ابن تيميةابن تيمية - كتبعطاءات العلم

جامع المسائل_6

جامع المسائل_6

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: جامع المسائل
[آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (2، 3، 4، 5، 9، 13، 17، 18، 29)]المؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661 – 728 هـ)
تحقيق: جـ 1 – 6، 8 (محمد عزير شمس)، جـ 7 (علي بن محمد العمران)، جـ 9 (عبد الرحمن بن حسن قائد)
راجعه: جـ 1 – 4، 7 (سليمان بن عبد الله العمير، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 5، 6 (سليمان بن عبد الله العمير، جديع بن محمد الجديع، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 9 (سليمان بن عبد الله العمير، على بن محمد العمران)
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية (للمجموعات من 1 – 9)، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 9
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

عَنْهَا غَافِلِينَ (146)) (1)، فوصف الله المستكبرين بالتكذيب بآياته والغفلة عنها، لأن الكبر- كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – – بطر الحق وغمط الناس (2)، وبَطرُ الحقّ جَحْدُه ودَفْعُه، وهذا هو التكذيب، وأعظم من ذلك التكذيب بآيات الله، قال تعالى عن قوم فرعون: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)) (3)، وقال عن المشركين: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الاية (4)، وقال: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)) (5)
وإنمَا يقَال: إن المسَتكبر لا بد أن يكون مشركًا، لأن الإنسان حارثٌ همّامٌ، فلا بدَّ له من حَرْث هو عملُه وحركتُه، ولا بدّ لذلك من همّ هو قصدُه ونيَّته وحبه، فإذا استكبر عن أن يكون الله هو مقصوده الذي ينتهي إليه قصدُه وإرادتُه، فيُسلم وجهَه لله، فلابدَّ أن يكون له مقصودٌ آخر ينتهي إليه قصدُه، وذاكَ هو إلهه الذي أشرك. ولهذا كان قوم فرعون الذين وصفهم بالاستكبار والعلوّ في الأرض وهم الذين استعبدوا بني إسرائيل، كانوا مع ذلك مشركين بفرعون اتخذوه إلهًا وربًّا، كما قال لهم: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (6)، وقال لهم:
__________
(1) سورة الأعراف: 146.
(2) أخرجه مسلم (91) من حديث ابن مسعود.
(3) سورة النمل: 14.
(4) سورة الأنفال: 47.
(5) سورة الأنعام: 33.
(6) سورة القصص: 38.

(6/226)


(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)) (1)، وقال: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)) (2). وفرعون نفسه الذي كان هو المستكبر الأعظم على قومه وغيرهم، كان مع هذا مشركا، كما ذكر ذلك تعالى عنه في قوله: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ) (3)، قيل: كان له آلهةٌ يعبدها سرًّا. وقد وصفهم جميعًا بالإشراك في قول الرجل المؤمن: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)) (4). وقال قبل هذا: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ) الاية (5)، وقد ذكر الله قول يوسف: (السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ) الآية (6). وهذا إخبارٌ عن جميعهم بالشرك واتخاذ آلهةٍ يدعونها من دون الله. وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) الآية (7)، وهذا يبين
__________
(1) سورة النازعات: 24.
(2) سورة الزخرف: 54.
(3) سورة الأعراف: 127.
(4) سورة غافر: 41 – 43.
(5) سورة غافر: 34.
(6) سورة يوسف: 39 – 40.
(7) سورة النحل: 36.

(6/227)


أن جميع الرسل بُعِثوا بالتوحيد والدعوة إلى عبادة الله وحده، كما قال تعالى في سورة هود بعد أن ذكر الأنبياء وأممهم ثم قال: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)) الايات (1)، يُخبر تعالى فيها عن جميعهم بالشرك واتخاذ آلهة.
ولو لم يكن المستكبر يعبد غيرَ الله فإنه يعبد نفسَه ولا بدَّ، فيكون مختالاً فخورًا متكبرًا، فيكون قد أشرك بنفسه إن لم يشرك بغيره. وإبليس هو أول المستكبرين، قال تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)) (2).
ومَن بَطِرَ الحقَّ فجحَدَه فإنه يضطرُّ إلى أن يُقِرَّ بالباطل، ومَن غمطَ الناسَ فاحتقرهم وازدراهم بغير حق فإنه يضطرّ إلى أن يُعظّم آخرين بالباطل، وهذا من الشرك. فمَن غَمَطَ الناسَ جَحدَ حقَّهم ليُعظم نفسه بذلك، وهذا هو الاستكثار والاختيال، فلا بدَّ له ممن يُعينه على استكباره واختياله للشرك به، وهو يفرح بمن يحمده ويثني عليه ويعظمه، ويَشْنَأ من يَذُمه ويُبغِضه ويعيبه، فيكون من أعظم رياء وسمعة، والرياء والسمعة من الشرك، فالمستكبر من أعظم الناس شركًا ورياءً وسمعةً. وإبليس هو الذي يُزيِّن كلَّ شركٍ وكلَّ كبرٍ لبني آدم، وينفخ في أحدهم حتى يتعاظم، ويدعوهم إلى الإشراك بالله ويأمرهم بذلك، كما قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
__________
(1) سورة هود: 100.
(2) سورة البقرة: 34.

(6/228)


بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ) (1). وهذا من أعظم الشرك بغير الله، وإن كان قد يشرك به أيضًا، فهو يجمع الإشراك بالله وبغيره ممن أطاعَ الخلقَ وعظَّمهم، فمن أطاعهم اقتدى بهم، ومن أطاع الرسلَ اقتدى بهم في توحيدهم وطاعتهم لربهم، ومن عصاهم ضلَّ، فجميع من عَصى الرسلَ ولم يقتدِ بهم فهو مشرك.
وقد استقرت الشريعة على أن كل من ليس من أهل الكتاب فهو مشرك يعبد ما يستحسن، كما يذكر الفقهاء ذلك في باب أخذ الجزية، فليس لأحدٍ أن يُخرِج أحدًا من هؤلاء عن الإشراك، وذلك لأن العبد هو حارث وهمَّام حسّاس متحرك بالإرادة، وليس كل مرادٍ مرادًا لغيره، بل لا بدَّ أن تنتهي الإرادة إلى مرادٍ لذاته هو المطاع المحبوب المعظم، وذلك هو إله العبد الذي يعبده. فكلّ من لم يكن الله إلهه الذي يعبده الذي هو منتهى قصدِه وإرادتِه، فلا بدَّ أن يكون مشركًا ينتهى قصدُه وإرادته إلى غيرِه، سواء كان مَلِكًا له أو وثنًا أو غيره.
ومن هذا الباب قول فرعون: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (2)، وقوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)) (3). ويُشبهه في ذلك من بعض الوجوه النمروذ وجنكزخان ملك المغل من الترك وأمثاله، فهؤلاء قومهم مشركون بهم، وقد قال تعالى في النصارى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)
__________
(1) سورة الأنفال: 47.
(2) سورة القصص: 38.
(3) سورة النازعات: 24.

(6/229)


الآية (1)، وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في عبادتهم إيّاهم: “إنهم أحلُّوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرَّموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم ” (2). فكيف بمن يكون هو المطاع المطلق في أمره ونهيه وتحليله وتحريمه؟ ويكون قومه يقاتلون الناسَ على أن يكون الدين والطاعة لله وحده بحيث يستبيحون دم كلِّ من خرج عن طاعته!
فصل
ومن المعلوم أن الشرك ظلم عظيم، بل هو أعظم الظلم، كما قد ذكر الله ذلك في كتابه، وتكلمنا على ذلك في مواضع متعددة. والإسلام هو التوحيد لله، وهو أصل العدل والقسط، والاستكبار أيضًا من أعظم الظلم، ولو لم يكن فيه إلا الاستكبار على بعض الناس، فإن أدنى ما فيه تفضيل نفسه على نظيره بغير حق، ولقَصْده العلوَّ على غيره يجحدُ الحقَّ ويَغمطُ الخلق، فلهذا يوجد في الناس اَحادِهم وأممهم أن كل من كان أعظم تحقيقا للإسلام كان أبعدَ عن الشرك والكبر، وكلَّ من كان أبعدَ عن الإسلام كان أقرب إلى الشرك والكبر، فإن الإسلام هو أن يستسلم العبدُ لله رب العالمين، فلا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستكبر عن عبادته وطاعته وطاعة رسله التي جماعُها العدلُ، كما قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
__________
(1) سورة التوبة: 31.
(2) أخرجه الترمذي (3095) عن عدي بن حاتم. وقال: هذا حديثٌ غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث.

(6/230)


وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (1)، وقال: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (2). ولهذا أمر الله رسولَه أن يقول لأهل الكتاب: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) الآيةَ (3).

فالإسلام يتضمن العدلَ، وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المتفاضلين من المخلوقات، إذ ذلك من الإسلام لله ربّ العالمين وحدَه، فإنه إذا كان الدين كله للهِ وكانت كلمةُ الله هي العليا كان الله يأمر بالعدل وينهى عن الظلم. وأصل العدل هو القسط، والقسط هو الإقساط في حق الله تعالى بان لا يُعدَلَ به غيرُه ولا يُجعَلَ له شريك، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لمعاذ: “حقُّ اللهِ على عبادِه أن يعبدوه لا يُشرِكون به شيئا” (4). فإذا لم يُسلِموا له بل عَدَلوا به غيرَه كان ذلك ظلمًا عظيمًا، وإذا فعلوا هذا الظلمَ في حق الله فهم في حقوقِ العباد أظلم، والتسوية بين المتفاضلين ظلم، كما أن التفضيل بين المتماثلين ظلم، والشركُ من نوع الأول كما قال تعالى: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)) (5)، والاستكبار قد يكون من نوع الثاني، والإسلام يتضمن العدلَ كلَّه، كما أنه ينافي الشرك والكبر.
__________
(1) سورة الحديد: 25.
(2) سورة الأعر اف: 29.
(3) سورة آل عمران: 64.
(4) سبق تخريجه.
(5) سورة الشعراء: 98.

(6/231)


فصل
والمقصود هنا أن يَعرف المؤمنُ حالَ الناس الذينِ يحتاج إلى معرفة حالهم، ويعمل معهم ما أمر الله به، ويكون فيمن مَضى عبرةٌ له، فآل فرعون لما كانوا أبعدَ الخلق عن الإسلام الذي هو دين الله جعلهم الله في أشدِّ العذاب، كما قال تعالى: (أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)) (1)، لأنهم كانوا من أعظم الخلق استكبارًا وإشراكًا، حيث جعلوا واحدًا من جنسهم إلههم وربَّهم، فأطاعوه واتبعوا أمره الذي ليس برشيد، واستكبروا قبل مجيئ الرسولِ إليهم على من هو من جنسهم، فاستعبدوهم بغير حق وكانوا خَوَلَهم، وبعد مجيئ الرسول عَلَوا على ربِّهم وعلى رسوله.
وكذلك بنو إسرائيل لما بُعِثَ إليهم المسيح كان من استكبارِهم على رسولهم سؤالهم المائدة وعبادتهم الطاغوت كما ذكره الله عنهم في كتابه، ولما كانوا أبعد الناس عن الإسلام إذ ذاك قال الله لهم: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)) (2).
وكذلك الذين بعث إليهم محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان فيهم من الشرك والكبر ما هو معروف، وقد دلَّ كتاب الله من ذلك على ما فيه عبرة. والمنافق أسوأ حالاً في الآخرة من الكافر، كما قال: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
__________
(1) سورة غافر: 46.
(2) سورة المائدة: 115.

(6/232)


الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) الآية (1). وقد رُوِي في الحديث عن عبد الله بن عمرو: “إنّ أشدَّ الناس عذاباً يومَ القيامة آل فرعون ومن كفر من أهل المائدة والمنافقون من هذه الأمة” (2). فإن هؤلاء عاندوا الرسل الثلاثة الكبار أهل الشرائع موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام في وجوههم، وباشروهم بذلك.
والمشركون الذين خرجوا على ديار الإسلام عبيد جَنْكِسْخان، وهو الذي استخفَّ قومه فأطاعوه من الترك وأشركوا به، حتى اعتقدوا فيه أن أمَّه أَحْبَلَتْها الشمسُ، إذ لا يُعرف له أبٌ بينهم، وإنما كانت أمُّه بغيًّا فَجَرَتْ ببعض الترك، ثم كتمتْ ذلك وأظهرتْ غيره، وكانت ذاتَ مكر وكيدٍ. وقد ذكر الله في كتابه قول العزيز: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)) (3). ولهذا لما علا ابنُها وقَهَر الأممَ المجاورةَ له كان من سنتهم تعظيم النساء وطاعتهن. ولما كانوا من أبعد الخلق عن الإسلام كانوا من أعظم الأمم كِبرًا وشركًا، فهم مطيعون لمن قَهَرهم وأذلَّهم واستعبَدهم كطاغوتهم الأعظم جنكسخان طاعةً وعبادةً وتألهًا، فهم بذلك من أعظم المشركين، وهم مع ذلك مستكبرون على من قَهَروه من جنسهم وغيرِ جنسهم استكبارا وعلوًّا.
__________
(1) سورة النساء: 145.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 132) عنه.
(3) سورة يوسف: 28.

(6/233)


فصل
كل مشركٍ فإنه مكذِّبٌ بالآخرة، إذ لو كان مؤمنًا بها لما أشرك بالله شيئًا، وهذا الشرك يدخل في العلم والعمل. ومن فضائل توحيد الإلهية أنه ليس لغير الله مطلقًا ولا مقيَّدًا، وأما توحيد الربوبيةِ فهو لغيره مقيَّدًا، كقول الذين جعلوا لله أندادًا، وقد أخبر عن الكفار أنهم لم يشركوا به في توحيد الربوبية.
فصل
ومما ينبغي أن يُعلم أن كثيرًا من الناس لا يعلمون كونَ الشرك من الظلم، وأنه لا ظلمَ إلا ظلم الحكّام أو ظلم العبد نَفسَه، وإن علموا ذلك من جهة الاتباع والتقليد للكتاب والسنة والإجماع لم يفهموا وجهَ ذلك، ولذلك لم يسبق ذلك إلى فهم جماعة من الصحابة لما سمعوا قوله: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) (1)، كما ثبتَ ذلك في الصحيحين (2) من حديث ابن مسعود أنهم قالوا: أيُّنا لم يَظلِم نفسه؟! فقال رسول الله: “ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (3)؟ “. وذلك أنهم ظنوا أن الظلم -كما حدَّه طائفةٌ من المتكلمين- هو إضرارُ غيرِ مستحقّ، ولا يرون الظلم إلاّ ما فيه إضرارٌ بالمظلوم، إن كان المراد أنهم لن يضروا دين الله وعباده المؤمنين، فإن
__________
(1) سورة الأنعام: 82.
(2) البخاري (4476) ومسلم (124).
(3) سورة لقمان: 13.

(6/234)


ضرر دين الله وضرر المؤمنين بالشرك والمعاصي أبلغ وأبلغ. ومعلوم أن الله سبحانَه لا يضرهُ عبادُه ولا ينفعونه، وإنما يضرون أنفسهم، ولهذا قال: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ) (1)، فأخبر أن الكافر الذي كفر بربه وتركَ حقَّه وأشركَ به وعبدَ غيرَه وتعدَّى حدودَه وانتهكَ محارمَه لا يضرُّه شيئا، كما يَضرُّ المخلوق من السادة ونحوهم من يجحد حقوقهم ويكفُر نِعمَهم ويَعتدِي عليهم، فالله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ولا تُضْرَب له الأمثالُ.
ولهذا قال تعالى في الحديث الصحيح (2) عن أبي ذر -وهو أشرف حديث رواه أهل الشام-: “يا عبادي! إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّماً، فلا تظالموا” الحديث إلى قوله: “يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ” إلى قوله: “فمن وجدَ خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه “. وكذلك أخبر في القرآن أنه غنى عن خلقِه، لن يبلغوا نفعَه فينفعوه، كما يبلغ بعضهم نفع بعض، كما قال: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) (3)، وقال (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) (4)، وقال موسى: (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ
__________
(1) سورة آل عمران: 176.
(2) أخرجه مسلم (2577).
(3) سورة آل عمران: 97.
(4) سورة الزمر: 7.

(6/235)


وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)) (1) بعد أن أخبرهم أن ربهم تأذَّن (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)) (2) وقال سليمان: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)) (3). وقال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ) الآية (4). وقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) الآية (5). وقال: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (6). وقال عن بني إسرائيل: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)) (7)، فهذا نصٌّ في أنهم لم يظلموا الله وإنما ظلموا أنفسهم. وقال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)) (8).
ولكن عبادته وحده حقٌّ استحقَّه عليهم لذاته، كما قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)) (9)، فأخبر أنه إنما خلق الخلق لعبادته، وأخبر أن الذي خلقه لهم وأمره بهم ورضيه وأحبَّه وأراده بأمره
__________
(1) سورة إبراهيم: 8.
(2) سورة إبراهيم: 7.
(3) سورة النمل:40.
(4) سورة فصلت: 46.
(5) سورة الإسراء: 7.
(6) سورة البقرة: 286.
(7) سورة البقرة: 57.
(8) سورة الصافات: 22 – 23.
(9) سورة الذاريات: 56 – 58.

(6/236)


منهم هو عبادته، لم يُرِد منهم رزقًا ولا أن يطعموه، والرزق يَعُمُّ كلَّ ما ينتفع به الحيُّ ظاهرًا وباطنًا، فلم يُرِد منهم ما يريده السادةُ والمخلوقون من عُبَّادِهم، من جَلْب المنفعةِ إليهم التي هي الرزق.
وقال تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) الاية (1) فأخبر تعالى أنهم علموا يومئذٍ أن الحق لله، وأن أولئك الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله لم يكن لهم في ذلك الحقّ شي، بل كان دعواهم أن لهم حقا افتراءً افْتَرَوه، فضلَّ عنهم وقتَ الحقيقة ما افتَرَوه.
وفي الصحيحين (2) عن معاذ بن جبل أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال له: “هل تدري ما حقُّ اللهِ على العباد؟ “، قلت: الله ورسولُه أعلمُ، قال: “حقه عليهم أن يعبدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا” وذكر الحديث.
ولهذا يكثر من ذكر الشرك والكفر وأنواعه في القرآن، ويخبر بأنه ظلم، وأنه من أعظم الظلم، كقوله: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)) ” (3)، وقوله: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) إلى قوله: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)) (4). وقد أخبر المسيح أن العبادة ليست بحق للمخلوق، وإنما هي حقّ للخالق تعالى، في قوله: (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا
__________
(1) سورة القصص: 74، 75.
(2) سبق تخريجه.
(3) سورة البقرة: 254.
(4) سورة الفرقان: 27.

(6/237)


يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) (1). وفي الحديث الصحيح (2): “ومن أظلمُ ممن ذهب يخلق كخلقي “. وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ) الآية (3). وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)) (4). وقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ) الآيات (5). وقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين (6)).
وقوله في الذي آتاه الله الملك: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (7). وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) الآية (8). وقوله: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)) (9). وقوله: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)) (10). وقال: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (11). وقوله: (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا
__________
(1) سورة المائدة: 116.
(2) أخرجه البخاري (5953) ومسلم (2111) من حديث أبي هريرة.
(3) سورة الأنعام: 93.
(4) سورة السجدة: 22.
(5) سورة الكهف: 57.
(6) سورة الصف: 7.
(7) سورة البقرة: 258.
(8) سورة البقرة: 165.
(9) سورة الزخرف: 39.
(10) سورة النجم: 52.
(11) سورة النمل: 14.

(6/238)


جِثِيًّا (72)) (1)، (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) (2). وقال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) (3)، (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)) (4). وقال: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)) (5)، (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً) (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)) (6). وقوله: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)) (7). وقوله: (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)) (8). وقول أهل الأعراف: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)) (9). وقوله: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)) (10). وقوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)) (11) (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) (12) (وَوَقَعَ الْقَوْلُ
__________
(1) سورة مريم:72.
(2) الكهف:59.
(3) الكهف: 29.
(4) طه: 111.
(5) مريم: 38.
(6) الأنبياء: 3، 11، 46.
(7) المؤمنون: 28.
(8) المؤمنون: 93 – 94.
(9) الأعراف: 47.
(10) الشعراء: 227.
(11) الفرقان: 37.
(12) النمل:52.

(6/239)


عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا) (1). وقوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) (2). والآيات في هذا كثيرة.
وهؤلاء الذين قالوا: إن الظلم إضرار غير مستحق، قصدوا بذلك الظلم المعروف بينهم، وهو ظلم العباد الذين يتضررون بالظلم في حقوقهم. وأما الظلم في حق الله تعالى فلم يستشعروه ولم يقصدوه، ولعلهم لا يعدُّونه ظلمًا، كما هو في أكثر النفوس العامية، بناءً على أن الله غني لا يلحقه ضرر، لكن أكثر هؤلاء مع هذا يوجبون شكره على إحسانه إليهم بالعقل المجرد قبل ورود شرع إذا فُرِضَ خُلُوُّ العباد عن شرع يجعلون العقل معرِّفًا لوجوب ذلك معً الشرع، كما تُعرف بالعقل أمورٌ كثيرة تُعرف بالشرع أيضًا، مع علمهم بأنه سبحانه لا ينتفع بشكر الشاكرين، ولا يتضرر بكفر الكافرين. ومعلومٌ أن تركَ الحق الواجب ظلمٌ، فيناسب أصولهم أن لا يكون الظلم مجردًا لإضرار غير المستحق، بل يدخلُ فيه تركُ ما يُحَبّ لذاته وفعلُ ما يقبح لذاته عندهم. ولهذا يقولون: إنه عُرِف بالعقل أن الظلم من الله قبيح وإن كان لا يتضرر بفعله. وهذا فيه حقٌّ، لكنهم يعنون بذلك أن الظلم منه نظير الظلم من العباد بعضهم بعضًا، فيجعلون لله أندادًا، ويُمثلونَه بخلقِه، ويَضرِبون له الأمثال، ومن هنا وقعوا في الضلال، وصاروا من القدرية المجوسية المنكرين لمشيئته النافذة وقدرته الكاملة وخلقه للأفعال. ومنهم من ينكر علمه القديم وكتابه المحيط بجميع الأحوال.
__________
(1) سورة النمل: 85.
(2) سورة القصص: 40.

(6/240)


وقد عارضَهم آخرون من المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر، وهم فيما أثبتوه “من علم الله ومشيئته وقدرته وخلقه على الصواب الموافق للكتاب والسنة وإجماع الأمة، لكن نازعوهم فيما تنزه الله عنه من الظلم، وفيما يجب له على خلقِه من الحق، نزاعًا فيه نوع من الباطل في الجدال، وقالوا: إذا كان الله لا يتضرر بما يفعله ولا ينتفع به ولا يأمر به، فلا معنى لتنزيهه عن فعل قبيحٍ أوتسمية شيء مما يقدر عليه قبيحًا أو ظلمًا أو سَفَهًا، لأنه لا يتضرر بهذه الأشياء ولو نسبت إليه، إذ هذه الأسماء لا تكون إلا لمن ينتفع بفعله ويتضرر به، أو لمن فوقَه آمِر مُطاع أمرُه يخافُه، وإذا كان لا ينتفع بشيء من معرفةِ عباده وعبادتهم وشكرهم فلا معنى لإيجاب شيء عليهم له. وإذا كان لم يأمرهم ولم ينههم فلا معنى لقُبحِ شيء منهم، ولا معنى لقبح فعل العبد إلا كونه منهيًّا عنه، ولا معنى لحبّه إلا كونه مأمورًا به.
وهؤلاء وإن كان في كلامهم نوعٌ من المردود المخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، فالحق الذي معهم أضعافُ الحق الذي مع الأولين، وهم الذين يجعلون العقل معرِّفًا، وهم الذين قالوا: إضرار غير مستحق. فإن مخالفة أولئك للكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة أوقعَهم في أمورٍ عظيمة، وعَظُمَ الذمُّ لهم بسبب ذلك. وأما هؤلاء فقصَّروا نوعَ تقصيرٍ لدقةِ الأمر وغموضِه، وحصلَ منهم نوعُ تعدٍّ باجتهادٍ قَلَّ أن يَسْلَم منه في هذه المضايقِ إلا من شاء الله، ولهذا كانوا مضافين إلى السنة والجماعة، وكان الأولون داخلين في الفرقة والخروج.

(6/241)


وقد تكلمتُ على مسألة التحسين والتقبيح العقلي وعلى مسألة تنزيه الربّ عن الظلم في غير هذا الموضع بما يُوقِفُ مُريدَ الحق على حقيقة الأمر إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولم يكن الغرض هنا ذِكر هذا، وإنما بيَّنّا ذلك لاتصال الكلام به، لأنه بسبب كونِ الظلم في النفوس عامةً مستلزمًا لاحتراز المظلوم من الظلم، وكونِ الحق مستلزمًا لنفع المستحقِّ، ولم يَهتدِ أكثرهم إلى كونِ عبادةِ الله وحدَه حقاً له، وكونِ الشركِ ظلمًا في حقه.
ثم اضطربوا في وجه التكليف وجنسه، فزعمت المعتزلة ونحوهم ممن يتكلم في التعديل والتجويز (1) أن ذلك لما فيه من تعريض المكلَّف للنفع الذي لا يحصل بدونه، وكان هذا الكلام من اللغو بيَّن الناس بطلانه من وجوهٍ كثيرة. هذا مع أنهم يُوجِبون شُكره بدون التكليف الشرعي، وهذا تناقضٌ بيِّن.
وقال آخرون من المنتسبين إلى السنة: إن ذلك محض المشيئة وصدق الإرادة، وهذا الإطلاق غالب على أهل السنة الظاهرين من فقهاء أهل السنة ومتكلميهم، ومعلومٌ أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لكن لا ينكر العاقل ما في خلقه وأمره من أنواع الحكمة والمصالح لخلقه، بل إخلاء الوجود من الوجوه التي فيها المناسبة لأحكامها من الظلم، فقد سلمت الشريعة لبابها وحرر الفقه في الدين صاحبه، ولم يفهم المعارض كون السنة التي سنَّها الرسول هي
__________
(1) في هامش الأصل: “أي يقولون هذا يُجوِّز هذا، وهذا يَجُوز أن يكون ويجوز أن [لا] يكون “. ولعل الأرجح: “التجوير” من الجور، انظر (ص 50).

(6/242)


الحكمة، وأن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة.
ثم من تدبَّر قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) (1) وقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)) (2) وقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) (3) وقوله: “أتدري ما حق الله على عباده ” (4) = عَلِمَ أنه يستحق أن يُعبَد، وأن في الشرك والفواحش ما يوجب قبحها وقبحه وتحريمه، وظَهر له الفرقُ بين ما اتفقت عليه الرسل من الأمر الذي لا يقبل النسخ، مثل الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح الذي أصله عبادةُ الله وحدَه لا شريك له، وما فيه من تحريم قتل النفس بغير حق والزنا والكذب والظلم وغير ذلك مما أنزل الله فيه السور المكية المشتملة على أصول الدين، وما شرعت فيه شرائع الرسل مثل صفة العبادات وأقدارها ومقادير العقوبات وأنواعها وغير ذلك مما أنزله الله في السور المدنية، وأنزل فيها ما جعله لأهل القرآن من الوجهة والشرعة والمنهاج والمنسك، وفضَّلهم بذلك على سائر الأمم. والحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتمَّ علينا نعمتَه ورضيَ لنا الإسلام دينًا.
__________
(1) سورة الأعراف: 28.
(2) سورة لقمان: 13.
(3) سورة الذاريات: 56.
(4) سبق تخريجه.

(6/243)


فصل
ولهذا قال آخرون من المُتَسنِّنة: إن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كما يقول العرب (1): “مَن أشبَه أباه فما ظلم ” أي ما وضعَ الشَّبَهَ في غير موضعه. وهذا الحدُّ أسلمُ من الأول الذي تكلمنا عليه في الفصل قبله، لكن فيه إجمالٌ، فإنه يحتاج إلى بيان موضع الشيء، وهو يرجع إلى معرفة الحق، فكأنه قال: الظلم تركُ الحق. ولكن هذا الإجمال لا يمنع أن يكون كلامًا سديدًا، وأن هذا الأمر العام لا يُعبَّر عنه إلاّ بمثل هذه العبارة الجامعة، وأما التفصيل ففي كلّ موضعٍ بحسبه.
ولهذا كان الحدُّ الأول فيه هذا، وهو قوله في الفصل قبله: “إضرار غير مستحق”، فإن قول القائل: “إضرار غير مستحق ” فيه من الإجمال نحو هذا، فلا بدَّ من معرفة المستحق، فيحتاج إلى بيان الحق والعدل المضادّ للظلم. فإذا كان كلٌّ من الحدَّين موقوفًا على معرفة الحق، وكان الأول هو الجامع للمعنيين، كان أَحكم، ولذلك قال بعضهم: الظلم نقص الحق أو النقص عن الواجب أو نحو ذلك، مستشهدين بقوله: (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (2) أي لم تنقص منه شيئًا. وهذا وإن كان صحيحًا فظاهره إنما يتناول أحدَ نوعي الظلم، وهو ترك
__________
(1) انظر: الحيوان (1/ 332) وأمثال أبي عبيد (ص 145، 160) وفصل المقال (ص 185) وجمهرة الأمثال للعسكري (2/ 244) ومجمع الأمثال للميداني (2/ 300).
(2) سورة الكهف: 33.

(6/244)


الواجب، وقد يستلزم الآخر، وهو تعدِّي الحدّ، فإن من تعدَّى الحدَّ لا بدَّ أن ينقص حقَّ المتعدَّى عليه، فنقصُ الحقّ ملازمٌ لمسمَّى الظلم، وهو فساد الحدّ الثاني في العموم، فإن وضع الشيء في غير موضعه نقصٌ وخلوٌّ لموضعه منه. وربّما يقال: هو أعم منه (1) لأن نقص الحق قد يكون تركًا له بالكلية، وقد يكون نقلاً له إلى موضع آخر، وقد يقال: لا يكون إلاّ أمرًا موجودًا ثابتا، وإن استلزم عدم أمورً أخرى، فلا بدّ له من محلّ، فإذا لم يوضع في موضعه وُضِع في غيره، وهو الظلم. أما العدم المحض الذي لا يستلزم حقاً مرتبًا وأمرًا وجوديًّا فليس بشيء أصلاً، فلا يقال فيه: إنه ظلمٌ ولا إنه غيرُ ظلمٍ.

وهذه معانٍ فيها دقةٌ، قد تكلمتُ على أصلها في “قاعدة العلم والإرادة وتعلقهما بالموجود والمعدوم “، فقد عاد معرفة الظلم مفتقرًا إلى معرفة الحق. وقد تكلمتُ على معنى الحق في غير هذا الموضع، وأنه يُعنَى به الموجود تارةً وما يَستحقّ الوجود، أي أن يُوجد منا فعلُ الطاعة، وهو المانع أخرى. ففي الكلام الخبري الحقُّ هو الثابت والعلم به والخبر عنه. وفي الكلام الطلبي الحقُّ هو ما يُبتغى وجودُه أو ما يستحق الوجود كالنافع للعبد، وهو الخير وهو الحق وإرادته والأمر به، الباطل يُضادُّه، كقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” كل لهوٍ يَلْهُو به الرجلُ فهو باطلٌ إلأَ رَمْيَه بقوسِه وتأديبَه فرسَه وملاعبتَه امرأتَه، فإنّهن من الحق” (2)، أي أن اللهو لا منفعةَ فيه ولا فائدةَ له إلاّ في هذه الأمور. وكذلك قوله:
__________
(1) في هامش الأصل: “أي أن الظلم قد يقع عاما في جميع الأشياء”.
(2) سبق تخريجه.

(6/245)


“الوتر حق ” (1) ونحو ذلك مما يَصِفُ فيه الأفعالَ بأنها حقٌّ أو باطلٌ، كما وصف الله أعمال الكفّار بانها باطلٌ، ولهذا يقول الفقهاء: عملٌ وعقدٌ صالح وصحيح، وبإزائه الباطلُ، فما حصلَ به مقصودُه وتَرتَّبَ عليه أثرُه فهو الصحيح وهو الصالح، وما لم يحصل به مقصودُه ولا تَرتَّبَ عليه أثرٌ فهو باطلٌ.

إذا تقررتْ هذه الأمور فاعلم أن العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق، ويكون بدون ذلك في الجمادات والحيوانات في كل يابسٍ ورَطْب، فليس كل من وقعَ الظلمُ في حقِّه يكون متضررًا به، وإنما حَصَلَ الضررُ لغيرِه لعدمِ العدلِ فيهِ. وتدبَّرْ هذا في الاَنية والأطعمة والملابس والأشجار والثمار والزروع ونحو ذلك، فإنّ البيت المبنيَّ إذا نقصَ أحدُ الحائطَينِ المتناظرينِ عن الآخر أو جُعِلَ السَّقفُ أو بعضُ جذوعِه أقصرَ مما بين الحائطينِ كان هذا تركًا للعدلِ والحقِّ الذي يقوم به ذلك البناءُ، وكان هذا ظلمًا لأحد الحائطينِ ولأحد الجذعَينِ، ويقال فيه: هذا لا يصلحُ، ويقال: هذا الجذع يستحق أن يُوضَع هنا، وهذا الحائطُ يستحق أن يُجعَل بقدرِ هذا، ونحو ذلك من المعاني التي يُذكَر فيها الاستحقاق والمراد، ويُجعَل ذلك من العدل بينها، ويجعل بعضها يُطلَق إذا ما نقصَ عمَّا يستحقه أو وُضِعَ في غير موضعه. وذلك كلُّه مستلزمٌ ضرَر الساكن في
__________
(1) أخرجه أحمد (5/ 418) وأبو داود (1422) والنسائي (3/ 238) من حديث أبي أيوب الأنصاري. وأخرجه أحمد (5/ 357) وأبو داود (1419) من حديث بريدة بن الحصيب.

(6/246)


ذلك المسكن أو فواتَ الانتفاع المقصود، لأنه لم يُفعَل الشيء الذي ينتفع به، فنَقْصُ منفعتِه ظلمٌ.
وكذلك في اللباس، لو نَقَصَ أحدُ جانبَي الثوب عن الآخر، أو نقصَ ما يتمُّ به من خياطةٍ وقَدْرٍ، أو نقصَ الثوبُ عما يستحقه من النَّسْجِ أو الغَزْل أو نحوه= قيل فيه: لم يُعْطَ حقَّه، وكان حقه أن يُفعَل به كذا وكذا، وكان الواجب أن يُسوىَ بين هذا وهذا، وهذا عدلٌ وهذا ظلمٌ، وقد ظلم هذا الجانب هذا الموضع ونحوه.
وكذلك في الأطعمة، في أجزاء الطعام ومقدارِ طَبْخِه ونحو ذلك، لها حقوقٌ مبناها على العدل. وكذلك في الزُّروع إذا أُثيرت الأرضُ وبُذِرتْ وسُقِيَ الزرعُ ونُظّفَ على الوجه الذي يستحقه، وإلاّ قيل: هذا كان يستحقُّ كذا وكذا، وهذا الزرع لم يُعطَ حقَّه، ونحو ذلك. فإذا عُمِلَ كما يستحقه وأخرج الثمر قيل: أخرج ثمره ولمِ يظلم منه شيئًا، كما قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (1)، فهنا جعل الظلم من نفس الجماد، لأنه لما أُعطِي حقه من عمل العبد فيه لم يظلم عامله شيئًا، كما قد يُجعَل لها فتكون ظالمةً تارةً ومظلومةً أخرى، كما قال النابغة (2):
وَقفتُ فيها أُصَيلاَلاً أُسَائِلُها … عَيَّتْ جوابًا وما بالرَّبْعِ من أحدِ
__________
(1) سورة الكهف: 32، 33.
(2) ديوانه (ص 14، 15).

(6/247)


إلاّ الأوارِيَّ لأيًا ما أُبَيِّنُها … والنُّوي كالحوضِ بالمظلومةِ الجلدِ
وما كان أشرف في ذاتِه مثل الخبز إذا أنتنَ أُلقِيَ في النتن وأُكرِمت العذرةُ ونحوها وفُضلت عليه في المكان وغيره= كان هذا ظلمًا له وتركًا لحقِّه، وإن لم يكن هو متضررًا في ذلك، وإنما المتضرر الظالم. ولهذا قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لعائشةَ لما رأى لُقمةً مُلقاةً: “يا عائشة، أَحسنِي جِوارَ نِعَم الله عندكِ، فإنها قَلَّ نِعمةٌ فارقَتْ قومًا (1) فعادت إليهم ” (2).
وقد ذمَّ الله قومًا بدَّلوا نِعَمَه كفرًا، وإن لم تكن بعض النعم متضررة، ولهذا ينهى عن الاستنجاء بما لهُ حرمةٌ، حتى الرَّوث والعظام التي هي طعام الجن وطعام دَوابِّهم، فكيف طعام الإنس وطعام دوابهم؟ وذلك وإن كان لما فيه من تفويت منفعتها على الجن فلها شَرَفٌ بذلك، حتى لو فوّتها الإنسان بغير الاستنجاء -مثل الكَسْر والتفتيت- لم يكن في ذلك بمنزلة المستنجي بها.

فكلُّ ما كانت المنفعةُ به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك، واستحقَّ ما لم يستحقَّه ما هو دونَه، وإن كان هو في نفسه لا يتضرَّرُ بتفويتِ حقِّه، سواء كانت ذاته ينتفع بها أو كانت المنفعة منه، وإن كان هو لا يتضرر بتفويت حقه، وقد قالت عائشة: أمرنا رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن ننزِّلَ الناسَ منازلَهم، رواه أبو داود وغيره (3). وكان قد وقف على بابها
__________
(1) في الأصل فوقها: “رواية: نفرت عن قوم”.
(2) أخرجه ابن ماجه (3353) عن عائشة. وضعَّفه الألباني في الإرواء (7/ 25).
(3) أخرجه أبوداود (4842) من طريق ميمون بن أبي شبيب عن عائشة، وقال: ميمون =

(6/248)


سائلانِ أحدُهما أشرفُ من الآخر، ففضَّلَتْه في العطاء.
وقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (1)، فأخبر أن الإفك عليهم -وهو من أعظم الظلم- هو خير لهم لا شر. لكن هذا قد يقال فيه: إنه وإن تضرر الإنسان بالكذب عليه، لكن لما كانت عاقبته منفعةً زائدةً كان خيرًا لا شرًّا. وقد قال تعالى: (وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى) الآية (2)، فأخبر أنهم لن يضروا المؤمنين إلاّ أذى، وإن كانوا مع هذا ظالمين للمؤمنين بالكذب والفجور.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (3)، فأخبر سبحانه أن الضالين لا يضرون المهتدين، وإن كانوا قد يؤذونهم، فالأذى ليس هو الضرر، وإن كانوا مع هذا ظالمين لهم بأنواع من الظلم، كما يظلم الكفّار المحاربون والمنافقون المؤمنين، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) إلى قوله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) (4). فأخبر عن هؤلاء المنافقين الظالمين للمؤمنين بما
__________
= لم يدرك عائشة. وعلَّقه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 6).
(1) سورة النور: 11.
(2) سورة آل عمران: 110 – 111.
(3) سورة المائدة: 105.
(4) سورة آل عمران: 118 – 120.

(6/249)


ذكر، وأن المؤمنين إذا صبروا واتقوا لا يضرهم كيدهم شيئًا.
فعُلِمَ أنه ليس كلُّ ظالم يضرُّ المظلومَ البتةَ، بل قد لا يضرُّه ظلمُه شيئًا وإن قَصَدَ الظالمُ إضرارَه، ومنه قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) الآية (1). ومعلومٌ أن ذلك من ظلمهم، ومع هذا فلا يضرونه.
وفي صحيح مسلم (2) عن سعد عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “من أكلَ سبعَ تمراتٍ مما بينَ لابَتَيْها حينَ يُصبح لم يَضُرَّه سُمٌّ حتى يُمسِيَ “. والسُّمّ قد يكون من شقي ظالم.
وفي الصحيح (3): “من قال إذا نزلَ منزلاً: أعوذ بكلمات الله التاماتِ من شر ما خلق، لم يضرَّه شيء في ذلك المنزل حتى يَرْتَحِلَ منه”. وقد يعرض له ظالمٌ من الإنس أو الجن بظلمٍ أو أذى ولا … (4) وقد أمر الله بالاستعاذة من شرِّ ما خلق، وشرّ النفاثات في العقد، وشرِّ حاسدٍ إذا حسد، ومن أعاذه الله لم يَضُره ذلك، وهو كله ظلم.
وكذلك قوله في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة: “لا يضرهم من خَذَلَهم ولا من خالفَهم ” (5)، فهم يُضَرون ويُخالَفون، وذلك ظلم،
__________
(1) سورة النساء: 113.
(2) برقم (2047).
(3) مسلم (2708) عن خولة بنت حكيم.
(4) هنا كلمة مطموسة في الأصل. ولعلها:” يضره ذلك “.
(5) سبق تخريجه.

(6/250)


ولكن لا يضرُّهم ذلك.

فإذا كان الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم، ولا أن يكون مما يضرُّ المظلوم، أو يكون المظلوم ممن يتضرر به، فالظلم في حق الله تعالى أولى أن يكون كذلك، فإن الله لا يضرُّ العباد أو يظلمهم، وإنما العباد يتضررون بترك الحق الذي استحقه لذاته، ويتضرر العبد بتركه، فإنَّ تَرْكَ حقِّ من يحتاج إليه العبد يَضرُّ العبد، والعبدُ لا صلاحَ له ولا قيامَ إلاّ بعبادة الله الجامعة لمعرفته ومحبته والذلِّ له، فتفويتُه هذا ظلمٌ عظِيمٌ فيه عليه الضرر العظيم الذي لا ينجبر.
ويُشبِهه من بعض الوجوه من كان عنده ما يحتاج إليه من الطعام والشراب فأتلفَه، واعتاض عنه بما ظنَّ أنه يقوم مقامَه من العَذِرَةِ والبول، فهذا ظلمٌ في حقِّ القوت ضَرَّ صاحبَه، والمستحق إذا ظلمَ حقّه فقد فوّت ما هو بالنسبة إليه كمالٌ مطلوب له ومحبوبٌ من جهته، فإن الجامدات إذا تُرِكَ ما تَستحمه بقيت ناقصةً عن كمالها الذي لها، والإنسان إذا ظُلِمَ حقَّه وإن لم يَضُرَّه فلابدَّ أن يكون قد فُوِّتَ ما هو محبوبٌ له وصلاح له.
والله سبحانه يحبُّ ما أمر به من الحسنات ويرضاه، وهو سبحانه يفرح بتوبة عبده إذا تابَ إليه أعظمَ مما يَفرحُ مَن أضلَّ راحلتَه التي عليها طعامُه وشرابُه في مفازة مهلكةٍ ثم وجدَها، وهذا أمر عظيم حيث كانت محبته ورضاه بإيمان العبد وطاعتِه أعظمَ من محبة العبد الفاقد الواجدِ لما لا بُدَّ له منه ولا قِوامَ له إلاّ به من القُوتِ والشراب والمركب

(6/251)


والسلامة. ولهذا يضحك الله إلى رجلين يَقتُلُ أحدُهما الآخر كلاهما يَدخُلُ الجنة، ونظائره كثيرة متعددة. وكذلك (1)
__________
(1) هنا ينتهي الكلام في النسخة.

(6/252)


مسألة في مقتل الحسين وحكم يزيد

(6/253)


سُئل -رحمه الله ورضي عنه-
عن مَقتل الحسين -رضي الله عنه- وما حكمُه وحكمُ قاتلِه؟ وما حكمُ يزيد؟ وما صحَّ من صفة مقتل الحسين وسَبْي أهلِه وحملهم إلى دمشق والرأس معهم؟ وما حكمُ معاوية في أمر الحسن والحسين وعلي وقتل عثمان ونحو ذلك؟
فأجاب -رضي الله عنه-
الحمد لله. أما عثمان وعلي والحسين -رضي الله عنهم- فقُتِلوا مظلومين شهداءَ باتفاق أهل السنة والجماعة، وقد ورد في عثمان وعلي أحاديث صحيحة في أنهم شهداء وأنهم من أهل الجنة، بل وفي طلحة والزبير أيضا، كما في الحديث الصحيح (1) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال للجبل لما اهتزَّ ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي: “اثبُتْ حِرَاءُ -أو أُحُدُ- فإنما عليك نبيٌّ وصدّيقٌ وشهيدان “. بل قد شهد النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بالجنة للعشرة (2)، وهم: الخلفاء الأربعة وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح.

أما فضائل الصدِّيق فكثيرة مستفيضةٌ، وقد ثبتَ من غير وجه عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال (3): “لو كنتُ متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذتُ
__________
(1) أخرجه البخاري (3675) من حديث أنس بن مالك. وأخرجه مسلم (2417) عن أبي هريرة بنحوه.
(2) أخرجه أحمد (1/ 189) وأبو داود (4648) والترمذي (3748) وابن ماجه (133) من حديث سعيد بن زيد. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3) أخرجه البخاري (466، 3654) ومسلم (2382) من حديث أبي سعيد =

(6/255)


أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله” يعني نفسَه. وقال: “إنَّ أَمَنَّ الناسِ علينا في صُحبتِه وذاتِ يدِه أبو بكر”. وقال: “لا يبقينَّ في المسجد خَوخَة إلأَ سُدَّتْ إلأَ خوخة أبي بكر”. وقال لعائشة (1): “ادْعِيْ لي أباك وأخاكِ، حتى أكتُبَ لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناس من بعدي “. ثم قال: “يأبي الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر”. وجاءتْه امرأة فسألَتْه شيئًا، فأمرَها أن تَرجعَ إليه، فقالت: أرأيتَ إن جئتُ فلم أجدْكَ؟ – كأنها تَعنِي الموت- قالَ: “إن لم تجديني فائْتِي أبا بكر” (2). وقَال: “أيها الناس، إني جئتُ إليكم فقلتُ: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقتَ، ووَاسَانِي بنفسِه وماله، فهل أنتم تَارِكُو لي صاحبي؟ ” (3).
وهذه الأحاديث كلها في الصحاح ثابتة عند أهل العلم بالنقل. وقد تواترَ أنه أمره أن يُصلِّي بالناس في مرضِ موته، فصلَّى بالناس أيامًا متعددةً بأمرِه، وأصحابُه كلُّهم حاضرون- عمر وعثمان وعلي وغيرهم- فقدَّمَه عليهم كلِّهم. وثبت في الصحيح (4) أن عمر قال له بمحضرٍ من المهاجرين والأنصار: “أنتَ خيرُنا وسيِّدُنا وأحبُّنا إلى
__________
= الخدري بنحوه إلاّ جملة “لكن صاحبكم خليل الله”، فهي في حديث جندب بن عبد الله عند مسلم (532).
(1) أخرجه مسلم (2387) من حديث عائشة. ورواه البخاري (7217) بنحوه.
(2) أخرجه البخاري (3659) ومسلم (2386) من حديث جبير بن مطعم.
(3) أخرجه البخاري (3661) من حديث أبي الدرداء.
(4) البخاري برقم (3668).

(6/256)


رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – “. وثبت في الصحيح (1): أنَّ عمرو بن العاصي سألَه عن أحبِّ الرجال إليه، فقال: “أبو بكر”.
وفضائل عمر وعثمان وعلي كثيرة جدًّا ليس هذا موضع بَسطِها، وإنما المقصود أن من هو دون هؤلاء- مثل طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف- قد تُوفَي رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وهو عنهم راضٍ، كما ثبت ذلك في الصحيح (2) عن عمر أنه جعلَ الأمر شورى في ستَهٍ: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن، وقال: هؤلاء الذين توفي رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وهو عنهم راضٍ. بل قد ثبتَ في الصحيح (3) من حديث علي بن أبي طالب أن حاطب بن أبي بَلْتَعَة قال فيه رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنه شهدَ بدرًا، وما يُدريك أنّ الله اطَّلع إلى أهلِ بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم “. وكانوا ثلاث مئة وثلاثة عشر.
وثبت في صحيح مسلم (4) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “لا يَدخلُ النارَ أحدٌ بايعَ تحتَ الشجرة”. وكان أهل الشجرة ألفًا وأربعمئةٍ كلهم رضي الله عنهم ورَضُوا عنه، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، فهم أعظم درجةً ممن أنفقَ من بعد الفتح وقاتلَ. وثبتَ في الصحيح (5) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه
__________
(1) البخاري (3662) ومسلم (2384).
(2) البخاري (3700).
(3) البخاري (3983) ومسلم (2494).
(4) برقم (2496) عن أم مبشر.
(5) البخاري (3673) ومسلم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري.

(6/257)


قال: “لا تَسُبُّوا أصحابي، فلو أنفقَ أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلغَ مُدَّ أحدِهم ولا نَصِيْفَه “. وثبت في الصحيح (1) أن غلامَ حاطبٍ قال: والله يا رسول الله، ليَدخلَنَّ حَاطبٌ النارَ، فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – له: “كذبتَ، إنه قد شهدَ بدرًا والحديبية”. وهذا وقد كان حاطبٌ سَيِّئ المَلكَةِ، وقد كاتبَ المشركينَ باخبار رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في غزوةِ الفتح، ومع هذه الذنوب أخبر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه ممن يدخلُ الجنَّة ولا يدخلُ النار، فكيف بمن هو أفضَلُ منه بكثير؟ كعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف.
وأما الحسين فهو وأخوه سيِّدا شباب أهل الجنة (2)، وهما رَيْحانةُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من الدنيا، كما ثبت ذلكَ في الصحيح (3). وثبتَ في الصحيح (4) أنه أدارَ كساءَه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين، وقال: “الَّلهمّ هؤلاء أهلُ بيتي، أَذهِبْ عنهم الرجسَ وطهِّرهم تطهيرًا”. وإن كان الحسنُ الأكبر هو الأفضل، لكونه كان أعظمَ حلمًا وأرغبَ في الإصلاح بين المسلمين وحَقْنِ دماءِ المسلمين، كما ثبتَ في صحيح البخاري (5) عن أبي بكرة قال: رأيتُ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على المنبر
__________
(1) مسلم (2195) من حديث جابر.
(2) أخرجه أحمد (3/ 3، 62، 64، 84) والترمذي (3768) والنسائي (5/ 50) من حديث أبي سعيد الخدري. وصححه الترمذي. وفي الباب عن غيره من الصحابة.
(3) البخاري (3753، 5994) عن ابن عمر.
(4) مسلم (2424) عن عائشة.
(5) برقم (2704).

(6/258)


والحسنُ بن علي إلى جانبه، وهو يُقبلُ على الناس مرةً وعليه أخرى، ويقول: “إنَّ ابني هذا سيد، ولعلَّ الله أن يُصلحَ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين “. وفي صحيح البخاري (1) عن أسامة قال: كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يأخذني فيُقعِدني على فخذِه، ويُقعِد الحسنَ على فخذِه الأخرى، ويقول: “اللهمَ إني أحِبُّهما، فأَحبهما، وأَحِبَّ من يُحِبُّهما”. وكانا من أكرهِ الناس للدخول في اقتتال الأَمة.
والحسين -رضي الله عنه- قُتِل مظلومًا شهِيدًا، وقتَلَتُه ظالمون متعدُّون، وإن كان بعض الناس يقول: إنه قُتِلَ بحق، ويحتِجّ بقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” من جاءكم وأمرُكم على رجلٍ واحدٍ يُرِيد أن يُفرِّق بين جماعتكم فاضربوا عُنُقَه بالسيف، كائنًا من كان “. رواه مسلم (2). فزعم هؤلاء أن الحسين أتى الأمةَ وهم مجتمعون، فأراد أن يُفرِّق الأمة، فوجبَ قتلُه. وهذا بخلاف من يتخلَّف عن بيعة الإمام ولم يَخرُج عليه، فإنه لا يجب قتلُه، كما لم يقتُل الصحابة سعد بن عُبادة مع تخلُّفِه عن بيعةِ أبي بكر وعمر.
وهذا كذِبٌ وجهل، فإن الحسين رضي الله عنه لم يُقتَل حتى أقامَ الحجةَ على من قتلَه، وطلبَ أن يذهبَ إلى يزيدَ أو يرجعَ إلى المدينة أو يذهبَ إلى الثَّغْر. وهذا لو طلبَه آحادُ الناس لوجبَ إجابتُه، فكيف لا يجب إجابةُ الحسين رضي الله عنه إلى ذلك وهو يطلب الكفَّ والإمساك؟
__________
(1) برقم (3735).
(2) برقم (1852) عن عرفجة.

(6/259)


وأما أصل مجيئه فإنما كان لأن قوماً من أهل العراق من الشيعة كتبوا إليه كتبًا كثيرة يشتكون فيها من تغيُّرِ الشريعة وظهور الظلم، وطلبوا منه أن يقدمَ ليبايعوه ويعاونوه على إقامة الشرع والعدل، وأشار عليه أهلُ الدين والعلم- كابن عباس وابن عمر وابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام- بأن لا يذهب إليهم، وذكروا له أن هؤلاء يَغُرُّونَه، وأنهم لا يُوفُون بقولهم، ولا يَقدِر على مطلوبه، وأن أباه كان أعظمَ حرمةً منه وأتباعًا ولم يتمكَّن من مرادِه. فظنَّ الحسين أنه يَبلُغ مرادَه، فأرسلَ ابنَ عمّه مسلم بن عَقِيل، فاَوَوه أوّلاً ثمَّ قتلوه ثانيًا، فلما بلغَ الحسينَ ذلك طلبَ الرجوعَ، فأدركَتْه السريَّةُ الظالمةُ، فلم تُمكِّنْه من طاعة الله ورسوله، لا من ذهابه إلى يزيد، ولا من رجوعِه إلى بلدِه ولا إلى الثَّغْر. وكان يزيدُ لو يجتمعُ بالحسين من أحرصِ الناس على إكرامِه وتعظيمه ورعايةِ حقِّه، ولم يكن في المسلمين عنده أجلُّ من الحسين، فلما قتله أولئك الظَّلَمة حَملُوا رأسَه إلى قدّام عبيدِ الله بن زياد، فنكَتَ بالقضيب على ثناياه، وكان في المجلس أنس بن مالك فقال: إنك تنكتُ بالقضَيب حيثُ كان رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُقبِّلُ. هكذا ثبتَ في الصحيح (1)، وفي المَسند (2) أن أبا بَرْزَةَ الأسلمي كان أيضًا شاهدًا. فهذا كان بالعراق عند ابن زياد.
وأما حملُ الرأس إلى الشام أو غيرها والطوافُ به فهو كَذِبٌ، والروايات التي تُروَى أنه حُمِلَ إلى قُدَّام يزيدَ ونكتَ بالقضيب =
__________
(1) البخاري (3748) عن أنس.
(2) لم أجده فيه.

(6/260)


روايات ضعيفةٌ لا يَثبتُ شيء منها، بل الثابتُ أنه لما حُمِلَ علي بن الحسين وأهلُ بيته إلى يزيد وقعَ البكاءُ في بيتِ يزيد، لأجل القرابة التي كانت بينهم، لأجل المصيبة. ورُوِي أن يزيد قال: لعنَ الله ابنَ مَرجانة- يعني ابنَ زياد-، لو كان بينه وبين الحسين قرابةٌ لما قتلَه. وقال: قد كنت أرضَى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين. وأنه خيَّر علي بن الحسين بين مُقامِه عنده وبين الرجوع إلى المدينة، فاختار الرجوع، فجهَّزه أحسن جهاز.
ويزيدُ لم يأمر بقتل الحسين، ولكن أمرَ بدفعِه عن منازعتِه في الملك، ولكن لم يَقتُل قَتَلةَ الحسين ولم يَنتقِم منهم، فهذا مما أُنكِر على يزيد، كما أُنكِر عليه ما فَعَلَ بأهلِ الحرَّةِ لمّا نكَثوا بيعته، فإنه أمرَ بعد القدرة عليهم بماباحةِ المدينةِ ثلاثًا. ولهذا قيل لأحمد بن حنبل: أيُؤخَذُ الحديثُ عن يزيد؟ فقال: لا، ولا كرامةَ، أوَ ليس هو الذي فعلَ باهل المدينة ما فعل؟ وقيل له: إنّ قومًا يقولون: إنّا نُحِبُّ يزيدَ، فقال: وهل يُحِبُّ يزيدَ مَن يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر؟ فقيل له: أوَ لا تلعنُه؟ فقال: متى رأيتَ أباكَ يلعنُ أحدًا؟

ومع هذا فيزيدُ أحد ملوك المسلمين، له حسناتٌ وسيئات كما لغيره من الملوك، وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن عبد الله بن عمر أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “أولُ جيشٍ يَغزو القُسطَنطينية مغفورٌ له “. وأولُ جيشٍ غزاها كان أميرهم يزيد، غزاها في خلافة أبيه معاوية، ومعه أبو
__________
(1) برقم (2924) ولكن عن أم حرام بنت ملحان لا ابن عمر.

(6/261)


أيوب الأنصاري ومات ودُفِن هناك.
ويزيد هذا ليس هو من الصحابة، بل وُلِد في خلافة عثمان، وأما عفُه يزيد بن أبي سفيان فهو من الصحابة، وهو رجلٌ صالح، أمَّره أبو بكر في فتوح الشام ومَشى في ركابه، ووَصَّاه بوصايا معروفةٍ عند الفقهاء يعملون بها، ولما مات في خلافة عمر وَلَّى عمرُ أخاه معاويةَ مكانَه، ثمَّ وَلِي عثمانُ فأقره وولاه إلى أن قُتِل عثمان، ووُلِد له يزيد ابنُه في خلافة عُثمان.

ولم يُسْبَ قطُّ في الإسلام أحدٌ من بني هاشم، لا علوي ولا غير علوي، لا في خلافة يزيد ولا غيرها، وإنما سَبَى بعضَ الهاشمياتِ الكُفَّارُ من المشركين وأهلِ الكتاب، كما سَبَى التركُ المشركون من سَبَوه لما قَدِموا بغداد، وكان من أعظم [أسباب] سَبْي الهاشميات معاونةُ الرافضةِ لهم كابن العَلْقَمي وغيرِه. بل ولا قَتَلَ أحدٌ من بني مروان أحدًا من بني هاشم- لا علويّ ولا عباسيّ ولا غيرهما- إلاّ زيدَ ابن علي، قُتِلَ في خلافة هشام. وكان عبد الملك قد أرسلَ إلى الحجاج: إيَّايَ ودماء بني هاشم، فلم يَقتل الحجاجُ أحدًا من بني هاشم لا علويّ ولا عباسيّ. بل لمّا تزوج بنتَ عبدِ الله بن جعفر فأمره عبد الملك أن يُفارقَها، لأنه ليس بكُفْؤٍ لها، فلم يروه كُفْوا أن يتزوج بهاشمية.
وأما معاوية لما قُتِلَ عثمانُ مظلومًا شهيدًا، وكان عثمان قد أمرَ الناس بأن لا يُقاتِلُوا معه، وكَرِهَ أن يُقتَل أحدٌ من المسلمين بسببه،

(6/262)


وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد بَشَّره بالجنَّة على بَلْوى تُصِيبُه (1)، فأحبَّ أن يَلقَى الله سالمًا من دماءِ المسلمين، وأن يكون مظلومًا لا ظالمًا، كخيرِ ابنَيْ اَدمَ الذي قال: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)) (2). وعلي بن أبي طالب بريءٌ من دمه لم يَقتُلْه ولم يُعِنْ عليه ولم يَرضَ، بل كان يَحلِفُ وهو الصادق المصدوقُ أني ما قتلتُ عثمانَ ولا أَعَنتُ على قتلِه ولا رضيتُ بقتلِه. ولكن لمَّا قُتِلَ عثمان وكان عامة المسلمين يحبون عثمانَ لحِلْمِه وكرمِه وحسنِ سيرتِه، وكان أهلُ الشام أعظمَ محبةَ له، فصارت شيعةُ عثمانَ إلى أهل الشام، وكثُر القيلُ والقالُ كما جَرتِ العادةُ بمثل ذلك من الفتن، فشَهِدَ قوم بالزُّور على علي أنه أعان على دم عثمان، فكان هذا مما أوغَرَ قلوبَ شيعة عثمان على عليّ، فَلم يبايعوه، وآخرون يقولون: إنه خَذَلَه وتَرَك ما يَجبُ من نَصْرِه، وقَوىَ هذا عندهم أنَّ القَتَلَة تحيَّزتْ إلى عسكرِ عليَّ، وكان عليّ وطلحة والزبيرُ قد اتفقوا في الباطن على إمساك قَتَلَةِ عثمان، فسَعَوا بذلك، فأقاموا الفتنةَ عامَ الجمل، حتى اقتتلوا من غير أن يكون عليٌّ أرادَ القتالَ ولا طلحةُ ولا الزبيرُ، بل كان المحرِّكُ للقتال الذين أقاموا الفتنةَ على عثمان.
فلمَّا طلبَ عليّ من معاوية ورعيتِه أن يبايعوه امتنعوا عن بيعته، ولم يبايعوا معاويةَ، ولا قالَ أحدٌ قطُّ: إن معاويةَ مثلُ علي، أو إنّه أحق من علي بالبيعة، بل الناس كانوا متفقين على أن عليَّا أفضلُ وأحق،
__________
(1) أخرجه البخاري (3674) ومسلم (2403) من حديث أبي موسى الأشعري.
(2) سورة المائدة: 28.

(6/263)


ولكن طلبوا من علي أن يُقيمَ الحدَّ على قَتَلَةِ عثمانَ، وكان عليٌّ غيرَ متمكن من ذلك لتفرُّقِ الكلمةِ وانتشار الرعيَّةِ وقوة المعركةِ لأولئك، فامتنعَ هؤلاءِ عن بيعته، إمّا لاعتقادهم أنه عاجزٌ عن أخذِ حقِّهم، وإما لِتوهُّمِهم محاباةَ أولئك، فقاتلَهم عليٌّ لامتناعِهم من بيعتِه، لا لأجلِ تأميرِ معاوية.

وعليٌّ وعسكره أولَى من معاويةَ وعسكرِه، كما ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “تَمْرُقُ مارقةٌ على حينِ فُرقة من المسلمين، تَقتُلُهم أَولَى الطائفتينِ بالحق”. فهذا نَصٌّ صريحٌ أن علي ابن أبي طالب وأتباعه أولَى بالحقّ من معاويةَ وأصحابه. وفي صحيح مسلم (2) وغيرِه أنه قال: “يقتلُ عمارا الفئةُ الباغيةُ”.
لكن الفئة الباغية هل يجب قتَالُها ابتداء قبلَ أن تَبدأ الإمامَ بالقتالِ، أم لا تُقاتَل حتى تبدأ بالقتال؟ هذا مما تنازع فيه العلماء، وأكثرهم على القول الثاني، فلهذا كان مذهب أكابر الصحابة والتابعين والعلماء أنَّ تَرْكَ على القتالَ كان أكملَ وأفضلَ وأتمَّ في سياسة الدين والدنيا. ولكنْ عليٌّ إمامُ هدَى من الخلفاء الراشدين، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” تكون خلافة النبوة ثلاثين سنةً، ثمَّ تصِيرُ مُلْكًا”. رواه أهل السنن (3)، واحتجَّ به أحمد وغيرُه على خلافةِ عليّ والردّ على من طعنَ فيها، وقال أحمد: من لم يُرَبِّعْ بعلي في خلافته فهو أضلُّ من حمارِ أهلِه.
__________
(1) مسلم (1065) عن أبي سعيد الخدري.
(2) برقم (2915، 2916) عن أبي سعيد الخدري عن أبي قتادة وأم سلمة.
(3) أخرجه أبو داود (4646، 4647) والترمذي (2226) وغيرهما عن سَفِينة

(6/264)


والقرآن لم يأمر بقتالِ البغاة ابتداءً، بل قال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)) (1).
وما حرَّمه الله تعالى من البغي والقتل وغير ذلك إذا فعلَه الرجلُ متأوِّلاً مجتهدًا معتقدًا أنه ليس بحرامٍ لم يكن بذلك كافرًا ولا فاسقًا، بل ولا قَوَدَ في ذلك ولا ديةَ ولا كفارة، كما قال الزهري: وَقَعتِ الفتنةُ وأصحابُ رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – متوافرون، فأجمعوا أن كلَّ دم أو مالٍ أو فرجٍ أصيبَ بتأويل القرآن فهو هدر. وقد ثبتَ في الصحيح (2) أن أسامةَ بن زيدٍ قَتَلَ رجلاً من الكفار بعد ما قال “لا إله إلاّ الله “، فقال له النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “يا أسامةُ، أقتلتَه بعد ما قال لا إله إلاّ الله؟! ” قال؟ فقلتُ: يا رسول الله، إنما قالَها تَعوُّذًا، فقال: “هلاَّ شَقَقْتَ عن قَلْبه”. وكرَّرَ عليه قوله: “أقَتلتَه بعد ما قال لا إله إلاّ الله؟ “. ومع هذا فلمَ يحكم عليه بقَوَدٍ ولا دِيةٍ ولا كفارةٍ، لأنه كان متأوِّلاً اعتقدَ جوازَ قتلِه بهذا. مع ما رُوِيَ عنه أنّ رجلاً قال له: أرأيتَ إن قَطعَ رجل من الكفَّار يدي ثمَّ أسلمَ، فلما أردتُ أن أقتلَه لاَذَ منّي بشجرةٍ، أأقتُلُه؟ فقال: “إن قَتلتَه كنتَ بمنزلتِه قبلَ أن يقولَ ما قال، وكان بمنزلتك قبلَ أن تَقتلَه ” (3). فبيَّن أنك تكونُ
__________
(1) سورة الحجرات: 9، 10.
(2) البخاري (4269، 6872) ومسلم (96) من حديث أسامة بن زيد.
(3) أخرجه البخاري (4019، 6865) ومسلم (95) من حديث المقداد بن=

(6/265)


مُباحَ الدم كما كان مُباحَ الدم، ومع هذا فلما كان أسامةُ متأوِّلاً لم يُبِحْ دمه.
وأيضًا فقد ثبتَ (1) أنه أرسلَ خالد بن الوليد إلى بني جَذِيمةَ، فلم يُحسِنُوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صَبَأْنا صَبَأْنا، فلم يجعل خالد ذلك إسلامًا، بل أمرَ بقَتْلِهمِ، فلما بلغَ النبيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ذلك رَفعَ يديهِ إلى السماء وقال: “اللهم إني أبْرَأُ إليك مما فَعَلَ خالد”، وأرسلَ عليًّا فوَدَاهُم بنصفِ ديَاتِهم. ومع هذا فلم يُعاقِبْ خالدا ولم يَعْزِلْه عن الإمارة، لأنه كان متأوِّلاً. وكذلك فَعَلَ به أبو بكر لما قَتَلَ مالك بن نُوَيرةَ، كان متأوِّلاً في قتلِه فلم يُعاقِبْه ولم يَعْزِلْه، لأنَّ خالدًا كان سيفًا قد سلَّه الله تعالى على المشركين، فكان نفعُه للإسلام عظيما، وإن كان قد يُخطئ أحيانًا. ومعلومٌ أن عليًّا وطلحة والزبير أفضلُ من خالدٍ وأسامةَ وغيرِهما.
ولما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن الحسن: “إن ابني هذا سيد، وسيُصلحُ الله به بين فئتينِ عظيمتين من المسلمين “، فمدحَ الحسنَ على الإصلاح، ولم يَمدَح على القتال في الفتنة= علمنا أن الله ورسوله كان يحبُّ الإصلاح بين الطائفتين دون الاقتتال. ولما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح (2) في الخوارج: “يَحقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتِهم وقراءتَه مع قراءتِهم، يَقرءون القرآنَ لا يُجاوِزُ حَنَاجِرَهم، يَمرُقون من الإسلام
__________
= الأسود.
(1) أخرجه البخاري (4339، 7189) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) البخاري (693) ومسلم (1066) من حديث علي بن أبي طالب.

(6/266)


كما يَمرُقُ السَّهمُ من الرَّمِيَّةِ، أينما لَقِيْتمُوهم فاقتلوهم، فإنَّ في قَتْلِهم أجرًا عند الله لمن قَتَلَهم يومَ القيامةِ”، وقال (1): “يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق” ورُوِيَ (2): “أَولَى الطائفتينِ بالحق” من معاوية وأصحابه- أعلَمَ أن قتالَ الخوارج المارقةِ أهلِ النهروان الذين قاتلَهم علي بن أبي طالب، كان قتالُهم مما أمر الله به ورسولُه، وكان عليّ محمودًا مأجورًا مُثَابًا على قِتالِه إيّاهم. وقد اتفق الصحابة والأئمةُ على قتالِهم، بخلاف قتالِ الفتنة، فإن النصَّ قد دلَّ على أنَ تركَ القتالِ فيها كان أفضلَ، لقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:” ستكونُ فتنة القاعدُ فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي ” (3) ومثل قوله لمحمد بن مسلمة: “هذا لا تَضُرُّه الفتنةُ” (4)، فاعتزلَ محمد بن مسلمةَ الفتنةَ، وهو من خيار الأنصار، فلم يُقاتِل لا مع هؤلاءِ ولا مع هؤلاء. وكذلك أكثر السابقين لم يُقاتِلوا، بل مثل سعد بن أبي وقّاص ومثل أسامة وزيد وعبد الله بن عمر وعمران بن الحصين، ولم يكن في العسكرينِ بعد عليٍّ أفضلُ من سعد بن أبي وقاص ولم يقاتل، وزيد بن ثابت، ولا أبو هريرة ولا أبو بكرة ولا غيرهما من أعيانِ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لأهْبانَ بن صَيْفِي: “خُذْ هذا السيفَ فقاتِلْ به المشركين، فإذا اقتتلَ المسلمون فاكسِرْه”، ففعلَ ذلك ولم يُقاتِلْ في الفتنة (5).
__________
(1) أخرجه مسلم (1065/ 149) عن أبي سعيد الخدري.
(2) أخرجه مسلم (1065/ 152) عن أبي سعيد.
(3) أخرجه البخاري (3601) ومسلم (2886) من حديث أبي هريرة.
(4) أخرجه أبو داود (4663) من حديث حذيفة بن اليمان.
(5) أخرجه أحمد (5/ 69، 6/ 393) والترمذي (2203) وابن ماجه (3960) =

(6/267)


وفي الصحيحين (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “يُوشِك أن يكون خيرَ مالِ المسلم غنمٌ يَتبعُ بها شَعَفَ الجبالِ ومَواقع القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينه من الفِتن “. وفي الصحيح (2) عن أسامة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “إني لأرى الفتنةَ تَقَعُ خِلالَ بيوتكم كمواقع القَطْرِ”. والأحاديث عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كثيرة في إخبارِه بما سيكون في الفتنة بين أمتِه، وأمرِه بتركِ القتال في الفتنة، وأن الإمساك عن الدخول فيها خيرٌ من القتال.
وقد ثبتَ عنه في الصحيح (3) أنه قال: “سألتُ ربّي لأمتي ثلاثًا، فأعطاني اثنين ومَنَعَني واحدًا، سالتُه أن لا يُسَلِّطَ عليهم عدوًّا من غيرهم، فأعطانيها، وسالتُه أن لا يُهلِكَهم بسَنَةٍ عامَّةٍ، فأعطانيها، وسألتُه أن لا يَجعلَ بأسَهم بينهم، فَمَنَعَنِيْها”.
وكان هذا من دلائل نبوته – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وفضائل هذه الأمة، إذ كانت النشأة الإنسانية لا بدَّ فيها من تفرُّقٍ واختلافٍ وسَفْكٍ دماء، كما قالت الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (4). ولما كانت هذه الأمة أفضل الأمم وآخر الأمم عَصَمَها الله أن تجتمعَ على ضلالةٍ، وأن يُسلَّط عدوٌّ عليها كلِّها كما سُلطَ على بني إسرائيل، بل إن غُلِبَ
__________
= عن أهبان.
(1) البخاري (19 ومواضع أخرى) من حديث أبي سعيد الخدري. ولم أجده في صحيح مسلم بهذا اللفظ، وهو فيه بمعناه (1888).
(2) البخاري (3597) ومسلم (2885).
(3) مسلم (2890) عن سعد بن أبي وقاص.
(4) سورة البقرة: 30.

(6/268)


طائفة منها كان فيها طائفةٌ قائمةٌ ظاهرة بأمر الله إلى يوم القيامة، وأخبرَ أنه “لا تزالُ فيها طائفةٌ ظاهرةٌ على الحقّ حتى يأتيَ أمر الله ” (1)، وجعلَ ما يستلزمُ من نشأة الإنسانية من التفرق والقتال هو لبعضها مع بعض، ليس بتسليط غيرِهم على جميعهم، كما سَلَّطَ على بني إسرائيل عدوًّا قَهَرَهم كلَّهم. فهذه الأمة- ولله الحمدُ- لا تُقْهَرُ كلُّها، بل لا بُدَّ فيها من طائفةٍ ظاهرةٍ على الحق منصورةٍ إلى قيام الساعة إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري (3640) ومسلم (1921) عن المغيرة بن شعبة. وفي الباب عن غيره من الصحابة في الصحيحين وغيرهما.

(6/269)


مسألة في الاستغفار

(6/271)


قال (1) الوليد: قلتُ للأوزاعي: ما الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفرُ الله أستغفر الله.

فهذا حديث صحيح في تكرير الاستغفارِ ثلاثًا دبرَ الصلاةِ، فتكريرُ الاستغفار في الصلاة أوكدُ، كما أنه [لما] سُنَّ تكريرُ التسبيح في الصلوات كان تكرير التسبيح في الركوع والسجود أوكد. وفي صحيح مسلم (2) من حديث الأغرّ المزني- وكانت له صحبة- أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئةَ مرَّةٍ”. وفيه (3) من حديث عمرو بن مُرَّةَ عن أبي بُردة قال: سمعتُ الأغرّ- وكان من أصحاب النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – – يحدث ابن عمر أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “أيها الناسُ! تُوبُوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مئة”. قال الحميدي (4): وقد أخرجه البخاري في تاريخه من هذين الوجهين، ولم يُخرِجه في الجامع، وهو لاحِقٌ بشرطه فيه. وفي الصحيح (5) أيضًا: “إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرَّةً”.
وقد أُمِرَ أن يَختِم عملَه الخاصَّ والعامَّ بالاستغفار، فكان الاستغفارُ نهايةَ أمرِه. وتارة يجمع بين التوحيد والاستغفار، فقال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (6)، وقال: (أنما
__________
(1) من هنا تبدأ القطعة الموجودة من الأصل.
(2) برقم (2702).
(3) برقم (2702/ 42).
(4) في “الجمع بين الصحيحين ” (3/ 522). وانظر “التاريخ الكبير” (2/ 43).
(5) البخاري (6307) من حديث أبي هريرة.
(6) سورة محمد: 19.

(6/273)


إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) (1).
فهذان الأمرانِ جماعُ الدين، كما يُروَى أن الشيطانَ قال: أهلكتُ بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلاّ الله والاستغفار، فلما رأيتُ ذلك بَثَثْتُ فيهم الأهواء، فهم يُذنبون ولا يتوبون، لأنهم يَحسبون أنهم يُحسِنون صنعًا. وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (2).
فالتوحيد هو جماع الدين الذي هو أصلُه وفرعُه ولُبُّه، وهو الخير كلُّه، والاستغفارُ يُزيلُ الشرَّ كلَّه، فيحصلُ من هذين جميعُ الخَيْر وزوالُ جميع الشرّ. وكلُّ ما يُصيبُ المؤمنَ من الشرِّ فإنما هو بذنوبه.

والاستغفار يَمحُو الذنوبَ فيُزيلُ العذابَ، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) (3). وقد كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَطلُب من الله المغفرة في أول الصلاة في الاستفتاح، كما في حديث أبي هريرة الصحيح (4) وحديث علي الصحيح (5) في أول ما يكبِّر، ثم يطلب الاستغفار بعد التحميد إذا رفعَ رأسَه، ويطلب الاستغفار في دعاء التشهد كما في حديث علي (6) وغيره، ويطلب الاستغفار في الركوع
__________
(1) سورة فصلت: 6.
(2) سورة النساء: 48. والحديث أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (7) من حديث أبي بكر مرفوعًا، وهو ضعيف بل موضوع.
(3) سورة الأنفال: 33.
(4) أخرجه البخاري (744) ومسلم (598).
(5) أخرجه مسلم (771).
(6) هو الحديث السابق.

(6/274)


والسجود كما في حديث عائشة الصحيح (1)، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. وروى مسلم وأبو داود (2) عن أبي هريرة أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان يقول في سجوده: “الَّلهمَّ اغفِرْ لي ذنبي كُلَّه، دِقَّهُ وجِلَّهُ وأوَّلَه وآخرَه وعلانيتَه وسِرَّه”.
فلم يَبقَ حالٌ من أحوال الصلاة ولا ركنٌ من أركانِها إلاّ استغفرَ الله فيه، فَعُلِمَ أنه كان اهتمامُه به أكثرَ من اهتمامِه بسائرِ الأدعية. ويميز ذلك أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان إذا استغفر لرجلٍ كان ذلك سببًا لوجوبِ الجنة له، مثل أن يُسْتَشهدَ، كما في حديث سلمة بن الأكوع (3). وكان استغفارُه للرجلِ أعظمَ عندهم من جميع الأدعية له، كما في صحيح مسلم (4) عن عبد الله بن سَرْجس قال: رأيتُ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأكلتُ معه خبزًا ولحمًا -أو قال: ثَرِيدًا- فقلتُ: يا رسول الله! غفرَ الله لك، قال: ولك. قال: فقلتُ له: أَسْتَغْفَرَ لك رسولَ الله؟ قال: نعم ولَكَ، ثمَّ تَلاَ هذه الآية: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (5).
وهذا أيضًا توكيد له، حيثُ أمرهُ الله بالاستغفار للمؤمنين، وخصَّ ذلك بسائر الأدعية. وكذلك أخبر عن ملائكته أنهم يستغفرون للمؤمنين، وذلك أن المغفرةَ مشروطة بالإيمان، فلا تكون إلا لأهل
__________
(1) أخرجه البخاري (794 ومواضع أخرى) ومسلم (484). وأبو داود (877) والنسائي (2/ 190) وابن ماجه (889).
(2) مسلم (483) وأبو داود (878).
(3) أخرجه مسلم (1802).
(4) برقم (2346).
(5) سورة محمد: 19.

(6/275)


الإيمان، بخلاف العافية والرزق والهداية العامة، فإنها تحصلُ بدون الإيمان، فإن الكافر قد يهديه الله فيصير مؤمنًا، وقد يُعافيه ويرزقه مع كفره، وقد يُجابُ دعاؤه. والمغفرةُ إنما هي للمؤمنين، فهي النهاية. ولهذا قال في المنافقين (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (1)، وقال فيهم: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (2)، وقال: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) (3)، وقال: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الآية (4). فأمرهم الله بالاقتداء بهم إلا في الاستغفار للمشركين.
وفي الصحيح (5) أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “استأذنتُ ربي في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، واستأذنتُه في أن أزور قبرها فأذن لي”. وفي الصحيح (6) أنه قال لأبي طالب: “لأستغفرنّ لك ما لم أنْهَ عنك”، فأنزل الله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (7). وفي
__________
(1) سورة التوبة: 80.
(2) سورة المنافقون: 6.
(3) سورة التوبة: 113.
(4) سورة الممتحنة: 4.
(5) مسلم (976) عن أبي هريرة.
(6) البخاري (1360 ومواضع أخرى) ومسلم (24) عن المسيب بن حزن.
(7) سورة التوبة: 113.

(6/276)


الصحيح (1) أنه صلَّى على ابنِ أُبيّ وألبسَه قميصَه وتَفَلَ في فيه واستغفرَ له، ثم قال: “وماذا يُغنِي عنه ذلك من الله؟ “.
وكذلك استغفر للذين اعتذروا إليه لما رَجَعَ من غزوة تبوك، ثم أنزلَ الله فيهم بعد ذلك ما أنزلَ، فلم ينفعهم ذلك (2).

فإذا كان استغفار الإنسان لغيره لا ينفعه إلاَّ مع الإيمان، بخلاف الأدعية المروية في هذا الحديث من العافية والرزق والهداية والرحمة، إذا أريدَ بها رحمة الدنيا أو الرحمة من الدين تصيب الكافر، وأما إذا أريد بها أنه لا يُعذَّبُ أو يَدخُلُ الجنة فهذا لا يصلح. بل استغفار الإنسان أهمُّ من جميع الأدعية لوجهين:
أحدهما: أن استغفاره لنفسه يُغفَر له به جميعُ الذنوب إذا كان على وجه التوبة، حتى إنّ الكفّار إذا استغفروا لأنفسهم نفعَهم ذلك، وكان سببَ نجاتِهم من عذاب الدنيا. وعذابُ الآخرة إنما يُنجي منه الاستغفار مع الإيمان. وهذا أيضًا من خصائص التوحيد، فإن اَلمكلَّفَ لا ينفعُه توحيدُ غيرِه عنه، ولا يُنجِيه ذلك من عذاب الله عز وجل، بل لا يُنجيه إلاّ توحيدُ نفسِه، ولا ينفعُه مع عدمِ التوحيد الاستغفارُ عنه، بل لاَ ينفعُه إلا استغفارُه الذي تضمن توحيدَه وتوبتَه من الشرك. فصارَ الاستغفارُ مقرونًا بالتوحيد من بدايةٍ، لا تُقبَل النيابةُ فيه ولا يُهدَى إلى الغير إلاّ إذا أتى هو به، فإذا كان هو من أهل ذلك نفعَه حينئذٍ ما يريدُه
__________
(1) البخاري (5795) ومسلم (2140) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) أخرجه البخاري (4418) ومسلم (2769) من حديث كعب بن مالك مطوّلاً.

(6/277)


غيرُه من ذلك، بخلاف الأعمال والأدعية التي تُفعَل عن الغير وتُهدَى له وإن لم يأتِ بأصلِها.
وإنما كان الاستغفار هو النهاية من العبد لأن الذنبَ لازمٌ لجميع بني آدم، وإنما كمالُ المؤمنين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في التوبة من الذنب والاستغفار، كما قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) إلى آخر السورة (1). وقد أخبر تعالى أنه يُبدِّلُ سيئاتِ التائب حسناتٍ، وأنه يَفرح بتوبة العبد أشدَّ فرحٍ يُقدَّر.
فالذنوب إذا كانت مغمورةً بالحسنات لم يُعاقَب صاحبُها بالنار، لكن يكون تأثيرها في تفاوتِ الدرجات، فأعلَى الخلقِ منزلةً العبدُ الذي غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وبذلك وصفه الرسول الذي قبلَه (2) الذي دلَّ عليه والطالبون للشفاعة منه، وجعل ذلك هو السبب في كونه يكون شفيعَ الخلائق، لأنه لما غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر لم يبقَ يَحتاجُ إلى أن يَشفع لنفسِه ويَستغفر، فأمكنَه أن يَشفعَ لغيرِه، بخلافِ من يقول: نفسي نفسي، فإنه يكون محتاجًا إلى الشفاعة حينئذٍ لنفسِه ويستغفر لنفسه، فلا يشفع لغيره في هذا المقام، وإن كان يشفع بعد ذلك، فإن الله سبحانه لا بُدَّ أن يَغفِر جميع هذه الذنوب وما هو أعظمُ منها، لكن يتأخَّرُ ذلك عن مقامِ الشفاعة، بخلافِ الذي غُفِر له ما
__________
(1) سورة الأحزاب: 72.
(2) هو عيسى عليه السلام، كما في حديث الشفاعة المشهور الذي أخرجه البخاري (7410، 7440) ومسلم (193/ 324) عن أنس بن مالك.

