فقال: افعلا كذا= لكان هذا طلبًا ممتنعًا (1)، فإن غيره لا يشركه، وهو على هذا التقدير لا يكون فاعلاً له، لأن تقدير وجود الشريك يمنع أن يكون هو أيضًا فاعلاً، فإذا كان يمتنع هذا في الدعاء والسؤال، فكذلك يمتنع في العبادة والعمل أن يكون له ولغيره. وقد مرَّ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بسَعْدٍ وهو يدعو ويشير بإصبعين، فقال: “أَحِّدْ أَحِّدْ” (2).
__________
(1) في الأصل: “طلب ممتنع”.
(2) أخرجه أبو داود (1499) والنسائي (3/ 38) من حديث سعد بن أبي وقاص. وإسناده صحيح. وأخرجه الترمذي (3552) والنسائي (3/ 38) من=
(6/178)
ولهذا سنَّ الإشارة بالسبَّاحة في الدعاء.
وكذلك إذا كان قد تبيَّن أن الشيئين لا يكون كل منهما للَاخر علة فاعلية، فكذلك ألا يكون، كل منهما للَاخر علة غائية، كما تقدم بيانه. وكذلك الشيء الواحد لا يكون علةً لنفسه، ولا معلولاً لنفسه، فلا يكون لنفسه علة فاعلية ولا علة غائية، فإن الأول يقتضي تقدمه على نفسه وتأخره عن نفسه، فيلزم أن يكون موجودًا معدومًا إذا قُدّر فاعلاً، وإذا قُدِّر مفعولاً، فيلزم اجتماع النقيضين مرتين. والعلة الغائية يجب تأخرها عن المعلول، فإذا كانت نفسه هي معلول نفسه لزم تاخرها وتقدمها، فيلزم أن يكون متأخرًا عن وجود نفسه ومتقدمًا على وجود نفسه، فيلزم أيضًا اجتماع النقيضين مرتين.
وأيضًا فالعلة الغائية متقدمة في التصور والقصد، فيلزم أن يكون تصور الفاعل وقصده له قبل ما يكون متصوَّرًا مقصودًا له، ويكون تصوره وقصده له بعد تصوره وقصده، لأنه يتصور أولاً ويقصد الغاية، ثم يتصور المفعول ويقصده، فإذا كان هو المفعول وهو الغاية، فيلزم اجتماع النقيضين أيضًا في التصور والقصد مرتين، وقد تقدم هذا.
وإنما المقصود هنا شيء آخر، وهو أنه كما يمتنع أن يكون الشيء علة لنفسه معلولاً له، أو أن يكون الشيئان كذلك، فيمتنع أيضًا أن يكون جزء علة أو شرط علة، فإن جزء العلة وشرطها يجب أيضًا أن يتقدم المعلول، كما يجب تقدم ذات العلة، فيلزم ما تقدم من الدور
__________
=طريق أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
(6/179)
الممتنع، لكن لا يمتنع أن يكون كلّ منهما شرطًا للآخر، وتكون العلة أمرًا غيرهما، فيجوز أن يكون وجود أحد الشيئين مشروطًا بالآخر، وهو الدور المعي. ولا يجوز أن يكون شرطًا في علته لا الفاعلة ولا الغائية، وهو الدور القبلي.
فالفاعلان المتعاونان يجوز أن يكون فعل [كل] واحد لما يفعله مشروطًا بالآخر، بحيث يكون لا يحصل إلا باجتماع الفعلين، كالأمور التي يعجز عنها الواحد في الاَدميين، وإنما يقدر عليها عدد، ولكن لا يجوز أن يكون أحد المتعاونين مستفيدًا لا يحتاج فيه إليه من الآخر المحتاج إلى مشاركته، فإذا كان كل منهما محتاجًا إلى معاونة الآخر لم يجز أن يكون الآخر هو الفاعل لما يحتاج إليه، لاستلزامه أن يكون كل منهما معلولاً لذلك، فإنه إذا قدر أن أحدهما محتاج إلى شيء من المعونة، وأنه يستعين بالآخر على حصولها، فلو كان ذلك الآخر يستفيدها من الأول لم يكن هو قادرًا عليها، فلا يعين، ولكان الأول قادرًا عليها فلا يحتاج إليها، ولا يدخل في هذا ما يُعِين به أحدهما الآخر من الأسباب، مثل الاَلات ونحوها، فذاك ليس من هذا.
وكذلك ما يحصل لأحدهما معاونة الآخر من القوة، فتلك القوة تأثير الاجتماع والتعاون، ليس أحدهما مستقلاّ بها، ولكن هو من الفعل المشترك، لكل منهما، أو في بعضه.
وكذلك كما لا يصلح أن يكون كل منهما الغاية المقصودة، فلا يكون بعض الغاية المقصودة، لما تقدم في ذلك من الدور الممتنع أربع مرات.
(6/180)
وإذا قدر فاعلان متعاوضان أو متعاونان كل منهما يفعل ما يحبه الآخر ويرضاه، فلا بد أن يكون مقصود كل منهما غاية غير محبة الآخر ورضاه، فإنه إذا كان نهاية مقصود كل منهما غاية محبة الآخر ورضاه ولذته ونحو ذلك، لزم أن تكون هذه علة مقصودة لهذه ومعلولة لها، وهذه مقصودة لهذه ومعلولة لها، ويمتنع كون كل من الشيئين معلولاً للاَخر، ولو كان كذلك لزم أن لا تحصل واحدة من المحبتين واللذتين، وإنما يكون كل منهما مع قصده ومحبته الآخر ولذته له هو مقصود آخر، هو منتهى قصده، يكون هو محبوبه وفيه لذته، كالزوجين المتناكحين.
وإن فُرِض أن كلاًّ منهما يقصد إنالتَه الآخر لذَّتَه، فهو لا يقصد ذلك إلا لعوض، إما أن يقصد بذلك الأجر، أو أن يقصد نيل لذته بهذا الطريق، فيجعل ما ينيلُه لذاك من اللذة وسيلةً إلى ما يناله هو، كما هو الواقع في جميع المعاوضات والمشاركات التي بُني عليها صلاحُ العالم، فإن أحد المتعاوضين والمتشاركينِ مقصوده بالقصد الأول ما يحصل له هو من المحبوب المطلوب الذي يلتذ هو بوجوده، ولكن يقصد ما هو للآخر كذلك من باب الوسيلة والطريق، وبهذا يتعاوضان ويتشاركان، وكل منهما محتاج إلى الآخر لا حاجةَ العلل إلى المعلول، لكن حاجة الشروط إلى المشروطات، والعلة الفاعلة والغائية لكل منهما غير الآخر. فهذا له قوة وشعور وقصد وله مقصود، وهذا له قوة وشعور وقصد وله مقصود، وليس ما لهذا من هذين مستفادًا من هذا، ولا بالعكس، ولكن لا يحصل مقصود كل منهما إلا باجتماع هذين القصدين والعملين.
(6/181)
واعلم أنه كما يُعقَل امتناع الدور في العلل الفاعلة التي هي الأسباب، والغائية التي هي الحكم والمقاصد، من اثنين، فكذلك يُعقَل امتناع الدور فيهما من واحد، وذلك أن الفاعل الواحد قد يفعل. الشيء بسبب آخر، كما يخلق الله سبحانه النبات بالمطر، والمطر بالسحاب، وكما يخلق الولد بالوالدين، وكما يخلق سبحانه الشيء لحكمة وهي عامة مقصودة … (1) فيمتنع أن يكون كل من الشيئين سببًا للآخر، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين حكمةً وغايةً للآخر. ولا يمتنع أن يكونا جميعًا عن سبب واحد غيرهما، ولا أن يكونا جميعًا لحكمة واحدة غيرهما، ولا أن يكون أحدهما شرطًا للآخر بحيث لا يكون هذا السبب إلا مع ذلك السبب لا به، وأن تكون هذه الحكمة والغاية مع تلك لا لأجلها.
فليتدبر اللبيب هذه الحقائق، ينتفع بها في معرفة أن الله هو إله كل شيء، وأن جميع المخلوقات غايته له، مُسبِّحةٌ بحمده، قانتةٌ له، وأن الحركات الموجودة في العلو والسفل إنما أصلها عبادة الله وقصده. كما دلّ القرآن على ذلك في غير موضع، وهذا شيء آخر غير كونها مربوبة له ومقدورة ومقهورة، وغير ذلك من معاني ربوبيته وقدرته التي هي منتهى نظر أكثر المتكلمين والمتفلسفة، حتى يظنوا أن هذا هو تسبيحها، وأن دلالتها على وجود الرب وقدرته هو تسبيحها بلسان الحال فقط، وإن كان ما أثبتوه حقاً، فليس الأمر كما زعموه، بل على ما أخبرت به الرسل ودلت عليه، كما نطقت به الكتب الإلهية، ودلت
__________
(1) بياض في الأصل بقدر كلمة.
(6/182)
عليه البراهين العقلية، كالأمثال المضروبة التي بيَّنها الله تعالى في كتابه، وعرف ذلك أهل العلم والإيمان الذين قال الله فيهم: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) (1)، وقال: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) (2)، وقال: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)) (3).
