http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: جامع المسائل [آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (2، 3، 4، 5، 9، 13، 17، 18، 29)]المؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661 – 728 هـ) تحقيق: جـ 1 – 6، 8 (محمد عزير شمس)، جـ 7 (علي بن محمد العمران)، جـ 9 (عبد الرحمن بن حسن قائد) راجعه: جـ 1 – 4، 7 (سليمان بن عبد الله العمير، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 5، 6 (سليمان بن عبد الله العمير، جديع بن محمد الجديع، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 9 (سليمان بن عبد الله العمير، على بن محمد العمران) الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الثانية (للمجموعات من 1 – 9)، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الأجزاء: 9 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
وأصحابي» (1).
فوصفهم بالاجتماع واتباع أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو السنة والجماعة.
فكل من خرج عن الدين العام الجامع من الأولين والآخرين فهو من أهل التفرق والاختلاف، الذين اختلفوا في الكتاب، واختلفوا على الأنبياء، وخرجوا عن بعض ما جاءت به الرسلُ عن الله، وهو دين الله العام، وهو دين واحد. والله سبحانه هو الإلاه الواحد، له ما في السماوات وما في الأرض، وهو أحد صمد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
والإيمان بالله ورسله يتضمن ما أخبرتْ به الرسل من الخبر وما أمرتْ به من العمل، فإن ذلك أيضًا وسيلة ومقصود، والإيمان بما أمرتْ به هو الإيمان بالعمل الصالح، وهو الوسيلة. والإيمان بالله وباليوم الآخر غايتانِ، والإيمان بالرسل والعمل الصالح وسيلتان. ولما ذكر
_________
(1) أخرجه بهذا اللفظ الترمذي (2641) والحاكم في المستدرك (1/ 128، 129) وأبو نعيم في الحلية (9/ 242) عن عبد الله بن عمرو، وإسناده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وهو ضعيف.
(8/210)
المِلل التي فيها خير قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. ومثل ذلك في المائدة (1). فعُلِم أن هذه الأصول الثلاثة هي جماع ما يجب في الملل كلها، وإنما أمر بقتال أهل الكتاب لخروجهم عن الأصول الثلاثة في قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فذكر خروجهم عن حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر وعن العمل الصالح الذي هو فعلُ ما أمر به من الحق وتحريم ما حرَّم الله ورسوله. وقد بسطت ذلك في غير هذا الموضع.
فصل
ومحمد بن عبد الله هو خاتم الرسل وأفضلهم وأكملهم، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا، ودينُ الله هو ما بعثه الله به من الكتاب والحكمة، وهو الإسلام الخاص والإيمان الخاص، المتضمن للإيمان العام والإسلام العام. وقد أوجبَ الله على جميع أهل الأرض عربهم وعجمهم وإنسِهم وجنِّهم الإيمانَ به وطاعتَه واتباعَه، وتعزيرَه ونصْرَه وتوقيرَه وغيرَ ذلك من حقوقه، وأوجب على الخلق اتباعَ الكتاب
_________
(1) الآية: 69.
(8/211)
والسنة، وحرَّم اتباعَ ما سوى ذلك، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 – 61]. وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وقد ثبت في صحيح مسلم (1) عن جابر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول في خطبته: «إن أ صدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ». وكان عبد الله بن مسعود يقول أيضًا في خطبته كلَّ خميس: «إنما هما اثنتانِ: الكلام والهدي، فخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ». وثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يُعلِّم أصحابَه أن يقولوا في خطبة الحاجة: «من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضرُّ إلا نفسَه، ولن
_________
(1) رقم (867).
(8/212)
يَضُرَّ الله شيئًا» (1).
وذِكرُه لهذه الأصول في خطبة يوم الجمعة وغيرها من قواعد الإسلام وأصول الإيمان، بل ذِكرُه لهذا الكلام بعد قوله: «أما بعد» ــ كما رواه جابر وغيُره ــ دليلٌ على أن هذا هو جماع الدين كما قررناه أولًا، فإنه بعد الحمد والشهادتين يقول: «أما بعد، فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة». فعُلِم بذلك كمالُ موقعِ هذا الكلام من الدين، وذلك لأنه مشتمل على أَصْلَي الإيمان: شهادةِ أن لا إله إلا الله، وشهادةِ أن محمدًا رسولُ الله، على الإيمان بالله ورُسُله. ولكن بيَّن فيه جماع أمور الدين، فإنها نوعان: قولٌ وعمل، كما قال عبد الله بن مسعود: إنما هما شيئانِ: الكلام والهدي.