(6/278)


تقدمَ من ذنبه وما تأخرَ قبلَ هذا المقام، فإنه سائر في مقام المغفرة. ولهذا قال اَلخليل -وهو أحد الرسل الكبار المطلوب منهم الشفاعةُ يومئذٍ-: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (1)، فالمغفرة التي رجاها تكون يومَ الدين، وهي واقعةٌ بعد شفاعة سيّد ولد آدمِ، فإنه قبل ذلك يقول (2): إنّ ربّي قد غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يَغضبْ قبله مثلَه ولن يغضبَ بعدَه مثلَه، ويذكُر خطيئتَه: نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى موسى.
وهذا كلُّه مما يؤكَدُ أمرَ الاستغفار ويُبيِّن أنه نهايةُ الأمر، وأنّ السائرَ فيه هو من سائر السابقين، فتكريره يوجب من ذلك ما لا يُوجبه غيرُه. والله أعلمُ.
__________
(1) سورة الشعراء: 82.
(2) كما في حديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة.

(6/279)


مسائل في الصلاة

(6/281)


ذكرٌ (1) إلا في فعلٍ من أفعالها، وليس فيها فعلٌ خالٍ من ذكرٍ إلاّ جلسة الاستراحة حيث تُفعل، فإنها فعلٌ لا ذِكرَ فيه لقِصَرِه، ومثل تكبيراتِ الانتقال، فإنها ليست في فعلٍ مستقرّ.
وقد تنازعوا في الجهر والمخافتة في الصلوات هل هما واجبانِ تَبطُل الصلاةُ بتعمُّدِ مخالفتهما أم هما سنة؟ وفي ذلك خلافٌ مشهورٌ في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، والمشهور أنهما سنة، وكذلك دعاء الاستفتاح سنة. ومن السنن الراتبة المتفقِ عليها: المخافتةُ بالذكر والدعاء في الركوع والسجود، والاعتدال فيهما وفي التشهدين، ومخافتة المأموم بقراءته ودعائه، وأما المنفرد فقد تنازعوا هل الأفضل له المخافتة بالقراءة أو الجهر بها؟ والاستعاذة السنةُ المخافتة بها عند الجمهور، وقيل: يتعوَّذ بين المخافتة والجهر. والبسملة عند الذين يقرؤونها -وهم الجمهور- سنتها الراتبة المخافتة، وقيل: الجهر، وقيل: يُخيَّر بين الأمرين. وكذلك التأمين سنتُه الجهرُ به عند أحمد والشافعي، وأصحّ قوليه للإمام والمأموم، وقيل: المخافتة به لهما، وقيل: يخافت به المأموم دون الإمام تبعًا لقراءته.
والدليل على أن سنة الاستفتاح المخافتة ما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة قال: قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: “أقول: اللهم بَاعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب … ” إلى آخره، وظاهره أنه لم يكن
__________
(1) من هنا تبدأ القطعة الموجودة من الأصل.
(2) البخاري (744) ومسلم (598).

(6/283)


يجهر بالاستعاذة أيضًا، لقوله “بين القراءة والتكبير”. وكذلك سائر الأحاديث الصحاح التي فيها المخافتة بالبسملة، مثل حديث عائشة (1) وأنس (2) وأبي هريرة (3) وغيرها، تدكُ على ذلك. وكذلك حديث سمرة بن جندب وأبي بن كعب، قال سحمرة: حفظتُ عن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سكتتينِ، وهو في السنن (4).
وأما لعارضٍ فقد ثبت في الصحيح (5) أن عمر كان يجهر بدعاء الاستفتاح مراتٍ كثيرةٍ، فكان يقول: الله أكبر، “سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك”. وكان طائفة من الصحابة يجهرون بالبسملة، كابن الزبير وغيره. وقد رُوِيَ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه كان يجهر بها بمكة، ورُوِيَ في جهرِه بها بالمدينة أحاديثُ ضعيفةٌ ضعَّفها أهل الحديث (6). وثبتَ في الصحيح (7) عن أبي قتادة أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان يُسمِعُهم الآية أحيانًا من صلاةِ الظهر والعصر، وثبت في صحيح البخاري (8) أن ابن عباس جهرَ بالقراءة على الجنازة بفاتحة
__________
(1) أخرجه مسلم (498).
(2) أخرجه البخاري (743) ومسلم (399).
(3) أخرجه أحمد (2/ 299، 321) وأبو داود (1405) والترمذي (2891) وابن ماجه (3786). وانظر “نصب الراية” (1/ 334، 335).
(4) أخرجه أبو داود (779، 780) والترمذي (251) وابن ماجه (844) وأحمد (5/ 7، 11، 15، 21، 23، 20، 22).
(5) مسلم (399).
(6) انظرها مع الكلام عليها في نصب الراية (1/ 341 – 356).
(7) البخاري (759) ومسلم (451).
(8) برقم (1335) من حديث طلحة بن عبيد الله. أخرجه أيضًا النسائي (4/=

(6/284)


الكتاب وقال: لِتَعلموا أنها السنة.
فمثلُ هذا الجهر إذا كان لتعليم المأمومين يَحسُنُ، ولو كان لمصلحةٍ أخرى فهو حسنٌ أيضًا، فإنه قد يكون الجهرُ أعونَ على القراءة، كما قال عمر: أُوقِظُ الوسنانَ وأُرضِي الرحمن وأَطرُد الشيطان (1). فقد يكون الجهر أبلغ في تعليمه، وقد يكون عليه في المخافتة مشقة، ومهما استجلبَ به الخشوع والبكاء من خشية الله وكان أنفع للمأمومين جاز، ولا يداوم على ذلك في [كل] وقت، كما يداوم على قراءة الفاتحة وعلى الركوع.
ومما يدلُّ على جواز الجهر بالاستفتاح وغيره أحيانًا ما في الصحيح (2) عن أنس أن رجلاً جاء إلى الصلاة وقد حَفَزَه النَّفس، فقال: الله أكبر، الحمد لله حمدًا كثيرًا طبياً مباركًا فيه مُباركًا عليه كما يُحبُّ ربُّنا ويَرضى، فلما قضى رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – صلاتَه قال: “أيُّكم المتكلِّمُ بالكلمات؟ لقد رأيتُ اثْنَي عشرَ ملكًا يبتدرونَها أيُّهم يَرفعُها”. فهذا مأمومٌ جهرَ بهذا الذكر بعد التكبير، وقد أثنى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عليه بذلك، وهذا دليلٌ على جواز الجهر أحيانًا في المواضع التي يُخافَتُ فيها، وأن الرجل إذا ذكر الله في الصلاة بما هو من جنسها كان حسنًا وإن لم يُؤمَر به. وهذا موافقٌ لجهر عمر بالاستفتاح.
__________
=74، 75) والحاكم في المستدرك (1/ 358) من طريق سعيد بن أبي سعيد.
(1) أخرجه أبو داود (1329) والترمذي (447) من حديث أبي قتادة.
(2) مسلم (600).

(6/285)


وكذلك ما رواه البخاري (1) من حديث رفاعة بن رافع قال: كنا نصلِّي وراء رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، فقال رجلٌ وراءه: ربنا لك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما قضى صلاتَه قال: “مَن المتكلِّمُ؟ رأيتُ بضعَةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها”. فهذا أيضًا جهرٌ من المأمومَ بالتحميد الذي هو ليس المأمور به، ولكنه من جنس المأمور به، فإن النبي لم يُنقَل عنه مثله.
وأيضا فالذين ذكروا أنهم صلَّوا مع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فعلموا ما كان يفتتح به، وما كان يقوله في ركوعه وسجودهِ واعتداله، مثل حديث جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُصلّي فقال: “الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثِه”. رواه أهل السنن (2)، وهو حديث حسن. فلولا أنه جهر بذلك لما سمعه يقول ذلك، إلا أن يُخبِره به بعد الصلاة، ولو أخبره كما أخبر أبا هريرة لبيَّن ذلك، ولأنه لم يكن ليُخبِره من غير استخبارٍ عن الاستفتاح وحدَه دون بقية أذكار الصلاة، إذ لا مُوجِبَ للتخصيص.
وكذلك حديث حذيفة (3) أنه صلَّى مع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يقول في ركوعه: “سبحانَ ربي العظيم”، وفي سجوده: “سبحانَ ربي الأعلى”،
__________
(1) برقم (799).
(2) أخرجه أبو داود (764) وابن ماجه (807) وأحمد (4/ 80، 85).
(3) أخرجه مسلم (772).

(6/286)


وما أتَى على آيةِ رحمةٍ إلا سألَ، ولا على آيةِ عذاب إلا تعوَّذ، وهذا كان في قيام الليل. وهو حديث صحيح. وكان يقول بين السجدتين: “ربِّ اغفرْ لي، ربِّ اغفرْ لي” (1)، وهذا بيِّنٌ أنه كان يُسمَع منه ما قاله في ركوعه وسجودِه وبين السجدتين، وكذلك دعاؤه عند آية الرحمة والعذاب. فهذا يقتضي جواز الجهر بذلك.
وكذلك حديث ابن أبي أوفى (2) أنه كان إذا رفع ظَهرَه من الركوع قال: “سمعَ الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد مِلْءَ السماواتِ ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ ما شِئتَ من شيء بعدُ”، وفي حديث أبي سعيد (3): “أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد” إلى آخره. وهذا يدلُّ ظاهرُه على أنهم سمعوا ذلك منه يقوله في الصلاة من غيرِ إخبارٍ منه لهم.
وكذلك حديث عائشة الذي في الصحيح (4) أنه كان يُكثِر أن يقول في ركوعه وسجودِه: “سبحانك اللهم وبحمدك اللهمَّ اغفرْ لي” يَتَأَوَّلُ القرآن. وقولها في الصحيح (5): كان يقول في ركوعه وسجوده: “سُبُّوحٌ قدوسٌ ربّ الملائكة والروح”. وأصرحُ من ذلك ما رواه
__________
(1) أخرجه أحمد (5/ 398) وأبو داود (874) والنسائي (2/ 231) وابن ماجه (897) من حديث حذيفة. وإسناده صحيح.
(2) أخرجه مسلم (476).
(3) أخرجه مسلم (477).
(4) البخاري (817) ومسلم (484).
(5) مسلم (487).

(6/287)


مسلم (1) عنها قالت: فَقدتُ رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ليلةً على الفِراش، فالتمستُه، فوقَعتْ يدي على بطنِ قدميه وهو في السجود وهما منصوبتانِ، وهو يقول: “اللهمَّ إني أعوذ برِضاكَ من سَخَطِكَ” إلى آخره. فهذا صريحٌ في أنه جَهَرَ بهذا الدعاء في سجودِه، حتى سمعت ذلك عائشة.
فإن كان الإمام ضعيفًا أو صوتُه لا يَبلُغ المأمومين جاز أن يُبلِّغ بعضُهم بعضًا بالتكبير، كما كان أبو بكر يُبلِّغ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – التكبير في مرضِه لما خَرَج وأبو بكر يُصَلِّي بالناس، وبنى على صلاةِ أبي بكر.
وأما الإمام فالسنة في حقه الجهرُ بالتكبير باتفاق العلماء، وفي حديث أبي هريرة الصحيح (2): كان رسولُ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذا قام [إلى] الصلاة يُكبّرُ حينَ يقوم وحينَ يركع، ثم يقول: “سمعَ الله لمن حمده” حين يرفعُ صُلْبَه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: “ربَّنا ولكَ الحمدُ”، ثم يكبّر حين يَهوِيْ وحين يرفعُ رأسَه، ثمّ يكبِّر حين يسجد، ثمّ يكبّر حين يرفع رأسه. وكذلك ذكره أبو حُميد الساعدي (3). وكذلك حديث أبي موسى في صحيح مسلم (4) يبين هذا: “إذا صليتمِ فأقيموا صفوفكم، ثُمَّ ليؤمَّكم أحدُكم، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قال: (وَلا الضَّالِّينَ) فقولوا “آمين” يُجِبْكم الله، فإذا كبَّر وركعَ فكبِّروا واركعوا، فإذا قال
__________
(1) برقم (486).
(2) أخرجه البخاري (789) ومسلم (392).
(3) أخرجه البخاري (828).
(4) برقم (404).

(6/288)


“سمع الله لمن حمده” فقولوا “ربنا ولك الحمد” يسمع الله لكم”. ففي هذه الأحاديث بيان جهر الإمام بالتكبير حتى يسمعوه.
فصل
وأما مقدار الكلم والعمل فإن السنة التي اتفق عليها العلماء في صلاة المغرب أن قراءتها أقصرُ من قراءة غيرِها، كما اتفقوا على أنّ سنتها التعجيلُ من أول الوقت، وإن كان تأخيرُها إلى وقتِ العشاءِ جائزًا، كما دلَّت على ذلك الأحاديث الصحيحة في إمامةِ جبريلَ النبيَّ صلى الله عليهما وسلم، ويُكرَه تأخيرُها عن أوَّلِ وقتِها من غيرِ عُذْرٍ، بخلافِ غيرِها من الصلوات. وقد روى الإمام أحمد (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “المغربُ وِتْرُ النهار، فأوتروا صلاةَ الليل”. فإذا كانت وِتْرَ صلاة النهار كان تعجيلُها مع عمل النهار هو السنة، ومع هذا فقد ثبتَ في الصحيح (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه كان يقرأ فيها بطُولَى الطُولَيَيْنِ، وفي الصحيح عنه أنه كان يقرأ فيها بالمرسلات (3) وبالطور (4).
وأما صلاة الفجر فالسنة فيها التي استفاضت بها الأحاديث واتفقَ عليها العلماءُ إطالةُ القراءةِ فيها زيادة على غيرِها، حتى قيل: إنها إنما جُعِلتْ ركعتين لأجلِ طولِ القراءة فيها. وفي
__________
(1) في المسند 2/ 30، 32، 41، 82، 154 من حديث ابن عمر.
(2) أخرجه البخاري (764) من حديث زيد بن ثابت.
(3) كما في حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري (763) ومسلم (462).
(4) كما في حديث جبير بن مطعم الذي أخرجه البخاري (765) ومسلم (463).

(6/289)


الصحيح (1) من حديث أبي بَرْزَة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه كان يقرأ فيها ما بينَ الستّين إلى المئة، وتارةً بقاف، وهو في الصحيح أيضًا عن جابر بن سمرة (2). وتارةً بالمؤمنين (3)، وتارةً بغيرها. وفي مسند أحمد (4) أنه قرأ فيها بالروم، وكان يأمرهم بالتخفيف، ويَؤُمُّهم بالصَّافّات. فالتخفيف الذي أراده منهم هو أن يقرأ بقدر الصافّات. وقرأ فيها في السفر بـ (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ اَلْفَلق) و (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، كما رواه أهل السنن (5) عن عقبة بن عامر قال: كنتُ أقودُ برسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ناقتَه في السفر، فقال لي: “يا عُقْبة، إلا أُعلِّمك خيرَ سورتين قُرِئتَا؟ “، فعلَّمني “قل أعوذ برب الفلق” و”قل أعوذ برب الناس”، فلما نزلَ إلى صلاة الصبح صلِّى بهما. والسفر قد وُضِعَ فيه عن المسافر شَطْرُ الصلاة، فكذلك يُوضع عنه إطالةُ القراءةِ فيه في الفجر.
وكان يخفف الصلاة لأمرٍ عارض كبكاء الصبي (6)، فإن تخفيف الصلاة لئلاّ يشقّ على المأمومين من السنة. وفي حديث عائشة (7) أنه كان يصلِّي من الليل إحدى عشرة ركعةً، وفي حديث ابن
__________
(1) البخاري (771) ومسلم (461).
(2) أخرجه مسلم (458).
(3) أخرجه مسلم (455) عن عبد الله بن السائب.
(4) 3/ 471 و 5/ 368، وأخرجه أيضًا النسائي (2/ 156) كلاهما من طريق شبيب أبي روح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا.
(5) أخرجه أبو داود (1462) والنسائي (2/ 158).
(6) أخرجه البخاري (759، 715) ومسلم (470) عن أنس.
(7) أخرجه البخاري (1147) ومسلم (738).

(6/290)


عباس (1): ثلاث عشرة ركعة، وكان يفتتح قيام الليل بركعتين خفيفتين (2)، فلعلَّ هذه هي محلّ الاختلاف، وكان يصلِّي بعد وترِه سجدتين وهو جالسٌ.
قال: وقد أطلق بعضُ العلماء أن التطوُّعات قبل الصلوات وبعدها أفضل التطوع.
قال الشيخ: وليس كذلك، بل قيامُ الليل أفضل التطوعات، كما ثبت في الصحيح (3) عنه أنه سُئِل أيُّ الصلاة أفضلُ بعد المكتوبة؟ فقال: “صلاة الليل”. وأفضل الرواتب الوتر وركعتا الفجر، وهذا هو الذي لم يكن يتركه سفرا ولا حضرًا، بل كان في السفر يُوتر على راحلته، وكان يصلي ركعتي الفجر، حتى قضاهما لما نام عنهما، حينَ نام هو [و] أصحابه عن صلاة الفجر لما قَفَلَ عن خيبر، وقال عنهما: “لا تَدَعُوهما ولو طَرَدَتْكم الخيلُ ” (4). وقد كان مالك لا يسمِّي سنة إلا هما خاصة، فهما أول العمل، والوتر آخره. و [لم] يحفظ أحدٌ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه صلى مع الظهر والعصر والمغرب والعشاء شيئًا من الرواتب في السفر، وكان يُصلِّي صلاةَ الليل على راحلته، بل ثبت عنه في غير حديث صحيح أنه كان يصلّي المغرب والعشاء ولا يصلِّي معهما شيئًا، وأنه لم يكن في السفر يزيد على ركعتين. وأقصى ما في
__________
(1) أخرجه البخاري (183 ومواضع أخرى) ومسلم (763).
(2) أخرجه مسلم (767) عن عائشة.
(3) مسلم (1163) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه أحمد (2/ 405) وأبو داود (1258) عن أبي هريرة.

(6/291)


الأحاديث الصحيحة أن تطوع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مع ركعات الفرض أربع وأربعون ركعةً، وعائشة كانت أعلمَ بصلاة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بالليل من غيرِها.
فصل
وصف الله سبحانه أنبياءَه ورُسُلَه والعلماءَ من عبادِه بأنهم إذا سمعوا آيات الله خرُّوا سُجَّدا وبُكِيُّا، كما قال تعالى لما ذكر الأنبياء في سورة مريم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)) (1). وصف جميع هؤلاء الذين هم صَفوةُ خلقِه وخيرهم بأنهم إذا سمعوا آياتِ الرحمن خَرُّوا سُجَّدا وبُكِيّا، وهذا نظير ما وصف به علماءَ أهل الكتاب بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)) إلى قوله: (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)) (2)، أي إذا سمعوا القرآن سجدوا وبكَوا.
وهذا مما أمر الله به الناس عموما، وذمَّ من لم يفعل ذلك في قوله: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ (21)) (3).
فذمَّ من إذا قرئ عليه القرآن لا يَسجُد، كما مدح النبيين وغيرهم من المؤمنين بالسجود إذا سمعوه. والسجود وإن كان مشروعًا عند استماع هذه الآيات السجدات وواجبٌ عند بعض العلماء، فلا يجوز أن يكون
__________
(1) سورة مريم: 58.
(2) سورة الإسراء: 107 – 109.
(3) سورة الانشقاق: 25 – 21.

(6/292)


المراد بهذه الآيات ونحوها مجرد سجود التلاوة، لأنه تعالى وصفهم بأنهم إذا تُلِيت عليهم خَرُّوا سُجَّدًا، وأخبر أنه لا يؤمن بآياته إلا الذين إذا ذُكّروا بها خَرُّوا سُجَّدًا، وهذا يَعُمُّ الآيات التي شُرِعَ فيها سجودُ التلاوة وغيرَها، ولا يجوز حملُه على تلك الآيات فقط، لأنها قليلة يسيرةٌ من حيث آيات الله عز وجل.
وكذلك ما وَصَفَ به أهلَ العلم وكذلك ما حَضَّ عليه الناسَ بقوله: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ) (1)، فيه من العموم والتحضيض ما لا يجوز حمله على مجرد سجود التلاوة، يُوضح ذلك أنه لما أثنى على النبيين وأهل العلم وصفَهم بالسجود والبكاء، ولمّا أخبر عما لا بُدَّ منه من الإيمان وما يُذَمُّ من تركه ذكر السجود فقط، فقال: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)) (2)، وقال: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ (21)) (3). بل هذا -والله أعلم- كما شِرعَه لمحمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بقوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)) إلى أن قال: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)) (4)، فأمره بالقراءة والسجود، وعلى ذلك بنيَتِ الصلوات، فاعظم أركانها القولية القراءة، وأعظم أركانها الفعلية السجود، وهما أفضل أعمال الصلاة. وقد تنازع [العلماء] أيُّما
__________
(1) سورة الانشقاق: 20 – 21.
(2) سورة السجدة: 15.
(3) سورة الانشقاق: 21.
(4) سورة العلق: 1، 19.

(6/293)


أفضل: طولُ القراءة أو كثرة الركوع والسجود أو هما سواء؟ على ثلاثة أقوال، أصحها التسوية، كما كانت صلاة النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع.
فصل
والصلوات المشروعة مشتملة على ذلك، على استماع لقراءة آيات الله وعلى السجود، ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (1)، فعُلِمَ أن ما وصف به الذين أنعم عليهم قبل ذلك ضد الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فنَعَتَ النبيين وأتباعهم بإقام الصلاة والمحافظة عليها.
ولهذا لما احتج بهذه الآيات ونحوها من أوجبَ سُجودَ التلاوة أجابَ عن ذلك من لم يُوجِبْه بأن المراد بها سجودُ الصلب المفروض في الصلوات والقعود للثناء ما يتضمن الجمع بين القراءة والسجود، كما تضمَّن ذلك أول سورة أنزلت. ومما يُشبه هذه الآيات الثلاث قولُه في آخر النجم: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)) (2). يذمُّ تعالى من يعجب من القرآن، ويضحك ولا يبكي بل يلهو، وأمر بالسجود لله والعبادة له.
وهذا متضمن (3) للسجود عند سماع هذا الحديث، كما وُضِعَت الصلاة على ذلك.
__________
(1) سورة مريم: 59.
(2) سورة النجم: 59 – 62.
(3) في الأصل: “متضمنا”.

(6/294)


وقد أخبر تعالى في قوله أنه لا يكون مؤمنًا بآياته إلا من يسجد عند ما يُذَكَّر بها، فقال: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)) (1). وهذه الآية يُستدلُّ بها على أن من لم يسجد لله فليس بمؤمن، وهذا يَقتضي كفر تارك الصلاة، وقوله: (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يقتضي أن التسبيح واجب، وذلك يقتضي وجوبَ التسبيح مع السجود، والركوع يدخل في مسمَّى السجود عند الانفراد، فيقتضي وجوبَ التسبيح في الركوع والسجود.
وأما قوله: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (2) فإنه داخل في حيز “الذين” أيضا، وذلك يجعل للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لصلاة الصبح وصلاة العشاء، وكلّما أُخِّرتْ هذه وقُدِّمتْ هذه كان أشد للتجافي عن المضاجع.
فصل
وقد وُضِعت الصلاة على السجود بعد القراءة، فإن الركوع والسجود- كما قدَّمنا- كلاهما يدخلُ في اسم الآخر [عند] الانفراد، وإن مُيِّزَ بينهما عند الجمع، كما في لفظ الفقير والمسكين، كما قال تعالى: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) (3)، قيل: المراد به الركوع، لأن الساجد على الأرض لا يمكنه الدخول لذلك، ومنه قول
__________
(1) سورة السجدة: 15.
(2) سورة السجدة: 16.
(3) سورة البقرة: 58.

(6/295)


العرب: سَجَدتِ النَّخلةُ، إذا مالت، فهذا إدخال الركوع في مسمى السجود، فإنه مبدؤه وأوله. وأما الآخر فكقوله في قصة داود: (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) (1)، وإنما هو سجودٌ بالأرض، كما ثبت عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الصحيح (2) أنه قال: “سَجَدَها داودُ توبة، ونحن نسجدها شكرًا”، فإن الركوع يحصل بالانحناء، والزيادة على ذلك إلى حدّ الأرض زيادةٌ فيه.
ويُعبَّر عن الصلاة تارة بلفظ الركوع، كما في قوله: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (3)، وقوله: (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (4).
ولهذا إذا كانت السجدة في آخر السورة أجزأ ما في الصلاة من السجود والركوع عن سجود التلاوة، كما يُروى ذلك عن ابن مسعود، وهذا هو المنصوص عن أحمد، وهو قولُ من قال من فقهاء العراق وغيرهم، لكن هل المجزئ عن سجود التلاوة هو الركوع أو سجود الصلب أو كلاهما؟ فيه نزاعٌ ليس هذا موضعه.
وممّا يبيِّن أصلَ الكلام أن ما في القرآن من الأمر بالسجود- كقوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (5) – هو أمرٌ بركوع الصلاة وسجودها، والله سبحانه وتعالى كما يَقرِنُ بعض أركان الصلاةِ ببعض- كما قَرَنَ بين
__________
(1) سورة ص: 24.
(2) أخرجه بهذا اللفظ النسائي في الكبرى (11374) من حديث ابن عباس. ورواه البخاري (4807) بمعناه.
(3) سورة البقرة: 43.
(4) سورة آل عمران: 43.
(5) سورة الحج: 77.

(6/296)


القراءة والسجود، وبين الركوِع والسجود- فإنه يَقرِن بين الصلاة وبين غيرها من الشرائع، كما قرن بينها وبين الزكاة، وبينها وبين الصبر الداخل في الجهاد والصوم وغيرهما، وأكثر الأحاديث عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الصلاة والجهاد، وقد قرن بينهما فى قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) هو الآية (1)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) الآية (2)، وقال تعالى: (عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) (3)، وقال في القرآن: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (4).
فصل
الذي تواتر عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – واتفقت عليه الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن يَقنُتُ دائمًا في صلاة الفجر ولا غيرها، لكن كان يُطِيل الفجرَ بالقراءةِ أكثرَ من غيرها، وقد ثبت في الصحيح (5) عن أنس أنه لم يَقنُت بعد الركوع إلا شهرًا، والعلمُ بعدم قنوتٍ راتبِ كالعلم بعدم قنوته في العشاء والمغرب دائمًا، إذ لم يَنقل عنه مسلم كلمةً تُقال في القنوتِ الراتب، وقد نقلوا عنه قنوت الوتر.
__________
(1) سورة الحج: 77 – 78.
(2) سورة المائدة: 35.
(3) سورة الفتح: 29.
(4) سورة الفرقان: 52.
(5) البخاري (1002) ومسلم (677).

(6/297)


وقد تنازع الناس هل كان قنوته راتبًا أو منسوخًا أو كان لسبب عارض ثم تركه لزوالِه؟ على ثلاثة أقوال، والثالث قول أهل الحديث، وهو الصواب، وهو قنوت النوازل، كقُنوته على الذين قتلوا القراء يومَ بئر مَعُونةَ، فقنتَ شهرًا بعد الركوع يدعو عليهم، وكقُنوتِه يدعو للمستضعَفين بمكة، فكان يدعو في قنوته لقومٍ، ويدعو على قومِ من الكفار ليُنْصَر عليهم. وكذلك عمر بن الخطاب كان يقنت إذا أرَسلَ جَيْشًا إلى الشام بالقنوت الذي فيه الدعاءُ على أهل الكتاب، وهو من قنوته موقوف عليه ليس مرفوعًا. وكذلك عليٌّ قنتَ في حروبه. وقد سأل أبو ثور الإمام أحمد عن القنوت فقال: في النوازل، فقال: وأيُّ نازلةٍ أعظمُ من نازلتنا؟ قال: فاقنُتوا إذًا، أو كما قال، يُريد بذلك امتحان الجهمية للمسلمين.
فإذا نزل بالمسلمين أمر عامّ قنَتُوا فيه، كما إذا ظَهرَ قوم من المبتدعة والمنافقين قنتَ المؤمنون، وكذلك في الفتن التي تقعُ بين المسلمين من الافتراق والاختلاف. لكن لما وقعت الفُرقة في زمنِ علي هل قنتَ الناس للجماعة والائتلاف كما قَنتَ الطائفتان المقتتلتان؟ أو قنتَتْ كل طائفةٍ تطلُبُ النصرَ على الأخرى؟ وفي حروب النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عام الأحزاب ونحوِه لِمَ لَمْ يَقنُت أو لِمَ لَمْ يُنقَل قنوتُه؟ فإن المأثور عنه القنوتُ حيثُ لم يُمْكِنْه النصرة بالقتال، كقنوته على الذين قتلوا القراء، وللمستَضعفين الذين بمكة من المؤمنين بخلاصهم.
وكذلك عمر كان يَقنُت لجنودِه، ويدعو لهم بالنصر، ويدعو علي الكفار بالخذلان والنكال، وهذا عِوَض عن مباشرتِه القتال بنفسه.

(6/298)


فصل في الصلاة الوسطى

(6/299)


فصل في الصلاة الوسطى

قد ثبت في النصوص الصحيحة المستفيضة أن الصلاة الوسطى هي العصر، كما صرّح به في حديث عليّ المتفق على صحته (1)، وحديث ابن مسعود: “الصلاة الوسطى هي العصر” (2). والعصر ثبتَ لها خصائص، كقوله في الحديث الصحيح (3): “من تركَ صلاة العصر حَبطَ عملُه”، وكذلك في الصحيح (4): “الذي تفوتُه صلاةُ العصر كأنما وُترَ أهله وماله”، وقوله (5): “إن هذه الصلاة عُرِضتْ على من كان قبلكم فضيَّعُوها، فمن حافظ عليها كان له الأجرُ مرَّتين، ولا صلاةَ بعدها حتى يَطلعَ الشاهدُ”. والشاهد: النجم. ولهذا قال علي: هي الصلاة التي شُغِلَ عنها سليمانُ حتى توارتْ بالحجاب (6). وقال – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، يَرقُبُ الشمسَ حتى إذا اصفرَّتْ وكانت بين قَرنَيْ شيطانٍ، قامَ فنقَر أربعًا لا يذكرُ الله فيها إلا قليلا” (7). وهي الصلاة التي قال الله فيها في القرآن:
__________
(1) البخاري (2931) ومسلم (627).
(2) أخرجه مسلم (628).
(3) أخرجه البخاري (553، 594) من حديث بريدة.
(4) أخرجه البخاري (552) ومسلم (626) من حديث ابن عمر.
(5) أخرجه مسلم (830) من حديث أبي بصرة الغفاري.
(6) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 505) والطبري في تفسيره (5/ 170).
(7) أخرجه مسلم (622) من حديث أنس.

(6/301)


(تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ) (1). وقد ثبتَ في الصحيح (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “ثلاثةٌ لا يكلِّمهم الله ولا يَنظُر إليهم يومَ القيامة، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم: رجلٌ حَلَفَ على سِلْعَة بعد العصر كاذبًا لقد أُعطِيَ بها أكثر مما أعطي. ورجل على فَضْلِ ماءٍ يمنعُه من ابن السبيل، فيقول الله له: اليومَ أَمْنَعُك فَضْلِي كما مَنَعتَ فَضْلَ ما لم تَعملْ يداك. ورجل بايعَ إمامًا لا يُبايعُه إلا للدنيا، إن أعطاه رَضِي، وإن مَنَعَه سَخِط”. فذكر اليمين الفاجرةَ بعد العصر.
ويُقال: إنّ وقتَها وقمت تُعظمُه الأممُ كلُّها، ولذلك أمر الله بالاستحلاف فيه لغير المسلمين. والمحافظة على الصلاة تُوجبُ تعظيمَه وحِفْظَ وقتِها حتى لا يُضيعَ حتى يخرج الوقت، وليسَ في مواقيت الصلوات ما لا يتميَّز أولُه بفصلٍ يُحَسُّ إلا وقت العصر، فإن الفجر يتميزُ أولُ وقتِها وآخرُه بطلوع الفجر وطلوع الشمس، والظهر يتميزُ أولُ وقتها بالزوالِ، وآخرُ وقتِها وإن لم يكن متميزًا فيجوز تأخيرُها إلى وقت العصر للعذر، فلا يفوت إلا بفوات وقت العصر. والمغربُ يتميزُ أولُ وقتِها وآخرُه بغروب الشمسِ وغروب الشفَق. وعشاءُ الآخرة يتميزُ أولُ وقتِها بمغيب الشفق، وآخرُ وقتهَا وإن لم يتميَّزْ تميُّزًا في الحسّ لكنّه يُمَدُّ للعذَر إلى طلوع الفجر كالظهر. والصلاة التي يُمكِن تأخيرُها إلى ما بعد الوقت الخاصّ للعذر، لا يُخاف من فوتها ما يُخاف من فوتِ الصلاة التي لا يُمكن تأخيرها،
__________
(1) سورة المائدة: 106.
(2) البخاري (2358) ومسلم (106) عن أبي ذر.

(6/302)


فالظهر والعشاء يجوز تأخيرُهما عن وقت الاختيار، وإن جاز تقديمُ العشاء، بخلاف العصر فإنه لا يجوز تأخيرُها عن وقتِها بحالٍ من الأحوال، وأولُ وقتها ليس يميز، مع أنه أقصرُ من وقت العشاء والظهر، ووقتها يكون الناس فيه مشتغلين بالأعمال في العادة، لا يكونون في وقتِ صلاةٍ أَشْغَلَ منهم في وقتها، وإن كان ذلك يختلف باختلاف الأحوال والآحاد في بعض الصلوات، لكن هذا هو الغالب. فالمحافظة عليها بسبب الوقت وقِصَرِه ووجودِ الشغل فيه.
ولهذا لم يشتغل نبيُّنا عليه السلام عن صلاة من الصلوات حتى نَسِيَها إلا صلاة العصر يومَ الخندق، كما أنه لم يَنمْ عن صلاةٍ إلا عن صلاة الفجر، وقال (1): “من نامَ عن صلاة أو نَسِيَها فلْيُصَلِّها إذا ذكرَها، لا كفَّارةَ لها إلا ذلك”، وهو – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نام عن الصلاة مرةً ونَسِيَها أخرى. ولهذا قال لأصحابه: “لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصر [إلا] في بني قُريظةَ”، فأدركَتْهم العصرُ في الطريق، فمنهم من صلَّى في الوقت، ومنهمِ من أخَّرها حتَّى صلاها بعد المغرب هناك، فلم يُعنِّفْ واحدةَ من الطائفتين (2).
ولهذا تنازع العلماء هل يجوز في حال شدَّةِ الخوف تأخيرُ الصلاةِ عن وقتها أو يَجبُ فعلُها في وقتها بحسب الحال؟ على قولين هما روايتان عن أحمد.
__________
(1) أخرجه البخاري (597) ومسلم (684) عن أنس بن مالك.
(2) أخرجه البخاري (946، 4119) من حديث ابن عمر.

(6/303)


إحداهما: أنه يُخيَّر بين تعجيلها بحسب الحال وبين تأخيرِها، كما أن الصحابة منهم من صلَّى في الوقت ومنهم من صلَّى بعد الوقت، لكن أولئك صَلَّوا صلاةً كاملةً، لكونهم لم يمنعوا عن ذلك.
والثاني: أنه يجب فعلُها في الوقت بحسب الحال، وأن ذلك التأخير كان منسوخًا بقوله بعد ذلك: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (1)، فأمرهم بالمحافظة التي هي فِعلُها في الوقت. ولأنه بذلك يجمع بين الواجبين: الصلاة والجهاد بحسب حاله، وإتيانُه بالواجبين أولَى من تفويتِ أحدهما، ووقتُ الصلاة أعظمُ فروضها، ولا تَسقُط بحالٍ، ولهذا تُفعَل على أيِّ حالٍ أمكنَ في الوقت، ولا تُؤخَّر صلاةُ النهار إلى الليل، ولا صلاةُ الليل إلى النهار، لا لاشتغال مفرط ولا غير ذلك.
وأما الجمع بين الصلاتين فهو فِعل لها في وقتهما، إذ الوقتُ ينقسم إلى وقتِ اختيار ووقتِ اضطرار، ولهذا قلنا في المُحْرِم إذا خاف إن صلَّى العشاء أن يفوتَه الوقوفُ بعرفةَ، وإن بادرَ إلى إدراكِ الوقوف قبل صلاةِ الفجر فاتته العشاءُ= إنه يجمع بين الواجبين الصلاة والحج، فيُصلي بحسب حالِه ويُدرك الوقوف. وهذا القول خيرٌ من قولِ من قدَّم الصلاةَ وفوَّتَ الحج، أوَ قدَّمَ الحج وفوَّتَ الصلاةَ، إذ كلٌّ من الوقوِف والصلاة له وقتٌ لا يجوز تأخيرُه عنه. وبعد هذا القوِل قول من سَوغَّ تأخيرَ الصلاة لإدراك الحج، فهو شبيهٌ بقولِ من سَوغَّ تأخير
__________
(1) سورة البقرة: 238.

(6/304)


الصلاة لأجلِ الجهاد. وأما من أمرَ بفعل الصلاة وتفويت الحج فهو يقول: لا يَخرُج عن الإحرام بذلك، بل ينتقلُ عن الحج إلى العمرة. وهذا ضعيفٌ، فإنّ ذلك لا يجوز مع القدرة بحالٍ.
ومن العلماء مَن جَعَلَ فِعلَ الصلاةِ يوم بني قُريظةَ من الصحابة فِعْلَ اجتهادٍ، وأن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يُسوِّغ الفعلينِ جميعًا حتى جَعَلَهم مُخيَّرين، ولكن لما اجتهدوا أقرَّ كلاًّ منهما على اجتهاده. وجعلوا هذا الحديث أصلاً في تقرير المجتهدين على اجتهادهم. وهذا وإن كنتُ قد ذكرتُه في بعض كلامي قبلَ هذا ففيه نظرٌ، لأن المجتهدين إنما يُقَرُّون إذا عُدِمَتِ النصوصُ، فلو كان هذا من باب الاجتهاد لكان أحدهما هو المصيب دونَ الآخر، فكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُصَوِّبُ فِعْلَ إحدى الطائفتين ويَعذُر الأخرى، لا يُسَويّ بين الطائفتين التي اختصَّتْ إحداهما بالإصابة في مواردِ الاجتهاد.
والمقصود الكلامُ على “الوُسطَى”، وأنها مما قد يشتغلُ عنها الأنبياء والصالحون، كما نَسِيَها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ومن نَسِيَها من أصحابه يومَ الخندق، وكما نَسِيَها سليمانُ يومَ عُرِضتْ عليه الخيلُ. فتخصيصها بالأمر بالمحافظة عليها مناسبٌ، كما هو قول أهل الحديث والسلف.
ويليه قولُ من قال: إنها الفجر، فإنه أيضًا قولُ طائفةٍ من الصحابة والعلماء المتبوعين. والفجر أحق الصلوات بذلك بعد العصر، فإن هاتين الصلاتين بينهما من الاشتراك الذي اختصَّا به ما ليس لغيرهما من الصلوات، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح (1): “لَن يَلِجَ النارَ
__________
(1) مسلم (634) عن عمارة بن رُوَيبة الثقفي.

(6/305)


أحدٌ صلَّى قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبها” يعني الفجر والعصر. وقال في الحديث الصحيح (1): “من صلَّى البَرْدَينِ دخلَ الجنةَ”. وقال (2): “إنكم سَتَرَون ربّكم كما ترون القمرَ ليلةَ البدر، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبها فافعلوا”، ثم قرأ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (3). وقال في الحديث الصحيح (4): “من أدرك [ركعةً] من الفجر قبلَ أن تطلع الشمسُ فقد أدرك، ومن أدرك ركعةً من العصر قبلَ أن تغربَ الشمسُ فقد أدرك”.
وذلك أن الله أمرَ بالصلاة قبلَ طلوع الشمس وقبل الغروب، وهذا يتناول هاتين الصلاتين قطعًا، وإن كانت صلاةُ الظهر قد تدخل في ذلك. وكذلك قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) (5)، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) (6) و (بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ) (7)، ونحو ذلك يتناول الفجر والعصر قطعًا، والظهر وإن دخلَتْ في ذلك فوقتُها وقتُ العصر حينَ العُذر، كما أن وقت العصر هو وقتها حالَ العذر فوقتُ هاتين الصلاتين واحد من وجهٍ.
ومن خصائص هاتين الصلاتين أن كلاًّ منهما لا يجوز تأخيرها عن
__________
(1) البخاري (574) ومسلم (635) عن عبد الله بن قيس.
(2) أخرجه البخاري (554) ومسلم (633) من حديث جرير بن عبد الله.
(3) سورة طه: 130.
(4) البخاري (579) ومسلم (608) من حديث أبي هريرة.
(5) سورة غافر: 55.
(6) سورة هود: 114.
(7) سورة الأعراف: 205، سورة الرعد: 15، سورة النور: 36.

(6/306)


وقتها بحال ولا لسبب من الأسباب، كما تؤخَّر الظهرُ [إلى العصر]، والمغربُ إلى العشاء للعذر، ولهذا خصَّهما النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بقوله: “من أدرك ركعةً من الفجر قبل أن تطلع الشمسُ فقد أدرك، ومن أدرك ركعةً من العصر قبلَ أن تَغْرُب الشمسُ فقد أدرك”، إذْ سائر الصلوات لا تحتاج إلى مثل هذا. فهذه صلاة النهار لا تؤخَّر إلى الليل، وتلك صلاة ليلٍ من بعض الوجوه لأجل الجهر فيها، وصلاة نهارٍ من بعض الوجوه لكونها بعد طلوع الفجر، وإن كانت معدودةً من صلوات النهار كما قد نصَّ عليه أحمد وغيرُه، لكن فيها شَبَهٌ من صلاة الليل. وذلك أن لفظ “الليل” “والنهار” فيهما اشتراكٌ، فقد يُراد في الشريعة بالنهار ما أولُه طلوع الفجر، كقوله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) (1) الطرف الأول فيه صلاة الفجر، وهذا هو المعروف في باب الصيام، إذ [إنا] نصوم النهارَ ونقوم الليلَ، فصيامُ النهار أولُه طلوع الفجر، وقيامُ الليل ينتهى بطلوع الفجر. وقد يُراد بالنهار ما أولُه طلوع الشمس، كما يجيئ في الحديث: فعلَ كذا نصفَ النهار، ولما انتصفَ النهار، وقبلَ نصفِ النهار، فأراد نصف النهار الذي أوله طلوع الشمس، إذ زوالُ الشمس مُنتصَفُ هذا النهار، لا مُنتصَف النهار الذي أوله طلوع الفجر.
فلهذا كان وقت الفجر فيه اشتراكٌ بين الليل والنهار، وإن كانت الفجر معدودةً من صلوات النهار، وهذا مما قيل في معنى توسُّطِها، قالوا: لأنها بين صلاتَي الليل وصلاتَيْ نهار، وهو معنًى مناسبٌ، لكن العصر أحقُّ بالتوسُّط كما دلَّ عليه الأحاديث، وكما قال من قال من
__________
(1) سورة هود: 114.

(6/307)


السلف لمن سأله عن ذلك وقيل له، فأومأ بأصابعه، فأشار بالخِنْصر وقال: هذه الفجر، وأشار إلى البنْصِر وقال: هذه الظهر، وأشار بالوسطى إلى العصر وقال: هذه العَصر، وأشار إلى المغرب وقال: هذه السبَّاحة، ولأنها وتْرٌ، والسبَّاحة تُشِير بالتوحيد، وأشار إلى الإبهام وقال: هذه العشاء. وهذا صحيح، فإن أوَّل الصلوات هي الفجر، وهي ركعتان، لتنتقلَ النفسُ منها على التدريج إلى ما هو أكثر منها، ولهذا قدَّمَها في الترتيب بعض المصنِّفين، وذلك أحسنُ ممن قدَّم الظهر، فإن الذين قدَّموا الظهرَ اتَّبعُوا ما فعلَه جبريلُ والنبيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حينَ أمَّه وأقامَ له مواقيتَ الصلوات. والذين قدَّموا الفجرَ تَبِعُوا فيها الأحاديث الثابتة الصحيحة، مثل حديث بُرَيدة (1) وأبي موسى (2) وحديث ابن عمرو (3) وأبي هريرة (4) -إن ثبتَ-، فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بدأ فيها بالفجر في قوله وفعلِه.
وأما تسمية الظهر الأولى فليس هو تسمية سنةٍ عنه عليه السلام، وإنما هو قول بعض السلف، كما في الصحيح (5) عن أبي بَرْزَة أنه قال:
__________
(1) أخرجه مسلم (612)
(2) أخرجه مسلم (614).
(3) أخرجه مسلم (612).
(4) أخرجه الترمذي (151) من طريق محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. قال الترمذي: سمعت محمدا (أي البخاري) يقول: حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصحُّ من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، وحديث محمد بن فضيل خطأ، أخطأ فيه محمد بن الفضيل.
(5) البخاري (547) ومسلم (647).

(6/308)


“كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُصلِّي الهَجيرَ التي تَدعُونها الأولى”. فجعلَ دعاءَها بهذا الاسم من قول المخاطَبين، لا من قول الشارع، كما قال: “وكان يُصلِّي العشاءَ التي تَدعُونها العَتَمَة”، مع أنّ تسمية هذه الصلاة بالعَتَمة وإن وردَ النهيُ عن ذلك (1) لئلاَّ يَغْلِب عليه، فقد وردَ فيه أحاديثُ صحيحةٌ لم يَرِدْ مثلُها في تسمية الظهر بالأولى.
وأما فعلُ جبريل فعنه جوابان:
أحدهما: أن ذلك كان ليلةَ المعراج حينَ فُرِضت الصلواتُ الخمسُ، ولم يكن المسلمون قد علموا بهذا الفرض حتى طلعَ النهارُ، فلما طلعَ أقامَ لهم الصلوات، فكان ابتدأ حينئذ بالظهر.
والثاني: أن ذلك كان متقدمًا قبل تكميل عدد الصلوات وأوصافها، وكانت الصلاة ركعتينِ ركعتينِ، ثمَّ إنّ الله بعد ذلك أكملَ عددَ الصلوات، وإنما أُخِذَ بالآخر من أمر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد قال: “المغربُ وِتْرُ النهار، فأوتروا صلاةَ الليل”، رواه أحمد (2). ولو كانت الظهر أول الصلوات لم تكن الفجرُ داخلةً لا في وتر الليل ولا في وتر النهار.
وأيضًا فمعلوم أن أول النهار طلوعُ الفجر، فصلاةُ ذلك الوقت تكون أول الصلوات، والإنسان حينئذٍ يكون كالميت. ولهذا كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذا استيقظَ يقول (3): “الحمد لله الذي أحيانَا بعدَ ما أماتَنا، وإليه
__________
(1) أخرجه مسلم (644) من حديث ابن عمر.
(2) في المسند (2/ 30، 32، 41، 82، 154) عن ابن عمر.
(3) أخرجه البخاري (6312) عن حذيفة، ومسلم (2711) عن البراء.

(6/309)


النُّشُور”. فكان أول الصلوات هي الفجر، وإذا كانت الفجر أولَها كانت العصر أوسطها، فالمحافظة عليهما في أول وقتهما أولَى من غيرهما، لأن وقتهما ليس بالطويل الممتدّ كالظهر والمغرب والعشاء، فلا يجوز. تأخيرهما عنه، فلهذا كان توكيد المحافظة عليهما متعيِّنًا، فإنّ المحافظة تتعلق بالوقت.
والفجر لها خصائص تتميز بها عن العصر، مثل كون القراءة فيها طويلةً، كما قال تعالى: (إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)) (1). وفي السنن (2) عن أبي هريرة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “تَشهدُه ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار”، وفي روايةٍ: “يَشهدُه الله وملائكتُه”. ومن خصائصها أنها لا تُجمَع إلى غيرِها.
ومن خصائصهما أنه يجتمع فيهما ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهار، كما في الصحيح (3) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيَعْرُج الذين باتوا فيكم، فيَسألُهم -وهو أعلمُ منهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلُّون، وتركناهم وهم يُصلُّون”. ومن خصائصهما تركُ الصلاةِ بعدهما، كما في حديث ابن عباس (4) وأبي سعيد (5) وغيرهما من النهي عن ذلك. والله سبحانَه أعلم.
__________
(1) سورة الإسراء: 78.
(2) الترمذي (3134)، وقال: حسن صحيح.
(3) البخاري (555) ومسلم (632) من حديث أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاري (581).
(5) أخرجه البخاري (586) ومسلم (827).

(6/310)


فصل يتعلق بما قبله من اجتماع الصلاة والجهاد
وذلك أنَّ الله أمرَ بالمحافظة على الصلاة، والمحافظة عليها فِعلُها في أول وقتها. والوقتُ وقتانِ: وقت يتقدَّرُ بالزمان، فلا يجوز تأخُّرُها عنه بحالٍ، والوقت الثاني يتقدَّرُ بالفعل، وذلك نوعانِ: أحدهما أنه إذا أُقيمتِ الصلاةُ فلا صلاةَ إلا التي أقِيمتْ، لأن الإقامة مختصَّة بها بعينها، فصار ذلك الوقتُ وقتَها المقدر لا يَسَعُ لغيرها، فلا يُفعَلُ فيه غيرُها لا تطوُّعٌ ولا غيرُه. ولهذا تنازع العلماءُ فيما إذا ذكرَ العبدُ فائتةً بعد أن أقيمت الحاضرةُ، لأنَّ كلاهما واجبٌ، وقد ضاق الوقت عنهما، وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “مَن نامَ عن صلاةٍ أو نَسِيَها فليُصلها إذا ذكر، فإن ذلك وقتُها، لا وقتَ لها إلا ذلك” (1). فأوجبَ فِعْلَها وقضاءَها على الفور، وهذا مما يُحتجُّ به على الترتيب في قضاء الفوائت، كما هو مذهبُ أكثرِ الفقهاء في الفوائت القليلة، ومذهبُ بعضهم في الفوائت القليلة والكثيرة. كما إذا ذكرها بعد ضِيق الوقتِ المقدَّر بالزمن، هل يُقدم الفائتةَ لتقدُّمِ وجوبها، أو يُقدمُ الحاضرةَ خوفَ فواتِها وخروجها عن وقتها فتصير فائتتين، أو يُصلي الحاضرةَ مرتين، فيفعلُها مرةً لأنه وقتها، ثمَّ يُصليها بعد أن يُصلِّيَ الفائتة لأجلِ مراعاةِ الترتيب؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. وقد رأى أبو هريرة رجلاً خرجَ من المسجد بعد النداء فقال: “أما هذا فقد عَصَى أبا
__________
(1) سبق تخريجه.

(6/311)


القاسم” (1). لأن النداء إليها عينُ وقتِها، ولهذا نُهُوا يومَ الجمعة عن البيع بعد النداء، لأن ذلك وقتُ الصلاة المعيَّن المقدَّر.
فصل
وإذا كانت الصلاةُ على ما ذُكِرَ من توسيع الوقتِ تارةً وتقديرِه أخرى، فلا تُؤخَّر عن الوقتِ الموسَّع، بل المحَافظةُ عليها في الوقت أمر واجبٌ على كل حال، كما أمر به القرآنُ فقال: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) (2)، وقال: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)) (3)، وقال: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (4)، وقال: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)) (5)، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)) (6)، مستثنيًا هؤلاء ممن خلف هؤلاء، وعاد ذاكرًا لهم في “الوارثين الذين يرثون الفردوس”. وكما قال: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) (7)، وقال: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) (8)، وقال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
__________
(1) أخرجه مسلم (655).
(2) سورة البقرة: 238.
(3) سورة الماعون: 4 – 5.
(4) سورة مريم: 59.
(5) سورة المعارج: 23.
(6) سورة المؤمنون: 9.
(7) سورة الإسراء: 78.
(8) سورة هود: 114.

(6/312)


غُرُوبِهَا) الآية (1). ومثلها في (ق) (2)، وقال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)) (3)، وقال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)) (4)، وقال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)) (5). فأمر بفعل الصلوات في مواقيتها مطلقًا وعمومًا، وأمر به مفصلاً وخصوصًا في الآيات التي عينتها.
وقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنه سيكونُ عليكم أُمَرَاءُ يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتِها، فصَلُّوا الصلاةَ لوقتِها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلةً” (6).
وقال: “من نامَ عن صلاةٍ أو نَسِيَها” الحديث (7). وقال: “ليس في النوم تفريطٌ، إنما التفريطُ في اليقظة، أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقتُ التي تلِيها” (8). وقال: “من فاتَتْه صلاةُ العصر فقد حَبِطَ عملُه” (9)، و”من فاتتْه صلاةُ العصر فكأنما وُترَ أهله وماله” (10)، وقال: “الوقتُ ما بين
__________
(1) سورة طه: 135.
(2) سورة ق: 39.
(3) سورة الطور: 48 – 49.
(4) سورة غافر: 55.
(5) سورة النساء: 103.
(6) أخرجه مسلم (648) عن أبي ذر.
(7) سبق تخريجه.
(8) أخرجه أحمد (5/ 305) وأبو داود (441) والترمذي (177) والنسائي (1/ 294) من حديث أبي قتادة.
(9) سبق تخريجه.
(10) سبق تخريجه.

(6/313)


هذين” (1)، إلى أمثال ذلك.
فالجهاد واجبٌ على الفور تارةً وعلى التَّراخِي أخرى، وعلى الأعيان تارةً وعلى الكفاية أخرى، وهو سَنَامُ الدين، كما أن الصلاة عمودُ الدين، والإسلام رأسه. ولهذا كانت غايةُ أحاديث النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأكثرها وآكدها في الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضًا قال: “اللهمَّ اشْفِ عبدَك هذا يَشْهَد صلاةً ويَنْكَأ لك عَدُوًّا” (2).
وكانت السنةُ أن الإمام هو الذي يُقيم للناس الصلاةَ ويُجاهِدُ بهم العدوَّ، فأمير الحرِب والصلاة واحدٌ، كما قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)) (3)، فاخبر أنه أنزل الكتابَ والميزان والحديدَ، ولهذا كان قِوامَ الدين كتابٌ يَهدِي وعدلٌ يُعملُ به وحديدٌ ينصر، (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)) (4).
والجهاد يلزم بالشروع، كما أن الكتاب يلزم بالشروع، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “من قرأ القرآن ثمَّ نَسِيَه لَقِيَ الله وهو أَجْذمُ” (5)، فقد قال: “من تعلَّم الرميَ ثمَّ نَسِيَه فليس منا”، وفي رواية: “فقد عصى”، وهو
__________
(1) أخرجه مسلم (614) عن أبي موسى الأشعري.
(2) أخرجه أحمد (2/ 172) وأبو داود (3107) عن عبد الله بن عمرو.
(3) سورة الحديد: 25.
(4) سورة الفرقان: 31.
(5) أخرجه أحمد (5/ 284، 285) والدارمي (3343) من حديث سعد بن عبادة.

(6/314)


في الصحيح (1). وإذا كانت الصلاة التي يُتلَى فيها الكتابُ يتعيَّنُ وقتُها بالفعل، فتلزم بالشروع، فكذلك الجهاد، فإذا صار المسلمون حَذْوَهم أو حاصروا حصْنَهم لم يكن لهم الانصرافُ حتى يُقضَى الجهاد، كما قال تعالى: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)) الآية (2). وقد أمر سبحانَه بالأمرين في حال القتال، فقال: (إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) (3)، فأمر بالثبات الذي هو مقصود الجهاد، وبذكْره الذي هو مقصود الصلاة، كما قال ابن مسعود: ما دُمْتَ تَذكرُ الله فَأنتَ في صلاة ولو كُنتَ في السوق.
ولهذا يَقرنُ سبحانَه كثيرا بين الأمر بالصلاة والأمر بالصبر الذي هو حقيقة الجهَاد، كقوله: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (4)، (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)) (5)، وقال: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) إلى قوله: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (6)، وقال: (فَأصْبرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْد رَبّكَ قبْلَ طلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (7)، وكذلك في (ق) (8) والطَورَ (9)
__________
(1) مسلم (1919) عن عقبة بن عامر.
(2) سورة الأنفال: 15.
(3) سورة الأنفال: 45.
(4) سورة البقرة: 45.
(5) سورة البقرة: 153.
(6) سورة هود: 114، 115.
(7) سورة طه: 135.
(8) آية: 39.
(9) آية: 48.

(6/315)


وغافر (1)، وقوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)) إلى قوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)) (2)، وقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) (3).
فأمر سبحانه بهذا وبهذا، وكلاهما وإن كان ينقسم بحسب فعلِه ووقتِه إلى مُوَسَّعٍ ومقدَّرٍ، وبحسب فعلِه إلى معيَّنٍ ومخيَّرٍ، وبحسب فاعلِه إلى واجب على الأعيان وواجبٍ على الكفاية، فهما مشتركان في أنَّ ما كان كذلكَ يلزم بالشروع فيه إتمامه، فما كان وقتُه موسَّعًا يتعيَّن بالدخول فيه، وما كان واجبًا على الكفاية يتعيَّنُ على من باشرَه.
والمقصود ههنا أنه قد يجتمع الواجبان في وقتٍ واحدٍ، وله صورتان:
إحداهما: أن لا يكون مباشرًا للجهاد، بل مصابرًا للعدوّ، فهذا يُصلِّي صلاة الخوف إذ كان … (4) له، كما صلاَّها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – غيرَ مرة على وجوهٍ خلاف الوجوه المعتادة في الأمن، فيَسُوغ فيها استدبارُ القبلةِ، والعملُ الكثير في نفس الصلاة، ومفارقةُ الإمام قبلَ السلام، واقتداء المفترض فيها بالمتنفل، والتخلُّف عن متابعة الإمام حتى يُصلِّي ركعة. وهذه الأمور فيها ما لا يُفعَل إلا لعذر بالاتفاق، وفيها ما
__________
(1) آية: 55.
(2) سورة المزمل: 8 – 10.
(3) سورة الإنسان: 23 – 26.
(4) هنا في الأصل كلمة رسمها: “مزاييا”.

(6/316)


لا يُسوغ فعلَه أكثرُ العلماء.
والثاني: أن يكون محتاجًا إلى مباشرة القتال في حال الصلاة، وهو الذي قصدناه بهذا الفصل، فهذه تُسمى صلاة المسايَفَة، لأن المسايفة هي أحوال المقاتلين، وإلاّ فالمطاعنةُ والمداناة والمضاربة بالمثقَّلات من الحجارة والدبابيس ونحو ذلك، سواء كان القتال بمحدد أو مثقلِ أو ما يجمعهما، فيه ثلاثة أقوال:
أحدها -وهو المشهور من مذهب أحمد، وهو مذهب الشافعي- أنه يأتي بالواجبَيْنِ جميعًا، وأن تأخير الصلاة منسوخٌ بآية المحافظة.
والثاني -وهو الرواية الأخرى عن أحمد- أنه يُخيَّر بينَ تقديم الصلاة وتأخيرِها، لحديث بني قريظة.
والثالث -وهو قول طائفة- أنه يؤخّر الصلاةَ على ظاهر الأمر، وهذا قول جماعة من أهل الرأي وأهل الظاهر.
فصل
والمؤمن له ثلاثة أعداء: شياطينُ الإنس والجنّ والدوابّ، وقد وردتِ السنةُ بجهاد الثلاثة في الصلاة، فيجمع بين مناجاة ربه وبينَ دَفْع عدوه من جميع الحيوان. أما قتال الإنس فقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ

(6/317)


فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) (1). وفي حديث ابن عمر: فإن كان خوفا شديدا صلّوا (2).
__________
(1) سورة البقرة: 238 – 239.
(2) انتهى ما في الأصل.

(6/318)


فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين

(6/319)


فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين
أصل ذلك أن الله أمر بالصلاة في مواقيتها، كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة، وجعل الصلوات خمس صلوات كما فرضها سبحانه على المؤمنين ليلة المعراج، وجعلها خمسًا في العمل وخمسين في الأجر.
وقد ثبت في الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها أن الصلاة فُرِضت أول ما فُرضت ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقِرَّتْ صلاة السفر.
وروي فيه في الصحيح (2) أن صلاة الحضر جعلت أربعًا لما هاجر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من مكة إلى المدينة. وفي السنن (3) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة النحر ركعتان، تمامٌ غير قصر على لسان نبيكم.

ولهذا كان أصح قولي العلماء أن الفرض على المسافر ركعتان، وأن صلاته ركعتين لا يحتاج إلى النية، بل لو نوى أربعًا كان السنة في حقه أن يصلي ركعتين. وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد على مقتضى نصوصِه، وهو قول أكثر قدماءِ أصحابه كأبي بكر عبد العزيز وغيره. وقال طائفةٌ منهم كالخرقي والقاضي أبي يعلى وغيرهما: إنه يفتقر إلى النية، موافقةً للشافعي، إذ كان أصله أن
__________
(1) البخاري (350، 1090) ومسلم (685).
(2) البخاري (3935) ومسلم (685/ 2).
(3) أخرجه النسائي (3/ 111، 118، 183) وابن ماجه (1063، 1064) وأحمد (1/ 37).

(6/321)


فرض السفر أربع، وإنما تصير ثنتين بالنية، وهؤلاء [لا] يكرهون الأربع، بل للشافعي قول: إن الأربع أفضلُ، وحُكِيَ عنه قول إنه لا يجوز القصرُ إلا مع الخوف كقول بعض الخوارج. لكن الأظهر أن هذا كذب على الشافعي، فإن الشافعي أجل قدرًا من أن يقول مثل هذا. وظاهر مذهبه أن القصر أفضل، وهو مذهب أحمد بلا خلافٍ عنه، بل قد نصَّ أحمد على أن الأربع مكروهة، كما نقلَ ذلك عنه الأثرمُ، وتوقفَ أيضًا في بعض أجوبته هل تُجزِئُه الأربعُ. وما توقفَ فيه من المسائل يُخرجُه أصحابُه على وجهين أيضًا. ومذهبُه في هذا كمذهب مالك، قيل: إن الإتمامَ لا يجوز، وقيل: يُكره، وقيل: هو تركُ الأولى.

وبالجملة فعامةُ العلماء على أنه ليس القصر كالجمع، كما تواترتْ بذلك سنة رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه قد تواترتِ السنةُ على أنه إنما كان يُصلي في السفر ركعتين في جميع أسفارِه، وما روى عنه أحدٌ من علماء الحديث أنه صلى في السفرِ أربعًا قَطُّ. والحديث الذي يُروى عن عائشة (1) أنه كان يصوم ويُفطِر ويَقْصُر ويتِمُّ ضعيف، ولفظُه أنها قالت: قلتُ له: أفطرتُ وصمتُ وقَصَرتُ وأتممتُ، فقال: “أحسنتِ يا عائشةُ”. فأخبرتْهُ أنها هي التي أتمَّتْ وصامتْ، مع أن هذا ضعيفٌ بل كذبٌ على عائشة، كما ذُكِرَ في موضعِه.
بل من تتبَّعَ سنة رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلِمَ أنه من روى عنه أنه صلَّى أربعًا في السفر فقد كذبَ عليه. ولمَّا حجَّ كان يُصلّي بمكةَ وبمنى ركعتينِ،
__________
(1) أخرجه النسائي (3/ 122)

(6/322)


ولمَّا فتحَ مكةَ كان يُصلّي ركعتين، وأقام بها تسعةَ عشرَ يومًا يُصلّي بها ركعتين، وقال لأهل مكة: يا أهل مكةَ أَتِمُّوا صلاتكم فإنَّا قومٌ سَفرٌ (1).
وأما في حجة الوداع فكان يُصلّي بعرفةَ ومزدلفةَ ومِنى ركعتين، ويُصلِّي وراءَه الحجَّاج من أهلِ مكة وغيرِهم، ولم يقل لهم: أَتِمُّوا صلاتكم فإنَّا قومٌ سفرٌ، ولا روى ذلك أحدٌ من أهل الحديث، ولكن ذكرَ ذلك بعضُ المصنِّفين في الرَّأي، واشتبَه عليه قولُه لهم بمكة في غزوة الفتح، فظنَّ أنه قال في سفرِه بهم إلى عرفةَ ومزدلفة ومنى.
وكذلك ذكر بعضُهم أن عمر بن الخطّاب قال ذلك بمنى في حجه، وهذا خطأٌ رواه بعض العراقيين، والصواب الثابت الذي رواه مالك وغيرُه أن عمر إنما قال ذلك بمكة (2).

ولهذا كان أصحّ أقوال العلماء أن أهل مكة يَقصُرون ويجمعون بعرفةَ ومزدلفةَ، كما هو مذهب أكثر فقهاء مكة والمدينة، وهو مذهب مالكٍ وغيرِه وقولُ طائفةٍ من أصحابِ أحمد كأبي الخطاب في “العبادات الخمس”.
وقيل: يجمعون ولا يَقصُرون، كقولِ أبي حنيفة، وهو المنقول عن أحمد، وقد أجاب بأنهم لا يقصرون، ولم يَنْهَهم عن الجمع. ولهذا جَزَمَ أبو محمد وغيره من أصحابِ أحمد أنهم يجمعون، وخَطَّأَ
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 432) وأبو داود (1229) من حديث عمران بن حصين. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وقد تكلم فيه غير واحدٍ من الأئمة.
(2) الموطأ (1/ 149).

(6/323)


من قال: لا يجمعون، كما يقوله كثير من أصحاب الشافعي.
والقول الثالث: إنهم لا يَقصرون ولا يجمعون، كما يقوله كثير من أصحاب الشافعي وبعض أصحابِ أحمد. وهو أضعف الأقوال المخالِفة للسنة المعلومة من وجهين.
والذين قالوا: يَقصُرون، منهم من قال ذلك لأجل النسك، كما قال مالك وبعض أصحاب أحمد. ومنهم من قال ذلك لأجل السفر، كما قال ذلك كثيرٌ من السلف والخلف، وهو قول بعض أصحابِ أحمد، وهو أصحُّ الأقوال.
وكذلك جَمْعُهم، فإنّ من العلماء من قال: جمعُهم لأجلِ النسك، كما يقولُه أبو حنيفة وغيرُه فلم يُجوز الجمع إلا بعرفةَ ومزدلفة خاصةً. والجمهور قالوا: بل الجمعُ كان لغير النسك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. وهؤلاء منهم من قال: الجمعُ كان لأجل السفر، ومن قال: الجمعُ يجوز لأهل مكة، [ومن] قال: يجوز الجمعُ في السفر الطويل والقصير، ومن قال: لا يجوز الجمعُ إلا في الطويل. وهما وجهانِ في مذهب الشافعي وأحمد.
والصواب أن كلَّ واحدٍ من القصر والجمع لم يكن لأجل النسك، بل كان القصرُ لأجل السفر فقط، وأما الجمعُ فلأجل الحاجة أو المصلحة الشرعية، وذلك أن القصر يدور مع السفر وجودًا وعدمًا، والقصر معلقٌ به بالنصّ لقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن الله وضعَ عن المسافر الصومَ وشطْرَ الصلاة”. وهو حديث حسن ثابتٌ من رواية أنس بن

(6/324)


مالك الكعبي (1)، وكذلك أخبر عنه أصحابه، كقول عمر بن الخطاب: “صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان تمامٌ غير قصر على لسانِ نبيكم – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ” (2). وكذلك قال ابن عمر: “صلاة السفر ركعتان، من خالفَ السنةَ كفر” رواه مسلم وغيره (3). ومعناه: من اعتقد أن الركعتين لا تُجزِئ فقد كفرَ، لأنه خالفَ السنة المعلومة، كما لو قال: إنّ الفجر لا تُجزئ فيه ركعتانِ، وإن الجمعة والعيد لا تُجزِئ فيه ركعتان. وهذا يُحكى عن بعض الخوارج الذين زعموا أنهم يتبعون ظاهرَ القرآن وإن خالفَتْه السنةُ المتواترة. وهؤلاء ضالُون في فهمهم للقرآن وضالُّون في مخالفة السنة.
وقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (4) لم يذكر فيها أنه قصر للعدد، والصحابة عمر وغيره جعلوا صلاةَ المسافر ركعتين تمامًا غيرَ قصرٍ. وهذا قاله عمر بعد سؤالِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ثبتَ في الصحيح (5) عن يعلى بن أمية سأل عمرَ عن هذه الآية (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: “صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليكم، فاقبلوا صدقتَه”. فكأنّ المتعجب ظنَّ أن القصر
__________
(1) أخرجه أحمد (3/ 347، 5/ 29) وأبو داود (2408) والترمذي (715) وابن ماجه (1667، 3299) والنسائي (4/ 190).
(2) سبق تخريجه.
(3) أخرجه بهذا اللفظ عبد بن حميد في مسنده (829) ولم يخرج في صحيح مسلم.
(4) سورة النساء: 101.
(5) مسلم (686).

(6/325)


قصر العدد [و] أنه معلَّقٌ بالسفر مع الخوف، كما ظنَّ بعضهم أن الجُنُب لا يتيمَّمُ، وظنَّ عمّارٌ أنه يتيمَّم عن الجنابة بالتمرُّغ في التراب كما تتمرَّغُ الدابة، وظنَّ عمارٌ وغيره من الصحابة أن التيمُّم يمسح فيه اليدين إلى الآباط، فلما سألوا النبيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بيَّن لهم أنه يُجزِئ المسحُ إلى الكُوعَيْنِ وأن الجنب يتيمَّم كذلك (1)، وكان ما ذكرَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – موافقًا لما دلَّ عليه القرآن، لا يخالفُه لا لباطنِه ولا لظاهرِه، ولكن كلّ أحدٍ منهم يفهم ما دلَّ عليه القرآن، فقد يظهر له معنًى يظنُّ أن ظاهر القرآن دلَّ عليه، ويكون من نَقْصِ فهمِه لا من نقصِ دلالةِ القرآن.
كمن ظنَّ أن قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (2) يَمنَع الفسخَ الذي أمر [به] النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أصحابَه، والنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أطوعُ الخلق لربِّه وأتبعُهم لهذه الآية، فكيف يأمرهم بأن لا يتمُّوا الحج والعمرة لله؟ والذي لا يتم هو الذي يَحِلُّ بعمرةٍ لا يتمتع بها أو بلا عمرةٍ، وهذا لا يجوز بالإجماع.
وأما من أحلَّ بعمرةٍ وتَمتَعَّ بها فعمرتُه جزءٌ من الحج، وهو …… (3) بصوم الأيام الثلاثة التي قيل فيها: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) (4)، وعمرتُه قد دخلتْ في حجته، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “دخلَتِ العمرةُ في الحج إلى يوم القيامة” (5)، كما دخلَ الوضوء في الغسلِ غُسلِ الجنابة وغُسل
__________
(1) أخرجه البخاري (338) ومسلم (368).
(2) سورة البقرة: 196.
(3) هنا كلمات غير واضحة في الأصل.
(4) سورة البقرة: 196.
(5) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (1/ 236، 253، 259، 341) من حديث ابن عباس، وأخرجه أيضًا مسلم (1241).

(6/326)


الميت، وتحلُّلُه في أثناء الإحرام تحلُّلُ مَن يَقصِدُ أنه يَحِلُّ ثمَّ يُحرِمُ بالحج بعد ذلك، لا يجوز له التحلُّلُ بدونِ ذلك، فدخلَ الحِلَّ رحمةً من الله. والحاجُّ يتحلَّلُ التحلُّلَ الأول وقد بقيَ عليه الطواف والرمي، وإن فعلَ ذلك بلا إحرام فهو من الحج، لكن من تحلل [بعمرة] لم يبقَ عليه بعضُ الحج، بل المتمتع يتحلل أولاً حلاًّ تامًّا، ثم عليه أن يُحرِم بعد ذلك التحلل الثاني بعد رمي جمرة العقبة، ثم عليه الطوافُ والرميُ وهما من الحج.
وكذلك من ظَنَّ أن ظاهر القرآن يُخالِفُه قوله للمبتوتة: “لا نفقةَ لكِ ولا سُكنى” (1)، والقرآن لا يدلُّ على إيجاب نفقة وسُكنى للمبتوتَةِ أصلاً، وإنما المطلَّقة المذكورة في قوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ) (2) هي الرجعية كما يدلُّ عليه سياقُ الكلام، والإنفاقُ على ذواتِ الحمل إنما كان لأجل الحمل. ولهذا كان أصحّ قولَي العلماء أن النفقةَ للحمل نفقةُ والدٍ على ولدِه، لا نفقةُ زوج على زوجته، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه التي اختارها أصحابُه، وهو أحدُ قولَي الشافعي. ومن أوجبه للزوجات فإنه لم يخص به الحامل، كما قال من يوجب النفقةَ للمبتوتة، لم يكن للحمل عنده تأثير. ومن قال: نفقة زوج لأجل الحمل فقوله متناقضٌ غير معقول، والقرآنُ علَّق النفقةَ بالحمل والإرضاع، والمعلَّق بالإرضاع نفقةُ والد على ولدِه باتفاق المسلمين، فكذلك نفقة الحمل، ومن علَّقَها بالزوجيةِ فهو مخالفٌ
__________
(1) أخرجه مسلم (1480) عن فاطمة بنت قيس.
(2) سورة الطلاق: 1.

(6/327)


للكتاب والسنة.
ونظائرُ هذا كثيرة مما يظنه بعض الناس أن السنة خالفَتْ فيه ظاهرَ الكتاب، ولا يكون الأمر كما قاله، بل تكون السنة موافقةً لظاهرِ القرآن. والمقصود هنا ذِكرُ الجمع وذِكر القصر تبعًا.
فقوله تعالى: (أَنْ تَقْصُرُوا) (1) مطلقٌ مجملٌ قد يُراد به قَصْر العمل والأركان، وذلك لا يجوز إلا في الخوف، فإن المسافر ليس له لأجلِ سفرِه أن يقصر عملَ الصلاة كما يَقصره الخائف، وأما الخائف فيجوز له القصرُ كما قال تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) إلى قوله تعالى: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (2).
فالصلاة مع الأمن صلاة مُقَامَةٌ إقامةً مطلقةً وهي التامَّة، ومع الخوف مقصور، وإذا ضربوا في الأرض وكانوا خائفين قَصَروا لأجل الخوف مع صلاةِ ركعتين، فإن كانت الركعتان لا تسمَّى في السفر قصرًا، فإنه بين حال الخوف في السفر، كما بيّن التيمم عند عدم الماء في السفر، لأن ذلك هو الذي يحتاج إلى بيانه في العادة العامة، فأما عدمُ الماء في الحضر فنادر، واحتياج المقاتل لصلاة الخوف نادر.
ودلَّ القرآن على أن مجرَّد الضرب في الأرض ليس نسخًا للقصر المذكور في القرآن، وليس في القرآن أنه لا قصرَ إلا قصر المسافر، بل قصر الخائف قصرٌ، وصلاتُه ناقصة بالكتاب والسنة والإجماع. وأما
__________
(1) سورة النساء: 101.
(2) سورة النساء: 102، 103.

(6/328)


المسافر ففي تسمية صلاته قصرًا نزاع وتفصيل، ومن لم يُفرَض عليه إلا ركعتان مع قدريه على الأربع وتيسُّرِ ذلك عليه لم يكن قد نقصَ مما أُمِرَ به شيئًا، كمن صلَّى الفجر والعيد ركعتين والجمعة ركعتين، بخلاف الخائف والمريض ونحوهما، فإنه إنما أبيح لهما نقصُ الصلاةِ لأجل العجز عن إكمالِها، والمسافر يُباح له ذلك مع القدرة، كما أبيح له الفطرُ، واستُحِب له أو وجبَ عليه ذلك عند طائفة. وإن كان المسافر إنما وُضِعَ عنه الصومُ وشَطْرُ الصلاة لكون السفرِ مَظِنَّة الحاجة إلى التخفيف فهذا حكمٌ عامٌّ لكل مسافرٍ معلَّقٌ بجنس السفر، إما لكون السفرِ قطعةً من العذاب فتكون الحكمةُ عامةً، أو لكونه مظنَّةً كما يظنُّه بعض الناس، وإن تخلَّفتِ الحكمةُ في آحاد الصُّوَر. وهذا بمنزلة المسافر ليس عليه جمعة، وأن عرفة ومنى لا جمعةَ فيهما، وأن المسافر يمسح على الخفَّين ثلاثةَ أيام ولياليهنّ والمقيم يمسح يومًا وليلةً، ونحو ذلك من الأحكام التي فرَّق الله فيها بين حكم المقيم والمسافر.
وإذا كان قَصْرُ العدد أمرًا معلَّقًا بالسفرِ يثبت به ولا يثبت بدونه كان السفر هو المؤثِّر في قصر العدد، فأما النسك فلا تأثير له في قصر العدد، بل كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقْصُر قبلَ أن يُحرِم بالحج هو وأصحابه، ولم يزل يَقصُر إلى أن رجعَ إلى المدينة، فقَصَرَ قبلَ إحرامِه وبعدَ تحلُّلِه، وقَصَرَ معه أهلُ مكة، كما قَصَرَ معه سائرُ من حَجَّ معه. فعُلِمَ أن ذلك كان لأجل سفرِهم من مكة إلى عرفةَ، لا لكونهم حُجَّاجًا. ولهذا لو أحرموا بالحج وهم مقيمون بمكة لم يجز لهم القصرُ عند أحدٍ من العلماء، فعُلِمَ أن ذلك لم يكن لأجل النسك. فمن جعلَ قَصْرَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بعرفةَ ومزدلفةَ ومنى إنما كان لأجل النسك لا السفر فقد علَّق الحكمَ

(6/329)


بوصفٍ عديمِ التأثير فيه، ولم يُعلقه بالوصف المؤثِّر فيه بالنصّ والإجماع.
ولهذا نظائرُ يَغْلَطُ فيها من يُعلِّق الحكم بالوصف الذي لم يؤثِّر فيه، دون الوصف المؤثِّر فيه، كمن علَّق على استئذان الصغيرة في النكاح بالبكارة دون الصِّغَر، وهذا خلاف النصوص والأصول، فإنها إنما علَّقتْ ذلك بالصغر، فأما البكارة فإنما عُلِّقتْ بها صفة الاستئذان فقط، وهو كونُ سكوتها إقرارَها. وكذلك من علَّق بعض الأحكام في الطلاق والخلع والكناية أو غير ذلك بكونه تعليقًا بشرط، وفرَّق بين أن يكون العقد بصيغة تعليق أو بغير صيغة تعليق. وهذا رَبْطُ الحكم بوصفٍ عديمِ التأثير في الكتاب والسنة، وإنما رَبَطَ الله الأحكامَ بمعاني الأسماء المذكورة في النص، مثل كونها طلاقًا وخلعًا وكنايةَ ويمينًا وغير ذلك، فما كان من هذا النوع علَّق حكم ذلك به، سواء كان بصيغة الشرط، وإن لم يكن من هذا النوع لم يدخل فيه بأيّ صيغةٍ كان.
فصل
وأما الجمع بين الصلاتين فلم يُعلَّق بمجرَّد السفر في شيء من النصوص، بل النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يجمع في حجته إلا بعرفة والمزدلفة، وكان بمنى يقصر ولا يجمع، وكذلك في سائر سفر حجته، ولا يجمع لمجرد النسك، فإن الناسك هو في النسك، وإنما جَمَع بعرفةَ لما كان مشتغلا بالوقوف، وجمعَ بجَمْع لما كان جادًّا في السير من عرفةَ إلى مزدلفة. وهكذا ثبت عنه في الصحاح (1) من حديث ابن عمر أنه كان إذا
__________
(1) البخاري (1091 ومواضع أخرى) ومسلم (703).

(6/330)


جدَّ به السيرُ أخَّرَ الظهر إلى وقت العصر، ثم نزلَ يجمع بينهما، وكذلك إذا جدَّ به السَّيرُ جمعَ بين المغرب والعشاء، وكذلك يجمع في سفرِه إذا جدَّ به السير، كما فعلَ بمزدلفة. وكذلك ثبت في الصحيح (1) من حديث أنس عنه أنه كان إذا ارتحل قبلَ أن تَزِيغَ الشمسُ أخَّرَ الظهرَ إلى وقت العصر، ثمَّ نزلَ فصلاَّهما جميعًا. وثبتَ في الصحيح (2) عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلَّى بالمدينة سبعًا جميعًا وثمانيًا جميعًا، أراد بذلك أن لا يُحرِج أمته. وثبت في الصحيح (3) من حديث معاذ أنه جمعَ في غزوة تبوك جَمْعَ التأخير. وروى أبو داود (4) وغيرُه بإسنادٍ حسنٍ جَمْعَ التقديم من غير طريقٍ، فنبَّه الذي أنكر عليه، وكان هذا موافقًا لجمعِه بعرفةَ، وجمعُ التأخير أشهرُ، وقد رُوِيَ عنه أنه كان يجمعُ بالمدينة بالمطر، كما استدلَّ بذلك من حديث ابن عباس (5).
وكان سلف أهل المدينة يجمعون في المطر بين المغرب والعشاء، ويجمع معهم ابن عمر وغيره من الصحابة مُقرِّين لهم على ذلك، مع أن الأمراء كانوا إذا خالفوا السنة أنكروا ذلك عليهم، [كما أنكروا عليهم] لما أذّنوا للعيد، وأنكروا عليهم لما قدَّموا الخطبة في العيد ولمّا أخرجوا المنبر لصلاة العيد، بل وأنكر ابن عمر قنوتهم في الفجر وغير
__________
(1) البخاري (1111) ومسلم (704).
(2) مسلم (705).
(3) مسلم (706).
(4) في سننه: باب الجمع بين الصلاتين.
(5) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 144) ومن طريقه مسلم (705) وأبو داود (1210) والنسائي (1/ 290). قال مالك: أرى ذلك كان في مطر.

(6/331)


ذلك، ولم ينكروا جمعَهم للمطر، فدلَّ ذلك على أنه كان من السنن الموروثة عندهم عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي السنن (1) أنه قال للمستحاضة: “سآمرُكِ بأمرين أيَّهما فعلتِ أجزأ عنك من الآخر”، فخيَّرها بين أن تصلِّي كلَّ صلاةٍ في وقتها بوضوءٍ، وبين أن تؤخِّر الظهرَ وتعجِّلَ العصرَ وتجمع بينهما بغُسلٍ، وتُؤخِّر المغربَ وتعجِّل العشاءَ وتجمعَ بينهما بغُسلٍ، قال: “وهذا أحبُّ الأمرين إليَّ”. فاختارَ الجمعَ بين الصلاتين بغُسلٍ على التفريق بالوضوء، وكان هذا مما يُستدلُّ به على أن الجمع مع إكمال الصلاةِ أولَى من التفريقِ مع نقصِها، فإنه لا سببَ هنا للجمع إلا الاغتسال الذي هو أكملُ للمستحاضة من الوضوء، مع أن الاغتسال ليس بواجب عليها، والغسلُ مع تيقُّن الحيض واجب، وأما في هذه الصورة فيُستحبُّ احتياطًا، لإمكان أن يكون دمُ الحيض قد انقطعَ حينئذٍ، ولهذا يستحب لها أن تغتسل لكل صلاة.
وهذا بمنزلة الشاكّ هل أحدثَ أم لا؟ بعد تيقُّن الطهارة، فإن الوضوء أفضل له، وإن استصحبَ الحالَ أجزأهُ عند الجمهور، وهو الصواب، كما أجزأ المستحاضةَ أن تصلِّيَ إذا اغتسلتْ، وإن جاز أن يكون الدمُ الخارجُ بعد ذلك دمَ حيض.
ومعلوم أن كلَّ ما أمر الله به في الصلاة وإنما رخص في تركه للعذر
__________
(1) أخرجه أبو داود (287) والترمذي (128) وابن ماجه (627) وأحمد (6/ 439) من حديث حمنة بنت جحش. وقال الترمذي: حسن صحيح.