فإن قيل: فقد ذكرتم أن الموجودينِ كما لا يكون أحدهما فاعلاً للاَخر ولا سببا له، فلا يكون كل منهما معلولاً للآخر ومقصودًا له هو منتهى إرادته، ولا يكون كل منهما هو المقصود بالآخر من فاعل واحد، وأنتم تعلمون أن التحابَّ من الجانبين موجود في نفوس الحيوان، كما أن الزوجين الذكر والأنثى من الناس والبهائم يحب كل واحد منهما الاخر، كما قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (4)، بل كل من الزوجين قد يكون الآخر محبوبًا له معشوقًا لذاته، وهو غاية مقصودة، لا يحبه ويقصده لشيء آخر غير نفسه والاتصال به، ويوجد مثل ذلك في أنواع التحاب والتعاشق الذي هو محرم ومكروه في العقل والدين، إذ المقصود هنا ذكر الواقع.
قيل: المحب والعاشق لزوجه لا يجوز أن يحبه ويعشقه لذاته
__________
(1) سورة سبأ: 6.
(2) سورة الرعد: 19.
(3) سورة العنكبوت: 43.
(4) سورة الروم: 21.
(6/183)
ونفسه، فإن الله إنما جعل المودة بين الزوجين لتتم مصلحتهما من المعاشرة والمناكحة، فيحصل لكل واحد منهما من اللذة ما هو موجود في نفسه، وما يمكن تحصيله من غير هذا المحل، كما يحصل للَاكل مطلوبه في الطعام المعين والشراب المعين، فإرادته إنما هو لما يحصل في نفسه من اللذة، سواء حصل بهذا المعين أو بغيره.
ثم هذه اللذة لا ريب أن الحيوان يقصدها لوجود اللذة، لأن كل ما يتنعم به الحي يقصد وجود اللذة به، إذ اللذة غاية مطلوب الحي، ومن حكمة هذا … (1) أراها الله سبحانه بخلق هذا وجود التناسل الذي به يدوم نسل الحيوان، كما أن من حكمة الأكل أن يستخلف بدن الحيوان بدل ما تحلل منه، إذ كانت الحرارة تحلل الرطوبة دائماً، فإن لم يحدث بدل المتحلل وإلا فسد بدن الحيوان، فهذه الحكمة موجودة في الدنيا.
ومن هنا جهل من جهل من الكفار والمنافقين من المتفلسفة الصابئة، ومن اليهود والنصارى، الذين أنكروا وجود الأكل والشرب والنكاح في الجنة، مع أن اليهود والنصارى يثبتون معاد الأبدان، وأما أولئك المتفلسفة فإنهم منافقون لأهل المللَ مع دعواهم التحقيق، يقولون: إن الذي أخبرت به الرسل من أنواع هذا النعيم إنما هو أمثال مضروبة لتفهيم المعاد الروحاني، وهذه من شبههم، وهو أن الأكل والشرب والنكاح علتها الغائية وجود النسل وثبات الأبدان، وهذا
__________
(1) بياض في الأصل بقدر كلمة.
(6/184)
مفقود في الأخرة، وهذا جهل منهم، وهم يقولون: إن هذه اللذات البدنية ليست لذَّات حقيقية، وإنما هي مجرد دفع آلام، فإن الاكل يدفع ألم الجوع، والنكاح يدفع ألم الشبق، ولا ريب أن هذه مكابرة لما هو من أظهر الحسيات الذوقيات الموجودات، فإن إحساس الحيوان باللذة من أعظم الإحساس، وإحساسه لذة الأكل والنكاح أمر هو أظهر عند الحيوان من أكثر الأشياء، فقول المتحذلق: إن هذه ليست لذة وإنما هي دفع اَلام، كلام فاسد، فإنه لا ريب أن هنا لذة، وهنا فقد ألم، فالأمران موجودان.
وإن قال: لولا ذاك الألم لم تحصل هذه اللذة.
فإن أراد أن الموجود في الدنيا كذلك، فهذا صحيح، لكن كون هذه اللذة في الدنيا إنما توجد بعد ألم، لا يمنع وجودها في دار الحيوان التي لا ألم فيها بلا ألم، فإن الألم سبب هذه اللذة في الدنيا، وكمال البدن والنسل هو العلة الغائية لهذه اللذة، ولكن كونها في الدنيا لا تُوجَد إلا بسبب قبلها هو الألم، وحكمة بعدها هي النسل وثبات الجسد، لا يمنع أن يوجد في الآخرة بدون هذا السبب ودون هذه الحكمة، كما أن كل موجودات الدار الآخرة ومن يوجد فيها بدون ما اقترن بها في الدنيا من أسبابها وغاياتها، وعدم وجود الشيء شيء، والعلم بامتناعه شيء آخر، ولا ريب أن الموعود به في الجنة ليست حقائقه وغاياته وأسبابه مماثلاً لما هو في الدنيا، كما قال ابن عباس: “ليس في الدنيا شيء مما في الآخرة إلا الأسماء” (1). وإنما أخبرنا منها
__________
(1) أخرجه هناد في الزهد (3، 8) وغيره.
(6/185)
بما له في الدنيا ما يشبهه من بعض الوجوه، ثم قيل: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (1). وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:”يقول الله: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشر”. (2)
ولهذا أخبر الله بوجود هذا النعيم واللذات في الجنة مع نفيه لما يقترن به في الدنيا من سبب وغاية، كما نفى عن الأشربة واللباس وغير ذلك آفاته، إذ هي دار نعيم لا آفة فيها بحال، فالتحاب بين الزوجين ونحوهما في الدنيا وإن أعقب لذةً مطلوبةً لنفسها، فليس أحدهما محبا للآخر لذاته، بل لقضاء الوطر منه، كما تقدم، وهو نوع من المعاوضة كالتعاوض بالأموال، ولهذا كان عقد النكاح يوجب المعاوضة من الطرفين، كما قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (3)
فإن قيل: فالعشق الموجود، وهو محبة المعشوق لنفسه، وكما قد يتحابُّ الشخصان لذواتهما لا لأجل نكاح وتناسل، فيحبُّ كلّ منهما الآخر لنفسه.
قيل: هذا قصد فاسد، وحبّ فاسد، وإرادةٌ فاسدة، فإن كل من أحب مخلوقًا لنفسه لا لأمر آخر وراء ذلك، فحبه فاسد، وقصده
__________
(1) سورة السجدة: 17.
(2) أخرجه البخاري (3244) ومسلم (2824) من حديث أبي هريرة.
(3) سورة البقرة: 228.
(6/186)
فاسد، ونحن إنما ذكرنا امتناع الدور الغائي لبيان فساد هذا ونحوه، وامتناع أن يكون لله ندٌّ يُحَبُّ كحبّ الله الذي تجب محبته لذاته، ونحن إذا قلنا: إن الدور في العلل الغائية ممتنع، كان المراد به أنه يمتنع أن يكون كل منهما مرادَاً مطلوبًا للاَخر محبوبَا للآخر بإرادة صحيحة، وقصد صحيح، ومحبة صحيحة، فأما الفاسد من الإرادة فهو نظير من يعتقد جواز كون كل من الشيئين علة للآخر، وقد منعنا أن يكون علة في نفس الأمر أو فاعلاً له في نفس الأمر، وإن كان من الناس من يعتقد أنه فاعل له ورب له، لكن هذا اعتقاد فاسد، فكذلك من ظن في شيء غيرِ الله أنه مقصود لنفسه، معبود لنفسه، محبوب لنفسه، حتى أحبَّه وعبدَه وعَشِقَه، فهذا أيضًا جاهلٌ في ذلك ضال فيه، كما أن الأول جاهل في ظنه أن غير الله رب. ولهذا لما تكلم الناس في العشق [هل] هو لفساد الإدراك، وهو تخيُّل المعشوق على خلاف ما هو به، أو لفسادٍ في الإرادة، وهو المحبة المفرطة الزائدة على الحق= كان الصواب أن العشق يتناول النوعين، وهو فساد في الإدراك والتصور، وفساد في الإرادة والقصد، ولهذا كان سُكْرًا وجنونًا ونحو ذلك مما يتضمن فساد الإدراك والإرادة، حتى قيل (1):
قالوا جُنِنتَ بمن تَهوى فقلتُ لهم … العشقُ أعظمُ مما بالمجانينِ
ولهذا سماه الله مرضًا في قوله: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (2)، ولهذا إنما يوجد كثيرًا في أهل الشرك الذين ليس في قلوبهم ما تسكن
__________
(1) البيت لمجنون ليلى في ديوانه (ص 281) والأغاني (2/ 36) وغيرهما.
(2) سورة الأحزاب: 32.
(6/187)
إليه من إخلاص العبادة لله والطمأنينة بذكره، كما ذكر الله ذلك في كتابه عن امرأة العزيز والنسوة اللاتي كن مشركات، وأخبر عن نوع هؤلاء بالسكر والجهل كما في قوله تعالى: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (1).