والهديُ: القصد والعمل، يقال: هَدَى يهدي هَدْيًا، كما يقال: مَشَى يمشِي مَشْيًا، وسَعَى سَعْيًا، ويقال: هَدَى غَيرَه يهدِيه هُدًى. ومن الأوّل قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، وقوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181]. ومنه قوله: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} [يونس: 35] على قراءة من قرأ
_________
(1) أخرجه أبو داود (1097) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 215، 7/ 146) من حديث ابن مسعود. وإسناده ضعيف، وعلته أبو عياض وهو المدني، مجهول. ومع ذلك فقد صححه النووي في شرح صحيح مسلم (6/ 160).
(8/213)
«يَهْدِيْ» (1) على أحد القولين. والهدْي من هَدَي يهدي مثل الدلّ من دلَّ يَدُلّ، ومنه الحديث المأثور في السنن (2): «الهَدْي الصالح والاقتصاد والسَّمْت جزءٌ من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة». ومنه قول حذيفة: كان عبد الله بن مسعود يُشَبَّه بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في هَدْيِه ودَلِّه وسَمْتِه (3). وكان علقمة يُشَبَّه بعبد الله في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه، وكان إبراهيم يُشَبَّه بعلقمة في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه، وكان منصور يُشَبَّه بإبراهيم في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه، وكان سفيان يُشَبَّه بمنصور في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه، وكان وكيع يُشَبَّه بسفيان في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه، وكان أحمد بن حنبل يُشَبَّه بوكيع في هَدْيه ودَلِّه وسَمْتِه (4).
وذلك لأن المهتدي لابدَّ له من شيئين: من غايةٍ يقصدها، ومن عملٍ إلى تلك الغاية. وكل إنسان فله قصدٌ وعملٌ، فإن أصدقَ الأسماءِ الحارثُ وهمامٌ، سواءٌ كان قصدُه صوابًا أو خطًا، وسواءٌ سَعَى إليه أو لم يَسْعَ. فمن لم يقصد الحق أو قصدَه ولم يعمل لمقصودِه فليس بمهتدٍ، بخلاف من قصدَه وعمل له فإنه مهتدٍ بالحق.
وإذا كان ذلك فالواجب أن يُنظَر في كلِّ كلامٍ، فما وافقَ كتاب الله
_________
(1) هذه قراءة حمزة والكسائي وخلف. انظر: النشر (2/ 283).
(2) أخرجه الترمذي (2010) عن عبد الله بن سرجس. وإسناده حسن. وليس فيه لفظ الهدي الصالح، بل التؤدة مكانه.
(3) أخرجه البخاري (6097، 3762).
(4) انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 316، 317).
(8/214)
فهو حقٌّ، وما خالفَه فهو باطلٌ، والموافق له وإن كان حقًّا فيُعلَم أن كلام الله أصدقُ الكلام وأحسنُ الحديث. وكذلك يُنظَر في كل عملٍ وحركةٍ باطنةٍ وظاهرة، ويُعلَم أن خير ذلك وأفضلَه هو هَدْيُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – نيّتُه وعملُه، فأفضل النيَّات نيَّتُه، وأفضل الأعمال عملُه، فيكون هدْيُه أحسنَ الهدي، كما قال الفضيلُ بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي ما أخلصُه وأصوبُه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة (1).
فعملُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أخلصُ الأعمال، لا يَعبدُ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، كما عُلِمَ ذلك من دينه الخاص والعام. كان يقول في دُبُر صلاتِه: «لا إلاه إلا الله، ولا نعبد إلا إيَّاه، مُخلِصين له الدِّينَ ولوكرِه الكافرون. لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إيَّاه، له النعمة وله الفضلُ وله الثناء الحسن» (2). بل هو إمام الموحدين المخلصين، لم يُقِمْ أحدٌ من الخلائق دينَ الله وتوحيدَه باطنًا وظاهرًا كما أقامَه، ولم يَدْعُ أحدٌ إلى سبيل ربّه كما دعا إليه، ولم يجاهِدْ في سبيل الله كما جاهدَ في سبيل ربّه. وعملُه أصوبُ الأعمال، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 95) عنه. وكثيرًا ما يذكره المؤلف في كتبه.