(6/332)


فالصلاةُ معه أكملُ، كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد”. وهذا قيل: إنه المتطوع غير المعذور، وجوز من قال: إن الصحيح يتطوع مضطجعًا، وهو قولٌ لبعض أصحاب الشافعي وأحمد، وهو غلط مخالفٌ لما عليه سلفُ الأمة وأئمتُها وما عليه عملُ المسلمين دائمًا أن أحدًا لا يتطوع مضطجعًا مع قدرتِه على القيام والقعود. وهذا الحديث إنما كان في المعذور، وكذلك جاء مصرَّحًا به أنه خرجَ عليهم وهم يصلُّون قعودًا بسببِ مرضٍ عرضَ لهم، فذكر هذا القول.
وأما قوله: “إذا مرِضَ العبدُ أو سافرَ فإنه يُكتَب له من العمل ما كان يَعمل وهو صحيح مقيم” فهو حديث صحيح متفقٌ عليه (2)، لكن فيه أن العبد إذا كان عادتُه أن يعملَ عملاً وتركَه لأجل السفر أو المرض كُتِبَ له عملُه لأجل نيتِه وعادتِه، ليس فيه أن كلَّ مسافرٍ أو مريضِ يُكتَب له كعمل الصحيح. ولهذا إذا مَرِضَ أو سافرَ ولم يكن عادتُه أَن يقوم الليل لم يُكتَب له قيام، وإذا لم يكن عادتُه أن يُصليَ في الجماعة لم يُكتَب له صلاة الجماعة. فإن كان عادتُه [أن] يُصلِّي قائمًا وصلَّى قاعدًا لأجل المرض كُتِبَ له مثل أجر صلاةِ القائم، كما أنه لو عجزَ عن
__________
(1) مسلم (735) من حديث عبد الله عمرو، وليس فيه الجزء الأخير من الحديث. وأخرجه البخاري (1115) من حديث عمران بن حصين بمعناه.
(2) أخرجه البخاري (2996) من حديث أبي موسى الأشعري. ولم أجده في صحيح مسلم. ورواه أيضًا أحمد (4/ 410، 418) وأبو داود (3091).

(6/333)


الصلاةِ بالكلية كُتِبَ له مثلُ ما كان يُصلّي وإن لمِ يُوجد منه صلاة. وكما يُكتَب لمن خرجَ ليُصلِّي في جماعةٍ وإذا أدركهم سلَّموا مِثلُ أجرِ من شهِدَ الجماعة وإن كان لم يُصلِّ في جماعة. وهكذا من لم يُدرِك ركعةً من الجماعة فإنه لا يكون مدرِكًا لها إلا بركعةٍ، لا في الجمعة ولا في الجماعة، في أصحّ أقوال العلماء الذي دلَّ عليه النصُّ وأقوالُ الصحابة، وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى عنه الفرقُ بين الجمعة وغيرها، كظاهرِ مذهب الشافعي، وفي مذهبه قول ثالث: إنه يكون مدركًا للجمعة بتكبيرةٍ، كقول أبي حنيفة.
والذي دلَّ عليه النصُّ وآثار الصحابة والقياس هو القول الأول. ومع هذا فيُكتب له أجرُ من شهدَ إذا جاءَ بعد الفوات لأجل نيته، فإن القاصد للخير الذي لو قدَر عليه لفَعلَه وإنما يتركُه عجزًا يُكتَبُ له مثلُ أجرِ فاعلِه، كما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إنّ بالمدينة رجالاً ما سِرْتُم مَسِيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم”، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: “وهم بالمدينة، حَبَسَهم العذرُ” (1).
وفي حديث كَبْشَة الأنماري الذي صححه الترمذي (2) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلمًا، فهو يتَّقي في ذلك المال ربَّه ويَصلُ فيهِ رَحِمَه، فهذا بأشرف المنازل؛ ورجل آتاه الله علمًا ولم يُؤته مالاً، فيقول: لو أنَّ لي مالاً لعَمِلتُ فيه بعَملِ فلانٍ. قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فهما في الأجر سواء؛ ورجل آتاه الله مالاً ولم يُؤته علمًا،
__________
(1) أخرجه مسلم (1911) من حديث جابر.
(2) برقم (2325). وأخرجه أيضًا أحمد (4/ 231).

(6/334)


فهو لا يتقي في ذلك المال ربَّه ولا يَصِل فيه رَحِمَه، فهذا بأخبثِ المنازل؛ ورجل لم يُؤته الله مالاً ولا علمًا، فيقول: لو أنّ لي مالاً لعمِلتُ مثل عملِ فلان. قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فوِزْرُهما سواءٌ”.
فالثوابُ الذي يُكتَب بالنية غير الثواب المستحق بنفس العمل، فقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “صلاةُ القاعد على النصف من صلاةِ القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد” كلامٌ مطلقٌ، وقد عُلِمَ بأدلَّةٍ أخرى أن هذا لا يجوز في الفرض إلا مع العذر، كما قال لعمران بن حُصَين: “صَل قائِمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْب” (1). وعُلِمَ أن تطوُّع الجالس يجوز مع القدرة بدليل آخر، كما عُلِمَ أن صلاة النافلة في السفر تجوز على الراحلة، لأنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان يصلِّي التطوع على راحلتِه قِبَلَ أيِّ وجهٍ توجَّهتْ، غير أنه لا يُصلِّي عليها المكتوبة، وكان يوترُ عليها.
ونظير هذا قوله: “صلاة الجماعة تَفْضُل على صلاة الرجل وحدَه بخمسٍ وعشرين درجة” (2)، فإنّ هذا مطلقٌ، لم يدلَّ على صلاة الرجل وحده، [كما] يعلم بدليل آخر، فإذا دلَّ دليلٌ آخر على أن المنفرد لا يُجزِئُه صلاتُه إلا مع العذر، كقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “مَن سَمِعَ النداءَ ثمَّ لم يُجِبْ بغير عذرٍ فلا صلاةَ له” (3)، ولأن الجماعة إذا كانت واجبةً، فمن تَركَ
__________
(1) أخرجه البخاري (1117) عن عمران.
(2) أخرجه البخاري (477، 647) ومسلم (649) من حديث أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (646) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) أخرجه ابن ماجه (793) من حديث ابن عباس.

(6/335)


الواجبَ لم تَبْرَأْ ذِمَّتُه إلا بأدائه، كما يقول كثيرٌ من السلف والخلف من أصحاب أحمد وغيرهم= لم يكن في ذلك تناقض بين أقوال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل ذلك لمن فَهِمَه يَدُلُّه على أن ذلك كلّه جاءَ من عند الله، ولو كان من عندِ غيرِ الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.
وكذلك الصلاة بالوضوء والغسل أكملُ من الصلاة بالتيمم، والصلاةُ في الأماكن التي لم يُنه عنها أكمل من الصلاة في مواضع النهي، كالحمام والمقبرة وأَعْطَانِ الإبل. والصلاة في الجماعة أكملُ من صلاة الرجل وحدَه، وفَضْلُ الفاضِل هنا على المفضول أبلغُ من فضلِ صلاة المستحاضة بغسل على صلاتها بغير غُسلٍ، لأن الكمال هنا لاحتمال وجوب الغسل لا للعجز عنه، ولما شكّ في وجوبه جاز تركُه مع القدرة، وما لا يجوز تركُه مع القدرة أولَى مما يجوز تركُه مع القدرة، والمستحبُّ المحضُ دُونَ ذلك.
والنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جَمعَ بين الصلاتين بعرفةَ في وقت الأولى، وهذا الجمع ثابتٌ بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين عليه، ومعلومٌ أنه قد كان يُمكِنُه أن يتركَ العصرَ فيُصلِّيها في وقتها المختصّ، لكن عَدَلَ عن ذلك إلى أن قدَّمَها مع الظهر لمصلحة تكميلِ الوقوف، لِعلمِه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بأنّ اتّصال الوقوف إلى المغرب بغيرِ قَطْع له بصلاةِ العصر في أثنائِه أحبُّ إلى الله من أن يُصلِّي العصرَ في وقتها الخاصّ، ولو أخَّرَ مؤخِّر العصرَ وصلاَّها في الوقت الخاصّ وقَطَعَ الوقوفَ لأجزأه ذلك فيما ذكره العلماءُ من غيرِ نزاع أعلمه، ولكن تَركَ ما هو أحبُّ إلى الله ورسولهِ، فإنه لو قَطَعَ الدعاءَ والذكرَ لبعض أعمالِه المباحة ووَقَفَ إلى المغرب

(6/336)


لم يَبْطُل بذلك حَجُّه، فأنْ لا يَبْطُلَ بتركِ ذلك لصلاة العصر أولَى وأحرى. ودَلَّتْ هذه السنة الثابتة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على أن الجمع يكون للحاجة والمصلحة الشرعية، فلما لم يكن لمجرد السفر فلم يكن لمجرد النسك.
وقد أخذَ جمهورُ العلماء بالسنن الواردة عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الجمع، وأحمد أعظمُهم أخذًا بما وردَ كلّه، فإنه يُجوِّز الجمعَ للمسافر في وقت الثانية، كما ثبتَ في الصحيح. وأما الجمع للنازلِ في وقت الأولى كما رُوِي في السنن ففيه عنه روايتانِ: إحداهما الجواز كقول الشافعي، والثانية المنعُ كقولِ مالك. وهل المباحُ للسفر مختصٌّ للطويل؟ فيه وجهانِ في مذهب الشافعي وأحمد، ومذهبُ مالك أنه لا يختصُّ بالطويل، وهو الصحيح الذي تدلُّ عليه الأدلةُ الشرعية. “وثلاثتُهم يُجوِّزون الجمع بين المغرب والعشاء، وأمّا صلاتا الظهر والعصر ففيهما نزاعٌ بينهم، وعن أحمد فيها روايتان. ومالك وأحمد يُجوِّزانِ الجمعَ للمريض، وهو قولُ طائفة من أصحاب الشافعي.
وجوَّز أحمد الجمعَ للمستحاضة، كما في الحديث الذي في السنن سنن أبي داود وابن ماجه والترمذي وصححه ورواه أحمد من حديث حَمْنَة بنت جَحْشٍ (1)، قالت: كنتُ أُستحاضُ حيضةً شديدةً، فأتيتُ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أستَفْتِيه، فقلتُ: إني أُستحاض حيضةً كثيرةً فما تأمرني فيها؟ فقد مَنَعَتْني الصيامَ والصلاةَ، قال: أَنْعَتُ لكِ الكرسُفَ، قالت:
__________
(1) أبو داود (287) وابن ماجه (627) والترمذي (128) ومسند أحمد (6/ 439).

(6/337)


هو أكثرُ، قال: فاتخذِي ثوبًا، قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثجُّ ثَجًّا، قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “سَآمُرُكِ بأمرين أيَّهما صنعتِ أجزأَ عنكِ، فإن قَوِيْتِ عليهما فأنت أعلمُ”، فقال: “إنما هي ركضةٌ من الشيطان، فتَحيضِي ستةَ أيام أو سبعةَ أيامٍ في علم الله، ثم اغتسلي، فإذا رأيتِ أنكِ قد طَهُرتِ واستنقَأتِ فصلّي أربعًا وعشرين ليلةً أو ثلاثًا وعشرين ليلةً وأيامَها، وصُومي وصَلِّي، فإن ذلك يُجزِئكِ، وكذلك فاغتسلي كما تحيض النساءُ وكما يَطهُرن لميقاتِ حيضِهنَّ وطهرِهنَّ، فإن قَوِيتِ على أن تُؤَخِّرين الظهر وتُعجلين العصرَ ثمَّ تغتسلي حتى تَطْهُرِين، فتُصلين الظهر والعصر جميعًا، ثمَّ تُؤخِّرينَ المغربَ وتُعجلينَ العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين بغُسْلٍ، وتغتسلين مع الصبح وتُصلين، فكذلك فافعلي وصُومِي إن قَدرتِ على ذلك، قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وهو أعجبُ الأمرينِ إليَّ”.
وعن عائشة رضي الله عنها أن سَهْلة بنت سُهَيل استُحِيْضَتْ، فأتتِ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرَها أن تَغتسلَ عند كل صلاةٍ، فلما جَهَدَها ذلك أمرَها أن تجمعَ بين الظهر والعصرِ بغُسلٍ، والمغرب والعشاء بغُسلٍ، وأن تغتسل للصبح. رواه أحمد والنسائي وأبو داود (1)، وهذا لفظه.

وأصلُ هذا الباب أن تعلمَ أن وقتَ الصلاةِ وقتانِ: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحَاجة والعذر. فالوقت في حال الرفاهية خمسةُ أوقاتٍ، كما ثبتَ في صحيح مسلم (2) عن عبد الله بن عمرو عن النبي
__________
(1) أحمد (6/ 119، 139) والنسائي (1/ 184) وأبو داود (295).
(2) برقم (612).

(6/338)


– صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “وقتُ الظهر ما لم يَصِرْ ظِلُّ كلِّ شيء مِثلَه، ووقتُ العصرِ ما لم تَصْفَرَّ الشمسُ، ووقتُ المغرب ما لم يَغِبْ نُورُ الشَّفَقِ، ووقتُ العشاءِ إلى نصفِ الليل، ووقتُ الفجر ما لم تَطلُع الشمسُ”.
وقد رُوِيَ هذا الحديث من حديث أبي هريرةَ في السنن (1)، ولم يُروَ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حديثٌ في المواقيت من قوله إلا هذا، وسائرُ ما رُوِيَ فِعْل منه، والأحاديثُ الصحيحةُ المتأخرة من فعلِه تُوافقُ هذا الحديث.
ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بل أصحُّهما.
والنزاعُ بين العلماء في آخر وقت الظهر، وأوّلِ وقتِ العصر وآخرِه، وآخرِ وقتِ المغرب، وآخرِ وقتِ العشاء، وآخرِ وقتِ الفجر.
فالجماهيرُ من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقتُ الظهر عندهم من الزوالِ إلى أن يصيرَ ظِلُّ كلِّ شيء مثله سوى الفيْء الذي زالت عليه الشمسُ. وهذا مذهب مالك والشافعي وأَحمد وأبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: إلى أن يَصِيرَ ظِلُّ كلِّ شيء مِثلَيْه. ثم يدخلُ وقتُ العصر عند الجمهور، وعند أبي حنيفة إنما يدخلُ إذا صارَ ظِل كل شيء مثلَيْه. ونُقِلَ عنه أنَّ ما بين المثلِ إلى المثلَيْن ليس وقتًا لا للظهر ولا للعصر. وعلى قول الجمهور هل هذا آخرُ هذا أَو بينهما قَدْرُ أربع ركعاتِ مشترك؟ فيه نزاعٌ، فالجمهور على الأول، والثاني منقول عن مالك. وإذا صار ظلُّ كلّ شيء مثلَيْه خرجَ وقتُ العصر في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو منقول عن مالك والشافعي مع خلافٍ في
__________
(1) الترمذي (151).

(6/339)


مذهبهما، والصحيح أن وقتها ممتدٌّ بلا كراهة إلى اصفرار الشمس، وهو الرواية الثانية عن أحمد، كما نطقَ به حديث عبد الله بن عمرو (1) بما عمل به النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بالمدينة بعد عملِه بمكة، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن. فلم يكن للعصر وقتٌ متفقٌ عليه، ولكن الصواب المقطوع به الذي تواترت به السننُ واتفق عليه الجماهير أن وقتها يدخل إذا صار [ظلُّ] كل شيء مثله، وليس مع القول الآخر نقلٌ عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لا صحيحٌ ولا ضعيفٌ، ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخِّرون الصلاة لمَّا اعتادوا تأخيرَ الصلاة [و] اشتهر ذلك صار يظنُّ من ظنَّ أنه السنة، وقد احتج له بالمثل المضروب للمسلمين وأهل الكتاب (2)، ولا حجةَ فيه باتفاق أهل الحساب على أن وقت الظهر أطولُ من وقت العصر الذي أولُه إذا صار ظلُّ كل شيء مثلَه.
وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة: من الزوال إلى الغروب، ومن المغرب إلى الفجر، ومن الفجر إلى طلوع الشمس. فالأول وقت الظهر والعصر -عند العذر- واسع فيهما من وجهين:
أحدهما: تقديم العصر إلى وقت الظهر، كما قدَّمها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يومِ عرفة، وكما كان يُقدِّمها في سفَرةِ تبوك إذا ارتحلَ قبلَ أن تَزِيغ الشمسُ، أو تقديم العشاء إلى المغرب في المطر. فهذا جمعُ تقديم.
والثاني: جمعُ تأخير العصر فيها إلى المغرب، لقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في
__________
(1) أخرجه مسلم (612).
(2) أخرجه البخاري (558، 2271) من حديث أبي موسى الأشعري.

(6/340)


الحديث الصحيح (1): “مَن أدركَ ركعةً من الفجر قبلَ أن تَطْلُعَ الشمسُ فقد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تَغرُبَ الشمسُ فقد أدركَ العصرَ”. هذا مع قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح (2): “وقتُ العصر ما لم تَصْفَرَّ الشمسُ”. وأنه لم يُؤخر الصلاةَ قَط إلى الاصفرار، ويومَ الخندق كان التأخير إلى بعد الغروب، وهو منسوخٌ في أشهرِ قولي العلماء بقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (3).
وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه. وقيل: يُخيَّر حالَ القتال في التأخير والصلاة في الوقت بحسب الإمكان، وهو الرواية الأخرى عنه. وقيل: بل يؤخرها، وهو قول أبي حنيفة أيضًا، ففي الحديث الصحيح (4) عنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، يَرقُبُ الشمسَ حتى إذا كانت بينَ قَرْنَي الشيطان قامَ، فنَقَرَ أربعًا لا يذكرُ الله فيها إلا قليلاً”. فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنَّقْر، فدلَّ على المنع من هذا وهذا، فلما قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هذا وهذا عُلِمَ أن الوقتَ وقتانِ، فمن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغربَ الشمس فقد أدرك مطلقًا، وليس له أن يُؤخر إلى ذلك الوقت مع إمكان الصلاة قبلَه، بخلاف من لا يمكنه الصلاة قبلَ ذلك، كالحائض إذا طَهُرَتْ، والمجنون يُفيق، والنائم يستيقظ، والناسي يذكر. فدلَّ تقديمُه للعصر يومَ عرفةَ على أنها تُفعَل في موضعٍ مع الظهر عقيب
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) سورة البقرة: 238.
(4) سبق تخريجه.

(6/341)


الزوال، ودلَّ هذا الحديث على أنها يُدرَك وقتها بإدراك ركعة منها قبل الغروب، مع أنه جائز (1) بقوله وفعله أن وقتَها إذا صارَ ظِل كل شيء مثلَه ما لم تَصْفرَّ الشمسُ، فدلَّ على أنَّ هذا الوقت المختصَّ بها وقتٌ مع التمكن والرفاهية، ليس لأحد أن يؤخِّرها عنه ولا يُقدِّمها عليه.
وقد عُرِف عن الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا في الحائض: إذا طَهُرتْ قبلَ غروب الشمس تصلي الظهر والعصر، وإذا طَهُرتْ قبل طلوع الشمس (2) صلَّت المغرب والعشاء. ولم يُعرَف عن صحابي خلافُ ذلَك، وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعي وأحمد. وهذا مما يدلُّ على أنه كان الصحابة [يرون] أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء وإلى الفجر، والنصف الثاني من النهار مشترك عند العذر بين الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب، كما دلَّ على ذلك السنة، والقرآن يدلُّ على ذلك، قال الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) (3)، فالطرف الأول صلاة الفجر، فإن صلاة الفجر من النهار، كما قد نصّ على ذلك أحمد، فإن الصائم يصوم النهار، وهو يصوم من طلوع الفجر، والوتر يصلَّى بالليل. وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “صلاةُ الليل مَثْنى مَثْنى، فإذا خفتَ الصبحَ فأوترْ بركعة” (4). فليس لأحد أن يتعمَّد تأخير
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: “الفجر”. وانظر هذه الآثار في “شرح العمدة” (كتاب الصلاة) للمؤلف (ص 230).
(3) سورة هود: 114.
(4) أخرجه البخاري (1137) ومسلم (749) من حديث ابن عمر.

(6/342)


الوقت إلى ما بعد طلوعِ الفجر عند جماهير العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه.
وإذا قيل: “نصف النهار” فالمراد به النهار المبتدئ من طلوع الشمس، فهذا في هذا الموضع، ولفظ “النهار” يُراد به من طلوعِ الفجر، ويُراد به من طلوع الشمس، لكن قوله (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) أريد به من طلوع الفجر بلا ريب، لأن ما بعد طلوع [الشمس] ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة بل ولا مستحبة، بل الصلاة في أول الطلوع منهيّ عنها حتى ترتفع الشمسُ. وهل تُستحبّ الصلاة لوقت الضحى أو لا تُستحبّ إلا لأمرِ عارضِ؟ فيه نزاعٌ ليس هذا موضعه.
فعُلِم أنه أراد بالطرف الأول من طلوع الفجر، وأما الطرف الثاني فمن الزوال إلى الغروب، فجعل الصلاة وأشرك بينهما فيه، ثم قال: (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) وهي ساعات من الليل. فالوقت هنا ثلاثة، وكذلك في قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)) (1). فالدلوك: الزوال عند أكثر السلف، وهو الصواب، يقال: دَلَكَتْ وهي الشمسُ إذا زالت. وغسق الليل: اجتماع الليل وظلمتُه. فالأول يتناول الظهر والعصر تناولاً واحدًا، والثاني [يتناول المغرب والعشاء] تناولا واحد، ثم قال: (وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ) وهي صلاة مفردة لا تُجمَعُ ولا تُقْصَر.
__________
(1) سورة الإسراء: 78.

(6/343)


وقال تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ) (1). فذكر الفجر وذكر الظهر وذكر صلاة العشاء، فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة. وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت.
وقد دلَّ على المواقيت في آياتٍ أخرى، كقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)) (2)، فبيَّن أن له التسبيح والحمد في السموات والأرض حينَ الصباحِ وحينَ المساءِ وعشيًّا وحينَ الإظهار، فالمساء يتناول المغربَ والعشاء، والصباح يتناول الفجر، والعشي يتناول العصر، والإظهار يتناول الظهر.
وقال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (3)، وفي الآية الأخرى: (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) (4).
فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، وقبل غروبها هي العصر، وكذلك فسَّرها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث المتفق على صحته (5) من حديث
__________
(1) سورة النور: 58.
(2) سورة الروم: 17، 18.
(3) سورة طه: 130.
(4) سورة ق: 39 – 40.
(5) البخاري (554) ومسلم (633).

(6/344)


جرير بن عبد الله قال: كنّا جلوسًا عند رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذ نظر إلى القمر ليلةَ البدر، فقال: “إنكم سترون ربَّكم كما ترون القمرَ ليلةَ البدر، فإن استطعتم أن لا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبلَ غروبها فافعلوا”، ثم قرأ قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) (1). و”من آناء الليل” مطلقٌ في آناء الليل يتناول المغرب والعشاء.
والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك ويقولون: ليس لكل منهما إلا وقتٌ يخصُّها، يقولون: الفرض إنما ثبت بالقرآن، والقرآن أوجبَ مطلقَ الذكر في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)) (2)، فلا مُوجبَ لخصوص التكبير عندهم، بل مطلق الذكر.
فمان كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يُصل قَط إلا بتكبير، ولا أحدٌ من خلفائه ولا أحدٌ من أئمة المسلمين ولا آحادِهم المعروفين يُعرَف أنه صلَّى إلا بتكبير، ومع هذا فيُجوزونه بمطلق الذكر لأن القرآن مطلق في الذكر= فيقال لهم: القرآنُ مطلقٌ في آناء الليل وفي غسق الليل، ومطلقٌ في الأول وفي الطرف الثاني، فدلَّ على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قُدِّر أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – داوَمَ على التفريق، فكيف إذا ثبت عنه أنه جمعَ بينهما في الوقت الأول غيرَ مرَّة، وفي الوقت الثاني غيرَ مرَّة؟
وكذلك يقولون: قوله تعالى: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (3) مطلقٌ،
__________
(1) سورة طه: 130.
(2) سورة الأعلى: 14، 15.
(3) سورة الحج: 77.

(6/345)


فهو الفرض، والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحدٌ، فيفيد الوجوبَ دون الفريضة. وكذلك يقولون في الفاتحة: إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسَّر منه، مع أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – والمسلمين من بعدِه لم يُصلُّوا إلا بالفاتحة، ومع قوله: “لا صلاةَ إلا بأمّ القرآن” (1) وأن “كلَّ صلاةٍ لا يُقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداجٌ فهي خِداجٌ فهي خِداجٌ” (2)، ويقولون: هذا يفيد الوجوب دون الفريضة، وهذا خبر واحد لا يُقيَّد به مطلقُ القرآن.
ومعلومٌ أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا، وليس معهم عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ما يُوجِبُ فِعْلَ كلِّ واحدةٍ من الأربع في الوقت الخاصّ إلا فِعْله المتواتر، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد، مع ما فيه من الإجمال، كقوله لما بيَّن المواقيت الخمسة: “الوقتُ ما بين هذين” (3)، وقوله: “ما بين هذين وقت” (4)، دلالتُه على وجوب الصلاة في هذا الوقت دونَ دلالةِ قوله: “لا صلاةَ إلا بأمّ القرآن” وقوله: “من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداجٌ”.
وكذلك قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في الحديث الصحيح (5): “سيكون بعدي أُمَراء
__________
(1) متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه البخاري (756) ومسلم (394).
(2) أخرجه مسلم (395) من حديث أبي هريرة.
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق تخريجه.
(5) سبق تخريجه.

(6/346)


يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتِها، فصلُّوا الصلاةَ لوقتِها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلةً”، وهو الوقت الذي بيَّنه لهم. والأمراء إنما كانوا يُؤخِّرون الظهرَ إلى وقت العصر، أو العصرَ إلى آخر النهار. ودلَّ هذا على أن من فَعلَ هذا لم يُقاتَل، لأنهم سألوه عن الأمراء نُقاتِلُهم؟ قال: “لا، ما صَلَّوا”، وهذه كانت صلاتَهم. ودلَّ على أنّ هذه الصلاة صحيحة، وإن كان فاعلُها آثما. بخلاف صلاة النهار بعد الغروب، فإنّ من قال: لا يُصلِّيها إلا بعد الغروب قد قُوتلَ بلا ريبٍ. وكذلك من قال: لا يُصلي المغرب والعشاء إلا بعد طلوع الفجر فإنه يُقاتَل بلا ريبٍ. وقد قال ابن مسعود وغيرُه في قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (1)، قالوا: إضاعتُها تأخيرُها عن وقتها، ولو تركوها لكانوا كفارًا، وأرادوا بذلك تأخيرها إلى الوقتِ المشترك أو وقتِ الاضطرار، ولم يُريدوا بذلك تأخيرَ صلاةِ النهار إلى الليل ولا صلاةِ الليل إلى صلاة النهار، فإنّ الخَلَف الذين كان ابن مسعودٍ يُسَميهم الخلف -كالوليد بن عقبة بن أبي معيط وغيرِه- لم يكونوا يُؤخرون صلاةَ النهار إلى الليل، ولا صلاةَ الليل إلى النهار، بل كان التأخير كما تقدم، مع أن ابن مسعود كان يُسمِّيهم “خلف”، ويقول: “ما فَعلَ خَلَفُكم؟ “، فالخلف لم يكونوا يُصلُّون بغير الفاتحة، ولا بغير التكبير، ولا يقرأون القرآن بغير العربية، بل كانوا يُصلُّون في الوقت المطلق في كتاب الله في الطرف الثاني وقبل الغروب. ثم لما دلَّ الشرعُ على وجوب الصلاة في الوقت المختصّ ذُمُّوا لأجلِ تركِ هذا الواجب، مع
__________
(1) سورة مريم: 59.

(6/347)


أنّ في القرآن مع النصوص المطلقة في آناء الليل والطرف الثاني أكثر مما فيه من إطلاقِ قوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) (1)، وقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) (2). والسنة والآثار دلَّت على الوقت المشترك، ولم تدلَّ سنّةٌ على الصلاة بغير فاتحة، فَعُلِمَ أن الكتاب والسنة وآثار الصحابة تَدُلُّ على أن الأوقات في حقّ المعذور ثلاثةٌ، وأنّ ذلك لم يُعارِضْه دليل شرعيٌّ أصلاً، وما قُدِّر معارضًا له فالإيجاب به أضعفُ من الإيجاب بما دلَّ على الفاتحة والتكبير.
وقوله تعالى: (وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ) (3) وقوله: (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) (4) كان مطلقًا، دلَّ على أن جميع الليل وقتٌ في الجملة للصلاة، كما كان الطرف الثاني وقتًا للصلاة، وأن النصف الثاني من الليل كما بعد الاصفرار، ليس لأحدٍ أن يُؤخِّر إليه العشاء مع الاختيار. وأما الحائض إذا طَهُرتْ والمجنون إذا أفاقَ والكافر إذا أسلم والنائم إذا استيقظ والناسي إذا ذكرَ فيُصلُّون المغرب والعشاء، كما كانوا يُصلُّون الظهرَ والعصرَ قبل الغروب، كما قال أصحاب رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم، وهو قول الجمهور.
__________
(1) سورة المزمل: 8.
(2) سورة المزمل: 20.
(3) سورة طه: 130.
(4) سورة هود: 114.

(6/348)


فصل
وهذا الذي ذكرناه من أن الوقت مشتركٌ عند العذر إلى آخر وقت العصر فقد صلَّى في وقتها، فهو كما لو أخّرها إلى آخر الوقت المختصّ، فلو قُدِّر أن الحائض طهرتْ والنائمَ استيقظ والكافر أسلم بعد دخول وقت العصر المختصّ فإنهم يُصلون الظهر والعصرَ في وقتِها، ولا يقال: إن الظهر صَلَّوها بعد خروج الوقت. وكذلك من قدَّم العصر إلى وقت الظهر، وصلَّى العشاء وقت المغرب جمعًا للمطر لم يحتج أن ينوي الجمعَ، سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا. وهذا قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة حيثُ يُجوِّز الجمعَ، وهو المعروف عن أحمد بن حنبل في أجوبته، لم يُوجب النيةَ في ذلك ولا جمهور قدماء أصحابه كأبي بكر وغيرِه، لكن الخِرقي ومتبعوه كالقاضي أبي يعلى وغيره أوجبوا في الجمع النية، وهذا قول الشافعي. وأما أحمد فلا أصلَ لهذا في كلامه ولا في كلام جمهور الفقهاء من أصحابه، كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما، وهذا هو الصواب، فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لما جمعَ بأصحابه بعرفةَ لم يكونوا يعرفون أنه يُصلِّي العصرَ بعد الظهر، ولا قال حينَ صَلَّو الظهرَ: إنكم تجمعون إليها العصر. وكذلك لما جَمَع بهم بالمدينة فصلَّى سبعًا جمعًا وثمانيًا جمعًا لم يقل لهم: انْوُوا الجمعَ. وكذلك لما كان يَقصر بهم لا يأمرهم بنية القصر، بل قد لا يعرفون ذلك حتى يَقصُر.
ولهذا قد ثبتَ في حديث ذي اليدين (1) أنه لما صلَّى بهم الظهر أو
__________
(1) أخرجه البخاري: (482) ومسلم (573) عن أبي هريرة.

(6/349)


العصر ركعتين قال له ذو اليدين: أَقُصِرت الصلاة يا رسولَ الله أم نسيتَ؟ وقال: “لم أنسَ ولم تُقصَر الصلاة”، قال: بل نسيتَ يا رسول الله، قال: “أَكما يقول ذو اليدين؟ “، قالوا: نعم، الحديث. فلما أقرَّه على قوله: أقُصِرت الصلاةُ أم نسيتَ، وقال: لم أنسَ ولم تُقصَر، ولم يقل: كيف تُقصَر ولم آمُرْكم بنية القصر= دلَّ على أنه كان ممكنًا أن يَقصُر من غير أن ينوي القصر.
وأيضًا فيقال: الجامع إن كان مصلِّيًا للصلاة في وقتها الذي يجوز فعلُها فيه فقد جاز، سواء نوى الجمعَ أو لم يَنوِهِ، وإن لم يكن وقتها فمجرد النية لا يُبيح الصلاةَ في غيرِ وقتِها، ولهذا لو نَوى الجمعَ حيثُ لا يجوز لم تُفِدْه النيةُ شيئًا، فإذا قُدّر أن المصلّي بعرفةَ صلَّى الظهر، ولم يَخطُر بقلبه إذ ذاك أنه يُصلّي معها العصر، فمعلومٌ أن ما بعد صلاةِ الظهر هو وقت العصر في حقه، فلا فرقَ بين أن يُصلِّيها في ذلك الوقت مع نيته ذلك عند صلاة الظهر أو لا، وأيُّ تأثير للجواز إذا نَوى ذلك عند صلاة الظهر؟ وكذلك من يجوز له أن يصلي العشاء مع المغرب للمطر فأيُّ تأثيرٍ لنيته في ذلك عند صلاة المغرب؟
ثم هذا الشرط يُكدِّرُ مقصودَ الرخصة، فإن الناس متلاحقون بعد شروع الإمام، ولا يعرفون أنه نوى الجمعِ، فلو لم يجز الجمعُ إلا لمن نواه فاتَ كثيرًا منهم رخصةُ الجمع، أو لزِمَ أن يُوكِّلَ الإمامُ من يقول لكلّ من يدخل: انْوِ الجمعَ. وهذا مع ما فيه من البدعة والحرج المتيقن بالشرع ففيه إبطال الصلاة في الجماعة على ذلك المُعْلِم.
وكذلك الموالاة بين الصلاتين، وقد أوجبها الشافعي ومن وافقه

(6/350)


من أصحاب أحمد، وقد نصَّ أحمد على أن المسافر إذا صلَّى العشاء قبل غروب الشفق في السفر جاز، وجعله بذلك جامعًا. وليس مراده الأبيض، فإن الوقت يدخل في حق المسافر بغروب الشفق الأحمر عنده بلا ريب، وكذلك الحاضر، وإنما اختار للحاضر أن يؤخِّرها إلى مغيب الأبيض ليتيقن مغيبَ الشفق الأحمر عنده بلا ريب، لأن الجدران تُوارِي الحمرةَ في الحضَر دون السفر، وإن جوز أن يُصلِّي قبل مغيب الأحمر في السفر، لأن المسافر يجوز له الجمع، فلو أراد أن يُصلِّيها عقيبَ المغرب جاز، فإذا أخَّرها كان أولَى بالجواز، لأنه أقربُ إلى الوقت المختص، فكيف يَسُوغ أن يقال: يصلِّي في الوقت البعيد عن وقتها المختصّ دون المشترك.
وإذا قال قائل: إن ذلك لا يُسمَّى جمعا إلا مع الاقتران.
قيل: هذا لا يجوز الاحتجاج به لوجهين:
أحدهما: أن الشارع لم يُعلِّق الحكم بهذا اللفظ ولا معناه، ولكن دلَّ الشرع على جوازه.
الثاني: أن الجمع سُمِّي بذلك، لأنه جمعٌ بينهما في وقت إحداهما المختصّ، لا لاقتران الفصل، بدليل أنه لو جمعَ في وقتِ الثانية لم يجز (1) الاقتران بلا رَيْب، بل له أن يصلي الأولى في أول الوقت والثانية في آخره. وقد صلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ليلةَ جَمْعٍ المغربَ قبلَ إناخةِ الرحال، ثمَّ أناخوها، ثمَّ صلَّى العشاءَ بعد ذلك بفصل بينهما.
__________
(1) في الهامش: صوابه “لم يلزم” أو نحو ذلك.

(6/351)


فصل

وإذا عُرِفَ أن الأوقات في حال العذر ثلاثة أوقات، فنقول: العذر نوعان:
أحدهما: ما فيه حرجُ المسلم، كجمع المريض والمسافر إذا جدَّ به السيرُ.
والثاني: أن يشتغل بعبادة أفضل من الصلاة في الوقت المختصّ، مثل اتصال الوقوف بعرفةَ، فإن هذه العبادة أولى بالسنة المتواترة وإجماع المسلمين من أن يصلي العصر في وقتها المختصّ. كما أن الفطر لأجل الدعاء والذكر في هذا اليوم أفضل من صوم يوم عرفةَ الذي يكفر سنتينِ، مع أنّ هذا فيه نزاعٌ بين العلماء، فإنهم تنازعوا (1).

وإذا كان هذا في الوقت فمعلومٌ أن جنس الجهاد أفضلُ من جنس الحج، ومن الجهاد ما يكون أفضل من وقوف عرفةَ إذا كان المسلمون بإزائهم عدوٌّ يتّصلُ قتالُه لهم إلى الغروب مصافَّةً أو محاصرةً أو غير ذلك= كان أن يجمعوا بين الصلاتين ثم يدخلوا في الجهاد المتصل خيرًا من أن يُؤخَروا الصلاةَ إلى بعد الغروب، كما يقوله من لا يُجوز الجمعَ ولا الصلاةَ مع القتال ويُجوِّز تأخيرَ الصلاة، وكان خيرًا من أن يُصلُّوا في حال القتال. فإنه لا يَستريبُ مسلم أن فِعْلَ الصلاتين في وقت الظهر خيرٌ من فِعْلِهما أو فِعْلِ إحداهما بعد الغروب، فإن هذا فِعْلُ صلاة النهار في النهار وجَمْعٌ في الوقت الذي يجوز جنسُه بالنصِّ والإجماع.
__________
(1) كذا في الأصل بدون تفصيل.

(6/352)


وأما تفويت الصلاة إلى الغروب مع إمكان فِعْلِها في الوقت فهذا لم يَرِد به سنةٌ قَطُّ، فإنّ غايةَ ما يُحتَجُّ به تأخير النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الصلاةَ يوم الخندق، وقد رُوِيَ أنه أخَّر الظهر والعصر جميعًا وأخَّر المغرب أيضًا، فلم يُصلِّهنَّ إلا بعد مُضِيِّ طائفة من الليل. وهذا إن كان نسيانًا فليس هو مما نحن فيه، فإنه من نام عن صلاةٍ أو نَسِيَها كان مأمورًا بأن يصليها إذا ذكرها. وإن لم يكن نسيانًا بل اشتغالاً بالقتال كما يقوله الجمهور فعنه جوابان:
أحدهما: أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان مشغولاً بقتالهم في النهار، ولم يعلم أنه يفرغ للصلاة بعد الزوال دون ما بعد العصر فإذا كان كذلك لم يكن هذا مما نحن فيه، فإن الكلام إنما هو فيمن تفرغ للجمع في أول وقت الظهر، كما تفرَّغ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لذلك يومَ عرفةَ.
الثاني: أنَّ هذا التأخير منسوخٌ بقوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)) (1)، فإنها نزلت في ذلك، والوسطى هي العصر، ولهذا قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يوم الخندق: “مَلأَ الله أجوافَهم وقُبورَهم نارًا كما شَغَلُونا عن الصلاة الوسطى صلاةِ العصر” (2). وأيضًا فقد ثبتَ عنه في الصحيح أنه قال: “من فَاتَتْه صلاةُ العصرِ فكأنما وُترَ أهلُه ومالُه” (3). وعلَّقَ إدراكَها بإدراكِ ركعة منها فقال: “من أدركَ ركعةً من العصر قبلَ أن تَغرُبَ الشمسُ فقد أدرك” (4).
__________
(1) سورة البقرة: 238.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق تخريجه.

(6/353)


وأما صلاتُها مع الظهر فقد سنَّه في الجملة، ومعلومٌ أن جنسَ ما توعَّد عليه محرَّمٌ، وجنس ما فَعلَه مشروعٌ، فَعُلِمَ أن الجمع بينهما في وقت الظهر خيرٌ من التأخير إلى أن تفوتَ. وهذا مذهب جماهير العلماء كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، بل لا يُجوِّزون التأخير ولا غيره، ويُجوِّزون الجمعَ لما هو دونَ القتال. وأحمد وإن قال في روايةٍ عنه: إن المقاتل يُخيَّر بينَ الصلاةِ في الوقت والتأخير، فلا يختلف قوله: إن الجمعَ أولى من التفويت، وإنما يقول -على تلك الرواية-: إذا لم يمكنه أن يُصلِّي بالنهار لأجل القتال خُيِّرَ بين الصلاةِ حالَ القتال في الوقت وبين الصلاة بعد المغرب. وأما على ظاهرِ مذهبه فلا يُجوِّز تفويتَها إلى الغروب بحالٍ.

والمقصود هنا أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذا كان قد صلاَّهما بالمسلمين في وقت الظهر لاشتغالِه عن فِعْلِهما في الوقت المختصّ باتصال الدعاء والذكر، فالجمعُ للاشتغال بالجهادِ أولَى وأحرى. هذا إذا أمكنَه أن يُصلِّي مع الجهادِ صلاةً تامَّةً، لكن يتعطَلُ عن بعض مصلحة الجهاد.
وأمّا إذا قُدِّرَ أنه لا يمكنُه أن يُصلِّي إلا على دابَّتِه إلى غير القبلة لأجل القتال، فلا ريبَ أن صلاتَه بالأرض صلاةً تامَّةً جمعًا بين الصلاتين خيرٌ من أن يصلِّي العصرَ في وقتها المختصّ صلاةً ناقصةً، لما فَعَلَه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في حجته، ولحديث المستحاضة، ولأن تكميلَ العبادة بفعل واجباتها أمرٌ مقصودٌ في نفسِه، والجامعُ مُصَل لها في وقتها لا في غير وقتِها، لكن صلاها في وقت المعذور، وهو الوقت المشترك، وما حصلَه بالتكميل المأمور به في الصلاة أكملُ مما فاتَه من الوقت المختصّ. فإذا كان تكميل الدعاء والذكر بعرفةَ أفضلَ من الصلاة في

(6/354)


الوقت المختصّ، فتكميلُ نفسِ الصلاة أفضلُ من الوقت المختصّ.
ولهذا لا يجوز التكميل (1) المأمور به في الصلاة لأجل تكميل اتصال الدعاء، لأن ذلك واجبٌ وهذا مستحبٌّ. ولو كان عادمًا للماء والسُّترة ولم يمكنه تحصيلُ ذلك إلا بتفويتِ بعض الدعاء والذكر كان مأمورًا أن يُصلي بالماء والسُّترة، وإن كان ذلك في أثناء الدعاء.
ولهذا كان الجمعُ بين الصلاتين بطهارةٍ كاملةٍ أولَى من الصلاة في الوقت المختصّ بطهارةٍ ناقصةٍ، فالمستحاضة التي تجمع بين الصلاتين بغُسلٍ واحدٍ، هو أفضلُ من الصلاة في الوقت المختصِّ بوضوءٍ.
ومثل ذلك من جمعَ بين الصلاتين بوضوء، فإنه أكملُ ممن صلَّى في الوقت المختص بتيمُّمٍ، ومن جَمعَ بين الصلاتين قائمًا فهو أكملُ ممن صلَّى في الوقت المختصّ قاعدًا، ومن جمعَ بين الصلاتين في جماعةٍ فهو أكملُ ممن صلَّى في الوقت المختصّ منفردًا.
ولهذا كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وخلفاؤه يجمعون بين المغرب والعشاء للمطر ونحوِه، مع إمكان أن يُصلِّيها وحدَه في بيته، لكن لما كان الجمعُ لمصلحة الجماعة وكان صلاتُه معهم أكملَ من الانفراد= كان صلاتُه معهم جمعًا أكملَ من صلاتِه منفردًا في الوقت المختصّ. وهكذا في صلاةِ الخوف الصلاةُ في جماعة مع استدبار القبلة في أثناء الصلاة -مع العمل الكثير ومع مفارقة الإمام قبل السلام وغير ذلك- أكملُ من أن يُصلِّي كلُّ واحد منفردًا مع عدمِ هذه المحاذير.
__________
(1) في الهامش: “هنا سقط ولعله: ترك التكميل”.

(6/355)


وإذا صلَّى بالتيمُّم في الوقت المشترك هل هو أكملُ من الصلاة في الموضع المنهي عنه في الوقت المختصّ؟ فإن هذا حَصَلَ فيه نَقصانِ: نقص التيمم والوقت المشترك، وهناك حصلَ نقصُ المكان المنهي عنه فقط. وسيأتي الكلامُ على هذه المسألة، ونبيِّنُ أن الصلاةَ بالتيمُّم في الوقتِ المشترك خيرٌ من الصلاة المنهيّ عنها في الوقت المختص، لأنّ الصلاة في الوقت المشترك بالتيمم أصلاً يَؤُمُّ فيها المتيممُ للمتوضئ بخلاف الصلاة في المكان المنهي عنه، فإنها لا تُفعَل إلا لضرورة.
ونظير ذلك من كان في مكانٍ قد نُهِي عن الصلاة فيه -كالحمام والمكان النجس وغير ذلك- فإنه إذا لم يمكنه أن يُصلِّي في الوقت إلا فيه صلى فيه، فإنَ فَعْلَ الصلاة في وقتها واجب، أعني الوقت المطلق، فلا يجوز له أن يؤخِّر صلاة النهار إلى الليل ولا صلاة الليل إلى النهار أصلاً، بل يُصلي في الوقت المطلق: إمّا المختصّ وإمّا المشترك بحسب الإمكان. فإذا كان قد دخلَ إلى الحمَّام، وإن لم يُصلِّ فيه خَرَجَ الوقتُ، صَلَّى فيه. وكذلك من حُبسَ في موضع نجسٍ لا يخرجُ منه إلا بعد فوتِ الوقت صلَّى فيه، ولا إعَادةَ عليه، كما نصَّ على ذلك أحمد وغيرُه. وهذا بينٌ، لكن إن أمكنه أن يجمعَ بين الصلاتين خارجًا عن الموضع المنهيِّ عنه، فالجمعُ خارجًا عن الموضع المنهيّ عنه خيرٌ من الصلاةِ فيه، والصلاةُ فيه خير من التفويت.
وذلك مثل المرأة إذا كان عليها غسلُ جنابة أو حيضٍ، ولا يمكنها الاغتسال في الوقت، فعليها أن تصلِّي بالتيمم، فإذا صلَّت الفجر بالتيمم ثم لم يمكن الحمام إلا بعد الظهر، وإذا دخلت الحمامَ لم

(6/356)


يمكنها الخروجُ منه إلا بعد الغروب، فالصلاةُ في الحمام بعد التطهر مع سَتْرِ رأسِها وبدنِها خير من التفويت بلا ريب، إذ التفويتُ إلى الغروب لا يجوز بحالٍ، بل المصلِّي للعصر بعد الغروب كالصائم لرمضان في شوال باتفاقِ العلماء، فإنهم متفقون على أنه لا يجوز تفويتُ رمضانَ إلى شوالَ لمن يجب عليه، والصلاة في وقتها أوكدُ من الصوم في وقتِه كما بيَّناه. وهذه المرأة إذا صلَّت الظهر والعصر جمعًا بينهما بالتيمم كان خيرًا من صلاتِها في الحمام مغتسلةً، والصلاة في الحمام مغتسلةً خير من التفويت، لأن الصلاة في الحمام منهيٌّ عنها كالصلاةِ في المقبرة وأعطانِ الإبل والمكان النجس والثوب النجس وصلاةِ العُريان، ففي صلاتها جمعَّاَ تكميلُ الصلاة من هذا الوجه، كما تقدم.
والصلاة بالتيمم إذا لم يمكن الصلاة في الوقتِ بالماء جائزةٌ أيضًا، بل هي الواجبة، فقد ثبت بالنص والإجماع أن المتيمِّم العادم للماء في سفره يجبُ عليه أن يُصلِّي في الوقت بالتيمم، ولا يجوز له أن يؤخرها ليُصلي بعد الوقتِ بوضوء. وكذلك العُريان عليه أن يصلِّي في الوقتِ عُريانًا مع إمكان الصلاة بعد الوقت بالثياب.
وكذلك المريض يجبُ عليه أن يُصلِّي في الوقت قاعدًا أو مضطجعًا، وإن أمكنه أن يُصلِّي بعد الوقت قائمًا. وكذلك الخائف يُصلِّي في الوقت صلاةَ الخائف، وإن أمكنَه أن يُصلِّي بعد الوقت صلاةَ أَمْنٍ. كَما دلَّ على أمثالِ هذه المسائل الكتابُ والسنة والإجماع، إذ ليس في واجبات الصلاةِ أوكدُ من وجوب الوقت، وهذا مجمعٌ عليه

(6/357)


في عامة المسائل، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وهذا مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه، وكذلك مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما في أكثر الصور، لكن اختلف مذهب أبي حنيفة والشافعي في أكثر الصور، وتَابَعهم بعضُ أصحابِ أحمد.
كما اختلفوا فيما إذا وجد المسافر بئرًا، ولم يُمكِنْه أن يَصنع الحبلَ حتى يَخرجَ الوقت. أو وَجَدَ العُراةُ ثوبًا، ولم يمكنهم أن يُصلُّوا فيه واحدًا بعد واحدٍ حتى يَخرُجَ الوقت. أو كانوا جماعةً في سفينةٍ، وليس هناك موضع يقومون فيه إلا موضعًا واحدًا، ولا يمكنه الصلاة في الوقت إلا مع القعود، أو أمكنَه تعلُّم دلائلِ القبلةِ، ولكنه لا يتعلم ذلك حتى يخرج الوقت، أو أمكنَه أن يَخِيطَ ثوبَه ولا يتم ذلك حتى يخرج الوقت. ففي هذه المسائل نزاعٌ في مذهب الشافعي، ونصوصُه اختلفت في ذلك، فمن أصحابه من خرَّج، ومنهم من أقرَّ، ووافقَه بعض أصحاب أحمد. وأما أحمد وسائرُ أصحابه وكذلك مالك وغيرُه ما علمتُهم اخَتلفوا في تقديم الوقت في هذهَ المواضع، كما اتفق المسلمون كلُّهم على تقديم الوقت في المتيمم إذا عَدِمَ الماءَ في السفر، وفي العُريان، وفي المريض والخائف، فإنهم متفقون على أنَّ هؤلاء يُصلون في الوقت بحسب حالِهم، ولا يُفوِّتون الصلاةَ. ولم يتنازعوا إلا في حالِ القتال كما تقدم، وكذلك الآمن الذي لا يمكنه التعلُّم حتى يخرج الوقت.
والمقصود هنا ذِكرُ الجمع، وأن الجمع بين الصلاتين بالتيمم خيرٌ من الصلاةِ في المكان المنهيِّ عنه، كما أنها خيرٌ من الصلاةِ عُريانًا،

(6/358)


ومن الصلاة إلى غير القبلة ونحو ذلك، فإن الصلاة في الوقت المشترك صلاة في الوقت يُفعَل فيه للمصلحة الشرعية، بخلاف الصلاة بدون شروطِها، فإنه يحرم، [و] لا يجوز إلا لضرورة.
ولهذا كانت الصلاة بالغسل وبالوضوء في الوقت المشترك خيرا من الصلاة بطهارة ناقصة في الوقت المختصّ. ومن ذلك الأجير والمملوك إذا أدخله سيدُه الحمامَ والمكانَ النجسَ، ولم يُخرِجه منه إلى المغرب، فصلاتُه فيه خير من التفويت، وذلك واجب عليه، والجمعُ بين الصلاتين خيرٌ له من الصلاة في ذلك المكان المنهي عنه، وهذا الجمع بطهارة الماءِ، وتلك بطهارةِ التيمم.
فإن قيل: هذه المرأة تُفوتُ الوقتَ المختصّ وطهارةَ الماء، فهذانِ نَقصانِ، والصلاةُ في الحمام ليس فيها إلا نقص واحد، فَلِمَ كان هذا أولى؟
قيل: الصلاةُ في الحمام منهيٌّ عن جنسها، ليس لأحد أن يفعلها لغير ضرورة، لقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “الأرضُ كلُّها مسجد إلا المقبرةَ والحمامَ” (1). وأما الجمعُ فيجوز للحاجة والمصلحة الراجحة كما تقدم، وأما التيمم فإن الصلاة بتيمُّم خيرٌ من الصلاة في الحمام، لأن التيمُّم طهارة مأمورٌ بها، وهي تقوم مقامَ الماء عند عدمِ الماء وخوفِ
__________
(1) أخرجه أبو داود (492) والترمذي (317) وابن ماجه (745) من حديث أبي سعيد الخدري. قال الترمذي: هذا حديث فيه اضطراب، ثم بين ذلك بأنه رُوِي مرسلا وموصولاً، والمرسل أصح.

(6/359)


الضررِ باستعمالِه، ومن لم يمكنه أن يُصلي بالماء إلا في المكان المنهيِّ عنه لم يمكنه الصلاة بالماء، كما لو لم يمكنه أن يُصلِّي بالماء إلا عريانًا أو إلى غير القبلة، وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “الصعيدُ الطيِّبُ طَهورُ المسلمِ ولو لم يَجدِ الماءَ عَشْرَ سنينَ، فإذا وَجدتَ الماءَ فأمِسَّهُ بَشْرَتَكَ، فإنّ ذلك خير” (1). فكلُّ ما يُباح بالماء يُباحُ بالتيمم، من صلاة الفرض والنفل ومس المصحف وقراءة القرآن.
والتيمم يجوز عند الحدث الأكبر في مذهب أحمد وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة، [و] الذي يقوم عليه الدليل الشرعي أنه كلُّ ما يجوز قبل الوقت ويبقى بعده، سواء نوى به فرضًا أو نفلاً أو غير ذلك مما يُستباح بالتيمُّم، فيجوز لقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “الصعيد الطيب طَهورُ المسلم ولو لم يجد الماءَ عَشْرَ سنين، فإذا وجدتَ الماءَ فأمَسَّه بَشرَتَك، فإن ذلك خير”.
ويجوز أن يؤمَّ المتيمِّم المتطهِّرين بالماء، كما أمَّ عمرو بن العاص أصحابَه في غزوة ذات السلاسل، وكما أمَّ ابنُ عباس أصحابَه بالتيمُّم وكان قد أجنبَ من وطءِ أَمَتِه. وهذا جائز عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهم، وإن كان أكثر هؤلاء يُجوِّز اقتداء القارئ بالأمي خلفَ العُريانِ ونحوه.
فعُلِمَ أن طهارة التيمم حيث أُمِرَ بها خير من الصلاةِ في المكان
__________
(1) أخرجه أحمد (5/ 146، 147، 155، 180) وأبو داود (332، 333) والترمذي (124) والنسائي (1/ 171) من حديث أبي ذر. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(6/360)


النجس، وصلاةُ العريان والصلاةُ إلى غير القبلة وكذلك بسُتْرةٍ جمعًا خير من صلاة العريان مع التفريق، والصلاة قائمًا مع الجمع خيرٌ من الصلاة وحدَه مع التفريق.
ولهذا يجوز للمسلمين في المطر مع إمكان صلاةِ الرجلِ وحدَه في بيته، وما ذاك إلا لأجل الجماعة، فعُلِمَ أن الجماعة في وقتِ إحداهما خيرٌ من كلِّ صلاة في الوقت المختصّ مع الانفراد، وكذلك الجمع مع الخوف في الجماعة خير من الصلاة فرادَى في الوقت. بل صلاةُ الخوف في جماعة كما مضتْ به السنة، مع مفارقة بحضهم الإمامَ قبلَ السلام، ومع العمل الكثير إذا صلى بطائفة ركعة ثم ذهب إلى العدو، مع استدبارهم القبلةَ، ومع اقتداء المفترض بالمتنفِّل، ومع الصلاة أربعًا في السفر، وأمثال ذلك كما جاءت به السنةُ= خيرٌ من صلاة كلّ منهم وحده. فالشارعُ يأمرُ بالجماعة ويَحُضُّ عليها، ويحتمل لأجلها تَرْكَ واجباتٍ وفِعْلَ محظوراتٍ.
والوقت أوكدُ من الجماعة باتفاق المسلمين، فإذا لم يمكنه أن يصلِّي جماعةً إلا بعد الوقت صلَّى منفردًا في الوقت باتفاق العلماء.

والجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحة. والصلاة بالماء جمعًا خيرٌ من الصلاة بالتيمم مفرقًا.
فمن عَلِمَ أنه لا يجد الماءَ إلا في وقتِ العصر كان صلاتُه الظهرَ والعصر بالماء جمعًا وقتَ العصر خيرًا من أن يصلي الظهر بالتيمم، وكذلك مَن وجدَه وقتَ الظهر وعَلِمَ أنه لا يجده إلا وقتَ المغرب كان جَمْعُه بالماء أفضلَ، كما تكون صلاتُه في آخر الوقت المختصّ بالماء أفضلَ من

(6/361)


صلاته في أوله بالتيمم.
فإن قيل: إنما جمعَ لأنه بمنزلة المسافر الذي لا ينزل قبل الغروب، وكذلك المريض الذي لا يمكنه الوضوء إلا في أحد الوقتين، وصلاتُه في أحد الوقتين جمعًا بالوضوء خيرٌ من صلاته مفرقةً بالتيمم، كما ذكرنا في المستحاضة أن صلاتها بالاغتسال جمعًا خيرٌ من صلاتها بالوضوء في الوقت المختصّ، والواقف بعرفةَ صلاتُه العصرَ جمعًا مع الظهر لإتمام الوقوف خيرٌ من فعلها في وقتها مع نقصه. وهذا الذي فَعَلَه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بعرفةَ أصل عظيم في هذا الباب، فإنه ليس الجمع هنا لحاجةٍ ولا تحصيلِ واجب ولا مشكوك في وجوبه، بل لتحصيل مستحبّ، وهو كمالُ الوقوف، فدلَّ على أن الجمع جائز حيث تكون المصلحة الشرعية معه أكملَ من المصلحة الشرعية مع التفريق، بحيث كانت العبادة مع الجمع أكملَ في الشرع من التفريق فالجمع أولى، لأنه حين وقفَ يُريد أن يُفِيضَ بعد الغروب إلى مزدلفةَ كان كما رُوي عنه أنه كان إذا ارتحلَ بعد أن تَزِيْغَ الشمسُ قدَّمَ العصرَ إلى الظهر، فصلاَّهما جمعًا.
قيل: إن كان جمعُه كذلك دلَّ على جواز الجمع لمثل هذا مع إمكان النزول، فإنه لو نزل قبل الغروب لم يكن عليه في ذلك مشقة عظيمة. فإذا جاز الجمعُ لمواصلة السَّيْر فالجمعُ لتكميل العبادات الشرعية أولى، ولم يكن جمعُه لمجرد السفر، فإنه لم يَجْمَعْ في حجته إلا بعرفةَ والمزدلفة، وقد كان يصلِّي قصرًا بلا جَمْع، ولم يقل أحد قَطُّ أنه جمعَ بمنًى ولا صلَّى أربعًا، بل كلُّهم متفقون على أنَّه قَصَرَ ولم

(6/362)


يَجْمَع، فعُلِمَ أن ذلك لم يكن لمجرد السفر بل للسَّيْر، كما قال ابن عمر وغيرُه: كانَ إذا جدَّ به السَّيْرُ فَعَلَ ذلك، مع أن النزول ممكنٌ ليس فيه إلا تفويتُ الإسراع الذي لا يفوت به الحج إلا أمر مستحب لا يفوت به واجب، فإنه لو نزلَ وصلَّى العصرَ ثم ركِبَ وأتمَّ الوقوفَ كان ممكنًا، لكن يفوت بذلك كمالُ مقصود الوقوف والإفاضة. فعُلِمَ أن الجمع كان لتحصيل مصلحة شرعية راجحة، لا لمجرد مشقة دنيوية.
وإذا كان قد جمعَ لتحصيلِ عبادةٍ هي أفضلُ من التفريق من غير أن يكون ذلك واجبًا ولا ضررَ فيه= عُلِمَ أن الجمعَ يجوز للحاجة والمصلحة الشرعية الراجحة. وقد نصَّ أحمد على جواز الجمع للشغل، وفسَّره القاضي بما يُبيح تركَ الجمعة والجماعة. ونصَّ على جَمْعِ المستحاضة بالغسل، وليس فيه إلا مصلحة شرعية راجحة.
ومما يُبيِّن ذلك أن الجمع لو كان معلَّقًا بسبب محدودٍ يدور معه وجودًا وعدمًا كالقَصر والفطر، لكان الشارعُ يُعلِّقه به، كما علَّقَ الفطرَ بالمرض والسفر بقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) (1)، وكما علَّق القصر بالسفر دون المرض بقوله: “إنَّ الله وضعَ عن المسافر الصومَ وشَطْر الصلاة” (2).
وأما الجمع فإنما وقعَ من النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بافعالٍ فَعَلَها في أول الوقت، وتارةً يُؤخِّرها، وكان التأخير أحبَّ إليه إلا إذا شَقَّ عليه، فإذا اجتمعوا
__________
(1) سورة البقرة: 184.
(2) سبق تخريجه من حديث أنس بن مالك الكعبي.

(6/363)


قدَّمَها لمشقة التأخير عليهم، فتقديمُ الصلاة في أول الوقت وإن كان هو الأفضل في الأصل، فإذا كان في التأخير مصلحةٌ راجحة كان أفضلَ، كالإبراد بالظهر وتأخير العشاء. وكما إذا رَجَا المتيمم الماءَ في آخر الوقت، أو رَجَا أن يُصلّي مستورَ العورة في آخر الوقت أو إلى القبلة أو في جماعةِ ونحو ذلك، وهكذا الجمع. فالأصل وجوبُ كلّ صلاةِ في وقتها الخاص، ثم يجوز أو يُستحبُّ فِعْلُها في الوقت المشترك لدفع الحرج.
وأما الجمع لمصلحة راجحة مع إمكان الفعل في الوقت فهذا قد جاء فيه حديث المستحاضة، فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أحبَّ لها أن تجمعَ بين صلاتَي النهار بغُسلِ وبين صلاتَي الليل بغُسل، وكان هذا أحبَّ إليه من أن تصلِّي في الوقت المختصّ بوضوء، لأن طهارة الغسل متيقنة وطهارة الوضوء محتملة، لإمكان انقطاع وجوب الغسل، مع أن الغسل ليس بواجب عليها، وعلى هذا فالجمعُ بوضوءِ أو غُسلِ أفضلُ من التفريق عُريانًا، والجمعُ إلى القبلة المتيقنة أفضل من التفريق بالاجتهاد، والجمع في جماعة أفضل من التفريق وحدَه.
ولهذا كان الصحابة والتابعون يجمعون للمطر، مع إمكان صلاة كلِّ واحد وحدَه في بيتِه، لكن ذلك لمصلحة الجماعة، فصلاتُه مع الجماعة جمعًا أفضلُ من صلاتِه في الوقتين. ولهذا لو كان مقيمًا في المسجد لكان جمعُه معهم على الصحيح أفضلَ من صلاتِه وحدَه في الوقتين.
وهكذا القول فيما يجب في الصلاة إذا أمكَن فِعلُه في الجمع فهو

(6/364)


أفضلُ من تركِه مع التفريق، وإن كان ذلك جائزًا، فإن الجامع للمصلحة الراجحة قد صلَّى الصلاة في وقتها، وإنما يجب عليه في الوقت المختص إذا أمكن فِعلُها فيه كاملةً، فلا يجوز له تفويتُ الوقت المختصّ بلا مُوجب. فأما إذا كان فِعلُها في الوقتين فيه نقصٌ عُفِيَ عنه للحاجة وأمكن فِعلُها في المشترك بلا نقصٍ كان أفضل.
والقرآن والسنة دلاّ على أن الوقت يكون، خمسة في حال الاختيار، ويكون ثلاثةً في حق المعذور، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من الكبائر الجمعُ بين الصلاتين إلا من عذرٍ. وقد أباحَ أحمد الجمعَ إذا كان له شغلٌ. قال القاضي أبو يعلى: المراد العذرُ الذي يُبيح تركَ الجمعة والجماعة، فالعذر الذي يُبيح تركَ ذاك يُبيح الجمعَ. وهذا بيِّنٌ، فإنه إذا سقطت الجمعة مع توكيدِها والجماعة مع وجوبها، فاختصاص الوقت أولى، لأن فعلها في الوقت المشترك جماعةً أفضلُ من فعلها في الوقت المختصّ فرادَى.
فإذا سقطتِ الجماعةُ بالعذر فاختصاصُ الوقت أولى، ينبغي أن يكون الجمع أوسع. من ذلك (1) أن الجمعة والجماعة آكدُ من اختصاص الوقت، وقد ترك النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في صلاة الخوف لأجل الجماعة ما كان يُمكِنُ أن يفعل مع الانفراد مما لا يجوز إلا لعذرٍ، إنما احتمل لأجل الجماعة مع الخوف.
وهذا الذي ذكرنا من أن الوقت يكون ثلاثةً في حق المعذور مما
__________
(1) كذا في النسختين، وفي العبارة غموض.

(6/365)


ثبتَ بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين في الجمع بعرفةَ ومزدلفةَ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أمور أخرى، وأحمد أوسعُ قولاً به من غيرِه، وأما تفويتُ الصلاة فلا يجوز بحالٍ في ظاهر مذهب أحمد، ولكن في مذهبه قولٌ بجواز التفويت في بعض الصور، ولكن في مذهبه في مثل عدم الماء والتراب يجوز التفويت. وأما أبو حنيفة فيوجب التفويتَ في مواضعَ، ولا يُجوِّز الجمعَ إلا بعرفة ومزدلفة. وقولُ الأكثرين الذين يُسوِّغون الجمعَ بين الصلاتين ويمنعون التفويتَ مطلقًا هو الصحيح، كما دلَّ على ذلك الكتابُ والسنة، فإن الله تعالى قال: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (1)، وثبتَ في الصحيحين عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “من تركَ صلاةَ العصر فقد حَبط عمله” (2)، وقال: “من فاتته صلاةُ العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله” (3). فالتفويتُ لا يجوز بحالٍ، وتفويتُ الخندق منسوخٌ.
وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابتٌ بالسنة في مواضع متعددة، وبعضها مما أجمعَ عليه المسلمون، والآثار المشهورة عن الصحابة تُبيِّن أن الوقت المشترك وقتٌ في حال العذر، كقول عمر بن الخطاب: الجمعُ بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر. فدلَّ على أن الجمع بينهما للعذر جائز. وقال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة فيمن طَهُرَتْ في آخر النهار: إنها تُصلِّي الظهر والعصر،
__________
(1) سورة البقرة: 238.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.

(6/366)


وفيمن طَهُرَتْ في آخر الليل: إنها تُصلِّي المغرب والعشاء. وهو قول الثلاثة مالك والشافعي وأحمد.
وأما التفويت فلا يجوز بحالٍ، فمن جوَّز التفويتَ في بعض الصُّوَر فقوله ضعيفٌ وإن جوَّز الجمع. وأما من أوجبَ التفويتَ ومَنَعَ الجمعَ فقد جمعَ في قوله بين أصلَينِ ضعيفينِ: بينَ إباحةِ ما حرَّمَ الله ورسوله وتحريمِ ما شرعَه الله ورسولُه، فإنه قد ثبتَ أن الجمعَ خيرٌ من التفويت.
فبهذا الأصل ينتظم كثيرٌ من مسائل المواقيت. وتفويتُ العصر إلى حين الاصفرار وتفويتُ العشاء إلى النصف الثاني أيضًا لا يجوز إلا لضرورةٍ، والجمعُ بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت، بل الصلاة بالتيمم قبل دخول وقت الضرورة خيرٌ من الصلاة بالوضوء في وقت الضرورة. وقد نصَّ على ذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره، وقالوا: لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار، بل إذا لم يجد الماء إلا فيه فإنه يُصلِّي بالتيمم قبل الاصفرار، ولا يُصلِّيها حينَ الاصفرار بالوضوء. والله أعلم.

(6/367)


مسألة في رجل فقير وعليه دين، هل لأخيه الغني دفع الزكاة إليه؟

(6/369)


مسألة
في رجل فقيرٍ وعليه دَين، وله أخٌ لأبويه وهو غنيٌّ، هل للغنيّ دَفْعُ الزكاةِ لأخيه الفقير دونَ الأجانب؟ وهل يجوز له تعجيلُ الزكاةِ له سنة أو سنتين؟
جواب الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية
نعم، يجوز أن يدفع إليه من زكاتِه ما يَستحقُّه مثلُه من الزكاة، وهو أولى من أجنبيّ ليس مثلَه في الحاجة، ويجوز تعجيلُ الزكاة. وذلك لأن نصوص الكتاب والسنة تتناول القريبَ والبعيدَ في الإعطاء من الزكاة، وامتازَ إعطاءُ القريب بما فيه من الصلة، وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “صدقتك على المسكين صدقةٌ، وصدقتك على ذي الرحم صدقة وصِلَةٌ” (1). والصدقة في الصلة أفضلُ من الصدقة المجردة.
والذين منعوا من إعطاءِ الزكاة له قالوا: نفقتُه واجبةٌ على الأخ، فيكون مستغنيًا بها، فلا يُعطيه ما يقوم مقامَ النفقة الواجبة. وهذا القول ضعيف لوجوهٍ:
أحدها: أنه قد لا تكون النفقةُ واجبةً عليه، بأن لا يكون للمزكّي فضلٌ يُنفِقُه على أخيه، وهذا حالُ كثير من الناس. فإذا حُرِمَ الصدقةَ مع النفقة كان هذا ضدَّ مقصودِ الشارع.
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 17، 18) والترمذي (658) والنسائي (5/ 92) وابن ماجه (1844) من حديث سلمان بن عامر. قال الترمذي: حديث حسن.

(6/371)


الثاني: أن يقال: هَبْ أن نفقتَه واجبةٌ عليه، فإنما ذلك بشرط أن لا يكون قادرًا على الكَسْب وأن يطالب بها، فإذا كان متمكنًا من أخذ الزكاة واختار ذلك لم تجب النفقةُ في هذا الحال. كما لو اختارَ أخذَ الزكاةِ من أجنبي، فإن النفقة لا تجب في هذا الحال إجماعًا. وليس أن يُمنَع من الزكاة لأجل وجوب النفقة بأولَى من أن يُمنَع من النفقة لأجل وجوب الزكاة، بل هذا أولى، لأن الصدقةَ مالٌ أباحَه الله له ولأمثالِه، فإذا كان قادرًا عليه لم يكن به حاجةٌ إلى النفقة، والنفقة إنما وجبتْ عند العجز عن الاكتساب، وأخذُ الزكاة من جملة وجوهِ الاكتساب.
وكما أن الصدقة لا تَحِلُّ لغنيّ ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ، فهو أيضًا لا يستحقُّ النفقةَ.
الوجه الثالث: لو وجبتْ نفقتُه على غيره، وامتنعَ ذلك الغير من إعطائها، كان له أخذُ الزكاةِ بالاتفاق. فهذا القريبُ لو قُدِّرَ امتناعُه من الإنفاق لم يَحرُمْ على هذا أخذُ زكاتِه. ولا يقال: الزكاةُ لم تَسقُط عن ذلك، بل غايةُ ما يُقال: إنه عاصٍ بتَرْكِ النفقة.
الرابع: أن يقال: لا ريبَ أنه يجبُ إغناءُ هذا الفقير، فإمَّا أن يُغْنِيَه قريبُه من مالِه وإمَّا من الزكاة، فالواجب إمّا الإنفاق عينًا وإمّا الزكاةُ عينًا وإمَّا أحدهما، وإيجاب الإنفاق عينًا مع تمكُّنِ المحتاج من أخذِ الزكاة ومع اختيارِه لذلك لا يقول به أحد، وأما إيجاب إعطاء الزكاة عينًا مع اختيار ربِّ المالِ أن يَصِلَ رَحِمَه من ماله فلا يقول به أحدٌ، فمتى اختار الفقيرُ أخذَ الزكاةِ فله ذلك، ومتى اختار الغنيُّ صلتَه من مالِه فله ذلك إذا اختارَ الفقيرَ، ولو أرادَ الفقيرُ أن لا يَقبل الصلةَ وقال: لا آخذُ إلا من

(6/372)


الزكاة فله ذلك. وإن أرادَ المطالبةَ بالنفقةِ وقال: لا أريدُ إلا النفقةَ دونَ الزكاةِ، فهذا فيه نظرٌ ونزاعٌ، وأما إذا اتفقا على الصلة جاز بالاتفاق، فكذلك إذا اتفقا على الإعطاء من الزكاة هو جائزٌ أيضًا. كما لو كان الغنيُّ يُعطِيه من صدقةٍ موقوفةٍ، أو من صدقةٍ هو وكيلٌ فيها أو ولي عليها.
فإن قيل: إذا أعطاه وَقَى بها مالَه، وقد ذكر الإمامُ أحمد عن سفيان ابن عيينة قال: كان العلماء يقولون: لا يَقِيْ بها مالَه، ولا يُحَابي بها قريبًا، ولا يَدفَعُ بها مَذمَّةً.
قيل: هذا إنما يكون إذا كان القريب من عيالِه، فيُعطِيه ما يَستَغْنِي به عن النفقةِ المعتادة، ففي مثل هذه الصورة لا يُجزِئُه على الصحيح، وهو المنقول عن ابن عباس وغيرِه، أَفتَوا بأنه إذا كان من عياله لم يُعطِه ما يَدفَعُ به الإنفاقَ عليه. حتى لو كان متبرّعًا باِلإنفاقِ على رجلٍ لم يكن له أن يُعطِيَه ما يقِي به مالَه، لأنه هنا دَفعَ عن نفسِه بالزكاة، فأخرجها لغَرَضِه لا للهِ، والزكاة عليه أن يُخرِجَها لله، وإن لم يكن هذا واجبًا بالشرع، لكن العادات لازمةٌ لأصحابها. والمحاباةُ أن يُعطِيَ القريبَ وهناك من هو أحقُّ منه، وأما إذا استويا في الحاجة وأعطاهُ لم يكن هذا محاباةً. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن عادتُه الإنفاقَ على الأخ، فإن وجوبَ الإنفاق عليه مشروطٌ بعدمِ قدرته على الأخذ من الزكاة واختيار ذلك، فمتى كان قادرًا على الأخذِ مريدًا له لم يستحق في هذه الحال نفقةً. كما لو حَصَلَ ذلك مع غنى أجنبيّ، فإنه إذا اختارَ الأخذَ من زكاته لم يجب على أخيه في هذه الحال الإنفاقُ عليه.

(6/373)


الوجه الخامس: أن يقال: لو أعطَى الزكاةَ للإمام، فأعطَى الإمامُ أخاه من ذلك، جاز، وكذلك لو أعطاها لمن يَقْسِمها بين المستحقين، فأعطاه أخاه، فكذلك إذا قَسَمَها هو. وسببُ ذلك أن الزكاةَ يجبُ صَرْفُها إلى الله تعالى، الذي يثيبُ صاحبَها، والفقراءُ يأخذونها من الله، لا يَستحقُّ أربابُ الأموال عليهم معاوضةً. فهو كما أعطَى الإمامُ من بيت المال، وناظرُ الوقفِ من الوقف، وإذا كان كذلك فأخْذُه من زكاةِ قريبِه وغيرِه سواءٌ، كأخذه من مالٍ يَنظُر عليه قريبُه، سواء كان سلطانيًّا أو وقفًا أو نذرًا.
يدل على ذلك أن أبا طلحةَ لما قال للنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرحَاء، وإنها صدقةٌ لله أرجو بِرَّها وذُخْرَها عند الله، فضَعْها يا رسولَ الله حيثُ شئتَ، فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إني أرى أن تجعلَها في الأقربين” (1). فالنبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أمرَ بجعْلِها في الأقربين بعد أن جَعَلَها لله وخَرَجَ عنها. والله سبحانَه أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري (1461) ومسلم (998) من حديث أنس.

(6/374)


مسألة في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد

(6/375)


مسألة
في التسمية على ذَكاةِ الذبيحة وذكاة الصيد، والنزاع فيها مشهور بين السلف والخلف، وقد ذكروا عن أحمد رحمه الله فيها خمسَ رواياتٍ، ذكرها أبو الخطاب في “رؤوس مسائله “. قال أبو الخطاب: متروكُ التسمية لا يَحِلُّ أكلُه، سواء تركَ التسميةَ عامدًا أو ناسيًا. وعنه إن تَركَها عامدًا لم يحلَّ، وإن تركها ناسيًا حلَّتْ. وهو قولُ أبي حنيفةَ والثوري ومالك. وعنه إن سَها على الذبيحة حَلَّ، فأما على الصيد فلا.
(قال تقي الدين:) قلت: وأكثر الروايات عن أحمد على هذا، وهي اختيار أكثر أصحابه، كالخرَقي والقاضي وأكثرِ أصحابه والشيخ الموفق.
قال: وعنه إن سَهَا على السَّهم حَلَّ، وأما على الكلب والفهد فلا.
وقال الشافعي: يَحِلُّ أكلُه سواء تركَها عامدًا أو ساهيًا، وعن أحمد بنحوه.
ونَصرَ أبو الخطاب التحريمَ مطلقًا. (قال الشيخ تقي الدين:) وهذا هو الصواب، فإني تدبَّرتُ نصوصَ الكتاب والسنة فوجدتُها متظاهرةً على إيجاب التسمية واشتراطِها في الحلِّ، وتحريمِ ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه، وكلُّ نصٍّ منها يوافق الآخر، مع كثرة النصوص وصراحتها في الدلالة، ولم أجدْ شيئًا يَصلُح أن يُقارِبَ معارضةَ هذه النصوص، فضلاً عن أن يُكافِئَها أو يرجحَ عليها. ولو لم يكن إلا نصّ سالم عن المعارِض المقاومِ لَوجبَ العملُ به، فكيف مع كثرتها وقوةِ دلالتها وعدمِ معارضِها.

(6/377)


قال الله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)) (1). فقد أمر سبحانه بالأكل مما ذُكر اسم الله عليه، وعلَّق ذلك بالإيمان، وأنكر على من لم يأكل مما ذكر اسم الله عليه، ونهى عن أكل ما لم يُذكر اسمُ الله عليه، وقال: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) كما قال فيما أُهِلَّ به لغير الله في قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) (2). فقد ذكر تحريم ما أُهِلَّ لغيرِ الله به في أربعة مواضع كما ذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير.
وقال تعالى فيما ذمَّ به المشركين: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (3). وقال تعالى في المائدة (4): (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) إلى قوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) إلى قوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
__________
(1) سورة الأنعام: 118 – 121.
(2) سورة الأنعام: 145.
(3) سورة الأنعام: 138.
(4) الآيتان: 3، 4.

(6/378)


أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ).
فهذه خمس آيات في التسمية. وفي الصحاح والمساند حديثُ عدي بن حاتم الذي اتفق العلماء على صحته، وتلقَّتْه بالقبول تصديقًا وعملاً به، ففي الصحيحين (1) عن إبراهيم النخعي عن همّام بن الحارث عن عَدِيّ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إني أُرسِل الكِلابَ المعلَّمةَ فَيُمسِكْن عليَّ وأذكُر اسمَ الله، فقال: “إذا أرسلتَ كلبك المعلَّمَ وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ ما أمسكَ عليك “، قلت: وإن قتلنَ؟، قال: “وإن قَتلنَ، ما لم يشركها كلبٌ ليس منها”. قلتُ: فإني أَرمِي بالمِعراضِ الصيدَ فأُصيبُ، فقال: “إذا رميتَ بالمِعراضِ فخَرَقَ فكُلْهُ، وإن أصابَه بعَرْضِه فلا تأكُلْه”.
وفي الصحيحين (2) عن شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي سمعتُ عديَّ بن حاتم قال: سألتُ رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن المِعراضِ، فقال: “إذا أصابَ بحدِّه فكُلْ، وإذا أصاب بعَرْضه فقتلَ فإنه وَقِيذٌ فلا تأكل “، قال: قلتُ: إني أُرسِلُ كلبي، قال: “إذا أَرسلتَ كلبك وذكرتَ اسمَ اللهِ فكُلْ “، قال: قلتُ: فإن أكلَ منه؟ قال: “فلا تأكُلْ، فإنما أمسكَ على نفسِه ولم يُمسِك عليك “. قال: قلت: أُرسِلُ كلبي وأجدُ معه كلبًا آخر، قال: “لا تأكُل، فإنما سمَّيتَ على كلبِك ولم تُسَمِّ على الآخر”.
__________
(1) البخاري (7397) ومسلم (1929).
(2) البخاري (5486) ومسلم (1929/ 3).

(6/379)


وفي الصحيحين (1) أيضًا عن عديّ قال: قال لي رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إذا أرسلتَ كلبَك فاذكُر اسمَ الله عليه، فإن أمسكَ عليك فأدركتَه حيًّا فاذبَحْه، وإن أدركتَه قد قتلَ ولم يأكل منه فكُلْ، فإن وجدتَ مع كلبك كلبًا غيرَه وقد قتل فلا تأكلْه، فإنك لا تَدري أيّهما قَتَلَه. وإن رميتَ بسَهْمِك فاذكر اسمَ الله، فإن غابَ عنك يومًا فلم تَجدْ فيه إلا أثرَ سَهْمك فكُلْ إن شِئتَ، وإن وجدتَه غريقًا في الماء فلا تأكُلْه”.
وفي لفظ البخاري (2): قلت: يا رسولَ الله، أُرسلُ كلبي وأُسمِّي، فأجدُ معه على الصيد كلبًا آخر لم أُسمِّ عليه، ولا أَدري أيُّهما أخذَ، قالَ: “لا تأكلْ، إنما سمَّيتَ على كلبك، ولم تُسَمِّ على الآخر”.
قوله: “فأدركتَه حيّا فاذبَحْه” من أفراد مسلم، وزادَ غيرُه بإسنادِه الصحيح: “فإن أدركتَه ولم يقتلْ فاذبَحْ واذكُر اسمَ الله”.
فهذا فيه الدلالة من وجوهٍ عديدةٍ:
أحدُها: قول عديّ أولاً: “إني أُرسلُ كِلابي المعلَّمةَ فيُمسكنَ عليَّ وأذكُر اسمَ الله”، وقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إذا أرسلتَ كلبكَ المعلَّم وذكرتَ اسمَ الله عليه”، وقوله: “إنما سمَّيتَ على كلبك” دليلٌ على أن عديا فهمَ من قوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) (3) أنه أمرٌ من الله بذكرِ اسمِه
__________
(1) البخاري (5486) ومسلم (1929/ 6).
(2) البخاري (5486).
(3) سورة المائدة: 4.

(6/380)


على الصيد، لم يُرِد به مجردَ ذكرِ اسمِه عند الأكل، كما ظن ذلك بعضُ الناس.
(ثم قال:) فيقال: حديثُ عدي بن حاتم سؤالُه وجوابُ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يدل على التسمية عليه على الصيد حينَ الاصطياد، وإن كانت التسمية عند الأكلِ مأمورًا بها أيضًا وجوبًا أو استحبابًا، على قولين معروفين لأصحابنا وغيرهم. لكن التسمية حينَ الاصطياد مأمورٌ بها في الآية قطعًا، كما دلىَّ عليه حديثُ عديّ، مع أن ظاهر القرآن يدل على ذلك أيضًا، وهذه من أدلة القرآن، فإن الضمير في قوله: (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) ضميرٌ عائد على “ما” في قوله: (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، أي: واذكُروا اسمَ الله على ما أمسكن. وذِكرُ اسمِ الله على ما أمسكنَ هو ذِكرُه على الصيد حينَ الاصطياد، كما يقال: ذكر اسم الله على الذبيحة أي حينَ الذبح، وهو ذكر اسمه على الكلب حين الإرسال، كما في الحديث: “فإنك إنما سميتَ على كلبك ولم تُسَمِّ على غيره “. وأما إذا سمَّى على الكلبِ وأرسلَه، فعند إرسال الكلب له يكون صاحبُه بعيدًا عنه، وقد لا يراه، فلا يُؤمَر حينئذ بالتسمية. ولم يَقُلْ أحدٌ من أهل العلم أن ذِكْرَ اسمِ الله على ما أمسكن هو مخصوصٌ بهذه الحال.
وأيضًا فإنه لم يتقدَّم اسمٌ يَصلُح أن يعودَ الضمير إليه إلا “ما أمسكن “، وأما الأكلُ فلم يتقدم اسمُه، وإنما تقدم قولُه: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ). وقد يعود الضمير إلى الاسم الذي دل عليه الفعل، كما في قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ) (1)،
__________
(1) سورة آل عمران: 180.

(6/381)


لكن ذاك يكون إذا لم يكن هناك ما يعودُ الضمير إليه إلا ما دلَّ عليه الفعل من الاسم لعدمِ اللبس، وأما إذا كان الاسمُ هو القريب إلى الضمير فهذا يترجَّحُ عودُه إليه دون الاسم الأبعد، فكيف إذا كان الأبعد فعلاً؟
وأيضًا فالقرآن حيث أُمِرَ فيه بذكر اسمِ الله على ما ذُكِّي فإنما هو حين التذكية، كسائر الآيات، وإنما ذمَّ مَن تركَ ذِكْرَ اسمِه عليها حينئذٍ، كما قال: (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) (1)، فالذي ذَمَّ به المشركين على تركِه أمرَ المؤمنين بفعلِه. وهذه الدلالة من حديث عدي هي دلالة القرآن، لكن حديث عديّ قرَّرها وطابَقها.
الثاني: أنه قال في بعض طُرقه: “إذا أرسلتَ كلبَك فاذكر اسم الله عليه”، فأمرَ بذلك، وأمرُه للوجوب.
الثالث: أنه قال أيضًا: “إذا رَميتَ بقوسك فاذكر اسمَ الله”.
الرابع: أنه قال: “إن أدركتَه ولم يُقتَل فاذبَحْه واذكُر اسمَ الله”.
الخامس: أنه قال: “إذا أرسلتَ كلبك المعلَّم وذكرتَ اسم الله فكُلْ ما أمسك عليك”. فشَرَطَ في الأكل أن يذكر اسمَ الله، كما اشترطَ أن يكون الكلبُ معلَّمًا، وأن يُمسِكَ عليه. وهذه الشروط الثلاثة المذكورة في القرآن.
السادس: أنه قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أُرسِل كلبي وأسمِّي،
__________
(1) سورة الأنعام: 138.