وبهذا الفرقان يتبين أن القول الحق أنه لا إله إلا الله، مع كون المخلوقات فيها ما اتخذ آلهة من دون الله، فإن الإله يجب أن يكون معبودًا، وهو المعبود لذاته الذي يُحَبُّ غاية الحب بغاية الذل، وهذا لا يصلح إلا لله، ومن عبدَ غيرَه واتخذه إلهًا فهو لفساد عمله وقصده، حيثما اتخذ إلهًا فأحبه لذاته، وبذل له غاية الحب بغاية الذل لجهله وضلاله، ولهذا سموا جاهلية إذ كان أصل قصدهم جهلاً لا علمًا.
وكون الشيء مقصودًا ومحبوبًا ومعبودًا ولذيذًا ونحو ذلك لا يثبت له في الحقيقة بحال من فسد إدراكه كالمطعومات، فإنه إذا قيل في الحلاوة واللحم ونحو ذلك: إنه طيب ولذيذ ومحبوب ونافع ونحو ذلك، كان ذلك حقاً، لأن الأبدان الصحيحة تجده كذلك، ولا يندفع ذلك ببغض المريض ووَجْدِه إياه مُرًّا لما خالطه من المِرَّة الصفراء.
وكذلك من تلذذ بأكل الطين وغيره من الخبائث لفساد مزاجه، لم يمنع ذلك أن يقال: هذا غير طيب ولا لذيذ ولا مطلوب ولا مراد ولا محبوب، ولأجل هذا إنما حُمد من ذلك ما كان لله.
وجاء في الأحاديث من مدح المتحابين لله والتحابِّ في الله ما هو
__________
(1) سورة الحجر: 72.
(6/188)
كثير مشهور، كقول رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فيما يَروي عن ربه تعالى: “حُقَّتْ محبتي للمتحابّين فيَّ، وحُقَّتْ محبتي للمتزاورين فيَّ، وحُقَّتْ محبتي للمتجالسين فيَّ، وحُقَّتْ محبتي للمتباذلين فيَّ ” (1).
وكقوله: “إن لله عبادا ليسوا بأنبياءَ ولا شهداء، يَغْبطُهم الأنبياء والشهداء بقربهم من الله “، فقيل: من هم يا رسول الله؟ صِفهم لنا، جَلِّهم لنا، لعلنا نحبهم! قال: “هم قوم تحابُّوا بروح الله على غير أموال تباذلوها ولا أرحامِ تواصلوها، هم نور، ووجوههم نور، على كَراسِيَّ من نور، لا يحزنوَن إذا حزن الناس، ولا يخافون إذا خاف الناس “، ثم قرأ قوله: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) (2).
وكقوله في صحيح مسلم (3) فيما رواه أبو هريرة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن عبدًا زار أخًا له في الله، فأرصدَ الله على مَدْرجتِه ملكًا، قال: أين تريد؟ قال: أزور أخًا لي في الله، قال: هل لك عنده من نعمةٍ تَرُبُّها؟ قال: لا، قال: فهل بينك وبينه رَحِم؟ قال: لا، ولكني أحبه في الله، فقال: إني رسول الله إليك أن الله قد أحبَّك”.
وفي الترمذي (4) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “من أحبَّ لله، وأبغضَ لله،
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (5/ 229) من حديث عبادة بن الصامت، وصححه الحاكم في المستدرك (4/ 170) ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه أبو داود (3527) من حديث عمر. والآية من سورة يونس: 62.
(3) برقم (2567).
(4) برقم (2521) من حديث معاذ الجهني. وقال الترمذي: هذا حديث منكر. وأخرجه أبو داود (4681) من حديث أبي أمامة. قال المنذري في مختصر =
(6/189)
وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان “.
وفي الحديث في الترمذي (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “أوثقُ عُرَى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله “.
وفي الصحيحين (2) عن أنس عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلْقَى في النار”.
فإن هذه المحبة أصلها محبة الله، والمحبوب لغيره ليس محبوبا لذاته، وإنما هو محبوب لذلك الغير، فمن أحب شيئا لله فإنما أحب الله، وحبه لذلك الشيء تبعٌ لحبه لله، لا أنه محبوب لذاته.
لكن قد يظن كثير من الناس في أشياء مما يهواها أنه يحبها لله، وإنما يكون محبا لما يهواه، ولهذا كان أعظم ما تجب محبته من المخلوقات هو الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث المتفق عليه (3) عن أنس: “والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من
__________
= السنن (7/ 51): في إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الشامي. وقد تكلم فيه غير واحد. وصححه الألباني في الصحيحة (380) لطرقه.
(1) لم أجده في سننه، وقد أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 220) والأوسط (4476) والصغير (624) من حديث ابن مسعود. وصححه الألباني في الصحيحة (1728) لطرقه.
(2) البخاري (16) ومسلم (43).
(3) البخاري (15) ومسلم (44).
(6/190)
ولدِه ووالدِه والناسِ أجمعين “.
وفي صحيح البخاري (1) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: يا رسول الله! فلأنتَ أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: “لا يا عمر، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك “، فقال: فلأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، قال: “الآن يا عمر”.
ومحبتُه رضي الله عنه إنما هي تابعة لمحبة الله، كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) (2).
وأما محبة الله فهي الأصل، فإنه يجب أن يُحَبَّ لذاته، وليس هذا لغيره، وهي أصل التوحيد العملي، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (3)، وقال: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) (4).
ونحن بيَّنَّا بما ذكرناه من البرهان امتناع الدور، وأنه لا يجوز أن يكون كل من الشيئين سببًا للآخر وعلة له ولا حكمة له ومعلولاً له،
__________
(1) برقم (6632).
(2) سورة التوبة: 24.
(3) سورة البقرة: 165.
(4) سورة المائدة: 54.
(6/191)
سواء كان هذا من فاعلين أو من فاعل واحد.
فأما كون بعض بني آدم قد يجعلون ما ليس سببًا سببًا، وما ليس مقصودًا مقصودًا، فهذا هو الشرك الذي ضلّ به بنو آدم من الأولين والاَخرين، حيث جعلوا بعض المخلوقات علةً تامةً لبعض، إما فاعلاً ربًّا، وإما إلهًا معبودًا. وهذا هو الباطل، أعني هذا باطل في نفسه، والجاعلون لذلك مفسدون في اعتقادهم وإرادتهم، فإن من قصد وأراد بالقصد التام ما لا يصلح أن يُقصَد ويُراد فإن عمله فاسد، كمن أحبَّ الأشياء التي تضره وتفسده دون الأشياء التي تصلحه وتنفعه، فإنه وإن أحبَّها وقصدَها وعَمِلَ لها فهذا هو الفساد. وإذا ضُرِبَ مَثَلُ ذلك بمُحِبِّ العسل المسموم وآكله، كان في هذا المثل بعض الشبه، وإلا فالأمر فوق ذلك. ولو قيل: هو مثل محبة الفراشِ للنار التي تحرقه، كان الأمر فوق ذلك.
ونحن في هذا الموضع إنما أصل كلامنا في الدور، وهو أنه يمتنع أن يكون كلّ من الشيئين سببًا للآخر أو مقصودًا له، ولا يمتنع أن يكون الشيئان متعاونين على مقصودهما، فيكونان مشتركين فيما هو سبب لهما وفيما هو مقصود لهما، ثم أحدهما يقصد الآخر لذلك، كمحبة الشيء لغيره، كما أن أحدهما يعين الآخر، فهذا تعاون وتشارك في المحبوب وفي سببه.
وبهذا البرهان يتبين أنه لا بد في الوجود من إله يجب أن يكون هو منتهى قصد القاصدين، وعبادة العابدين، وإرادة المريدين، ومحبة المحبين، كما أنه منتهى سؤال السائلين، وطلب الطالبين، لأنه الخالق
(6/192)
القديم الواجب بنفسه، الذي هو فاعل للممكنات والمحدثات وربُّها وخالقها. إذ الوجود فيه أشياء مُحدَثة، ولا بد لها من مُحدِث، وفيه حركات موجودة، ولا بد لها من غاية، فإن الحركات إما إرادية وإما طبعية وإما قَسْرية، لأنها إن كان المتحرك شاعرًا فهي الإرادية، وإن لم يكن شاعرًا، فإن كانت بلا شعور على خلاف طبعها فهي القسرية، كحركة الحجر إلى فوق، وإلا فهي الطبعية، كحركته إلى أسفل، لكن القسرية تابعة للقاسر. وأما الطبعية فلا تكون إلا إذا خرج المطبوع عن مركزه ومستقره، كخروج التراب والحجارة عن مركزها إلى فوق، وكذلك الماء. فبطلت بطبعها أن تعود إلى مركزها ومستقرها، فلو لم تُحرَّك أولاً عنه لما خرجت، فتبين أن الطبعية والقسرية تابعتان، فعُلِمَ أن كل حركة في العالم عن إرادة، وتلك حركات الملائكة الذين أخبر الله عنهم في كتابه عما يدبرونه بإذنه وأمره من أمر السموات والأرض، كما قال تعالى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)) (1)، فأقسم بالمخلوقات طبقًا بعد طبق، بالرياح ثم بالسحاب ثم بالنجوم وأفلاكها، ثم بالملائكة المقسمات أمرًا. وكذلك قوله: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)) (2).