(2) أخرجه مسلم (594) عن عبد الله بن الزبير.
(8/215)
هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وكان خُلُقُه القرآن.
وهو لم يفعل من العبادة ولم يشرع منها الا ما أمره به ربُّه، ولم يَدعُ إلى سبيل إلا بإذن ربّه، كما قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 – 46]، وقال عنه: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50]. وقال عنه: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15].
ويتفرع على هذا الأصل أن المتكلمين الخائضين في العلوم الإلهية والمعارف الدينية والحقائق العلمية، من جميع الطوائف المتكلمة والمتصوفة والمتفقهة والمتفلسفة وغيرِهم أهلِ الخطاب وأهلِ الكتاب، فإن المهتدي منهم هو المتبع لكتاب الله. والسالكينَ طرقَ العباداتِ والزهاداتِ والأحوالِ القلبية والتألُّهاتِ من جميع الطوائف المتقرئة والمتصوفة والمتفقرة والمتعبدة والمتفقهة وغيرهم، فإن المستقيم منهم هو المتبع لهدْي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. وكذلك أهل النظر في الأمور العامة من الأمراء والعلماء، فإن المصيب منهم هو المتبع لكتاب الله وسنة رسوله.
وهذا الأصل يُقِرُّ به المؤمنون جملةً وابتداءً، ولكن قد يغيب عنهم تفصيلُه عندما تُبْهَر عقولُهم من أقوال ذوي الأقوال وأحوالِ ذوي الأحوال وأوامر ذوي العلم والإمارة، وقد لا يكون عندهم أصلٌ من
(8/216)
السنة يعتصمون به في موارد الاشتباه ومواقع النزاع. والغالب أن أكثر ما تنازع فيه الناس يكون قد لُبِّسَ فيه الحقُّ بالباطل.
والمتأخرون قد أحدثوا كلامًا وأقوالًا وأفعالًا وأحوالًا فيه اشتباه وإجمال، فينبغي التبيُّن فيه وتفصيله، كما هو الواقع من أهلِ الحروف والكلام وأهلِ الأصواتِ والعمل، وتجد هؤلاء ينفرون عن بعض ما مع هؤلاء من الحق، والعكس. حتى أهل الحروف والكلام يبغضون المواجيد والأذواق والعبادات، وأهل الأصوات والأعمال يُبغِضون النظر والعقلَ والكلامَ والفقهَ. وفي كل ذلك أمورٌ يُحِبُّها الله ورسولُه، ويرضاها اللهُ ورسولُه، ويأمر بها الله ورسولُه، وذلك لأن أهل الحروف أحدثوا حروفًا وكلامًا لا يحبُّه الله ورسولُه وإن كانوا متأوّلين، وأهل الأصوات والعمل أحدثوا أصواتًا وأعمالًا لا يُحبّها الله ورسولُه وإن كانوا متأوّلين، فيجبُ ردُّ جميع ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، ذلك خيرٌ وأحسن تأويلًا.
(8/217)
فصل
وصف الله أفضلَ أهل السعادة بالإيمان
والهجرة والجهاد
(8/219)
فصل
وصفَ الله أفضلَ أهلِ السعادة بالإيمان والهجرة والجهاد، فقال: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19 – 22]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218].
وهذا الوصف باعتبارٍ يختصُّ بالمهاجرين على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم -، وباعتبارٍ آخر يَعُمُّ الأنصار، وباعتبارٍ ثالث يعمُّ كلَّ من اتصف بمعنى ذلك إلى يوم القيامة. وذلك أن لفظ «الهجرة» يُراد بها هجرة الوطن، لكن المقصود بها هجرة ما نهى الله عنه، كما ثبت في الصحيحين (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجرَ ما نهى الله عنه». وهذا مَرْوِيٌّ من عدّة طرق، وفي بعضها:
_________
(1) البخاري (10) ومسلم (40) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وليس عند مسلم الجزء الأخير من الحديث.