(6/382)


فأجدُ معه على الصيد كلبًا آخر لم أُسمِّ عليه، ولا أدري أيُّهما أخذ.
قال: “لا تأكلْ، فإنك إنما سميتَ على كلبك، ولم تُسَمَ على الآخر”.
فنهاه عن أكلِ ما شكَّ في تذكيته، وعلَّلَ ذلك بأنك إنما سمَّيتَ على كلبك ولم تُسَمِّ على الآخر، فجعلَ المانعَ من حِلِّ صَيدِ الكلب الآخر تركَ التسمية، كما جَعلَ فِعلَ التسمية علةً لحِل صيدِ كلبه. وهذا من أصرح الدلالات وأبينها في جَعْلِه وجودَ التسمية شرطًا في الحِلِّ، وعدمَ التسميةِ مانِعًا من الحِلِّ، ولم يُفرِّقْ بين أن يتركَها ناسِيًا أو غيرَ ناسِ، مع أن حالَ الاصطياد حال قد يدهَشُ الإنسانُ ويَذْهَلُ عن التسَميةِ فيها، وإذا لم يعذره في هذه الحال بتركِ التسمية فأن لا يَعذرَه بذلك في حالِ الذبح وهو أحضرُ عقلاً= أولى وأحرى.
السابع: أنه كرَّر علية ذِكرَ التسمية حينَ إرسالِه الكلبَ، وحينَ إرسالِه السهمَ، وعند منعِه من أكلِ ما خالطَ كلبَه كلب لم يُسَمِّ عليه، وعند ذبحِه. وهذا كلُّه يدلُّ على اعتناء النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بالتسمية على الذكاة بالذبح والسَّهم والجارح، وأنه لا بدَّ منها في الحلّ، وأن انتفاءَها يُوجبُ انتفاءَ الحلِّ. وهذا في غاية البيان من الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الذي ليس عليه إلا البلاغ المبين، وبدون هذا يَحصُلُ البيان الذي تقومُ به الحجَّةُ على الناس.
وأيضًا حديث أبي ثعلبةَ الخُشَني (1) – وهو في الصحاح والسنن
__________
(1) أخرجه البخاري (5478، 5488، 5496) ومسلم (1930) وأحمد (4/ 195) وأبو داود (2855) والترمذي (1560) والنسائي (7/ 181) وابن ماجه (3207).

(6/383)


والمساند أيضًا، وعلى حديثه وحديثِ عديّ يدورُ بابُ الصَّيد، وعليهما اعتمدَ الفقهاءُ كلُّهم- قال: أتيتُ رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلتُ: إنّا بأرضِ قوم من أهلِ الكتاب نأكلُ في آنيتهم، وأرضِ صيدٍ، أَصِيدُ بقَوسِي، أصيدُ بكَلبي المعلَّم وبكلبي الذي ليس بمُعلَّم، فأخبرني ما الذي يَحلُّ لنا من ذلك؟ فقال: “أما ما ذكرتَ أنكم بأرضِ قومٍ من أهلِ الكتاب تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غيرَ آنيتهم فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدَوا فاغسلوها ثم كلوا فيها. وأما ما ذكرتَ أنكم بأرضِ صيدٍ، فما أصبتَ بقوسِك فاذكر اسمَ الله ثم كُلْ، وما أصبتَ بكلبك المعلَّم فذكرتَ اسمَ الله فكُلْ، وما أصبتَ بكلبك الذي ليس بمعلَّم وأدركتَ ذكاتَه فكُل “. وفي لفظ البخاري: “ما صِدْتَ بقوسِك وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ، وما صِدْتَ بكلبك المعلَّم وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ”.
فهذا أبو ثعلبة يسأله، يقول له: أخبرني ما الذي يحلُّ من ذلك؟ فلم يُحِلَّ له إلا ما ذكَر اسمَ الله عليه في الاصطياد بقوسهِ وفي الاصطياد بكلبه، ولم يَستَثن حالة نسيانٍ ولا غيرها، وهذا من أَبْينِ الدلالةِ على أنه لا يحلُ له إلا ذلك، إذ لو كان يَحِلُّ ما ترك التسمية عليه خطأً أو عمدًا لم يكن ما ذكره جوابه، بل كان الجواب إذَنْ إحلالَ ذلك كله أو إحْلالَ ما سُمِّي عليه وما نسي التسمية عليه، كما أن المستفتي لمن يُحِلُّ هذا من الفقهاء يُجيبُه بجواب يُخالِف جوابَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لأبي ثعلبة، وهذا دليلٌ على خطأ ذلك الجوًاب.
وبهذين الحديثين ونحوهما احتج من أوجبَ التسميةَ على الصيد دون الذبيحة في حالِ الخطأ من أصحابنا، قال: لأن هذه النصوص

(6/384)


صريحةٌ في اشتراطِ ذلك، ولم يَردْ مثلُ ذلك في الذبيحة. وقالوا: لأن تذكية الذبيحة تذكية اختيار، فلم تَحتَجْ إلى اقترانها بالتسمية كتذكية الصيد، فإنها تذكيةٌ ضرورية وقعتْ رخصةً، فلا بُدَّ أن تكملَ بالتسمية، ولهذا لا يجوز تذكية المقدور عليه من الصيد والأهلي إلا في الحلق والَّلبَّة. وبهذا فرَّق من اشترطَها في الكلب دون السهم، لأن التذكية بالسهم يَحصُل بفعل الاَدمي، بخلاف التذكية بالجارح، فإنها تَحصُل بفعلِ الجارح، فكانت أضعف.
لكن ما ذكروه يُعارِضه أنكم تُوجبونَها على الذبيحة، ولكن عذرتم الناسيَ بعذرِ النسيان، والصائد أولىَ بالعذر من الذابح، لما يَحصُل له من العذر والدَّهَش الذي يُوجِب له النسيانَ.
(ثم قال:) وذكاةُ السهم والكلب ذكاةٌ تامَّةٌ يَحصلُ بها الحِلُّ التامُّ، كما أن صلاةَ الخائف والمريض تَبْرَأُ بها ذِمّتُه، فإن الله إنما أوجبَ على الناس ما يستطيعون، ولما كان المعجوز عنه من الحيوان لا يمكنُ تذكيتُه إلا على هذا الوجه لم يُوجِب الله ما يَعجزون عنه.
ولهذا كانت ذكاةُ الجنين عندنا ذكاةَ أمِّه كما مضتْ به السنة، وإن لم يكن في ذلك سَفْح دَمِه، إذ لا يمكن تذكيتُه إلا على هذا الوجه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وُسْعَها. ولهذا قلنا: إذا أدركَ الصيدَ مجروحًا ولم يتسع الزمانُ لتذكيتِه أُبِيحَ، ونظائرُ ذلك.
وأيضًا ففي الصحاح والسنن والمساند عن رافع بن خَدِيْج (1) قال:
__________
(1) أخرجه البخاري (5543) ومسلم (1968) وأحمد (3/ 463، 464، 4/=

(6/385)


كنّا مع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بذي الحُلَيفة من تِهامةَ، فأصاب القومَ جِوع، فأصابوا إبلاً وغنمًا، وكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في أُخرياتِ القوم، فعجَّلوا وذبَحُوا ونَصَبُوا القدور، فأمر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بالقُدورِ فأكفِئَتْ، ثمّ قَسَمَ فَعَدَلَ عشرةً من الغنم ببعيرٍ، فنَدَّ منها بعير، فطلبوه فأعياهم، وكان في القوم خيل يسيرة، فأهوى رجلٌ منهم بسهمٍ، فحبَسَه الله، فقال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “إن لهذه البهائم أَوَابِدَ كأوًابِدِ الوحشِ، فما غلبكم فاصنعوا به هكذا”. قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إنا لاَقُو العدوّ غدًا وليستْ معنا مُدًى، أفنذْبحُ بالقَصَب؟ قال: “ما أَنْهَرَ الدمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه فكُلُوه، ليسَ السِّنَّ والظفًر. وسأحدِّثكم عن ذلك، أما السِّنُّ فعَظْم، وأما الظفُر فمُدَى الحبشةِ”.
وهذا الحديث أيضًا تلقَّا [هُ]، العلماءُ بالقبول، وقد علّق الحلّ فيه بشرطين: بإنْهار الدَّمِ وذِكْرِ اسمِ الله على المذكَّى. فكما أن إنْهارَ الدم شرط فكذلك ذِكرُ اسمٍ الله عليه، وكما أن الذكاةَ بما لا يُنْهِرُ الدمَ لا يُباحُ بحالٍ، بل قد يُعفى عما لا يمكنُ إنْهارُ دمِه، كالجنين في بطنِ أمّه، فيكون ذكاتُه ذكاةَ أمِّه التي أُنْهِرَ دَمُها، وأما ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه فلم يُعفَ عنه.
وأيضًا فإنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد ثبتَ عنه أنه قال للجنّ: “لكم كلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسمُ الله عليه، تجدونَه أوفرَ ما يكون لحمًا، وكلُّ بَعَرَةٍ عَلَف لِدَوَابِّكم” (1)،
__________
=140، 142) والترمذي (1491، 1492، 1600) والنسائي (7/ 221، 226، 228) وابن ماجه (3137).
(1) أخرجه مسلم (450) عن ابن مسعود.

(6/386)


[و]، قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تَستنتجوا بهما، فإنهما زادُ إخوانكم من الجن ” (1). فماذا كان لم يُبَحْ للجنّ المؤمنين من الطعام الذي يَصلُح للجن- وهو ما يكون على العظام- إلا الطعامُ الذي ذُكِرَ اسمُ الله عليه، فكيف بالإنس الذين هم أكملُ وأعقلُ، وهم الذين يتولّون تذكيةَ الحيوانِ، كيف يُباحُ لهم ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه؟ وهذا كما أنه لما نَهَى عن الاستنجاء بطعامِ الجنّ وعَلَفِ دَوَابِّهم، كان النهيُ عن الاستنجاء بطعامِ الإنس وعَلفِ دَوَابِّهم أولى وأحرى.
وأيضًا ففي صحيح البخاري (2) وغيره عن عائشة أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا يأتونا باللحم، لا نَدريْ أَذُكِرَ اسمُ الله عليه أم لا، فقال: “سَمُّوا عليه اسمَ الله وكُلُوا”. قال: وكانوا حديثي عهد بكفر.
وهذا يدلُّ على أنه كان قد استقرَّ عند المسلمين أنه لا بُدَّ من ذِكر اسمِ الله على الذبح، كما بيَّنَ الله ذلك لهم هو ورسولُه في غير موضع، فلما كان هؤلاء حديثي عهدٍ بالكفرِ خافوا أن لا يكونوا سَمَّوا، فاستفًتَوا عن ذلك رسولَ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرَهم أن يُسَمُّوا هُم ويأكلوا. وذلك لأنَّ من أباحَ الله ذبيحتَه من مسلم وكتابيّ لا يُشتَرط في حِلِّ ذبيحتِه أن أعلم أنه بعينه قد سَمَّى، إذ العلمُ بهذ الشرطِ متعذِّرٌ في غالبِ الأمر، ولو كان هذا العلمُ شرطًا لما أكلَ اللحمَ غالبُ الناسِ، فأجريت أعمالُ الناسِ على الصحة، كما أن من اشتريتَ منه الطعامَ حملتَ أمرَه على الصحة، وأنه إنما باعَ ما لَه بيعُهُ بملكٍ أو ولاية أو وكاله، مع أن كثيرًا من الناس
__________
(1) أخرجه الترمذي (18) من حديث ابن مسعود.
(2) برقم (5507) و (7398).

(6/387)


يبيعون ما لا يجوز لهم بيعُه.
(ثم قال:) ولو لم تكن التسميةُ شرطًا لكان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يقول لهم: سواء سَمَّوا أو لم يُسَمُّوا فإنهم مسلمون، أو يقال: لعلَّ أحدَهم نسيَ التسميةَ. فلما أعرضَ عن هذا كلِّه عُلِمَ أنَّ أحدًا لا يُعذَرُ بتركِ التسمية، وإنما يُعذَرُ من لم يعلمِ حالَ المذكِّي، والفرق بينهما ظاهر جدًّا، كما أن المذكّي عليه أن لا يُذكّي إلا في الحَلْقِ واللَّبَّةِ، ومن لم يعلم حالَه له أن يأكلَ ما ذُكِّي حملا لفعلِه على الصحة والسلامة.
ثمّ إن وجوبَ تذكية المقدور عليه في الحلق واللَّبَّةِ مما يقول به عامةُ العلماء، وليس في إيجاب ذلك نصٌّ مشهورٌ صريحٌ، بل فيه آثارٌ عن بعض الصحابة، وفيه من الحديث ما ليس بمشهور. ثم إن ذلك جُعِلَ شرطًا على كل قادر، لا يَسقُط إلا بالعجز، فالتسميةُ التي دلَّ على وجوبها النصوصُ الصحيحةُ الصريحةُ أولَى بالإيجاب والاشتراطِ، فإن التذكيةَ في غير الحلقِ واللَّبَّةِ يَحصلُ بها إنهارُ الدم، لكن هو عدولٌ عن أحسنِ القِتْلَتَيْنِ، وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء، فإذا قَتلتم فأحسِنُوا القِتلَةَ، وإذا ذَبحتم فأحسِنُوا الذِّبحةَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرتَه ولْيُرِحْ ذبيحتَه ” (1). فإذا كان بتَركِ أولى الذِّبحتينِ تَحرُمُ الذبيحةُ، فتَركُ ذِكْرِ اسمِ الله أولى بذلك، لأنَّ هذا هو الفرق بين ذكاةِ أهلِ الإيمان وأهل الكفر، أن هؤلاء يذكرون اسمَ الله على الذكاة، وأولئك لا يذكرون اسمَ الله.
__________
(1) أخرجه مسلم (1955) من حديث شداد بن أوس.

(6/388)


وأدلَّةُ إيجاب التسمية على الذكاة أظهرُ بكثيرٍ من أدلةِ وجوب قراءةِ التسمية في الصلاة، بل من إيجابِ قراءةِ فاتحة الكتاب.
(ثم أشار إلى حجة من لم يُوجِب التسمية على الذكاة، وضَعَّفها الشيخ تقي الدين، وأجاب عنها بأجوبة، ثم قال:)
التاسع: أن ما لم يُذْكر اسمُ الله عليه كان للشيطانِ فيه نصيبٌ، وذِكْرُ اسمِ الله يَدفعُ الشيطان، كما في الصحيحين (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “لو أنَّ أحدَهم إذا أتَى إلى أهله قال: “بسم الله، اللَّهمَّ جَنِّبنا الشيطانَ وَجنِّب الشيطان ما رَزَقْتَنا”، فرُزِق ولدًا، لم يَضُرَّه الشيطانُ ولم يُسَلَّط عليه “.
(واستشهد بغيرِ ذلك حذفتُه اختصارًا، لضيقِ الوقت)، والله سبحانه أعلم.
__________
(1) البخاري (141) ومسلم (1434).

(6/389)


مسألة في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البرّ وابن آوى وجلودهم

(6/391)


مسألة
في أكل لحم الضبُع والثعلب وسِنَّورِ البرّ وابنِ آوَى وجلودِهم، هل يَحلُّ لُبْسُ جلودِ الجميع وأكلُ لحم الجميع أم البعض؟ وهل تطهرُ جلودُهم بالدِّباغ؟
الجواب
أما لحم الضبع فإنه مباحٌ عند مالك والشافعي وأحمد، وجلدُه يَطْهُر بالدباغ في مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك في روايةٍ وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أصحُّ قولَي العلماء. هذا إذا دُبِغ بعد موته، وأما إن ذُكِّيَ ودُبغ كان طاهرًا في مذهب الأئمة.
وأما سِنَّور البرّ والثعلب ففي حِلِّهما قولان هما روايتان عن أحمد، أحدهما: يَحِلُّ، فيكون جلدُه طاهرًا إذا ذُكِّي، وهذا مذهب مالك والشافعي، وعلى هذا القَول فإذا ماتَ ودُبغ كان طاهرًا في مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك.
والقول الثاني: إنهما محرَّمان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وعلى هذا فإذا ذُكِّي كان جلدُه طاهرًا عند أبي حنيفة دون أحمد، وجلدُه يَطهر بالدباغ إذا مات عَند أبي حنيفة ووجه في مذهب أحمد، وظاَهرُ مذهبِه أنه لا يَطهر.
وأما ابن آوى فإنه حرامٌ عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجلدُه يَطهر بالدباغ عند أبي حنيفة والشافعي ووجه في مذهب أحمد، وظَاهرُ مذهبه أنه لا يطهر بالدباغ.

(6/393)


وأما القول الذي يقوم عليه الدليلُ فإنه قد رُوِي عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في السنن (1) من وجوهٍ أنه نَهَى عن جلودِ السباع كما ثبتَ أنه حَرَّم لحمَها، فما ثبتَ أنه من السِّباع- كالنَّمِر وابن آوَى وابن عِرْسٍ – فلا يَحِلُّ لحمُه ولا تُلْبَسُ الفِرَاءُ من جلدِه، وما لم يكن من السِّباع المحرَّمة -كالضَّبُع- فإنه يُؤكَلُ لحمُه ويُلْبَسُ جلدُه. وأما الثعلبُ وسِنَّور البرّ ففيه نزاعٌ. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أبو داود (4131، 4132).

(6/394)


مسألة في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعها دون الجلد؟

(6/395)


مسألة في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعُها دون الجلد أو الجلد وحدَه؟
جواب

الشيخ تقي الدين بن تيمية ورأيه فيه نعم، يجوز بيعُها جميعًا، كما يجوز بيعُ ذلك قبلَ الذبح. وإلى هذا ذهب جماعةُ علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين، وما زال المسلمون يبيعون المذبوح من الطيور والبهائم في كل عصرٍ ومصرٍ.
وإنما حَرَّم ذلك بعضُ متأخري الفقهاء، ظانا أنّ هذا من باب بيع الغائب بدون صفةٍ ولا رؤيةٍ، وليس كذلك، بل المشتري يعلم ما يشتريه برؤية ما يراه كما يَعلم نظائرَه، وكما يعلم إذا رأى الجلد منفردًا وإذا رأى اللحم منفردَّاَ، كما يعلمه إذا رآه حيًّا.
(ثم قال:) ومن فرَّقَ بين الحيوان الحيّ والمذبوح بأن الحيَّ في صوانه بخلاف الميت، كما يفرّق في الباقلاّ ونحوه بين بيعِه في القِشر الأعلى والصّوان. لكن هذا الفرق ضعيف مخالفٌ للسنة ولإجماع السلفِ والاعتبار.
(ثم قال:) ولما فتح المسلمون الأمصار كان أصحاب رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يشرُون الباقلاّ الأخضر ونحو ذلك، ولم ينكر ذلك منكرٌ. وكذلك يجوز بيعُ اللحم وحدَه والجلدِ وحدَه. وأبلغُ من ذلك أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لمّا سافر هو وأبو بكر في سفرَ الهجرة اشتريَا من رجلٍ شاةً، واشترطَا له

(6/397)


رأسَها وجلدَها وسَوَاقِطَها (1). وكذلك أصحاب رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كانوا يتبايعون الشاةَ أو البقرةَ أو البعيرَ ويَستثنون للبائع سواقطَها، حكاه الشعبي عن الصحابة مطلقًا، وأفتَى به زيد بن ثابت وغيرُه من الصحابة، وجوَّزه مالك وأحمد وغيرهما. فإذا كان الصحابة جوَّزوا هذا فهذا أجوزُ. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه ابن حزم في المحلى (8/ 403) عن عروة بن الزبير، وأعله بعدة علل.

(6/398)


مسألة في إجارة الإقطاع

(6/399)


سئل -رحمه الله تعالى ورضي عنه-
عن إجارة الإقطاع هل هي صحيحة أم باطلة؟ وقد ذُكِر في مذهب الشافعي قولانِ، وفيهم من حكم به.
فأجاب

الحمد لله. إيجار الإقطاع صحيح، كما نصَّ على ذلك غير واحدٍ من العلماء، وما علمتُ أحدًا من علماء المسلمين قال: إنه لا يَصحُّ، لا من أصحاب الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ومن أفتى بأنه لا يصحُّ من أهل زماننا فليس معهم بذلك نقل، لا عن أحدٍ من الأئمة الأربعة ولا غيرِهم من المسلمين، وإنما عُمدتهم في ذلك أن بعضَ شيوخهم كان يُفتِي بأنه لا يصحُّ. وحجتهم أن المُقْطِع لم يملك المنفعةَ، فبَقِي المستأجرُ لم يملك المنفعة، فتكون الإجارةُ مزلزلةً، فلا تجوز، كما لو آجَرَ المستعيرُ العينَ المعارة.
والكلامُ في مقامين: أحدهما أنه ليس لأحدٍ أن يُحدِث مقالةً في الإسلام في مثل هذا الأمر العام الذي ما زال المسلمون عليه خَلَفًا عن سلف، بل إذا عَرَضَتْ له شبهةٌ في ذلك كانت من جنس شبهة أهل الضلال القادحين في الشرع، وكثير منها أقوى من هذه الشبهة.
والجواب عنها من وجهين:
أحدهما: أن العين المُعَارة في إجارتها نزاع، وإذا أَذِنَ المالك في إجارتها جاز، والسلطانُ المُقطع قد أَذِنَ لهم أن ينتفعوا بالقطع بالاستغلال والإجارة والمزارعة.

(6/401)


الثاني: أن هذه المنافع ليست كالعارية، فإن السلطان لا يملك هذه المنافع، بل هي حقّ للمسلمين ومِلْكٌ لهم، وإنما السلطان قاسم يَقسِم بينهم تلك المنافع، فيستحقونها بحكم المِلْكِ لها والاستحقاق لا بحكم الإباحة، كما يستوفي أهل الوقف منفعةَ وقفهم. والموقوف عليه إذا آجَر الموقفَ جاز، وإن كانت الإجارة تنفسخ بموتِ الموقوف عليه عند جمهور العلماء، فإن البطن الثاني يتلقى الوقف عن الواقف لا عن البطن الأول، بخلاف الميراث. فلهذا كان جمهور العلماء على أن الإجارة لا تنفسخُ بموت الميت الذي تنتقل العينُ إلى وارثه، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فيقول بانفساخها، لأنّ من أصلِه أن المستأجر لم يملك المنفعةَ، وإنما ملكَ أن يملكها بالاستيفاء، فيقول: إن المنفعة لم تخرج عن ملك الميت، بل تحدثُ على ملك الوارث، ومع هذا فهو يقول: لو باعَ العينَ المؤجرة لم يجز، لأن المنفعة للمستأجر، لأن المؤجر لا يملك فسخ الإجارة. وأما جمهور العلماء فعندهم لا تنفسخ بالموت، سواء قيل: إن المستأجر ملك المنفعةَ أو ملك أن يملكها، وأن الوارث لم ينتقل إليه منفعةُ العين المؤجرة.
وأما إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه فهنا تنفسخ في أظهر قولي العلماء، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، لأن البطن الأول ليس له ولايةُ التصرُّفِ في حقّ البطن الثاني إلا أن يكون المؤجر ناظرا له الولايةُ على البطنين. فكذلك الإقطاع، إذا قُدِّر أن المُقْطع ماتَ أو أُخِذ منه الإقطاع كان كالموقوف عليه تنفسخ الإجارة عند الجمهور، ويبقى زرع المستأجر محترمًا، يبقيه بأجرة المثل إلى

(6/402)


كمالِ بلوغه، كما يقال مثل ذلك في الوقف، وليست إجارة المقطع الأوّل لازمةً للثاني كالبطن الأول مع الثاني.
وليس في الأدلة الشرعية ما يُوجب أن الإجارة لا تصحُّ إلا في منفعةٍ تمنعُ انفساخَ الإجارة فيها، بل يجوز إجارة الظئرِ للرضاع بالكتاب والسنة والإجماع، مع جواز أن تموت المرأة فتنفسخ الإجارة بالإجماع، وكذلك إذا مات الطفل انفسخت عند الأكثرين، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد، وقد قيل: لا تنفسخ، بل يُؤتَى بطفلٍ آخر مكانه. والأول أصح، لأن الإجارة على عينه، ولو تَلِفَت العين المؤجرةُ كالعبد والبعير انفسخت الإجارة بالإجماع. وأمثال ذلك كثيرة.

فالإجارة جائزةٌ بالنص والإجماع في مواضع متعددة، مع إمكان انفساخ الإجارة في أثناء المدة، فمن اشترط فيها امتناع الانفساخ فقد خالف النصّ والإجماع. وليس مع من يقول: لا تصحُّ إجارة الإقطاع نقلٌ عن أحدٍ من العلماء الذين يُفتي الناس بأقوالهم، لا من أتباع الأئمة الأربعة ولا غيرهم، فكيف يَسُوغ لأحدٍ أن يقول قولاً لم يُستق إليه؟ سواء كان مجتهدًا أو مقلدًا. وغاية حجته قياس ذلك بالعارية لكونها بعرض الانفساخ، والحكم في العارية بتقديرِ تسليمه ليست علتُه كونَه بعرض الانفساخ، ولكن العلة فيه أن المستعير لا يملك المنفعة إلا بالقبض والاستيفاء، ليس له أن يُعاوضَ عليها، كما لا يعاوض على ما لم يملكه، لأن التبرعات لا تُملَك إلا بالقبض عند من قال ذلك. ولهذا يجوز إجارة المستأجر وإن جاز أن تنفسخ الإجارة، والمُقطَع

(6/403)


بالمستأجر والموقوفِ عليه أشبهُ منه بالمستعير، لأنه يأخذ حقَّه وعِوَضَ عمله.
فإن قلت: كيف يُدَّعى الإجماعُ وفي أصل الإجارة نزاع؟
قلتُ: النزاع المحكيُّ فيها عن بعض السلف في إجارة الأرض، وأما إجارة الظِّئْر والحيوان للركوب ونحو ذلك فلم يخالف في ذلك أحد من سلف المسلمين، فإن خالفَ في ذلك أحد من الملاحدة فهو مسبوقٌ بالإجماع المستند إلى النصّ. والله أعلم.

(6/404)


مسألة في ضمان البساتين والأرض

(6/405)


مسألة
في ضمان البساتين والأرض التي فيها الشجرُ أو النخيلُ قبلَ أن يَبدُوَ صلاحُه، هل يجوز ضمانُه السنةَ والسنتين أم لا؟
جواب الشيخ تقي الدين بن تيمية
هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال، بناءً على أن هذا داخلٌ فيما نهى عنه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من بيع الثمر قبلَ أن يَبدُوَ صلاحُه (1)، فاعتقد من قال ذلك أن هذا بيعُ الثمر قبل أن يبدو صلاحُه، فلا يجوز، كما لا يجوز في غير الضمان، مثل أن يشتريَ ثمرةً مجردةً بعد ظهورها وقبلَ بُدُوِّ صلاحِها، بحيثُ يكون على البائع مَؤُونةُ سَقْيِها وخدمتِها إلى كمال الصلاح. وهذا هو القول المعروف في مذهب الشافعي وأحمد، وهو منقول عن نصِّه. ومذهبُ أبي حنيفة في ذلك أشدُّ منعًا.
وتنازع أصحابُ هذا القول: هل يجوزُ الاحتيال على ذلك بأن يُؤجر الأرضَ ويُساقِي على الشجر بجزء يسيرٍ؟ على قولين، فالمَنصوص عن أحمد أنه لا يجوز، وذكر القاضي أبو يعلى في كتاب “إبطال الحيل” أنه يجوز، وهو المعروف عند أصحاب الشافعي.
(وتكلم الشيخ تقي الدين على فسادها من وجوهٍ، ثم قال:) فمن
__________
(1) أخرجه البخاري (2194) ومسلم (1534) من حديث ابن عمر. وفي الباب عن غيره من الصحابة.

(6/407)


فعلَ ذلك وجبَ على وُلاةِ الأمرِ الحجرُ عليه، فضلاً عن إمضاء فعلِه والحكمِ بصحتِه.
(ثم قال:) والأدلة على فساد مثل هذه المعاملة كثيرة.
(ثم قال بعد استدلال وتنفيرٍ عن هذا الفعل وتقبيحه:)
القول الثاني في أصل المسألة: إنه إن كان منفعة الأرض هي المقصود، والشجرُ تبعٌ، جاز أن يُؤجر الأرض، ويدخل في ذلك الشجرُ تَبعًا. وهذا مذهب مالك، وهو يقدر التابع بقدر الثلث.
وصاحب هذا القول يُجوِّز من بيع الثمر قبلَ بدوِّ الصلاح ما يدخلُ ضمنًا وتبعًا، كما جاز إذا ابتاع نخلةً بعد أن تُؤَبَّر أن يشترطَ المبتاعُ ثمرتَها، كما ثبتَ ذلك في الصحيحين (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والمبتاعُ هنا قد اشترى الثمر قبلَ بدوِّ صلاحِه لكن تبعًا للأصل، وهذا جائزٌ باتفاق العلماء، فيقيس ما كان تبعًا في الإجارة على ما كان تبعًا في البيع.

والقول الثالث: إنه يجوز ضمانُ الأرض والشجر جميعًا، وإن كان الشجر أكثر. وهذا قول ابن عقيل، وهو المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه قبَّل حديقةَ أُسَيد بن حُضير ثلاثَ سنين، وأخذَ القبالةَ فوفَى بها دَيْنَه. روى ذلك حَرب الكرماني صاحب الإمام أحمد في “مسائله” المشهورة عن أحمد، ورواه أبو زرعة الدمشقي وغيرهما، وهو معروف عن عمر. والحدائق التي بالمدينة يَغلِبُ عليها الشجرُ.
__________
(1) البخاري (2204، 2716 ومواضع أخرى) ومسلم (1543) عن ابن عمر.

(6/408)


قال حرب الكرماني: ثنا سعيد بن منصور، ثنا عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن أُسَيد بن حُضَير توفي وعليه ستة آلاف درهم دَين، فدعا عمر بن الخطاب غُرَماءَه، فقبَّلَهم أرضَه سنين، وفيها الشجرُ والنخلُ.
وقد ذكر هذا الأثر عن عمرَ بعضُ المصنفين من فقهاء ظاهرية المغرب، وزعم أنه خلافُ الأجماع. وليس بشيء، بل ادّعاءُ الإجماع على جواز ذلك أقرب، فإن عمر فعلَ ذلك بالمدينة النبوية بمشهدِ من المهاجرين والأنصار، وهذه القضية في مظِنَّة الاشتهار، ولم يُنقَل عن أحدٍ أنه أنكرها، وقد كانوا يُنكِرون ما هو دونَها وإن فعلَه عمر، كما أنكر عليه عمران بن حُصَين وغيرُه ما فعلَه في متعة الحج. وإنما هذه القضية بمنزلة توريثِ عثمان بن عفان لامرأةِ عبد الرحمن بن عوف التي بَتَّها في مرض موته، وأمثال هذه القضية.
والذي فعلَه عمر بن الخطاب هو الصواب، [و] إذا تدبر الفقيهُ أصولَ الشريعة، تبيَّن له أن مثل هذا الضمان ليس داخلاً فيما نهى عنه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا يظهر بأمور:
أحدها أن يقال: معلوم أن الأرض يُمكنُ فيها الإجارةُ، ويُمكنُ فيها بيعُ حَبِّها قبلَ أن يشتدَّ، ثم إن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لما نهى عن بيع الحبِّ حتى يَشتدَّ (1) لم يكن ذلك نهيَا عن إجارة الأرض، فإن كان مقصودُ
__________
(1) أخرجه أحمد (3/ 221، 250) وأبو داود (3371) والترمذي (1228) وابن ماجه (2217) من حديث أنس بن مالك.

(6/409)


المستأجر هو الحبّ فإن المستأجر هو الذي يَعمل في الأرض حتى يَحصُلَ له الحب، بخلاف المشتري، فإنه يشتري حَبًّا مجردًا، وعلى البائع تمامُ خدمتِه حتى يستحصِدَ.
وكذلك نهيُه عن بيع العنبِ حتى يَسْوَدَّ (1)، ليس نهيًا عن أن يأخذ الشجر، فيقوم عليها ويَسقيها حتى تُثْمِر، وإنما النهي لمن اشترى عِنَبًا مجرَّدًا، وعلى البائع خدمتُه حتى يكتملَ صلاحُه، كما يفعلُه المشترون للأعناب التي تُسمَّى الكُرُوم. ولهذا كان هؤلاء لا يبيعونَها حتى يبدوَ صلاحُها، بخلاف التضمين.
الوجه الثاني: أن المزارعة على الأرض كالمساقاة على الشجر، وكلاهما جائزٌ عند فقهاء الحديث، كأحمد وغيره مثل ابن خزيمة وابن المنذر، وهي أيضًا عند ابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وعند الليث ابن سعدٍ وغيرهم من الأئمة جائز، كما دلَّ على جواز المزارعة سنةُ رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وإجماعُ الصحابة من بعدِه.
والذين نَهَوا عنها ظنُّوا أنها من باب الإجارة، فتكون إجارةً بعوضٍ مجهول، وذلك لا يجوز. وأبو حنيفةَ طردَ قياسَه، فلم يُجوِّزْها بحال.
وأما الشافعي فاستثنى ما تَدعُو إليه الحاجةُ، كالبياض إذا دخلَ تبعًا للشجرِ في المساقاة. وكذلك مالك، لكن رَاعَى القلةَ والكثرةَ على أصلِه.
وهؤلاء جعلوا المضاربةَ أيضًا خارجةً عن القياس، ظنًّا أنها من
__________
(1) ضمن الحديث السابق.

(6/410)


باب الإجارة بعوضٍ مجهول، وأنها جُوِّزتْ للحاجة لأن صاحب النقد لا يُمكِن إجارته.
والتحقيق أن هذه المعاملات هي من باب المشاركات لا من باب المؤاجَرات، فالمضاربة والمساقاة والمزارعة مشاركة، هذا يُشارك بنفع بدنِه، وهذا بنفع مالِه، وما قَسَمَ اللهُ من رِبْحٍ كان بينهما كشَرِيْكي العنَاَن. ولهذا ليس العملُ فيها مقصودًا ولا معلومًا كما يُقصد ويُعلَم في الإجارة، ولو كانت إجارة لوجبَ أن يكون العملُ فيها معلومًا.
لكن إذا قيل: هي جِعالة كان أشبهَ، فإن الجعالةَ لا يكونُ العملُ فيها معلومًا، وكذلك في كل عقد جائزٍ غيرِ لازمٍ، لكن هي جعالة شرطَ فيها للعامل جزءا مما يَحصلُ بعمله. كما إذا قال الأميرُ في الغزوِ: مَن دَلَّ على مالٍ للعدوِّ فله الرُّبُعُ بعد الخمس، أو الثلث بعد الخمس، فإن هذا جائز.
(ومَثَّلَ بغير هذا في جوابه، ثم قال:) والذي نهى عنه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من بيع الثمرةِ ليس للمشتري في حصوله عمل أصلاً، بل العملُ كفُه على الباَئع، فإذا استأجرَ الأرض والشجر حتى حَصَلَ له ثمرٌ وزرعٌ كان كما إذا استأجر الأرضَ حتى يَحصُل له الزرعُ.
الوجه الثالث: أن الثمرة تجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية ونحوهما، فيجوز أن يقف الشجرَ لينتفعَ أهلُ الوقف بممرِها، كما يقف الأرضَ لينتفع أهلُ الوقف بغَلَّتِها.
(ثم تكلَّم كلامًا طويلاً في المعنى وضربَ أمثلةً، ثم قال:)

(6/411)


فإن قيل: ابنُ عقيل جوَّز إجارةَ الأرض والشجر جميعًا لأجل الحاجة، وسلك مسلكَ مالكٍ، لكنْ مالك اعتبرَ القلَّةَ في الشجر، وابنُ عقيل عَمَّم، فإن الحاجةَ داعية إلى إجارة الأرض التي فيها شجر، وإفراده عنها بالإجارة متعذِّرٌ أو متعسِّر لما فيه من الضرر، فجوَّز دخولَها في الإجارة، كما جوَّز الشافعي دخولَ الأرض مع الشجر تبعا في باب المساقاة. ومن حجة ابن عقيل أن غايةَ ما في ذلك جواز بيع ثمر قبلَ بدوِّ صلاحِه تبعًا لغيره لأجل الحاجة، وهذا يجوز بالنصّ والإجماع فيما إذا باعَ شجرًا وعليها ثمر بادٍ، كالنخل المؤبَّر إذا اشترط المبتاع، فإنه اشترى شجرًا وثمرا قبلَ بدوِّ صلاحِه. وما ذكرتموه يقتضي أن جواز هذا هو القياس، وأنه جائز بدون الحاجةِ حتى مع الانفراد.
قيل: هذا زيادة توكيدٍ، فإن هذه المسألة لها مأخذانِ:
أحدهما: أن يُسلَّم أن الأصل يقتضي المنعَ، لكن يجوز ذلك لأجل الحاجة، كما في نظائره.
والثاني: أن يُمنَع هذا، ويقال: لا نُسلِّم أن الأصل يقتضي المنعَ، بل نهى النبي فَيِ عن بيع الثمر حتى يبدوَ صلاحُها، فإنه إنما نهى عن بيع لا عن إجارةٍ، فنهيُه لا يتناولُ مثلَ هذه الصورة وأمثالَها من أنواع إلاجارة، لا لفظًا ولا معنى.
أما اللفظ فإن هذا لم يبعْ ثمرةً قبلَ بدوِّ صلاحِها، ولو كان قد باعَ ثمرة لكان عليه مَؤُونةُ التوفية، كما لو باعَها بعدَ بُدوِّ صلاحِها، فإن مَؤُونَةَ التوفية عليه، وهنا المستأجرُ للبستان كالمستأجر للأرض سواء

(6/412)


بسواءٍ إنما يتسلَّم الأصول، وهو الذي يقوم عليها حتى يشتدَّ الزرعُ ويَبدُوَ صلاحُ الثمر، كما يقوم على ذلك العاملُ في المساقاة والمزارعة، فإن جاز أن يقال: إن هذا مشترٍ للثمر فلنَقُلْ: إن المستأجر مشترٍ للزرع، وإن العامل في المساقاة والمزارعة والمضاربة مشترٍ لما يحصلُ من النماء. فإذا كان هذا لا يدخلُ في مسمَّى البيع امتنعَ شمولُ العمومِ له لفظًا.
ويمتنعُ إلحاقه بذلك من جهة القياس وشمولِ العموم المعنوي له، لأن الفرقَ بينهما في غاية الظهور، فإن إلحاقَ هذه الَإجارة بإجارة الأرض لاشتراكهما في المساقاة والمزارعة وفي العارية والوقف وغير ذلك مما يجعل حكمَ أحدِهما حُكْمَ الآخر= أولى من إلحاقها بالبيع كما تقدم. فكلُّ من نظرَ في هذا نظرًا صحيحًا سليمًا تبيَّنَ له أن هذا من باب الإجارات والقبالات التي تُسمَّى الضمانات، كما تسمِّيه العامةُ ضمانًا، وكما سمّاه السلفُ قبالةً، وليس هو من باب المبايعات، وأحكامُ البيع منتفية في مثل هذا، مثل كون مَؤُونةِ التوفيةِ على البائع، ومثل أنه لو باع الحبَّ بعد اشتدادِه وفرَّطَ في سَقْي الحنطةِ حتى لم يكمل صلاحُها، كان ذلك من ضمانِه ولم يستحقَّ الثمنَ. ولو قَصَّر المستأجرُ للأرض في السَّقْي وغيرِه حتى لم يَنْبُتِ الزرعُ كان ذلك من ضمانِه، لا من ضمانِ المؤجر. وكذلك بائعُ الثمرة إذا لم يَقُم بما يجب عليه من خدمتها حتى لم يكمل صلاحُها كان النقصُ من ضمانه. ومستأجرُ الشجر إذا قَصَّر في خدمتِها حتى لم تُثمِر، أو أثمرتْ ثمرًا ناقصًا، كان ذلك من ضمانه.

(6/413)


وكل ما نهى عنه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من بيع المعدومات- مثل نهيه عن بيع الملاقيح والمضامين وحَبَلِ الحَبَلَةِ (1)، وهو بيعُ ما في أصلابِ الفحولِ أو أرحام الإناث ونتاج النتاج، ونهيه عن بيع المُعَاوَمة وهو بيع السّنين (2)، وأمثال ذلك- إنما هو أن يشتري المشتري تلك الأعيان التي لم تُخلَق بعدُ، وأصولُها يقومُ عليها البائع، فهو الذي يَستنتجها ويستثمرها، ويُسَلِّمُ إلى المشتري ما يحصلُ من النتاج والثمرة. وهذا هو الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه. وهذا على تفسير الجمهور في حَبَلِ الحَبَلة أنه بيع نتاج النتاج، ومن فسره بتفسير الشافعي أنه البيع إلى نتاج النتاج فإنه يكون إبطالُه لجهالةِ الأجل.
وهذه البيوع التي نهى عنها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هي من باب القمار الذي هو مَيْسِر، وذلك أكلُ مالٍ بالباطل، وأصحابُ هذه الأصول يُمكِنُهم تأخير البيع إلى أن يخلق الله ما يخلقه من هذه الثمار والأولاد، وإنما يفعلون هذا مخاطرةً مباختةً كفعلِ المقامرين من أهل الميسر.
وأما مسألة النزاع فهي من باب الإجارات، فضمانُ البساتين لمن يقوم عليها كضمان الأرض لمن يقوم عليها فيَزْدرِعُها، واحتكار الأرض لمن يبني فيها ويَغْرِسُ فيها ونحو ذلك.
وأيضًا فإن المسلمين اتفقوا على ما فعلَه أميرُ المؤمنين عمر بن
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 654) عن سعيد بن المسيب. والنهي عن بيع حبل الحبلة ورد في أحاديث، منها ما أخرجه مسلم (1514) من حديث ابن عمر.
(2) أخرجه البخاري (2381) ومسلم (1536/ 85) من حديث جابر بن عبد الله.

(6/414)


الخطاب رضي الله عنه، من ضَرْب الخراج على السَّوادِ وغيره من الأرض التي فُتِحتْ عَنْوةً، سواء قيلَ. إنه يجب في الأرض التي فُتِحتْ عَنْوةً أن تُجعَل فيئًا- كما قاله مالك وهو روايةٌ عن أحمد-؛ أو قيل: إنه يجب قِسْمتُها بين الغانمين- كما قال الشافعي، وهو رواية عن أحمد-؛ أو قيل: يُخيَّر الإمام فيها بين هذا وهذا- كما هو مذهب أبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وغيرهم، وهو ظاهر مذهب أحمد-. فإن الشافعي يقول: إن عمر استطابَ أنفُسَ الغانمين، حتى جعلَها فيئًا وضَرَبَ الخراجَ عليها.
فاتفق المسلمون في الجملة على أن وضْعَ الخراج علىْ أرضِ العنوةِ جائز إذا لم يكن فيه ظلمٌ للغانمين. ثم الخراج عند أكثرهم أجرةُ الأرض، وإنه لم يُقدَّر مدةُ الإجارة لعموم مصلحتها، والخراج ضربه على الأرض التي فيها شجر والأرض البيضاء، وضرب على جَريبِ النَّخل مقدارًا وعلى جريب الكَرْم مقدارا، وهذا بعينه إجارةٌ للأرض مع الشجر، فإن كان جواز ذلك على وَفْىِّ القياس فهو المطلوب، وإن كان جوازُ ذلك للحاجة فالحاجةُ داعية إلى ذلك، فإن الناس لهم بساتين فيها مساكن، ولها أجور وافرةٌ، فإن دفعوها إلى من يعملها مساقاةً ومزارعةً تعطَّلتْ منفعةُ المساكن عليهم، كما في أرض دمشق ونحوها.
ثم قد يكون وقفًا أو ليتيم ونحو ذلك، فكيف يجوز تعطيلُ منفعة المساكن المبنية في الحدائق، وقد تكون منفعة المسكن هي أكثرُ المنفعةِ، ومنفعة الزرع والشجر تابعة، فيحتاجون إلى إجارة تلك المساكن، ولا يُمكِن أن تؤجر دون منفعةِ الأرض والشجر، فإن العامل إذا كان غير الساكن تضرَّرَ هذا وهذا تضرُّرًا، الساكنُ يَبقَى ممنوعًا من

(6/415)


الانتفاع بالثمر والزرع هو وعيالُه مع كونها عندهم، ويتضررون بدخولِ العامل عليهم في دارِهم. والعاملُ أيضًا لا يَبقَى مطمئنًّا إلى سلامةِ ثمرِه وزرعه، بل يخاف عليها في مغيبه، وما كلُّ ساكنٍ أمينًا، ولو كان أمينًا لم يُؤمَن الضِّيفانُ والصبيانُ والنسوانُ، وهذا كلُّه معلومٌ.
فإذا كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نهى عن المزابنة (1) – وهي بيعُ الرُّطب بالتمر- لما في ذلك من بيع الربا بجنسِه مجازفةً، وبابُ الربا أشرُّ من باب الميسر، ثم إنه أرخصً في العرايا أن تُباعَ بخَرْصِها لأجل الحاجة، وأمرَ رجلاً أن يبيعَ شجرةً له في ملك الغير- لتضرره بدخوله عليه- أو يَهَبَها له، فلما لم يَفْعَل أمرَ بقَلْعِها (2)، فأوجبَ عليه المعاوضةَ لرفع الضررِ عن مالك العَقار، كما أوجبَ للشريك أن يأخذَ الشِّقصَ بثمنِه رفعًا لضرر المشاركة والمقاسمة- فكيف إذا كان الضررُ ما ذُكِر؟

ومعلومٌ أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيلِ المفاسِد وتقليلها، وأنها تقدِّر خيرَ الخيرين بتفويت أدناهما، وتدفع شرَّ الشرين باحتمال أدناهما، والفساد في ذلك أعظم مما يُظَنُّ من حصولِ ضررٍ ما لأحدِ المتعاوضين، فإن هذا ضررٌ كبير محقَّقٌ. وذاك إن حَصَلَ فيه ضررٌ فهو يسير قليل مشكوك فيه.
وأيضًا فالمساقاة والمزارعة يُعتَمد فيها أمانة العامل، وقد يتعذَّر ذلك كثيرًا فيحتاج الناسُ إلى المؤاجرة التي فيها مالٌ مضمونٌ في
__________
(1) أخرجه البخاري (2207) من حديث أنس. والبخاري (2381) ومسلم (1536) من حديث جابر.
(2) أخرجه أبو داود (3636) من حديث سمرة بن جندب.

(6/416)


الذمة.
(ثم قال:) فهذا وجهٌ من وجوهِ جواز المؤاجرة.
(ثم قال:) وقد اتفق العلماء على أن المنفعة في الإجارة إذا تَلِفَتْ قبلَ التمكن من استيفائها، فإنه لا يجب أجرة ذلك، مثل أن يستأجرَ حيوانًا فيموت قبل التمكن من الانتفاع به. وكذلك المبيِع إذا تَلِفَ قبلَ التمكن من قبضه، مثلَ أن يشتري قَفِيزًا من صُبْرَةٍ، فتَتْلفُ الصُّبْرةُ قبل القبضِ والتمييز، فإن ذلك من ضمان البائع بلا نزاعٍ.
ولكن تنازعوا في تَلَفِه بعد التمكن من القبض وقبل القبض، كمن اشترى مَعِيبًا وتمكَّن من قَبضِه، وفيه قولان مشهوران: أحدهما أنه لا يضمنه، كقول مالك وأحمد في المشهور عنه، لقول ابن عمر: مَضَتِ السنة أن ما أدركتْه الصَّفَقَةُ حبًّا مجموعًا فهو من مال المشتري.
والثاني: يَضْمنه، كقول أبي حنيفة والشافعي، لكن أبو حنيفة يستثني العقار، ومع هذا فمذهبه أن التخلية قبضٌ، كقول أحمد في إحدى الروايتين، فيتقاربُ مذهبُه ومذهبُ مالك وأحمد في المعيَّن ونحوه.
وكذلك تنازعوا في الثمر إذا اشتُري بعد بدوِّ صلاحه، فتَلِفَ قبلَ كمالِ صلاحِه، فمذهب مالك وأحمد أنه يتلف من ضمان البائع، لما ثبت في الصحيح (1) عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: “إن بعْتَ من أخيك ثمرةً فأصابتْها جائحةٌ، فلا يَحلُّ لك أن تأخذ من مالِ أخَيك شيئًا، لِمَ يأخذُ أحدُكم مالَ أخيه بغيرِ حق؟ “. ومذهب الشافعي المشهور عنه: يكون
__________
(1) مسلم (1554) من حديث جابر.

(6/417)


في ضمان المشتري، لأنه تَلِفَ بعد القبض. وأما أبو حنيفة فمذهبُه أن التبقية ليست من مقتضى العقد، ولا يجوز اشتراطُها. والأولون يقولون: قبضُ هذا بمنزلةِ قبض المنفعة في الإجارة، وذلك ليس بقبضٍ تامّ يَنقُل الضمان، لأن القابضَ لم يتمكن من استيفاء المعقود عليه. وهذا طَردُ أصلهم في أن المعتبر هو القدرة على الاستيفاء المقصود بالعقد، ولهذا يقولون: لو أن المشتري فرَّطَ في قبض الثمرة بعد كمالِ صلاحِها حتى تَلِفَتْ كانت من ضمانه، كما لو فرَّط في قبض المعيّن حتى تَلِفَ، وهذا ظاهرٌ في المناسبة والتأثير، فإن البائع إذا لم يكن منه تفريطٌ فما يجب عليه.
(ثم قال:) ولهذا اتفقوا على مثل ذلك في الإجارة، فإن المستأجر لو فرَّط في استيفاء المنافع حتى تَلِفَتْ كانت من ضمانِه، ولو تَلِفَتْ من غيرِ تفريط كانت من ضمان المؤجر، وفي الإجارة إذا لم يتمكن المستأجرُ من ازدراع الأرض لاَفة حصلتْ لم يكن عليه الأجرة، وإن نَبَتَ الزرعُ ثمَّ حصلت آفةٌ سماوية أتلفَتْه قبل التمكن من حَصادِه ففيه نزاع.

(ثم قال:) وأصل مسألة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة، فإن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نهى عن بيع الثمرة قبلَ أن يبدوَ صلاحُها، ونهى عن بيع العنب حتى يَسْودَّ، وعن بيع الحبِّ حتى يَشتدَّ، ولم يَنْهَ عن الإجارة ولا عن المساقاة والمزارعة. فالمساقاةُ والمزارعة نوعٌ من المشاركة، وهي جائزةٌ بسنة رسولِ الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وباتفاق أصحابه وبالقياس، ويجوز ذلك على جميع الشجر، ويجوز على الأرض البيضاء والأرض

(6/418)


التي فيها شجر، ويجوز سواء كان البذرُ من ربِّ الأرض أو من العامل أو منهما، بل إذا كان البذرُ من العامَل فهو أولى بالجواز، وهذا الذي عاملَ عليه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لأهل خيبر، عاملَهم بشَطْر ما يخرج منها من ثمر وزرعٍ على أن يعملوها من أموالهم. رواه البخاري في صحيحه (1).
وكذلك الصحابة جوَّزوها على هذا الوجه.
ومن قال من الفقهاء أن يكون البذرُ فيها من ربِّ الأرض قاسَها على المضاربة، إذ كان المال فيها منَ واحد والعملُ من آخر. وهو قياسٌ فاسدٌ من وجهين:
أحدهما: أن المال في المضاربة يعودُ إلى المالك، ويقتسمانِ الرِّبْح، والبذرُ هنا لا يعودُ إلى العامل، فلو كان يجري مجرى المال لوجبَ أن يعودَ نظيرُه إلى صاحبه، فعُلِمَ أنهم جعلوه من باب الأعيان التي تجري مجرى المنافع، كاَلماء الذي تُسقَى به الأرضُ والعَلَفِ الذي تُعلَف به البقر.
الوجه الثاني: أنه في المضاربة لو كان من هذا مالٌ والعملُ، ومن هذا مالٌ والعملُ من أحدهما لجاز ذلك في أصحّ قولي العلماء. فيجوز ببدنَيْنِ ومالٍ، ومالٍ وبَدَنينِ، فكذلك يجوز نظيرُه في المساقاة والمزارعة. وكذلك المؤاجرة، لم يَنْهَ عنها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل ما نهى عنه من كِراءِ الأرض ومن المخابرة فهو ما كانوا يفعلونه، وهو أن يشترط ربُّ الأرض زرعَ بُقْعَةٍ بعينها، فهذا لا يجوز. وإذا كانت الإجارةُ
__________
(1) برقم (2720) من حديث ابن عمر.

(6/419)


صحيحةً فإنها تصحّ، سواء كانت الأرض تبعًا ليس فيها شجرٌ ولا بناء، أو كان فيها بناء أو بناءٌ وشجرٌ، أو كان فيها بياضٌ أو شجرٌ، أو فيها بناءٌ وبياض، فكلُّ هذا من باب الإجارة لا من باب بيع الثمر قبلَ بدوِّ صلاحها. كما أن الإجارةَ في الأرض البيضاء لمن يَزدرعُها ليس من باب بيع الحبِّ قبلَ أن يَشتدَّ، وذلك أن المبيع هو عينٌ يجب على البائع تسليمُها، فإذا باعَ الثمرةَ أو الحبَّ كان على البائع السَّقْيُ والخدمة وشَقُّ الأرض وغيرُ ذلك، حتى تكمُلَ الثمرةُ والزرعُ. وإذا آجَر أرضًا بيضاءَ أو أرضًا فيها شجرٌ وبياضٌ أو شجرٌ محضٌ كان المستأجر هو الذي يَسْقِي ويَخدِم ويَشُق الأرض، حتى يَحصُلَ الثمرُ والزرعُ بعملِه، كما يَحصُلُ في المساقاة والمزارعة، لكن في المساقاة والمزارعة يستحقُّ جزءًا شائعًا من الثمر والزرع، وفي الإجارة يَستحقُّ جميعَ الثمر والزرع، وعليه الأجرة المسمَّاةُ في ذمته.
وإذا استأجر العبدَ أو الأمةَ سواء كانت ظِئْرًا أو غيرَ ظِئْرٍ، فهذا على وجهين: تارةً يستأجرها بأجرةٍ مسمَّاةٍ، وتارةً يَستأجرها بطعامِها وكسوتها بالمعروف، وذلك جائزٌ في أظهر قولَي العلماء.
وعلى هذا فإذا استأجر بقرًا أو نوقًا أو غنمًا أيام اللبن بأجرةٍ مسمَّاةٍ وعَلَفُها على المالك، أو بأجرةٍ مسمَّاةٍ مع عَلَفِها على أن يأخذ اللبنَ- جاز ذلك في أظهرِ قولي العلماء، كما في الظِّئر. وهذا يُشبِه البيعَ ويُشبه الإجارةَ، ولهذا يذكره بعضُ الفقهاء في البيع وبعضُهم في الإجَارة. لكن إذا كان اللبن يَحصُل بعَلفِ المستأجر وقيامِه على الغنم فإنه يُشبِه استئجارَ الشجر، وإن كان المالك هو الذي يَعلفُها، وإنما

(6/420)


يأخذُ المشتري لبنًا مقدرا، فهذا بيع محض، وإن كان يأخذُ اللبنَ مطلقًا فهو بيع أيضًا، فإن صاحبَ الغنم يوفيه اللبنَ، بخلاف الظِّئر فإنها هي تَسْقِي الطفل. وليس هذا داخلاً فيما نهى عنه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من بيع الغَرر (1)، لأنّ الغرر ما يتردَّدُ بين الوجود والعدم، فنهى عن بيعه لأنه من جنس القِمار الذي هو الميسر، والله حرَّم ذلك لما فيه من أكل المال بالباطل، وذلك من الظلم الذي حرَّمه الله تعالى.
(ثم قال:) فأما إذا كان شيئًا معروفًا بالعادة، كمنافع الأعيان في الإجارة، مثل منفعة الأرض والدابَّة، ومثل لبنِ الظِّئر المعتاد، ولبن البهائم المعتاد، ومثل الثمر والزرع المعتاد- فهذا كلُّه من بابِ واحدٍ، وهو جائز. ثمَّ إن حَصَلَ على الوجه المعتاد، وإلاّ حُطَّ عن الَمستأجر بقدرِ ما فاتَ من المنفعة المقصودة. وهو مثل وضع الجائحةِ في البيع، ومثل ما إذا تَلِفَ بعض المبيع قبلَ التمكن من القبض في سائر البيوع.
وهذا الذي ذكرناه من ضمان البساتين هو فيما إذا ضمنَه على أن يعمل الضامن حتى يَحصُلَ الثمرُ والزرعُ، فأما إذا كان الخدمةُ والعملُ على البائع فهذا بيع، كما يُباع العنبُ بعد بدوِّ صلاحِه، وكما يضمن البستانُ زمنَ الصيفِ لمن يَسكُنه ويأكل فاكهته، وإذا كان بيعًا محضا لم يَجُزْ إلا بعدَ بدوِّ صلاحِه، لكن إذا بَدَا صلاحُ بعضِ الشجر جازَ بيع جميعِها بلا نزاعٍ، وكذلك يجوز بيعُ سائر ذلك النوع في ذلك البستان في سائر البساتين في أشهر قولَي العلماء.
__________
(1) أخرجه مسلم (1513) من حديث أبي هريرة.

(6/421)


وإذا كان البستان أجناسًا، كالعنب والرُّطَب والتفاح والمشمش والتُّوت، فَبَدَا الصلاحُ في جنسٍ من ذلك، جازَ بيعُ جميع ما في البستان من ذلك في أحد قولَيْهم أيضًا، لأن الشرط في المبيع أن يبدوَ صلاحُ بعضه لا صلاحُ كلِّ جزءٍ منه، إذا كان مما يُباعُ جملةً في العادة.
ومعلومٌ أنه إذا كان فيه نخيلٌ وأعنابٌ كان بيعُ بعضِ النخيلِ دونَ بعضٍ فيه مشقَّةٌ، فجوِّزَ بيعُ الجميع. وهكذا إذا كان عنبًا ورُمَّانًا وجوزًا ونحو ذلك فبيعُ بعضِ هذه الأجناس دونَ بعضٍ فيه مشقةٌ، كما في بيعٍ بعض النخيل دونَ بعضٍ فإن المشتري إن لم يَشترِ الجميعَ لم يَرض بشراءِ البعضِ، إذ لا يمكِن أن يدخل عليه غيره في البستان من المشتري، ففي بيع بعض البستان دون بعضٍ ضررٌ على البائع والمشتري، ولا فسادَ في بيع الجميع.
بل إن قيل: قد تُصيبه جائحةٌ فلا يثمر الباقي، قيل: هذا بمنزلة الجائحة فيما بَدَا صلاحُه، وقد أمر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بوضع الجائحة (1).
والشارعُ بُعِث بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فنهى عن بيع الثمار قبلَ بدوِّ صلاحها لما فيه من المخاطرة من غير حاجة، وأما بعد بدوِّ صلاحِها فهم محتاجون إلى بيعها في هذه الحال وإن كان فيه نوع مخاطرةٍ، لأن المنع من ذلك أشدُّ ضررًا على الناس من المخاطرة، كما في الإجارة، لأن المنع منها أشدُّ ضررًا من إباحتها مع المخاطرة، ثم إنه جَبَر هذا الضررَ بوضعِ الجوائح، فما تَلِفَ
__________
(1) أخرجه مسلم (1554) من حديث جابر بن عبد الله.

(6/422)


قبلَ التمكن من قبضِه كان من مالِ البائع كالمؤجر، وأما إذا تمكَّن من الجَداد والحَصادِ ففرَّطَ حتى تَلِفَتِ العينُ، أو أَخَّر ذلك لطلب ارتفاع السِّعْر فإن الضمان هنا يكون من ماله. والله سبحانه أعلم (1).
__________
(1) في آخر النسخة: “قال الناقل لنفسه -عفا الله عنه-: اختصرتُ جوابَ الشيخ تقي الدين، وحذفتُ منه المكرر وغيره، والله أعلم”.

(6/423)


مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذه هي المجموعة السابعة من كتاب «جامع المسائل» تضم بين دفّتيها مجموعة جديدة ــ على شرط هذا المشروع المبارك إن شاء الله تعالى ــ من مسائل ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيميّة (ت 728) رحمه الله تعالى.
وتأتي هذه المجموعة متمّمة لما صدر من مجموعاتها الست، بتحقيق أخي الشيخ المحقق محمد عزير شمس، التي طبعت ضمن هذا المشروع المبارك (آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال) بإشرف ورعاية واضع أُسس هذا المشروع وغيره من المشاريع العلمية (1): شيخنا العلامة المحقق بكر بن عبد الله أبو زيد المتوفى في يوم 27 محرم سنة 1429 هـ، رحمه الله تعالى، وأجزل مثوبته، ورفع درجته في عليين.
وهذه المجموعة في مجملها لم تطبع رسائلُها من قبل، لا في الكتاب العظيم «مجموع الفتاوى» لابن قاسم، ولا المستدرك عليه، ولا في
_________
(1) وهي: هذا المشروع (آثار شيخ الإسلام ابن تيمية … ) وقد طبع منه 31 مجلدًا، و (آثار الإمام ابن القيم) وقد طبع منه 52 مجلدًا، و (آثار العلامة الشنقيطي) وقد طبع كاملًا في 19 مجلدًا، و (آثار العلامة المعلِّمي) وقد طبع كاملًا في 25 مجلدًا.

(مقدمة 7/5)


المجاميع الأخرى المعروفة، وإن كان بعضها له طبعة مفردة، أو كان في الفتاوى مفرَّقًا وناقصًا.
وهذا مسرد لرسائل المجموعة على حسب ترتيبها هنا، أُبيِّن فيه عنواناتها، وموضوعاتها، والنسخ الخطية المعتمدة في التحقيق، وغير ذلك مما يعرِّف بها:

(1) مسائل أهل الرَّحْبَة (1).
موضوعها: وهي أسئلة في موضوعات شتّى فقهية وعقدية وغيرها، سُئل عنها خطيبُ قرية عُشارا، فأجاب عنها شيخُ الإسلام ابن تيمية، وعددها واحد وأربعون سؤالاً بحسب ما وردت في أول الرسالة، وقد أجاب عنها الشيخ سؤالًا سؤالًا عدا سؤالين: الأول: في صلاة الجمعة إذا
_________
(1) الرَّحْبة: تطلق على عدة أماكن، والمقصود هنا: رحبة الشام، ويقال لها: رحبة مالك ابن طوق التغلبي؛ لأنه من بناها في عصر المأمون، وهي على شاطئ الفرات، بينها وبين دمشق ثمانية أيام، وفيها قلعة تاريخية مشهورة تسمى قلعة الرحبة. وهي الآن إحدى المدن السورية، تعرف باسم: الميادين. انظر «معجم البلدان»: (3/ 34)، وموسوعة ويكيبيديا على الشبكة (الرحبة).
وقرية عُشارة: بضم المهملة، قرية من قرى الرحبة قديمًا، وهي تابعة لمحافظة دير الزور السورية حديثًا، تقع على نهر الفرات، وتبعد عن الحدود العراقية نحو 70 كيلومترًا. انظر «مراصد الاطلاع»: (2/ 941)، و «درّ الحَبَب»: (1/ 925)، و «الكواكب السائرة»: (1/ 271)، وموسوعة ويكيبيديا على الشبكة (العشارة).

(مقدمة 7/6)


لم تتم الجماعة أربعون رجلًا ويصعب تركها … والثاني: في الرجل يشتري الدابة ويزن الثمن ويقبضها … فلا أدري أسَقَطا من النسخة أم ذهل الشيخ عنهما. وفي المقابل في النسخة جواب على سؤالين لم يردا في قائمة الأسئلة، وهما: الأول: عن الصبي إذا مات وهو غير مطهَّر هل يقطع ختانه بالحديد … ؟ والثاني: تارك الصلاة من غير عذرٍ هل هو مسلم في تلك الحال؟
وكانت إجابات الشيخ مختصرة في أغلبها، غير سؤالين أطال الشيخ فيهما بنحو عشر صفحات لكل سؤال.
وهذه المسائل لم تطبع في «مجموع الفتاوى»، لكن بعض مسائلها ــ وهي نحو خمسة عشر سؤالًا ــ طُبِعت موزّعة في الفتاوى بحسب موضوعاتها، وقد أشرت في بداية كلّ سؤال منها إلى موضعه من الفتاوى، وقارنت النصَّ به، وأثبتّ أهم الفروق، واستفدت من بعض القراءات.
النسخة الخطية: تحتفظ مكتبة بلدية الإسكندرية بنسخة الكتاب الوحيدة رقم (4 – فقه حنبلي)، ضمن مجموع، وتبدأ مسائل الرحبة من (ق 25 أ- إلى 85 ب). في كل صفحة خمسة عشر سطرًا، في كل سطر نحو 7 – 9 كلمات، وخطها نسخي واضح منقوط في غالبه، وهي بخط محمد ابن عيسى بن أبي الفضل الشافعي، وفرغ من كتابتها في السادس والعشرين من ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. أي بعد وفاة المؤلف بستة وثلاثين يومًا فقط. وهي ــ على قِدمها ــ كثيرة الأخطاء والسّقْط، ويظهر

(مقدمة 7/7)


بعض ذلك عند مقارنة نصوصها مع ما نُشر منها في مجموع الفتاوى. وقد بعث إليّ بنسخة منها الدكتور عبد الله بن صالح البرّاك جزاه الله خيرًا.
وقد طبعت هذه المسائل عام 1424 هـ في الفاروق الحديثة، بتحقيق حسين بن عكاشة، ضمن مجموع عنوانه «من تراث شيخ الإسلام ابن تيمية». وهو مشكور على سبقه وجهده.
وقد ذكر هذا الكتاب أبو عبد الله ابن رُشَيّق في «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (ص 307 – الجامع) قال: رسالة جواب سؤال الرحبة، وابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (ص 97) قال: جواب عن سؤال ورد من الرحبة.

(2) جواب فُتيا في لبس النبي – صلى الله عليه وسلم -، وتسمى: القَرْمانية.
موضوعها: سؤال عن لباس النبي – صلى الله عليه وسلم -، وخاصة ما كان يلبسه في الحرب أو يقتنيه من آلة الحرب، وعن لباس أصحابه وما يحرم من الذهب والفضة والحرير. وقد أجاب الشيخ عن كل ذلك وزاد عليه، وكان جوابه مستندًا إلى الأدلة من كتب الصحاح والمسانيد، ينقل منها كأنها بين عينيه ــ رحمه الله ــ.
ولنفاسة هذه الفتيا وتحريرها البالغ نقل غالبها تلميذه العلامة ابن القيم في «زاد المعاد»: (1/ 130 – 147)، وصرّح باسم شيخ الإسلام في موضع منها. ونقل منها أيضًا تلميذه ابن مفلح في «الآداب الشرعية»: (3/ 524 ــ 525).

(مقدمة 7/8)


وتَسْميتها بـ «القَرْمانية» تعود غالبًا إلى المدينة التي ورد منها السؤال، ولعلها مدينة قَرْمان ــ بفتحٍ فسكون ــ ويقال: قرامان، وهي أكبر الإمارات التركمانية، سُمّيت بذلك نسبة إلى القبيلة التركمانية التي حَلَّت هناك (1).
النسخة الخطية: للكتاب نسخة وحيدة فيما أعلم محفوظة في المكتبة السليمانية بتركيا ــ مجموعة مكتبة شهيد علي رقم (2742)، وتقع ضمن مجموع، وهي منه في الأوراق (53 – 64) في اثنتي عشرة ورقة، في كل صفحة خمسة عشر سطرًا. وخطها نسخي واضح جميل، مضبوط بالشكل تغلب عليه الصحة، وهي نسخة قيمة نادرة الخطأ، قوبلت على أصلها كما صرح ناسخها ــ الذي لم يذكر اسمه ولا تاريخ نسخها ــ في خاتمتها. لكن دعاء الناسخ لمؤلفها بطول البقاء دليل على أنه نسخها في حياته، إلا إن كان الدعاءُ منقولًا من أصلها.
وقد ذكر هذا الكتاب ابنُ عبد الهادي في «العقود الدرية» (ص 82) قال: وقاعدة تتضمن ذكر ملابس النبي – صلى الله عليه وسلم – وسلاحه ودوابه، وهي «القرمانية». وقد صدرت هذه الرسالة عن دار أضواء السلف عام 1422 هـ بتحقيق أشرف بن عبد المقصود جزاه الله خيرًا.

(3) قاعدة في الفناء والبقاء.
موضوعها: تكلّم المصنف في هذه الرسالة على تحقيق معنى توحيد
_________
(1) انظر لمزيد التعريف بها «بلدان الخلافة الشرقية» (ص 176 – 180) لكي لسترنج. وانظر «معجم البلدان»: (4/ 330) والضبط منه.

(مقدمة 7/9)


الأنبياء والمرسلين، والفرق بينه وبين ما يسميه بعض أهل البدع توحيدًا، كالجهمية وغيرهم وغلاة الاتحادية، وتكلّم على مصطلح الفناء وما المراد به عندهم وأنواعه، والكلام على كلِّ نوع وما فيه من باطل أو حق. وللمصنف عناية بهذه المسألة فقد تكلم عنها في عدد من كتبه بنظير ما كتبه هنا، انظر «مجموع الفتاوى»: (2/ 313،369،3/ 118،10/ 218، 337)، و «الرد على الشاذلي» (ص 148 وما بعدها).
النسخة الخطية: لها نسخة خطية واحدة في المعهد العلمي بحائل رقم (60) -مكتبة علي اليعقوب، وقد آلت أخيرًا إلى دارة الملك عبد العزيز بالرياض، وعن طريقهم صورت المخطوط، فجزاهم الله خيرًا. وتقع النسخة في ثماني ورقات، في كل ورقة نحو ستة وعشرين سطرًا، وهي بخط راشد بن عبد الله العنزي، فرغ منها في يوم الأحد 8/رجب/1285 كما جاء في خاتمتها. وهي جيدة اجتهد ناسخها في تحريرها ومقابلتها على أصلها كما نص عليه في مواضع. إلا أنها لم تخل من إشكالات في النص أو تحريفات في عدة مواضع. وخُتمت النسخة بثلاثة عشر بيتًا لا علاقة لها بالكتاب، مطلعها:
شبيهك بدر التمّ بل أنت أنور … وخدّك ياقوت وثغرك جوهر
ونصفك كافور وخُمْسك عنبر … وثُمنك ما وَرْد وباقيك سكّر

وقد كتب على صفحة عنوانها هكذا: «قاعدة في الفناء والبقاء، تأليف شيخ الإسلام الإمام العلامة … » وتحته تملّك لصاحب النسخة يعقوب بن

(مقدمة 7/10)


ملا بن سعد بتاريخ 1303 ثم تقييد بانتقال التملّك والنظر إلى ولديه: عمر ويوسف بتاريخ 1322.
وقد ذكر ابنُ رشيق في «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (ص 302 – الجامع)، وابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (ص 67) من مؤلفات شيخ الإسلام: قواعد في الفناء والاصطلام في ثلاثين ورقة. فمحتمل أن تكون رسالتنا هذه إحدى هذه القواعد. وقد طبعت هذه الرسالة عن دار ابن حزم عام 1424 هـ بتحقيق الداني آل زهوي.

(4) الرسالة في أحكام الولاية.
موضوعها: جواب على سؤال ورد في بيان سبيل حكم الولاية على قواعد بناء الشرع المطهر بسبب تهمة وقعت في سرقة. بيَّن فيه الشيخ ما يجب على ولاة الأمور في أمور الولايات من العدل، وإقامة الحدود، والحكم في الدعاوى والتُّهَم، وما يجب من تولية الأصلح وتجنب تولية أهل الرفض والتتر.
النسخ الخطية: تقع النسخة الأولى ــ وهي الأصل ــ في ست ورقات، ضمن مجموعة رسائل مصورة من مكتبة المرعشي بإيران، وعلى بعض الرسائل في أولها ــ وبعضها في آخرها ــ ختم المكتبة، وقد كتب فيه: «وقف كتبخانه عمومي حضرت آية الله العظمى مرعشي نجفي (ره) (1)».
_________
(1) اختصار «رحمه الله».

(مقدمة 7/11)


وقد حَصَلتُ على صورة من هذه الرسائل من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، فالشكر لهم على جهودهم في خدمة التراث، وأخصّ الصديق الشيخ عبد العزيز ابن فيصل الراجحي مدير قسم المخطوطات بمزيد الثناء والشكر.
وهذه المجموعة نسَخَها محمد بن أحمد بن علي الخطيب، بتاريخ سابع عشر ورابع عشري شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبعمائة. كما صرح به في آخر الرسالتين رقم (5، 6). وخط هذه المجموعة نسخيّ واضح نفيس، وهي متقنة ومحررة ونادرة الخطأ. وقد سقطت الورقة رقم (4) من مصوَّرتي، فهل هي ساقطة من الأصل أو من التصوير؟
ثم اعتمدنا نسخة أخرى من الرسالة أكملت النقص الواقع في نسخة الأصل، وفيها تصحيحات وفوائد جديدة، وهي محفوظة ضمن مجموع بمكتبة أيا صوفيا برقم (1596) بخط شمس الدين محمد بن موسى بن إبراهيم ابن الحبَّال الحنبلي. وسيأتي وصف تفصيلي لهذا المجموع في المجلد التاسع من «جامع المسائل». والرسالة تقع في ثلاث ورقات (ق 145 – 148) منه، نقلها ابن الحبال عن خط شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد ابن المحب عن خط الحسين بن إبراهيم بن سونج. وقد رمزنا لها بـ (ك).

(مقدمة 7/12)


(5) كتاب للشيخ إلى بعض البلاد الإسلامية حول قضايا شرعية.
موضوعها: سؤال ورد إلى الشيخ سنة 704 هـ من الشيخ أحمد السراج الفقيه بقرية كفرقوق الفستق عن أناس من الصوفية وغيرهم بعضهم يصلي وله هيئات أو حركات خارجة عن الصلاة، ومنهم من لايصلي ويعتذر بأعذار عن تركه الصلاة، فطلب مِن الشيخ أن يكتب له كتابًا إليهم. فأجاب الشيخ طلبه.
النسخة الخطية: تقع النسخة في خمس ورقات، ضمن المجموع السالف في مكتبة مرعشي بإيران، سبق وصفُه في الرسالة رقم (4).
(6) رسالة شيخ الإسلام إلى الأمير سُنْقرچـاه.
موضوعها: هي رسالة من شيخ الإسلام إلى الأمير شمس الدين سُنْقرچـاه المنصوري (ت 707) (1) لما تولى صفد سنة 704 هـ. أثنى الشيخُ عليه فيها بما اشتهر عنه من العدل، وحثه على الاقتداء بسيرة أئمة العدل كعمر بن عبد العزيز ونور الدين الشهيد. ثم تكلم عن أداء الأمانات وأنه في الولايات والأموال، وفصَّل فيها تفصيلًا مختصرًا يناسب الرسالة. وهذه الرسالة عند التأمل تشبه إلى حدٍّ كبير الموضوعات الرئيسية في كتاب «السياسة الشرعية» للمصنف، الذي ألفه للأمير آقش المنصوري (ت 711) لما تولى نيابة دمشق سنة 709 هـ (2). ولا يبعد أن تكون هي
_________
(1) ترجمته في «أعيان العصر»: (2/ 483 – 483)، و «الدرر الكامنة»: (2/ 175).
(2) انظر مقدمة تحقيقي لـ «السياسة الشرعية» (ص 20 – 23).

(مقدمة 7/13)


الأساس الذي بنى عليه الشيخ كتاب «السياسة الشرعية»، خاصة وقد علمنا تقدم رسالتنا في التأليف على كتاب السياسة.
وفي آخر الرسالة أوصى شيخُ الإسلام الأميرَ بحامل هذه الرسالة وهو الشيخ تقي الدين بن الشيخ محمد بن الشيخ الكبير عثمان … وإخوته بمساعدتهم بما لزمهم من حاجة ودين.
النسخة الخطية: تقع النسخة في تسع ورقات، ضمن المجموع السالف في مكتبة مرعشي بإيران، الذي سبق وصفُه في الرسالة رقم (4). وقد سقط من مصورتي الورقة رقم (5). وقد انتهى من نسخ هذه الرسالة في رابع عشري رمضان سنة 736 هـ.

(7) صورةُ كتابٍ في ابن عربي والاعتقاد فيه.
موضوعها: كتاب كتبه المصنف إلى أهل بعلبكّ عن ابن عربي الطائي وغيره من الاتحادية وما في مذهبهم من الضلال، وذلك استجابة لطلب جماعة من المشايخ (وقد سماهم الشيخ) حضروا إلى مجلس الشيخ بدمشق والتمسوا منه الكتابة في ذلك، بعد أن وقع من بعضهم نزاع في ابن عربي وغيره من الاتحادية، ثم وقع الاتفاق منهم على ضلال مقالاتهم الشنيعة في الاعتقاد. وفي آخر الرسالة كُتِبَ محضر بذلك وكتب المشايخ الحاضرون أسماءهم بالموافقة على ما في كتاب الشيخ.
النسخة الخطية: تقع النسخة في سبع ورقات، ضمن المجموع السالف في مكتبة مرعشي بإيران، الذي سبق وصفُه في الرسالة رقم (4).

(مقدمة 7/14)


(8) مسألة فيمن يقول: إن عليًّا أولى بالأمر من أبي بكر وعمر.
موضوعها: سؤال يتضمن العنوان السالف، وفيمن يزعم أنه لم يلياه إلا مغالبة، وماذا يجب على من يعتقد ذلك؟ فأجاب الشيخ بما تقتضيه الأدلة الشرعية وإجماع أهل السنة.
النسخة الخطية: تقع النسخة في أربع ورقات، ضمن المجموع السالف في مكتبة مرعشي بإيران، الذي سبق وصفُه في الرسالة رقم (4).

(9) مسألة في قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ .. } وغيرها.
موضوعها: هذه المجموعة تتضمن السؤال عن خمس آيات من كتاب الله وهي: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ … } [النساء:78] و {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا … } [ص:35]، و {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8] و {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ … } [المائدة:90] و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ .. } إلى قوله: { … ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة:3].
النسخة الخطية: تقع النسخة في ثلاث ورقات، ضمن مجموع من رسائل الشيخ مصور من مكتبة المرعشي بإيران، وعلى بعض الرسائل في أولها ــ وبعضها في آخرها ــ ختم المكتبة وقد كتب فيه: «كتبخانه عمومي آية الله العظمى مرعشي نجفي -قم». وخطها نسخي واضح، ليس عليها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، وهي من خطوط القرن التاسع تقديرًا، وهي

(مقدمة 7/15)


جيدة قليلة الخطأ. وقد حصلت على صورة من هذه الرسائل أيضًا من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، فالشكر لهم ثانيًا. وكل الأسئلة لم تطبع من قبل عدا السؤال الثالث فهو في «مجموع الفتاوى»: (16/ 57 – 59) وأبقيتُه ليُطَّلع عليه ضمن مجموعته.

(10) سؤال عن حديث «لا عدوى ولا طيرة» وثمان مسائل أخرى.
موضوعها: سؤال عن هذا الحديث: معناه وضبطه، ومعه ثمانية أسئلة أخرى في الفقه والحديث والقراءات، فأجاب عنها الشيخ باختصار.
النسخة الخطية: تقع النسخة في ثلاث ورقات، مصورة من مكتبة المرعشي بإيران، وقد سبق وصفها في الرسالة رقم (9).
وبعض أسئلة هذه المجموعة في «مجموع الفتاوى» في مواضع متفرقة: (6/ 509 – 511) (12/ 569 – 570) (20/ 205 – 206). فنشرناها في هذه المجموعة لأجل السؤال الأول الذي لا يوجد في الفتاوى، ولأجل أنَّ المواضع الأخرى مفرَّقة في الفتاوى، والواقع أنها رسالة واحدة تتضمن عدة أسئلة.

(11) مسألة في الرمي بالنُّشَّاب والبندق.
موضوعها: سؤال عن الرمي بالنشاب والبندق وما يُعْرَف برسوم الأستاذية.
النسخة الخطية: نسخة ضمن مجموع بمكتبة بوردور بتركيا رقم

(مقدمة 7/16)


(815) في الأوراق: (46 – 47 ب). وهذا المجموع يقع في (135 ورقة) وفيه رسائل متعددة لشيخ الإسلام وغيره وإن كانت أغلب مسائله لشيخ الإسلام. وهو بخط مسعود بن محمود بن يوسف بن علي الخوارزمي، انتهى من نسخه في الثالث عشر من شوال سنة سبعمائة وتسعين. وهذا المجموع على تقدم تاريخ نسخه كثير الأخطاء والتصحيفات، مع تفاوت ذلك من رسالة إلى أخرى، فلعل ذلك يعود لاختلاف الأصول أو الخطوط التي نقل عنها الناسخ، والذي يظهر لي أنه كان مجرّد ناسخ فقط لا اشتغال له بالعلم. وقد زودني أخي الأستاذ أبو الفضل القُونوي بنسخة من المخطوط على CD جزاه الله خيرًا.
وقد جعل الناسخ رسائل شيخ الإسلام تحت عنوانين رئيسين:
الأول: بعنوان «الجواهر المضية» لشيخ الإسلام ابن تيمية. وهو يبدأ من (ق 15 – ق 60) ويضم مجموعة من المسائل، منها رسالتنا هذه والتي تليها رقم (12) ورسائل أخرى موجودة في مجموع الفتاوى فلم ندخلها هنا.
الثاني: بعنوان «الدرة المضية من فتاوى ابن تيمية» انتقاها الإمام ابن عبد الهادي ــ كما جاء في أولها ــ وتقع في المجموع من (ق 60 – ق 120)، وسيأتي ذكر الرسائل التي دخلت في مجموعتنا هذه.

(12) مسألة في قوله: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ.} ومسائل أخرى مختلفة.
موضوعها: السؤال عن هذه الآية وثمانية أسئلة أخرى غالبها فقهية، ثم

(مقدمة 7/17)


أتبعته بما بقي من المسائل المعنون لها بـ «الجواهر المضية» مما ليس في الفتاوى.
النسخة الخطية: ضمن المجموع السالف في بوردور من (ق 47 ب-60 أ).
* مجموعة مكتبة كديك أحمد باشا في مدينة (أفيون) رقم (17517)، وقد نقلت هي وبقية محتوى المكتبة إلى المكتبة الوطنية بأنقرة، وهذا المجموع بخط أيوب بن أيوب بن صخر بن أيوب بن صخر بن أبي الحسن بن خالد بن وثيق بن بقاء بن مساور العامري بمدينة حمص. نسخه ما بين سنتي (732 – 736 هـ) بحسب التواريخ المقيّدة في آخر الرسائل. وهذا الناسخ من تلاميذ شيخ الإسلام، وله عناية بنسخ كتبه، وله صحبة مع أبي عبدالله ابن رُشيّق، وقد عرَّفتُ به في مقدمة تحقيق «الرد على الشاذلي» (1) ــ إذ كان هو ناسخها ــ بما يلقي بعض الضوء على ترجمته. وقد زودني أخي الأستاذ أبو الفضل القونوي بنسخة من المخطوط على
CD جزاه الله خيرًا.
وهذه المجموعة فيها عدة مسائل، وهي ذوات الأرقام (13 – 19):

(13) مسألة في باب الصفات هل فيها ناسخ ومنسوخ؟ (ق 111 أ-111 ب).
_________
(1) (ص 32 – 35).