ونصوص الكتاب والسنة في ذلك أكثر من أن يمكن ذكرها هنا، فإذا كانت جميع الحركات هي عن إرادات، ولا بد للمريد من غاية هي
__________
(1) سورة الذاريات: 1 – 4.
(2) سورة النازعات: 1 – 5.
(6/193)
مراده ومقصوده الذي هو معبوده، فلا بد للموجودات من إلهٍ هو إلهها ومعبودها سبحانه وتعالى.
ومن المعلوم بالبديهة أن الشيء لا يكون فاعلاً لنفسه، ولا يكون حادثًا من غير محدث، وكذلك من المعلوم بالبديهة أن المتحرك لا يكون متحركًا إلى نفسه، ولا يكون متحركا بإرادته إلى غير شيء، فكما أن الكائن بعد أن لم يكن لا يكون موجودًا بنفسه ولا من غير شيء، كما قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)) (1)، فالمتحرك بإرادته بعد أن لم يكن متحركًا لا يجوز أن يكون متحركًا مريدًا لنفسه، ولا يجوز أن تكون حركته وإرادته لغير شيء، لأن ونفسه كانت موجودة قبل حركته، وكونها هي المراد بما أحدثه يقتضي حدوثها بعد حركته، فيقتضي أن تكون موجودة معدومة معا.
كما أنه إذا قُدِّر أنه فاعل نفسه لزم أن يكون متقدمًا على نفسه، لكونه فاعلاً، ومتأخرًا عن نفسه، لكونه مفعولاً، فهذا الذي ذُكِرَ من (2) كون الإنسان يمتنع أن يكون فاعلاً مفعولا يقتضي امتناعَ كونه عابدًا معبودًا. وكذلك يقال في كل ممكن ومُحدَث، وهذا أيضا يدخل في الدور الممتنع، وما ذُكِرَ أولاً هو دور بين اثنين من فاعلين أو من فاعل واحد. وكل ذلك يُستَدل به على إثبات الإله المعبود الخالق للممكنات والمحدثات.
__________
(1) سورة الطور: 35.
(2) في الأصل: “في”.
(6/194)
فصل
وكذلك كما يمتنع أن يكون في الشخص الواحد أن يكون علة لنفسه ومعلولاً لها في الفاعل والغاية، يمتنع أن يكون جزء علته أو شرط علته، فلا يكون فعل فاعله محتاجًا إلى وجود شيء منه، ولا يكون في المقصود شيء منه، وكذلك أفعاله، كما لا يجوز أن يكون حدوث اعتقاده وقصده وقدرته منه، فلا يجوز أن يكون علة كل فعله حادثًا بفعله الذي حدث بفعله، ولا يجوز أن يكون حادثًا بعلة فعله جزؤها أو شرطها المتقدم على المعلول، لكن يجوز أن يكون هو فعلاً في حدوث المعلول بحيث لا يحدث هذا الفعل إلا مع هذا الفعل أو نحو ذلك، فإن الشرط إنما يجب أن يقارن المشروط، لا يجب أن يتقدم عليه. وأما العلة فيجب تقدمها عليه، فلو كان الفعل علة أو جزء علة لزم تقدم كل منهما على الآخر.
وأما كون أحد الفعلين مشروطا بالآخر فهذا لا محذور فيه، وكذلك لا محذور في كون الفعل يحدث بأسباب بعضها من الإنسان، ويكون ذاك السبب متقدمًا على الفعل، فكذلك لا يجوز أن تكون لذته المنقضية هي العلة الغائية مطلقًا، لوجود قصده وعمله، ولا جزءًا من العلة، وإن كانت شرطًا في وجود المعلول الذي هو المقصود لذاته.
ولهذا يوجد بعد حصول اللذة نفسه تطلب أمورًا أخرى وتقصدها، ولا تطمئن القلوب وتسكن إلا إلى الله، كما قال: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)) (1)، وذلك لأن ما يتعقبه العدم لا يصلح أن يكون
__________
(1) سورة الرعد: 28.
(6/195)
مقصودًا لذاته، فإنه لو كان هو المقصود بالذات، لكان حال القاصد له بعد عدمه كحاله قبل وجوده، فيمتنع أن يكون مقصودًا، لأن ذلك عَبَثٌ وسَفَهٌ، كما تقدم بيانه، وإنما يقصد لأنه بعد عدمه يبقى أمر موجود يصلح أن يكون مقصودًا، كما أن الأكل والشرب ولذة ذلك وإن كانت منقضية، ولذة الوقاع وإن [كانت] منقضيةً، فليست هي المقصودة من هذا الفعل بالذات، بل وإن قصدها الحيوان لما فيها من اللذة، فالمقصود مع ذلك ثبات جسمه وبقاؤه ووجود النسل، وهذه الغاية فإن لم يقصدها الحيوان الفاعل، فهي مقصودة لخالق الفعل وغيره، وذلك أن الحيوان لما لم يكن مستقلاًّ بالفعل، لم يجب أن يكون مستقلاًّ بالقصد الذي هو مبدأ الفعل، بل كما أن فعله لغيره فيه تأثير، فلغيره مقصود، فالسبب الفاعل كالسبب الغائي، ثم الإنسان إذا لم يقصدها، لا يمتنع وجود الفعل، بل يقتضي ذلك فساد حاله، فإنه من لم يقصد بأفعاله إلا نيل اللذة العاجلة فهذا أفعاله فاسدة باطلة، وهي حال من اتبع هواه، ومن كان لا يريد إلا العاجلة.
ونحن إنما قصدنا تبيين فساد مثل هذا القصد والعمل، وأنه لا يصلح حال صاحبه، لا تبيين امتناع الفعل بدونه، فإن امتناع الفعل ووجوده يتعلق بخلق الله وما ييسره من الأسباب، فهناك يتبين أنه لو كان هو الغاية أو جزؤها لامتنع أن يكون موجودًا مخلوقًا.
وأما في قصد الإنسان فتبين أنه يكون فسادًا وضررًا وشرّا كما تقدم، فإن الموجودات لا توجد بدون أسبابها الفاعلة، ولا تكون موجودةً من الله بدون غاياتها المقصودة، وهو الحكيم في تلك
(6/196)
الغايات.
وأما الحيوان فلا بد له من مقصود بفعله، لكن لا يجب أن يكون ذلك الذي قصده مصلحةً له ونافعًا له، كما أنه لا بد له من قصدٍ وقوةٍ، لكن لا يجب أن يكون مقرًّا بأن ذلك بإعانة الله وقدرته.
وإذا تبين أنها ليست مقصودة بالذات، فالمقصود بالذات لا بد أن يكون باقيًا أبديًّا، كما بينا أن ما يتعقبه العدم لا يكون مقصودًا بالذات، وكذلك أيضًا لا بد أن تكون ذات العلة الغائية متقدمة على الفعل، وإن كان ما يطلب بالحركة إليها يكون لذة حادثة، وإن كانت متواصلة، وهذا مما نُبيِّنه هنا، وإن لم يكن مبينًا فيما مضى، وذلك أن العلة الغائية هي علة بماهيتها وحقيقتها المقصودة لفاعلية العلة الفاعلية، إذ لولا كون تلك الحقيقة تستحق أن تُطلَب وتُقصد لامتنعَ أن يقصدها الفاعل، فامتنع فعلها، ولا يجوز أن يكون الفاعل بإرادته وفعله جعلها مقصودة مرادة، لأن إرادته متوقفة على كون المراد يجب أن يكون مرادًا، فلو كان كون المراد مرادًا حاصلاً بإرادته لزم الدور، وإذا كانت إرادته هي [التي] جعلتِ المرادَ مرادًا، والمراد هو الذي جعل الإرادة مريدة، بل لابد من حقيقة تكون هي بنفسها تستحق أن تكون مرادة مقصودة، وحينئذ يراد ويقع الفعل، كما أنه لا بد من حقيقة … (1) فاعلة، وحينئذ فيفعل أفعالاً، فلا يجوز أن يكون مفعولها أحدثها وفعلها.
والإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل، فإن المراد
__________
(1) بياض في الأصل بقدر كلمة.
(6/197)
هو الذي يوجب الإرادة، يوضح ذلك أن العلة الغائية إذا كانت لا بد من تقدمها في العلم والقصد، فالعلم والقصد لا يتعلق بالعدم المحض ابتداءً، بل المقصود إنما يعلم بطريق التمثيل بالموجود، ولذلك إنما يقصد بالغرض، فيكون الغرض من عدم أحد الضد وثبوت الضد الآخر، كما يقصد عدم المانع. أما أن يكون العدم مقصودًا بالقصد الأول أو معلومًا بالعلم الأول، فهذا محال.