(8/221)
«المهاجر من هجر السيئات» (1). وهذا المعنى يثبت للأنصار ولكل مؤمنٍ هجرَ ما نهَى الله عنه إلى يوم القيامة، وهجرة الوطن بدون هذه لا تنفع، وهذه الهجرة بدون هجرة الوطن تنفع. لكن مَن هجرَ مع السيئاتِ المباحاتِ لأجل اللّهِ كهجرةِ دارِه ومالِه وأهلِه، فهذا أكمل. فالهجرة الأولى للمقتصدين، وهذه للمقربين.
ولهذا كان المهاجرون أكمل في هذا الوصف، فخُصُّوا بهذا الاسم، وقُدِّموا على الأنصار. والأنصار خُصُّوا باسم الأنصار، والمهاجرون أنصارهم أيضًا، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14]. وهذا بعد قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]. وكل المؤمنين مخاطَبون بأن يكونوا أنصارَ الله.
وقد قال في صفة المهاجرين: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، فوصف المهاجرين بأنهم ينصرون الله ورسوله. لكن الأنصار كانوا في ديارهم وأموالهم، وهم مجتمعون متناصرون، فكانوا أكمل في وصف النصر، إذ كانوا أقدرَ عليه. والمهاجرون ما قدروا على النصر إلا بهم. ويومَ بدرٍ كان ثلاثة أرباع البدريين من
_________
(1) أخرجه ابن حبان (196) عن عبد الله بن عمرو. وإسناده صحيح.
(8/222)
الأنصار، ويومَ أُحُد أكثر القتلى كانوا من الأنصار، والقُرَّاء السبعون الذين قنت لأجلهم أكثرهم من الأنصار، ويومَ السقيفة، ويوم مُسيلمةَ أكثر القتلى من الأنصار، وكانوا أكمل بهذا الوصف فخُصُّوا به. وإلَّا فالنصرة هي الجهاد، والمهاجرون مجاهدون، ومقصود الهجرة هجر السيئات، والأنصار هجروا السيئات. فلهذا كان قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [التوبة: 20] يتناول الطائفتين، ويتناول كلَّ من اتصف بذلك إلى يوم القيامة.
وهذا كنظائره إذا ذُكِر الاسم مفردًا يتناول النوعين، وإذا ذُكِر مقرونًا عُطِف أحدُهما على الآخر، كلفظ الإيمان والعمل، والإيمان والإسلام، ولفظ البِرّ والتقوى، والمنكر والفحشاء، وأمثال ذلك كما بُسِط في مواضع (1). فلما ذُكِر لفظ الأنصار مفردًا في قوله: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} يتناول الطائفتين، ولما ذكر الهجرة والجهاد مقرونًا تناول الطائفتين، وإذا جمع بينهما في مثل قوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] مُيِّز بينهما. وكذلك في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72]. ألا ترى أن الذين آوَوْا ونَصرُوا هم أيضًا آمنوا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (7/ 14).
(8/223)
وأنفسهم، لكن ذُكروا بأخصِّ أوصافهم، وهما الإيواء والنصر، فإن هذا امتازوا به. ثم قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74]، ثم قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75]. قالت طائفة من السلف (1): هذه تتناول المؤمنين إلى يوم القيامة، كما في سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10].
وهؤلاء التابعون وصفهم بالإيمان والهجرة والجهاد، لأن الناس يكثرون والأنصار يقلُّون، وما بقي بالنسبة إلى أولئك دارٌ يُؤْوُون إليها الرسولَ وأصحابَه. لكن هذا المعنى ثابت لكل من هُوجِرَ إليه من المؤمنين فآوَوا مَنْ هاجرَ إليهم ونصروه، كما أنه قد قال: «لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّة» (2)، أي من أرض مكة وأرضِ العرب، لأنها صارتْ دارَ إسلام. وقد قال: «لا تنقطع الهجرةُ ما قُوتِلَ العدوُّ» (3) أي من دار الكفر، وكذلك النصرة والجهاد لا يزال مأمورًا به إلى يوم
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (22/ 533) والدر المنثور (14/ 383).
(2) أخرجه البخاري (3077) ومسلم (1353) عن ابن عباس. وفي الباب عن غيره من الصحابة.