(مقدمة 7/18)


(14) مسألة في قول أبي حنيفة في الفقه الأكبر في الاستواء (ق 111 ب-113 ب).
(15) مسألة في العلو. (113 ب-115 أ). ثم عثرنا على نسخة أخرى منها ضمن مجموع بمكتبة أيا صوفيا برقم (1596)، تقع في ورقتين (ق 116 – 118)، نقلها ابن الحبال عن خط ابن المحب عن خط شيخ الإسلام، فقابلنا عليها الرسالة واستفدنا منها تصحيحات. وقد رمزنا لها بـ (ك).
(16) مسألة في حديث «من تقرب إلي شبرًا .. ». (ق 180 أ-181 ب).
(17) مسألة في إثبات التوحيد والنبوات .. (182 أ-184 أ).
(18) قاعدة مختصرة في الحُسْن والقبح العقليين .. (ق 191 أ-195 أ).
(19) مسألة في عقيدة أهل كيلان .. (ق 126 أ).
* مجموعة فتاوى من «الدرة المضية من فتاوى ابن تيمية». نسخة تركيا في مدينة بوردور، وقد سبق وصفها عند الرسالة رقم (11). وتحوي مجموعة من الفتاوى والأسئلة، وهي:

(20) مسألة تتعلق بالجهر بالنية والدعاء، وغيرها من مسائل الصلاة .. (ق 64 ب-66 ب).
(21) مسألة في شرائط الصلاة، وصفة صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم – … (ق 66 أ-69 ب).

(مقدمة 7/19)


(22) مسألة في من ينوي زيارة القدس أوقات التعريف. (ق 70 – 77 ب).
(23) مسألة في عسكر المنصور (ق 78 ب-80 ب).
(24) كتاب الشيخ إلى الملك المنصور حسام الدين لاجين عام 698. (ق 97 أ-98 أ).
وأنبه إلى أن هذه الرسالة في «مجموع الفتاوى»: (28/ 241 – 243). وقد دعاني إلى إدخالها في المجموعة أمران: أحدهما: أنه في الفتاوى لم يُنص إلى مَنْ أرسلها الشيخ، ولا إلى تاريخ كتابتها، وهو منصوص عليه في نسختنا. وهذا له أهميته التي لا تخفى. والثاني: أن في نسختنا زيادة نحو نصف صفحة سقطت من مطبوعة الفتاوى، هذا مع قِصَر الرسالة.

(25) مسألة في الداء والدواء (ق 96 ب-97 أ).
وقد عثرت لهذه الرسالة على ثلاث نسخ خطية؛ هذه واحدة، والثانية في [الأزهرية (182 مجاميع) 4485]، والثالثة ضمن المجموع السالف وصفه في مكتبة كديك باشا في تركيا. وهي في «مجموع الفتاوى»: (10/ 136 – 137) لكن سقط منها السؤال بطوله وبعض الجواب، وأُلحقت برسالة أخرى لا علاقة لها بها (1). ثم وجدتها ملحقة بآخر
_________
(1) وهي رسالة «مرض القلوب وشفاؤها»، «الفتاوى»: (10/ 91 ــ 136).

(مقدمة 7/20)


«مختصر الفتاوى المصرية» (ص 650 – 651). ثم طبعت أخيرًا ضمن «الفتاوى العراقية»: (2/ 649 – 650) لكن الشعر الوارد في السؤال كتب نثرًا مع تحريفه ونقص منه بيتان!

(26) رسالة في الكلام على الحلَّاج .. (ق 110 ب-119 ب).
(27) رسالة فيما يجمع كليات المقاصد .. (ق 119 ب-120 أ).
(28) مجموعة مسائل فقهية مختلفة.
وهذه المسائل رتبتها بحسب أبواب الفقه، لا على حسب ذكرها في المخطوط، واستثنيت منها ما طُبع في الفتاوى، أو ما هو في مجموعتنا هذه ضمن مجموعٍ آخر. ثم عثرنا لثلاث مسائل منها على نسخة أخرى ضمن مجموع بمكتبة أيا صوفيا برقم (1596) بخط شمس الدين ابن حبال، وهي تقع في أربع أوراق (ق 85 – 86، 95 – 96)، فقابلنا المسائل عليها ورمزنا لها بـ (ك).

(29) مجموعة مسائل وفتاوى متفرقة ..
أولها: فتوى في جماعة من النساء قد تظاهرن بسلوك الفقراء … ، ومخطوطتها في الظاهرية ضمن «الكواكب الدراري» رقم (567) (ق 89 أ-ب).

(مقدمة 7/21)


ثم مسائل فقهية متفرقة، ونُسْخَتها في مكتبة الملك عبدالعزيز بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، مجموعة المكتبة المحمودية رقم (2775)، (ق 47 أ – 47 ب).
* * *

– منهج التحقيق
وقد سِرْنا في تحقيق هذه المجموعة سِيرتنا في تحقيق كتب هذه المشاريع المباركة إن شاء الله تعالى، وقد شرحناه مرارًا، وخلاصته: العناية بنصوصها للوصول إلى نصّ سليم أقرب ما يكون لما تركه مؤلفها، والتعليق عليها بما يفيد القارئ ويخدم غرضَ مصنفها، دون إفراط أو تفريط.
وأودّ الإشارة أخيرًا إلى أن أغلب رسائل هذه المجموعة بل والمجموعات السابقة واللاحقة ليس لها إلا نسخة واحدة، والعمل على نسخة واحدة مزلّة قدم كما يعلمه الممارس، فكيف إذا اجتمع إلى ذلك كثرة أخطاء النسخة ورداءتها كما هو الحال في كثير من رسائل مجموعتنا هذه؟! وقد بذلت جهدي في تخطي هذه العقبة، واستفدت من قراءات الشيخين الجليلين: سليمان العمير، ومحمد أجمل الإصلاحي، وبقيت مواضع قليلة محلّ نظر وتأمل.

(مقدمة 7/22)


وفي الختام أشكر كلّ من أسهم في إنجاز هذا العمل، وأدعو كل محبٍّ للعلم والتحقيق، ومحب لتراث شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته المباركة أن تكون له يدٌ تسهم في إنجاح هذا المشروع الكبير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
علي بن محمد العمران
تحريرًا في مكة المكرمة حرسها الله
10/رمضان/1431 هـ
aliomraan@hotmail.com

ثم أعدنا النظر في الكتاب وأكملنا النقص الواقع في «الرسالة في أحكام الولاية» من نسخة أخرى، وقابلنا رسالتين أخريين بنسخ جديدة، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في مواضعه من المقدمة.
تحريرًا في 11/ذو القعدة/1439

(مقدمة 7/23)


نماذج من النُّسخ الخطيَّة

(مقدمة 7/25)


جامِعُ المَسائلِ
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية
(661 – 728)

(المجموعة السابعة)

تحقيق
علي بن محمد العمران

(7/1)


مسائل أهل الرَّحبة
لشيخ الإسلام ابن تيمية

(7/3)


وسئل [شيخ الإسلام] رحمه الله ورضي عنه عن مسائل سألها أهلُ الرحبة خطيب قرية عُشارا (1)، وهي:
* الرجل يأمرُ زوجته بالصلاة ويضربها فلا تصلي، ولا يقدر على طلاقها لأجل الصداق وغيره؟
* وفي الرجل يشربُ الشرابَ ويأكل الحرام ويعتقد أنه حرام، هل هو مسلم أم لا؟
* والرجل يُصيبه الجنابة والوقتُ بارد يؤذيه الغسل بالماء البارد، ويعدم الحمام أو الماء الحار، هل يتيمم ولا إعادة عليه؟
* وإذا عدم الماء وبينه نحو الميل، فإن أخر الصلاة إلى الماء فات الوقت، وإن تيمم أدركه، هل يتيمم ولا إعادة عليه؟
* وفي الرجل يحلف بالطلاق الثلاث على شيء أنه لا يفعله ثم يفعله، هل يلزمه الطلاق الثلاث؟
* وفي المؤمن هل يَكْفُر بالمعصية؟
* وما في المصحف هل هو نفس القرآن أم كتابته؟ وما في صدور المقرئين هل هو نفس القرآن أم لا؟
_________
(1) كذا في الأصل، وعشارة: بضم المهملة، قرية من قرى الرحبة قديمًا، وهي تابعة لمحافظة دير الزور السورية حديثًا، تقدَّم التعريف بها وبـ «الرَّحبة» في مقدمة التحقيق (ص 6).

(7/5)


* والرجل يصلي وقتًا ويتركها أكثر زمانه، والرجل لا يصلي عمره من غير عذرٍ، هل يُغَسَّل ويصلَّى عليه؟
* وفي الكفار هل يُحاسبون يوم القيامة أم لا؟
* وما شَجَر بين الصحابة: علي ومعاوية وطلحة وعائشة هل يُطالبون به أم لا؟
* وفي أهل الكبائر والشفاعة فيهم، وهل يدخلون الجنة إذا لم يتوبوا أم لا؟
* وفي الصالحين من أمة محمد هل هم أفضل من الملائكة؟
* وفي الميزان الذي في القيامة هل له كِفَّتان، أم هو عبارةٌ عن العدل؟
* وفي المعاصي [ق 26] هل أرادها الله من خلقه؟
* وفي الباري تعالى هل يُضلّ عباده ويهديهم أم لا؟
* وفي المقتول هل مات بأجَلِه أم قطع القاتلُ أجلَه؟
* والغلاء والرُّخص هل هو من الله؟
* وفي الإسراء بالنبي – صلى الله عليه وسلم – لما عُرِجَ به هل كان في اليقظة أم في النوم؟
* وفي المبتدعة هل هم كفار أم فسَّاق؟
* وفي مَلَك الموت هل يُذبح يوم القيامة أم لا؟

(7/6)


* وفي الرجل يعتقد الإيمان بقلبه ولم يتلفّظ بلسانه هل يصير بذلك مؤمنًا؟
* وغسل الجنابة هل هو فرض أم لا؟ وهل يجوز أن يصلي الجنب ويعيد؟
* وعن الحرام من المال والخمر، هل هو رزق الله لمن أكله؟
* وفي الإيمان هل هو مخلوق أم لا؟
* وفي القراءة إذا أُهديت إلى الأموات هل يصل ثوابها مِنْ بُعدٍ وقربٍ؟
* وفي البئر إذا وقعت فيها ميتةٌ أو نجاسة هل تنجس؟ وإذا نجست هل ينزع منها شيء أم لا؟
* وفي هلال شهر رمضان هل يُصام برؤيته أم بالحساب؟ وإذا حال دونه غيمٌ هل يُصام بالحساب؟
* [وعن الصبي إذا مات وهو غير مطهَّر هل يقطع ختانه بالحديد عند غسله أم يخلى على حاله؟] (1)
* وفي رجل يصيبه رَشَاش البول وهو في الصلاة أو غيرها ويغفل عن نفسه، أو لم يتمكَّن من غسلها، هل يصلي بالنجاسة أو يترك الصلاة؟
_________
(1) هذا السؤال أجاب عنه الشيخ ولم يرد في قائمة الأسئلة.

(7/7)


* وفي الرجل إذا قُتل وفيه جِراح يخرج منها دمٌ، هل يُغسَّل ويُصلَّى عليه؟
* والرجل يسرق الأسيرة من بلاد العدو ــ ولم يُعْرَف لها أهل ــ وينهزم بها ويسافر ليلًا ونهارًا، فيريد التزويج بها كما يزوجه القاضي خوف الفتك، فيقول: أُشْهِدُ الله وملائكته أن صداقها عليَّ كذا. وترضى هي بالزوج والصَّدَاق، هل يجوز ذلك للضرورة وخوف الفتك، كونها معه ليلًا ونهارًا، يطّلع عليها على ما يخفى في السفر؟
* وفي الرجل يقرأ القرآن وما عنده أحد يسأل عن اللحن، وإذا وقف على شيءٍ نظر في المصحف، هل يأثم أم لا؟
* وفي صلاة الجمعة إذا لم تتم [ق 27] الجماعة أربعون رجلًا ويصعب تركها، هل له رخصة عند أحدٍ أن يصلي بدون الأربعين وذلك في قرًى عديدة؟ (1).
_________
(1) ليس في النسخة جواب هذا السؤال. فلعله سقط على الناسخ، أو ذهل الشيخ عن الجواب عنه. وتكلم المصنف عن هذه المسألة في غير موضع من كتبه، انظر «مجموع الفتاوى»: (24/ 207)، وقال في «الاختيارات»: (ص 120): «وتنعقد الجمعة بثلاثة: واحد يخطب واثنان يستمعان، وهو إحدى الروايات عن أحمد. وقول طائفة من العلماء، وقد يقال بوجوبها على الأربعين؛ لأنه لم يثبت وجوبها على من دونهم، وتصح ممن دونهم؛ لأنه انتقال إلى أعلى الفرضين كالمريض».

(7/8)


* وهل يجوز التقدُّم بين يدي الإمام أم لا؟ وهل تبطل صلاة من تقدّم؟
* وفي القاتل عمدًا أو خطأً، هل تَدفعُ الكفارةُ المذكورةُ في القرآن ذنبَه، أم يطالب بالقتل؟
* والمصلي إذا رأى هوامَّ الأرض هل يجوز قتله، ولو مشى إليه ثلاث خطوات وهو في الصلاة؟
* وفي السماع بالدف والشبّابة هل هو حرام؟
* ودخول النار وإخراج اللاَّذَن ومؤاخاة النساء الأجانب، هل هو حرام؟
* وفي البقر الحلاَّبة تأكل النجاسة، هل ينجس لبنها ويحرم؟
* وفي الذبيحة إذا كانت الغَلْصَمة مما يلي البدن هل تحرم أم لا؟
* وفي البهيمة تُذبح في الماء وتموت فيه، هل تؤكل أم لا؟
* وفي المسجد والجامع (1) وصلاة قوم برّا المسجد وفي طريقه هل تجوز صلاتهم؟
* وفي الرجل يشتري الدابة ويزن الثمن ويقبضها، واشترط (2) له الخيار مدة يومين، فتموت الدابة ليلة قبضها، هل يكون من البائع أم من المشتري؟ (3).
_________
(1) «وفي المسجد والجامع» تكررت في الأصل.
(2) رسمها «واشرط».
(3) ليس في النسخة جواب هذا السؤال.

(7/9)


* [وتارك الصلاة من غير عذرٍ هل هو مسلم في تلك الحال؟] (1)
فأجاب رحمه الله ورضي عنه:
* أما المرأة فإنه يجبُ أمرها بالصلاة مرّةً بعد مرّةٍ، وإلزامها بذلك بالرّغْبة والرّهْبة، وإذا كان عاجزًا ــ إذا طلقها ــ عن مهرها وأمكنه أن يرغِّبها بزيادةٍ في النفقة فَعَلَ إذا صلَّت، وكذلك يعاقبها بالهَجْر مرّةً بعد مرّةٍ، فإن عَجَز عن كلّ سببٍ تصلي به لم يجب عليه ــ مع عجزه عن المهر ــ أن يطلّقها، فيُحبسَ ويُطلبَ منه ما يعجز عنه.
فصل
* وأما الذي يشرب الشراب، ويأكل الحرام، ويقرّ بالشهادتين هل هو مسلم أم لا؟
الجواب: إذا كان مقرًّا بالشهادتين باطنًا وظاهرًا، لم يكن معصيتُه بشُرْب الخمر وأكل الحرام مخرجًا له عن الإسلام بالكليّة، ولا مخرجًا له عن جميع الإيمان، بل مذهب [ق 28] سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين الأربعة وغيرهم: أنَّ مَن كان في قلبه مثقال ذرّةٍ من إيمانٍ لم يخلَّد في النار، ومَن أقرَّ بالشهادتين لم يكن كافرًا بمجرَّد معصيته.
_________
(1) هذا السؤال أجاب عنه الشيخ ولم يرد في الأسئلة. ويلاحظ: أن بعض أجوبة الشيخ لم تكن على حسب ترتيب الأسئلة هنا.

(7/10)


ولكنَّ الخوارج والمعتزلة يقولون: إن صاحب الكبائر ليس معه من الإيمان والإسلام شيء، وهذا القول مخالف للكتاب (1) والسنة وإجماع السلف من الأمة.
لكن هؤلاء إذا كانوا طائفةً ممتنعة، قوتلوا حتى يَلْزَموا شرائع الإسلام، وأما الواحد فيُقام عليه الحدود الشرعية إذا أمكن ذلك، وإلّا فيفعلُ المؤمن ما يقدِر عليه، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان» (2).
فصل

* في الرّجُل وقعت عليه جنابة، والوقت بارد، إذا اغتسل فيه يؤذيه، وتعذّر عليه الحمّام أو تسخين الماء، فيجوز أن يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه؟
والجواب: أنه لا يجوز لأحدٍ قطّ أن يؤخّر الصلاة عن وقتها، لا لعذرٍ ولا لغير عذرٍ، بل يجوز عند العذر الجمعُ بين الصلاتين ــ صلاتي الظهر والعصر، وصلاتي المغرب والعشاء ــ وأما تأخير المغرب حتى تطلع الشمس فلا يجوز بحال، وكذلك تأخير صلاة الظهر والعصر حتى تغرب الشمس. بل إذا كان عادمًا للماء أو خاف الضرّر باستعماله، فعليه
_________
(1) تحتمل في الأصل: «الكتاب».
(2) أخرجه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(7/11)


أن يتيمَّم ويصلي في الوقت، سواء كان جُنبًا أو مُحْدِثًا. وله أن يقرأ القرآن في الصلاة وخارج الصلاة.
ويتيمّم إذا عدم الماء في السّفَر، وكذلك إذا خاف إن اغتسل بالماء البارد يضرّه، والتسخين يتعذَّر، ولتعذُّر الحمّام أو التسخين فإنه يتيمّم ويصلي.
ولا إعادة على أحدٍ صلى في الوقت كما أمره الله تعالى، فإنّ الله لم يوجب على أحدٍ أن يصلي مرّةً في الوقت ومرّةً بعد الخروج من [ق 29] الوقت، بل إذا نسي وصلى بلا وضوء فإنه يؤمر بالقضاء؛ لأنه لم يفعل ما أمره الله به، فمن نسي الصلاة أو بعض فرائضها صلى إذا ذكرها؛ كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «مَن نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها» (1).
وأمر مَن صلى وفي قدمه لُمْعة لم يُصِبْها الماء أن يعيد الوضوء والصلاة (2).
وأما مَن ترك بعض الواجبات جهلًا لا يؤاخذ، فإن عَلِم في الوقت أعاد، وإن لم يعلم إلا بعد الوقت، فلا إعادة عليه، كالأعرابي الذي صلى بلا طمأنينة، فإنه أمره بإعادة تلك الصلاة، ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل
_________
(1) أخرجه بنحوه البخاري (597)، ومسلم (684) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد (15495)، وأبو داود (175) من حديث خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -. قال أحمد: إسناده جيد، نقله عنه الأثرم. انظر «المنتقى»: (1/ 104) للمجد ابن تيمية، و «البدر المنير»: (2/ 238 ــ 239).

(7/12)


ذلك مع قوله: «والذي بعثك بالحق لا أُحْسِن غير هذا» (1). وكذلك لم يأمر المُسْتحاضة بإعادة ما تركته (2). ولم يأمر عُمر وعمّارًا (3) بإعادة ما تركا مع الجنابة حيث لم يعلما التيمُّمَ الشرعيّ (4). ولم يأمر أبا ذرٍّ بالإعادة (5). ولم يأمر الذين اعتقدوا أنَّ الخيطَ الأبيض والخيط الأسود هو الحبل الأبيض والأسود لمَّا أكلوا إلى أن تبينت الحال، لم يأمرهم بالإعادة (6). ولم يأمر الصحابة الذين صلّوا بلا ماءٍ ولا تيمّم بالإعادة لما صلوا بلا ماءٍ قبل أن يشرع التيمّم (7). ونظائر هذه متعددة.
_________
(1) أخرجه البخاري (757)، ومسلم (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) كما في حديث حمنة بن جحش. أخرجه أحمد (27474)، وأبو داود (287)، والترمذي (128)، وابن ماجه (622) وغيرهم. قال الترمذي وأحمد بن حنبل: حسن صحيح، وحسَّنه البخاري فيما نقله عنه الترمذي. وانظر «البدر المنير»: (3/ 58 ــ 60).
(3) الأصل: «عمار».
(4) أخرجه البخاري (338)، ومسلم (368) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه.
(5) أخرجه أحمد (21304)، وأبو داود (332)، والترمذي (124)، والنسائي (322)، وابن خزيمة (2292)، وابن حبان (1311)، والحاكم (1/ 176) وصححه، وغيرهم. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال ابن الملقن: جيد. انظر «البدر المنير»: (2/ 650 ــ 653).
(6) أخرجه البخاري (1917)، ومسلم (1901) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(7) في غزوة بني المصطلق. أخرجه البخاري (336)، ومسلم (367) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(7/13)


فصل

* والذي إذا عَدِم الماء وبَيْنه نحو الميل، إذا أخَّر الصلاة خرج الوقت وإن تيمم أدركه؟
فالجواب: إذا دخل الوقت والماء بعيد أو في بئر مُجبّب (1) لا يصلون إليه إلا بعد الوقت، يصلون بالتيمم في الوقت مع البُعْد باتفاق المسلمين، وفي مسألة البئر عند جمهورهم.
وكذلك المسافر إذا وصل إلى مكان فإن ذهب إلى الماء خرج الوقت صلى بالتيمم، فإنَّ فرضَه أن يصلي في الوقت بالتيمم، ولا يجوز له أن يؤخِّر الصلاة حتى يخرج الوقت، وإن صلى بالوضوء بعد الوقت.
وكذلك العُريان فَرْضُه أن يصلي في الوقت وإن كان عُريانًا، ولا يؤخّر الصلاة، وإن صلى بعد الوقت مكتسيًا.
وكذلك من اشتبهت [ق 30] عليه القبلة أو كان مربوطًا فإنه يصلي في الوقت ولو صلى إلى غير القبلة، ولا يجوز له أن يؤخِّرَ الصلاة وإن صلى إلى القبلة بعدَ الوقت.
وكذلك إذا كان عليه نجاسة في بدنه أو ثيابه لا يمكنه إزالتها إلا بعد الوقت، فعليه أن يصلي في الوقت، وإن كان عليه نجاسة فلا يؤخرها ليصلي بعد الوقت بالطهارة.
_________
(1) الأصل: «محتب». ولم يتبين لي معناها. وفي «تهذيب اللغة»: (10/ 273) عن الفرّاء: بئر مُجبَّبَة الجوف: إذا كان وسطها أوسع شيءٍ منها.

(7/14)


وكذلك المريض عليه أن يصلي في الوقت (1) بحسب الإمكان، كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لعمران بن حُصَين: «صلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا أو مضجعًا» (2) ولا يؤخر ليصلي بعد الوقت.
وكذلك في حال الخوف يصلي في الوقت صلاة الخوف ولا يؤخر الصلاة ليصلي بعد الوقت صلاة آمن.
والأصل الجامع في هذا: أنه لابدّ من الصلاة في وقتها لا تُؤخَّر عن الوقت بوجهٍ من الوجوه، لكن يجوز في حال العذر أن يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، وإذا عَجَز [عن بعض] (3) واجبات الصلاة صلى في الوقت بحسب حاله، والله أعلم.
فصل

* وأما الذي يحلف بالطلاق أنه لا يفعل شيئًا ثم يفعله هل يلزمه الطلاق؟
فالجواب: أنَّ كلّ من حلف يمينًا من أيمان المسلمين فإنه يجزئه كفارة يمين إذا حلف، كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة، قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ
_________
(1) «بالطهارة … في الوقت» تكررت في الأصل.
(2) أخرجه البخاري (1117).
(3) كلمة غير واضحة، ورسمها «أو يحضر» ولعلها ما أثبت.

(7/15)


فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89].
وقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وثبت عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في «الصحيح» من غير وجهٍ أنه قال: «من حَلَفَ على يمين فرأى غيرَها خيرًا منها فليكفِّر عن يمينه، وليأت الذي هو خير» (1). وهذا يتناولُ جميعَ أيمان المسلمين.
والأيمان نوعان: أيمان المسلمين، وأيمان غير المسلمين [ق 31] فالحلف بالمخلوقات كالحلف بالملائكة والمشايخ والكعبة (2) وغيرها= مِنْ أيمان أهل الشرك لا من أيمان (3) المسلمين.
وفي «السنن» (4) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «من حلفَ بغير الله فقد أشرك»، وصححه الترمذي.
وفي «الصحيحين» (5): «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت».
_________
(1) أخرجه مسلم (1650) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، و (1651) من حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه.
(2) تكررت في الأصل.
(3) «من إيمان» لم تظهر لأنها بعض لحق ذهب ببعضه التصوير.
(4) أبو داود (3251)، والترمذي (1535)
(5) أخرجه البخاري (6647)، ومسلم (1646) من حديث عمر رضي الله عنه.

(7/16)


وكذلك النذر للمخلوقات ــ كالنذر لقبور الأنبياء وقبور المشايخ ــ هو من دين أهل الشرك، فالحلف بالمخلوقات لا ينعقد، ولا كفارة فيها (1) إذا حنثَ.
والنوع الثاني: أيمان المسلمين كالحلف باسم الله، أو النذر أو الطلاق أو العتاق أو الحرام أو الظهار، كقوله: والله لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، أو الحرام يلزمني لا أفعل كذا، أو العتق يلزمني لا أفعل كذا، أو إن فعلتُ كذا فأنا يهوديّ أو نصرانيّ أو بريء من (2) دين الإسلام، أو فعلَيَّ الحج أو صيام سنة، أو فمالي صدقة ونحو ذلك، فهذا كله يجزئ فيه الكفارة في أظهر أقوال العلماء، وفيها أقوالٌ أخر.
وقد بسطنا الكلامَ على هذه المسألة في مجلدات، هذا والمجلدات منتشرات (3).
_________
(1) كذا.
(2) الأصل: «عن».
(3) قوله: «هذا والمجلدات منتشرات» لعله تعليق في الهامش ثم أُقحم في النص. وانظر مصنفات الشيخ في هذا الباب في «العقود الدرية» (ص 61، 392 ــ 393) و «الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (ص 358، 381) و «مجموع الفتاوى»: (33/ 228 وما بعدها).

(7/17)


فصل (1)

* العبد هل يكفر بالمعصية أم لا؟
الجواب: أنه لا يَكْفُر بمجرَّد الذنب؛ فإنه قد ثبَت بالكتاب والسُّنَّة وإجماع السّلَف أنّ الزّاني غير المحصن يُجلد ولا يُقتل، والشارب يُجلد، والقاذف يُجلد، والسارق يُقطع، ولو كانوا كفارًا لكانوا مرتدّين ووجب قتلهم، وهذا خلافُ الكتابِ والسنةِ وإجماع السلف.
فصل (2)

* مافي المصحف هل هو نفس القرآن أو كتابته، وما في صدور القُرَّاء هل هو نفس القرآن أو حفظه؟
الجواب: أنّ الواجبَ أن نطلق ما أطلقه الكتاب والسُّنة، كقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22]، وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 97]، وقوله: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3]، وقوله: {يَتْلُو صُحُفًا [ق 32] مُطَهَّرَةً} [البيِّنة:2]، وقوله: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16].
_________
(1) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (4/ 307).
(2) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (12/ 564 – 568).

(7/18)


وكذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا يُسافَر بالقرآن إلى أرض العدوّ» (1). وقوله: «استذكروا القرآن [فلهوَ أشدُّ تفصِّيًا] (2) مِن صدور الرجال مِن النَّعَم في عُقُلها (3)» (4)، وقوله: «[الجوف] (5) الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخَرِب (6)» (7). وقد صحّحه الترمذي.
فمن قال: القرآن في المصحف والصدور؛ فقد صدق. ومن قال: فيهما حفظه وكتابته؛ فقد صدق. ومن قال: القرآن مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور؛ فقد صدق.
ومن قال: إن المداد والورق أو صفة العبد أو فعله أو صوته قديم أو غير مخلوق؛ فهو مخطئ ضال. ومن قال: إنَّ ما في المصحف ليس هو كلام الله، أو: ما في صدور القرّاء ليس هو كلام الله، أو قال: إنّ القرآن العربي لم يتكلَّم به الله ولكن هو مخلوق أو صفة جبريل (8) أو محمد،
_________
(1) أخرجه البخاري (2990)، ومسلم (1869) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) تحرفت في الأصل: «أشذ فلهذا يتقصا».
(3) الأصل: «من عقلها عقلها»!
(4) أخرجه البخاري (5032)، ومسلم (790) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(5) الأصل «عقلها الجواب البيت» ثم ضرب على (الجواب).
(6) الأصل: «الخراب» تحريف.
(7) أخرجه أحمد (1947)، والترمذي (2913) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والعبارة بعده في (ف): «قال الترمذي: حديث صحيح». وفي مطبوعة الترمذي: حسن صحيح. وتكلم عليه في «بيان الوهم والإيهام»: (4/ 660).
(8) «ولكن هو» تكررت في الأصل. والعبارة في (ف): «إن القرآن العزيز … أو صنفه جبريل … ».

(7/19)


أو قال: إن القرآن في المصاحف كما أنّ محمدًا في التوارة والإنجيل؛ فهذا أيضًا مخطئ ضال، فإن القرآن كلام الله، والكلام (1) نفسه يكتبُ في المصحف بخلاف الأعيان، فإنه إنما يُكتَب اسمها وذكرها، فالرسول مكتوب في التوارة والإنجيل ذكره ونعته وكتابة المسميات (2)، كما أنّ القرآن في زُبُر الأوَّلين، [وكما أنّ أعمالنا في الزُّبُر، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:196]] (3)، وقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52].
فمحمد مكتوب في التوارة والإنجيل، كما أنَّ القرآن في تلك الكتب، وكما أن أعمالنا في الكتب، وأما القرآن فهو نفسه مكتوب في المصاحف، ليس المكتوب ذكره والخبر عنه، كما يكتب اسم الله في الورق، ومَنْ لم يفرِّق بين كتابة الأسماء والكلام وكتابة المسميات والأعيان ــ كما جرى لطائفة من الناس ــ فقد غلط غلطًا سوَّى فيه بين الحقائق المختلفة، كما قد يجعل مثل هؤلاء الحقائق المختلفة شيئًا واحدًا [ق 33] كما قد جعلوا جميع أنواع الكلام معنى واحدًا.
وكلامُ المتكلِّم يُسمع تارةً منه وتارةً من المبلِّغ عنه، فالنبيّ – صلى الله عليه وسلم – لما
_________
(1) الأصل: «وكلام». وفي الفتاوى: «القرآن كلام والكلام … ».
(2) «وكتابة المسميات» ليست في (ف).
(3) ما بين المعكوفين مستدرك من (ف).

(7/20)


قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوَّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (1).
فهذا الكلام قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بلفظه ومعناه، فلفظه لفظ الرسول، ومعناه معنى الرسول، فإذا بلَّغه المبلِّغ عنه بلَّغَ كلامَ الرسول بلفظه ومعناه، ولكن صوت الصحابي المبلِّغ ليس هو صوت الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
فالقرآن كلامُ الله لفظه ومعناه، سمِعَه منه جبريل، وبلَّغه عن الله إلى محمد، ومحمد سمِعَه من جبريل، وبلَّغه إلى أمته، فهو كلام الله حيث سُمع وكُتب وقُرئ، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]. وكلام الله تكلَّم الله به بنفسه، تكلّم به باختياره وقدرته، ليس مخلوقًا بائنًا عنه، بل هو قائم بذاته، مع أنه تكلّم به بقدرته ومشيئته، ليس قائمًا به بدون قدرته ومشيئته، والسلف قالوا: لم يزل الله متكلِّمًا إذا شاء.
فإذا قيل: كلام الله قديم، بمعنى أنه لم يَصِر متكلّمًا بعد أن لم يكن متكلمًا، ولا كلامه مخلوق، ولا معنى واحد قديم [قائم] (2) بذاته، بل لم يزل متكلمًا إذا شاء، فهذا كلام صحيح. ولم يقل أحدٌ من السلف: إن نفس الكلام المعين قديم، وكانوا يقولون: القرآن كلام الله منزل غير
_________
(1) أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر رضي الله عنه.
(2) من (ف).

(7/21)


مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. ولم يقل أحدٌ منهم: إن القرآن قديم، ولا قالوا: إن كلامه معنى واحد قائم بذاته، ولا قالوا: إن القرآن أو حروفه وأصواته قديمة أزلية قائمة بذات الله، [وإن كان جنس الحروف لم يزل الله متكلمًا بها إذا شاء] (1) بل قالوا: إن حروف القرآن غير مخلوقة، وأنكروا على من قال [ق 34]: إن الله خلق الحروف.
وكان أحمد وغيره من السلف ينكرون على من يقول: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق. ويقولون: من قال: هو مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع. فإن اللفظ يُراد به مصدر لفظ يلفظ لفظًا، ويُراد باللفظ الملفوظ به، وهو نفس الحروف المنطوقة.
وأما أصوات العباد ومداد المصاحف فلم يتوقف أحد من السلف في أن ذلك مخلوق، وقد نصَّ أحمد على أن أصوات القارئ صوت العبد، وكذلك غير أحمد من الأئمة، وقال أحمد: «من قال: لفظي بالقرآن مخلوق ــ يريد به القرآن ــ فهو جهمي» (2).
والإنسان وجميع حركاته وأفعاله وأصواته مخلوقة، وجميع صفاته مخلوقة، فمن قال عن شيء من صفاته: إنها [غير] مخلوقة أو قديمة فهو مخطئ ضال.
ومن قال عن شيء من كلام الله أو صفاته: إنه مخلوق فهو مخطئ
_________
(1) ما بين المعكوفين من (ف).
(2) انظر «السنة»: (7/ 72) للخلال.

(7/22)


ضال. وأما أصوات العباد بالقرآن والمداد الذي في المصحف، فلم يكن أحدٌ من السلف يتوقف في ذلك، بل كلّهم متفقون على أنّ أصوات العباد مخلوقة (1)، وكلام الله الذي كُتِبَ بالمداد غير مخلوق، قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].
وهذه المسائل قد بُسِطَ الكلام عليها، وذُكِر أقوال العلماء (2) واضطرابهم فيها في مواضع أخر (3).
فصل (4)

* والذي يُصلي وقتًا ويترك الصلاةَ كثيرًا أو لا يصلي؟
فالجواب: إن مثل هذا ما زال المسلمون يُصلون عليه، بل المنافقون الذين يكتمون النفاق يُصلي المسلمون عليهم ويُغسَّلون وتُجرى عليهم أحكامُ المسلمين، كما كان المنافقون على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. وإن كان من قد علمَ نفاقَ شخصٍ لم يَجُز له أن يصلي عليه؛ كما نُهي النبيّ – صلى الله عليه وسلم – عن الصلاة على من عَلِم نفاقَه، وأما من شكّ في حاله فيجوزُ الصلاةُ عليه إذا كان ظاهره الإسلام [ق 35]، كما صلى
_________
(1) (ف) زيادة: «والمداد كله مخلوق».
(2) (ف): «الناس».
(3) انظر «مجموع الفتاوى» المجلد الثاني عشر (القرآن كلام الله).
(4) وانظر السؤال الأخير في هذه الرسالة (ص 99 – 110).

(7/23)


النبيّ – صلى الله عليه وسلم – على مَن لم يُنْه عنه، وكان فيهم من لم يعلم نفاقه، كما قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101]. ومثل هؤلاء يجوزُ النهيُ عنهم، ولكن صلاة النبي والمؤمنين على المنافقين لا تنفعه؛ كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لما ألْبَس ابنَ أُبيٍّ قميصَه: «وما يغني عنه قميصي من الله» (1). وقال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6].
وتارك الصلاة أحيانًا وأمثاله من المتظاهرين بالفسق، فأهلُ العلم والدين إذا كان في هجر هذا وترك الصلاة عليه منفعةٌ للمسلمين، بحيث يكون ذلك باعثًا لهم على المحافظة على الصلاة؛ تركوا الصلاة عليه، كما ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على قاتل نفسه، والغالِّ، والمَدِين الذي لا وفاء له (2)، وهذا شَرّ (3) منهم.
_________
(1) أخرجه ابن جرير: (11/ 614)، وأبو الشيخ كما في «الدر المنثور»: (3/ 476) عن قتادة مرسلًا.
(2) أما ترك الصلاة على قاتل نفسه فأخرجه مسلم (978) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه. وأما تركها على الغال فأخرجه أحمد (17031)، وأبو داود (2710)، والنسائي (1958)، وابن ماجه (2848) من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه. وأما تركها على الذي لاوفاء له فأخرجه البخاري (2298)، ومسلم (1619) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والبخاري (2289) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
(3) الأصل: «بشر» ولعل الصواب ما أثبت.

(7/24)


فصل (1)

* وأما الكفار هل يُحاسبون يوم القيامة أم لا؟
فالجواب: أن هذه المسألة تنازع فيها المتأخرون من أصحاب أحمد وغيرهم، فممن قال: إنهم لا يحاسبون: أبو بكر عبد العزيز، وأبو الحسن (2)، والقاضي أبو يعلى وغيرهم. وممن قال: إنهم يحاسبون: أبو حفص البرمكي ــ من أصحاب أحمد ــ، وأبو سليمان الدمشقي، وأبو طالب المكي.
وفَصْل الخطاب: أنّ الحساب يُراد به عرض أعمالهم عليهم وتوبيخهم عليها، أو يراد بالحساب موازنة الحسنات بالسيئات. فإن أُريد بالحساب المعنى الأول فلا ريب أنهم يُحاسبون بهذا الاعتبار. وإن أُريد المعنى الثاني، فإن قُصِدَ بذلك أن الكفار يبقى لهم حسنات يستحقّون بها الجنة، فهذا خطأ ظاهر، وإن أُريد أنهم يتفاوتون في العقاب، فعقاب (3) من كثرت سيئاته أعظم من عقاب من قلَّت سيئاته، ومن كان له حسنات خُفِّف عنه العذاب، كما أنَّ أبا طالب أخفّ عذابًا من أبي لهب.
_________
(1) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (4/ 305 – 306).
(2) زاد في (ف): «التميمي».
(3) الأصل: «بعقاب»، والمثبت من (ف).

(7/25)


[ق 36] وقال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1]. وقال تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} (1) [النحل: 88]، وقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]. والنار دركات، فإذا كان بعضُ الكفار عذابه أشدّ من بعض ــ لكثرة سيئاته وقلّة حسناته ــ كان الحساب لبيان مراتب العذاب، لا لأجل دخول (2) الجنة.
فصل (3)
* وأما ما شَجَر بين الصحابة، فقد ثبت بالنصوص الصحيحة أن عثمان وعليًّا (4) وطلحة والزبير وعائشة من أهل الجنة، بل ثبت في «الصحيح» (5) أنه «لا يدخل النارَ أحدٌ بايعَ تحت الشجرة».
وأبو موسى الأشعري، وعَمْرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، هم من الصحابة ولهم فضائل ومحاسن.
وما يُحكَى عنهم فكثير منه كذبٌ، والصدق منه إن كانوا فيه مجتهدين، فالمجتهد إذا أصابَ فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ، وخطؤه مغفورٌ له.
_________
(1) النص في (ف): «الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابًا فوق العذاب».
(2) (ف): «دخولهم».
(3) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (4/ 431 – 433).
(4) ضبطت في الأصل «عليٌّ» بالرفع. خطأ.
(5) أخرجه مسلم (2496) من حديث أم مبشر رضي الله عنها.

(7/26)


وإن قُدِّر أنّ لهم ذنوبًا فالذنوب لا توجبُ دخول النار مطلقًا إلا إذا انتفت (1) الأسباب المانعة من ذلك، وهي عشرةٌ: منها التوبة، ومنها الاستغفار، ومنها الحسنات الماحية، ومنها المصائب المكفِّرة، ومنها شفاعة النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ومنها شفاعة غيره، ومنها دعاء المؤمنين، ومنها ما يُهدى للميت من الثواب، كالصدقة والعتق عنهم، ومنها فتنة القبر، ومنها أهوال القيامة (2).
وقد ثبت في «الصحيح» (3) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «خير القرون القرن الذي بُعثتُ فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». وحينئذٍ فمن جزم في أحدٍ من هؤلاء أنَّ له ذنوبًا يدخل بها النار قطعًا فهو كاذب مفترٍ (4)، فإنه لو قال مالا علم له به لكان مبطلًا، فكيف إذا قال ما دلت الدلائل الكثيرة على نقيضه؟ فمن تكلَّم فيما شَجَر بينهم بما (5) نهى الله عنه من ذمِّهم أو التعصّب لبعضهم بالباطل فهو ظالم معتد.
_________
(1) الأصل: «اتبعت»، والمثبت من (ف).
(2) توسّع المصنف في الكلام عليها في «مجموع الفتاوى»: (7/ 487 ــ 501)، و «منهاج السنة»: (6/ 205 ــ 238).
(3) (ف): «الصحيحين». والحديث أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533) بلفظ: «خير الناس … » من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(4) الأصل: «مفتن» تحريف.
(5) (ف): «وقد».

(7/27)


قد ثبت في «الصحيح» عن النبي – صلى الله عليه وسلم -[ق 37] أنه قال: «يمرق مارقةٌ على حين فُرْقة من المسلمين يقتلهم (1) أولى الطائفتين بالحق» (2). وثبت في «الصحيح» عنه أنه قال عن الحسن: «إن ابني هذا سيِّدٌ وسيصلحُ الله به بين فئتين عظيمتين [من المسلمين]» (3). وفي «الصحيحين» (4) عن عمَّار أنه قال: «تقتله الفئة الباغية».
وقد قال الله في القرآن: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
فثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف ما يدلّ على أنهم مؤمنون مسلمون، وأن (5) عليّ بن أبي طالب والذين معه كانوا أولى بالحقِّ من الطائفة المقابلة، والله أعلم.
_________
(1) الأصل: «يضلهم» تحريف.
(2) أخرجه مسلم (1065) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري (2074)، من حديث من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(4) أخرجه البخاري (447)، ومسلم (2915) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5) «ما يدل» سقطت من (ف)، وفي الأصل: «أن» بدون واو.

(7/28)


فصل (1)

* وأما الشفاعة في أهل الكبائر من أمَّة محمد – صلى الله عليه وسلم – وهل يدخلون الجنة؟
فالجواب: أن أحاديث الشفاعة في أهل الكبائر ثابتة متواترة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وقد اتفق عليها السلف من الصحابة وتابعيهم بإحسان وأئمة المسلمين، وإنما نازع في ذلك أهلُ البدع من الخوارج والمعتزلة ونحوهم. ولا يبقى في النار مَنْ في قلبه مثقال ذرَّةٍ من إيمان، بل كلهم يخرجون من النار إلى الجنة (2) ويدخلون الجنة، ويبقى في الجنة فضل، يُنشئ الله لها خلقًا آخر يدخلهم الجنة، كما ثبت ذلك في «الصحيح» (3) عن النبي – صلى الله عليه وسلم -.
فصل

* وأما المطيعون من أمة محمد هل هم أفضل من الملائكة؟
فالجواب: أنه قد ثبت عن عبد الله بن عَمْرو (4) أنه قال: «إن
_________
(1) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (4/ 309).
(2) «إلى الجنة» ليست في (ف).
(3) خروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان أخرجه البخاري (44)، ومسلم (193) من حديث أنس رضي الله عنه. وإنشاء خلق للجنة أخرجه البخاري (7384)، ومسلم (2848) من حديث أنس رضي الله عنه.
(4) الأصل: «عمر» تحريف.

(7/29)


الملائكة قالت: يا ربّ جعلت بني آدم يأكلون في الدنيا ويشربون ويتمتعون، فاجعل لنا الآخرة، كما جعلْتَ لهم الدنيا. قال: لا أفعل. ثم أعادوا عليه: فقال: لا أفعل. ثم أعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا، فقال: وعزَّتي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت [ق 38] له كن فكان». ذكره عثمان بن سعيد الدارمي (1).
وروى هذا عبد الله بن أحمد في كتاب «السنة» (2) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلًا.
وثبت عن عبد الله بن سلام أنه قال: «ما خلق الله خلقًا عليه أكرم من محمد، فقيل له: ولا جبريل ولا ميكائيل؟ فقال للسائل: أتدري ما جبريل وميكائيل، إنما جبريل وميكائيل خلق مسخّرٌ كالشمس والقمر، وما خلق الله خلقًا أكرم عليه من محمد» (3).
وما علمت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك، وهذا هو المشهور عن المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم،
_________
(1) في كتاب «الرد على بِشر المريسي» (ص 93 ــ 94). قال المصنف في «بغية المرتاد» (ص 224): ثبت بالإسناد الذي على شرط الصحيح. وروي مرفوعًا: رواه الطبراني في «الكبير» و «الأوسط» رقم (6137)، قال الهيثمي: وفيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي وهو كذاب متروك، وفي سند الأوسط طلحة بن زيد وهو كذاب أيضًا. «مجمع الزوائد»: (1/ 82).
(2) (2/ 469).
(3) أخرجه الحاكم: (4/ 568) وصحح إسناده، والبيهقي في «الشعب» (148).

(7/30)


وهو أن الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة.
ولنا في هذه المسألة مصنف مفرد، ذكرنا فيه الأدلة من الجانبين (1).
فصل (2)

* وأما الميزان هل هو عبارة عن العدل أم له كِفَّتان؟
فالجواب: أنّ الميزان ما يوزن به الأعمال، وهو غير العدل، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، مثل قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف:8] [{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف:9]] (3)، وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47].
وفي «الصحيحين» (4) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
_________
(1) ذكره ابن رشيق «الجامع» (ص 298)، وابن عبد الهادي (ص 52). ولعله ما في «الفتاوى»: (4/ 350 – 392) على أنه يُشكّ في صحة نسبة هذه الرسالة إلى شيخ الإسلام، انظر «صيانة مجموع الفتاوى» (ص 37 ــ 40). وذكر ابن القيم خلاصة البحث في «بدائع الفوائد»: (3/ 1104 – بتحقيقي).
(2) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (4/ 302).
(3) الآية بين المعكوفين من (ف).
(4) أخرجه البخاري (6406)، ومسلم (2694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7/31)


وقال عن ساقَيْ عبدِ الله بن مسعود: «لهما في الميزان أثقل من أحد» (1). وفي الترمذي وغيره حديث البطاقة، وصححه الترمذي والحاكم وغيرهما، في الرجل الذي يُؤتى به، ويُنشر له تسعة وتسعون سجلًّا كلّ سجلّ منها مدّ البصر، فتوضع في كِفّة، ويُؤتى له ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «فطاشت السِّجلّات، وثَقُلت البطاقة» (2).
وهذا وأمثاله مما يبيّن أنّ الأعمال توزن بموازين يتبين بها رُجْحان الحسنات على السيئات وبالعكس، فهو ما يتبيَّن به [العدل] (3)، والمقصود بالوزن العدل كموازين [ق 39] الدنيا.
وأما كيفيّة تلك الموازين، فهو بمنزلة كيفية سائر ما أُخْبِرنا به من الغيب.
_________
(1) أخرجه أحمد (920)، وابن أبي شيبة (32897)، والبخاري في «الأدب المفرد» (237) من حديث علي رضي الله عنه. وله شاهد من حديث ابن مسعود وقرة بن خالد رضي الله عنهما.
(2) أخرجه الترمذي (2639)، وابن ماجه (4300)، وأحمد (6994)، وابن حبان (225)، والحاكم: (1/ 6) وصححه. وفي مطبوعة الترمذي: حسن غريب.
(3) الأصل: «العذاب» تحريف. والعبارة في (ف): «فهو ما به تبين العدل».

(7/32)


فصل (1)

* وأما السؤال عن الله تعالى هل أراد المعصية من خلقه أم لا؟
فالجواب: أن لفظ «الإرادة» مجمل له معنيان: فيقصد به المشيئة لما خلقه، ويقصد به المحبة والرضى لما أمر به. فإن كان مقصود السائل أنه أحبّ المعاصي ورضيها أو أمر بها، فلم يرِدْها بهذا المعنى؛ فإن الله لا يحبّ الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، بل قد قال لما نهى عنه: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيّئةً (2) عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38].
وإن أراد أنها من جملة ما شاء الله خَلْقَه (3)، فالله خالق كل شيء، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في الوجود إلا ما شاءه. وقد ذكر الله في موضع أنه يريدها، وفي موضع أنه لا يريدها، والمراد بالأول أنه شاءها خلقًا، والثاني أنه لا يحبها ولا يرضاها ولا أمر بها، قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]. وقال نوح: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34].
_________
(1) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (8/ 159 – 160).
(2) كتبت في الأصل بتاء التأنيث، وهي قراءة أبي جعفر ونافع وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف: {سَيِّئُهُ}. انظر «المبسوط» (ص 228) لابن مهران.
(3) (ف): «جملة ما شاءه وخلقه».

(7/33)


وقال في الثاني: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26 ــ 28].
وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ (1) لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6].
وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 23].
فصل (2)

* وأما الباري سبحانه هل يُضل ويهدي؟
فالجواب: أنَّ كل ما في الوجود فهو مخلوق له، خلقه بمشيئته وقدرته [ق 40]، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي يُعطي ويمنع، ويَخْفِض ويرفع، ويُعزّ ويُذلّ، ويُغني ويُفقر، ويُضلّ ويهدي، ويُسعد ويُشقي، ويُؤتي (3) الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويشرح
_________
(1) لفظ الجلالة سقط من الأصل.
(2) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (8/ 78 – 80).
(3) (ف): «ويولي».

(7/34)


صدرَ من يشاء إلى الإسلام، ويجعل صدرَ من يشاء ضيقًا حرجًا كأنما يَصَّعَّد في السماء، وهو مقلِّب القلوب، ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، وهو الذي حبّب إلى المؤمنين الإيمان وزيَّنه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون.
وهو الذي جعل المسلم مسلمًا، والمصلي مصلِّيًا. قال الخليل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]. وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]. وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا [ق 41] صَبَرُوا} [السجدة: 24].
وقال عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41].
وقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21].
وقال: {اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [المؤمنون: 27].
وقال: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38]، والفلك مصنوعةٌ لبني آدم، وقد أخبر الله أنه خلقها بقوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:42].
وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا

(7/35)


وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]، وهذه كلها مصنوعات لبني آدم.
وقال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] فـ «ما» بمعنى «الذي» أي: والذي تنحتونه (1)، ومن جعلها مصدريةً فقد غلط، لكن إذا خلق المنحوت كما خلق المصنوع والملبوس والمبني (2) الذي دلَّ على أنه خالق كلِّ صانع وصنعته، كما في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله خالق [ق 41] كلِّ صانع وصنعته» (3).
وقال {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِي (4) وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 18].
وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125].
_________
(1) «أي: والذي تنحتونه» ليس في (ف).
(2) غير محررة في الأصل ورسمها «والشي» والمثبت من (ف).
(3) أخرجه البخاري في «خلق الأفعال» (17)، وابن أبي عاصم في «السُّنَّة» (357)، والبزار: (7/ 258)، والحاكم: (1/ 31 ــ 32) وصححه على شرط مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه. وقال الهيثمي عن سند البزار: «رجاله رجال الصحيح غير أحمد بن عبد الله بن الكردي وهو ثقة».
(4) كذا في الأصل بالياء، وهي قراءة نافع وأبي عمرو وغيرهم، وقرأ الباقون بدونها، انظر «المبسوط» (ص 241) لابن مهران.

(7/36)


وهو سبحانه خالق كلّ شيء وربّه ومليكه، وله فيما خلقه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ورحمة عامة وخاصة، وهو لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، لا لمجرَّد قدرته وقهره، بل لكمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته؛ فإنه سبحانه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وقد أحسنَ كلّ شيء خلَقَه، وقال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (1) [النمل: 88].
وقد خلق الأشياء بأسباب كما قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 164]، وقال: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 75]. وقال: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16].
فصل (2)

* وأما المقتول هل مات بأجله أو قَطَع القاتلُ أجلَه؟
فالجواب: أن المقتول كغيره من الموتى، لا يموت أحدٌ قبل أجله، ولا يتأخّر أحدٌ عن أجله، بل سائر الحيوان والأشجار لها آجال لا تتقدَّم ولا تتأخَّر؛ فإنّ أجل الشيء هو نهاية مدّته، وعمره مدة بقائه، فالعمر مدة البقاء، والأجل نهاية العمر بالانقضاء.
_________
(1) الآية في (ف) كاملة.
(2) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (8/ 516 – 518).

(7/37)


وقد ثبتَ في «صحيح مسلم» (1) وغيره عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «قدَّرَ الله مقادير الخلائق قبل أن يَخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشُه على الماء».
وثبت في «صحيح البخاري» (2) أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذِّكْر كلّ شيء، وخلق السموات والأرض»، وفي لفظ (3): «ثمّ خلق السماوات والأرض». وقد قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].
[ق 42] والله يعلم ما كان قبل أن يكون، وقد كتب ذلك، فهو يعلم أن هذا يموت بالبطن، أو ذات الجنب، أو الهدم أوالغرق أو غير ذلك من الأسباب، وهذا يموت مقتولًا إما بالسمِّ وإما بالسيف وإما بالحجر وإما بغير ذلك من أسباب القتل. وعِلْم الله ذلك وكتابته له، بل مشيئته لكل شيء، وخَلْقه لكل شيء، لا يمنع المدح والذمّ والثواب والعقاب، بل القاتل إن قَتَل قتلًا مما (4) أمر الله به ورسوله كالمجاهد في سبيل الله، أثابه الله على ذلك، وإن قَتَل قتلًا حرَّمه اللهُ ورسولُه كفعل القُطَّاع
_________
(1) (2653). وأخرجه الترمذي (2156) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2) (3191) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(3) للبخاري (7418).
(4) الأصل: «أما» ولعله ما أثبت. والعبارة في (ف): «إن قتل قتيلًا أمر … ».

(7/38)


والمتعدين، عاقبه اللهُ على ذلك، وإن قَتَل قتلًا مباحًا كقتل المقتصّ، لم يُثب ولم يُعاقب، إلا أن يكون له نيةٌ حسنة أو سيئة في أحدهما.
والأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله، وأجلٌ مقيَّد، وبهذا تبيّن قوله – صلى الله عليه وسلم -: «مَن سَرَّه أن يُبْسَط له في رِزْقه ويُنسأ له في أثره، فليَصِل رَحِمَه» (1)، فإنّ الله أمر المَلَك أن يكتب له أجلًا وقال: إن وَصَل رَحِمَه كتب له (2) كذا وكذا. والملك لا يعلم أيزاد (3) أم لا، ولكن الله يعلم ما يستقرّ الأمر عليه، فإذا جاء ذلك لا يتقدَّم ولا يتأخّر.
ولو لم يُقتل المقتول فقد قال بعض القدرية: إنه كان يعيش، وقال بعضُ نفاة الأسباب: إنه كان يموت، وكلاهما خطأ، فإن الله علم أنه يموت بالقتل، فإذا قُدر خلاف معلومه كان تقديرًا لما لا يكون لو كان كيف كان يكون. وهذا قد يعلمه بعض الناس وقد لا يعلمه.
فلو فرضنا أنَّ الله علم أنه لا يُقتل أمكن أن يكون قَدَّر موته في هذا الوقت، وأمكن أن يكون قَدَّر حياته إلى وقتٍ آخر، فالجزم بأحد هذين على التقدير الذي لا يكون جَهْل. وهذا كمن قال: لو لم يأكل هذا ما قُدّر له من الرزق قد كان يموت أو يرزق شيئًا آخر. وبمنزلة من قال: لو لم يُحْبِل هذا الرجل [ق 43] لهذه المرأة هل كانت عقيمًا أم يُحبلها رجلٌ
_________
(1) أخرجه البخاري (2067)، ومسلم (2557) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.
(2) (ف): «زدته».
(3) (ف): «يزداد».

(7/39)


آخر. ولم لم يزدرع هذه الأرض هل كان يزدرعها غيره أم كانت تكون مواتًا لا زرع بها؟ وهذا الذي تعلَّم القرآنَ مِن هذا لو لم يتعلّمْه هل كان يتعلّمه من هذا (1)، أم لم يكن يتعلم القرآن البتة؟ ومثل هذا كثير.
فصل (2)

* وأما الغلاء والرُّخْص هل هما مِنَ الله تعالى أم لا؟
فالجواب: أنّ جميع ما سوى الله من الأعيان وصفاتها وأحوالها مخلوقةٌ لله، مملوكةٌ لله، وهو ربها وخالقها ومليكها ومدبّرها، لا ربَّ لها غيره، ولا إله سواه لها، له الخلق والأمر، لا شريكَ له في شيء من ذلك ولا مُعين، بل هو كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 ــ 23].
أخبر سبحانه أنَّ ما يُدعَى من دونه ليس له مثقال ذرَّةٍ في السماوات ولا في الأرض، ولاشرك في ملك، ولا إعانة على شيء، وهذه الوجوه الثلاثة هي (3) التي يثبت بها حقّ، فإنه إما أن يكون مالكًا للشيء
_________
(1) (ف): «من غيره» وهو الأنسب.
(2) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (8/ 519 – 523).
(3) الأصل: «وهي» والمثبت من (ف).

(7/40)


مستقلًّا (1) بملكه، أو يكون مشاركًا فيه له فيه نظير (2)، أو لا ذا ولا ذاك، فيكون معينًا لصاحبه كالوزير والمشير والمعلّم والمنْجِد والناصر، فبين سبحانه أنه ليس لغيره ملك مثقال ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض، ولا لغيره شرك في ذلك لا قليل ولا كثير، فلا يملكون شيئًا، ولا لهم شرك في شيء، ولا له سبحانه ظهير، وهو المظاهر المعاون، فليس له وزير ولا معين ولا مشير ونظير، وهو كما قال سبحانه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
فإنَّ المخلوق يوالي المخلوق لذلّه؛ فإذا كان له من يواليه [عز بوليه] (3)، والرّبُّ تعالى لا يوالي [ق 44] أحدًا لذلّته (4) تعالى عن ذلك، بل هو العزيز بنفسه، و {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]، وإنما يوالي عبادَه المؤمنين لرحمته (5) ونعمته وحكمته، وإحسانه وجوده، وتفضُّله وإنعامه.
_________
(1) الأصل: «مشتغلًا» والصواب ما أثبت.
(2) الأصل: «نظيرًا».
(3) ما بين المعكوفين من (ف).
(4) الأصل: «القاه» تحريف، والمثبت من (ف).
(5) الأصل: «رحمه».

(7/41)


وحينئذٍ فالغلاء بارتفاع الأسعار والرُّخص بانخفاضها، هما (1) من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده، ولا يكون شيءٌ منها إلا بمشيئته وقدرته، لكن هو سبحانه قد جعل بعضَ أفعال العباد سببًا في بعض الحوادث، كما جعل [قتل] القاتل سببًا في موت المقتول، وجعل ارتفاع الأسعار قد يكون بسبب ظلم بعض العباد، وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس، ولهذا أضاف من أضاف من القدريَّة المعتزلة وغيرهم الغلاءَ والرخصَ إلى بعض الناس، وبنوا ذلك على أصولٍ فاسدة.
أحدها: أنَّ أفعال العباد ليست مخلوقة لله.
والثاني: أنَّ ما يكون فعل العبد سببًا له، يكون العبد هو الذي أحدثه.
والثالث: أنّ الغلاء والرُّخْص إنما يكون بهذا السبب.
وهذه أصول باطلة، فإنه قد ثبت (2) أنّ الله خالق كلّ شيء من أفعال العباد وغيرها، ودلت على ذلك الدلائل الكثيرة السمعية [والعقلية]، وهذا متفق عليه من السلف والأئمة، وهم مع ذلك يقولون: إن العباد لهم قدرة ومشيئة، وأنهم فاعلون لأفعالهم، ويثبتون ما خلقه الله من الأسباب، وما خلق له (3) من الحِكَم.
_________
(1) الأصل: «وهما»، والمثبت من (ف).
(2) في الأصل زيادة «في الصحيح» وليست في (ف). ولعلها مقحمة، والسياق يدل على ذلك.
(3) (ف): «الله».

(7/42)


ومسألة القدر مسألةٌ عظيمة ضلَّ فيها طائفتان من الناس (1):
طائفة أنكرت أنَّ الله تعالى خالق كلِّ شيء، أو أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما أنكرت ذلك المعتزلة. وطائفة أنكرت أن يكون العبد فاعلًا لأفعاله، أو أن يكون له قدرة لها تأثير في مقدورها، أو أن يكون في المخلوقات ما هو سببٌ لغيره، أو أن يكون الله خلق شيئًا لحكمة، كما أنكر ذلك الجهم بن صفوان [ق 45] ومن اتبعه من المُجْبرة الذين ينتسب كثيرٌ منهم إلى السُّنة. فالكلام على هذه المسألة مبسوط في مواضع أخر.
وأما (2) الثاني: وهو أنّ ما كان فِعْلُ العبد أحدَ أسبابه، كالشبع والرِّي الذي يكون بسبب الأكل، وزهوق النفس الذي يكون بسبب القتل، فهذا قد جعله أكثر المعتزلة فعلًا للعبد، والجبرية لم يجعلوا لفعل العبد فيه [تأثيرًا، بل ما] (3) تيقّنوا أنه سبب، قالوا: إنه عنده لا به. وأما السلف والأئمة فلا يجعلون للعبد فعلًا (4) لذلك كفعله لِمَا قام به من الحركات، ولا يمنعون أن يكون مشاركًا أسبابه، وأن يكون الله جعل فعل العبد مع غيره أسبابًا في حصول مثل ذلك.
_________
(1) كتب أولًا «المسلمين» ثم ضرب عليها.
(2) تكررت في الأصل.
(3) العبارة في الأصل: «الفعل للعبد فيه ناسا بل»! والتصحيح من (ف).
(4) (ف): «يجعلون العبد فاعلًا».

(7/43)


وقد ذكر الله في كتابه النوعين بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 ــ 121].
والإنفاق والسير هو نفس أعمالهم القائمة بهم فقال فيها: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} ولم يقل: «إلا كُتب لهم به عمل صالح» فإنها بنفسها عمل، بنفس كتابتها يتحَصَّل بها المقصود، بخلاف الظمأ والنَّصَب والجوع الحاصل بغير (1) الجهاد، وبخلاف غيظ الكفار وبما نيل منهم؛ فإن هذه ليست نفس أفعالهم، وإنما هي حادثة عن أسباب منها أفعالهم، فلهذا قال تعالى: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}. فبيَّن (2) أنَّ ما يحدث من الآثار عن أفعال العبد يُكْتب لهم بها عمل؛ لأن أفعالهم كانت سببًا فيها، كما قال – صلى الله عليه وسلم -: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوِزْر [ق 46] مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص
_________
(1) رسمها في الأصل: «بسفر»، والمثبت من (ف).
(2) (ف): «فتبين».

(7/44)


من أوزارهم شيء» (1).
والأصل الثالث: أنَّ الغلاءَ والرُّخْص لا تنحصر أسبابه في ظلم (2) بعض الناس، بل قد يكون سببه قلّة ما يُخلق أو يُجلب من ذلك المال المطلوب، فإذا كثرت الرغبات في الشيء وقل المرغَّبُ فيه ارتفع سعره، وإذا كثر وقلَّت الرغباتُ فيه انخفض سعره. والقلة والكثرة قد لا تكون سببًا من العباد، وقد يكون لسبب لا ظلمَ فيه، وقد يكون بسبب [فيه] ظلم، والله يجعل الرغبات في القلوب، فهو سبحانه كما جاء في الأثر: «قد تُغْلى الأسعار والأهواء غزار، وقد تُرْخَص الأسعار والأهواء قفار» (3).
فصل

* وأما السؤال عن المعراج، هل عُرِج بالنبيّ – صلى الله عليه وسلم – يقظة أو منامًا؟
فالجواب: أنّ الذي عليه جماهير السلف والخلف أنه كان يقظة، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]، وقوله: {وَلَقَدْ رَأَىهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ
_________
(1) أخرجه مسلم (1017) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
(2) الأصل «الظلم» والمثبت من (ف).
(3) (ف): «قد تغلوا … غرار … فقار». ولم أجد الأثر.

(7/45)


الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13 ــ 18].
ومعلوم أنّ قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} تعظيم لهذه الآية وتسبيح الربِّ الذي فعلها، والتسبيح يكون عند الأمور العجيبة العظيمة الخارجة عن العادة. ومعلوم أنّ عامة الخلق يرى أحدهم في منامه الذهاب من مكة إلى الشام، وليس هذا مما يُذكر على هذا الوجه من التعظيم، وهو سبحانه ذكر في تلك السورة ما يتمكّن الرسول من ذكر الشواهد ودلائله، فإنهم لمّا أنكروا الإسراء، وقد علموا أنه لم يكن رأى (1) بيتَ المقدس، فسألوه عن صفته لِيَبِين لهم هل هو صادق، فأخبرهم عن صفته خبرَ من عاينه، وأخبرهم عن عِير كانت لهم [ق 47] بالطريق، ولو كان منامًا لما اشتدَّ إنكارهم له، ولا سألوه عن صفته، فإنَّ الرائي قد يرى الشيء في المنام على خلاف صفته.
{وَلَقَدْ رَأَىهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13 ــ 18] صريح في أنَّ بصره رأى ما رآه في الملأ الأعلى، وأنه ما زاغ بصره وما طغى. وقد ثبت أنّ جنة المأوى وسدرة المنتهى في السماء لا في الأرض، فإذا رأى بعينه ما هنالك امتنع أن
_________
(1) تحتمل «يأتي» وما قرأته أرجح.

(7/46)


يكون ذلك منامًا، ودلّ ذلك على أنّ جسده كان هنالك، ولكنه سبحانه ذكر في سورة {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} لأنه مما ذكر له دلائله وشواهده (1) [و] ذلك تمهيدًا لما أخبر به عن رؤية ما رآه عند سدرة المنتهى، والقرآن يدلُّ على ذلك حيث قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم:5 ــ 7]، كما قال في الآية الأخرى: {وَلَقَدْ رَأَىهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23]، ثم قال في النجم: {وَلَقَدْ رَأَىهُ} أي رأى الذي رآه بالأفق الأعلى مرةً أخرى {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}.
وهذا قول أكثر السلف كابن مسعود وعائشة وغيرهما. وقالت طائفة منهم ابن عباس: إن محمدًا رأى ربه بفؤاده مرتين (2). ولم يقل أحدٌ من الصحابة ولا من الأئمة المعروفين كأحمد بن حنبل وغيره: إنه رآه بعينه، ولا في أحاديث المعراج الثابتة شيء من ذلك، وقد نقل بعضهم ذلك عن ابن عباس، وقد نقلوه روايةً عن أحمد بن حنبل، وهو غلط على ابن عباس وعلى أحمد، كما بُسِطَ الكلامُ على هذا في غير هذا الموضع (3)، ولكن جاءت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أحاديث أنه رأى ربَّه في المنام
_________
(1) كذا العبارة في الأصل.
(2) أخرجه مسلم (176/ 285).
(3) انظر «مجموع الفتاوى»: (6/ 509)، و «جامع المسائل»: «1/ 105)، و «بغية المرتاد» (ص 470).

(7/47)


بالمدينة، ولم يكن ذلك ليلة المعراج؛ فإنَّ المعراج كان بمكة.
وقد اتفق السلف [ق 48] والأئمة على أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم في الآخرة، وفي عَرَصات القيامة، وفي الجنة. واتفقوا على أن أحدًا من البشر لا يرى الله بعينه في الدنيا، لم يتنازعوا إلا في نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -. والذي عليه الأئمة والأكابر من السلف أنه لم يره بعينه في الدنيا أحدٌ، وقد ثبت في «صحيح مسلم» (1) وغيره عن أبي ذر أنه قال: «سألت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هل رأيت ربَّك؟ فقال: «نور أنى أراه؟». وما يذكره بعض الناس من أنه قال لأبي بكر: «رأيته»، وقال لعائشة: «لم أره» (2) = فهو من الأكاذيب التي لم يروها أحد من علماء الحديث، بل اتفقوا على أنَّ ذلك كذب. وثبت في «صحيح مسلم» (3) وغيره عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «واعلموا أنّ أحدًا منكم لن يرى رَبَّه حتى يموت».
وأما رؤية (4) جبريل بعينه منفصلًا (5) عنه يقظة؛ فهذا مما نطق به الكتاب والسنة واتفق عليه المسلمون، وإنما ينازع في ذلك المتفلسفة القائلون بأن جبريل هو خيال يتخيل في نفسه، أو أنه العقل الفعَّال، ويقولون: إن هذا لا يمكن رؤيته بالعين، وهذا القولُ كفرٌ بالأنبياء،
_________
(1) رقم (178).
(2) وانظر «جامع المسائل»: (1/ 105) للمؤلف.
(3) كتاب الفتن، باب ذكر ابن صياد رقم (169).
(4) الأصل: «رأية» والصواب ما أثبت.
(5) الأصل: «متفصلا» تصحيف.

(7/48)


وإنّ ما جاءَ به مخالفٌ لدين المسلمين واليهود والنصارى.
وقد أخبر الله عن الملائكة وصفاتهم، وتصوّرهم في صورة البشر في القرآن وغيره مما يخالف قول هؤلاء الملاحدة، وإثبات رؤيته لجبريل، وأن جبريل مَلَك عظيم ــ ليس هو خيالًا (1) في النفس، ولا هو مما يذكره المتفلسفة من العقول التي لا حقيقة لها إلا أمورًا مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان ــ هو من أعظم أصول الإسلام والإيمان، وذلك واجبٌ، بخلاف رؤية محمد ربَّه بعينه؛ فإن هذا ليس يجب اعتقاده عند أحد من أئمة المسلمين، ولا نطق به كتاب ولا سنة صحيحة، ولا قاله أحد من الصحابة، ولا من الأئمة المشهورين، كالأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين.
وقد حكى [ق 49] غير واحد من [العلماء] (2) إجماعَ المسلمين ــ كعثمان بن سعيد الدارمي وغيره ــ على أن محمدًا – صلى الله عليه وسلم – لم يرَ ربَّه بعينه (3).
وأما من يدّعي إجماعَ أهل السنة، أو إجماع المسلمين المثبتين (4) للرؤية في الآخرة، على أنّ محمدًا رأى ربَّه بعينه ليلةَ المعراج، كما يذكر
_________
(1) الأصل: «خيال».
(2) زيادة يستقيم بها السياق.
(3) انظر «الرد على المريسي»: (ص 531).
(4) رسمها في الأصل «المننقبين» بدون نقط إلا على القاف.

(7/49)


ذلك بعض الناس، مثل ابن شُكْر المصري (1) ونحوه، فهذا كلام جاهل بالكتاب والسنة وكلام السلف.
وقد زعم طائفة أن المعراج كان مرتين: مرة منامًا، ومرة يقظةً. ومنهم من جعله ثلاث مرات، والصواب أنه كان مرةً واحدةً، وتلك الليلة فُرِضَت الصلوات الخمس، ولم يكن هذا إلا مرة واحدة لم تُفرض مرتين، ولكن بعض الناس غلط في بعض ما نقله؛ فقيل: إنه كان قبل النبوّة منامًا، وأن تلك الليلة فُرضت الصلوات الخمس قبل فرضها بعد النبوّة، وهذا غلط.
فصل

* وأما المبتدعة هل هم كفار أو فسَّاق؟
والجواب: أنَّ المبتدعةَ جنسٌ تحته أنواع كثيرة، وليس حكم جميع المبتدعة سواء، ولا كل البدع سواء، ولا مَن ابتدع بدعةً تخالف القرآن والحديث مخالفةً بيِّنةً ظاهرةً، كَمَن ابتدع بدعةً خفيّةً لا يُعلم خطؤه فيها
_________
(1) هو: علي بن شكر بن أحمد بن شكر، القاضي أبو الحسن المصري الشافعي (ت 616)، له مؤلفات في السنة والصفات، ترجمته في «التكملة»: (2/ 470)، و «تاريخ الإسلام»: (13/ 480 – ط. دار الغرب). وفي المتحف البريطاني (ملحق 170) رسالة بعنوان «شرح اعتقاد أحمد بن حنبل» منسوبة إليه. ومنها نسخة في مركز الملك فيصل (ب 8370). وانظر كلام المصنف على ابن شكر في «مجموع الفتاوى»: (16/ 433 – 434) وهو قريب مما هنا مع زيادة فوائد.

(7/50)


إلا بعد نظر طويل، ولا مَن كثر اتِّباعه السنة إذا غلط في مواضع كثيرة، كمن كثر مخالفته للسنة وقلّ متابعته لها، ولا من كان مقصوده اتباع الرسول باطنًا وظاهرًا، وهو مجتهد في ذلك، لكنه يخفى عليه بعض السنة أحيانًا، كمن هو مُعرِضٌ عن الكتاب والسنة، طالب الهدى في طرق الملحدين في آيات الله وأسمائه، المتبعين لطواغيتهم من أئمة الزندقة والإلحاد وشيوخ الضلال والأهواء. فقد جعل الله لكل شيء قدرًا.
فمن كان من أهل البدع والتحريف للكلم عن مواضعه (1) والإلحاد في أسماء الله وآياته {وَمَنْ يُشَاقِقِ [ق 50] الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
ومن كان مفرِّطًا في طلب ما يجب عليه من العلم والسنة، متعصِّبًا لطائفة دون طائفة، لهواه ورياسته، قد ترك ما يجب عليه من طلب العلم النبوي وحُسْن القصد، ولكنه مع ذلك مؤمن بما جاء به الرسول، إذا تبين له ما جاء به الرسول لم يكذبه، ولا يرضى أن يكون مشاقًّا للرسول متبعًا لغير سبيل المؤمنين، لكنه يتبع هواه ويتكلم بغير علمٍ، فهذا قد يكون من أهل الذنوب والمعاصي وفساقهم، الذين حُكْمُهم حكم أمثالهم من المسلمين أهل الفتن والفُرقة والأهواء والذنوب.
_________
(1) الأصل: «مضعه».

(7/51)


ومن كان قصده متابعة الرسول باطنًا وظاهرًا، يقدِّم رضا الله على هواه، مجتهدًا في طلب العلم الذي بعث الله به رسوله باطنًا وظاهرًا، لا يقدّم طاعةَ أحدٍ على طاعة الرسول، ولا يوافق أحدًا على تكذيب ما قاله الرسول، ولو كان من أهل قرابته أو مدينته أو مذهبه أو حِرْفته (1)، لكنه قد خفي عليه بعض السنة، إما لعدم سماعه للنصوص النبويّة أو لعدم فهمه (2) لما أراده الرسول، أو لسماع أحاديث ظنها صدقًا وهي كذب، أو لشبهات ظنها حقًّا وهي باطل، كما قد وقع في بعض ذلك كثير من علماء المسلمين وعُبَّادهم. وأكثر المتأخرين من (3) العلماء والعُبَّاد لم يَخْلصوا من أكثر ذلك، فهؤلاء ليسوا (4) كفّارًا ولا فسّاقًا، بل مخطئون خطأ يغفره الله لهم، كما قال تعالى على لسان المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. وقد ثبت في «الصحيح» (5) أنّ الله أستجاب هذا الدعاء.
وثبت في «الصحيح» (6) من غير وجهٍ أنّ الله تعالى غفر للذي قال:
_________
(1) الأصل «خرقته» تصحيف.
(2) الأصل: «يهيبه» خطأ!
(3) «المتأخرين من» تكررت في الأصل.
(4) الأصل: «ليس»
(5) أخرجه مسلم (125) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) أخرجه البخاري (3478)، ومسلم (2756) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7/52)


«إذ أنا متّ فأحرقوني واسحقوني واذروني في اليَمِّ، فوالله لئن قَدَر الله عليَّ ليعذّبَنّي [ق 51] عذابًا لا يعذّبه أحدًا من العالمين». فهذا مؤمنٌ ظنّ أنّ الله لا يقدِر على إعادته، وأنه لا يعيده إذا فعل ذلك، وقد غفر الله له هذا الخطأ بخشيته منه وإيمانه.
وقد أنكر كثيرٌ من السلف أشياء خالفوا بها السنة، ولم يكفرهم أحدٌ من أئمة الدين، فقد كان غير واحدٍ يكذِّب بأحاديث ثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ويغلِّط رواتها؛ لما ظنه معارضًا لها من ظاهر القرآن، أو أنكر (1) خبرًا، كما أنكرت عائشةُ عدة أخبار، وأبو بكر وعمر وعليّ وزيد وغيرهم بعض الأخبار، وأنكر غير واحدٍ بعض الآيات التي لم يعلم أنها من القرآن، وهؤلاء من سادات المسلمين، وخيار أهل الجنة وأفضل هذه الأمة، وقد اختلفوا أختلافًا آل بهم إلى الاقتتال بالسيف والتلاعن باللسان، ومع هذا فالطائفتان من أهل العلم والإيمان، مبرؤون عند أهل السنة من الكفر والفسوق.
وقد صحَّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – الحديث في الخوارج من وجوهٍ كثيرة، قال أحمد بن حنبل: صحَّ فيهم الحديث من عشرة أوجه (2).
_________
(1) الأصل: «أخبر» تحريف، والصواب ما أثبت.
(2) ذكره المصنف في عدد من كتبه، انظر «الفتاوى»: (3/ 279، 7/ 479، 10/ 393)، و «جامع المسائل»: (5/ 157).

(7/53)


وقد رواها مسلم ــ صاحب أحمد ــ في «صحيحه» (1)، وروى البخاري (2) قطعةً منها، فثبت بالنصّ وإجماع الصحابة أنّ الخوارج مارقون ومبتدعون مستحقّون القتال، فقد قال فيهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: «يحقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامهم، وقراءتَه مع قراءتهم، فيقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرَهم، يمرقون من الإسلام كما يمرُق السهمُ من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة» (3). ومع هذا فلم يكفِّرهم الصحابة، بل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي قاتلهم حكم فيهم بحكمه في المسلمين الجاهلين الظالمين، لا بحكمه في الكافرين المشركين وأهل الكتاب، وكذلك الصحابة كسعد بن أبي وقاص ذكروا أنهم من المسلمين، هذا مع أن الخوارج كفّروا عثمان وعليًّا ومَنْ والاهما، وكانوا [ق 52] يقتلون أهلَ الإسلام ويدَعون أهلَ الأوثان، وقد قتلوا من المسلمين ما شاء الله.
_________
(1) من حديث جابر (1063)، ومن حديث أبي سعيد الخدري (1064) ومن حديث علي بن أبي طالب (1066)، ومن حديث أبي ذر ورافع بن عمرو (1067)، ومن حديث سهل بن حنيف (1068) رضي الله عنهم.
(2) من حديث أبي سعيد الخدري (3344)، ومن حديث علي بن أبي طالب (6930)، ومن حديث سهل بن حنيف (6934)، ومن حديث عبد الله بن عمر (6934) رضي الله عنهم.
(3) أخرجاه من حديث علي بن أبي طالب، انظر الحاشيتين السالفتين.

(7/54)


فصل (1)
* في الدابّة كالجاموس وغيره يقع في الماء فيُذبح ويموت وهو في الماء، هل يؤكل؟
والجواب: أنه إذا كان الجرح غير موحٍ (2) وغاب رأس الحيوان في الماء، لم يحلّ أكله، فإنه اشترك في أجله السببُ الحاظرُ والمبيحُ (3)، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لعديّ بن حاتم: «إن خالط كلبَك كلابٌ أخَر فلا تأكل؛ فإنك إنّما سمّيت على كلبك، ولم تسمِّ على غيره» (4). وإن كان بدنه في الماء ورأسه خارج الماء لم يضرّ ذلك شيئًا. وإن كان الجرح موحيًا ففيه نزاع معروف.
فصل (5)

* وأما السؤال عن غسل الجنابة هل هو فرض؟ وهل يجوز لأحد الصلاة جنبًا؟
فالجواب: أنّ الطهارة من الجنابة فرض، ليس لأحدٍ أن يصلي جُنبًا ولا محدِثًا حتى يتطهَّر، ومن صلى بغير طهارة شرعية مستحلًّا لذلك
_________
(1) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (35/ 234).
(2) الجرح الموحي: المسرع للموت. «المطلع» (ص 385) للبعلي.
(3) العبارة في (ف): «في حكمه الحاضر والمبيح».
(4) أخرجه البخاري (5475)، ومسلم (1929).
(5) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (21/ 295).

(7/55)


فهو كافر، وإن لم يستحل ذلك فقد اختُلف في كفره، وهو مستحقٌّ للعقوبة الغليظة، لكن إن كان قادرًا على الاغتسال بالماء اغتسل، وإن كان عادمًا للماء، أو يخاف الضرر باستعماله لمرض أو خوف بردٍ تيمَّمَ (1). وإن تعذَّر الغسل والتيمّم صلى بلا غسل ولا تيمّم ــ في أظهر أقوال العلماء ــ ولا إعادة عليه.
فصل

* وأما السؤال عن مَلك (2) الموت، هل يُؤتَى به يوم القيامة ويُذْبح أم لا؟
الجواب: أنه قد ثبت في الصّحاح (3): «أنه يُؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيقال: يا أهل الجنة. فيشْرَئبُّون (4) وينظرون، ويا أهل النار. فيشْرَئبُّون وينظرون، فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت. فيُذبح بين الجنة والنار، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، وذلك قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ
_________
(1) (ف) زاد: «وصلى».
(2) كذا في السؤال.
(3) أخرجه البخاري (4730)، ومسلم (2849) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ووقع في الأصل: «بلا موت» في الموضعين، والمثبت من الصحيح.
(4) كأن رسمها في الأصل: «فيشيرون». ومثله في الموضع الثاني، والمثبت من مصادر الحديث.

(7/56)


الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39].
ولكن هذا [ق 53] مما استشكله كثير من الناس، وقالوا: الموت عَرَض، والأعراض لا تنقلب أجسامًا، قالوا: لأن الأجناس لا تنقلب، فلا تنقلب الحركة طعمًا، والطعم لونًا، ولكن الأجسام في قولهم جنسٌ واحدٌ، فلهذا ينقلب بعضها إلى بعض، كانقلاب الماء ملحًا ورمادًا، قالوا: وإنما تتبدَّل (1) الأعراض، وأما الأجسام فهي مركبة عندهم من جواهر منفردة متماثلة.
وأنكر ذلك على هؤلاء غيرُهم، وقال: ما ذكرتموه خطأ في المعقول والمنقول، فإنّ الصواب أن الأجسام أجناس مختلفة كالأعراض، وليس حقيقة الذوات كحقيقة الماء، وأن الله سبحانه يقلب الجنس إلى الجنس الآخر؛ كما يقلب الهواء ماء، والماء هواء، والنار هواء، والهواء نارًا، والتراب ماء، والماء ترابًا، وكما يقلب المنيّ عَلَقة، والعَلَقة مُضْغة، والمضغة عظامًا، وكما يقلب الحبة شجرة، وكما يقلب ما يخرج من الشجر ثمرًا. فهو سبحانه يخلق من الأعراض أجسامًا كما ورد بذلك النصوص في مواضع، كقوله عليه السلام: «اقرؤوا القرآن، اقرؤوا البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو (2)
_________
(1) الأصل: «تقيدل».
(2) سقطت «أو» من الأصل.

(7/57)


غيايتان أو فِرْقان من طير صوافّ يحاجّان عن صاحبهما» (1).
وقال: «إنّ لسبحان الله، والحمد، لله ولا إله إلا الله، والله (2) أكبر، دويًّا عند العرش تذكُر صاحبَها» (3).
وقال: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» (4).
وقد قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
وهذا باب متسع، يتسع (5) الكلام فيه، قد بُسط في موضع آخر.
_________
(1) أخرجه مسلم (804) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
(2) سقطت من الأصل.
(3) أخرجه أحمد (18362)، وابن ماجه (3809)، والحاكم: (1/ 500) وصححه على شرط مسلم. والبزار: (8/ 199)، وأبو نعيم في «الحلية»: (4/ 269) وغيرهم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. وإسناد أحمد صحيح. انظر حاشية «المسند»: (30/ 312 ــ 313).
(4) أخرجاه، وتقدم تخريجه.
(5) كذا قرأتها.