وإذا كان كذلك، فالغاية التي لا توجد إلا بعد الفعل تكون حالَ العلم والقصد معدومة، فإنما يعلم بالقياس إلى غيرها، وإنما يقصد لقصد أمر وجودي، وإلا فالعدم المحض إذا قُصِدَ إيجاده لا لقصد أمر موجود، لزم أن يكون في العدم المحض ما يتميز فيه مقصود عن مقصود، وهذا ممتنع.
ومن هنا غلط الغالطون القائلون بأن المعدوم شيء، وأهل الإثبات وإن قالوا: هو ثابت في العلم، فالقصد يتوجه إلى المعلوم، لكن يقال: العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، فكذلك المعلوم لِمَ كان مقصودًا دون غيره، وليس في العدم المحض تميز، بل لا بد أن يكون المقصود أمرا وجوديًّا، ثم أريد حصول فعل وغاية قريبة لحصول ما يطلب من العمل للغاية المقصودة لذاتها.
ولهذا مكة موجودة قبل سعي الحاج إليها، فهي الغاية، وإن كان وصوله إليها، وأعمال المناسك هي غاية عمله لها، وهذه هي الغاية التي تتأخر عن العمل، لكن نفس الغاية المقصودة لذاتها لا بد أن تتقدم الفعل.
(6/198)
وهذا أصل عظيم، يسَّر الله بيانه بعد كثرة تحويم القلوب عليه، وهو نافع في أصلين عظيمين:
أحدهما: أن الله هو الإله المعبود لذاته.
والثاني: أنه هو المحبوب لذاته، فإليه تصير الأمور، وإليه المنتهى في أفعاله وأفعال عباده، كما أنه رب ذلك كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(6/199)
قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله
(6/201)
الحمد لله رب العالمين. قال الشيخ الإمام العالم المحقق أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله:
فصل
قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله وطلبه والتعليل به ونحو ذلك
قد ذكرتُ بعض ما يتعلق بذلك عند الكلام في العلم بالمعدوم، ومسألة النهي هل هو طلب العدم أو الوجود، وعند الكلام في إحسان الله لخلق كل شيء، وأنه إنما لا يُصرَف إليه المعدوم ونحو ذلك. ونحن نذكر هنا قاعدة، فنقول:
الصفات المتعلقة بالوجود مثل: العلم والإرادة والأمر والقدرة والفعل والسبب الفاعل كيف يتعلق بالعدم؟ أما العلم فقد قررنا في غير هذا الموضع أنه إنما يُعلَم المعدومُ بطريق التَّبع للعلم بالوجود، وكذلك قررنا أنه إنما يُراد المعدومُ بطريق التَّبع للموجود، فإن الشاعر منا لا يُدرِك بنفسِه ابتداءً عدمَ شيء، وإنما يُدرِك الوجود، ثم يُقَدِّر في نفسه ما يُركِّبُه أو يُفرِّعُه منَ أجزاء الوجود، مثل تقدير إلهٍ آخر، أو نبى بعد محمدٍ، أو جبلِ ياقوت، أو بحرِ زئْبقٍ، فحينئذٍ يعلم أنه لا إله إلا الله، وأنه لا نبي بعد محمد، وأنه ليس هنا جبل ياقوت وبحرُ زئبق، وإنما يَعلم ذلك بعد أن يكون عَلِمَ إلهًا موجودًا ونبيًّا موجودًا وبحرًا وجبلاً وياقوتًا وزِئبقًا، وأما ما لم يتصور مفرداته من الموجود فإدراكُ عدمِه مثلُ عدمِ إدراكِه، كما قال تعالى: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي
(6/203)
السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (1)، فعدم علمه بوجودِ ذلك مثلُ علمه بعدمِه. وهذا في حق الله تعالى، لأنه بكل شيء عليم، لا يَعزُب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فما لم يعلمه من الأشياء يعلم أنه ليس في الأشياء.
وكذلك الإرادة، فإن الحيَّ إنما يُريد بالقصد الأول ويحبّ ما يناسبه أو …. (2)، فلا يحبُّ ويريد بذاته إلا ما يطلب وجوده، ثم قد تُعارِضه أشياءُ فيكرهها ويُبغِضها ويُريد أن لا تكون. ثم إذا كَرِهَ هذه الأشياء قبلَ كونها أو بعدَ كونها فإنه يَسعَى في إبطالها، وقد يكون قادرًا على ذلك ويَنهى عنها غيرَه. فاختلف النالس في هذا المقام:
منهم من قال: القدرة لا تكون قدرةً على العدم، ولا الفعلُ يكون فعلاً للعدم، ولا الإرادة تكون إرادة للعدم، لأن العدم لا شيء، والقدرة على ما هو لا شيء لا شيء، فتكون القدرة على العدم كعدم القدرة، وكذلك فِعْلُ ما هو لا شيء وإرادة ما هو لا شيء بمنزلة وجوده، فإن هذا مما لا يستريب الناسُ فيه أنه لا يحتاج إلى فاعل وقادر، بل يكفي في عدمِه عدمُ مُقتضِيهِ ومُوجبه، ولهذا نقول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فنُضِيف عدمَ الكَونِ إلى عدم المشيئة. لا يُحتاج أن يقال: وما شاء أن لا يكون لم يكن.
وهذا قول كثير من المتكلمة والمتفقهة من المعتزلة والأشعرية
__________
(1) سورة يونس: 18.
(2) هنا كلمة رسمها: “يحابنا”، ولعلها “يجانسه “.
(6/204)
والحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم. ثم اختلف هؤلاء فيما إذا أرادَ الله أن يُفنِيَ شيئًا ويُعدِمَه:
فقال البصريون من المعتزلة: يُحدِثُ فَناءً لا في محلٍّ، فيَفنَى به.
كما يقولون في الإيجاد: إنه أَحدثَ لا في محلٍّ، فَحَدَثَ به.
وهذا عند العقلاء معلوم الفساد بالضرورة والنظر من وجوهٍ كثيرة، كما ذلك معلوم الفساد في الإرادة، فإنّ قيامَ الصفات بغير محلٍّ وحدوثَ شيء بلا إرادةٍ ومنافاةَ شيء سمَّوه الفناءَ لجميع الكائنات= كل هذا مما يُعلَم فسادُه عند تصوُّرِ حقيقته.
وقال كثير من متكلمة الإثبات من الأشعرية والحنبلية: عدمُه وفناؤُه بأن لا يُحدِث سببَ بقائِه، إمّا أن لا يُحدِث البقاءَ عند من يقول منهم: إن الباقي باقٍ ببقاءٍ، وإمّا أن لا يُحدِثَ الأعراضَ عند من يقول منهم: إن العَرَضَ لا يَبقَى زمانَيْنِ. فإن هؤلاء يقولون: إنما بقاءُ الأعيان التي هي الجواهر بما يُحدِثُه له من الأعراض، أو بما يُحدِثُه من البقاء، فإذا انتفَى شرطُ بقائها انتفَتْ وعُدِمَتْ، وانتفاءُ شرطِ البقاءِ يكفي فيه أنه لا يفعله ولا يُريدُه.
وحقيقة قولهم أن العدمَ الطارئَ المتجددَ بمنزلةِ العدم الدائمِ المستمرّ، يكفي فيه عدمُ الإرادةِ للإيجادِ والإبقاءِ وعدمُ إيجادِه وإبقائِه. فالمعتزلة قالوا: يُفنِي الأشياءَ ويُعدِمُها بإحداثِ ضِد يُنافيها هو الفناءُ، وهؤلاء يقولون بفَواتِ شَرْطِها ومقتضاها، فالنزاع بينهم هل الإعدامُ والإفناءُ لإيجادِ مانع أو لعدمِ شرطٍ، وكلُّهم فَرُّوا من كون نفس المعدوم مفعولاً بنفسِه أو مرًادًا بنفسِه.
(6/205)
فهذا أحد القولين، وهؤلاء يقولون: المطلوبُ بالنهي أو المرادُ بالنهي ليس عدمَ المنهيّ عنه، وإنما هو فِعلُ ضِدٍّ من أضدادِ المنهيِّ عنه: إمّا الامتناع من الفعل، وإمّا البُغْضُ له والكراهة ونحو ذلك، حتى يصحَّ أن يكون مطلوبًا مرادًا للناهي، ويصحّ أن يكون مقدورًا مفعولاً مرادًا للمنهيِّ. فعلى قول هؤلاء كما أن العلة الفاعلية للأمر الموجود لا تكونُ عدمًا بالاتفاق، وإلاّ لصحَّ [نسبة] الحوادث إلى معدوم، فيَبطُل الاستدلالُ بها على الخالق البارئ المصور. كذلك يقولون: العلة الغائية لا يصحُّ أن تكون عدمًا أيضًا، إذْ هي مطلوبُ الفاعل ومرادُه، والمعدوم لا يكون مطلوبًا ولا مرادًا.
والقول الثاني في أصل المسألة: إن العدم نوعان كما أن الوجود نوعان، فكما أن الوجود بنفسه هو غنيّ عن الفاعل، وهو الله سبحانه، والممكن بنفسه مفتقر إلى الفاعل محتاج إليه. فكذلك العدم نوعان:
أحدهما: ما انعقَدَ سببُ وجودِه التامّ أو المقتضي، وُجِدَ أو لم يُوجَد.