(3) أخرجه أحمد (5/ 270) وابن حبان (4866) والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 17 – 18) عن عبد الله بن وقدان القرشي، وإسناده صحيح.
(8/224)
القيامة. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن لفظ «الهجرة» يتناول هَجْرَ ما نهى الله عنه، وقد قال أيضًا: «المجاهد من جاهدَ نفسَه في ذات الله» (1). ومجاهدة العدو الظاهر والباطن لا بدَّ فيه من احتمال المكروه، وهو ما يحصل للمجاهد من الإيلام، كالظمأ والمخمصة والنَّصَب، وكاحتمال أذى العدوّ بالقول والفعل. قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]. بل لابدَّ فيه من احتمال المكروه وبذل المحبوبِ: النفسِ والمالِ والأهل، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]. والسيئات المنهي عنها تشتهيها النفسُ وتُحِبُّها، فهجْرُها هجر محبوبِ النفس.
والمقصود أنه لابدَّ أن يترك المؤمن ما تحبُّه نفسُه لله تعالى، ويحتمل ما تكرهُه نفسُه لله، فبهجْرِ ما تُحِبّه نفسُه لله مما نُهِيَ عنه يكون من المهاجرين، وباحتمالِ ما تكرهه نفسُه لله مما أُمِرَ باحتماله يكون
_________
(1) أخرجه أحمد (6/ 20، 22) والترمذي (1621) وابن حبان (4706) عن فضالة بن عبيد، وإسناده صحيح.
(8/225)
مجاهدًا لنفسِه ولعدوِّه. ولابدَّ أن يقع العبدُ في الذنوب التي تَفتِنُه، بل قد يقع فيما يَفتِنه عن الدين، قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110]. وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]. وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وأمرُهم بهذا هو من أعظم نعمِه عليهم، وإذا يَسَّرهم لهذا فقد أتمَّ النعمةَ عليهم، فإن كلَّ ما يحبّه الإنسان يفارقه بالموت، كما في الحديث: «أحبِبْ من شئتَ فإنك مُفارِقُه» (1). فهو يُفارِقُه بغير اختياره، فإذا فارقه باختياره لله كان أنفعَ له في الدنيا والآخرة. والمكاره التي
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 253) والحاكم في المستدرك (4/ 324، 325) والبيهقي في الشعب (10541) من حديث سهل بن سعد، وفي إسناده زافر بن سليمان، وهو صدوق كثير الأوهام. والحديث حسن لطرقه، وقد حسَّنه المنذري في الترغيب (2/ 11) والحافظ في أماليه كما في فيض القدير (1/ 103). وانظر: السلسلة الصحيحة (831).
(8/226)
تحصُلُ لأهل الإيمان والجهاد يحصُل مثلُها وأعظمُ منها لغيرهم، فإنه لا تتم مصلحةُ أحدٍ إن لم يَنُبْ عن نفسِه وأرضِه، فلابدَّ لكلٍّ إمّا أن يقاتل وإما أن يَذِلَّ لمن يقاتل، فمن لم يقاتل في سبيل الرحمن قاتلَ في سبيل الشيطان، أو كان متهوّرًا مع هؤلاء أو هؤلاء، ومعلومٌ أن كونه عزيزًا خيرٌ من كونِه ذليلًا، ولابدَّ من موتِ الخلق كلِّهم، وخيرُ الموتِ القتلُ في سبيل الله. فلهذا قال: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52]، كسُنَّته فيمن كذَّبَ الرسلَ، فإنه ينتقم منهم بعذابٍ من عنده، أويُسلِّط عليهم عبادَه المؤمنين، فهو معذِّبهم في الدنيا والآخرة كما يذكر الله، وهنا إنما ذكر عذاب الدنيا، فكان ما أُمِروا به من هَجْر المحبوبات المنهيِّ عنها لله، ومن الجهاد واحتمال المكاره فيها، وبَذْل المحبوب لله، هو غاية السعادة في الدنيا والآخرة.