(7/58)


فصل

* وأما من سأل عمن اعتقد الإيمان بقلبه ولم يقر بلسانه، هل يصير مؤمنًا؟
الجواب: أما مع القدرة على الإقرار باللسان، فإنه لا يكون مؤمنًا لا باطنًا [ق 54] ولا ظاهرًا عند السلف والأئمة وعامة طوائف القبلة، إلا جهمًا ومن قال بقوله، كالصالحي (1) وطائفة من المتأخرين كأبي الحسن وأتباعه، وبعض متأخر [ي أصحاب] (2) أبي حنيفة: زعموا أن الإيمان مجرَّد تصديق القلب، وأن قول اللسان إنما يعتبر في أحكام الدنيا والآخرة، فيجوِّزون أن يكون الرجل مؤمنًا بقلبه وهو يسبّ الأنبياء والقرآن، ويتكلم بالشرك والكفر من غير إكراه ولا تأويل. وهذا القول قد كَفَّر قائلَه غيرُ واحدٍ من الأئمة، كوكيع بن الجرَّاح وأحمد بن حنبل وغيرهما.
وألزم المسلمون قائلَ هذا القول أن يكون إبليس مؤمنًا، وفرعون
_________
(1) نقله المصنف أيضًا في «الرد على الشاذلي» (ص 198 – بتحقيقي)، وفي «درء التعارض»: (3/ 275)، و «الفتاوى- الإيمان الأوسط»: (7/ 509). والصالحي لعله: صالح بن عمر الصالحي المرجئ، وتنسب له فرقة الصالحية، كما ذكر الشهرستاني في «الملل والنحل»: (1/ 142)، و نقل عنه أبو الحسن الأشعري كثيرًا من أقواله في «مقالات الإسلاميين». وانظر «الوافي بالوفيات»: (16/ 267).
(2) ما بين المعكوفين زيادة يستقيم بها السياق، وليست في الأصل.

(7/59)


مؤمنًا، واليهود مؤمنين، وأبو طالب وأبو جهل وغيرهما ممن عَرَف أن محمدًا حق مؤمنين (1). وأن يكون من قاتَل الأنبياءَ مؤمنًا، ومن ألقى المصاحف في الحشوش وأهانها غاية الإهانة مؤمنًا (2)، وأمثال هؤلاء ممن لا يشكّ مسلمٌ في كفره.
فأجابوا بأنه كلّ من دلَّ النصُّ أو الإجماع على كفره، [عَلِمْنا] (3) أنه كان في الباطن غير مقرٍّ (4) بالصانع، وألزموا أن يكون إبليس وفرعون وقومه واليهود ومعاندو الفرق غير مقرّين بالصانع.
قال لهم أئمة المسلمين وجمهورهم: هذه مكابرة ظاهرة وبهتان بيِّن؛ فإن الله قد قال عن قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]، وقال موسى لفرعون (5): {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، وقال تعالى عن اليهود: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، وقال عن قوم من المشركين: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
_________
(1) الأصل: «مؤمنون».
(2) الأصل: «مؤمنٌ».
(3) الأصل: «عالمًا».
(4) رسمها في الأصل: «يقرا».
(5) الأصل: «يا فرعون» ولعل الصواب ما أثبت.

(7/60)


وإبليس لم يُرْسَل إليه رسول فيكذبه، ولكن الله أمره فاستكبر وأبى وكان من الكافرين، فعُلِم أنّ الكفر قد يكون من غير تكذيبٍ بل عن كبرٍ وامتناع من قول الحق والعمل به، وعُلِم أنه قد يعلم الحق بقلبه من لا يقر به ولا يتبعه، ويكون كافرًا.
ومتى استقر [ق 55] في القلب التصديق والمحبة والطاعة، فلا بدَّ أن يظهر ذلك على البدن في اللسان والجوارح؛ فإنه ما أسرَّ أحدٌ سريرةَ خيرٍ أو شرٍّ إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفَلَتات لسانه، وقال تعالى عن المنافقين: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، فإذا كان المنافق الذي يجتهد في كتمان نفاقه لا بدَّ أن يظهر (1) في لحن قوله، والمؤمن الذي يجتهد في كتمان إيمانه ــ كمؤمن آل فرعون، وامرأة فرعون ــ يظهر إيمانه على لسانه عند المخالفين الذين يخالفهم، فكيف يكون مؤمن قد حصل في قلبه الإيمان التام بالله تعالى ورسوله، ولا ينطق بذلك من غير مانع يمنعه من النطق؟ بل هذا مما يُعلَم بصريح العقل امتناعُه، كما قد بُسِط ما يتعلق بهذه المسألة في غير هذا الموضع (2).
وأما الأخرس فليس من شرط إيمانه نطق لسانه، والخائف لا يجب
_________
(1) كتب قبلها «يكون» ثم كلمة ضرب عليها.
(2) انظر «الفتاوى ــ الإيمان الأوسط»: (7/ 575 ــ 597)، و «الصارم المسلول»: (3/ 960 – 976).

(7/61)


عليه النطق عند من يخافه، بل لا بدَّ من النطق فيما بينه وبين الله.
فصل
* وأما السؤال عن القرآن إذا قرأه الأحياء للأموات فأهدوه إليهم، هل يصل ثوابه سواء كان بعيدًا أو قريبًا؟
والجواب: أن العبادات المالية كالصدقة تصل إلى الميت باتفاق الأئمة؛ لأنه تدخلها النيابة بالاتفاق، وأما العبادات البدنية كالصلاة والصيام والقراءة ففيها قولان للعلماء:
أحدهما: يصل ثوابها للميت، وهذا مذهب أحمد بن حنبل وأصحابه، وهوالذي ذكره الحنفية مذهبًا لأبي حنيفة، واختاره طائفةٌ من أصحاب مالك والشافعي، وقد ثبت في «الصحيح» (1) عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه». فجعل الصيام يقبلُ النيابة.
ومنهم من قال: إنه لا يصل، وهو المشهور من مذهب مالك والشافعي.
ومن احتجَّ على ذلك بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] فحجَّتُه داحضة؛ فإنه قد ثبت بالنص والإجماع [ق 56] أنه ينتفع بالدعاء له والاستغفار والصدقة والعتق وغير ذلك، فالقول في مواقع النزاع كالقول في موارد الإجماع.
وقد ذكر الناس في الآية أقاويل، أصحها أن الآية لم تنف انتفاع
_________
(1) أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(7/62)


الإنسان بعمل غيره، وإنما نفت أن يستحقّ غيرَ سعيِه بقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وهذا حقّ، لا يستحقّ إلا سعي نفسه لا سعي غيره، لكن لا يمنع ذلك أن الله تعالى يرحمه وينفعه بغير سعيه، كما يُدْخل أطفال المؤمنين الجنة بغير سعيهم، وكما يُنشئ في الآخرة خلقًا يسكنهم الجنة بغير سعيهم، وكما ينتفع الإنسان بدعاء غيره وشفاعته، وكما ينتفع بصدقة غيره، فكذلك بصيامه وقراءته وصلاته.
فصل

* وأما السؤال عن البئر إذا وقع بها نجاسة هل تنجس أم لا، وإن تنجست كم ينزح منها؟
والجواب: إذا كان الماء قُلّتين ــ وهو نحو قنطار بالدمشقي ــ لم ينجس إلا بالتغيير عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وكذلك لو كانت أقلّ من قُلتين لم ينجس إلا بالتغيُّر في أظهر قولي العلماء، وهو قول أكثر السلف، وهو مذهب أهل المدينة وروايتهم عن (1) كأبي المحاسن الروياني، وحُكِيَ قولًا للشافعي
_________
(1) كذا في الأصل، وفي الكلام نقص أو تحريف. ولعله: «وروايتهم عن مالك، وقول بعض الشافعية، كأبي … » انظر «المستدرك على الفتاوى»: (3/ 10). وللمصنف كلام على المسألة في مواضع منها في «مجموع الفتاوى»: (21/ 501) ونصه: « … أنه لا ينجس إلا بالتغيُّر كالرواية الموافقة لأهل المدينة، وهو قول أبي المحاسن الروياني وغيره من أصحاب الشافعي».

(7/63)


ومالك، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه، كابن عقيل وأبي محمد بن المَنِّي (1) وغيرهما، وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي.
فإذا لم يتغير الماء لم يُنْزح من البئر شيء، سواء تمعَّط فيها شعر الفأرة أو الهرّ أو غيرهما، أو لم يتمعَّط، فإنَّ شَعْر الميتة طاهر (2) عند أكثر العلماء، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه.
وإن تغيّر الماءُ بالنجاسة نُزح مقدار ما يطيب به الماء ويزول تغيره بالنجاسة، وليس لذلك حدٌّ مقدَّرٌ، والله أعلم.
فصل

* عن شهر رمضان هل يصام بالهلال أو بالحساب والقياس [ق 57] إذا حال دونه غيم أو غيره؟
والجواب: إذا رأى الناسُ الهلالَ ليلة الثلاثين من شعبان أو أكملوا عدة
_________
(1) الأصل: «المثنى» تحريف. وجاء على الصواب في «الفتاوى»: (20/ 518، 21/ 501). وهو: نصر بن فتيان بن مطر النهرواني، أبو الفتح، الحنبلي (ت 583)، شيخ أهل العراق، المعروف بابن المَنّي، نسبة إلى المن، وهو وحدة وزن معروفة. به تخرج ابن قدامة المقدسي والحافظ عبد الغني. ترجمته في «الذيل على طبقات الحنابلة»: (2/ 354 – 366). وكناه المؤلف هنا وفي موضع من «الفتاوى»: (20/ 518) «أبو محمد» والذي في المصادر «أبو الفتح».
(2) كتب بعدها «في» وعليها أثر الضرب.

(7/64)


شعبان ثلاثين، وجبَ عليهم الصوم باتفاق العلماء أئمة الإسلام، ولا يجب الصيام قبل ذلك عند عامّة السلف والخلف، لا في الغيم ولا في الصحو.
والإمامُ أحمد لم يكن يوجب الصيام ليلةَ الغيم، ولكن استحبّ ذلك اتباعًا لابن عمر وغيره من الصحابة، ولكن أوجب صيامَه طائفةٌ من أصحابه، وهذا القول لم يُنْقَل عن أحدٍ من السلف. وآخرون من أصحابه نهوا عن صيامه نهي تحريم أو تنزيه، كأبي الخطاّب وابن عقيل وأبي القاسم بن منده وغيرهم، وهذه رواية ثانية (1) عنه. وهذا قول مالك والشافعي.
وكثير من الصحابة والتابعين والعلماء كانوا يصومون يوم الغيم على طريق الاحتياط لا على طريق الإيجاب. ومذهب مالكٍ وأبي حنيفة: يجوز صوم يوم الشك مع الصحو والغيم. وكثير منهم ينهى عن صومه في الصحو والغيم، وكثير منهم كان يصومه في الغيم دون الصحو، وهو المشهور عن أحمد، وعنه رواية أخرى: أنه لا يصوم إلا مع الناس، وقال: لا يصوم وحده لكن يصوم مع الجماعة، يدُ الله على الجماعة. وهذه الرواية أظهر؛ لما في السنن عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون» (2).
_________
(1) الأصل: «ثابتة» تحريف.
(2) أخرجه الترمذي (697)، والدارقطني (2180)، والبيهقي (4/ 252) وغيرهم. من طريق عثمان بن محمد، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة. وقال الترمذي: حسن غريب. ورواه أبو داود (2324) من طريق أيوب السختياني، عن محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة، ورواه ابن ماجه (1660) عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وفي إسناده اضطراب. وانظر «تنقيح التحقيق»: (3/ 225 ــ 227) لابن عبد الهادي.

(7/65)


والشهر اسم لما يشتهر، والهلال اسم لما يستهلّ به الناس، فما لم يشتهر ولا يستهل لا يكون شهرًا ولا هلالًا، وقد بُسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع (1).
وقد ثبت في السنة وآثار السلف أنه لو انفرد برؤية هلال ذي الحجة لم يقف بعرفات وحدَه، ولكن يقف مع الناس، فكذلك الصوم والفطر على هذه الرواية، فإذا رأى الهلال وحْدَه لم يصم، ولم يُستحبّ له الصوم وحده بل يُكره، وهذه رواية منصوصة [ق 58] عن أحمد بن حنبل، وهي أرجح في الدليل.
والعلماء لهم فيمن انفرد برؤية هلال الصوم والفطر ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره.
أحدها: أنه يصوم وحده ويفطر وحده سرًّا، كقول الشافعي.
والثاني: أنه (2) يصوم وحده ولا يفطر إلا مع الناس، وهو المشهور عن أحمد ومالك وأبي حنيفة.
_________
(1) انظر «الفتاوى»: (25/ 126 ما بعدها).
(2) كتب بعدها: «لا» ثم ضرب عليها.

(7/66)


والثالث: أنه لا يصوم إلا مع الناس ولا يفطر إلا مع الناس، وهذا أرجح الأقوال. ومن رجح الاستحباب زعم أن هذا القول أقيس الأقوال، فإن ما شُكَّ في وجوبه لم يجب، لكن يستحب فيه الاحتياط، كما لو شك في وجوب الزكاة أو الحج أو الكفارات أو الطهارة أو غير ذلك؛ فإن الاحتياط فيما شك في وجوبه مشروع وليس بواجب، ولكن مالك يوجب الطهارة إذا شك هل أحدث، والجمهور يستحبون الطهارة ولا يوجبونها.
لكن من هؤلاء من يجزم بنيّة رمضان، كإحدى الروايتين عن أحمد، ومنهم من يجزم بنيّة شعبان، فإن صادف رمضان أجزأه، وهو قول أبي حنيفة، ومنهم من يصومه بنيةٍ فيقول: إنه إن كان من رمضان فهو من رمضان، وإلا فهو تطوع، وهذا هو الذي نقله المرُّوذي عن أحمد، وهو اختيار الخِرَقي في «شرح المختصر» (1)، ذكره عنه أبو يعلى في تعليقه (2)، وهو أحد الأقوال لمن يختار صيامه (3).
والجمهور الذين (4) ينهون عن صومه يجيبون عن هذا بأن النبي
_________
(1) انظر «المغني شرح مختصر الخرقي»: (4/ 339) لابن قدامة، و «شرح الزركشي»: (2/ 565).
(2) التعليق لأبي يعلى في الخلاف، وانظر كلامه في «الروايتين والوجهين»: (1/ 254)، وانظر «الفتاوى»: (25/ 100) للمؤلف.
(3) الأصل: «من» ولعل الصواب ما أثبت. وبعد «صيامه» كلمة: «الوريقة». ولعلها إشارة إلى وريقة كانت في أصله مكملة للنص، فأبقاها الناسخ مقحمة.
(4) الأصل: «الذي».

(7/67)


– صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا» (1).
وقال: «لا تقدّموا رمضان بيوم ولا بيومين» (2).
وقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العِدَّة» (3).
قالوا: فقد نهى عن الصيام قبل الرؤية أو إكمال العدة، ونهى عن استقباله باليوم، والذي من فعله أن الاحتياط في ذلك غير مشروع؛ لأن في ذلك مفسدَة، وهي (4) الزيادة على المشروع، والاحتياط الواجب يغير وتفرق [ق 59] واختلافها (5)، وهذه المفاسد راجحة على المصلحة بالاحتياط، قالوا: لأنّ الاحتياط إنما يكون مع الشكّ في الوجوب، ونحن نجزم أنَّ الله لم يوجب علينا أن نصوم إلا شهرًا، والشهر متعلّق برؤية الهلال، فما لم يشتهر ولم يستهلّ به لم يوجبِ اللهُ صومَه، فلا احتياط مع الجزم بانتفاء الوجوب. والله أعلم.
_________
(1) أخرجه البخاري (1900)، ومسلم (1080) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري (1906)، ومسلم (1080) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. ولفظه: «لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمّ عليكم فاقدروا له».
(4) الأصل: «وهو».
(5) كذا العبارة في الأصل، فربما وقع فيها تحريف أو سقط.

(7/68)


فصل

* وأما السؤال عن الصبي إذا مات وهو غير مطهَّر هل يقطع ختانه بالحديد عند غسله أم يخلَّى على حاله (1)؟
والجواب: أن الصبيَّ وغيره إذا مات غير مختون، لم يُخْتَن بعد الموت عند عامة أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، ولكن فيه قولٌ شاذٌّ أنه يُخْتَن، وليس بشيء، فإن هذا مُثْلةٌ بعد الموت، والنبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن المُثلة (2)؛ ولأن المقصود من الختان منع احتباس البول في القَلْفَة، وهو بعد الموت لا يبول.
ولكن تنازع العلماء في قصّ أظفاره، وأخذ عانته وإبطه، وجزّ شاربه، منهم من استحبَّ ذلك كأحمد وغيره؛ لأنه نظافة، وسعدُ بن أبي وقّاص غسّل ميتًا فدعا بالموسى (3). ومنهم من لم يستحب ــ كالشافعي ــ كالختان، والله أعلم.
فصل

* وأما السؤال عن رَشاش البول وهو في الصلاة أو في غيرها ويغفل عن نفسه وعن ثيابه، ولم يتمكَّن من غَسْلها في الصلاة هل يصلي بالنجاسة أو غيرها؟
_________
(1) هذا السؤال لم يرد في قائمة الأسئلة أول الرسالة.
(2) في حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري، قال: نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن النّهبَى والمثلة. أخرجه البخاري (2474).
(3) ذكره البيهقي في «الكبرى»: (3/ 390).

(7/69)


والجواب: أنه إن كان به سَلَس البول فهو كالمستحاضة ونحوها، فمن به الحَدَث الدائم الذي لم ينقطع مقدار الطهارة والصلاة، فهذا يتوضأ ويصلي بحسب الإمكان، ولو جرى البول في أثناء الصلاة لم يضره، لكن يتخذ حفاظًا يمنع وصول البول إلى بدنه وثيابه، فإن عجز عن ذلك فلا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها، وأما إن لم يكن به سَلَس، فعليه أن يغسل البول من بدنه وثيابه، فإن لم يجد ماء يغسل [ق 60] به ذلك صلى والنجاسة في بدنه وثيابه، ولا يؤخر الصلاة حتى يفوت الوقت ويجد الماء، ولا إعادة عليه. والله أعلم.
فصل

* أما السؤال عن المقتول إذا مات وبه جراح فخرج منها الدم، فهل يُغسَّل ويُصلى عليه أم لا؟
والجواب: أنه إذا كان شهيدًا في معركة الكفار لم يُغسل بل يُدفن في ثيابه، كما قال النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في شهداء أحد: «زمِّلوهم بكلومهم ودمائهم؛ فإنّ أحدهم يجيء يوم القيامة وجرحه يَثْعُب دمًا، اللون لون الدم والريح ريح المسك» (1). وفي الصلاة عليه نزاع مشهور، ومن قتله المسلمون ظلمًا ففيه نزاع، وأكثر العلماء يرون غسله والصلاة عليه، وأما من قتل قِصاصًا فهذا يُغسَّل ويُصلى عليه باتفاقهم، وكذلك إذا
_________
(1) أخرجه أحمد (23659)، والنسائي (2002)، والبيهقي: (4/ 11) من حديث عبد الله بن ثعلبة رضي الله عنه. وإسناده صحيح.

(7/70)


جرح وبعد الجرح أكل أو شرب ــ كما جرى لعمر بن الخطاب ــ فإن هذا يُغسَّل ويُصلى عليه.
فصل
* وأما السؤال عن رجل يسرق الأسيرة من المُغْل أو غيرهم، وما لها أحدٌ، وهو يريد أن ينهزم بها، ويخبؤها ليلًا ونهارًا ويختلي بها، ويخفيها خوفًا من المغل، فأراد الرجل أن يتزوجها، وقال الرجل: إني أُشْهِد الله وملائكته إني رضيت بها زوجة، وأن صداقها عليّ كذا وكذا. وقالت المرأة: أُشهد الله وملائكته أني رضيت بالصداق المعيّن. وأن يكون زوجها، فهل يجوز ذلك مع الضرورة والخوف من الفتك والوقوع في الزنا، لخلوته بها في طول مسافة الطريق، وانكشافه عليها ليلًا ونهارًا أم لا؟
والجواب: أنه إن أمكنه أن يذهب بها إلى مكان يزوجها به وليُّ ذلك المكان ذهب أو وَكَّل، وإن كان قاضي المكان لا يزوِّجها زوَّجها غيره ممن له سلطان، كوالي الحرب، أو رئيس القرية، أو أمير الأعراب أو التركمان أو الأكراد، فمتى زوَّجها ذو سلطان ــ وهو المطاع ــ جاز النكاح. نصّ عليه أحمد بن حنبل وغيره، نصَّ أحمد على أن والي الحرب يزوِّج [ق 61] إذا كان القاضي جهميًّا، وعلى أن دِهقان القرية يزوِّج إذا لم يكن هناك حاكم، وكذلك إذا وكَّلْتَ عالمًا مشهورًا أو خطيبَ القرية ونحو ذلك، جاز أن يزوّجها إذا وكّلَته. وإن تعذّر هذا كله

(7/71)


وكَّلت رجلًا من المسلمين يزوِّجها بهذا الرجل، فلا تباشر هي العقد، وإن تعذَّر هذا كله واحتاجا إلى النكاح زوَّجَتْه نفسها؛ فإنَّ ما أمر الله به في العقود وغيرها يجب مع القدرة، وأما مع العجز فلا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها، فلا يحرم ما يحتاج إليه الناس من النكاح لعجزهم عن بعض ما أُمِر به من ذلك، بل ما عَجَزوا عنه سقط وجوبه، والله أعلم.
فصل

* وأما السؤال عن رجل يقرأ القرآن للجهورة ما عنده أحدٌ يسأله عن اللحن، وإذا وقف عليه شيء يطّلع في المصحف، فهل يلحقه إثم؟
والجواب: أنه إذا احتاج الناس إلى قراءة القرآن عليهم قرأه بحسب الإمكان، ويرجع إلى المصحف فيما يُشكل عليه، ولا يُكلِّف الله نفسًا إلا وسعها، ولا يترك ما يحتاج إليه وينتفع به من القراءة لأجل ما قد يعرض من الغلط أحيانًا، إذا لم يكن في ذلك مفسدة راجحة، والله أعلم.
فصل (1)

* وأما السؤال عن القاتل خطأ أو عمدًا هل ترفع الكفارةُ المذكورة في القرآن ذنبَه، أم يطالب بالقتل أو الدية؟
والجواب: [قتل الخطأ لا يجب فيه إلا الدية والكفارة ولا إثم فيه،
_________
(1) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (34/ 138 – 139). ووقع في الأصل سقط استدركناه من الفتاوى بين معكوفين.

(7/72)


وأما القاتل عمدًا فعليه الإثم، فإذا عفا عنه أولياءُ المقتول أو أخذوا الدية، لم يسقط بذلك حقُّ المقتول في الآخرة. وإذا قتلوه، ففيه نزاع في مذهب أحمد، والأظهر أن لا يسقط، لكن القاتل إذا كثرت حسناته أُخِذ منه بعضها ما يرضى به المقتول، أو يعوّضه الله من عنده إذا تاب القاتل توبة نصوحًا.
وقاتل الخطأ تجب] عليه (1) الدية مع الكفارة بنصِّ القرآن واتفاق الأئمة (2)، والدية تجب للمسلم والمعاهد كما دلَّ عليه القرآن، وهو قول السلف (3) والأئمة، لا يُعرف فيه خلاف متقدِّم، لكن بعض متأخري الظاهرية زعم أن الذمّي (4) لا دية له (5).
وأما القاتل عمدًا ففيه القَوَد، فإن اصطلحوا على الدية جاز ذلك بالنصِّ والإجماع، وكانت الدية في مال القاتل، بخلاف الخطأ، فإن ديته على عاقلته.
وأما الكفارة فجمهور العلماء يقولون: قتل العمد أعظم من أن يُكفَّر، وكذلك قالوا في اليمين الغموس، هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، كما اتفقوا كلّهم على أنّ الزنا أعظم من [ق 62]_________
(1) الأصل: «أن عليه».
(2) (ف): «الأمة».
(3) الأصل: «للسلف».
(4) (ف): «أنه الذي» تحريف.
(5) قاله ابن حزم، انظر «المحلى»: (10/ 347).

(7/73)


أن يكفَّر، وإن (1) وجبت الكفارة بوطء المظاهر، والوطء في رمضان، [وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: بل تجب الكفارة في العمد] واليمين الغموس. واتفقوا على أن الإثم لا يسقط بمجرّد الكفارة.
فصل (2)

* وأما الخمر والحرام هل هو رزق الله للجهال، أم يأكلون ما قدّر لهم؟
والجواب: أن لفظ الرزق يُراد به ما أباحه الله للعبد أو ملَّكه إياه، ويراد به ما يتقوّى (3) به العبد.
فالأول: كقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10]، وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، فهذا الرزق هو الحلال والمملوك، لا يدخل فيه الخمر ولا الحرام.
والثاني: كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، والله تعالى يرزق البهائم ولا توصف بأنها تملك، ولا بأنه أباح الله لها ذلك إباحة شرعية، فإنه لا تكليف على البهائم وكذلك (4)
_________
(1) (ف): «فإنما».
(2) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (8/ 545 – 546).
(3) (ف): «يتغذى».
(4) الأصل: «وذلك لأن».

(7/74)


الأطفال والمجانين، لكن كما أنه ليس بملك فليس بمحرّم عليها، وإنما (1) المحرّم الذي يغتذي به العبد فهو من الذي عَلِم (2) الله أنَّ العبد يغتذي به، وقدَّر ذلك، ليس هو مما أباحه وملَّكه، كما في «الصحيح» (3) عن ابن مسعود عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «يُجمع خلقُ أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون عَلَقة مثل ذلك، ثم يكون مُضغة مثل ذلك، ثم يُبْعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقَه وأجلَه وعملَه وشقيّ أو سعيد. ثم يَنفخ فيه الروح. ثم قال: فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها».
فالرزق الحرام هو مما قدّره الله وكتبَتْه الملائكة، وهو مما دخل تحت مشيئة الله وخَلْقه، وهو مع ذلك قد حرّمه ونهى عنه، ولفاعله من غضبه وذمّه وعقوبته (4) ما هو له أهل، والله أعلم.
_________
(1) الأصل: «وأما» والمثبت من (ف).
(2) الأصل: «رزق»، والمثبت من (ف)، ويؤيده السياق.
(3) أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643).
(4) الأصل: «ودنبه وعقوبه». والتصحيح من (ف).

(7/75)


فصل (1)

[ق 63] الإيمان هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟
الجواب: أن هذه المسألة نشأ (2) النزاعُ فيها لما ظهرت محنة الجهمية في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ وهي محنة الإمام أحمد وغيره من علماء المسلمين، فقد جرت فيها أمور يطول وصفها هنا. لكن لما ظهر القولُ بأن القرآن كلام الله غير مخلوقٍ، وأطفأ اللهُ نار الجهمية المعطلة، صارت طائفةٌ يقولون: إن كلام الله الذي أنزله مخلوق، ويعبّرون عن ذلك بـ «اللفظ»، فصاروا يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، أو تلاوتنا أو قراءتنا له مخلوقة. وليس مقصودهم مجرّد أصواتهم (3) وحركاتهم، بل يدرجون في كلامهم نفس كلام الله الذي نقرؤه بأصواتنا وحركاتنا. وعارضهم طائفةٌ أخرى قالوا: ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة. وردَّ الإمام أحمد على الطائفتين، وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوقٍ فهو مبتدعٌ.
وتكلم الناس حينئذٍ في الإيمان فقالت طائفة: الإيمان مخلوق، وأدخلوا في ذلك ما تكلم الله به من الإيمان، مثل قوله: «لا إله إلا الله»، فصار مقتضى قولهم أنّ نفس هذه الكلمة مخلوقة لم يتكلم الله بها؛ فبدَّع
_________
(1) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (7/ 655 – 665).
(2) الأصل تحتمل: «فشا» والمثبت من (ف)، وسيأتي نظيرها (ص 79).
(3) (ف): «كلامهم».

(7/76)


الإمامُ أحمد هؤلاء، وقال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله» (1)، أفيكون قول «لا إله إلا الله» مخلوقًا (2)!
ومراده أن من قال: هي مخلوقة مطلقًا، كان مقتضى قوله أنّ الله لم يتكلم بهذه الكلمة، كما أن من قال: ألفاظنا وتلاوتنا وقراءتنا القرآن مخلوقة، كان مقتضى كلامه أنّ الله لم يتكلم بالقرآن الذي أنزله، وأن القرآن المنزَّل ليس هو كلام الله، وأن يكون جبريل نزل بمخلوقٍ ليس هو كلام الله، والمسلمون يقرؤون قرآ نًا [مخلوقًا] ليس هو كلام الله.
وقد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله تعالى، وإن كان مسموعًا عن المبلِّغ عنه، فإنَّ الكلام قد يُسمع من المتكلِّم به، كما سمعه موسى بلا واسطة [ق 64] هذا سماع مطلق، كما يرى الشيء رؤيةً مطلقةً. وقد يسمعه مِن المبلِّغ عنه، فيكون قد سمعه سماعًا مقيدًا، كما يرى الشيء [في] (3) الماء والمرآة رؤيةً مقيَّدةً لا مطلقة، ولما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 62] كان معلومًا عند جميع من خُوطب بالقرآن أنه يُسمع سماعًا مقيدًا من المبلغ، ليس المراد به أنه يسمع من الله كما سمعه موسى بن عمران، فهذا المعنى هو الذي عليه السلف والأئمة.
_________
(1) أخرجه مسلم (35) بنحوه مطولًا، وعند البخاري (9) بلفظ «بضع وستون شعبة .. » من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو كذلك في (ف).
(2) الأصل: «مخلوقة».
(3) من (ف).

(7/77)


ثم بعد ذلك حدث أقوال أخر، فظن طائفةٌ أنه سمع من الله. ثم (1) من هؤلاء من قال: إنه يسمع صوت القارئ من الله، ومنهم من قال: إن صوت الرب حَلَّ في العبد، ومنهم من يقول: ظهر فيه ولم يحل فيه، ومنهم من يقول: لا نقول ظهر ولا حل، ثم منهم من يقول: الصوتُ المسموع غير مخلوق أو قديم، ومنهم من يقول: يسمع منه صوتان: مخلوق، وغير مخلوق. ومن القائلين بأنه مسموع من الله من يقول: بأنه يسمع المعنى القديم القائم بذات الله مع سماع الصوت المُحْدَث، قال هؤلاء: يسمع القديم والمحدث، كما قال أولئك: يسمع صوتين قديمًا ومحدثًا. وطائفة أخرى قالت: لم يسمع الناسُ كلام الله، لا من الله ولا من غيره، قالوا: لأن الكلام لا يُسمع إلا من المتكلم. ثم من هؤلاء من قال: يسمع حكايته، ومنهم من قال: يسمع عبارته لا حكايته، ومن القائلين بأنه مخلوق من قال: يُسمع شيئان الكلام المخلوق الذي (2) خلقه، والصوت الذي للعبد.
وهذه الأقوال كلها مبتدعةٌ؛ لم يقل السلف شيئًا منها، وكلها باطلة شرعًا وعقلًا، ولكن ألجأ أصحابَها إليها اشتراكٌ في الألفاظ واشتباه في المعاني، فإنه إذا قيل: سمعتُ [كلام] زيدٍ، أو قيل: هذا كلام زيد، فإن هذا يقال على كلامه الذي تكلم هو به بلفظه ومعناه، سواء كان مسموعًا
_________
(1) «كما سمعه موسى … ثم» سقط من (ف).
(2) (ف): «والذي».

(7/78)


منه أو من المبلغ عنه، مع العلم بالفرق بين الحالين، وأنه إذا سُمِع منه سُمع بصوته، وإذا سُمع من غيره سُمع من ذلك المبلِّغ لا بصوت المتكلم، وإن كان اللفظ لفظ المتكلم.
وقد يقال مع [ق 65] القرينة: هذا كلام فلان، وإن ترجم عنه بلفظ آخر، كما حكى الله كلامَ من يحكي قولَه من الأمم باللسان العربي، وإن كانوا إنما قالوا بلفظٍ عِبْري (1) أو سُرياني أو قبطي أو غير ذلك. وهذه الأمور مبسوطة في موضعٍ آخر.
والمقصود أنه نشأ (2) بين أهل السنة والحديث نزاع في مسألتي الإيمان والقرآن بسبب (3) ألفاظ مجملة ومعاني متشابهة. وطائفة من أهل العلم والسنة كالبخاري صاحب «الصحيح»، ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما قالوا: الإيمان مخلوق. وليس مرادهم شيئًا من صفات الله تعالى، وإنما مرادهم بذلك أفعال العباد. وقد اتفق أئمة السنة (4) على أن أفعال العباد مخلوقة، وأصوات العباد مخلوقة، وقال يحيى بن سعيد القطان: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة.
_________
(1) الأصل: «عربي» خطأ.
(2) تحتمل: «فشا». وانظر ما سبق (ص 76).
(3) العبارة في الأصل: «في أنها ليست ألفاظ»، والتصويب من (ف)، وانظر ما سبق قبل أسطر من قوله: «ولكن ألجأ أصحابها إليها اشتراك في الألفاظ واشتباه في المعاني».
(4) (ف): «المسلمين».

(7/79)


وصار بعضُ الناس يظنّ أنّ البخاريّ وهؤلاء خالفوا أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة، وجرى للبخاريّ محنة بسبب ذلك، حتى زعم بعض الكذّابين أنّ البخاري لما مات أمر أحمد بن حنبل أن لا يُصلى عليه، وهذا كذبٌ ظاهر؛ فإنّ البخاري ــ رحمه الله ــ مات بعد أحمد بن حنبل ــ رحمه الله ــ بنحو خمس (1) عشرة سنة، تُوفي أحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين، وتُوفي البخاري سنة ست وخمسين ومائتين، وكان أحمد بن حنبل يحبّ البخاري ويبجّله ويعظّمه، وأما تعظيم البخاري وأمثاله الإمامَ أحمد فهو أمر مشهور.
ولما صنف البخاريّ كتابه في «خلق أفعال العباد» ــ وذكر في آخر كتابه «الصحيح» (2) أبوابًا في هذا المعنى ــ ذكر (3) أن كلًّا من الطائفتين القائلين بأن لفظنا بالقرآن مخلوق، والقائلين بأنه غير مخلوق ينتسبون (4) إلى الإمام أحمد بن حنبل، ويدَّعون أنهم على قوله، وكلام الطائفتين كلام مَنْ لم يفهم [دِقّة] (5) كلام أحمد رضوان الله عليه.
_________
(1) الأصل: «خمسة».
(2) انظر الأرقام (7485 – 7515). والعبارة في (ف): «وذكر في آخر الكتاب».
(3) يعني في كتاب «خلق أفعال العباد» (ص 62).
(4) الأصل: «والقائلون … » والصواب ما أثبت. وفي الأصل: «يستنسبون»، و (ف): «ينسبون» وما أثبته أقرب.
(5) الأصل: «تفهم ذرة من كلام» تحريف. والمثبت من كتاب البخاري و (ف).

(7/80)


وطائفة أخرى كأبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي (1) بكر بن الطيب، والقاضي أبي يعلى ــ وغيرهم ممن يقولون: إنهم على اعتقاد أحمد بن حنبل وأئمة أهل السنة والحديث ــ قالوا: أحمد [ق 66] وغيره إنما كرهوا أن يقال: لفظت بالقرآن؛ لأن اللفظ هو الطرح والنبذ.
وطائفةٌ أخرى كأبي محمد بن حزم وغيره ممن يقول: إنه متبع لأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة [إلى غير هؤلاء ممن ينتسب إلى السنة ومذهب] (2) أئمة الحديث، ويقولون: إنهم على اعتقاد أحمد بن حنبل ونحوه من أهل السنة، وهم لم يعرفوا حقيقة ما كان يقوله أهل السنة كأحمد بن حنبل. وقد بسطنا أقوال السلف والأئمة كأحمد بن حنبل وغيره في غير هذا الموضع.
خلا (3) البخاري وأمثاله، فإنَّ هؤلاء من أعرف الناس بقول أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة.
وقد رأيت طائفة تنتسب إلى السنة والحديث كأبي نصر السِّجْزي وأمثاله ممن يردّون على أبي عبد الله البخاري يقولون: إن أحمد بن حنبل كان يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق. وذكروا روايات كاذبة لا
_________
(1) الأصل: «أبو». وكذا في الموضع الثاني.
(2) العبارة في الأصل: «ممن ينتسب إلى السنة، وإلى مذهب أئمة السنة كأحمد بن حنبل وغيره من أمثاله، وقد بسطنا أقوال السلف وأئمة أهل .. ». وفيها خلط وتكرار، وما بين المعكوفين من (ف) لعله يستقيم به السياق وإن بقي فيه بعض ذلك.
(3) كذا، و (ف): «وأما».

(7/81)


ريب فيها، والقول المتواتر عن أحمد بن حنبل من رواية ابنيه صالح وعبد الله، وحنبل، والمرُّوذي، وفُوْرَان (1)، ومن لا يُحصى= يبين أن أحمد كان ينكر على هؤلاء [وهؤلاء]، وقد صنّف أبو بكر المرُّوذي في ذلك مصنفًا، ذكر فيه قول أحمد بن حنبل وغيره من أئمة العلم، وقد ذكر ذلك الخلال في كتاب «السنة» (2)، وذكر بعضَه أبو عبد الله بن بطّة في كتاب «الإبانة» (3) وغيره، وقد ذكر كثيرًا من ذلك أبو عبد الله بن منده فيما صنفه في مسألة اللفظ (4).
وقال أبو محمد بن قتيبة الدينوري (5): لم يختلف أهل الحديث في شيء من اعتقادهم إلا في مسألة اللفظ. ثم ذكر ابن قتيبة ــ رحمه الله ــ أن اللفظ يراد به مصدر لفَظَ يلفظ، فاللفظ الذي هو فعل العبد يُرَاد (6) به نفس الكلام الذي هو فعل العبد وصوته وهو مخلوق، وأما نفس كلام الله الذي يتكلم به العباد فليس مخلوقًا.
وكذلك مسألة الإيمان لم يقل قط أحمد بن حنبل: إن الإيمان غير
_________
(1) هو: عبد الله بن محمد بن المهاجر عرف بـ (فوران) أبو محمد، كان من خواص أصحاب أحمد (ت 256). انظر «طبقات الحنابلة»: (2/ 42).
(2) (5/ 125 – 145).
(3) «الإبانة – الرد على الجهمية»: (1/ 329 وما بعدها – ت الوابل).
(4) المسمى: الرد على اللفظية. لم يعثر عليه بعد.
(5) في «الاختلاف في اللفظ» (ص 11، 43 وما بعدها).
(6) العبارة في (ف): «لفظ يلفظ لفظًا، ويراد … ».

(7/82)


مخلوق، ولا قال: إنه قديم، بل ولا [ق 67] قال أحمد ولا غيره من السلف: إن القرآن قديم، وإنما قالوا: القرآن كلام الله منزَّل غير مخلوق. ولا قال قطُّ أحمد بن حنبل ولا أحد من السلف: إن شيئًا من صفات العبد وأفعاله غير مخلوقة، لا صوته بالقرآن، ولا لفظه بالقرآن، ولا إيمانه ولا صلاته، ولا شيء من ذلك.
ولكن المتأخرون انقسموا في هذا الباب انقسامًا كثيرًا، فالذين كانوا يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، منهم من أطلق القول بأن الإيمان غير مخلوق، ومنهم من يقول: قديم في هذا وهذا، ومنهم من يفرق بين الأقوال الإيمانية والأفعال، فيقولون: الأقوال غير مخلوقة أو قديمة، وأفعال (1) الإيمان مخلوقة. ومنهم من يقول في أفعال الإيمان: إن المحرَّم منها مخلوق، وأما الطاعة كالصلاة وغيرها، فمنهم من يقول: هي غير مخلوقة، ومنهم من يمسك [فلا يقول هي مخلوقة ولا غير مخلوقة، ومنهم من يمسك] (2) عن الأفعال المحرمة، ومنهم من يقول: بل أفعال العباد كلها غير مخلوقة أو قديمة، ويقول: ليس مرادي بالأفعال الحركات (3)، بل مرادي الثواب الذي يجيء يوم القيامة، ويحتجّ هذا بأن القدر غير مخلوق، والشرع غير مخلوق، ويجعل أفعال
_________
(1) الأصل: «وفعال» والمثبت من (ف).
(2) من (ف).
(3) رسمها في الأصل: «المركبات» والمثبت من (ف).

(7/83)


العباد هي القدر والشرع، ولا يفرق بين القدر والمقدور، والشرع والمُشَرَّع، فإنّ الشرع (1) الذي هو أمْرُ الله (2) ونهيه غير مخلوقٍ، وأما الأفعال المأمور بها والمنهي عنها فلا ريب أنها مخلوقة، وكذلك قَدَر الله الذي هو علمه ومشيئته وكلامه غير مخلوق، وأما المقدَّرات والآجال والأرزاق والأعمال فكلها مخلوقة. وقد بُسِط الكلام على هذه الأقوال وقائليها في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن نبين أن الإمام أحمد ومَن قَبله من أئمة السنة ومن اتبعه كلهم بريئون من الأقوال المبتدعة المخالفة للشرع والعقل، فلم يقل أحدٌ منهم إن القرآن قديم، لا معنى قائم بالذات، ولا أنه تكلم به في القِدَم بحرفٍ وصوتٍ قديمين، ولا تكلم به في القدم بحرفٍ قديم. لم يقل أحد [ق 68] منهم لا هذا ولا هذا، وإنما الذي اتفقوا عليه: أن كلام الله منزَّل غير مخلوق، وأنَّ الله لم يزل متكلِّمًا إذا شاء، فكلام الله لا نهايةَ له، وهو بمعنى أنه لم يزل متكلمًا بمشيئته، لا بمعنى أن الصوت المعين قديم، كما قا ل تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] الآية، كما قد بَسَطتُ الكلامَ (3) على
_________
(1) «فإن الشرع» تكررت في الأصل.
(2) بعده في الأصل «به» خطأ.
(3) العبارة في (ف) بعد الآية: «وهو قديم بمعنى أنه لم يزل الله متكلمًا بمشيئته لا بمعنى أن الصوت المعين قديم، كما بسطت … ». وانظر المجلد الثاني عشر من «مجموع الفتاوى- القرآن كلام الله».

(7/84)


اختلاف أهل الأرض في كلام الله.
فمنهم من يجعله فيضًا من العقل الفعَّال في النفوس، كقول طائفة من الصابئة والفلاسفة، وهو أفسد الأقوال. ومنهم من يقول: هو مخلوق خَلَقه بائنًا (1) عنه، كقول الجهمية والنجَّارية (2) والمعتزلة. ومنهم من يقول: هو معنى قديم قائم بالذات، كقول ابن كُلَّاب الأشعري. ومنهم من يقول: هو حروف وأصوات قديمة كقول ابن سالم (3) [وطائفة. ومنهم من يقول: تكلم بعد أن لم يكن متكلمًا، كقول ابن كرَّام وطائفة] (4).
والصواب من هذه الأقوال قول السلف والأئمة كما قد بسطتُ ألفاظهم في غير هذا الموضع.
ولما ظهرت المحنة كان أهل السنة يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. وكانت الجهمية من المعتزلة وغيرهم يقولون: إنه مخلوق.
وكان أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب القطان له فضيلة ومعرفة ردّ [بها] على الجهمية والمعتزلة نُفاة الصفات، وبيَّن أنّ الله نفسَه فوق
_________
(1) غير محررة في الأصل.
(2) الأصل: «البخارية» تحريف. والنجارية نسبةً إلى الحسين بن محمد النجّار، وهي إحدى فرق الجبرية. انظر «اختلاف الإسلاميين» (ص 135 ــ 136).
(3) يعني: أبا الحسن بن سالم، وهو من تنسب إليه طائفة السّالمية، انظر «مجموع الفتاوى»: (5/ 483).
(4) ما بين المعكوفين ليس في الأصل، والاستدراك من (ف).

(7/85)


العرش، وبَسَط الكلام في ذلك، ولم يتخلص من شبهة الجهمية كلّ التخليص، بل ظنّ أن الربّ لا يتصف بالأمور الاختيارية التي تتعلق [بقدرته ومشيئته، فلا يتكلم] (1) بمشيئته وقدرته، ولا يحب العبد ويرضى عنه بعد إيمانه وطاعته، ولا يغضب عليه ويسخط بعد كفره ومعصيته، بل ما زال (2) محبًّا راضيًا أو غضبان ساخطًا على من علم أنه يموت مؤمنًا أو كافرًا، ولا يتكلم بكلام بعد كلام، وقد قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [آل عمران: 59 ــ 60]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] [ق 69] وقال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4]، وهذا أصل كبير قد بُسط الكلامُ عليه في غير هذا الموضع.
وإنما المقصود هنا التنبيه على مآخذ (3) اختلاف المسلمين في مثل
_________
(1) ما بين المعكوفين من (ف).
(2) «ما زال» سقطت من (ف).
(3) رسمها في الأصل: «ما أخذ».

(7/86)


هذه المسائل، وإذا عُرِف ذلك فالواجب أن نُثبت ما أثبته الكتاب والسنة، وننفي ما نفاه الكتاب والسنة، واللفظ المجمل الذي لم يَرِد به الكتاب والسنة لا يطلق في النفي والإثبات حتى يبين المراد به.
كما إذا قال القائل (1): الرب متحيِّز، أو غير متحيِّزٍ، أو هو في جهة، أو هو في غير جهة.
قيل: هذه ألفاظ مجملة لم يَرِد بها الكتاب والسنة لا نفيًا ولا إثباتًا، ولا نطق أحدٌ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان بإثباتها ولا نفيها. فإن كان مرادك بقولك: إنه متحيّز، أنه محيط به شيءٌ من المخلوقات أو يفتقر إليها، فالله تعالى غنيٌّ عن كلّ شيء لا يفتقر إلى العرش ولا إلى غيره من المخلوقات (2)، بل هو بقدرته يحمل العرشَ وحَمَلَتَه، وكذلك هو العليّ الأعلى الكبير العظيم الذي لا تُدركه الأبصارُ وهو يدرك الأبصارَ، وهو سبحانه أكبر من كل شيءٍ، وليس متحيزًا (3) بهذا الاعتبار.
وإن كان مرادك بأنه بائن عن مخلوقاته، عليٌّ عليها فوق (4) سماواته على عرشه، فهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، كما ذكر ذلك أئمة السنة، مثل عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل،
_________
(1) العبارة مكررة في الأصل.
(2) «أو يفتقر … المخلوقات» سقط من (ف).
(3) الأصل: «متحيزٌ».
(4) تكررت في الأصل.

(7/87)


وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أعلام الإسلام، وكما دلّ على ذلك صحيح المنقول وصريح المعقول، كما هو مبسوط في موضعٍ آخر.
وكذلك لفظ «الجهة» إن أراد بالجهة أمرًا موجودًا (1) يحيط بالخالق أو يفتقرُ إليه، فكلّ موجود سوى الله فهو مخلوق لله، [و] الله خالق كل شيء، وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو غني عن كل ما سواه.
وإن كان [ق 70] مراده أن الله ــ سبحانه ــ فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، فهذا معنى صحيح، سواء عبَّر عنه بلفظ الجهة أو بغير لفظ الجهة.
وكذلك لفظ «الجبر» إذا قال: هذا (2) العبد مجبورٌ، أو غير مجبورٍ؟ قيل له: إن أردت بالجبر أنه ليس له مشيئة، أو ليس له قدرة، أو ليس له فعل= فهذا باطل، فإن العبد فاعل لأفعاله الاختيارية، وهو يفعلها بقدرته ومشيئته. وإن أراد بالجبر أن الله خالق مشيئته وقدرته وفعله (3)، فالله خالق ذلك كله.
وكذلك إذا قال: الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ قيل له: ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئًا من صفات الله وكلامه كقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 16] وإيمانه الذي دلّ عليه اسمه «المؤمن»، فهذا غير مخلوق، أو
_________
(1) الأصل: «أمرٌ موجود».
(2) (ف): «هل».
(3) يعني مشيئة العبد وقدرته وفعله.

(7/88)


تريد به شيئًا من أفعال العباد وصفاتهم؟ فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد (1) الُمحْدَث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة، ولا يقول هذا من يتصوَّر ما يقول. فإذا حصل الاستفسار والتفصيل (2) ظهر الهدى وبان السبيل، وقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء (3) من جهه اشتراك الأسماء.
ومثل هذه المسألة وأمثالها مما كثر فيه نزاع الناس بالنفي والإثبات إذا فصّل (4) فيها الخطاب ظهر فيها الخطأ من الصواب. والواجب على الخلق: أن ما أثبته الكتاب والسنة النبوية أثبتوه، وما نفاه الكتاب والسنة نفوه، ومالم ينطق به الكتاب والسنة لا بنفي (5) ولا إثباتٍ فصَّلوا القولَ فيه، واستثبتوا القائل (6)، فمن أثبت ما أثبته الله ورسوله فقد أصاب، ومن نفى ما نفاه الله ورسولُه فقد أصاب، ومن أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته فقد لَبَس الحق بالباطل، فيجب أن يفصّل ما في كلامه من حقٍّ وباطل (7)، فيتبع الحقَّ ويترك الباطل.
_________
(1) تكررت في الأصل.
(2) الكلمتان غير محررتين في الأصل، رسمهما: «الاسنتشار والتعفول».
(3) كتبت أولًا «العلماء» ثم عدلت.
(4) الأصل: «حصل» والتصحيح من (ف).
(5) الأصل: «بلا نفي».
(6) (ف): «استفصلوا فيه قول».
(7) في الأصل بعده: «الوريقة أولها». وانظر التعليق السالف قبل صفحات.

(7/89)


وكلّ ما خالف الكتاب والسنة فإنه مخالف أيضًا لصريح المعقول، فإنّ العقل الصريح لا يخالف شيئًا من النقل الصحيح، كما أن المنقول الثابت [ق 71] عن الأنبياء لا يخالف بعضُ ذلك بعضًا، ولكن كثير من الناس يظنّ تناقض ذلك، وهؤلاء من الذين اختلفوا في الكتاب {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].
ونسأل الله العظيم أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا.
فصل

* وأما السؤال عن الإمام إذا استقبل القبلة في الصلاة هل يجوز لأحد أن يتقدم عليه؟ وهل تبطل صلاة الذين يتقدمون إمامهم؟
والجواب: إن السنة للمؤتمّين أن يقفوا خلف الإمام مع الإمكان، كما كان المسلمون يصلّون خلفَ النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، وإذا صلى الإمام بواحد أقامه عن يمينه، كما فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – بابن عباس لما قام يصلي معه بالليل، فوقف عن يساره، فأداره عن يمينه، وحديثه في «الصحيحين» (1). وكذلك في الصحيح ــ مسلم (2) ــ من حديث جابر: أنه أوقفه عن يمينه،
_________
(1) أخرجه البخاري (117)، ومسلم (763). ووقع في الأصل: «وجدته في .. » والصواب ما أثبت.
(2) (3010). وأخشى أن تكون «مسلم» مقحمة.

(7/90)


فلما جاء جبّار (1) بن صخر أوقفهما جميعًا خلفه، فلهذا كانت السنة إذا كان المأمومون اثنين فصاعدًا يقفوا خلفه. وإن وقف بين الاثنين جاز؛ كما وقف ابن مسعود بين (2) علقمة والأسود وقال: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – فعل كذلك (3).
وقد قيل: إنما ذاك لأن أحدهما كان صبيًّا.
وأما الوقوف قدام الإمام [ففي صلاة المأموم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها تصح مطلقًا، وإن قيل إنها تكره] (4) فهذا هو المشهور في مذهب مالك، والقول القديم للشافعي.
والثاني: لا تصح الصلاة مطلقًا، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي في الجديد، وهو المشهور من مذهب أحمد عند كثيرٍ من أصحابنا، على ما نقل عنه من إطلاق القول، ولكن نصوصه تدلُّ على الفرق كما سنذكره.
والثالث: أنه إن تقدم لحاجةٍ صحت الصلاة وإلا فلا، وهذا مذهب كثيرٍ من أهل العلم، وهو قول في مذهب أحمد. وأهل هذا [ق 72] القول يقولون: إذا لم يمكن الصلاةُ خلفه لزحمةٍ أو غيرها ــ كما قد يحصل في
_________
(1) الأصل: «جابر» خطأ.
(2) الأصل: «بن» خطأ.
(3) أخرجه مسلم (534).
(4) سقط من الأصل، والإكمال من سياق قريب في «الفتاوى»: (23/ 404).

(7/91)


الجُمَع في بعض الأوقات، وكما قد يحصل في الجامع أحيانًا ــ فالصلاة أمامه جائزة، وقد نصَّ أحمد على ما مضت (1) به السنة في حديث أم ورقة الأنصارية (2): أن المرأة تؤمّ الرجال عند الحاجة، كقيام رمضان إذا كانت تقرأ وَهُم لا يقرؤون، وتقف خلفهم لأن المرأة لا تقف في صفّ الرجال ولا (3) تكون أمامهم، فنصَّ على أنّ المأمومين في هذا الموضع يكونون قدّام الإمام كما جاء في الحديث، وذلك لئلا تكون المرأة في صفّ الرجال أو تكون أمامهم، فهنا كان تقدم المأموم على الإمام أولى في الشرع من تقدم النساء على الرجال أو مصافة المرأة للرجال.
مع أنه سُئل عن المرأة إذا وقفت في صفِّ الرجال هل تبطل صلاة الرجال الذين يحاذونها؟ فتوقَّف في ذلك (4). ومسائل التوقف تخرَّج على وجهين.
_________
(1) رسمها في الأصل: «نصت، أونطقت» ولعل الصواب ما أثبت.
(2) أخرجه أحمد (27283) أبو داود (591)، وابن خزيمة (1676)، والدارقطني: (1/ 279)، والحاكم: (1/ 203)، والبيهقي: (3/ 130). وفي إسناده عبد الرحمن ابن خلاد وفيه جهالة. وانظر «البدر المنير»: (4/ 389 ــ 393).
(3) الأصل: «فلا».
(4) ذكر المسألة عن الإمام ابناه: صالح كما في «الانتصار»: (2/ 397) لأبي الخطاب، وعبد الله كما في «مسائله»: (2/ 378)، وانظر «الفروع»: (2/ 27)، و «الإنصاف»: (2/ 286). أفاده (العمير).

(7/92)


وتنازع أصحابه في ذلك فقالت طائفة ببطلان الصلاة كمذهب أبي حنيفة، وهو قول أبي بكر وأبي حفص، وقالت طائفة: لا تبطل، كمذهب الشافعي، وهو قول أبي حامد والقاضي وأتباعه. وهذا التفريق بين حالٍ وحالٍ.
وجواز التقدّم على الإمام للحاجة هو أظهر الأقوال، فإن جميع واجبات الصلاة تسقط عند العجز وتصلَّى بدونها، وكذلك ما يُشترط للجماعة يسقط بالعجز ويُصلّى بدونه، كصلاة الخوف التي (1) صلاها النبي – صلى الله عليه وسلم – في جماعةٍ، والتزم لأجل الجماعة أمورًا لا تجوز لغير الحاجة، مثل تخلّف الصف الثاني عن متابعته كما في صلاة عُسْفان (2). ومثل (3) مفارقة الطائفة الأولى له قبل سلامه، وانتظار (4) الطائفة الثانية القعود، كما في صلاة (5) ذات الرِّقاع (6). ومثل استدبار القبلة والعمل الكثير، كما في حديث ابن عمر (7) [ق 73]. إلى أمثال ذلك.
_________
(1) الأصل: «الذي».
(2) أخرجه البخاري (4131)، ومسلم (841) من حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه.
(3) الأصل: «صقل».
(4) جملة «ومثل … وانتظار» تكررت في الأصل.
(5) الأصل: «الصلاة».
(6) أخرجه البخاري (4129)، ومسلم (842).
(7) أخرجه البخاري (942)، ومسلم (839).

(7/93)


ومن ذلك المسبوق يقعد لأجل متابعة الإمام مما لو فعله منفردًا بطلت صلاته، مثل كونه إذا رآه ساجدًا أو منتصبًا دخل معه، ومثل كونه يتشهد في أول صلاته دخل معه، فدل على أنه يجوز لأجل الجماعة ما لا يجوز بدون ذلك، ومع هذا فوقوف المأموم عن يسار الإمام للحاجة، ووقوفه وحده خلف الصف للحاجة أحقّ بالجواز من تقدُّمه على الإمام للحاجة.
وبهذا تأتَلِف (1) النصوصُ جميعها، وعلى ذلك تدلّ أصول الشريعة، فإن جميع واجبات الصلاة من الطهارة بالماء، واستقبال الكعبة، وستر العورة، واجتناب النجاسة، وقراءة القرآن، وتكميل الركوع والسجود، وغير ذلك= إذا عَجَز عنه المصلي سقط، وكانت صلاته بدون هذا الواجب خيرًا من تأخير الصلاة عن وقتها فضلًا عن تركها، فكذلك الجماعة متى لم تكن إلا بترك واجباتها سقط ذلك الواجب، وكانت الجماعة مع ترك ذلك الواجب خيرًا من تفويتها وصلاة الرجل وحده.
ولهذا كان مذهب أحمد وغيره أنهم مع قولهم بالمنع من [الصلاة] (2) خلف الفاسق والمبتدع، يأمرون بأن يُصلى خلفه ما يتعذَّر صلاته خلفَ غيره كالجمعة والعيدين وطواف الحج، ونحو ذلك من الجُمَع والجماعات، التي أنْ تُصلّى خلف ذلك الفاسق والمبتدع
_________
(1) الأصل: «تلف» خطأ.
(2) الأصل: «أنه لا» ولعل الصواب ما أثبت.

(7/94)


خيرٌ (1) من أن يصلي الرجلُ وحدَه.
وهذه سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسنة خلفائه الراشدين، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يُؤمّر الأمير ثم يتبيّن له فيما بعد أنه كان مذنبًا فيعزله، ولا يأمر المسلمين أن يعيدوا ما صلوه خلفه، كما أمَّر أميرًا فلم ينفذ أمره فقال: «ما منعكم أن تنفذوا أمري أو أن تولوا من ينفذ أمري» (2). وإصراره على ترك تنفيذ (3) أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – يقدح في دينه، ولم [ق 74] يأمرهم بإعادة ما صلوه خلفه. وقد أمَّر الذي أمَر أصحابه بدخول النار فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لو دخلوها لما خرجوا منها» (4) ولم يأمرهم بإعادة ما صلوا. والوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط ولّاه فأنزل الله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] لما أخبره بمنع الذين أرسله إليهم بمنع الصدقة (5). هذا إن كان معه جماعة يصلي بهم.
وقد أخبر عن الأمراء الذين يكونون بعده أنهم يستأثرون ويظلمون الناس، وأنهم يمنعون الناسَ حقوقَهم ويطلبون حقَّهم، ومع هذا فنهى
_________
(1) العبارة في الأصل: «التي إن لم تصلى … خيرًا» ولعل صوابها ما أثبت.
(2) لم أجده.
(3) الأصل: «شرك يتقيد».
(4) أخرجه البخاري (4340)، ومسلم (1840) من حديث علي رضي الله عنه.
(5) أخرجه أحمد (18459)، والبخاري في «الأوسط»: (1/ 609 ــ 610) وغيرهما من حديث الحارث الخزاعي رضي الله عنه. وجوَّد إسناده السيوطي في «الدر المنثور»: (6/ 91)، وله شواهد يتقوى بها.

(7/95)


عن قتالهم وأمر بالصلاة خلفهم من غير إعادة (1)، حتى إن من كان منهم يؤخِّر الصلاة عن وقتها أمر المسلمين أن يصلوا الصلاة لوقتها، ويصلوا خلفهم ويجعلوها نافلة (2). فلم يأمر بالثانية لنقض الأولى لكن لتحصيل الجماعة والنهي عن الفرقة.
وقد صلى أصحابه ــ كابن عمر وغيره ــ خَلْف الحجاج بن يوسف، وخلف الخوارج، وخلف المختار ابن أبي عُبيد، وأمثال هؤلاء من أهل البدع والفجور، ولم يُعِد أحدٌ من الصحابة خلفهم، مع أنه قد ثبت في «صحيح مسلم» (3) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «سيكون في ثقيف كذّاب ومُبِير». فالكذاب هو المختار، والمبير هو الحجاج، وقد صلى الصحابة خلف هذا وهذا، ولم يأمر أحدٌ من الصحابة بالإعادة.
وقد سنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – للمسلمين الاصطفاف في الصلاة وأمر بإقامة الصف، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاةَ لمن خلفَ الصَّف» (4)، ورأى رجلًا يصلي وحده خلف الصف، فأمره أن يعيد الصلاة (5)، ومع هذا
_________
(1) انظر معناه فيما أخرجه مسلم (1846) من حديث وائل بن حجر، و (1854) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(2) أخرجه مسلم (648) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(3) (2545).
(4) أخرجه أحمد (16297)، وابن خزيمة (1569)، وابن حبان (2202) من حديث علي بن شيبان رضي الله عنه. حسَّنه الإمام أحمد. نقله في «البدر المنير»: (4/ 474).
(5) أخرجه أحمد (18000)، وأبو داود (682)، والترمذي (448)، وابن ماجه (1004) من حديث وابصة رضي الله عنه. قوّاه أحمد وإسحاق، وضعَّفه ابن عبد البر. وانظر «البدر المنير»: (4/ 472 ــ 474).

(7/96)


فصلى بأنسٍ مرةً والصبي اليتيم والمرأة خلفهما (1)، فجعل المرأة وحدَها صفًّا لأجل الحاجة، إذ كانت السنة في حقِّها أن لا تقف مع الرجال، والإمام يقف وحده لأجل الإمامة؛ فمن سوَّى بين الإمام والمرأة، وبين الرجل المؤتمّ في الانفراد فقد [ق 75] خالف السنة، ومن جعل وقوف الفذّ لا يجوز بحال فقد خالف السنة، فعُلِم أن الاصطفاف مأمورٌ به، ونَهْيه (2) عن وقوف الرجل وحده مأمورٌ به مع القدرة، وأما مع الحاجة فوقوف (3) الإنسان وحده خير له من أن يدع الجماعة، ونظائر هذا كثيرة، والله أعلم.
فصل

*في قتل الهوام في الصلاة؟
فالجواب: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بقتل الأسودين في الصلاة: الحيَّة والعقرب (4).
_________
(1) أخرجه البخاري (380)، ومسلم (658) من حديث أنس رضي الله عنه. ووقع في الأصل: «مرة بالصبي».
(2) الأصل: «أمر به ونهى» ولعل وجه العبارة ما أثبت، وانظر «مجموع الفتاوى»: (20/ 558 ــ 559).
(3) الأصل: «بوقوف».
(4) أخرجه أحمد (7178)، وأبو داود (921)، والترمذي (390)، والنسائي (3/ 10)، وابن ماجه (1245)، وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن خزيمة (869)، وابن حبان (2351)، والحاكم: (1/ 256).

(7/97)


وقد قال أحمد وغيره: يجوز له أن يذهب إلى النعل فيأخذه ويقتل به الحية والعقرب، ثم يعيده إلى مكانه. وكذلك سائر ما يحتاج إليه المصلي من الأفعال، مثل ما ثبت في «الصحيحين» (1): أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلى على منبره بالناس، فكان يقوم عليه ويركع، ثم ينزل يسجد بالأرض، ثم يصعد يقوم عليه ليراه الناس ليتعلموا صلاته.
ومثل ما ثبت في «الصحيح» (2): أنه كان يصلي وهو حاملٌ أُمامة. ومثل ما ثبت عنه أنه تَقَهْقر في صلاة الكسوف وتقهقرت الصفوف معه، وأنه مَدَّ يده يتناول شيئًا (3). ومثل ما ثبت عنه في «الصحيح» (4): أنه أمر بردِّ المارِّ في الصلاة، وقال: «فإن أبى فليقاتله؛ فإن معه القرين». ومثل ما ثبت عنه أنه قال: «إن الشيطان تغلب عليَّ البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأخذته فَذَعتُّه حتى سال لُعابه على يدي، وأردت أن أربطه إلى سارية المسجد، فذكرتُ دعوةَ أخي سليمان» (5). ومثل ما مشى حتى فتح
_________
(1) أخرجه البخاري (917)، ومسلم (544) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (516)، ومسلم (543) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري (1046)، ومسلم (901) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) أخرجه مسلم (506) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(5) أخرجه البخاري (461)، ومسلم (541) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7/98)


الباب لعائشة (1).
ومثل ما قال لابن مسعود: «إذنك عليَّ أن يُرْفع الحجاب (2) وأن تسمع لسوادي حتى أنهاك» رواية (3) مسلم.
فهذه السنن تدل على جواز ما يحتاج إليه المصلي من الأفعال التي ليست من جنس عمل الصلاة، لكن أُبيحت في الصلاة للحاجة، ولا تقطع الصلاة. وكان أبو برزة معه فرسه ــ وهو يصلي ــ كلما خطا يخطو معه خَشْية أن يتقدمه (4). وقال أحمد: إن [ق 76] فعل كما فعل أبو برزة فلا بأس. وظاهر مذهب أحمد وغيره أن هذا لا يقدَّر بثلاث خطوات ولا ثلاث فعلات، كما مضت (5) به السُّنة. ومن قيده بثلاث ــ كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد ــ فإنما ذاك إذا كانت متصلة، فإذا كانت متفرقة فيجوز وإن كانت زائدة على ثلاث، إذا لم يتصل أكثر من ثلاث، والله أعلم.
_________
(1) أخرجه أحمد (25503)، وأبو داود (922)، والترمذي (601)، والنسائي (3/ 11)، وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها. قال الترمذي: حسن غريب. وصححه ابن حبان (2351)، وأعله أبو حاتم الرازي بالنكارة. انظر «العلل» (467).
(2) الأصل: «المحاب»!.
(3) الأصل: «أنها كروية»! والحديث في مسلم (2169).
(4) غير محررة وتحتمل: «يتقدم». والحديث عند البخاري (1211).
(5) رسمها في الأصل: «نصت».

(7/99)


فصل
* وأما السؤال عن سماع الغناء؟
فالجواب: أن سماع الغناء والدفوف والشبابات وما يُذْكر معه، كإخراج اللاذن ودخول النار ومؤاخاة النساء يُسأل عنه على وجهين:
أحدهما: هل هو قُرْبة وطاعة وطريق إلى الله شَرَع سلوكَه لأولياء الله المتقين وعباده الصالحين وجنده الغالبين أم لا؟
والثاني: إذا لم يكن قُربة فهل هو حلالٌ أم حرام؟
والمسألة الأولى أهم وأنفع وأظهر من الثانية؛ فإن الذين يجتمعون على ذلك من المشايخ وأتباعهم المنتسبين إلى الدين والفقر والزهد وسلوك طريق الله، لا يعدّون ذلك من باب اللعب واللهو وتضييع الزمان فيما لا ينفع، كما يلهو بعض العامة في الأفراح والغناء وغيره، بل هو عندهم طريقٌ للقوم المشار إليهم بالدين، ومنهاجٌ لأهل الزهد والعبادة وأهل السلوك والإرادة، وذوي القلوب من الرجال أهل المقامات والأحوال، فإنما يفعلونه قاصدين به (1) صلاح القلوب، والدخول في زمرة أهل الوجد والرزق والمشروب (2)، وتحريك وجد أهل المحبة بالمحبوب، إلى أمثال ذلك مما يطول وصفه. ويحصل لهم فيه أنواعٌ
_________
(1) رسمها: «له». ولعل صوابه ما أثبت.
(2) كذا العبارة في الأصل.

(7/100)


من الأحوال العجيبة والموارد الغريبة، ما يعرفه من الرجال أهل المعرفة بهذا الحال.
فمنهم من يصعدُ في الهواء، ومنهم من يبقى راقصًا في الهواء، ومنهم من يصير ذاهبًا وجائيًا على الماء، ومنهم من يُؤتى بشراب يسقيه للفتى أو غيره من الجلساء، أو بزيت (1) فيوقد به المصباح بعد مقاربة الانطفاء. ومنهم من يخاطب بعض الحاضرين بلسان الأعجمي، ويكاشفه السرّ (2) الخفي، وإذا أفاق لم يَدْر ما قال كالمصروع بالجني [ق 77]. ومنهم من يشير إليه، ومنهم من يسلب بعضُ المنكرين عليه قلبه ولسانه حتى لا يستطيع قراءةً ولا دعاءً ولا ذكرًا، وقد يمسك لسانه فلا يستطيع أن يقول لا عُرفًا ولا نكرًا. ومنهم من يباشر النار بلا دهنٍ ولا حجرٍ طلق ولا غير ذلك من أمور الطبيعة، بل يبقى بالنار تتأجَّج في يديه وثيابه. ومنهم من يأتيه زعفران ولاذن من حيثُ لا يدري، وقد يأخذ بيده حصاةً فتُسْلَت من يده ويجعل مكانها سكَّرة، إلى أمثال هذه العجائب التي يطول وصفها، التي يظنها من لا يعرف حقيقةً وأنها من كرامات الأولياء الصالحين، وأنها دالة على ولاية صاحبها من الأدلة والبراهين.
وقد بُسط الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع، لكن نذكر
_________
(1) رسمها: «يرثر». والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) الأصل: «سر».

(7/101)


هنا ما يليق بهذا الجواب، فنقول: يجب أن يُعرف أصلان عظيمان:
أحدهما: أنه لا طريق إلى الله يوصل إلى ولايته وكرامته ومحبته ورضوانه إلا بمتابعته (1) رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] الآية. وفي «صحيح البخاري» (2) عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «[إن الله قال]: من عادى لي وليًّا فقد (3) آذنته بالمحاربة، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يُبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن، يكره الموتَ وأنا أكره مساءته، ولا بُدَّ له منه».
فالطرق التي بعث الله بها رسولَه هي التقرّبُ إلى الله بالفرائض،
_________
(1) كذا في الأصل وضبط «رسولَ» بالفتح.
(2) (6502). وما بين المعكوفين منه. عدا قوله: «فبي يسمع … وبي يمشي» فليست في البخاري، وإنما ذكرها الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول»: (1/ 265، 382) بلا إسناد. وقد عزاها المصنف في مواضع من كتبه إلى رواية البخاري، وبيَّن في مواضع أن هذه الرواية في غير الصحيح، انظر «مجموع الفتاوى»: (2/ 390)، (13/ 69).
(3) بعده: «بارزني».

(7/102)


وبعد الفرائض بالنوافل، لا يُتقرَّب إليه إلا بفعل واجبٍ [ق 78] أو مستحب، و [يستوي] (1) في ذلك الأمور الباطنة في القلوب والظاهرة للعيان، فحقائق الإيمان الباطنة في القلوب موافقة لشرائع الإسلام الظاهرة على الأبدان. وما ليس (2) بواجب ولا مستحبّ عند أحدٍ من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ ولا عند أئمة المسلمين المعروفين ولا مشايخ الدين المتقدمين، كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي وغيرهم، فليس في هؤلاء من حَضَر هذا السماع المُحْدَث ولا أمر به، بل هذا ظهر في الإسلام في أواخر المائة الثانية، فأنكره أئمة الدين، حتى قال فيه الشافعي: خلَّفتُ ببغداد شيئًا أحدثَتْه الزنادقة يسمونه التغبير، يصدّون به الناس عن القرآن (3).
والتغبير الذي ذكره الشافعي هو إنما كان أن يضربوا بقضيبٍ على جلدة كالمخدّة ونحوها، لم يكن بعدُ قد أظهروا الشبابات (4) الموصولة، والدفوف المصلصلة. ولما سئل الإمام أحمد عن هذا التغبير قال: إنه بدعة، ونهى عن الجلوس مع أهله فيه. وكذلك يزيد بن هارون وغيرهم من الأئمة (5).
_________
(1) الأصل: «وينبوا». ولعله ما أثبت.
(2) كذا في الأصل، ولعل هناك سقطًا.
(3) أخرجه الخلال في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (195).
(4) الأصل: «السببات».
(5) ذكره الخلال عنهما في «الأمر بالمعروف» (185 ــ 193، 196).

(7/103)


وحضره طائفة من المشايخ، لكن كان من الذين حضره من رجعوا عنه وتابوا منه، وأما الجُنيد فلم يَنقل أحدٌ قط أنه رقص في السماع ولا حضر سماع دفوف وشبابات، بل قد قيل: إنه حضر التغبير في أول عمره، ولم يكن يقوم فيه، وأنه في آخر عمره تركه. وكان يقول: من تكلّف السماع فُتِنَ به، ومن صادفه استراح به. يعني: أنه يسمع آيات تناسب حاله من محبة أو حزن أو خوف، وما سمعه الإنسان بغير اقتصاد منه فهذا لا يدخل تحت الأمر والنهي، كنظر الفجأة، وشم الرائحة بغير اشتمام، ولهذا لم يأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – ابن عمر أن يسدّ أذنه لما سمع زمَّارة راع (1)، وإن كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قام بسدِّ أذنيه، فإن السدَّ لم يكن واجبًا إذ ذاك؛ لأنه سماع لا استماع، وإنما فعل ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – بطريق الاستحباب، هذا على قول من يُثْبت الحديث، فإنَّ مِن أهل الحديث من قال: هو منكر كأبي داود وغيره.
والكلام في مسألة السماع كثيرٌ منتشر، وقد كُتب فيه في غير هذا الموضع مما لا يتسع هذا الموضع لإعادته (2)، وذُكِر فيه الكلام على من حضره منَّا ومن أهل الخير والدين والصدق، وأن لهم في ذلك من التأويلات ما لأمثالهم، فإنَّ المجتهدَ المخطئ يغفر الله له خطأه، ويثيبه
_________
(1) أخرجه أحمد (4535)، وأبو داود (4924)، وابن حبان (693) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) انظر «مجموع الفتاوى»: (11/ 557 ــ وما بعدها)، و «الاستقامة»: (1/ 216 ــ 421)، و «مسألة السماع» لابن القيم.

(7/104)


على حُسْن قصده وما يفعله من الطاعة. ومن استفرغ وُسْعه في طلب رضا الله فاتقى الله ما استطاع كان من عباد الله الصالحين، وإن كان قد أخطأ في بعض ما اجتهد فيه، كالذين استحلوا الدرهم بالدرهمين من السلف، والذين استحلوا متعة النساء منهم، والذين استحلوا بعض الأنواع المسكرة، والذين استحلوا القتال في «الجمل» و «صفين» و «الحَرّة» وفتنة ابن الأشعث وغير ذلك. ولما سُئل الإمام أحمد عن التغبير فقال: إنه مُحْدَث، ونهى عن حضوره، فقيل له عن أهله: أيهجرون؟ فقال: لا يبلغ بهم هذا كله.
فيجب بيان الحق الذي بعث الله به رسوله، وبيان (1) أنه لا حرام إلا ما حرّمه ولا دين إلا ما شرعه الله، وأن من اجتهد من أهل العلم والدين فحرّم أشياء بتأويله واجتهاده وهي مما حرمه الله، أو اتخذ دينًا باجتهاده ظن أنه من دين الله ولم يكن في نفس الأمر من دين الله، فله حكم أمثاله من أهل الاجتهاد، ويُعطى حقّه ويُثنى عليه بما فيه من العلم والدين، وإن (2) لم يجز اتباعه فيما أخطأ فيه وخالف فيه سنة الرسول مع اجتهاده وتأويله. فهذا أصلٌ.
والأصل الثاني: أن كرامات أولياء الله يكون سببها فعل ما أمر الله به ورسوله من الواجب والمستحب، ثم السابقون المقربون من الأولياء
_________
(1) الأصل: «وبيّن» ولعلها ما أثبت.
(2) الأصل: «وإن من لم».

(7/105)


المتبعون يستعملونها فيما يقرب إما حجة للدين، وإما حاجة للمسلمين، والمقتصدون (1) [ق 80] يستعملونها في أمور مباحة، وأما استعمالها فيما حرَّم الله ورسوله كالظلم والعدوان فمحرم (2).
وأما ما كان سببه بدعة، كالأحوال التي تحصل لأهل السماع البدعي، فهي أمور شيطانية يضلّ بها الشيطان أهلَ الجهل، ويغوي بها أهلَ الغي، وهذا وهذا يبطل بحقائق الإيمان، كقراءة آية الكرسي وغيره مما يطرد الشيطان، والله أعلم.
فصل

* وأما الدابة إذا ذُبحت والغَلْصَمة (3) مما يلي البدن هل يحل أكلها؟
فالجواب: أن العلماء قد تنازعوا هل شرط التذكية قطع الوَدْجَين والحلقوم والمريء، أو قطع ثلاثة منها، أو قطع اثنين فقط، وهل تجزئ التذكية إذا كان الحلقوم مع البدن وقطعت العنق من فوقه؟
والأظهر أنه لا يُشترط شيء من ذلك؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يشترط شيئًا من ذلك ولا أوجبه، بل قال في الحديث المتفق على صحته: «ما أنهرَ
_________
(1) غير محررة في الأصل.
(2) الأصل: «محرم».
(3) الغلصمة: رأس الحلقوم، وهو الموضع الناتئ في الحلق. «المصباح» (ص 171).

(7/106)


الدمَ وذُكِر اسم الله عليه فكُل، ليس السِّنَّ والظفر» (1). فإذا جرى الدمُ من العنق ومات الحيوان بذلك، وقد سمَّى عليه اللهَ أبيح، سواء كان القطع فوق الغلصمة أو دونها، وسواء قطع اثنين أو ثلاثة أو أربعة.
وتنازعوا أيضًا فيما أصابه سبب الموت كأكيلة السبع (2)، هل يشترط أن لا يتبين موتها بذلك السبب، أو أن تبقى معظم اليوم، أو أن تبقى فيها حياة مستقرة بقدر حياة المذبوح، أو أزْيَد من حياته، أو يمكن أن يزيد؟
والأظهر أنه لا يشترط شيء (3) من ذلك، بل متى خرج منها الدم الذي لا يخرج إلا من الحي أبيحت، وهو الدم الأحمر، بخلاف الميت فإن دمه يجمد ويسودّ، وأما الأحمر الجاري فلا يخرج إلا من مذبوح كانت فيه حياة، لا يخرج من ميت قبل الذبح، بل الميت إذا مات وذُبح لم يخرج منه دم أحمر، فهذا فرقٌ معروف بين الحي والميت، وقد دل عليه قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ما أنهر الدمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه» [ق 81] فاعْتَبَر الأداة (4) التي تُنْهرُ الدم، فَعُلِم أن المناطَ (5) إنهارُ الدم، وهو تفسير قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ولم يقل: ما فرى الأوداج، وما قطع
_________
(1) أخرجه البخاري (5498)، ومسلم (1968) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
(2) الأصل: «كالكلية للسبع» تحريف.
(3) الأصل: «شيئًا» خطأ.
(4) رسمها: «الأدلة».
(5) الأصل: «ألفاظ».

(7/107)


الحلقوم أو المريء، ولا غير ذلك، بل قال: «ما أنهر الدم»، ولو كان مع إنهار الدم يكون ميتًا لم يحلّ بذلك حتى يعلم أنه حيّ بدليل آخر.
والفروق التي ذكرها من تقدمت أقواله، ليس على شيءٍ منها دليل شرعي، ولا هو أيضًا وصف ثابت في نفس الأمر معلوم للناس، فإن في المذبوحات ما يتحرك بعد الموت حركةً عظيمة ويقوم ويمشي، وقد يقوم البدن بعد قطع الرأس يمسك قاتله، وقد يطير البدن بعد قطع رأسه إلى مكان آخر، فهذه حركات قوية، وهي (1) من ميت مذبوح، وقد يُذبَح النائم في منامه فتتغير حركته حتى يموت، وكذلك المغمَى عليه والسكران، فعُلِم أن الحركة لا تدل على الحياة الشرعية لا طردًا ولا عكسًا.
فصل

* وأما الصلاة في طريق الجامع والناس يصلون برَّا وهو طريق مسلوك خارجه هل تجوز؟
الجواب: أن الطريق المسلوك إذا اتصلت فيه الصفوف بالجامع، صحت صلاتهم باتفاق العلماء، وأما إذا لم تتصل الصفوف بل كان بينهم وبين الجامع طريق نافذ أو نهر تجري فيه السفن، فهذا فيه نزاع مشهور بين العلماء، والأظهر أن الطريق إذا لم يكن مسلوكًا وقت الصلاة أن الصلاة صحيحة؛ فإنه ليس في هذا إلا تباعد ما بين الصفين من غير اجتياز أحد بينهما وقت الصلاة.
_________
(1) الأصل: «وهو».

(7/108)


فصل (1)

* وأما تارك الصلاة من غير عذرٍ هل هو مسلم في تلك الحال؟
الجواب: أما تارك الصلاة، فهذا إذا لم يكن معتقدًا وجوبها فهو كافر بالنص والإجماع، لكن إذا أسلم ولم يعلم أن الله أوجب عليه الصلاة، أو أوجب بعض أركانها، مثل أن يصلي بلا وضوءٍ، ولا يعلم أن الله أوجب الوضوء، أو يصلي [ق 82] مع الجنابة ولا يعلم أن الله أوجب عليه غسل الجنابة، فهذا ليس بكافرٍ إذا لم تقم عليه الحجة، لكن إذا علم الوجوب هل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد ومالك وغيرهما، قيل: يجب عليه القضاء، وهو المشهور عن أصحاب الشافعي، وكثير من أصحاب أحمد.
وقيل: لا يجب عليه القضاء، وهذا هو الظاهر. [و] عن أحمد في هذا الأصل روايتان منصوصتان، فيمن صلى في معاطن الإبل، ولم يكن عَلِم النهي ثم عَلِم (2).
ومن صلى ولم يتوضأ من لحوم الإبل، ولم يكن علم النهي ثم علم، هل يعيد؟ على روايتين منصوصتين.
_________
(1) هذا السؤال في «مجموع الفتاوى»: (22/ 40 – 49). وتقدم سؤال نحو هذا (ص 22).
(2) في (ف): «ثم علم، هل يعيد؟ على روايتين … ».

(7/109)


وقيل: يجب عليه الإعادة إذا ترك الصلاة جاهلًا بوجوبها في دار الإسلام دون دار الحرب، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة.
والصائم إذا فعل ما يفطِّره جاهلًا بتحريم ذلك، فهل عليه الإعادة؟ على قولين هما وجهان في مذهب أحمد، وكذلك مَنْ فعل محظورَ الحجِّ جاهلًا.
وأصل هذا: أن حكم الخطاب هل يثبت في حقّ المكلَّف قبل أن يبلغه؟ فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل: يثبت، وقيل: لا يثبت، وقيل: يثبت المبتدأ دون الناسخ.
والأظهر أنه لا يجب قضاء شيء من ذلك، ولا يثبت الخطاب إلا بعد البلاغ؛ لقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ومثل هذا في القرآن متعدد، بيَّن سبحانه أنه لا يعاقب أحدًا حتى تُبَلّغه الرسل.
ومن علم أن محمدًا رسول الله، فآمن بذلك، ولم يعلم كثيرًا مما جاء به، لم يعذّبه الله على مالم يبلغه، فإنه إذا لم يعذِّبه على ترك الإيمان إلا بعد البلاغ، فأنْ (1) لا يعذبه على بعض شرائعه (2) إلا بعد البلاغ أولى وأحرى.
_________
(1) الأصل و (ف): «فإنه»، والصواب ما أثبت. وسقطت «إلا» من (ف).
(2) (ف): «شرائطه».

(7/110)


وهذه سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المستفيضة عنه في أمثال ذلك؛ فإنه قد ثبت في «الصحيح» (1) أن طائفةً [ق 83] من أصحابه ظنوا أنَّ قوله تعالى: {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] هو الحبل الأبيض من الحبل الأسود، فكان أحدهم يربط في رجله حبلًا ثم يأكل حتى يتبين هذا من هذا، فبين النبي – صلى الله عليه وسلم – أن المراد بياض النهار وسواد الليل، ولم يأمرهم بالإعادة.
وكذلك عمر بن الخطاب وعمار أجنبا، فلم يُصَلِّ عمر حتى أدرك الماء، وظنّ عمار أن التراب يصل إلى حيث يصل الماء، فتمرَّغ كما تتمرغ الدابة، ولم يأمر أحدًا منهما بالقضاء (2).
وكذلك أبو ذرٍّ بقي جُنبًا مدةً لم يصلِّ، ولم يأمره بالقضاء بل أُمِر بالتيمم في المستقبل (3).
وكذلك المُسْتحاضة قالت له: إني أُسْتَحاض حيضةً شديدة منعتني الصلاةَ والصومَ. فأمرها بالصلاة من دم الاستحاضة، ولم يأمرها بقضاء ما تركت قبل ذلك (4).
والله لما أمر باستقبال الكعبة كان من غاب من المسلمين يُصلون
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.