والثاني: ما لم ينعقد سببُ وجودِه.
فما لم ينعقد سبب وجودِه يكفي في عدمِه عدمُ سببِه، لا يحتاج إلى فاعلٍ ولا مريدٍ لعدمه.
وأما ما انعقد سببُه التامُّ فوُجِدَ، أو انعقد سببُه المقتضي فهو معترض للوجود، فهذا إن لم يوجد ما يُعارِضُه ويُنافِيه لم يُعدَم.
فالعدم الحادث الطارئُ كالوجودِ الحادثِ الطارئ، كلّ منهما لا
(6/206)
بدَّ له من سبب، لكن الوجود يتوقف على وجود السبب وانتفاء المانع، والعدم يكفي فيه كلُّ واحدٍ من عدم المقتضي ووجود المانع، فالوجود مفتقرٌ إلى الأمرين كليهما، والعدم يكفي فيه أحدهما إذا عُنيَ بالسبب العلة المقتضية دون التامة، وأما إذا عُني به العلة التامة فهذه العلةُ يلزم من وجودها وجودُ المعلول، ومن عَدَمِها عدمُ المعلول، فالوجود لا يقف إلا على وجودها، والعدم لا يقف إلاّ على عدمها.
وبهذا التفسير تزول الشبهةُ الواقعة بين كثير من الناس في مثل هذه المَحارات والمضطربات التي يكثر فيها النزاعُ والجدال، وينتشر فيها القيل والقال، ويحصل فيها التفرق والاختلاف، ويزول بها الاجتماع والائتلاف، فإذا فُسِّرت الأسماءُ المشتركة وفُصلَ الحقُّ من الباطل وحُكِمَ بالعدل بين الفِرَق والمقالات ظهر الكتابُ والسنة والجماعة، وزال الضلالُ والبدعة والفرقة.
فنقول: العلة والموجب والمقتضي والباعث والسبب والمناط والمحرِّك والداعي ونحو ذَلك من الأسماء هي أسماءٌ متقاربة، تكون مترادفةً من وجهٍ ومتباينةً من وجهٍ، وفيها تقسيمان:
أحدهما: أن العلة تنقسم إلى تامة موجبة يُوجد بها المعلولُ لا محالةَ، وإلى مقتضيةٍ قاصرةٍ تَقِفُ على شروطٍ وانتفاءِ موانع. ولفظ العلة يُعبَّر به عن كلِّ من المعنيين في أصولِ الدين وأصولِ الفقه وفي الكلام والفلسفة وغيرِ ذلك.
فأما الأولى فلا تُوجَد إلاّ مجموع أمور، وما ثمَّ سبب واحدٌ يُوجب مسبَّبَه لا محالةَ وينتفي مسبّبه عند انتفائه إلاّ مشيئة الله، فإنه ما شاءَ كَان
(6/207)
وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانَه فعَّالٌ لما يشاءُ، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) (1)، (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) (2)، وقال تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) (3). وهذا كثير في الكتاب والسنة وعلى اتفاق الملل وأهل الفطرة السليمة، لم يخالف فيه إلاّ القدريةُ من جميع الطوائف الذين يزعمون: قد يُرِيد ما لا يكون، ولا يُفرقون بين الإرادة الكونية والإرادة الدينية. فإرادته سبحانه ومشيئته هي السبب والعلة الكاملة التامةُ وجودُها، ومحبوبُه ومرضيُّه هي الحكمة والغايةُ التامةُ الكاملة.
هذا في العلة السببيةِ، وأما الغائية فهو كذلك أيضًا، غالبُ التامِّ منها مركَّبٌ، وما ثمَّ ما هو العلة الغائية على الإطلاق إلاّ محبوبُ الله ومرضيه، وإن كان الحب والرّضا يستلزم … (4)، فإن عبادته وطاعته وطاعة رُسُلِه هي غايةُ الأعمال في الدنيا، والتلذذ بالنظر إليه هو غاية المطلوب في الاخرة. وأما ما فى حق الربّ وأمره فإن محبوبه ومرضيّه هو الغاية المرادة من ذلك كله، وإن كان من الأسباب والوسائل ما هو مرادٌ غيرُ محبوبٍ ولا مرضى، فإن الشيء المحبوب المُشْتهَى قد
__________
(1) سورة يونس: 107.
(2) سورة الزمر: 38.
(3) سورة الكهف: 39.
(4) هنا بياض في الأصل بقدر كلمتين.
(6/208)
يتوقف حبه على وجودِ شرط وانتفاء موانع غير محبة الله تعالى، مثل اقتضاء النارِ الإحراقَ والماءِ الإغراقَ، والطعام والشراب للشِّبَع والرّيِّ، والشعاع للتسخين، والأعمال الصالحة للثواب، والأعمال السيئة للعقاب، ونحو ذلك. فكلّ هذه الأمور قد يتخلَّفُ مقتضاها لفواتِ شرط أو وجود مانع. وكذلك في الغائيات، فإن جعلتَ العلةَ مجموعَ الأمور التي يجبُ عندها الحكمُ فهي العلةُ التامة، وإن جعلتَها الأمرَ المقتضيَ للحكم لولا المُعارضُ المقاوِمُ فهي العلة المقتضية الناقصة.
وبهذا التقسيم يُعرف اختلافُ العلماء من أصحابنا وغيرهم في العلة هل يجوز تخصيصها، فإن عنِي بالعلةِ التامَّةُ فتلك لا تَقبلُ التخصيصَ، وإن عُنِي بها المقتضيةُ فإنها تقبل التخصيص. وهذا عامٌّ في العلل الكونية والدينية، الطبعية والشرعية، العقلية والسمعية.
فإن قلت: فإن كثيرًا من أصحابنا وغيرهم يقولون: العلة العقلية تُوجِبُ معلولَها، لا يتخلف عنها، ولا يقف على شرط، ولا لها مانع، بخلاف العلة الشرعية.
قلتُ لك: هؤلاء مرادُهم بالعلة الصفاتُ التي تُوجب الأحوالَ، مثل أن العلم علةُ كونِ العالم عالمًا، والحركة علةُ كَونِ المتحرك متحركًا، مبنية على ثبوت الأحوال في الخارج معاني غير الصفات. فمن أثبت الأحوالَ من متكلمة المعتزلة ومتكلمة الصفاتية من أصحابنا وغيرهم فإنه يفرّق بين العلم والعالمية والقدرة والقادرية، ويجعل الصفاتِ توجب الأحوال. ومن نفى الأحوال فإن عنده العلم نفس كون
(6/209)
العالم عالمًا، والحركة نفس كون المتحرك متحركًا، ليس عندهم هنا شيئانِ أحدُهما علةٌ والآخرُ معلولٌ.
وأما العلل الطبعية الموجودة في الخارج، مثل كون الأكل والشرب علةً للشَبَع والريّ، والإحراق والإغراق علة للحرق والغرق، فكثير من متكلمة أهل الإثبات من أصحابنا وغيرهم لما ناظروا أهلَ الطبع وأهلَ القدر في أن الله خالقُ كلِّ شيء أنكروا أن يكون في العلم علةٌ أو سبب، وقالوا: إن الله يخلق هذه الآثار عند هذه الحوادث، فهؤلاء إذا تكلموا في العلة والسبب لم يدخل هذا في كلامهم، وهذه طريقة كثير من الفقهاء الحنبلية والمالكية والشافعية ومتكلمة أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم. فإذا وجدتَ في كلام القاضي أبي بكر ابن الباقلاني أوالقاضي أبي يعلى أو القاضي أبي الطيب أو أبي إسحاق الفيروزابادي أو أبي الخطاب أو ابن عقيل أو نحو هؤلاء الفرقَ بين العلل العقلية والشرعية فهذا مرادهم.
وأما جمهور العقلاء من أهل الإسلام وسائر الملل وإن كانوا يردّون على أهل الطبيعة الذين يُضيفون الحوادثَ إلى ما دون الله من جسمٍ أو طبعٍ أو فلكٍ أو نجمٍ أو عقلٍ أو نفسٍ، وعلى القدرية الذين يزعمون أن أفعال الحيوان لم يَخلُقْها الله ولا يَقدِر على خَلْقِها، ويعلمون (1) أن الله خالقُ كلِّ شيءٍ = فلا يُنكِرون ثبوتَ الأسباب وأنّ الله يخلق الأشياء بها، كما نطقَ بذلك الكتاب والسنة، وكما اتفق عليه
__________
(1) عطف على “يردون … “.
(6/210)
سلفُ الأمة والسَّالِمُو الفطرةِ من أهل الملة. قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) إلى قوله: (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) (1)، وقال تعالى: (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (2)، وقال: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) (3)، وقال تعالى: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)) (4)، وقال تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَام) (5)، وقال تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) (6). وهذا كثير في الكتاب والسنة. فمن قال: لا يقال: إن الله يَفعل بها، وإنما يَفعل عندها لا بها، فقد خالف الكتاب والسنة وفِطَرَ العقلاء.