ولهذا كان الجهاد سَنَامَ العمل، وفي الأثر: «من ترك أن يُنفقَ دراهمَ في سبيل الله أنفقَ مثلَها في طاعة الشيطان، ومن تركَ أن يمشيَ مع أخيه خُطواتٍ لله مشى مثلَها في طاعة الشيطان، ومن ترك الحج لحاجةٍ حجَّ الناسُ ورجعوا وحاجتُه لم تُقضَ» (1). وذلك أن الله تعالى خلق الخلقَ
_________
(1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (5/ 136) عن أبي سعيد الخدري نحوه، وفي إسناده أحمد بن محمد أبو حنش السقطي، قال الذهبي في الميزان (1/ 145): «نكرة لا يُعرف، وأتى بخبر موضوع». ثم ذكر له هذا الحديث. وانظر: السلسلة الضعيفة (5030).
(8/227)
لعبادتِه، فمن لم يستعمل نفسَه ومالَه في عبادة الله استعملها بغير اختياره في طاعة الشيطان، إذ كان لابدَّ لها من عملٍ، ولا بدَّ للمال من مَصْرف، ولو حفظَه مات عنه، فمالُ البخيل لحادثٍ أو لوارثٍ، لا ينتفع به صاحبُه، كما قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]، فهم يُعذَّبون بها، فتزهق أنفسهم وهم كافرون، فإن النفس المعلَّقة بها لا تُفارِق باختيارها، بل تزهق وهي كافرة، لم يؤمنوا ويعملوا صالحًا.
وأيضًا فالصبر على ما يحصل باختيار العبد، كصَبْرِ الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على ما يُصيبه في ذلك من المكروه، ولو تركَه لم يُصِبْه، وصَبْر المطيع والممتنع عن المعصية إذا أوذي حتى يَعصِيَ، فصبَر على الأذى ولم يَعْصِ، وصَبْر المؤمن على مفارقة محبوبِه باختياره وعلى احتمال المكروه باختياره= هذا الصبر أفضل من الصبر على المصائب التي لا حيلةَ له في دفعها، كالمرض وموتِ الأقارب، والجائحة التي تذهب بالمال، فإن هذا إن يصبْر وإلا فلا فائدةَ له في الجزع، وهو لم يُمكِنْه دفعُها، ولهذا يشترك الناس في هذه المصائبِ، المؤمنُ والكافر. وأما تلك فإنما حصلتْ بسبب إيمانه وطاعته لله ورسولِه، فعلى ذلك أوذِيَ، فبإرادته واختياره حصلَ الأمرُ المكروه الذي يُريد أن يصبر عليه. فهذا أزكَى نفسًا وأعظمُ محبَّةً وصبرًا على طاعته، وأعظمُ تركًا لمحبوباته وفعلًا لمكروهاته لله. ولهذا كان مَنْ
(8/228)
كَمُلَ بهذه الطريق أكملُ مِمَّن كَمُل بتلك من الأنبياء والصالحين، فإن هذا حصل المقصودُ باختياره، وذلك ابتلاه الله بما يحصل المقصود بغير اختياره.
وللنوعين أمثلةٌ، فصبر المصيبة مثلُ صبرِ يوسف على فراق أبيه وأهلِه، واسترقاقِ الغير له، وصبر الاختيار مثل صبره على الحبس لئلا يفعل الفاحشة، فهذا الثاني كان أفضل له، ولهذا نُقِل من الأول إليه، فلما كملَ بالثاني مكَّنَه الله.
ومثال الأول صبر يعقوبَ عن ابنه يوسف، ومثال الثاني صبر الخليل على أن يذبح ابنَه، فإن الخليل كان يذبح بِكْرَهُ، لم يكن له غيرُه، وأراد أن يذبَحه باختياره، فأسلم الأب والابن لله. وهذا أعظم من حالِ إسرائيل، فإنه فُرِّق بينه وبين يوسف بغير اختياره، وصبرَ حتى ردَّه الله عليه. والله تعالى يبتلي كلَّ واحدٍ بحسب حالِه، فالخليل أعظمُ وأفضل، فاحتملَ هذا البلاء الذي لا يحتمله غيرُه لو ابتُليَ به، بخلاف صبر المصيبة، فإن الصبر عليه موجود كثيرًا. وكذلك صبر نوح وهود وصالح وموسى على تكذيب الكفَّار وأذاهم لهم هو من أعظم النوعين، وكذلك صبر نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – ومَنْ آمن معه على أذى الكفار لهم بأنواع الأذى، ثم صبرهم لما هاجروا على الجهاد.