(7/111)


إلى بيت المقدس حتى بلغهم الخبر، ولم يأمرهم بالقضاء (1).
ولما حَرُم الكلام في الصلاة تكلّم معاوية بن الحكم السّلَمي في الصلاة بعد التحريم جاهلًا وقال له: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين» (2)، ولم يأمره بإعادة الصلاة.
ولما زِيْد في صلاة الحضر حين هاجر إلى المدينة كان من كان بعيدًا عنه ــ مثل من كان بمكة وبأرض الحبشة ــ يصلون ركعتين، ولم يأمرهم بإعادة الصلاة.
ولما فُرض شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ولم يبلغ الخبر إلى من كان في الحبشة من المسلمين حتى فات ذلك الشهر، ولم يأمرهم بإعادة الصيام.
وكان بعض الأنصار لما ذهبوا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – من المدينة إلى مكة قبل الهجرة، قد صلى إلى الكعبة معتقدًا جواز ذلك، قبل أن يُؤمروا باستقبال الكعبة ــ وكانوا حينئذٍ يستقبلون الشام ــ فلما ذكر ذلك للنبي صلى [ق 84] الله عليه وسلم، أمر باستقبال الشام، ولم يأمر بإعادة ما كان صلى.
وثبت عنه في «الصحيحين» (3): أنه سُئل ــ وهو بالجِعْرانة ــ عن
_________
(1) ما تركت قبل … بالقضاء» سقط من (ف).
(2) أخرجه مسلم (537).
(3) البخاري (1536)، ومسلم (1180) من حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه.

(7/112)


رجل أحرم بالعمرة عليه جُبَّة وهو متضمِّخ بالخَلُوق، فلما نزل عليه الوحي قال له: «انزع عنك الجبّة، واغسل عنك أثر الخَلُوق، واصنع في عمرتك ما كنت صانعًا في حجك». وهذا قد فعل محظور الحج جاهلًا، وهو لُبْس الجبَّة، ولم يأمره النبي – صلى الله عليه وسلم – عن (1) ذلك بدمٍ، ولو فعل ذلك مع العلم لزمه دم (2).
وثبت عنه في «الصحيحين» (3) أنه قال للأعرابي المسيء في صلاته: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصل» مرتين أو ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أُحْسِن غير هذا فعلمني ما يجزيني في الصلاة. فعلمه الصلاة المجزئة، ولم يأمره [بإعادة ما صلى قبل ذلك، مع قوله: «ما أُحْسِن غير هذا». وإنما أمره] (4) أن يعيد تلك الصلاة؛ لأن وقتها باق، [فهو مخاطَب بها، والتي صلاها لم تبرأ بها الذمة ووقت الصلاة باق].
ومعلوم أنه لو بلغ صبيٌّ أو أسلم كافرٌ أو طهرت حائض أو أفاق مجنون والوقت باق؛ لزمتهم الصلاة أداءً لا قضاءً، وإن كان بعد خروج الوقت فلا إعادة (5) عليهم، فهذا المسيء الجاهل إذا علم وجوب
_________
(1) (ف): «على».
(2) هذا التعبير جارٍ على لسان الفقهاء، وإلا فالأصل أنه مخيَّر بين الصيام والإطعام والدم.
(3) تقدم تخريجه (ص 13).
(4) ما بين المعكوفين هنا وما بعده من (ف).
(5) (ف): «إثم».

(7/113)


الطمأنينة في أثناء الوقت، فوجبت عليه الطمأنينة حينئذٍ، ولم تجب عليه قبل ذلك، فلهذا أمره بالطمأنينة في الصلاة ذلك الوقت دون ما قبلها.
وكذلك أمره لمن صلّى خلف الصفِّ أن يعيد (1)، ولمن ترك لمعة مِن قدمه أن يعيد الوضوء والصلاة (2).
وقوله له أولًا: «صل فإنك لم تصل» بيَّن أن ما فعله لم يكن صلاةً، ولكن لم يعرف أنه كان جاهلًا بوجوب الطمأنينة، فلهذا أمره بالإعادة ابتداءً، ثم علَّمَه إياها لما قال: والذي بعثكَ بالحق لا أُحسن غير هذا.
فهذه نصوصه – صلى الله عليه وسلم – في محظورات الصلاة والصيام والحج مع الجهل، وفي ترك واجباتها مع الجهل.
وأما أمْرُه لمن صلى خلف الصف أن يعيد؛ فذلك لأنه لم يأت بالواجب مع بقاء الوقت. فثبت [ق 85] الوجوب في حقّه حين أمره النبي – صلى الله عليه وسلم – لبقاء وقت الوجوب، لم يأمره بذلك بعد مضيّ الوقت.
وأما أمْرُه لمن ترك لمعةً من رجله لم يصبها الماء بالإعادة؛ فلأنه كان ناسيًا، فلم يفعل الواجب، كمن (3) نسيَ الصلاة وكان الوقت باقيًا، فإنها قضيّة معيّنة لشخصٍ بعينه، لا يمكن أن تكون في الوقت وبعد الوقت، بمعنى أنه رأى في رِجْل رَجُلِ لمعةً لم يصبها الماءُ، فأمره أن
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) الأصل: «فمن» والمثبت من (ف).

(7/114)


يعيد الوضوء والصلاة (1).
وأما قوله: «ويل للأعقاب من النار» (2) ونحوه، فإنما يدل على وجوب تكميل الوضوء، ليس في ذلك أمر (3) بإعادة شيء.
ومن كان يعتقد أن الصلاة تسقط عن العارفين، أو المشايخ الواصلين، أو عن بعض أتباعهم، أو أن الشيخ يصلي عنهم، أو أن لله عبادًا سقطت عنهم الصلاة، كما يوجد كثيرٌ من ذلك في كثير من المنتسبين إلى الفقر والزهد، وأتباع بعض المشايخ، ودعوى (4) المعرفة، فهؤلاء يُستتابون باتفاق الأئمة، فإن أقروا بالوجوب وإلا قتلوا، وإذا أصروا على جحد الوجوب حتى قُتِلوا، كانوا مرتدين، ومن تاب منهم وصلى لم يكن عليه إعادة ما ترك قبل ذلك في أظهر قولَي العلماء، فإن هؤلاء إما أن يكونوا مرتدين وإما [أن] يكونوا مسلمين جاهلين بالوجوب.
_________
(1) بعده في الأصل و (ف): «رواه أبو داود، وقال أحمد بن حنبل: حديث جيد». ويغلب على الظن أنها مقحمة، فالسياق لا يناسبها، فربما رآها الناسخ في الهامش فأقحمها.
(2) أخرجه البخاري (60)، ومسلم (241) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(3) الأصل: «أمرًا».
(4) (ف): «المشايخ والمعرفة».

(7/115)


فإن قيل: (1) [إنهم مرتدون عن الإسلام، فالمرتد إذا أسلم لا يقضي ما تركه حال الرِّدة عند جمهور العلماء، كما لا يقضي الكافر إذ ا أسلم ما ترك حال الكفر باتفاق العلماء، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه، والأخرى يقضي المرتد، كقول الشافعي، والأول أظهر.
فإنّ الذين ارتدوا على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كالحارث بن قيس، وطائفة معه أنزل الله فيهم: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86] الآية، والتي بعدها، وكعبد الله بن أبي سرح، والذين خرجوا مع الكفار يوم بدر، وأنزل فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] فهؤلاء عادوا إلى الإسلام.
وعبد الله بن أبي سرح عاد إلى الإسلام عام الفتح، وبايعه النبي – صلى الله عليه وسلم – (2). ولم يأمر أحدًا منهم بإعادة ما ترك حال الكفر في الردة، كما لم يكن يأمر سائر الكفار إذا أسلموا. وقد ارتد في حياته خلق كثير اتبعوا الأسود
_________
(1) بعده في الأصل: «إنهم كانوا مرتدين عن دين الإسلام، والمرتدّ لا يكون إلا كافرًا، والله أعلم» وبه انتهت الرسالة في الأصل، وبقية الرسالة بين معكوفين من (ف).
(2) أخرجه أبو داود (2685)، والنسائي (4067)، والحاكم: (3/ 47) وصححه على شرط مسلم، والبيهقي: (7/ 40) من حديث مصعب بن سعد عن أبيه.

(7/116)


العنسي الذي تنبَّأ بصنعاء اليمن، ثم قتله الله، وعاد أولئك إلى الإسلام، ولم يؤمروا بالإعادة. وتنبَّأ مسليمة الكذاب، واتبعه خلق كثير، قاتلهم الصديق والصحابة بعد موته حتى أعادوا من بقي منهم إلى الإسلام، ولم يأمر أحدًا منهم بالقضاء، وكذلك سائر المرتدين بعد موته.
وكان أكثر البوادي قد ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام، ولم يأمر أحدًا منهم بقضاء ما ترك من الصلاة. وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] يتناول كلَّ كافر.
وإن قيل: إن هؤلاء لم يكونوا مرتدين، بل جهالًا بالوجوب، وقد تقدّم أنّ الأظهر في حقّ هؤلاء أنهم يستأنفون الصلاةَ على الوجه المأمور، ولا قضاء عليهم. فهذا حكم من تركها غير معتقدٍ لوجوبها.
وأما من اعتقد وجوبَها مع إصراره على الترك: فقد ذكر عليه المفرِّعون من الفقهاء فروعًا:
أحدها: هذا يُقْتَل (1) عند جمهورهم ــ مالك والشافعي وأحمد ــ وإذا صبر حتى يُقتل فهل يُقتل كافرًا مرتدًّا، أو فاسقًا كفسَّاق المسلمين؟ على قولين مشهورين، حُكيا روايتين عن أحمد.
وهذه الفروع لم تنقل عن الصحابة، وهي فروع فاسدة، فإن كان مقرًّا بالصلاة في الباطن، معتقدًا لوجوبها، يمتنع أن يصرَّ على تركها
_________
(1) (ف): «فقيل» ولعل الصواب ما أثبت.

(7/117)


حتى يقتل وهو لا يصلي، هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم؛ ولهذا لم يقع هذا قط في الإسلام، ولا يُعرف أن أحدًا يعتقد وجوبها، ويقال له: إن لم تصل وإلا (1) قتلناك، وهو يصرّ على تركها، مع إقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قط في الإسلام.
ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يُقتل، لم يكن في الباطن مقرًّا بوجوبها، ولا ملتزمًا بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة؛ كقوله – صلى الله عليه وسلم -: «ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة» رواه مسلم (2). وقوله: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر» (3).
وقول عبد الله بن شقيق: «كان أصحاب محمد لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة» (4). فمن كان مصرًّا على تركها حتى
_________
(1) بحذف «وإلا» يستقيم السياق، وهذا أسلوب درج عليه المؤلف، وسيأتي نحوه في عدة مواضع.
(2) (82) من حديث جابر رضي الله عنه بنحوه.
(3) أخرجه أحمد (22937)، والترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وابن حبان (1454)، وغيرهم من حديث بريدة رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه الحاكم، وقال المصنف في «الفتاوى»: (7/ 613): هو ثابت. وصححه على شرط مسلم في «شرح العمدة ــ الصلاة» (ص 74).
(4) أخرجه الترمذي (2622). قال ابن الملقن: بإسنادٍ رجاله رجال الصحيح. «البدر المنير»: (5/ 398).

(7/118)


يموت لا يسجد لله سجدة قط، فهذا لا يكون قطُّ مسلمًا مقرًّا بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب، واعتقاد أن تاركها يستحق القتل، هذا داعٍ تام إلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإذا كان قادرًا ولم يفعل قط، عُلِم أن الداعي في حقّه لم يوجد، والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل، لكن هذا قد يعارضه أحيانًا أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها، وتفويتها أحيانًا.
فأما من كان مُصرًّا على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك، فهذا لا يكون مسلمًا؛ لكن أكثر الناس (1) يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في «السنن»: حديث عبادة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «خمسُ صلوات كتبهنَّ الله على العباد في اليوم والليلة، من حافظ عليهنّ كان له عهدٌ عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهنّ لم يكن له عهد عند الله، إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له» (2).
فالمحافظ عليها: الذي يصليها في مواقيتها، كما أمر الله تعالى. والذي (3) يؤخِّرها أحيانًا عن وقتها، أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة
_________
(1) يعني: التاركين للصلاة.
(2) أخرجه أحمد (22693)، وأبو داود (1420)، والنسائي (461)، وابن ماجه (1401)، وابن حبان (1732)، وغيرهم. والحديث صححه ابن عبد البر وابن حبان وابن الملقن. انظر «البدر المنير»: (5/ 389 ــ 392).
(3) (ف): «والذي ليس … » والصواب حذف «ليس» ليستقيم السياق.

(7/119)


الله تعالى، وقد يكون لهذا نوافل يكمِّل بها فرائضه، كما جاء في الحديث] (1).
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (2).
_________
(1) آخر الاستدراك من (ف) وأوله (ص 116).
(2) جاء في آخر نسخة الأصل: «وكتب في سادس عشرين (كذا) ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، على يد الفقير محمد بن عيسى بن أبي الفضل الشافعي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين».

(7/120)


القَرَمانية
[ق 53] جواب فُتيا في لبس النبي – صلى الله عليه وسلم –

(7/121)


الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
ربّ أَعِن يا كريم
ما يقول أئمة الدين علماء المسلمين في رجلين تكلّما في لبس رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وفي آلته، وفي آلة حَرْبه، مثل: الحياصة التي تُحزم في الوسط، والسيف، والتركاش ــ وهي الكنانة ــ والقوس، والنُّشّاب، والجِمال، والبغال، والخيل، والغنم.
وملابسه من القِماش مثل: الجَوشن، والخفّ، والمِهماز، وغيره من آلة الحرب، هل كان يتخذ ذلك؟ وهل كان يجمع من ذلك شيئًا كثيرًا؟ وفي لبَاسِهِ (1) أصحابه أيضًا، وما يُباح ويحرُم من ذلك، من الذهب والفضة والحرير؟
الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
الحمد لله ربّ العالمين.
كان النبيّ – صلى الله عليه وسلم – يتّخذ السيفَ، والرّمحَ، والقوسَ، والكِنانةَ، التي هي الجُعبة (2) للنُّشّاب، وهي من جلود.
وكان يلبس على رأسه البيضة ــ التي هي الخُوذة ــ، والمِغْفَر. وعلى بدنه الدِّرْع، التي يقال لها: السّرديّة والزّرديّة.
_________
(1) كذا ضبطها في الأصل، وكتب فوقها “صح” فيما بدا لي، أو لعلها تضبيب.
(2) كان بعدها كلمة “من” لكن يظهر أنها مضروب عليها.

(7/123)


ويلبس القميصَ، والجُبّة، والفَرُّوج، الذي هو نحو القَبَاء (1)، والفَرَجيّة، ولبس القَباء أيضًا.
ولبس في السفر جُبّة ضيّقة الكُمّين، ولبس الإزار والرداء، واشترى رِجْل سروايل، وكانوا يلبسون السراويلات أيضًا بإذنه.
وكان يلبس الخُفّين ويمسح عليهما، ويلبس النِّعال التي تسمّى: التواسم.
وكان يركب الخيل والإبل والحمير، وركب البغلة أيضًا، وكان يركب الفرس تارة عُرْيًا، وتارة مُسْرَجًا، ويطرده، وكان يُرْدِف خلفَه، [ق 54] وتارة يردف خلفَه وقُدّامه، فيكونون ثلاثة على دابّة.
وكان يتّخذ الغنم أيضًا.
وكان له الرقيق أيضًا.
ولم يكن يجتمع في ملكه في الوقت الواحد من هذه الأمور شيء كثير، بل لمَّا مات لم يكن عنده من ذلك إلا شيء يسير. خَلّف درعَه وكانت مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسْقًا من شعيرٍ ابتاعها لأهله.
وفي “صحيح البخاري” (2) عن عَمْرو بن الحارث ــ خَتَن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخي جُوَيريَة بنت الحارث ــ قال: “ما ترك رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
_________
(1) وفيه شقّ من خلفه. “تاج العروس” (فرج). وسيأتي نقله من كلام البخاري في الصحيح.
(2) (4461).

(7/124)


عند موته دينارًا ولا درهمًا، ولا عبدًا ولا أمةً، ولا شيئًا إلا بغلتَه البيضاء، وسلاحَه، وأرضًا جَعَلها صدقة”.
وفي “صحيح مسلم” (1) عن عائشة قالت: “ما ترك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دينارًا ولا درهمًا، ولا شاةً، ولا بعيرًا، ولا أوصى بشيء”.
وعن ابن عباس: أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مات ودِرْعه رَهْنٌ عند يهوديّ بثلاثين ــ وروي: بعشرين ــ صاعًا من شعير، أخذه لأهله.
رواه أهل السنن (2)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وفي “الصحيحين” (3) عن عائشة: أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اشترى من يهوديٍّ طعامًا إلى أجل، ورَهَنَه دِرْعًا له من حديد.
وكذلك في “البخاري” (4) عن أنس بن مالك قال: قد رَهَن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – درعَه بشعير.
فهذه الأحاديث تبيّن أنّه حين الموت لم يكن عنده خيل، ولا إبل، ولا غَنَم، ولا رقيق، وإنما ترك البغلةَ والسِّلاحَ، وبعضُ السلاح مرهون، ولكن مَلَك هذه الأمور في أوقات متفرِّقة.
_________
(1) (1635).
(2) أخرجه الترمذي (1214) ولفظه: “بعشرين صاعًا”، والنسائي (4651)، وابن ماجه (2439). وأخرجه أيضًا البخاري (2916، 4467)، وأحمد (25998) وغيرهما.
(3) أخرجه البخاري (2068)، ومسلم (1603).
(4) (2508).

(7/125)


والمعروف أنّه كان يكون عنده الواحد من ذلك، فيكون له فرس واحدٌ، وناقةٌ واحدةٌ.
ولم يملك من البغال إلا بغلة واحدة، أهداها له بعض الملوك (1). ولم تكن البغال مشهورة بأرض العرب. بل لمَّا أُهْديت له البغلة، قيل له: ألا نُنْزِي الخيلَ على الحُمُر؟ فقال: “إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون” (2).
وكذلك آلات السّلاح، كالسّيف والرّمح والقوس، لم يُذْكَر عنه أنه كان يقتني لنفسه أكثر من واحد.
وأما الغنم؛ فقد رُوِيَ أنه اقتنى مئة شاة، وقال: “إنّ لنا مئة شاة، لا نريد أن تزيد، فكلما ولَّدَ الراعي بهمةً ذبحنا مكانها أخرى” (3).
وقد ذكر الله تعالى آلات الحرب في كتابه، فقال في “السيف”: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]. وقال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [العنكبوت: 61]. وهذا الضرب للأعناق وبنان الأصابع هو بالسيف.
_________
(1) هو مَلِك أيْلة كما في “صحيح البخاري” (1481).
(2) أخرجه أحمد (785)، وابن أبي شيبة (34389)، وأبو داود (2565)، النسائي (3580)، وابن حبان (4682) وغيرهم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وإسناده صحيح.
(3) أخرجه أحمد (16384)، وأبو داود (143)، وابن حبان (1045)، والحاكم: (4/ 110) وصحح إسناده، والبيهقي: (7/ 303). وغيرهم من حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه.

(7/126)


وقال في القوس والنُّشّاب: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [العنكبوت: 61]. وفي “صحيح مسلم” (1) عن عُقبة ابن عامر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قرأ على المنبر: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} ثم قال: “ألا إنَّ القُوّة الرمي، ألا إنّ القوَّة الرمي، ألا إنّ القوَّة الرّمي”.
وفي “صحيح مسلم” عنه أيضًا أنه قال: “ارموا واركبوا، وأن ترموا أحبّ إليَّ من أن تركبوا، ومن تعلَّم الرمي ثمَّ [ق 55] نسيه فليس منّا”. وفي رواية: “فهي نعمة جَحَدها” (2).
_________
(1) (1917).
(2) ساق المؤلف هذا اللفظ مساق حديثٍ واحد، وهما حديثان: فالشطر الأول: “ارموا واركبوا، وأن ترموا أحبّ إليَّ من أن تركبوا” أخرجه أحمد (17300)، وأبو داود (2513)، والترمذي (1637)، والنسائي (3578)، وابن ماجه (1811)، والحاكم: (2/ 95) وغيرهم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. وفي سنده اختلاف، والحديث قال فيه الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. والشطر الثاني: “ومن تعلَّم الرمي ثمَّ نسيه فليس منّا” أخرجه مسلم (1919) من حديث عقبة أيضًا.
وقوله: وفي رواية: “فهي نعمة جَحَدها” جزء من حديث عقبة المتقدم في “السنن” لكن بلفظ: “فإنها نعمة تركها أو قال: كَفَرَها”. ولفظ المؤلف جاء من حديث أبي هريرة أخرجه الطبراني في “الصغير”: (1/ 197)، والخطيب في “تاريخ بغداد”: (7/ 452) وغيرهم. قال أبو حاتم الرازي في “العلل” (939): هذا حديث منكر.

(7/127)


وكذلك الرّماح، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [العنكبوت: 61]. قد فُسِّرت بالرّماح المتّصلة باليد، وفُسِّرت بالنُّشّاب أيضًا.
وكذلك الدّرع، قال تعالى في قصّة داود: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80].
وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 10 – 11]. فكان الحديد في يده بمنزلة العجين (1).
والسّابغات: هي الدّروع الكاملة التي تكون لها أيدي وأفخاذ.
وقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81].
وقد جاء ذِكر هذه الأمور في الأحاديث عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – مُفرَّقًا.
فأما السيف؛ ففي “الصحيحين” (2) عن أنس قال: كان النبيّ – صلى الله عليه وسلم –
_________
(1) أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس، وابن أبي حاتم عن الحسن، كما في “الدر المنثور”: (5/ 427).
(2) أخرجه البخاري (6033)، ومسلم (2307).

(7/128)


أحسن النّاس، وأشجع النّاس، وأجود النّاس. ولقد فَزِعَ أهلُ المدينة فَزَعًا، فخرجوا نحو الصّوت، فاستقبلهم النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، وقد استبرأ الخبر، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ، وفي عنقه السّيف، وهو يقول: “لم تُراعوا، لم تُراعوا”. ثم قال: “إن وجدناه لبحرًا”. أو قال: “إنه لبحر”.
وعن ابن عباس: أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تنفَّل سيفَه “ذا الفِقَار” يومَ بدر. رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي (1). وقال: “حديث حسن” (2).
وأما ما يذكره بعض النّاس أنّ “ذا الفِقَار” كان سيفًا مُنزَّلًا من السماء، وأنه كان لعليٍّ، وكان يطول إذا قاتل به= فكلُّ هذا كذب باتفاق أهل المعرفة بهذه الأمور (3).
وكذلك ما يذكره بعضُ الناس من أنه كان للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – سبعة أسياف= لا أصل له (4).
_________
(1) أحمد (2445)، والترمذي (1561)، وابن ماجه (2808). وأخرجه الحاكم: (2/ 141) وصححه.
(2) في مطبوعة الترمذي، و “البدر المنير”: (7/ 458): حسن غريب.
(3) انظر “منهاج السنة”: (5/ 38، 8/ 73) للمصنف.
(4) الظاهر أن المصنف ينفي أنه اجتمعت للنبي – صلى الله عليه وسلم – سبعة أسياف في وقت واحد، لا أنه قد ملك في مجموع عمره سبعة أو تسعة أسياف. وقد ذكر غير واحد أسماءَ سيوف النبي – صلى الله عليه وسلم – وأنها تسعة. انظر “خلاصة السيرة” (ص 174) للمحب الطبري، و”المختصر” (ص 79) لابن جماعة، و”زاد المعاد”: (1/ 130).

(7/129)


وأما الرمح؛ فقال البخاري في “صحيحه” (1): ويُذْكَر عن ابن عمر عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “جُعِل رِزْقي تحت ظلِّ رُمْحي، وجُعِل الذّلّةُ والصَّغَار على من خالف أمري”.
رواه الإمام أحمد في “مسنده” (2) عن ابن عمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “بُعِثْت بين يدي السّاعة بالسّيف حتى يُعْبَد الله تبارك وتعالى وحدَه لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظلِّ رُمحي، وجُعِل الذِّلّة والصّغَار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم”.
روى أبو داود بعضَه.
وقد روى الطبراني في “معجمه” (3) حديثًا جامعًا في أسماء آلاته عن
_________
(1) قبل حديث (2914).
(2) رقم (5114). وأخرجه أبو داود (4031) مختصرًا كما ذكر المصنف، وابن أبي شيبة (19747)، والطحاوي في “شرح المشكل” (231) وغيرهم من طريق عبد الرحمن بن ثوبان، عن حسّان بن عطية، عن أبي مُنِيب الجُرَشي عن ابن عمر به. وفيه ابن ثوبان مختلَفٌ فيه، ومدار الحديث عليه. والحديث احتجَّ به الإمام أحمد، وجوَّده المصنف في “الاقتضاء”: (1/ 269)، وقال الذهبي في “السير”: (15/ 509): إسناده صالح. وصححه العراقي في” تخريج الإحياء”: (1/ 217)، وحسنه ابن حجر في “الفتح”: (10/ 282). لكن ضعف سنده السخاوي في “المقاصد”: (ص 407) من أجل ابن ثوبان، ومال إلى تقويته بشواهده، فله شواهد من حديث حذيفة وأبي هريرة وأنس، ومن مرسل طاووس. والمرسل حسَّنه الحافظ في “الفتح”: (6/ 116)، و”التغليق”: (3/ 446).
(3) “الكبير”: (11/ 111). قال ابن كثير في “البداية والنهاية”: (8/ 381): “هذا غريب جدًّا”. أقول: وفي سنده علي بن عروة، متهم بالوضع. وانظر “مجمع الزوائد”: (5/ 325 – 326)، و”السلسلة الضعيفة” (4225).

(7/130)


ابن عباس قال: “كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – سيفٌ قائمته فضّة، وقَبِيعته من فضّة، وكان يسمّى: ذا الفِقَار، وكان له قوس يسمّى: السَّداد، وكانت له كِنانة تسمى: الجمع، وكانت له درع موشَّحة بالنّحاس تسمّى: ذات الفضول، وكانت له حربة تسمى: النبعاء، وكان له مِجَنّ يسمى: الدقن (1)، وكان له تُرْس أبيض يسمى: الموجز، وكان له فرس أدهم يُسمى: السَّكَب، وكان له سَرْج يسمى: الراح (2)، وكانت له بغلة شهباء [ق 56] يقال لها: دُلْدُل، وكانت له ناقة تسمى: القَصْواء، وكان له حِمَار يسمّى: يعفور، وكان له بساط يسمى: الكرد (3)، وكانت له عَنَزَة تسمى: النمر، وكانت له ركوة (4) تسمى: الصادر، وكانت له مِرْآة تسمى: المرآة، وكان له مِقْراض يسمى: الجامع، وكان له قضيبُ شَوحَطٍ يسمى: الموت (5) “.
_________
(1) كذا في الأصل و”الزاد ــ مخطوط”، وعند الطبراني وابن كثير: “الذقن”، وفي “المجمع”: “الدفن”.
(2) كذا في الأصل و”الزاد ــ مخطوط”. وفي الطبراني وابن كثير: “الداج”. وفي “المجمع”: “الداح” ..
(3) كذا في الأصل و”الزاد ــ مخطوط”. وفي الطبراني والمجمع وابن كثير: “الكر”.
(4) الأصل: “زكوة”.
(5) كذا في الأصل و”الزاد ــ مخطوط”. وفي الطبراني: “المشوق”، وفي المجمع وابن كثير: “الممشوق”.

(7/131)


وفي “صحيح البخاري” (1) عن ابن عباس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (2) يوم بدر وهو في قبة: “اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعْبَد بعد اليوم”.
فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حَسْبُك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك، وهو في الدِّرْع، فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 45 – 46].
وروى أهل السنن: “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ظاهَرَ يوم أُحدٍ بين دِرْعَين” (3).
وفي “الصحيحين” (4) عن سهل بن سعد (5): أنه سُئل عن جُرْح النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم أحد؟ فقال: جُرِحَ وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وكُسِرت رَباعيته، وهُشِمَت البيضة على رأسه. فكانت فاطمة بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تغسل الدم، وكان عليّ بن أبي طالب يسكُب عليها بالمِجنّ. فلما رأت فاطمة أنّ الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعةَ حصير، فأحرقته حتى صار
_________
(1) (2915).
(2) تكررت في الأصل.
(3) أخرجه أحمد (15722)، وأبو داود (2590)، والنسائي في “الكبرى” (8529)، والبيهقي: (9/ 46) وغيرهم من حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه. قال البوصيري في “مصباح الزجاجة”: (2/ 115): “هذا إسناد صحيح رجاله ثقات على شرط البخاري”.
(4) أخرجه البخاري (2911)، ومسلم (1790).
(5) الأصل: “أسعد” خطأ.

(7/132)


رمادًا، ثم ألصقته بالجرح فاسْتَمْسك الدّم”. أخرجاه في “الصحيحين”.
وعن أنس بن مالك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل عام الفتح وعلى رأسه المغْفَر، فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خَطَل متعلِّق بأستار الكعبة، فقال: “اقتلوه”. أخرجاه في “الصحيحين” (1).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان أحبّ الثياب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القميص. رواه أهل السنن (2)، وقال الترمذي: “حديث حسن” (3).
وروى أهل السنن أيضًا عن أسماء بنت يزيد قالت: كان يدُ كُمّ قميص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى الرُّسْغ (4). قال الترمذي: “حديث حسن” (5).
وفي “الصحيحين” (6) وغيرهما عن المِسْوَر بن مَخْرَمة رضي الله عنه أنه قال: “قَسَم رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – أقْبِيةً، ولم يُعط مخرمة شيئًا. قال
_________
(1) أخرجه البخاري (1846)، ومسلم (1357).
(2) أخرجه أحمد (26695)، وأبو داود (4025)، والترمذي (1762)، وابن ماجه (3575)، والحاكم: (4/ 192) وغيرهم. قال الحاكم: صحيح الإسناد.
(3) في المطبوعة، و”تحفة الأشراف”: (13/ 14): “حسن غريب، إنما نعرفه من حديث عبد المؤمن تفرد به”.
(4) أخرجه أبو داود (4027)، والترمذي (1765)، والنسائي “الكبرى” (9587)، وإسحاق بن راهويه في “مسنده” (2284). وفي سنده شهر بن حوشب، مختلف فيه.
(5) في المطبوعة، و”تحفة الأشراف”: (11/ 264): “حسن غريب”.
(6) أخرجه البخاري (2599)، ومسلم (1058).

(7/133)


مخرمة: يا بُني انطلق بنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فانطلقت معه. قال: ادخل فادعه لي. قال: فدعوته، فخرج إليه وعليه قَباء منها. فقال: “خَبَأتُ هذا لك”. قال: فنظر إليه. قال: رضي مخرمة”.
وذِكْر الإزار والرّداء له في أحاديث كثيرة مشهورة. وكذلك ذِكْر القميص.
مثل ما في “الصحيحين” (1) عن جابر بن عبد الله قال: “أتى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – عبدَ الله بن أُبَيّ بعدما أُدْخِل قبره، فأمَر به فأُخْرِج ووُضِع على ركبتيه، ونَفَث عليه من ريقه، وألبسه قميصه”. والله أعلم.
وفيهما (2) عن عبد الله بن عُمر قال: لما توفي عبد الله بن أُبّي جاء ابنُه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أُكفّنه فيه، وصلّ عليه واستغفر له. فأعطاه قميصَه، وقال: “إذا فرغتَ [ق 57] فآذِنَّا” فلما فرغ آذنه به، فجاء ليصلي عليه. فجذَبَه عمر فقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (3) [التوبة: 80]. فنزلت: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]. فترك الصلاة عليهم.
_________
(1) أخرجه البخاري (5795)، ومسلم (2773).
(2) أخرجه البخاري (1269)، ومسلم (2400).
(3) تكررت في الأصل: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}.

(7/134)


وأما الجُبّة الضيِّقة الكُمّين؛ ففي “الصحيحين” (1) عن المغيرة بن شُعبة قال: كنت مع النبيّ – صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة في سفر. فقال: “أمَعَك ماءٌ؟ ” قلت: نعم. فنزل عن راحلته فمشى حتّى توارى عني في سواد الليل. ثم جاء، فأفرغتُ عليه الإداوة، فغسَل وجهَه ويديه وعليه جُبّة من صوف، فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها ــ وفي رواية: جبّة شاميّة، فذهب يخرج يديه من كميّه فكانا ضيّقين ــ فأخرج يديه من أسفل الجبّة، فغسل ذراعيه ثم مسح برأسه، ثم أهْويتُ لأنزع خفيّه. فقال: “دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين”. فمسح عليهما.
وأما الفَرُّوج؛ ففي “الصحيحين” (2) عن عُقْبة بن عامر أنه قال: أهدي لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرُّوج حرير، فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف، فنزعه نزعًا شديدًا كالكاره له، ثم قال: “لا ينبغي هذا للمتَّقين”. وإنما نزعه لكونه حريرًا.
قال البخاري: الفَرُّوج هو القَبَاء، ويقال: هو الذي له شقّ من خلفه (3).

وأما السراويل وغيره؛ ففي “الصحيحين” (4) عن ابن عمر قال: سُئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ما يلبس المُحْرم من الثياب؟ فقال: “لا يلبس القميص،
_________
(1) أخرجه البخاري (5799)، ومسلم (274).
(2) أخرجه البخاري (375)، ومسلم (2075).
(3) الصحيح، كتاب اللباس، (12) باب القباء وفرّوج حرير …
(4) أخرجه البخاري (1542)، ومسلم (1177).

(7/135)


ولا العمائم، ولا البرانِس، ولا السراويلات، ولا الخِفاف”.
وفي “سنن أبي داود” (1): أنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – اشترى رِجْل سراويل وهناك وزَّان يَزِن بالأجر، فقال: “زِنْ وأرْجِح، فإنّ خيرَ الناس أحسنُهم قضاء”. وفي لفظ: “أنه اشترى سراويل”.
وقد قال العلماء: الأفضل أن يلبس مع القميص السراويل، ومع الرِّداء الذي يكون على المَنكِبين يلبس الإزار؛ لأن السراويل تُبدي حجمَ الأعضاء، والقميص يستر ذلك، ولا يستره الرّداء.
وكان أغلب ما يلبسه النبيّ – صلى الله عليه وسلم – وأصحابُه ما يُنْسَج من القطن، وربما لبسوا ما يُنْسَج من الصوف وغيره. كما روى أبو الشيخ الأصبهاني (2) بإسنادٍ صحيح عن جَليسٍ لأيوب (3) قال: دخل الصَّلتُ بن راشد على
_________
(1) (3338). وأخرجه أحمد (19098)، والترمذي (1305)، والنسائي (4592)، وابن ماجه (2220)، والحاكم: (4/ 192) وغيرهم من حديث سويد بن قيس رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
وقوله: “رِجْل سراويل” قال في “النهاية”: (2/ 494): “هذا كما يقال اشترى زوج خفّ، وزوج نعل، وإنما هما زوجان، يريد رجلي سراويل؛ لأن السراويل من لباس الرجلين”.
(2) في “أخلاق النبي وآدابه” (ص 107). وأخرجه ابن المبارك في “الزهد ــ زوائد نعيم بن حماد” (224) وفيه: “حماد بن زيد قال: حدثني رجل أن الصلت … “.
(3) الأصل: “بن أيوب”، وفي “زاد المعاد”: (1/ 143): “جابر بن أيوب” وكذا في المخطوط. وكلاهما خطأ، والتصحيح من كتاب أبي الشيخ.

(7/136)


محمد بن سيرين وعليه جبّة صوف وإزار صوف وعمامة صوف، فاشمأزَّ منه محمد بن [سيرين] وقال: أظنّ أنّ أقوامًا يلبسون الصوف يقولون: قد لبسه عيسى بن مريم، وقد حدثني من لا أتهم: أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد لبس الكتان والقطن واليمنية (1)، وسنة نبينا أحقّ أن تُتَّبع.
ومقصود ابن سيرين بهذا: أنّ أقوامًا يرون أنّ لبس الصوف دائمًا أفضل من غيره، فيتحرّون ذلك تزهُّدًا وتعبّدًا، كما أنّ أقوامًا يرون أنّ ترك أكل اللحم وغيره من الطيّبات دائمًا أفضل من غيره، فيتحرّون [ق 58] ذلك، ويحرِّمون على أنفسهم طيِّبات ما أحلَّ الله لهم، حتى يروا التبتُّل أفضل من التأهّل، ونحو ذلك.
وهذا خطأ وضلال، بل يجب أن يُعْلَم أنّ خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هَدْي محمد. كما ثبت في “الصحيح” (2) أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يخطب يوم الجمعة بهذا فيقول: “إنّ خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ [ضلالة] “.
وفي مثل هؤلاء أنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 87 – 88].
_________
(1) عند أبي الشيخ “اليمنة”، وفي “الزاد”: “الكتان والصوف والقطن”.
(2) أخرجه مسلم (867) من حديث جابر رضي الله عنه.

(7/137)


وفي “الصحيحين” (1) عن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثةُ رَهْط إلى بيوت أزواج النبيّ – صلى الله عليه وسلم – يسألون عن عبادة النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، فلما أُخْبِروا كأنّهم تقالُّوها. فقالوا: وأين نحن من النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر!
فقال أحدهم: أمَّا أنا فإنّي أصلي الليل أبدًا.
وقال الآخر: أنا أصوم الدّهر أبدًا.
وقال الآخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوّج أبدًا.
فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “أنتم الذين (2) قلتم كذا وكذا، أما والله إني أخشاكم لله، وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطر، وأصلِّي وأرْقُد، وأتزوّج النساء، فمن رَغِب عن سُنتي فليس منّي”.
رواه البخاري وهذا لفظه.
ومسلم أيضًا ولفظه: عن أنس أنّ نفرًا من أصحاب النبيّ – صلى الله عليه وسلم – سألوا أزواج النبيّ – صلى الله عليه وسلم – عن عمله في السّرّ؟
فقال بعضهم: لا أتزوّج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه وقال: “ما بال أقوامٍ قالوا كذا وكذا، لكنّي أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوّج النّساء، فمن رَغِب عن سُنّتي فليس منّي”.
_________
(1) أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401).
(2) الأصل: “الذي”.

(7/138)


وفي “الصحيحين” (1) عن سعد بن أبي وقَّاص قال: “ردّ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – على عثمان بن مَظْعون التَّبَتُّل، ولو أذِن له لاخْتَصينا”.
والراغب عن سنّته هو الذي يعدِل عنها إلى غيرها تفضيلًا لذلك الغير عليها، ولهذا تبرّأ منه النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، كما قال: “من غشَّنا فليس مِنّا، ومَن حمل علينا السّلاح فليس مِنّا” (2).
وأما إذا لم يرغب عنها، بل فعل المفضول مع كونه مُفَضِّلًا لهدي النبيّ – صلى الله عليه وسلم – باعتقاده ومحبّته، فهذا لا يأثم إلا أن يترك واجبًا أو يفعل محرّمًا.
وقد ثبت عنه في “الصحيح” (3) أنه قال: “أفضل القيام قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وأفضل الصيام صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا”.
وكذلك ثبت عنه في “الصحيح” (4) أنه نهى عبد الله بن عَمْرو (5) عن سَرْد الصيام، والمداومة على قيام الليل كله، وأخبره أنَّ أفضل الصوم وأعدله صيام يوم وفِطْر يوم.
_________
(1) أخرجه البخاري (5074)، ومسلم (1402).
(2) أخرجه مسلم (101) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه.
(4) الحديث السالف.
(5) في الأصل: “عمر” والتصحيح من الصحيحين.

(7/139)


فيجب أن يُعْلَم أنّ هذا أفضل مما فعله كثيرٌ من السلف [ق 59] والخلف بصلاة الصّبح بوضوء العشاء الآخرة كذا كذا سنة (1)، ومن صيام الدّهر حتى لا يفطروا إلا الأيام الخمسة (2)، ومن التبتل ونحو ذلك. وإن كان كثير من فقهائنا وعُبَّادنا يرون هذا أفضل من غيره، فهذا غلطٌ منهم.
والصواب أنّ أفضل الطريق طريق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي سنّها وأمر بها ورغَّب فيها، وأمر بها (3)، والتي داوم عليها.
وكان هديه في اللباس: أن يلبس ما تيسَّر من اللباس، من قُطْن، أو صوف، أو غيرهما.
فالذي رغب عمّا أباحه الله من لباس القطن والكتان وغيرهما تزهُّدًا وتعبّدًا، هم نظير الذين يمتنعون أيضًا عن لباس الصوف ونحوه، ولا يلبسون إلا أعلى الثياب ترفُّهًا وتكبّرًا، كلاهما مذموم.
_________
(1) جاء ذلك في تراجم جماعة من العلماء، مثل: وهب بن منبه، وسليمان التيمي، وأبي حنيفة، وهُشَيم بن بشير، وابن عبدوس. انظر “سير النبلاء”: (4/ 547، 6/ 197، 8/ 290، 13/ 64) على التوالي.
(2) جاء ذالك في تراجم جماعة من العلماء، مثل: الأسود بن يزيد، وعروة بن الزبير، وابن جريج، وشعبة، ووكيع، وأبي بكر النجاد. انظر “سير النبلاء”: (4/ 52، 436، 6/ 333، 7/ 209، 9/ 142، 15/ 503) على التوالي.
(3) كذا تكررت “أمر بها” ولعل أحدهما: “وأقرها”. والله أعلم.

(7/140)


ولهذا قال بعض السلف: كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب: العالي والمنخفض (1).
وقد روى أبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر يرفعه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “من لبس ثوبَ شُهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوبًا مِثْلَه” (2).
وفي رواية: “ثوب مذَلَّة ثم تلتهب فيه النار” (3).
وهذا لأنه قَصَد به الاختيال والفخر، فعاقبه الله بنقيض ذلك فأذلَّه. كما يعاقب الذي يطيل ثوبه خيلاء بأن خَسَف به الأرض ونحو ذلك، كما فعل بقارون.
وفي “الصحيحين” (4) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “بينما رجلٌ يجرُّ إزاره خُيَلاء خَسَف الله به الأرض فهو يتجَلْجَل فيها إلى يوم القيامة”.
وفي “الصحيحين” (5) عن عبد الله بن عُمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في “إصلاح المال” (383)، “والتواضع والخمول” (64) عن سفيان الثوري. وروي مرفوعًا أخرجه البيهقي: (3/ 273) ولا يصح.
(2) أخرجه أبو داود (4029) بهذا اللفظ. وبلفظ: “ثوب مذلّة” أخرجه أحمد (5664) والنسائي “الكبرى” (9487)، وابن ماجه (3606).
(3) يعني بزيادة “ثم تلتهب فيه النار” عند ابن ماجه (3607) ولفظه: “ثم ألهب فيه نارًا”.
(4) أخرجه البخاري (5789)، ومسلم (2088) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو من حديث ابن عمر عند البخاري (3485)، ومسلم (2088).
(5) أخرجه البخاري (3665)، ومسلم (2085).

(7/141)


“من جرّ ثوبَه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة”.
وقد روى أبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “الإسبال في القميص والإزار والعمامة، مَن جرّ منها شيئًا خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة” (1).
وروى أبو داود (2) عن ابن عمر قال: ما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الإزار فهو في القميص (3) “.
وكذلك لبس الدنيء مِن الثياب مكروه، ولبسه تواضعًا محمود، كما أن لبس الرفيع تكبرًا مذموم، ولبسه إظهارًا لنعمة الله وتجمّلًا محمودٌ. ففي “صحيح مسلم” (4) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا يدخل الجنة من كان في قبله مثقال حبة خَرْدل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة خردلٍ من إيمان”. فقال رجل: يا رسول الله! إني أحبّ أن يكون ثوبي حسنًا، ونعلي حسنًا، أفَمِن الكبر ذلك؟ فقال: “لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر بَطَر الحق وغَمْط الناس”.
_________
(1) أبو داود (4094)، والنسائي (5334)، وابن ماجه (3576). وأخرجه ابن أبي شيبة (25337) ونقل ابن ماجه عن ابن أبي شيبة أنه قال: ما أغربه. وصححه النووي في “رياض الصالحين” (ص 427).
(2) (4095). وأخرجه أحمد (5891).
(3) كانت في الأصل:”في القميص فهو الإزار”. ثم كتب فوق الكلمتين حرف (م) يعني مقدم ومؤخر. وهو كذلك في المصادر.
(4) (91).

(7/142)


وقد ذكرنا الحديث الصحيح الذي في البخاريّ وغيره: أنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – لبس في السفرِ جُبَّةً من صوف (1).
وعن أبي بُرْدة بن أبي موسى الأشعري قال: قال أبي: يا بني! لو رأيتنا ونحن مع نبيّنا وقد أصابتنا السماء، حسبت أنّ ريحنا ريح الضأن. رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي [ق 60] وقال: “صحيح” (2).
وكذلك الشعر، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعليه مِرْط مُرَحَّل (3) من شَعْر أسود. رواه مسلم وغيره (4).
وفي “الصحيحين” (5) عن أبي بُرْدة قال: دخلتُ على عائشة فأخرجَتْ إلينا إزارًا غليظًا مما يُصْنَع باليمن، وكساءً من التي يسمّونها المُلَبَّدة (6). فأقسَمَتْ بالله أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قُبِضَ في هذين الثوبين.
لكن كان المنسوج من القطن ونحوه أحبَّ إليه من الصّوف، كما
_________
(1) انظر (ص 135).
(2) أخرجه أبو داود (4033)، والترمذي (2479)، وابن ماجه (3562)، وأحمد (19652)، وابن حبان (1235)، وابن خزيمة (1761)، والحاكم: (4/ 187) وصححه على شرط مسلم.
(3) الأصل: “مرجل”. بالجيم. ومعنى “مرحّل”: عليه صورة رحال الإبل. انظر “شرح مسلم”: (14/ 58) للنووي.
(4) (2081).
(5) أخرجه البخاري (5818)، ومسلم (2080).
(6) الأصل:”المبلدة”. خطأ.

(7/143)


أخرجاه في “الصحيحين” (1) عن قتادة قال: قلنا لأنس: أيّ اللباس كان أحبّ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو أعجب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ قال: الحِبَرَة.
والحِبَرَة: برود اليمن، فإن غالب لباسهم كان من نَسْج اليمن؛ لأنها قريبة منهم.
وربما لبسوا ما جُلِب (2) من الشام ومصر، كالقَبَاطيّ المنسوجة من الكتّان التي ينسجها القِبْط، وقد روي ذلك في “السنن” (3).
وكذلك كانت سيرته في الطعام: لا يردُّ موجودًا، ولا يتكلَّف مفقودًا، فما قُرِّب إليه شيء من الطيّبات إلا أكله، إلا أن تعافَه نفسُه. وما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، كما ترك الضبّ؛ لأنه لم يكن قد اعتاد أكلَه ولم يحرِّمه على النّاس، بل أُكِل على مائدته وقال: “ليس بحرام، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه” (4).
وكان يحبُّ الحلواء والعَسَل، ويأكل القثَّاء بالرُّطَب، ويأكل لحم الدَّجاج وغيره.
_________
(1) البخاري (5812)، ومسلم (2079).
(2) يحتمل: “يجلب”.
(3) أخرجه أبو داود (4116)، والبيهقي: (2/ 234) من حديث دحية الكلبي. وأخرجه أحمد (5727) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وفيهما: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كسا كلًا منهما قبطية.
(4) أخرجه البخاري (5400)، ومسلم (1945) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(7/144)


وكان أحيانًا يربط على بطنه الحجَرَ من الجوع، ويُرَى الهلال فالهلال فالهلال لا يوقَد في بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نار.
وكان أيضًا يلبس العمامة على القَلَنْسوة، وكذلك أصحابه، وكانوا مع ذلك يركبون الخيل ويطردونها، ويقاتلون في سبيل الله، ولهذا كانوا يديرون العمائم تحت أذقانهم، ويسمّى ذلك: التَّلَحِّي.
وفي “غريب أبي عبيد” (1): أنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أمر بالتَّلَحِّي ونهى عن الاقتعاط.
وفسَّر أبو عبيد “الاقتعاط” عن أبي نُعَيم: ولا يدير عمامته تحت ذقنه.
وقد رُوِي عن غير واحد من الصحابة والتابعين كراهة هذه العِمَّة، وكان أهل الشام لمحاربتهم للعدوّ ومقاتلتهم (2) إيّاه محافظين على هذه السنّة، كما ذكر ذلك الإمام أحمد وغيره (3).
والتَّلَحِّي ليس هو التلثُّم على الفم والأنف، فإنّ ذلك مكروه في الصلاة، ولكن التَّلَحِّي: أن يشدَّ العمامة ويربطها على الحَنَك بحيث تثبت العمامة على الرأس، وهي نظير الكلاليب والخيوط التي تتخذها الأجناد في زمننا لشدِّ عمائمهم على رؤوسهم.
_________
(1) (3/ 120).
(2) يحتمل: “ومقابلتهم”.
(3) انظر “مسائل أبي داود” (ص 351)، و”مسائل الكوسج”: (9/ 4780 ــ 4782) مع هامش التحقيق.

(7/145)


وقد استفاضت الأحاديث الصحيحةُ عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – بأنه مسح على عمامته، ورخَّص في المسح على العمامة (1)، حتّى قال عمر بن الخطاب: من لم يطهّره المسح على العمامة فلا طهَّره الله (2).
فظنّ طائفة [ق 61] من العلماء أنّ ذلك كان مع مسح النّاصية، ولكن قد جاءت الأحاديث الصحيحة بمسح العمامة بلا ناصية.
وقال طائفة منهم الإمام أحمد: إنّ ذلك في العمائم التي على السنّة، وهي العمائم التي تُدَار تحت الذّقَن؛ لأنها السنة، ولأنّه يشقّ خلعها. وفي ذات الذؤابة بلا تلحِّي خلاف. وقال طائفة منهم إسحاق بن راهويه: إن ذلك في العمائم مطلقًا (3).
وإرخاء الذؤابة بين الكتفين معروف في السنة، كما روى مسلم في “صحيحه” (4) وأهل السنن الأربعة (5) عن عَمْرو بن حُريث قال: رأيت
_________
(1) في الصحاح والمسانيد، وقد رواه عدد من الصحابة. انظر “جامع الترمذي”: (1/ 170)، و”شرح العمدة” (ص 263).
(2) عزاه ابن قدامة في “المغني”: (1/ 380)، والمصنف في “شرح العمدة” (ص 263) إلى الخلال، وأخرجه ابن حزم في “المحلى”: (2/ 84)، وذكره في “كنز العمال”: (9/ 470) معزوًّا إلى عباس الرافعي في جزئه.
(3) انظر “مجموع الفتاوى”: (21/ 187)، و”شرح العمدة” (ص 269 ــ الصلاة).
(4) (1359).
(5) أبو داود (4077)، والترمذي في الشمائل (115، 116)، والنسائي (5346) ووقع فيه “عمرو بن أمية” وصوابه “عمرو بن حريث” كما في “الكبرى” (9674)، وابن ماجه (1104، 3584).

(7/146)


النبيّ – صلى الله عليه وسلم – على المنبر، وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه.
ورووا ــ أيضًا ــ عن جابر بن عبد الله أنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – دخل عام الفتح مكّة وعليه عمامة سوداء (1). ولم يذكر في هذا الحديث ذؤابة، وذلك أنه يوم الفتح كان قد دخل وعليه أُهْبَة القتال، والمِغْفَر على رأسه، فلبس في كلّ موطن ما يناسبه.
وأما شدّ الوسط؛ فقد كان من الصحابة من يشدّ وسطه بطرف عمامته، ومنهم من كان يقاتل بلا شدّ وسط (2).
وقد جاء ذكر المِنْطَقة في آثار، والمنطقة: هي الحياصة، ولكن لم يبلغنا أنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – كان يشدّ وسطه بمنطقة.
وأما المهاميز؛ فما كانوا يحتاجون إليها، فإنَّ الخيل العربية مع الراكب الخبير بالركوب لا يحتاج إلى مِهْماز (3)، ولهذا لم يُنقل في الحديث أنهم كانوا يركبون بمهاميز، وإنما اتخذها من اتخذها للحاجة إليها.
وكذلك ــ أيضًا ــ لم يكن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – وأصحابُه يتّخذون الأكمام الطِّوال ولا الواسعة سَعَة كبيرة، بل قد تقدّم أنّ كمّ قميص النبيّ – صلى الله عليه وسلم – كان
_________
(1) مسلم (1358)، وأبو داود (4076)، والترمذي (1735)، والنسائي (2869)، وابن ماجه (2822،3585).
(2) انظر “مسائل الكوسج”: (9/ 4849)، و”شرح العمدة” (5/ 359 ــ 360) للمصنف.
(3) المِهماز: ما يُهْمَز به، وهو حديدة في مؤخرة حذاء الفارس أو الرائض. “المعجم الوسيط”: (2/ 994).

(7/147)


إلى الرُّسْغ، وهذه الزيادة سَرَف. وأيضًا فالمقاتل لا يتمكّن من القتال بذلك.
وبعضُ الناس يقول: إنما اتخذها بعض المنتمين إلى العلم لأجل حَمْل الكتب فيها، وما يروى عن بعض الأئمة أنّ أحد كمّيه كان واسعًا، والآخر ضيقًا فهو كذب (1).
وكذلك إطالة الذُّؤابة كثيرًا، فهو من الإسبال المنهيّ عنه.

واعتياد لبس الطيالسة (2) على العمائم لا أصل له في السنة، ولم يكن من فِعْل النبيّ – صلى الله عليه وسلم – والصحابة. بل قد ثبت في “صحيح مسلم” (3) عن النوَّاس بن سَمعان عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في حديث الدّجّال أنه يخرج معه سبعون ألف مُطَيلس من يهود أصبهان.
وكذلك جاء في غير هذا الحديث أنَّ الطيالسة من شعار اليهود (4)،
_________
(1) جاء ذلك في تراجم بعض العلماء كأبي داود صاحب “السنن” كما في “السير” (13/ 217)، فينظر في ثبوته.
(2) جمع طيلسان ــ فارسي معرّب ــ وهو: ضرب من الأوشحة يُلبس على الكتف أو يحيط بالبدن خال من التفصيل والخياطة. “المعجم الوسيط”: (2/ 561).
(3) (2944).
(4) أخرج البخاري (4208) عن أبي عمران الجوني قال: نظر أنسٌ إلى الناس يوم الجمعة فرأى طيالسة فقال: كأنهم الساعة يهود خيبر. وانظر “فتح الباري”: (10/ 274 ــ 275).

(7/148)


ولهذا كره من كره لبسها، لما رواه أبو داود وغيره عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “من تشبَّه بقومٍ فهو منهم” (1).
وفي الترمذي (2) أنه قال: “ليس منَّا من تشبَّه بغيرنا”.
وأما التقنُّع الذي جاء ذِكره في حديث الهجرة: أنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – جاء [ق 62] إلى أبي بكر متقنِّعًا بالهاجرة (3)؛ فذاك فَعَله النبيّ – صلى الله عليه وسلم – تلك الساعة ليختفي بذلك، فَفَعَله [إذن] (4) للحاجة، ولم تكن عادته التقنُّع.
وليس التقنُّع هو التطيلس، بل التقنُّع لغير حاجة يُنهى عنه الرِّجال؛ لأنّه تشبّه بالنّساء، وقد ثبت في الصّحاح عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – من غير وجهٍ: أنه لعن الرّجال المتشبّهين بالنّساء، ولعن النّساء المتشبِّهات بالرّجال (5).
فصل
وأما الحِلْية بالذّهب والفضّة ولبس الحرير، ففي “الصحيحين” (6) عن حُذيفة بن اليمان أنَّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا تشربوا في آنية الذّهب والفضّة ولا تأكلوا في صِحافها، فإنّها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة”.
_________
(1) تقدم تخريجه (ص 130).
(2) (2696).
(3) أخرجه البخاري (3906).
(4) لحق لم يظهر، ولعله ما أثبت.
(5) أخرجه البخاري (5775) وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(6) البخاري (5426)، ومسلم (2067).

(7/149)


وفي “الصحيحين” (1) عن أمّ سلمة زوج النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “الذي يشرب في إناء الفضّة (2) إنما يُجَرْجِر في بطنه نار جهنّم”.
وفي “الصحيحين” (3) عن البراء بن عازب قال: “أمَرَنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بسبعٍ، ونهانا عن سبعٍ، أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام. ونهانا عن خواتيم أو تختّم بالذهب، وعن شُرْب بالفضة، وعن المياثر، وعن القَسّي، وعن لُبْس الحرير والاستبرق والدّيباج”.
وفي “الصحيحين” (4) عن عمر بن الخطّاب قال: سمعت النبيّ – صلى الله عليه وسلم – يقول: “لا تلبسوا الحرير، فإنّه مَن يلبَسْه في الدنيا لم يلبَسْه في الآخرة”.
وعن حذيفة بن اليمان قال: “نهانا النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنّ نشرب في آنية الذّهب والفضّة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والدّيباج، وأن نجلس عليه”. رواه البخاري (5).
_________
(1) البخاري (5634)، ومسلم (2065).
(2) كتب: “الذهب” ثم ضرب عليها. وبقيت واو العطف قبل (الفضة) نسي أن يضرب عليها.
(3) البخاري (1239)، ومسلم (2066).
(4) البخاري (5834)، ومسلم (2069).
(5) (5837).

(7/150)


وعن عليّ ــ عليه السلام (1) ــ قال: “نهاني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن جلوسٍ على المياثر، والمياثر شيءٌ كانت تجعله النساء لبعولتهنّ على الرّحْل كالقطائف الأرجوان”. رواه مسلم (2).
وعن عليّ بن أبي طالب أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخذ حريرًا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا فجعله في شماله ثم قال: “إنّ هذين حرام على ذكور أمتي ” (3). رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.
وعن أبي موسى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “أُحِلّ الذّهب والحرير لإناث أمّتي وحُرّم على ذكورها” (4). رواه النسائي والترمذي وقال:
_________
(1) كذا في الأصل، ولعله من الناسخ؛ قال الحافظ ابنُ كثير في “تفسيره”: (6/ 2858): “وقد غلب هذا (يعني استعمال عليه السلام، وكَرَّم الله وجهه) في عبارة كثير من النُّسّاخ للكتب، أن يُفْرَد علي رضي الله عنه بأن يقال: “عليه السلام” من دون سائر الصحابة، أو “كرم الله وجهه”، وهذا وإن كان معناه صحيحًا، لكن ينبغي أن يُساوى بين الصحابة في ذلك، فإن هذا من باب التعظيم والتكريم، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه، رضي الله عنهم أجمعين” اهـ.
(2) (2078).
(3) أخرجه أبو داود (4057)، والنسائي (5144)، وابن ماجه (3595)، وأحمد (750، 935)، وغيرهم. قال ابن المديني: حديث حسن رجاله معروفون. نقله عبد الحق في أحكامه. وقال ابن دقيق العيد: مختلف في إسناده. وله شواهد كثيرة. انظر “البدر المنير”: (1/ 640 ــ 650).
(4) النسائي (5148)، والترمذي (1720). وأخرجه أحمد (19502)، والطيالسي (508) وغيرهم. وانظر الموضع السالف من “البدر المنير”.

(7/151)


حديث حسن صحيح.
وقد ثبت في “الصحيح” (1) عن عمر عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع.
فلهذا رخَّص العلماء في مقدار أربع أصابع مضمومة، كالسّجاف ولبنة الجيب والأزرار والخيوط ونحوهما.
وثبت ــ أيضًا ــ في “الصحيح” (2) أنه أرخص للزّبير بن العوَّام وعبد الرحمن بن عوف لبس الحرير من حكَّة كانت بهما. [ق 63] فلهذا رخصوا في أصحّ القولين لبسه للحاجة كالتداوي به ونحو ذلك، وثبت عن جماعة من الصحابة.
وروي مرفوعًا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – الرخصة في لبس الخَزّ، وهو صوف ينسج بالحرير. فلهذا قال العلماء: إذا نُسِج مع الحرير غيره، وكان ذلك الغير أظهر وأكثر جاز، وإن كان الحرير أقل وأظهر ففيه نزاع بين العلماء.
وتنازع العلماء في لبس الحرير حين القتال، ومن رخَّص به احتج بأن عمر بن الخطاب أذن في ذلك. قالوا: ولأنه في حال الحرب يُحبّ الله الاختيال. كما في “سنن أبي داود” (3) عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – أنّه قال: “إنّ من
_________
(1) مسلم (2069).
(2) البخاري (2919)، ومسلم (2076).
(3) (2659) من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه. وأخرجه النسائي (2558)، وأحمد (23747)، وابن حبان (295)، والحاكم: (1/ 578) وصححه. وفيه عبد الرحمن بن جابر بن عتيك وهو مستور.

(7/152)


الخُيلاء ما يحبها الله، ومن الخُيَلاء ما يبغضها الله، فأما الخيلاء التي يحبها الله، فاختيال الرجل نفسه في الحرب والصدقة. وأما الخُيلاء التي يبغضها الله، فالخيلاء في الفخر والبغي”.
واختال أبو دُجانة يوم أحدٍ بين الصَّفّين، قال النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “إنها لَمِشْية يبغضها الله إلا في هذا المقام” (1).
وأما الحلية؛ فقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه اتخذ خاتمًا من فضة (2). وعن عرفجة بن أسعد أنه قُطِعَ أنفه يوم الكُلاب، فاتخذ أنفًا من وَرِق فأنتن عليه، فأمره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يتخذ أنفًا من ذهب (3).
وعن أنس بن مالك قال: كانت قبيعة (4) سيف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فضّة (5). رواهما أبو داود والنسائي والترمذي، وقال عن كلّ منهما:
_________
(1) أخرجه الطبراني في “الكبير”: (7/ 104). قال الهيثمي في “المجمع”: (6/ 112): “فيه مَن لم أعرفهم”.
(2) أخرجه البخاري (65)، ومسلم (2092) من حديث أنسٍ رضي الله عنه، وأخرجاه أيضًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3) أخرجه أحمد (19006)، وأبو داود (4233)، والترمذي (1770)، والنسائي (5161)، وابن حبان (5462) وغيرهم. قال الترمذي: “حديث حسن (غريب) إنما نعرفه من حديث عبد الرحمن بن طَرَفه”. وصححه ابن حبان، وضعَّفه ابن القطان. انظر “البدر المنير”: (5/ 570 ــ 573).
(4) رسمها: “قميعة”.
(5) أخرجه أبو داود (2583)، والترمذي (1691)، والنسائي (5374) وغيرهم من حديث قتادة عن أنس به. قال الترمذي: “حديث حسن غريب”. وخطّأ جمع من الحفاظ هذا الطريق، وأن الصواب عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن مرسلًا. انظر “البدر المنير”: (1/ 635 ــ 640).

(7/153)


“حديث حسن”.
وفي “السنن” ــ أيضًا ــ عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم -: “أنه نهى عن الذّهب إلا مُقطَّعًا” (1).
وعن أنس بن مالك: أن قَدَح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – انكسر فاتخذ مكان الشّعب سلسلة من فضة. رواه البخاري هكذا (2).
ثم رواه (3) عن عاصم قال: رأيتُ قدح النبيّ – صلى الله عليه وسلم – عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسَلْسَله بفضة، فقيل: إنّ الذي سلسله أنس بن مالك.
فلهذه الآثار قال العلماء: يباح من الذّهب ما تدعو إليه الضرورة، كاتخاذ أنفٍ منه، ويباح خاتم الفضة، وتباح حلية السيف بفضة.
وأما حلية المِنْطقة بفضة والخُوذة والجوشن والخُودة (4) والرّان ونحو ذلك من لباس الحرب، ففيه قولان للعلماء بخلاف لباس الخيل
_________
(1) أبو داود (4239)، والنسائي (5149)، وأحمد (16844) من حديث معاوية رضي الله عنه. وله شاهد من حديث ابن عمر. انظر “السلسلة الضعيفة” (4722).
(2) (3109).
(3) أي البخاري (5638).
(4) كذا تكرر ذكرها في الأصل. و”الرّان” كالخفّ إلا أنه لا قَدَم له، وهو أطول من الخف “القاموس”.

(7/154)


كالسرج واللجام.
وكذلك تنازعوا في حلية الذهب، فقيل: لا يباح منه شيء، وقيل: يباح يسير الذهب مطلقًا، وقيل: يباح في السلاح، وقيل: في السيف خاصة. وهذه الأقوال الأربعة في مذهب أحمد وغيره.
وفي الترمذي (1) حديث غريب عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنه كان في سيفه ذهب وفضة.
وكذلك عثمان (2) بن حنيف أحد أجلَّاء الصحابة كان في سيفه مسمار [ق 64] من ذهب (3).
ونَهْيُ النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الذَّهب إلا مُقَطَّعًا يدلّ على جواز ذلك، فلذلك جَوَّزه كثير من العلماء كأحمد في الأرجح عنه وغيره. والله سبحانه أعلم (4).
_________
(1) (1683).
(2) كذا في الأصل، والذي في “المصنف”: “سهل”.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (25691).
(4) جاء في آخرها: “تمت بحمد الله وعونه ومنّه وكرمه، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم”، ثم كتب على الهامش: “قوبل فصح”.

(7/155)


قاعدة في الفَنَاء والبَقَاء

(7/157)


الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله – صلى الله عليه وسلم -.
أما بعد، فإنا قد كتبنا في مواضع قبل هذه (1) في تحقيق التوحيد الذي أرسل الله به رسلَه، وأنزل به كتبَه، والتمييز بينه وبين ما سمَّاه كثير من الناس توحيدًا، كما تُسمِّي الجهميةُ الفلاسفةُ، والمعتزلةُ، ومَن وافقهم نَفْيَ الصفات: توحيدًا، ويجعلون من أثبتَها ليس بموحِّد.
ويجعل غاليةُ هؤلاء القائلين بأن الوجود واحدٌ ــ كابن عربي وابن سبعين ــ التوحيدَ عبارة عن هذا الاتحاد الذي هو جامع للإلحاد (2)، ويُسمُّون نفوسهم أهلَ التحقيق والتوحيد.
وذكرنا [توحيد الربو] بيَّة (3) الذي أقرّ به المشركون الذين يقرّون بأن الله [خالق كل شيء وربّه ومليكه … ] (4) لذة بلا تمييز، وهذا قلبه يلتذّ بما
_________
(1) انظر “مجموع الفتاوى”: (11/ 50 – 53)، (14/ 369 – 381).
(2) كتبت في الأصل هكذا “للا … الحاد” ثم ضرب على الألف من “الحاد” وكتب في الفراغ بينهما “صح”.
(3) بياض بالأصل بمقدار كلمتين. وبدا آخر الكلمة الثانية، واستدللنا بها على الباقي.
(4) بياض بالأصل نحو سطر، وكتب الناسخ على الطرة: “بياض بالأصل، وجدته مرقوع”. فأكملت بما يمكن إكماله. وانظر للبحث من كلام المصنف “الردّ على البكري”: (1/ 350 – 355).

(7/159)


فيه من الذِّكْر والشهود، ولكن ليس له تمييز بين نفسه وغيره، بل قد لا يبقى له تمييزٌ بين نفسه ومعبوده، فإذا لم يبق له تمييز بين هذا وهذا فقد يظن أنه هو هو، كما يحكون أن رجلًا كان يُحِبّ آخرَ، فألقى المحبوبُ نفسَه في اليمّ، فألقى المحبُّ نفسَه خلفه، فقال: أنا وقعت، فما الذي أوقعك؟ قال: غِبْتُ بك عنِّي، فظننت أنّك أنّي (1).
وهذا إذا عاد إليه عقلُه يعلم أنه كان غالطًا في ذلك، وأن الحقائق متميِّزة (2) في ذاتها، فالربُّ ربٌّ، والعبد عبدٌ، والخالق بائن عن المخلوقات، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
ولكن في حال السُّكْرِ والفناء والاصطلام لم يكن له شعور بسوى الحقِّ عن تمييز ذلك السّوى أنه عبد أو مخلوق.
وفي مثل هذا ما يُحْكَى عن أبي يزيد أنه كان يقول: “سبحاني”، أو: “ما في الجُبَّة إلا الله”. وأمثال ذلك من الكلمات التي هي في (3) نفسها كفر، ولو قالها وعقلُه معه كان كافرًا، ولكن مع سقوط التمييز يبقى
_________
(1) ذكر المصنف هذه الحكاية في عدد من كتبه، انظر “المنهاج”: (5/ 356)، و”الجواب الصحيح”: (3/ 338)، و”الرد على الشاذلي”: (ص 103).
(2) الأصل: “بتميزه”.
(3) الأصل: “من” والصواب ما أثبت.

(7/160)


كالمجنون الذي رُفِعَ القلمُ عنه، [والنائم] (1)، والسكران الذي لا ذنبَ له في السُّكْر (2).
ومِن الناس مَن يظنّ أن الحلَّاج (3) كان في هذا المقام، وأنّ ما كان يتكلَّم به من الاتحاد كان في هذا الحال، حتى يحكي الكذّابون: أنه لمَّا قُتل كتب دمُه على الأرض: (الله الله)؛ لقوَّة المحبّة والفناء في المحبوب.
ويَحْكُون أن زَليخا (4) فَصَدَتْ، فكتب دمُها على الأرض: (يوسف، يوسف).
وكل هذا باطل محض، ما كَتَبَ دمُ مُحبٍّ قطّ على الأرض اسمَ محبوبه، ولا غير محبوبه.
والحلَّاج كان يُصنّف الكتبَ في السِّحْر وغيره، ويتكلَّم بما يتكلم وهو حاضر العقل، ليس هو من باب أبي يزيد [ق 2] وأمثاله.
_________
(1) بياض بالأصل بمقدار كلمة، والإكمال مستفاد من “الفتاوى”: (11/ 75).
(2) ومثل من يُسْقى الخمر وهو لا يعرفها، أو أوجرها حتى سكر، أو أطعم البنج وهو لا يعرفه. “الفتاوى”: (11/ 75).
(3) في هامش الأصل ما نصه ــ وليس عليه علامة اللحق ــ: “واسمه: الحسين بن منصور، وكان من أهل البيضاء، بلدة بفارس”.
(4) امرأة عزيز مصر، التي راودت يوسفَ عن نفسِه. والزاي في أوله بالفتح والضم. ويقال: اسمها راعيل.

(7/161)


وهذا الحال يُحمَد منه ما كان من النوع الأول وهو حبّ الله دون ما سواه، والفناء عن محبة غيره ورجاؤه، وخوفه والتعلّق به، حتى يبقى دين العبد باطنًا وظاهرًا لله عز وجل من الأقوال. وقد يكون سببه نقص العلم؛ فإنْ كان الأول كان صاحبُه أكملَ وأصحَّ إيمانًا وأعلى منزلةً، ولم يكن عليه ذمٌّ، فإنَّ القلب إذا انصرف إلى شيء انصرف عما سواه، بحسب قوة انجذابه إلى هذا وإعراضه عن هذا.
وأما الثاني: فمثل مَن يشهد توحيد الربوبية، فيرى الله خالقَ كلِّ شيء ومليكه، ليس في الوجود إلا ما يشاء كونه (1). فيشهد ما اشترك فيه المخلوقات، مِنْ خَلْق الله إياها، ومشيئته لها، وقدرته عليها، وشمول القيوميّة والربوبيّة عليها. ولا يشهد ما افترقت فيه، مِنْ محبة الله لهذا وبغضه لهذا، وأمره بهذا ونهيه عن هذا، وموالاته لهذا ومعاداته لهذا، وهو توحيد الإلهية الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، فلا يشهد التفرقة في الجمع، ولا الكثرة في الوحدة.
وهذا الفناء قد يكون مع الصَّحْو وحضور العقل، وقد يكون مع السُّكْر، فإن كان مع الفناء والسُّكْر كان ناقصًا من وجهين، لكن قد يكون أَعْذَر ممن قام فيه مع الصحو.
وقد يَظُن مع ذلك أنه في حال الجمع والفناء في التوحيد، الذي (2)
_________
(1) الأصل: “وكونه”.
(2) الأصل: “التي”.

(7/162)


هو أعلى المقامات، ويَظنُّ أن مَن كان هذا المشهد مقامه يسقط عنه الأمرُ والنهي. ويقول أحدهم: إنما يسقط عنه الأمر لأنه شهد الإرادة. ولا يعلم أن مُجرَّد توحيد الربوبية قد أقرّ به المشركون، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61].
وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 – 89].
وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
قال ابن عباس: “إذا سألتهم مَن خلق السموات والأرض، فيقولون (1): الله، وهم يعبدون غيره” (2).
فمن كان هذا التوحيد هو غاية توحيده انسلخ من دين الله وجميع رسله، ولم يتميَّز عنده أولياء الله من أعدائه، ولا أنبياؤه المرسلون من
_________
(1) الأصل: “فيقولن”.
(2) أخرجه الطبري: (13/ 373).

(7/163)


المشركين به المكذِّبين، ولا أهل الجنة من أهل النار، ولا المعروف من المنكر، وسوَّى بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الأرض، وبين المتقين والفُجّار.
ورأس الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، فتعبد الله لا تعبد معه غيره، وتحبّ ما أحبه الله ورسوله، وتبغض ما أبغضه الله ورسوله. وتُفرِّق فيما شاءه وقضاه (1)، بين ما يسخطه الله ويكرهه، وبين ما يحبه ويرضاه.
قال تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]. وقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]. وقال: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108].
ثم هؤلاء الذين يقولون: إنهم في توحيد الربوبية ظانّين أنهم في الجَمْع، وأنهم وَصَلُوا إلى عين الحقيقة، لا بدّ لهم من شهود التفرقة والتمييز حسًّا، فضلًا عن العقل والشرع.
فإنّ أحدهم لا بدّ ما يميِّز بين ما يؤلمه ويُلذّه، وينفعه ويضرّه، [وبين ما] (2) يكرهه ويَضرُّ به، وبين الخبز والماء، والتراب والحجر، ونحو ذلك.
ولا بدّ أن يميل إلى ما يجلب له المنفعة، ويفرّ عما يدفع إليه المضرَّة، فيكون جسديّ (3) التفرقة، يحبّ هذا ويبغض هذا، ويأمر بهذا وينهى عن
_________
(1) الأصل: “وقضا”.
(2) الأصل: “ومن” ولعل الصواب ما أثبت.
(3) رسمها في الأصل: “جيتديّ”، ولعلها ما أثبت.

(7/164)


هذا. فإن لم تكن التفرقة بين الخير والشر بالتفريق (1) الشرعي النبويّ المحمدي القرآني، وإلّا فلا بد من قانون آخر يُفرِّق، إما سياسة بعض الملوك، أو ذوقُ بعض الشيوخ، أو رأي بعض الفقهاء، أو أغراض ذوي الأغراض، بحسب تنوّعها واختلافها، ولزوم مجرّد ظنّه (2) وهواه.
فلهذا تجد هؤلاء أتباع كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن (3). وهم يُفرِّقون بين ما يُفْعَل وبين ما لا يُفْعَل، وما يُؤمَر به وما لا يُؤمَر به، وما ينبغي فعله، وما ينبغي تركه= بهذه الوجوه وأمثالها.
وربما أضافوا ذلك إلى الله من جهة الحقيقة الكونية، وشمول الربوبية. ومعلوم أن جميع الأشياء مضافة إلى الله من هذه الجهة، فلا فرق بين ما يأمرون به وينهون عنه حينئذٍ.
وهذه حال المشركين الذين أخبر الله عنهم في كتابه، أنهم يأمرون وينهون بغير كتابٍ نزل من الله، وأنهم يَحتجُّون في ذلك بقَدَر الله، فقال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].
_________
(1) الأصل: “بالتفرق”.
(2) الأصل: “تجرد طيفه” تحريف.
(3) من قوله: “اتباع كل ناعق … ” إلى هنا اقتباس من وصية عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد. أخرجها أبو نعيم في “الحلية”: (1/ 79)، والخطيب في “الفقيه والمتفقه” (176).

(7/165)


وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا … } الآية [الأعراف: 32].
وقال تعالى: {سَيَقُولُ (1) الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنعام: 148].
وأصحاب هذا النوع لا يكونون مع النوع الأول، بل يضادّونهم من وجوهٍ كثيرةٍ، ويَفوتُهم ما خَصّ الله به أولئك من تحقيق التوحيد، وكمال التحقيق، وبابه: المعرفة والإيمان، فإن أولئك صاروا مخلصين لله الدين، فيعبدونه ولا يعبدون غيره.
وهؤلاء لا فَرْقَ عندهم بين ما يوجد من عبادته ومن عبادة غيره، ولا بين الإيمان به والكفر به، ولا بين ما يُحِبّه ويأمر به، وبين ما يبغضه وينهى عنه.
فلا بدّ لهم من الفرق ضرورةً وحسًّا، فإذا لم يكن تفريقهم (2) هو الفرق التوحيدي الإيماني صار فرقًا (3) آخر، فيسألون غير [ق 3] الله،
_________
(1) الأصل: “وقال … “، وهي كذلك في سورة النحل، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35].
(2) الأصل: “تفرقهم”.
(3) الأصل: “فرق”.

(7/166)


ويتوكلون على غير الله، بل يعبدون غيرَ الله، ويَقَعُون في المُحرَّمات من الفواحش والمظالم، ويُعرِضَون عن الواجبات، حتى عن الفرائض؛ لأن قلوبهم ليست مخلصة لله الدين، فليسوا من أهل التوحيد الأول. وأولئك هم الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]. وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]. وقال الشيطان: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 – 83]. وقال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [العنكبوت: 61].
وهؤلاء يَرونَ حالهم مرتفعة عن حال الذين يشهدون (1) جمعَهم وتوحيدَهم، وهم العامة الذين تَفرّقت قلوبهم في المخلوقات، وهم أهل الفَرْق الأول، ومع هذا فَهُمْ في الحقيقة راجعون إلى فرق أولئك؛ إذ لا بد لهم من الفَرْق، فإن لم يكونوا في الفرق الإلهيّ النبويّ الشرعيّ كانوا في فَرْقٍ آخر، وهذا حال العامة، بل العامة خير منهم من وجه، وذلك أنهم يؤمنون بالجمع والفَرْق، بأنّ الله ربَّ كلِّ شيء ومليكه، وبأنه يأمر بالحسنات، وينهى عن القبائح.
وإذًا تَفْرِقة العامة بحسبِ أهوائها، لم تَجْعَل ذلك دينًا، بل تعرف أنه ذنب وقبح، ولا يقولون: إنه يسقط عنهم الأمر والنهي.
_________
(1) الأصل: “يشهدوا”.

(7/167)


وهؤلاء قد يَرَوْنَ سقوطَ الأمرِ والنهيِ عنهم، فتكون العامة خيرًا منهم، لكن يُمَيَّزُون عن العامة بأن الجمع لهم حالًا وشهودًا، بخلاف العامة، فإنّ لهم إيمانًا وإقرارًا، وهذا لا يقع لوجهين:
أحدهما: أنهم كاذبون في دوام شهودهم الجمع والعمل به؛ إذ لابدّ من الفرق حسًّا وعقلًا، وذوقًا وشرعًا.
الثاني: أن صحة الإيمان مع الغفلة والسَّهْوِ خيرٌ من ذِكْرٍ وشهودٍ يَصحَبُه فساد الإيمان.
وقد يقول أحدُهم: إنّ المحبّة والتوكل ونحو ذلك من مقامات العامة السائرين في منازل الشرع إلى عين الحقيقة، وهذه الحقيقة التي انتهوا إليها هي الربوبيةُ العامةُ المطلقةُ التي أَقرَّ بها المشركون.
لكنْ كثيرٌ من هؤلاء لا يقولون بالجمع إلا مع تمييز بعض الواجبات من بعض، فيميّز بين ما يأمر به هو وينهى عنه من نفسه، لكن لا يميّز في شهوده ذلك.
وربما تأوَّلُوا قولَه تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. وظنُّوا أن المقصود من العبادة أن يحصل له يقينٌ بالربوبية العامة ونحو ذلك، فلا يحتاج حينئذٍ إلى العبادة.
وهذا ضلالٌ باتفاق أهل العلم والإيمان، فإنّ اليقينَ هو الموت وما بعده، كما قال الحسن البصري: “لم يجعل الله لأجلِ المؤمن غايةً دون

(7/168)


الموت” (1).
كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 47 – 48]. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أمَّا عثمان بن مَظْعون فقد أتاه اليقينُ من رَبِّه” (2). واتفق المسلمون على أن الأمر والنهي لازمٌ لكلِّ عبد حتى يموت.
ومن أكابر هؤلاء من يكون فيه نوع من التجهُّم (3) والجَبْر، كالسالكين طريق ابن التُّومَرْت وأمثاله ممَّنْ ينفي الصفات أو بعضها [كالجهمية] (4) وأمثالهم من الأشعرية ممن لا يقول: إنّ فوقَ العالمِ ربًّا مباينًا، ويكون مبالغًا في إثبات القَدَرِ حتى يجعل المحبةَ والرجاءَ بمعنى الإرادة، ويجعل الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ محبوبًا مرضيًّا، كالإيمان والطاعة؛ إذ الجميع عنده مراد الله.
فهؤلاء إذا انتهوا إلى ما يَظُنُّونه الفناء في حقائق التوحيد كان مضمونُه سقوط الأمر والنهي، لا يُفرِّقون بين الحسنات والسيئات، ويَشهدون ربًّا مطلقًا، ويُقِرُّون مجملًا أنه ليس هو المخلوقات، لكن
_________
(1) أخرجه ابن المبارك في “الزهد” (18)، وأحمد في “الزهد” (ص 272)، وابن المقري في “المعجم” (750).
(2) أخرجه البخاري (1243) عن أمّ العلاء امرأة من الأنصار.
(3) الأصل: “التهكم” تحريف.
(4) بياض بالأصل بقدر كلمة، فلعلها ما أثبت.

(7/169)


ليس في أصل عَقْدِهم وعِلْمهم وإيمانهم إقرار (1) بمباينته للمخلوقات وامتيازه (2) عنها، فيقعون في نوع من الإشراك والجمع بين الخالق والمخلوق، وبين المأمور به والمنهيِّ عنه.
ومن هنا ضَلَّ مَن ضَلَّ من الاتحادية ــ كابن عربي وأمثاله ــ كأن (3) يقول أحدهم: نشهد أولًا الطاعة والمعصية، ثم يشهدون طاعةً بلا معصية، ثم لا طاعة ولا معصية.
فإنهم لمّا كانوا مع المسلمين مُقِرِّين بالأمر والنهي الشرعيَّيْن، كانوا يشهدون الطاعة والمعصية، فلما دخلوا في جمع القدر من غير شهود لتفريق الشرع، شهدوا طاعةً بلا معصية، كما قال بعض شيوخهم: “أنا كافرٌ بربٍّ يُعْصَى” (4).
وقال آخر:
أصبحت منفعلًا لما تختاره … منِّي، ففعلي كلّه طاعات (5)
_________
(1) الأصل: “إقرارًا”.
(2) الأصل: “وامتيازهم”.
(3) غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبت أو “بأن”.
(4) عزاه المصنف للحريري الصوفي. انظر “الفتاوى”: (8/ 257). والحريري له ترجمة في “فوات الوفيات”: (3/ 7).
(5) البيت ذكره المصنف في عدد من كتبه ونسبه لابن إسرائيل، كما في “الفتاوى”: (8/ 257). وابن إسرائيل صوفي شاعر (ت 677) تكلم عنه المصنف في “بيان تلبيس الجهمية”: (5/ 97)، وله ترجمة في “فوات الوفيات”: (3/ 383)، و”البداية والنهاية”: (17/ 549 – 556).