فإن قلتَ: قد ذكرتَ أنه ليس في الوجود علةٌ تامة وحدَها إلا مشيئة الله، فكيف تَصنع بالإحراق والإغراق والإزهاق والتكسير والتعليم ونحو هذه الأفعال التي لها أفعال مطاوعة، فإن الكسر مستلزمٌ للانكسار، والإحراق مستلزمٌ للاحتراق، والإزهاق مستلزمٌ للزهوق، ونحو ذلك.
قلتُ: الإحراق ونحوه إما أن يُعنَى به فِعلُ المحرِق فقط، أو يُعنَى
__________
(1) سورة الأعراف: 57.
(2) سورة البقرة: 164.
(3) سورة النمل: 60.
(4) سورة ق: 9.
(5) سورة المائدة: 16.
(6) سورة البقرة: 26.
(6/211)
به فِعلُه وقبولُ المحترق، فإن عُنِيَ به فِعلُ الفاعلِ فقط فهو من العلل المقتضية لا الموجبة، يقال: أحرقتُه فلم يَحترِقْ، وعلَّمتُه فلم يتعلَّم، وكسرتُه فلم ينكسر، وإن عُنِي به فعلُ الفاعل وقبولُ القابل فهما أمرانِ مركَبانِ.
وهذا طردُ قولنا: ليس في الوجودِ علةٌ تامةٌ إلاّ مركَّبة سوى مشيئةِ الله تعالى، وقد تقدم الكلام على الصفات والأحوال هل تدخل في العلل أم لا. فهذا أحد القسمين.
التقسيم الثاني: أن الشيء ليس له خارج عن نفسه علتان: علة فاعلة وعلة غائية، ويُسمّي الفقهاءُ الفاعلةَ السبب والموجب، ويُسمُّون الغائيةَ الحكمة والمراد والمقصود. أما المادة والصورة فذلك علتان للمركب في نفسه، فالمركب كالخاتم مثلاً مركّبٌ من الفضة التي هي المادة، والصورة التي هي القالَبُ (1)، وتسمية هذا عللاً ليس من اللغة المعروفة ولا من المعروف في الفعل، وإنما هو اصطلاحٌ لطائفة من النظار من المتفلسفة وغيرهم، وإنما العلة المعروفة ما كان مغايرًا للمعلول، فالإنسان بعقلٍ يفعل فعلاً لمقصودٍ، فهو الفاعل له، والمقصود هو الغاية المقصودة به، والعلة الغائية علة العلم وفاعلية العلة الفاعلية، فإنه لولا المقصود والفاعل لما فعلَ الفاعلُ، وهي [أوّلٌ] في القصد آخرٌ في الوجوِد والفعل. ولهذا قال تعالى: في أم الكتاب: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5))، فإن الله سبحانه هو
__________
(1) في الأصل: “البالف”.
(6/212)
الإله المعبود بجميع الأعمال الصالحة، وهو الخالق الربُّ المُعِين عليها، فله الدعاءُ وحدَه لا شريكَ له دعاء العبادةِ والتألُه لألوهيتِه، ودعاء السؤالِ والطلب لربوبيتِه الداخلة في ألوهيته. وهو ربُّ العالمين وخالق كل شيء، وَلهذا قال: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (1)، وقال: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)) (2)، وقال: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)) (3).
إذا عُرِف ذلك فالعلل في اصطلاح الفقهاء في الدين والشريعة قد يُرادُ بها الأسباب التي هي بمنزلة الفاعل، كما يقال: مِلك النصاب سببٌ لوجوب الزكاة، والزنا سببٌ لوجوب الحدّ، والقتل العمد سببٌ لوجوب القَوَد. وقد يُراد بها الحكمةُ المقصودة التي هي الغاية، كما يقال: شرِعَت العقوباتُ للكفِّ عن المحظورات، وشُرِعَت الضماناتُ لإقامة العدل في النفوس والأموال، وشُرِعَت العباداتُ لأن يُعبَد الله وحدَه لا شريك له، وشُرِع الجهادُ لتكون كلمةُ الله هي العليا ويكون الدين كلُّه لله.
وهذه الحِكَم والمصالح التي هي الغايات تكون مقصودة مرادةً للشارع الاَمِر وللفاعل المطيع، ولكن تحصل بدونِ قصدِه، كما يَحصُل ثوابُ كثيرِ من الأعمال الصالحة في الدنيا والآخرة لمن أطاعَ الله ورسوله في أَفعالٍ كثيرة، وإن كان لم يعلم ذلك فضلاً عن أن
__________
(1) سورة هود: 123.
(2) سورة هود: 88، سورة الشورى: 10.
(3) سورة الرعد: 30.
(6/213)
يَقصِدَه.
وقد تنازع الفقهاء هل يجوز تعليلُ الوجود بالعدم، فذهب طوائف من أصحابنا وغيرِهم إلى جواز ذلك، وذهب طوائف إلى أنه لا يجوز. ثم منهم من يقول: يجوز أن يكون العدمُ جزءاً من العلة أو شرطًا، ومنهم من يمنع ذلك، ومنهم من يمنع الجزءَ دون الشروط. وفصَّل أبو الخطاب أن ذلك يجوز في قياس الدلالة بلا ريب، فإن قياس الدلالة المشترك بين الأصل والفرع دليلٌ على العلة وإن لم يُذكَر نفس العلة، والدليل يجوز أن يكون وجودًا وعدمًا، سواء كان المدلول وجودًا أو عدمًا. ومن جعلَ عِللَ الشرعِ كلَّها أماراتٍ ومُعرِّفاتٍ من أصحابنا وغيرهم فجميع الأقيسة عندهم قياس دلالة، وجميع العلل عندهم مجرد أدلة. لكن هذا قول ضعيف.
وأما في قياس العلة فيمتنع أن يكون العدم فاعلاً للوجود، وهذا معلومٌ ببديهة العقل، ولو جاز ذلك لجاز إسنادُ الحوادث إلى معدوم، فامتنع بهذا أن تكون العلة العدمية بمعنى الفاعل علة لوجود.
لكن هل يكون العدم شرطًا أو جزءًا؟ فهذا ينبني على ما تقدم أن العلة إذا عُنِيَ بها الموجبة التامَّة لم يمتنع أن يكون العدم جزءاً منها، وإن عُنِيَ بها المقتضي لم يمتنع أن يكون العدمُ شرطا في تأثيرِها، فإن تأثير السبب المقتضي لأثرِه قد يَقِفُ على انتفاءِ الضدّ المعارض. ثم إنه كثيرًا ما يكون قد انعقدَ سببُ الشيء، وإنما تخلف الحكمُ لمانعٍ [أو] لمعارضٍ، فإذا انتفَى ذلك المانعُ أضِيف الحكمُ إلى انتفاء المانع، وهو في الحقيقة جزء العلة أو شرطها، ويُجعَل علةً في اللفظ عند النزاع،
(6/214)
لأن الجزء الآخر قد عُلِمَ وجودُه واتُّفِق عليه، مثل أن يقال: يُباحُ دَمُه لأنه ليس بمسلمٍ ولا مُعاهَد، أو تجب عليه الزكاةُ لأنه ليس بمَدِيْن، أو يُعزَّر لأنه ليس بمُحْصَن، ونحو ذلك.
وأما العلة التي هي الحكمة الغائية فهل يجوز أن تكون علة الوجود، بمعنى أن يكون مقصودُ الفاعل ومرادُه العدمَ، فهذا يتعلق بالقاعدة التي تكلمنا فيها، وبَيَّنا أن العدم لا يكون مقصودًا لنا ومرادًا ابتداءً، لأنه ليس فيه لنا فائدة ولا مناسبة، وإنما نَقصِدُه ونُرِيدُه إذا كان في الوجود ضررٌ، فنُريد زوال الضرر وعدمَه، فيكون [عدم] الضرر علة غائية مقصودة بهذا الاعتبار.
(6/215)
فصل في الإسلام وضدّه
(6/217)
فصل في الإسلام وضدّه
قد كتبنا في غير هذا الموضع في مواضعَ أن الإسلام هو الاستسلامُ لله وحدَه، فهو يجمعُ معنيين: الانقياد والاستسلام، والثاني إخلاص ذلك لله، كما قال تعالى: (وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ) (1) أي خالصًا له، ليس لأحدٍ فيه شيء. وإنه يُستعمل لازمًا ومتعديًا، فالأول كقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)) (2)، وقوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)) (3)، وقوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) إلى قوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (4). وهو هذا الإسلام الذي هو الاستسلام لرب العالمين.
وقد يُستعمل متعديًا في مثل قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (5)، وفي قوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (6). فهنا لما كان مقيَّدًا بإسلام الوجه قرن به الإحسان، لأن إسلام الوجه له هو يتضمن إخلاص القصد له، فلا بدَّ مع ذلك من الإحسان، ليكون
__________
(1) سورة الزمر: 29.
(2) سورة البقرة: 131.