هذا الصبر أفضل النوعين، فلا جرمَ كان أهلُه أفضلَ الخلق عند الله، وهذا لا يحتمله كثير من أولياء الله، فيبتليه الله بمصائبَ يصبر عليها ليبلغ
(8/229)
بذلك منزلتَه، مثل ما ابتُلِي عثمانُ، وبشَّره النبي – صلى الله عليه وسلم – بالجنة على بلوى تُصِيبه (1). فبهذه البلوى نالَ منزلتَه، إذ لم يكن معه من القوة ما يصبر صبرَ أبي بكر وعمر. وأبو بكر كان أصبرَ من عمر وأعظمَ يقينًا، فلهذا لم يحتجْ إلى مثل الشهادة التي حصلتْ لعمر، وكذلك عليٌّ ثالث الشهداء، أكمل الله بالشهادة أمرَه، وكذلك الحسين وغيرُه، كانت المصائب والشهادةُ في حقِّهم وحقِّ أمثالهم مما أنعمَ الله به عليهم، وبلَّغَهم به من المنازل التي تناسب حالَهم، إذ كان الحسن والحسين لم يحصل لهما من الابتلاء ما حصلَ لأبيهما، لأنهما رُبِّيا في عزّ الإسلام، فابتُلِيا بما رفعَ الله به درجاتهم بحسب حالهم.
وقد قال الله تعالى لنبيه – صلى الله عليه وسلم -: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48 – 49]. وقال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 48 – 50]. وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. فأمره أن يصبر الصبرَ الاختياري كما صبر أولو العزم، فيصبر لحكمِ ربه: الحكمِ الأمري بامتثال أمر ربه في تبليغ الرسالة ودعوة الخلق وبيانِ ما بُعِث به، والحكمِ المقدَّرِ بأن يصبر على تكذيب المكذّبين وافترائهم عليه وعداوتهم له. قال
_________
(1) أخرجه البخاري (3695) ومسلم (2403) عن أبي موسى الأشعري.
(8/230)
تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31]، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، فلا يجزع ولا يُغاضب، فيحتاج أن يُبتلى بما يَصبِر عليه صبرَ المصائب. فإن ذا النون: {ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87]، و {أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 40 – 44]. والمسبِّح يتناول من كان مسبِّحًا قبل ذلك، ومن كان مسبِّحًا في بطن الحوت.
{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات: 145 – 148]. وهذا من أعظم البلوى، وهو – صلى الله عليه وسلم – صبر على ما أصابه لما ألقي في بطن الحوت، ودعا ربَّه واعترفَ بذنبه فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، قال الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]. وقد ثبت في الصحيحين (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «ما ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى»، و «من قال: أنا خير من يونس بن متّى فقد كذب» (2).
_________
(1) البخاري (3413) ومسلم (2377) عن ابن عباس.
(2) أخرجه البخاري (4604) عن أبي هريرة.
(8/231)
وأما أولو العزم الذين أمر الله نبيّه أن يتأسَّى بهم ولا يتشبَّه بذي النون، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – إذا أوذي يقول: «قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر» (1).
وأهل المصائب إنما يكونون صابرين إذا صبروا عند الصدمة الأولى، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (2). وإلا فمن لم يصبْر صبرَ الكرام سَلَا سُلُوَّ البهائم. والعاقل يفعل في أول يومٍ ما يفعله الأحمق بعد ثلاثة أيام.
فالإنسان إذا أوذي على إيمانِه وأمْرِه بالمعروف ونهْيِه عن المنكر وتبليغ رسالات الله وإظهارِ دينِ الله، وذمِّ مَنْ يخالف دينَ اللهِ، كما أوذي الرسلُ وأتباعُهم، كان صبره من القسم الأعلى، مثل صبر الرسل وصبر المهاجرين والأنصار. وكثيرٌ من الناس إذا أوذي على الحق تركه، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 11 – 13].
_________
(1) أخرجه البخاري (4336) ومسلم (1062) عن عبد الله بن مسعود.
(2) أخرجه البخاري (1302) ومسلم (626) عن أنس بن مالك.
(8/232)
ثم هؤلاء إذا أُوذوا على الحق فرجعوا عنه، ثم تابوا وجاهدوا في سبيل الله قَبِلَ الله ذلك منهم، قال تعالى لما ذكر المرتدّين طوعًا وكرهًا: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110].