(7/170)


وقال آخر لبعض الظَّلَمَة الذين يتناول مِنْ أموالهم ــ لمَّا قيل: إنه مكّاس ــ فقال: إن كان عصى الأمر فقد أطاع الإرادة (1).
وأمثال ذلك.
ثم إذا صاروا عينًا لم يفرقوا بين الربّ والعبد، ولم يشهدوا لا طاعة ولا معصية، بل كما قال بعضهم (2):
ما الأمر إلا نسقٌ واحدٌ … ما فيه من حَمْدٍ ولا ذمِّ
وإنما العادةُ قد خصَّصت … والطبعُ والشارعُ بالحكم
وهذا هو النوع الثالث من أنواع الفناء، وهو الفناء عن وجود السِّوَى، بحيث يجعل وجود المخلوقات عين وجود الحق، فلا يكون ثَمَّ غيرٌ يكون له وجود أصلًا. فيتكلم هؤلاء فيما يُسمُّونه مفتاح غيب الجمع والوجود.
ومضمون أمرهم: أن الوجودَ كلَّه واحد، وهو واجب الوجود بنفسه، ولا يُفرِّقون بين الواحد بالعين، والواحد بالنوع، ولا بين كون وجود المخلوقات بالله وبين كونها هي لله، كمن لا يُفَرِّقُ بين الشمس وبين شعاعها، ولا يميزون بين العالمين، وبين ربّ العالمين.
_________
(1) عزاه المصنف في “الفتاوى”: (8/ 257) لبعض أصحاب الحريري.
(2) نسبهما المصنف في “الفتاوى”: (2/ 99)، و”جامع الرسائل”: (1/ 105) إلى القاضي تلميذ (ابن عربي) صاحب الفصوص.

(7/171)


ويجعلون الأمرَ والنهيَ للمَحجُوبين عن شهودهم، وهم في هذا من أعبد الناس [ق 4] للمخلوق، وأخوفهم من المخلوق، وأرجاهم للمخلوق، وأعظم الناس إلحادًا في أسماء الله وآياته.
وتفصيل هذا الجمع يطول، وإنما هذا تنبيه على جوامع يَحتاجُ إليها الناسُ في هذه المسالك.
وقد رأيتُ في ذلك ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وتشهد النفوس ما بين هذا وهذا من المشترك الجامع، ولا يشهدون ما بينهما من المميِّزِ (1) الفارق، وهذا هو القياس الفاسد، وأول من قاس إبليس، وما عُبِدَت الشمس والقمر إلا بالمقاييس (2).
وذو البصرِ يشهدُ الجمعَ المشترك والمميّز والجامع مع الفارق والكثرة في الوحدة، ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، كما شهد به القرآن والإيمان والبرهان.
قال الشيخ الإمام أبو العباس أحمد ابن تيمية ــ رضي الله عنه ــ (3):
وما يُسمَّى بالفناء والاصطلام والمَحْق والطّمْس والسُّكْر، ونحو
_________
(1) الأصل: “الميز” سهو.
(2) “وأول من قاس … بالمقاييس” مأثور عن ابن سيرين، أخرجه الطبري في “تفسيره”: (8/ 98)، وابن عبد البر في “جامع بيان العلم”: (2/ 892).
(3) كذا في الأصل، فربما يكون بداية فصل صدّره الناسخ بهذه العبارة، ويؤيده إحالة الشيخ عليه (ص 178، 190).

(7/172)


ذلك من العبارات التي تُشعِر إمّا بعدم العلم ونوعه، وإما بعدم القَصْد ونوعه، وإما بعدم (1) الوجود ونوعه، وما يتعلق بذلك، فإن للناس في هذه الأمور أربعة أقوال:
أحدها: قولُ مَن يجعل ذلك غاية السالكين، ونهاية الواصلين إلى الله، ويقولون: الإرادة، والزهد، والتوكل، والصبر، والخوف، والرجاء، والسُّكْر، والمحبة= منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة، فإذا شهدوا عين الحقيقة اضمحلَّتْ فيها أحوال السائرين، حتى يَفْنَى ما لم يكن، ويبقى ما لم يزل.
والغاية عندهم: هو الجمع والوجود والفناء فيه.
القول الثاني: قولُ مَنْ يجعلُ هذا من لوازم سبيل (2) الله الذي سلكه القاصدون له. ويقولون: لا بدَّ لكلّ واصلٍ إلى الله متقرِّب (3) إليه مخصوص بولاية الله الخاصة، مِنْ أن ينزل هذه المنازل، ويقوم بهذه المقامات، لكنْ ليست هي الغاية، بل الغاية بعدها في حال الصحو والبقاء والشهود، ونحو ذلك من العبارات.
القول الثالث: قولُ مَن يجعلُ هذه الأمورَ مذمومةً معصيةً، ويجعلُها من عيوب القاصدين وذنوبهم، إما لكونها بدعةً في الدين، وإما لكون
_________
(1) الأصل: “عدم”.
(2) الأصل: “سبل”.
(3) الأصل: “مقرب”.

(7/173)


أصحابِهَا مُفَرِّطين بترك مأمورٍ أو فعلِ محذور.
القول الرابع: قول من يجعلها من عوارض الطريق التي قد تعرض لبعض السالكين، فليست من لوازم كلّ سالك، ولا كلّ مَنْ عرضت له يكون مبتدعًا مذمومًا، أو عاصيًا مَلُومًا، بل قد تعرض لبعض السالكين دون بعض، لقوَّة ما يَرِد على قلبه، وضعفه عن التمييز في حال ورودها.
وقد يكون صاحبها مَلُومًا، وقد لازمه في حقّ … (1) لا يمكنه الوصول بها، وقد يكون منتهى بعض ضعفاء السالكين.
والقول في هذا كالقول في الذي يَعْرِض عند سماع القرآن من الصَّعْقِ والصياح والاضطراب، فإنّ هذا لم يكن في الصحابة، بل كانوا عند السماع يبكون، وتَوْجَل قلوبُهم، وتَقشعرُّ جلودُهم. وهذه الأمور هي التي أثنى الله على أهلها في القرآن.
فلما كان في زمن التابعين، كان في أهل البصرة ونحوهم مَن يَصْعَق عند سماع القرآن ويموت. فمن السلف من أنكر ذلك، إما لكونِ صاحبِهِ مُتصنِّعًا، أو لكونه مبتدعًا.
ويُروَى هذا عن عبد الله بن الزبير، وأسماء بنت أبي بكر، ومحمد ابن سيرين (2).
_________
(1) كلمة غير محررة ورسمها: “بحص” بلا نقط.
(2) أثر أسماء بنت أبي بكر أخرجه سعيد بن منصور (95 – ت الحميد). وأثر ابن سيرين أخرجه أبو عبيد في “فضائل القرآن” (ص 215)، وأبو نعيم في “الحلية”: (2/ 265)، والدينوري في “المجالسة”: (5/ 116). وجاء إنكاره أيضًا عن ابن عمر وعائشة وأنس وعكرمة، كما في “فضائل القرآن” لأبي عبيد.

(7/174)


وأما جمهور العلماء فَسوَّغوا ذلك إذا كان صاحبُه مغلوبًا، حتى قال الإمام أحمد: “قُرئ على (1) يحيى بن سعيد، فغُشِيَ عليه. فلو قَدَرَ أحدٌ أن يدفعَ هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد، لكمال عقله” (2). وهذا هو الصحيح؛ فإن زُرارةَ بن أوفى قرأ في صلاة الفجر: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] فَخَرَّ ميتًا (3). وكان قاضي البصرة، ومن خيار المسلمين.
وقرأ صالح المُرّي على أبي جَهير الضرير، فمات (4).
ومات طائفة بوعظ عبد الواحد بن زياد.
ومات عليُّ بن الفُضيل بسماع القرآن (5).
ومن قَتَله القرآنُ كثير، والموت لا حيلة فيه.
_________
(1) ضبطها في الأصل: “قرأ عليّ” خطأ.
(2) الخبر ذكره ابن الجوزي في “القصاص والمذكّرين” (ص 366) عن الخلال قال: حدثنا المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: سمعت محمد بن سعيد الترمذي يقول: قرأت على يحيى فسقط حتى ذهب عقله. فقال أبو عبد الله: لو قدر … لدفعه يحيى في كثرة علمه”. وذكره في “السير”: (9/ 180) بسياق آخر.
(3) أخرجه ابن سعد في “الطبقات”: (9/ 151)، وابن أبي خيثمة في “تاريخه”: (1/ 476).
(4) الخبر في “صفة الصفوة”: (3/ 333).
(5) انظر “تاريخ بغداد”: (4/ 276).

(7/175)


فالتحقيق: أن السبب الذي فعلوه إذا لم يكن منهيًّا عنه، لم يكن على صاحبه إثم فيما يَتولّد عنه من موت، أو سُكْر، أو غَشْي، أو نحو ذلك.
وأما إذا كان السبب محظورًا، لم يكن صاحبُه معذورًا، كما في زوال العقل بالسُّكْر، ونحوه.
فمن شَرِبَ مُحرَّمًا يُزيلُ عقلَه، كان مذمومًا على زوال عقله.
ومن أُوجِرَ الخمرَ، أو أُسْقيَ ما ظَنَّه مباحًا، فتبيَّن محظورًا، ونحو ذلك، لم يكن مذمومًا على زوال العقل.
فكما يعرض مَغِيب العقل عند السماع لِمَا يَرِدُ على القلب، فكذلك يعرضُ مَغِيبه عند مشاهدة أمور، وعند ورود أمور عليه من غير سماع ظاهر؛ إذ السماع يورث معارفَ (1) وأحوالًا، وكذلك تحصل هذه في غير السماع.
وإذا كان زوال العقل غير مقدور وصاحبُه في الشرع معذور، لم يَجُزْ أن يُجْعلَ آثمًا بذلك، ولا مُعاقَبًا عليه، بل ولا منهيًّا عنه، ولا مذمومًا عليه.
بخلاف مَن يكون قد حصل له ذلك بسببٍ محظور، كمن يسمع السماع المنهيّ عنه، سماع المُكاء والتّصْدِية، فيُورِثُه هذه الأحوال التي يزول فيها عقله. فهذا مذموم على ذلك.
لكن إن كان متأوّلًا معتقدًا جواز ذلك، لاجتهادٍ أو تقليد، أو غير
_________
(1) الأصل: “معارفًا”.

(7/176)


عالم بما في ذلك من النهي الشرعي، كان له حُكْم أمثاله من أهل التأويل وعدم العلم.
وإذا كان مخطئًا معفوًّا له عن خطئه، عُفِي له عما يترتَّب على خطئه، لكن قد يَضْمَنُ ما تلف بخطئه من حقوقِ العبادِ في أنفسهم وأموالهم، كما أوجب الله الديةَ في القتل خطأً.
وأما إذا كان الإتلافُ بتأويل من جهتين، فله حُكْم قتال الفئة من أهل التأويل، كالجَمَل وصِفِّين. والصحيح: أنه هَدْرٌ من الجانبين.
وهذا حكم ما يعتري أهل الأحوال في (1) حال سُكْر السماع، من عدوان بعضهم على بعض، كما هو مذكور في غير هذا الموضع.
وجماع ذلك: أن الأمر والنهي مشروطان بالتمكين من العلم [ق 5] والعمل، فإذا كان العبد عاجزًا عن أحدهما، لم يكلَّف الكفَّ عما هو عاجزٌ عنه.
وإذا عَجَز عن حفظ عقله، أو عن حَمْل ما يَرِدُ عليه، أو عن العلم بحاله ــ عجزًا يُعْذَرُ فيه شرعًا ــ لم يكن مُعاتَبًا بما يترتّب على زوال العقل، بحسب المزيل للعقل، هل هو معفوّ عنه، أو محظور. وقد يظن صاحبه أنه مأمور به أو مباح لاجتهادٍ أو تقليد، ولكن في نفس الأمر لا يأمر الله عز وجل بما يزيل العقل، ولا يبيح ذلك.
_________
(1) الأصل: “من”.

(7/177)


ولهذا تنازع الفقهاء في المؤدِّب المأذون له في أدبٍ غير مُقدَّر، إذا تَلِف بأدبه، كالزوج إذا ضرب امرأته، والرائض إذا ضرب دابَّته، فقيل: يَضمنُ ذلك كقول الشافعي؛ لأنه يتبيَّنُ بالإتلاف أنه زاد على المأذون.
وقيل: لا يضمن كقول مالك وأحمد؛ لأن القَدْر المأذون فيه ليس محدودًا، بل هو مُوكَلٌ (1) في اجتهاده، فإذا فعل ما اجتهد فيه لم يكن عليه دَرَك، كالمقتصّ.
فقد تبيَّن ضعف قول من يذمُّ هذه الأمور مطلقًا، ويسوِّغها مطلقًا، ويعلم أن الاعتبار في ذلك بأسبابها المأمور بها والمنهيِّ عنها.
ثم نقول في سائغها: ليس هذا لازمًا من لوازم الطريق، كفعل المأمور، وترك المحظور، فضلًا عن [أن] تكون هي الغاية التي تُناقض هذه الأمور وتضادّها مأمورًا به أمرَ إيجاب ولا أمرَ استحباب. فلا يكون من لوازم طريق الله، فإنَّ اللازم لهم إما أن يكون واجبًا أو مستحبًّا. والأحوال التي تكون من لوازم أعمالهم تكون نتيجة واجبٍ أو مستحبٍّ، فما ليس بواجب ولا مستحبّ ولا نتيجة واجب ولا مستحبّ لا يلزمهم أن يفعلوه، ولا يلزمهم وجوده، فلا يكون من لوازم طريق الله وسبيله، ومنهاج القاصدين إليه، ومنازل السائرين إليه.
وإن عَرَض لبعضهم وكان له منزلًا ومقامًا لخصوص حاله؛ لم يقتضِ أن يكون لكل سائرٍ؛ بل ولا هو لازمًا لكلِّ أحد أن يفعله.
_________
(1) الأصل: “موكلًا”.

(7/178)


ولا يجبُ على أحدٍ في الشريعة أن يفعل ما يغيِّبُ به عقلَه، أو يُنْقِص به قوَّتَه، ولكن قد يفعلُ أمورًا يلزم [منها] ضعف عقله ونقص قوَّة قلبه، فتكون هذه لوازم وجود تلك الأمور؛ لا أنه يلزمه تحصيل ذلك.
فوجوبُ تحصيل ذلك لا يثبت في حق أحد، وأما وجوب وجوده فقد يَعْرضُ لبعض السالكين دون بعض، ولا يَعْرضُ إلَّا مقرونًا بصعق وعجز، والصَّعِقُ العاجزُ هو معذور على ما تركه، ليس مأمورًا بما تركه.
واعتَبِرْ هذا بالأحوال العارضة للناس في سائر ما يحبونه ويطلبونه، منهم من يعرض له في حُبِّ الصُّوَرِ والرياسة أو المال ما يُذْهِل لبَّهُ ويُزيلُ عقلَهُ.
وكذلك قد يَعْرضُ له في المخاوف ما يذهل لبَّه (1) ويزيل عقلَه، بحيث يبقى مستغرقًا في مشهوده وموجوده.
كما يذكرون أنَّ رجلًا كان يحب آخر، فألقى المحبوبُ نفسه في اليمّ، فألقى المحبُّ نفسه خلفه، فقال: أنا وقعتُ، فما الذي أوقعك معي؟ فقال: غبتُ بك عني، فظننتُ أنك أنّي. وقد ذُكِرَتْ قَبْل (2).
والحكايات في مثل هذا كثيرة. لكن لا يقول عاقل: إنَّ مثل هذا كمالٌ ممدوح مأمور به، لا في حقِّ (3) الممدوح ولا في المذموم.
_________
(1) الأصل: “اليه” تحريف وقد جاءت على الصواب قبل سطر.
(2) (ص 160).
(3) الأصل: “الحق” سهو.

(7/179)


وأعظم الخلق محبةً لله إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، هذا خليل الله، وهذا خليل الله، ولم يعرض لأحدهما شيءٌ من ذلك.
والمحبُّون الذين ينالون مقاصدهم مع حِفْظِ عقولهم وبقاء تمييزهم أكمل عند العقلاء مِن الذين يغلب عليهم الحال حتى يصطلمهم، ويُسْكِرَهم، ويفنيهم.
وما أشبه مدح هؤلاء لعدم التمييز والعقل بمدح طائفة يمدحون مَن لم يفهم معاني القرآن، ولم يتدبره، بل قد أَقرَّ بظاهر لفظه، وجهل ما يزيد إفهامهم إيَّاه من معناه، وقد يجعلون ذلك طريق السلف.
وهذا أيضًا غلط، فعدم صفات الكمال الممدوحة في القرآن لا يكون مدحًا ولا ذمًّا مأمورًا به، بل غاية صاحبه أن يكون معذورًا.
ولهذا قال عمر بن الخطاب: “لست بخِبٍّ، ولا يخدعني الخِبُّ” (1).

فسلامةُ القلب المحمودةُ هي سلامتُه عن (2) إرادة الشرِّ وقَصْدِه، لا عن علمه ومعرفته، بل من عَرَفَ الشرَّ وأبغضَه وذمَّه ونهى عنه، فهو أكمل ممن لم يعرفه، ولا أبغضه، ولا نهى عنه، ولا ذمَّه.
_________
(1) ذكره عن عمر ابنُ عبد ربه في “العقد”: (1/ 44)، وكذلك عزاه المصنف في “الفتاوى”: (10/ 302)، وجاء عن إياس بن معاوية. أخرجه ابن عساكر في”تاريخه”: (10/ 19)، والمزي في “تهذيب الكمال”: (1/ 304).
(2) الأصل: “عند”.

(7/180)


ومن أعظم كمال الرسول وأمته: أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما قال في صفته: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
وقال في صفة أمته: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
والأمر بالمعروف متضمِّنٌ لمعرفته ومحبّته، والنهي عن المنكر مُتضمِّنٌ للعلم به وبُغضه.
وأمة محمد هم الشهداء، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وقال: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [العنكبوت: 78].
والشهادة تتضمن العِلْمَ بالمشهود به، وإلا فليس لأحدٍ أن يشهد بما لا يعلم.
وقد أخبرَ عن العارفين مِن أمة عيسى عليه السلام أنهم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].

(7/181)


قال ابن عباس: “مع محمد وأُمَّتهِ” (1).
وهذا كما قال الحواريّون: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53].
فهؤلاء المؤمنون هم طلبوا ما طلبه قبلهم المؤمنون، بخلاف مَن (2) كان منهم متبعًا للدين المبدَّل المنسوخ، فإنّ أولئك فيهم رأفةً ورحمةً ورهبانيةً، فلهم عبادة وأخلاق، وليس لهم شهادة، فلهذا كانوا في الضلال، فإنَّ الضلال: [ق 6] عدم العلم، وهو نَعْتُهم (3)، كما قال عنهم: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
فإنّ الضلال يورثه اتباع الهوى؛ لأنه إذا لم يكن معه علم بما يفعله وما يقصده، ومعه حبّ وإرادة تدعو إلى العمل، كان المحرِّك له حبه وهواه، سواء كان صادفَ الحقَّ الذي يرضاه الله، أو كان بخلاف ذلك.
وهذا الموضع غلط فيه من سالكي الطريق من لا يُحصي عددَهم إلا الله، فإن أوَّل الطريق هو إرادةٌ وحبٌّ وطلبٌ، وذلك يُثمِرُ من أنواع العبادات والأخلاق والأعمال والأحوال والمقامات ما لا يعلمه إلا الله.
_________
(1) أخرجه الطبري: (8/ 603).
(2) الأصل: “ما”.
(3) أشكلت على الناسخ فلم يحرّرها، ولعلها ما أثبت.

(7/182)


وقد لا يَصحَبُ هذا السالك معرفة المحبوب المعبود المراد، ولا يصحبه معرفة ما يحبّه ويرضاه مِن طاعة رسوله، فيجهل إما المعبود المقصود، وإما العبادة المأمور بها، أو كلاهما (1).
وقد قال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح: “المؤمنُ القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير” (2).
فالخير عند الله هو الأفضل.
ومن هنا يظهر الوجه الثاني: وهو أنَّ العلم والعقل والشهود، ونحو ذلك، صفات كمال، كما أن القدرة والقوَّة صفات كمال.
قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر: 19 – 21]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45].
وقد مدح الله جبريل بأنه شديد القُوى، وقال: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20]. وذمّ سبحانه مَنْ ذمَّه بقوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20].
وقوله: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101].
_________
(1) كذا، والوجه: “كليهما”.
(2) أخرجه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7/183)


وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73].
وقال: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179].
وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
وقال: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5].
وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].
وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].

(7/184)


ومثل هذا كثير في كتاب الله.
فالسمع والبصر والعقل والعلم، وما كان من جنس ذلك ولوازمه، هو من الصفات المحمودة، والتذكّر والتدبّر ونحو ذلك، وكذلك القوَّة. قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:61].
وفي حديث الاستخارة: “اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستَقْدِرُك بقدرتك، وأسألك من فضلك” (1).
وقد أمر الله بالصبر المتضمِّن لمعنى القوَّة والثبات، وقَرَنه بالصلاة في غير موضع، كقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة:45]. بل ذَكَره في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا.
والله تعالى موصوفٌ بصفات الكمال؛ من العلم، والسمع، والبصر والكلام، والقدرة، ونحو ذلك.
والمتصف بهذه أحبّ إليه ممن لا يتصف بها، إنما مَدَح وأحبّ (2) المتَّصفين بها، كما تقدم التنبيه عليه.
وإذا كان كذلك، لم يكن الغَيْبَةُ عنها مما ينتهي إليه القاصدون، وذلك لوجهين:
_________
(1) أخرجه البخاري (1162) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2) الأصل: “واجب” خطأ.

(7/185)


أحدهما: أن أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – هم أفضل القرون، وفاضلهم هو أفضل الأمة، كما ثبت في الصحاح أنه قال: “خير القرون الذي بُعِثْتُ فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم” (1).
ولا ينازع في هذا الأصل إلا أهل البدع المضلَّة.
فمن ظنّ أن مَنْ بعد الصحابة من يكون أكمل في علمٍ، أو دين، أو خُلُق، مِنْ أكمل الصحابة في ذلك، فقد غلط وضلّ، بل هم فوق مَن بعدهم في كلِّ الفضائل الدينية.
وإن كان قد يكون لمن بعدهم مِنَ الخصائص والفضائل ما ليس لبعضهم، فلا يكون مَن بعدهم أفضل من فاضلهم بلا ريب.
وإذا كان كذلك، فمن المعلوم أن الأحوال الدينية المتضمِّنة لغيب العقل، وعزوف (2) العلم، لم يكن في الأحوال الدينية التي كانت للصحابة، فلم يكن فيهم مَن مات عن وجدٍ أو سماع.
ولا كان فيهم مَن صَعِق وغُشِي عليه.
ولا كان فيهم مَنْ فني عن معرفة الأشياء وشهودها.
ولا كان فيهم من اصطلم بحيث لا يشهد بقلبه شيئًا من الكائنات أو المخلوقات.
_________
(1) أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533) بلفظ: “خير الناس … ” من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وتقدم.
(2) كذا. ولعله: “وعزوب”.

(7/186)


بل كان حدوث هذه الأمور في الأمة بحسب ما حدث من النقص، فكان التابعون أنقص من الصحابة، فظهر فيهم من الصَّعْق والموت ما ظهر.
كما أنَّ بني إسرائيل أنقصُ من هذه الأمة، فلهذا لم يُذْكَر عنهم من ذلك أمور.
ونبيُّنا – صلى الله عليه وسلم – أكمل من موسى، وقد عُرِج به – صلى الله عليه وسلم – إلى الملكوت الأعلى، وأراه الله من آياته الكبرى ما أراه، وأصبح كبائتٍ. وموسى – صلى الله عليه وسلم – لما صار الجبل دكًّا خرَّ صَعِقًا.
وقد كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – لما رأى جبرائيل أوّل مرّة أصابه ما أصابه، ولما رآه نزلةً أخرى عند سِدْرة المنتهى لم يُصِبه ما أصابه أول مرة.
وأما ما كان يعتريه عند نزول الوحي، فلم يكن في ذلك تغيّب عقله، فإنه – صلى الله عليه وسلم – كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، ولهذا لم يكن يتوضأ من النوم، ولمن يكن يغتسل ويتوضأ بعد نزول الوحي.
ولما غُشي عليه في مرضه اغتسل مرّةً بعد مرة، فكان يغتسل في إغمائه الذي أصابه بالمرض، ولا يغتسل من هذه الأمور؛ إذ لم يكن فيها إغماء ولا مغيب عقل. بل هو عند تلقّي الوحي أكمل ما يكون عقلًا، وإن كان ضعيفًا منهوك البدن (1).
وإذا كان في منامه لا ينام قلبه مع أن غيبه [ق 7] الظاهر هو فيه كغيره في المنام، فكيف ينام قلبه عند نزول الوحي عليه، وبه يتلقّى الوحي النازل عليه.
_________
(1) في الأصل: “مفتونًا مهثرف” ولعل الصواب ما أثبت أو نحوه.

(7/187)


والكلام ليس فيه حسه لحسن (1) الظاهر؛ فإن هذا مع شهود القلب لا يضر، وإنما الكلام في مغيب القلب بحيث [يذهب] بعض عقله وتمييزه (2)، أو ضعف قوَّته وقدرته، فإن العلم والقدرة صفة كمال.

والنوع الثاني: الفناء عن شهود السّوى، فهذا هو الذي يقارنه الاصطلام، والسُّكر، والطمس، والمَحْق، فيغيب بموجوده عن وجوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمعروفه عن عرفانه، وبمشهوده عن شهادته، حتى لا يشعر بالسِّوى.
فهذا هو الذي تنازع فيه الناس، هل هو غاية السالكين، أو مقامٌ لازمٌ لهم، أو حال يعاين صاحبه، أو أمر عارض لهم؟
ومن جعل هذا غايةً فقد ضلَّ ضلالًا مبينًا، وإن كان قد وقع في ذلك طوائف من الشيوخ. ولهذا شاركهم في ذلك طوائف من المتفلسفة، كابن سينا البخاري، وابن الطفيل القرطبي صاحب رسالة حيّ بن يقظان (3)، وأمثالهم ممن يتكلم في التصوّف على طريقة الفلاسفة.
وقد عُلِم أنّ تصوُّفَ الفلاسفةِ من أبعد الأمور عن دين الإسلام، وخيرٌ منه تصوّف أهل الكلام المُحْدَث، مع ما فيه من البِدَع.
_________
(1) كذا العبارة. ولعلها: “ليس في مغيب الحسّ” (إصلاحي).
(2) غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبت.
(3) الأصل: “القرطمي” تحريف، و”بعطان” بلا نقط. وهو محمد بن عبد الملك بن محمد بن طُفيل القيسي أبو بكر القرطبي، طبيب فيلسوف (ت 581). ترجمته في “عيون الأبناء”: (2/ 478 ــ 482)، و”وفيات الأعيان”: (7/ 134).

(7/188)


وخيرُ الصوفية صوفيةُ أهل الحديث.
وكلّ مَن كان منهم بالسنة أعلم وبها أعمل، كان أفضل من غيره، كالفُضَيل بن عياض، وسَهْل بن عبد الله التستري، والجُنيد بن محمد، وعمرو (1) بن عثمان المكي. وأبو عثمان النيسابوري وأمثالهم فوق ذي النون المصري، وصاحبه يوسف بن الحسين الرازي (2)، وأبي بكر الشِّبلي، وأمثالهم.
وكذلك أبو طالب المكي وأمثاله، كلامه في المقامات خير من كلام أبي حامد في “الإحياء”، وإن كان عامة كلامه مأخوذًا [منه]. بل كلام أبي طالب خير من كلام أبي القاسم القُشَيري صاحب “الرسالة”.
وأصحاب هذا النوع من الفناء، تارةً يشهدون توحيد الربوبية، فلا يُفرّقون بين المأمور والمحظور، ومنهم من يجعل هذا غاية، ويجعل السلوك إليها (3).
ومنهم مَن يقول: مَن شهد الإرادةَ سقط عنه التكليف. وهذا
_________
(1) الأصل: “عمر” خطأ. ترجمته في “تاريخ بغداد”: (12/ 223)، و”حلية الأولياء”: (10/ 291).
(2) الأصل: “بن الحسن الدارمي” تحريف، والصواب ما أثبت. وانظر ترجمته في “تاريخ بغداد”: (14/ 314)، و”طبقات الحنابلة”: (2/ 561 ــ 565).
(3) في الكلام نقص أو تحريف، وفي “الفتاوى”: (2/ 314) سياق عبارة قريب وهو: “ومن الناس من يجعل هذا من السلوك، ومنهم من يجعله غاية السلوك … “.

(7/189)


[كفر] (1) بالدين، بخلاف مَن أفناه شهود الإلهيّة حتى غاب بمعبوده عن عبادته، وبمشهوده عن شهادته، فإن هذا لم يفسد إيمانه واعتقاده، وإنما ضعف عن حمل ما شهده. فهذا إذا أفاق عاد إلى الأمر والنهي، كما يُذكَر عن أبي يزيد.
ففَرْق بين فناءٍ يُفسِد الاعتقاد، وفناءٍ يغيّب الاعتقادَ (2) ولا يُزيله ولا يُفسده.
وقدماء الصوفية الأصحَّاء إذا تكلّموا في هذا الفناء، إنما يريدون ما يُغيِّبُ العبدَ عن شهود السِّوى، لا (3) يريدون له أنك تُسوِّي بين المأمور والمحظور.
لكن إذا لم يكن عند العبد فَرقٌ بين الحقيقة الكونية القدرية، والحقيقة الدينية الشرعية، لم يميّزْ بين هذا وهذا.
فسوَّوا بين الإرادةِ الدينيةِ والكونية، فقالوا: ما ثَمَّ إلا طاعةٌ بلا معصية، فإن الكائنات كلها جارية على وَفْق المشيئة العامة. ثم أخذوا عن الجهمية نفي الصفات، وأن الصانع ليس مباينًا للعالَم خارجًا عنه. فقالوا: الوجودُ واحدٌ، وما ثَمَّ لا طاعةٌ ولا معصيةٌ.
ولهذا صار هؤلاء يُصنّفُ أحدُهم في مفتاح غيب الجمع والوجود،
_________
(1) زيادة يستقيم بها السياق، أو بكلمة نحوها.
(2) الأصل: “الاعتداد”.
(3) تكررت في الأصل.

(7/190)


ومَن (1) انتهى إليه صاحب “منازل السائرين”. وشيخُ الإسلام أبو إسماعيل من أعظم الخلق إثباتًا للصفات ومباينة الربِّ للمخلوقات، وأبعد الخلق عن الحلول والاتحاد، لكن جاء مثل القُونوي والتِّلِمْساني ونحوهما، أخذوا ما وجدوه يناسبهم من كلامه في الفناء، والجمع، والوجود، وانتقلوا منه إلى ما يقولونه من وحدة الوجود. كما أخذوا من كلام أبي حامد الغزالي من “مشكاة الأنوار”، و “المظنون به على غير أهله” (2)، ونحو ذلك مما فيه مشابهة لكلام الفلاسفة في نفي الصفات، مباينًا بهم في هذا النفي. وانتقلوا منه إلى الحلول والاتحاد. وأبو حامد يُكفِّر مَن يقول بالحلول والاتحاد، ويُصرِّح بأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
ولم يكن في كلامه في الأمر والنهي والأعمال مما يتعلّق به [في] الفناء، كما لم يكن لهم في كلام شيخ الإسلام في الصفات ما (3) يتعلقون به في النفي. ولكنْ مَن في قلبه مرضٌ يأخذ من كلِّ كلام ما يُناسب مرضَه.
ولهذا كان كلام الشيخ عبد القادر في الأمر والنهي ومعاني الفناء والبقاء خيرًا (4) من كلام شيخ الإسلام، كما أن شيخ الإسلام أعلم
_________
(1) لعلها: “وممن”.
(2) انظر “الرد على الشاذلي” (ص 20 – 21 – بتحقيقي) وما علقته هناك بخصوص ثبوت هذه الكتب للغزالي من عدمه.
(3) الأصل: “مما”.
(4) الأصل: “خير”.

(7/191)


بالحديث والصفات من الشيخ عبد القادر.
ولقد كتبنا فيما مضى قبل هذا (1) أن الفناء يراد به في كلامهم ثلاثة أنواع:
أحدها: الفناء عن إرادة ما سوى الحقِّ، أو التوكّل عليه، أو رجائه، أو خوفه، أو حبّه. ويدخل في ذلك الفناء عن إرادة ما تهوى الأنفس، وعن تعلّق الرجاء بأعمالها، والثقة بها، حيث يكون عمله لله وبالله، فهو يعبده ويتوكّل عليه، لا للخلق ولا بهم.
وهذا الفناء يجامع البقاء، فإنه فناءٌ (2) عن إرادة ما سواه بحبه، وعن رجاء ما سواه برجائه، وعن التوكل على ما سواه بالتوكل عليه، وعن الثقة بما سواه بالثقة به.
وبالجملة فتحقيق قول: “لا إله إلا الله” فناءٌ (3) عن تألُّه ما سواه بتألّهه. فهذا أو نحوه هو الذي يذكره الشيخ عبد القادر في الفناء.
وهذه طريقة الأنبياء ومن اتبعهم، وهو حقيقة دين إبراهيم، وهو تحقيق التوحيد وإخلاص [الدين] (4) أو بعض ما يجب منها. وهذه جملة يطول تفصيلها. ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: “مَن عَبَدَ اللهَ بغير
_________
(1) (ص 162 وما بعدها)، وانظر “مجموع الفتاوى”: (2/ 313، 10/ 218، 337).
(2) الأصل: “نفى”، ولعله ما أثبت.
(3) الأصل: “بنفي”، ولعله ما أثبت.
(4) بياض في الأصل بقدر كلمة، والإكمال مقترح.

(7/192)


علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه” (1).
ومن أسباب وقوعهم في ذلك: أنهم قد لا يجدون من يعلم أعمال القلوب وأحوالها على الوجه المشروع الذي جاء به الرسول، وكان عليه أصحابه، [ق 8] بل إن وجدوا من يتكلّم في العلم وجدوا من [يتكلم] (2) في علم الأعمال الظاهرة، وقد يكون في كثير من كلامه مِنَ الظنّ واتباع الهوى ما ينقص حال من يتابعه، أو يضرّه فيما يطلبه من صلاح قلبه.
فإنَّ كثيرًا ممن يتكلَّم في فقه الأعمال الظاهرة، لم يكن له خبرةٌ ولا رعايةٌ لأعمال القلوب. كما أن كثيرًا ممن يتكلَّم في أعمال القلوب، لم تكن له خبرة ولا رعاية للأعمال الظاهرة. [و] كثيرٌ مما يقع من هؤلاء وهؤلاء ــ كأنهم أهل مِلّتين ــ نظيرُ ما يقع من اليهود والنصارى. وشواهد هذا وتفصيله يطول، وهي مبسوطة في غير هذا الموضع.
والحاكمُ على الطريق كلها الكتابُ والسنةُ وإجماعُ الصحابةِ، فعلى كلِّ مَن انتسبَ إلى الدين بقولٍ أو عملٍ أن يكون مُتّبِعًا للصحابة، مقتديًا بهم.
قال عبد الله بن مسعود: “إنَّ الله نظرَ في قلوب العباد فوجد قلبَ محمدٍ خيرَ قلوبِ العباد، فابتعثه برسالته، واختصَّه بوحيه. ثم نظر في قلوب العباد بعد قلبِ محمدٍ فوجدَ قلبَ أصحابِهِ خيرَ قلوبِ العباد، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حَسَن، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو
_________
(1) أخرجه أحمد في “الزهد” (ص 301).
(2) بياض في الأصل، والسياق يدل على ما أثبت.

(7/193)


عند الله قبيح” (1).
وقال أيضًا: “مَن كان منكم مُسْتَنًّا فَلْيستنّ (2) بمن قد مات، فإن الحيَّ لا يُؤْمَن عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمدٍ أبرُّ الأمةِ قلوبًا، وأعمقُها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا” (3).
وقال حذيفة: “يا معشر القُرَّاء، استقيموا وخُذُوا طريقَ من كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سُبِقْتَم (4) سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتم يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا” (5).
وقال جندب بن عبد الله: “يا أخابث خلق الله! في خِلافنا تبغون
_________
(1) أخرجه أبو داود الطيالسي (243)، وأحمد (3600)، والطبراني في “الكبير” (8582)، والحاكم: (3/ 78)، وغيرهم. وصححه الحاكم، وقواه ابن القيم في “الفروسية” (298). وروي من حديث أنس مرفوعًا عند الخطيب في “تاريخه”: (4/ 165). وفي سنده من اتهم بالوضع.
(2) الأصل: “فليكن”، تحريف.
(3) أخرجه ابن عبد البر في “الجامع” (1810) بنحوه، وعزاه ابن القيم في “الإعلام”: (5/ 579) لأحمد.
(4) ضُبطت في الأصل على البناء للمفعول، وهو كذلك في نسخة اليونيني من البخاري، كما نص عليه القسطلاني في “الإرشاد”: (10/ 305)، وضبط في رواية أبي ذر بالفتح، قال الحافظ ابن حجر (13/ 257): وجزم به ابن التين، وهو المعتمد.
ومعناه على البناء للمفعول: أي لازموا الكتاب والسنة فإنكم مسبوقون. قاله القسطلاني والعيني.
(5) أخرجه البخاري (7282).

(7/194)


الهدى” (1).
وقد قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100].
والله سبحانه أمرنا أن نقول في كتابه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 – 7].
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “اليهود مغضوبٌ عليهم، والنصارى ضالون” (2).
وذلك أن اليهود عَرفُوا الحقَّ ولم يَتَّبِعُوه، فكانوا في الغيِّ. والنصارى عملوا بغير علم، فكانوا في الضلال.
ولهذا كان السلف يحذِّرون من العالم الفاجر، والعابد الجاهل، ويقولون: في الأول شَبَهٌ من اليهود، وفي الثاني شَبَهٌ من النصارى (3).
وقد صحّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “لتركبنَّ سَنَنَ مَنْ كان قبلكم حَذْوَ
_________
(1) ذكره المصنف في “تنبيه الرجل العاقل”: (2/ 580) بسياق أطول، ولم أجد من أخرجه.
(2) أخرجه أحمد (19381)، والترمذي (2953)، وابن حبان (7206) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. قال الترمذي: “حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب”. وفيه أيضًا عباد بن حُبيش شيخ سماك. قال الذهبي: لا يعرف، وذكره ابن حبان في “الثقات”: (5/ 142).
(3) نسبه المصنف في عدد من كتبه لسفيان بن عيينة، انظر “الرد على الشاذلي” (ص 31 – بتحقيقي)، وذكره ابن القيم في “بدائع الفوائد” (2/ 440 – بتحقيقي).

(7/195)


القذَّة بالقذَّة، حتى لو دخلُوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتموه”. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: “فمَنْ” (1)؟!
ولهذا يؤخَذ ما يَعرِض لهؤلاء بإزاء ما يعرض لهؤلاء.
فأهل النظر والعلم والكلام المُحْدَث قد يقعون في نَفْيِ ما أثبته الرسول من الأمور التي وصفها، كما يقع أهل الإرادة والعبادة والتصوّف المُحْدَث في الفناء عمّا أَمر به الرسول من الأعمال التي شَرَعها.
ثم أولئك منهم مَن يجعلُ النفيَ لما أثبته الرسول من الصفات والكلام وغير ذلك، هو غاية المعرفة والتحقيق والتوحيد، كما فَعَلَت الجهمية المَحضة.
ومنهم مَن يَجعلُ كثيرًا مما أُحْدِثَ من الكلام لازمًا لسالك الطريق، حتى يَعْرِفَ مطلوبَه بالدليل النظري، وبعدّة أمور أخرى.
وبعضهم يجعل مَنْ وقع في شيء من ذلك مُلْحِدًا خارجًا عن الدين.
والتحقيق: أن هذا أمرٌ يعرض لبعض الناس، فقد يحتاج بعض الناس لشبهةٍ عَرَضت له إلى ما يزيلها عنه، وقد يحتاج في بعض الأمور إلى دليل مُعيَّن، وقد يقع كثير منهم في بعض البدع المحْدَثة.
_________
(1) أخرجه البخاري (7320)، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(7/196)


فهذه عوارض تعرض للسالكين، واللازم للناس طاعة (1) الرسول بما أخبر، وطاعته فيما أمر، وأخْذ (2) ذلك مِن الطرق التي شَرَعها وبيَّنها، كما كان عليه الصحابة. فلا أحد أعلمُ بالدِّين ولا أَتْبعُ له منهم، وليس من القرون أعلم بالله من قَرْنهم، وبما (3) يستحقّه من الأسماء والصفات له نفيًا وإثباتًا.
ثم إنه قد يعرض لبعض مَن اتبع الكلامَ المُحْدَث والتصوّف المحْدَث= أَنْ صار إلى طريق أهل الإلحاد، وقال بالحلول والوحدة والاتحاد.
فإنهم أخذوا نَفْيَ الجهمية في الصفات والفناء الذي أخذته بعض الصوفية من العبادات، فكانوا فيه حائرين، وإلى اتّباعِ شهوات أنفسهم صائرين (4).
_________
(1) كذا، وكتب الناسخ في الهامش: “لعله: تصديق الرسول”.
(2) في الأصل: “واجدّ”.
(3) رسمها: “مما”.
(4) في آخر الأصل: “تم الكتاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وقع الفراغ من تحرير هذا الكتاب المبارك في يوم الأحد سنة 1285. بقلم الفقير إلى الله راشد بن عبد الله العنزي، غفر الله له ولإخوانه المسلمين. آمين ثم كتب على هامشها: “بلغ مقابلة على الأصل بحسب الطاقة، ولله الحمد والمنة”.
ثم كتب ثلاثة عشر بيتًا لا تعلق لها بالكتاب وذكرنا بعضها في المقدمة عند وصف النسخة”.

(7/197)


الرسالة في أحكام الولاية

(7/199)


الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ (1)
ولا حول ولا قوة إلا بالله
سأل بعضُ ولاة الأمور ــ وفقه الله تعالى لمعالي الأمور، وجنَّبه بفضل رحمته مواقعَ الشرور، وجمع بينه وبين أوليائه في دار الحبور ــ شيخَ الإسلام ومفتي الأنام، ومن عمَّت بركتُه أهلَ العراقين والشام: تقيَّ الدين أبا العباس أحمد بن الشيخ العلامة شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، أعاد الله من بركته على الطالبين، وأعلى درجته في علّيين= أن يبيِّن له سبيلَ حكم الولاية على قواعد بناء (2) الشرع المطهَّر، بسبب تهمة وقعت في سرقة، ليكتب شيئًا في ذلك (3).
فكتبَ له الجوابَ مختصرًا، وبالله التوفيق (4).
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه (5) وسلّم تسليمًا.
_________
(1) كتب على طرّة الأصل: “تعرف هذه بالرسالة في أحكام الولاية”.
(2) هكذا استظهرتُ هذه الكلمة من الأصل وليست في (ك).
(3) في الديباجة اختلاف بين ما في الأصل و (ك) لم نُشر إليه.
(4) “له الجواب … وبالله التوفيق” ليست في (ك).
(5) ليست في (ك).

(7/201)


ولاية أمور الإسلام (1) من أعظم واجبات الدين، وأفضل أعمال الصالحين، وأعلى القُرُبات إلى ربّ العالمين، إذا اجتهد وليّ أمرهم في اتباع الكتاب والسنة، وتحرِّي العدل والإنصاف، وتجنُّب طرق الجهل والظلم، ولا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “سبعة [ق 2] يظلّهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله: إمام عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معَلَّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه، ورجلٌ ذَكَر اللهَ خاليًا ففاضت عيناه بالدموع (2)، ورجل دعته امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله ربّ العالمين، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينه”. أخرجاه في “الصحيحين” (3).
فانظر كيف قدّم النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الإمامَ العادل.
وفي الحديث: “يومٌ مِن إمامٍ عادل أفضل من عبادة ستين أو سبعين (4) سنة” (5).
_________
(1) (ك): “المسلمين”.
(2) ليست في (ك).
(3) البخاري (660)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) هنا علامة لحق في الأصل لم يظهر في مصوّرتي. والمثبت من (ك). كما في لفظ الحديث وسياقات المؤلف له في مواضع عدة منها ما سيأتي (ص 231).
(5) أخرجه الطبراني في “الكبير” (11932)، و”الأوسط” (4762)، وأبو نعيم في “فضيلة العادلين” (16)، والبيهقي في “الكبرى”: (8/ 162) و”الشعب” (6995). من طريق عكرمة عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ مرفوعًا. الحديث. قال الطبراني: “لم يرو هذا الحديث عن عكرمة إلا عفان بن جبير، تفرد به جعفر بن عون، ولا يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد”. وقال الهيثمي في “المجمع”: (6/ 263): “فيه زريق بن السخت ولم أعرفه”. وضعفه الألباني في “السلسلة الضعيفة” (989).

(7/202)


وفي الحديث الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “المقسطون عند الله تعالى على منابرَ من نور عن يمين الرحمن ــ وكلتا يديه يمين ــ الذين يعدلون في حكمهم وما وَلُوا عليه (1) ” رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو (2).

وولاية الشرطة والحرب من الولايات الدينية والمناصب الشرعية، المبنيّة على الكتاب والسنة، والعدل والإنصاف، ولها قوانين صنّف العلماءُ فيها مصنّفات كما صنفوا في ولاية القضاء.
فإنّ والي الحرب يُقيم الحدودَ الشرعية على الزاني والسارق والشارب ونحوهم. ويقيم التعزيرات الشرعية على من تعدَّى حدودَ الله. ويحكم بين الناس في المخاصمات والمضاربات، ويعاقب في التُّهَم المتعلقة بالنفوس (3) والأموال، وينصب العُرَفاء الذين يرفعون إليه أمر
_________
(1) “عليه” ليست في (ك).
(2) (1827). و”رواه مسلم … ” إلخ من (ك).
(3) الأصل: “المعلقة بالنفس”.

(7/203)


الأسواق، والحرَّاس الذين يُعرّفونه (1) أمور المساكن، وغير ذلك من مصالح المسلمين.
وكلُّ هذه الأمور من الأمور الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة. قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “حدٌّ يُقام في الأرض خير من أن تُمْطروا أربعين صباحًا” (2).
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من حالت شفاعتُه دون حدٍّ من حدود الله فقد ضادَّ اللهَ في أمره، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حُبِس في رَدْغة الخَبال حتى يخرج مما قال، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع” رواه أبو داود (3).
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفاؤه الراشدون ــ رضي الله عنهم ــ يقيمون العقوبات الشرعية، ويُعرِّفون العُرفاء، وينقِّبون النُّقباء، ويحكمون بين الناس في الحدود والحقوق، وقد جعل الله لكلِّ شيء قدرًا.
_________
(1) الأصل: “يرفعون”.
(2) أخرجه أحمد (8738)، والنسائي في “الصغرى” (4904)، وفي “الكبرى” (7350)، وابن ماجه (2538)، وابن حبان (4398). واختلف في إسناده بين الرفع والوقف، ورجّح الدارقطنيُّ في “العلل”: (11/ 112)، والنسائيُّ الوقفَ.
(3) رقم (3597). وأخرجه أحمد (5385)، وعبد الرزاق: (11/ 425)، والحاكم: (2/ 27)، والبيهقي: (6/ 82)، وغيرهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الحاكم: صحيح الإسناد، وجوَّد إسناده المنذري في “الترغيب”: (3/ 198)، وابن القيم في “إعلام الموقعين”: (6/ 573)، والذهبي في “الكبائر”: (ص/477)، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على “المسند”: (7/ 204).

(7/204)


فإذا ادَّعى الرّجلُ على آخر أنه باعه أو أقرضه، أو نحو ذلك من العقود؛ لم يكن في ذلك عقوبة، بل إن أقام المدَّعي بيّنةً وإلا حُلِّف المدَّعى عليه. وإذا حَلَف بَرِئ في الظاهر وكان المدَّعي هو المفرِّط حيث لم يُشْهِد عليه.
وقد [ق 3] جرت العادةُ: أن ما فيه شهادات وتعديل وإثبات وأيمان فمَرْجِعه إلى القضاء.
وأما التُّهَم، وهو إذا ما قُتل قتيل لا يُعرف قاتِلُه، أو سُرِق مال لا يُعْرف سارِقُه؛ فالحكم في هذا على وجهٍ آخر. فإنه لو حُلِّفَ المتّهمُ وسُيِّب، ضاعت الدماء والأموال، وكذلك لو كُلِّف المدَّعي بالبينة، فإن القاتل والسارق (1) لا يفعل ذلك غالبًا قُدَّام أحد.
ولو كان كلُّ من اتهمه صاحبُ الدمِ والمالِ يُضْرَب، لكان يُضْرَب الصالحون، وأهلُ البرّ والتقوى، والعلماءُ والمشايخ، والقضاة، والأمراء، وكلُّ أحدٍ بمجرَّد دعوى المُتَّهم (2). وهذا ظلم وعدوان، فإنَّ الظلم لا يُزال بالظلم.
بل الاعتدال في ذلك: أن يُحبس المتّهم الذي لم تُعلَم براءتُه، فقد روى بَهْزُ بن حكيم عن أبيه عن جدِّه: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (3) حَبَس في
_________
(1) من (ك).
(2) في الحاشية إشارة غير واضحة إلى أنها في نسخة: “التهمة”.
(3) في الأصل: “صلى الله”.

(7/205)


تهمة (1).
وهذا حديث ثابت، وقد عمل به (2) الأئمة وأتباعُهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم ــ رضي الله عنهم ــ.
ثم يُنظَر في المتّهم، فإن عُرف قبل ذلك بسرقة، أو قامت أمارات تقتضي أنه قد سَرَق= فقد رخَّص كثير من العلماء في ضربه حتى يعترف بالسّرِقة.
وقد روى البخاري في “صحيحه” (3) أنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – سلَّم إلى الزُّبير ابن العوَّام رجلاً ليعاقبه على مال اتُّهِم بكتمانه، حتى اعترف بمكانه.
_________
(1) أخرجه أبو داود (3630)، والترمذي (1417)، والنسائي (4875)، والحاكم: (4/ 102)، والبيهقي: (6/ 53). وغيرهم من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده. قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه.
وأخرجه الحاكم: (4/ 102)، والبيهقي: (6/ 77) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفيه إبراهيم بن خثيم، قال الذهبي: متروك.
(2) ليست في (ك).
(3) وعزاه المصنف في “السياسة الشرعية”: (ص 61 – بتحقيقي) للبخاري، وفي “الفتاوى”: (35/ 40) للصحيح. أقول: والبخاري إنما ذكر سنده فقط دون متنه عقب حديث رقم (2730) وقال: “اختصره”، وعزاه الحميدي في “الجمع بين الصحيحين”: (1/ 121) مطولًا للبخاري، والمصنف كثير الاعتماد على كتاب الحميدي، وهو من أوائل محفوظاته، فالغالب أنه اعتمد عليه في العزو. وانظر للمزيد تعليقي على “السياسة الشرعية” للمصنف.
والرجل هو: سَعْية عم حُيي بن أخطب.

(7/206)


وإن شهد الناسُ لذلك المتّهم أنه من أهل الثقة والأمانة، لم يجز أن تُباح عقوبته بلا سبب يُبيح ذلك. فإنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “ادرأوا الحدودَ بالشُّبُهات، فإنَّ الإمام أنْ يخطئ في العفو خيرٌ مِن أن يخطئ في العقوبة” (1).
وأكثر ما يُفعل بمن يكون هكذا أن يضمن عليه، ويحَلَّف الأيمان الشرعية على نفي ما ادُّعِيَ به عليه.
وقد روى أبو داود في “سننه” (2) أن قومًا جاؤوا إلى النعمان بن بشير فقالوا: إن هذا سرق لنا مالاً فاضربه حتى يعترف به، فقال: إن شئتم ضربته، فإن ظهر مالكم عنده وإلا أخذت من ظهوركم مثل ما أخذت من ظهره. فقالوا: هذا قضاؤك؟ قال: هذا قضاء الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) بعده في (ك): “رواه أبو داود” ولم أجده فيه.
والحديث أخرجه البيهقي في الكبرى: (8/ 238) عن عليّ مرفوعًا بلفظ: “ادرؤوا الحدود” وضعّفه، وقال في “خلافياته”: إنه شبه لا شيء.
وأخرجه الترمذي (1424)، والحاكم: (4/ 384) من حديث عائشة بلفظ: “ادرأوا الحدود عن المسلمين … ” الحديث. قال الترمذي: “لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث محمد بن ربيعة عن يزيد بن زياد الدمشقي … وهو ضعيف في الحديث. ورواه وكيع ولم يرفعه، ورواية وكيع أصح”. وضعفه البيهقي والحافظ ابن حجر في “البلوغ” (1220). وقال الحاكم: صحيح الإسناد.

وروي أيضًا من حديث أبي هريرة بنحوه. أخرجه ابن ماجه (2545) وغيره. وهو ضعيف. وروي موقوفًا على عمر وابن مسعود.
(2) رقم (4382) بنحوه. وأخرجه النسائي (4874)، وفي “الكبرى”: (7320). وقال في الكبرى: هذا حديث منكر لا يحتج بمثله، وإنما أخرجته ليُعرَف.

(7/207)


وإذا عُرِف أن الرجل عنده مال يجب عليه أداؤه، إما دينٌ يَقْدِر على وفائه وقد امتنع من الوفاء، وإما وديعة أو عاريَّة، وإما مال سرقَه، أو غَصَبَه (1)، أو خانه من مال السلطان الذي يجب عليه دفعه، أو من مال الوقف أو (2) اليتيم، أو من مال موكِّله أو شريكه، أو نحو ذلك= فإذا عُرف أنه قادر على أداء المال، وهو ممتنع، فإنه يُضرب مرةً بعد مرةٍ حتى يؤديه. قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “ليُّ الواجِدِ يُحلّ عِرْضه وعقوبتَه” (3).
الليُّ: المطل، والواجد: القادر.
[ق 4] (4) وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “مَطْل الغنيِّ ظلم” (5).
وهذا أصل متفق عليه بين العلماء: أن مَن ترك الواجبات فإنه يُعاقَب
_________
(1) كلمة شبه مطموسة في الأصل، والمثبت من (ك).
(2) “الوقف أو” ملحقة في هامش الأصل ولم يظهر منها إلا “أو” والتصحيح.
(3) أخرجه أحمد (17946)، وأبو داود (3628)، والنسائي (4690)، وابن ماجه (2427)، وابن حبان (5089)، والحاكم: (4/ 114)، والبيهقي: (6/ 51)، وعلقه البخاري في كتاب الاستقراض، باب لصاحب الحق مقال.
والحديث صححه ابن حبان، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وصححه العراقي في “تخريج الإحياء”: (2/ 824)، وابن الملقن في “البدر المنير”: (6/ 656)، وحسنه الحافظ في “الفتح”: (5/ 76)، وفي “التغليق”: (3/ 319).
(4) سقطت هنا [ق 4] من نسخة الأصل. فلا أدري هل هو من مصورتي أو من الأصل.
(5) أخرجه البخاري (2287)، ومسلم (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7/208)


حتى يفعلها، ومن ارتكب الحُرُمات عوقب على ركوبها. وأداءُ الحقوق إلى أصحابها من الواجبات.
لكن هذا إذا عُرِف أن الحق عنده، فأما مع التهمة فيفرَّق بين الأبرار والفجّار، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا.
وإن لم يفعل الوالي ذلك وإلا تناقضت أحكامه، فقد يكون المتهم متجوّهًا (1) أو يشفع إليه فيه ذو قَدْر، فيحتاج أن يُعاقب له أهل الأمانة والصدق والصلاح، وكل هذا عدوان، وإنما العدل أن يحكم بين الناس حكمًا واحدًا يسوّى فيه بين القوي والضعيف والشريف والوضيع بحسب قدرته وطاقته.
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لما تولّى: “أيها الناس! القويّ فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحقَّ، والضعيف فيكم القويّ عندي حتى آخذ له الحق، فأطيعوني ما أطعتُ الله، فإذا عصيتُ الله فلا طاعةَ لي عليكم” (2).
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إنما هلك مَن كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، والذي
_________
(1) تجوّه إذا تكلّف الجاه وليس به ذلك. “التاج”: (36/ 371).
(2) أخرجه ابن إسحاق في السيرة (سيرة ابن هشام 2/ 661) من طريق الزهري عن أنس، وصحح إسناده ابن كثير في “البداية والنهاية”: (9/ 415)، وأخرجه معمر في “جامعه”: (11/ 336).

(7/209)


نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقَتْ لقطعتُ يدَها” أخرجاه في “الصحيحين” (1).
فلهذا يجب على الوالي إذا ثبت أن الرجل قد سرق ما مقداره ربع دينار، وهو نحو خمسة دراهم بهذه الدراهم، فإنه يجب قطع يده ولا يحل تأخيره لغير عذر، ولا يحلّ لأحدٍ أن يشفع إليه في ذلك، ولا يحلّ له قبول الشفاعة.
بل قد جاء في الحديث: “إذا بلغت الحدودُ السلطانَ فلعَنَ الله الشافِعَ والمشفّعَ” (2).
وسوف إن شاء الله تعالى أكتب للأمير ــ أحسن الله إليه ــ شيئًا جامعًا، فإن والي الحرب قد كان في هذه البلدة ــ يعني دمشق ــ الافتخار، وكان عند الناس من أولياء الله تعالى، وقد كان عندهم قاضٍ يقال له: الرفيع، وكان من أعداء الله تعالى، ليُعلم أن الاعتبار في الحمد والذم والثواب والعقاب في جميع الولايات بطاعة الله ورسوله واتباع الكتاب والسنة وتحرّي العدل والإنصاف والله أعلم (3).
_________
(1) أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه مالك في “الموطأ” (2417) عن ربيعة الرأي موقوفًا، وأخرجه الدارقطني (3467) وغيره عن عروة بن الزبير عن الزبير، لكن ضعفه عبد الحق في “الأحكام الوسطى”: (4/ 95) وابن القطان في “بيان الوهم”: (3/ 140 – 141)، وأخرجه ابن أبي شيبة (5/ 473) بإسناد حسن كما قال الحافظ ابن حجر.
(3) هنا انتهت الرسالة في نسخة (ك)، وفي آخرها ما نصه: “نقلتها من خط الإمام شمس الدين محمد بن المحبّ. وقال: نقلتها من خط الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن سونج بن عمر بن إبراهيم بن الدمشقي نسبا البكري خرقة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا. محمد بن الحبال الأنصاري الحراني عفا الله عنهم ولطف بهم وبالمسلمين آمين”.

(7/210)


(1) {[لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ] [ق 5] هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] وهؤلاء المهاجرون.
ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] وهؤلاء الأنصار.
ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
وهذا الصنف الثالث إلى يوم القيامة، وصفهم بالاستغفار للسلف وسؤال الله ألا يجعل في قلوبهم غلًّا لهم، وهؤلاء يلعنون السلف ولا
_________
(1) بقية الرسالة من نسخة الأصل فقط، والأمر فيها مضطرب، هل هي من الرسالة نفسها أو من رسالة أخرى سقط أولها؟ لم يتبين لي، فأثبتنا النص على حاله.

(7/211)


يستغفرون لهم، ولا يطلبون من الله منع الغل، بل يسعون في قوَّة (1) الغلِّ والبغض والعداوة لخيار أهل الإيمان.
ثم إن هؤلاء يخونون ولاة أمور المسلمين في الجهاد وحفظ البلاد، وهم أعداؤهم عداوةً دينية؛ إذ كانوا يعادون خيار الأمة، وخيارَ ولاة أمورها الخلفاء الراشدين، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
والذي ابتدع الرَّفْض كان منافقًا زنديقًا أظهر موالاة أهل البيت؛ ليتوسل بذلك إلى إفساد دين الإسلام، كما فعل بولص مع النصارى. ولهذا كانت الرافضة ملجأً لعامَّة الزنادقة القرامطة، والإسماعيلية، والنصيرية، ونحوهم.
فلا يصلح لولاة الأمور أن يولّوهم على المسلمين، ولا استخدامهم في عَسْكر المسلمين، بل إذا استبدل بهم من هو من أهل السنة والجماعة= كان أصلح للمسلمين في دينهم ودنياهم.
[و] إذا أظهروا التوبة والبراءة من الرفض، لم يوثق بمجرَّد ذلك، بل يُحْتاطُ في أمرهم، فيفرّق جموعهم، ويُسكنون في مواضع متفرّقة بين أهل السنة، بحيث لو أظهروا ما في أنفسهم عُرِفوا، ولا يتمكنون من التعاون على الإثم والعدوان. فإنهم إذا كان لهم قوَّة وعدد في مكان، كانوا عدوًّا للمسلمين مجتمعين، يعادونهم أعظم من عداوة التتر بكثير.
_________
(1) هكذا استظهرتها.

(7/212)


ولهذا يخبر أهل الشرق القادمون من تلك البلاد: أن الرافضة أضرّ على المسلمين من التتر، وقد أفسدوا مَلِك التتر وميَّلوه إليهم، وهم يختارون دولته وظهوره (1)، فكيف يجوز أن يكون في عسكر المسلمين من هو أشدّ عداوةً وضررًا على المسلمين من التتر؟!
والتتريُّ إذا عَرَف الإسلام ودُعي إليه أحبّه واستجاب إليه، إذ ليس له دين يقاتل عليه ينافي الإسلام، وإنما يقاتل على الملك.
وأما الرافضة فإن من دينهم السعي في إفساد جماعة المسلمين وولاة أمورهم [ق 6]، ومعاونة الكفار عليهم؛ لأنهم يرون أهل الجماعة كفارًا مرتدِّين، والكافر المرتدّ أسوأ حالاً من الكافر الأصلي، ولأنهم يرجون في دولة الكفار ظهورَ كلمتهم وقيام دعوتهم ما لا يرجونه في دولة المسلمين، فهم أبدًا يختارون ظهور كلمة الكفار على كلمة أهل السنة والجماعة، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في الخوارج: “يقتلون أهل الإسلام ويَدَعونَ أهلَ الأوثان” (2).
وهذه سواحل المسلمين كانت مع المسلمين أكثر من ثلاثمائة سنة، وإنما تسلَّمها النصارى والفرنج من الرافضة، وصارت بقايا الرافضة فيها مع النصارى.
_________
(1) الأصل: “وظهور”، وفي هامش النسخة إصلاح للكلمة لكنه لم يظهر.
(2) أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(7/213)


وأما دولة التتر؛ فقد علم الله أنَّ الذي دخل مع هولاكو ملك التتر، وعاونه على سفك دماء المسلمين، وزوال دولتهم، وسَبْي حريمهم، وخراب ديارهم، وأخْذِ أموالهم= فهم الرافضة، وهم دائمًا مع اليهود والنصارى أو المشركين.
فكيف مثل هؤلاء ولاةً على المسلمين أو أجنادًا، لهم مقدَّم منهم في عَسْكر المسلمين، يأكلون أموال بيت المال، منفردين في بلادٍ عن جماعة المسلمين؟!
فمن أعظم النُّصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم= دفع ضرر هؤلاء عنهم. والله تعالى أعلم.
تمت.

(7/214)


كتاب الشيخ إلى بعض أهل البلاد الإسلامية

(7/215)


الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
وما توفيقي إلا بالله
جزء فيه: كتاب الشيخ تقي الدين أبو (1) العباس أحمد ابن تيمية (2)، إلى بعض أهل البلاد الإسلامية، فيما تقتضيه الشريعة المحمدية، في قضية سئل عنها من الأمور الدينية.
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
ربِّ اختم لي بخير
لما كان بتاريخ يوم الأحد رابع عشر جمادى الأولى سنة أربع وسبعمائة، حضر إلى مجلس شيخ الإسلام وقدوة الأنام، الإمام العلامة، مفتي الفرق، ناصر السنة، محيي الشريعة، قامع أهل البدع، تقي الدين أبي العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، غفر الله له ولجميع المسلمين وأثابهم الجنة بمنِّه وكرمه= الشيخُ أحمد السرَّاج الفقيه يومئذٍ بقرية كفرقوق الفستق من إقليم داريَّا من أعمال دمشق المحروسة.
وذَكَر أن بقريته ومن حولها أناسًا منهم فقراء من أصحاب الشيخ حسن القطني، وعلي القطني الرفاعية وغيرهم مُوَلَّهين مكشوفي
_________
(1) كذا.
(2) كتب “الحراني” ثم ضرب عليها ليستقيم له السجع.

(7/217)


الرؤوس وغير مولَّهين، وبعضهم يصلي، وبعضهم تارك الصلاة.
فأما الذي يصلي إذا قاموا خلف الإمام في الصلاة إذا سمعوا حِسًّا، كصرير بابٍ أو مشي بقبقاب قويّ أو حركة قويّة= فمنهم [ق 2] من يزعق، ومنهم من يقول: آه آه! ومنهم من يقول: آخ آخ! وأنه نهاهم عن ذلك فقالوا: نحن فقراء وهذه طريقنا وطريق شيخنا!
وأما الذين لم يصلوا منهم فأمَرَهم بالصلاة، فمنهم من اعتذر أن ثوبه نجس، ومنهم من يقول: أنا بردان، ومنهم من يقول: أشغال الدنيا تقطعنا عن الصلاة، ومنهم من يقول: يا فقيه إن الصلاة ما هي فرض إلا على من هو فارغ من عمل الفلاحة وأشغال الدنيا!
وسأل الشيخ أن يكتب له كتابًا إليهم، فكتب له الشيخ كتابًا إليهم وإلى غيرهم بما تقتضيه الشريعة الإسلامية، والسنة النبوية المحمدية، وهذه صورة الكتاب:

(7/218)


الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
من الداعي أحمد ابن تيمية إلى من يصل إليه كتابه من أمراء المسلمين وولاتهم وقضاتهم ورؤسائهم، جمعَ الله لهم خير الدنيا والآخرة، وأسبغ عليهم نِعَمه باطنة وظاهرة، وتولّاهم في جميع الأمور، وصرف عنهم كلّ محذور.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهلٌ، وهو على كل شيء قدير. ونسأله أن يصلِّي على إمام المتَّقين وخاتم النبيين: محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
أما بعد؛ فإن الله تعالى بعث محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وجعل أمَّته خيرَ أمة أخرجت للناس، وأنزل عليه أفضل الكتب، وأكمل له ولأمته الدين، وأتمَّ عليهم النعمة.
وقد أمر الله ــ سبحانه ــ عبادَه المؤمنين بجهاد من خرج عن دينه من الكافرين والمنافقين، وأمر بجهاد من خرج عن شريعة الإسلام، حتى يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا.
وفرَضَ على المؤمنين الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر، فأعْرَف المعروف، وعماد الدين، وأفضل الأعمال، وأول ما أوجبه الله من الفرائض، وآخر ما يبقى من الدين: هي الصلوات الخمس في مواقيتها

(7/219)


كما أمر الله ورسوله. فإنه يجب قتال الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، كما أمر الله ورسولُه.
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله” (1).
وقال – صلى الله عليه وسلم -: “خمسُ صلوات فرضهنَّ الله على العبيد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليهنَّ، كان له عند الله عهدٌ أن يدخله الجنة” (2).
_________
(1) أخرجه أحمد (22016)، والترمذي (2616)، والنسائي في “الكبرى” (11330)، وابن ماجه (3973)، والحاكم: (2/ 76)، والبيهقي: (9/ 20) وغيرهم من حديث أبي وائل شقيق بن سلمة عن معاذ بن جبل ــ رضي الله عنه ــ. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، والمصنف في “الفتاوى”: (17/ 26).
وقد تعقب ابن رجب من صحح الحديث من وجهين:
الأول: أنَّه لم يثبت سماعُ أبي وائل من معاذ، وإنْ كان قد أدركه بالسِّنِّ، وكان معاذٌ بالشَّام، وأبو وائل بالكوفة. وقد حكى أبو زرعة الدِّمشقي عن قوم أنَّهم توقَّفُوا في سماعِ أبي وائل من عمر، أو نفوه، فسماعه من معاذ أبعد.
والثاني: أنَّه قد رواه حمَّادُ بن سلمة، عن عاصم بن أبي النَّجود، عن شهر بن حوشبٍ، عن معاذ، خرَّجه الإمام أحمد مختصرًا. قال الدارقطني “العلل”: (6/ 73 ــ 79): وهو أشبهُ بالصَّواب؛ لأنَّ الحديثَ معروفٌ من رواية شهرٍ على اختلافٍ عليه فيه. وله طرقٌ أخرى عن معاذ كلُّها ضعيفة. انظر “جامع العلوم والحكم”: (2/ 135). والحديث صحيح بشواهده.
(2) أخرجه أحمد (22693)، وأبوداود (1420)، وابن ماجه (1401)، والنسائي (462)، وابن حبان (1732) وغيرهم، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه به. وفي سنده المخدجي ذكره ابن حبان في ثقاته وأخرج له في صحيحه.
وله طريق أخرى عن عبد الله (أو أبو عبد الله) الصنابحي عن عبادة بنحوه. أخرجه أحمد (22704)، وأبوداود (425)، والبيهقي: (2/ 215)، وغيرهم. وسنده صحيح. و الحديث صحَّحه ابن عبد البر في “التمهيد”: (4/ 184)، وابن الملقن في “البدر المنير”: (5/ 389). ووقع في الأصل “عهدًا”.

(7/220)


وقال: “ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة” (1). وقال: “العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد [ق 3] كفر” (2).
فعلى المسلمين أن يقيموا الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله، وعليهم أن يأمر بعضُهم بعضًا بذلك من الرجال والنساء، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].
وقال عليٌّ ــ عليه السلام ــ: “علِّموهم وأدِّبوهم” (3).
ومن امتنع من الصلوات الخمس من الرجال والنساء؛ فعليه العقوبة
_________
(1) أخرجه أبو داود (4678)، والترمذي (2620)، وابن ماجه (1078)، والنسائي (464)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن صحيح.
(2) أخرجه أحمد (22937)، والترمذي (2621)، وابن ماجه (1079)، النسائي (463)، وابن حبان (1454)، والحاكم: (1/ 6 – 7) وغيرهم من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. قال الترمذي: “حسن صحيح غريب”، وصححه ابن حبان والحاكم. وصححه ابن القيم في “الصلاة” (ص 68) على شرط مسلم.
(3) أخرجه الطبري: (23/ 103)، وغيره كما في “الدر المنثور”: (14/ 588 ــ هجر). ومضى التعليق على قوله: “عليه السلام” (ص 151).

(7/221)


البليغة بإجماع المسلمين، وحُكْمه أن يُسْتتاب، فإن تاب وإلا قُتل.
وهذا الكتاب كُتِبَ إنذارًا وإعذارًا، فمن أطاع اللهَ ورسولَه فله سعادة الدنيا والآخرة، ومن امتنع من ذلك عُوقِب بما حَكَم الله به ورسوله.
وليس للمسلم أن يؤخِّر الصلاةَ عن وقتها إلا إذا كان له عذر، فإنه يجمع بين صلاتي النهار: الظهر والعصر، وصلاتي الليل: المغرب والعشاء. ولا يؤخِّر صلاةَ الليل إلى النهار، ولا صلاة النهار إلى الليل باتفاق المسلمين.
ومن كان جُنبًا أو محدِثًا وقد عدم الماء أو تضرر باستعماله لبردٍ أو مرض= فإنه يتيمّم الصعيد الطيّب ويصلي، وإذا لم يجد إلا ثوبًا صلى فيه ولو كان نجسًا إذا لم يقدر أن يصلي إلا على تلك الحال، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم” (1).
وعلى المسلمين ملازمة السنن النبوية المحمدية، ومجانبة البدع المحدثة الجاهلية؛ فيقوموا في الصلاة لله قانتين كما أمر الله ورسوله.
ومن تكلَّم في صلاته بكلام الآدميين، أو صاح في صلاته لصرير بابٍ أو حسِّ شيءٍ من الأشياء ونحو ذلك، فقد عصى اللهَ ورسولَه، وبطلت صلاتُه. وإنما الصلاة هي القراءة والتسبيح والتحميد والتكبير والدعاء لله، كما علّمَه النبي – صلى الله عليه وسلم – أُمَّته.
_________
(1) أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(7/222)


وليس لأحدٍ خروجٌ عما أمر الله ورسوله به المسلمين، ولا عما شرعه الله ورسوله لعباده المؤمنين، بل جميع الأولياء والصالحين من الأولين والآخرين داخلون في ذلك، ملتزمون لذلك.
ومن خرج عن شريعة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وطريقته، وهو الشِّرْعة والمنهاج الذي بعَثَه به، فلم يلتزم أداء الواجبات ولا اجتناب المحرَّمات؛ فإنه يجب قتله وقتاله كائنًا من كان، كما يجب قتال التتار، وبعض هؤلاء شرٌّ منهم، سواءٌ كان منتسبًا إلى العلماء أو الفقهاء، أو العبَّاد والفقراء، أو الملوك والرؤساء، ولو طار في الهواء أو مشى على الماء!!
ليس لأحدٍ خروجٌ عما أمر الله به ورسوله، ولا [ق 4] هو (1) أحد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما كان الخضر مع موسى ــ عليه السلام ــ، فإنّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “كان النبيّ يُبْعث إلى قومه خاصَّةً وبُعِثتُ إلى الناس عامة” (2). فموسى ــ عليه السلام ــ لم يكن مبعوثًا إلى الخضر ولا كان الخضر مأمورًا بطاعته، بل قال له: “إني على عِلْمٍ مِن عِلْم الله علّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على عِلْم مِن عِلْم الله علَّمكه الله لا أعلمه” (3).
_________
(1) كذا. ولعلها: “يكون”.
(2) أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(3) أخرجه البخاري (122)، ومسلم رقم (2380) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(7/223)


وأما خاتم الرسل وسيد ولد آدم، فهو مبعوثٌ إلى جميع الثَّقَلين الجن والإنس. ولو قال أحدٌ له مثل ما (1) قال الخضر لموسى لكان كافرًا يجب قتله، فعلى المسلمين أن يعرفوا هذا الأصل، الذي هو (2) عصمتهم في دينهم.
ولا يمكن (3) أحدًا من الابتداع في الدين لما لم يأذن به الله، فإن الله تعالى يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
ومن انتسب إلى شيخ من شيوخ المسلمين، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله، ونسب بدعته إلى ذلك؛ فهو كاذب عليه مفترٍ إن كان الشيخ مهتديًا في ذلك، وإلا كان الشيخ قد أخطأ وضلَّ إن ثبت أنه خالف السنة النبوية.
وليس لأحدٍ أن يطيع أحدًا في خلاف سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولو كان من أكابر مشايخ الدين وأئمة المسلمين. قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء:65]. [و] قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51].
_________
(1) غير واضحة في الأصل.
(2) ملحقة في الهامش ولم تظهر، وتحتمل”به”.
(3) طمس جزء منها ويمكن أن تقرأ غير ذلك.

(7/224)


وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء: 60 – 61].
فكل من دُعي إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فصدَّ عن ذلك وأعرضَ عنه، طاعةً لبعض السادة والكُبَراء في الدين أو في الدنيا= فهو منافق أخذ بنصيبٍ من حال الذين {تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 66 – 68].
وهؤلاء الذين يبتدعون في الدين كشفَ الرؤوس، وتفتيل الشعور، وإظهار الخزعبلات، مثل اللعب بالحيَّات والنار واللاذن والزعفران والسكر والدم= هم مبتدعون في ذلك ضالّون مضِلّون.
[ق 5] وكل من كان صالحًا وليًّا، فهو بريءٌ من هذه البدع والضلالات والأكاذيب والتلبيسات.
وأما أولياء الله تعالى فهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا

(7/225)


وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:61 – 63]. فقد وصف الأولياء بالإيمان والتقوى.
وقد فسّر الله ــ سبحانه وتعالى ــ التقوى في قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة: 177].
والله هو المسؤول أن يجمع لكم ولسائر المسلمين خير الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليمًا كثيرًا.
علقه لنفسه محمد بن أحمد بن علي الخطيب، من أصل حسين بن إبراهيم بن أحمد بن سونج (1)، وعليه خط الشيخ ــ رضي الله عنه ــ. وذلك في سابع عشر شهر رمضان سنة ست وثلاثين وسبعمئة.
_________
(1) ذكره الذهبيّ في “تاريخ الإسلام”: (51/ 180، 356. 52/ 217) هو وأخوته الأربعة وأباهم، وقال عن حسين هذا: “صاحبنا الشيخ حسين”. وقال: “وخمستهم فيهم دين وجودة”.

(7/226)


كتاب الشيخ إلى الأمير
شمس الدين سُنْقرچاه

(7/227)


كتابٌ كتبه شيخ الإسلام وقدوة الأنام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية ــ رضي الله عنه ــ إلى الأمير شمس الدين سُنْقرچاه (1) المنصوري لما تولى صَفَد المحروسة في شهر شوال من سنة أربع وسبعمئة. وهذه نسخَتُه:
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
من الداعي أحمد ابن تيمية إلى أمير الأمراء شمس الدين ناصر الإسلام، أعزَّ الله به الدين وأصلح به أمور المسلمين، وأقام له وبه أمر الدنيا والدين، وأعانه على إقامة العدل في العالمين، ودَفْع أهل البدع والفجور المعتدين.
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنَّا نحمدُ [ق 2] إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وإمام المتقين: محمدٍ عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليمًا.
أما بعد؛ فإنّ الله تعالى قد أنعم على الأمير وأنعم به، حيث جعل فيه من الصفات المحمودة والأخلاق الرضيَّة ما قد انتشر عنه وسَمِعَه المسلمون، ولهذا فرحوا بولايته فرحًا شديدًا عظيمًا، فالله تعالى يتمُّ نعمته عليه وعلى إخوانه المؤمنين.
_________
(1) كذا، ويقال: “سنقرشاه”، وقد ترجمت له في المقدمة عند الكلام على الرسالة.

(7/229)


فقد ثبت في “الصحيحين” (1) أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال: “وجَبَت وجَبَت”. ومُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًّا، فقال: “وجَبَت وجَبَت”. قالوا: يا رسول الله ما قولك: “وجبت وجبت”؟ قال: “هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًّا فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض”.
فأيُّ وليِّ (2) أمرٍ من أمور المسلمين أنعمَ الله عليه بحُسْن القصد، وابتغاء وجه الله، والنُّصْح لرعيَّته، وإقامة العدل بينهم، فإنّ الله تعالى يجعل له من الدُّعاء المستجاب، والثناء المستطاب، وجميل الأجر والثواب= ما هو من أنفع الذخائر له في الدنيا والمآب.
وإذا أراد المسلم أن يتدبَّر ذلك، فلينظر كيف شُهرة عمر بن عبد العزيز، والسلطان نور الدين الشهيد، وغير هؤلاء من ولاة الأمور، أهل الصدق والعدل، والهدى والرَّشاد.
ولينظر كيف شهرة قوم آخرين، أقدمهم الحجَّاج بن يوسف الثقفي، وأمثاله من أهل الظلم والعدوان، الذين لهم سمعة سوءٍ في مَحْياهم ومماتهم؛ ما بين ذاكرٍ لمساويهم، وما بين داعٍ عليهم، وما بين مبغضٍ لهم. وأولئك لهم الدعاء والثناء، وهم في الآخرة في {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
_________
(1) البخاري (1367)، ومسلم (949) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) غير واضحة ولعلها ما أثبت.

(7/230)


وقد روى الإمام أحمد في “مسنده” (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “أحبّ الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام ظالم”.
وقد رُوي: “يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين أو سبعين سنة” (2).
وفي “الصحيحين” (3) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشابّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمال، فقال: إني أخاف الله ربَّ [ق 3] العالمين، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينُه”.
وكان عمر بن عبد العزيز يقول عن ذي السلطان: هو كالسوق فما نَفَق فيه جُلِبَ إليه (4). فإذا نَفَق عنده الصدق والبر والعدل وطاعة الله
_________
(1) (11174). وأخرجه الترمذي (1319)، والبيهقي في “الكبرى”: (10/ 88) من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الترمذي: “حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه”. وقال ابن القطان في “بيان الوهم”: (4/ 363): “وعطية العوفي يضعف، وقال ابن معين فيه: صالح. فالحديث حسن”.
(2) تقدم تخريجه (ص 202).
(3) تقدم تخريجه.
(4) أخرجه الخطيب في “تاريخ بغداد”: (10/ 215).

(7/231)


ورسوله= جُلِب إليه ذلك. وإن نَفَقَ فيه ضدُّ ذلك، جُلِب إليه ضدُّ ذلك.
والله ــ سبحانه ــ قد جعل قيام أمر الملّة والدولة بالمصحف والسيف، فقال في كتابه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]. فجعل سبحانه المقصود بإرسال الرسل وإنزال الكتب هو أن يقوم الناس بالقسط، وجعل قيام ذلك بكتابٍ يهدي وسيفٍ ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا.
ولهذا رُوي عن جابر بن عبد الله قال: أمَرَنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن نضرب بهذا ــ يعني السيف ــ من خرج عن هذا ــ يعني المصحف ــ (1).
_________
(1) أخرجه ابن عساكر في “تاريخ دمشق”: (52/ 279) ولفظه: عن عمرو بن دينار قال: رأيت جابر بن عبد الله وبيده السيف والمصحف وهو يقول: أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن نضرب بهذا من خالف ما في هذا. لكن أخرجه سعيد بن منصور في “سننه”: (2/ 333)، والحاكم: (3/ 436)، وابن عساكر: (39/ 322) بسياق آخر ليس من قول جابر، ولفظه: عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: بعثنا عثمان في خمسين راكبًا وأميرنا محمد بن مسلمة، فاستقبلنا رجل في عنقه مصحف، متقلدًا سيفه، تذرف عيناه، فقال: إن هذا يأمرنا أن نضرب بهذا ــ يعني السيف ــ على ما في هذا. فقال له محمد: اجلس، فنحن قد ضربنا بهذا على ما في هذا قبلك أو قبل أن تولد. قال: فلم يزل يكلمهم حتى رجعوا. وصححه الحاكم على شرط الشيخين.

(7/232)


وكان بعض الملوك العادلين (1) يضع المصحف، ويضع “سنن أبي داود”، ويضع السيف، ثم يقول: هذا كتاب الله، وهذه سنة رسوله، وهذا سيف الله. فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسول الله ضربناه بسيف الله.
وقد بَيَّن الله في كتابه آية ولاة الأمور (2)، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58].
وأداء الأمانات هو في الولايات وفي الأموال.
فأما الولايات؛ فإنَّ الله أمر وليَّ الأمر أن يولي في كل جهةٍ أصلح من يقدر عليه، فإن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – … قال: “من قلَّد رجلاً عملاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين” رواه الحاكم في “صحيحه” (3).
_________
(1) هو: السلطان أبو يوسف يعقوب بن يوسف المغربي المرَّاكشي (ت 595). وانظر الخبر في “سير النبلاء”: (21/ 314). وليس فيه قوله: “هذا كتاب الله … “.
(2) انظر “السياسة الشرعية” (ص 5 ــ بتحقيقي).
(3) “المستدرك”: (4/ 104)، وأخرجه ابن أبي عاصم في “السنة” (1462)، وابن عدي في “الكامل”: (2/ 352)، والعقيلي في “الضعفاء”: (1/ 247) من طريق حسين بن قيس الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بأن حسين بن قيس ضعيف. وقال العقيلي في ترجمة الرحبي: وله غير حديث لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به. وقال: إن هذا الحديث يُرْوى من كلام عمر بن الخطاب.
ورواه البيهقي: (10/ 115)، والطبراني في “الكبير” (11216)، وأبو نعيم في “فضيلة العادلين” (ص 107)، والخطيب في “تاريخه”: (6/ 76) من طرقٍ أخرى عن ابن عباس، وكلها ضعيفة. انظر “نصب الراية”: (4/ 62)، و”السلسلة الضعيفة” (4545).

(7/233)