(3) سورة غافر: 66.
(4) سورة آل عمران: 83 – 85.
(5) سورة النساء: 125.
(6) سورة البقرة: 112.
(6/219)
عملُه صالحًا خالصًا لله.
وهذا الإسلام الذي هو الإسلام لله -إذْ إسلام الوجه لله وهو محسنٌ يستلزمُ أصلَ الإيمان- لا يمكن أن يكون صاحبُه منافقًا محضًا، فإن المنافق المحض لا يكون مسلما لربّ العالمين ولا مسلمًا وجهَه لله، لكن قد شارك أصحابَه في الإيمان، لأن الإسلام قد يتضمن القصد والعمل، والإيمان يتضمن العلم والحبّ، ولهذا قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فيما رواه أحمد في المسند (1): “الإسلام علانيةٌ، والإيمان في القلب “. وكذلك حديث جبريل (2). فصاحبه قد يكون معه أصلُه لا كمالُه. وأما مطلق لفظ المسلم فقد يكون أسلم رغبةً أو رهبةً من الخلق ولم يُسلِم لله، وهذا قد يكون منافقًا محضًا.
وأما لفظ الإسلام المطلق فقد يكون لله، وقد يكون لغير الله، وقد يُظهر صاحبُه أنه أسلم لله، قال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) الآية (3)، وكذلك قال في قصة لوط: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (4). وكذلك حديث سعد بن أبي وقاص الصحيح (5): لما أعطى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رجالاً ولم يُعطِ رجالاً كان أعجب إلى سعد مما أعطى، فقلت: ما لكَ
__________
(1) 3/ 134 من حديث أنس.
(2) أخرجه البخاري (50) ومسلم (9) عن أبي هريرة.
(3) سورة الحجرات: 14.
(4) سورة الذاريات: 35 – 36.
(5) البخاري (27) ومسلم (150).
(6/220)
عن فلان عن فلان، إني لأراه مؤمنًا، فقال: “أو مسلمًا” مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: “إني لأعطِي الرجلَ وأَدعُ من هو أحبُّ إليَّ منه، أُعطِيه لما في قلبه من الهلَع والجزَع” أو كما قال.
فامرأة لوط كانت منافقةَ كافرةً في الباطن، وكانت مسلمة في الظاهر مع زوجها، ولهذا عُذِّبت بعذاب قومِها. فهذه حال المنافقين الذين كانوا مع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مستسلمين له فيَ الظاهر، وهم في الباطن غير مؤمنين. والأعراب قد نَفى الله عنهم الإيمان بقوله (لَمْ تُؤْمِنُوا)، وأمرهم أن يقولوا: أسلمنا، ثم قال: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). و”لمَّا” يُنفَى بها ما يفوت وجودُه ويُنتظَر وجودُه، فيكون دخولُ الإيمان في قلوبهم منتظَرًا مَرجُوا، وقد قال لهم: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) وظاهره أنهم إذا أطاعوه في هذه الحال أُثيبوا على الأعمال. ثم قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)) (1).
وهذا هو الإيمان الواجب، وقد يكون مع كثير من الناس شيء من الإيمان ولم يَصِلْ إلى هذا، كالذين قال فيهم النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” يَخرجُ من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن ذرةً، أو من كان في قلبه مثقال ذرّةٍ من إيمان ” (2). فسَلْبُ الإيمان عنهم لا يقتضي سلبَ هذا المقدار من الإيمان، بل هذه الأجزاء اليسيرة من الإيمان قد يكون في العبد ولا يَصِلُ بها إلى الإيمان الواجب، فإنه إذا انتفت عنه جميع
__________
(1) سورة الحجرات: 15.
(2) أخرجه البخاري (44) ومسلم (193) من حديث أنس.
(6/221)
آجزاء الإيمان كان كافرًا.
وقد رُوِي عن حذيفة قال (1): “القلوب أربعة: قلبٌ أغلف، فذاك قلب الكافر؟ وقلبٌ مصفح، فذاك قلب المنافق؟ وقلبٌ أجرد فيه سراج يزهر، فذاك قلب المؤمن؟ وقلب فيه نفاق وإيمان، فَمثَلُ الإيمان فيه كمثلِ شجرةٍ يَمُدُّها ماءٌ طيب، ومَثَلُ النفاق فيه كمثل القرحة يَمُدُّها قَيْحٌ ودمٌ “. وفي روايةٍ: “فأيُّ المادَّيْنِ غَلَبَ كان الحكمُ له “. وفي رواية: “وقلبٌ فيه مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، فأولئك قومٌ خلطوا عملاً صالحًا وآخرَ سيئًا”.
وهذا -والله أعلم- معنى كلامٍ قاله بعضُ السلف والأئمة في الزاني والسارق والشارب: أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وأن الإيمان يصير على رأسه مثلَ الظلَّةِ. فإنهم لم يريدوا بذلك الإسلام الظاهر المحض الذي يكون للمنافق المحض، لأن الكلام فيمن هو مُقِرٌّ في باطنه بما جاء من عند الله، لكن ارتكب هذه الكبائر، فعُلِمَ أنه يَخرجُ إلى الإسلام الذي يكون معه أصلُ الإيمان وبعضُه، ولكن لا تكون معه حقيقته الواجبة. ويُشبِه أن يكون إسلامُ الأعراب من هذا الباب، فإن الإنسان قد يُسلم للهِ حقيقةً فينقادُ ويَستسلم، ومع هذا لا يكون في قلبه من الهدى والعلم ما يمنع ورودَ الذنب عليه، ولا يكون في قلبه من المحبة ما يوجب صبره على الجهاد، إذ الإسلام هو الدين، والدين هو العمل والخلق، ومثل هذا قد يكون عن علمٍ ويقين وحبّ، وقد يكون
__________
(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1439) وأبو نعيم في الحلية (1/ 376) عنه.
(6/222)
عن نوع اعتقادٍ ونوع إرادة. وليس المقصود هنا بسط الكلام في هذا، وإنما الغرض ما يأتي بعد.
فصل
المقصود هنا أنّا قد نبّهنا عليه غيرَ مرَّة أن الإسلامَ له ضدّان: الإشراك والاستكبار، لأنه الاستسلام لله وحده كما يترجم فيه شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله، فمن استسلم لله ولغير الله فقد أشرك بالله وجعَل له عِدْلاً وندًّا وشريكًا، ومن لم يستسلم بحالٍ فقد استكبر كحال فرعون وغيره. ولهذا قال: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)) إلى قوله: (إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)) (1). وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)) (2).
وكلّ من الشرك والكبر كفرٌ يضادُّ الإيمان والإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لا يدخل النارَ من في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمان، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبْر”، فقال رجلٌ: يا رسول الله! إني أحبُّ أن يكون قولي حسنًا وفعلي حسنًا، أذلك من الكبر؟ فقال: “لا، إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكِبرُ بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس “. ولهذا قُرِنَ هذا في شعار الإسلام الذي هو
__________
(1) سورة الدخان: 17 – 19.
(2) سورة غافر: 60.
(3) مسلم (91) عن ابن مسعود.
(6/223)
الأذان بين التكبير والتهليل، فإن التكبير -وهو قول “الله أكبر”- يمنع كبرَ غيرِ الله، وقول لا إله إلا الله يوجب التوحيد، وهاتان الكلمتان قرينتان، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وبتنّا اقتران التهليل والتكبير كاقتران التسبيح والتحميد.
وقد يقال: الشرك أعمُّ، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد، فإن المشرك قد يكون متكبرًا وقد لا يكون، وأما المستكبر فلا بدّ أن يكون فيه شرك، فذَمُّ المشرك يدخل فيه ذمُّ المستكبر من أهل الكتاب، وذمُّ المستكبر لا يدخل فيه ذمُّ المشرك الذي ليس مستكبرًا، ولهذا يُكتفَى بكلمة التوحيد التي هي لا إله إلا الله عن كلمة التكبير، من غير عكس، كما قال تعالى عن النصارى: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)) (1)، وقال في وصفهم: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (2)، وقال فيهم: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)) (3)، فوصفَهم بالشركِ وتركِ الكبر، وهذا ظاهرٌ من حالِ كثيرٍ منهم أن فيهم شركًا وتواضعًا، لكن الشرك من أعظم الفساد لصاحبه، إن لم يُرِد علوًّا في الأرض فقد أراد فسادًا.
لكن هذا في مشركي أهل الكتاب، إذ الشرك مبتدعٌ في دينهم لا
__________
(1) سورة المائدة: 82.
(2) سورة الحديد: 27.
(3) سورة التوبة: 31.
(6/224)
أصل له، فأما المشركون من غيرهم فقد قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (1).
وأما اليهود فقد وصفهم بالاستكبار والعلوّ في الأرض في مثل قوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)) (2)، كما وصف فرعون بذلك في قوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا) إلى قوله: (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)) (3)، فوصفَه بالعلو والفساد كما وصفَهم. وقال في آخر السورة: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) الآية (4)، وقال تعالى في خطابه لبني إسرائيل: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) إلى قوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