فمن حصل له إيمانٌ وطاعة، ففتَنه شياطينُ الإنس والجنّ حتى رجع عن ذلك، ثم إنه هاجر فهجرَ تلك السيئات، ثم جاهدَ العدوَّ، وصبرَ على الإيمان والطاعة فلم يرجع، وصبرَ على ظلم الظالم له، ثم إنه هجرَ ما له من المباحات للّهِ ليُتِمَّ إيمانَه، فهذا أعلى. قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41 – 42].
فهَجْرُ السيئاتِ فرضٌ على كل أحد، وهجرُ المباحات من الوطن والأهل والمال إن لم يَتمَّ الواجبُ إلا به كان واجبًا، وإن لم يتم المستحبُّ إلا به كان مستحبًّا. ولهذا تجب الهجرةُ على من يُمنَع من الواجبات وتُستحبُّ لغيره. وفي الصحيحين (1) أن أعرابيًّا سأل النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – عن الهجرة، فقال: «ويحَكَ! إن الهجرة شأنُها شديد، فاعملْ من وراء البحار، فإن الله لن يَتِرَك من عمِلك شيئًا».
_________
(1) البخاري (2633، 3923) ومسلم (1865) عن أبي سعيد الخدري.
(8/233)
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72]. وفي حديث بريدة الذي في صحيح مسلم (1): «وإذا حاصرتَ أهلَ حِصْنٍ فادْعُهم إلى الإيمان، ثمَّ ادْعُهم إلى التحوُّل إلى دار المهاجرين، وإلا كانوا كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكمُ الله الذي يجري على أعراب المسلمين، وليس لهم في الفيء نصيبٌ».
وهذه الأمور لبسطِها موضع آخر، والمقصود أن معنى الهجرة العامة هي هجر السيئات، وهجرها بعدَ الدخول فيها هو التوبة، فهذا المعنى يُلْحَظُ في هذا اللفظ. ولهذا لما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلَمُهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمُهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمُهم سِنًّا» (2) = جعلَ طائفةٌ من العلماء مما يدخل في تقدم الهجرةِ تقدُّمَ التوبة وتقدُّمَ الإسلام، فإذا كان الرجلان قد أسلم أحدهما قبل صاحبه، أو تاب من السيئات قبلَ صاحبِه، فهذا أقدمُ هجرةً وأركانًا في وطنَيْهما، فإن المقدَّم أسبقُهما إلى الطاعة باختياره، ثم أسبقُهما إلى الطاعة بفعل الله تعالى، وهو كِبَرُ السِّنِّ. والله أعلم.
_________
(1) برقم (1731).
(2) أخرجه مسلم (673) عن أبي مسعود الأنصاري.
(8/234)
فصل
في الكلام على النِّعم، وهل هي للكفار أيضًا
(8/235)
يقولون (1): ما نعم به الكافر فهو نعمة تامَّة كما نعم به المؤمن سواء؛ إذ ليس عندهم لله نعمةٌ خصّ بها المؤمن دون الكافر أصلًا، بل هما في النِّعم الدينية (2) سواء، وهو ما بيَّنه من أدلة الشرع والعقل، وما خلقه من القدرة والألطاف، ولكن أحدهما اهتدى بنفسه بغير نعمةٍ أخرى خاصة من الله، والآخر ضلَّ بنفسه بغير خذلانٍ يخصُّه من الله. وكذلك النعم الدنيوية هي في حقهما على السواء.
والذين ناظروا هؤلاء من أهل الإثبات ربَّما زادوا في المناظرة نوعًا من الباطل، وإن كانوا في الأكثر على الحق، فكثيرًا (3) ما يردُّ مناظرُ المبتدعِ باطلًا عظيمًا بباطلٍ دونَه، ولهذا كان أئمة السنة ينهون عن ذلك، ويأمرون بالاقتصاد ولزوم السنة المحضة، وأن لا يُردَّ باطلٌ بباطلٍ دونَه، فقال كثير من هؤلاء: ليس لله على الكافر نعمة دنيوية، كما ليس له عليه نعمة دينية محضة، إذ اللذةُ المتعقبةُ ألمًا أعظمَ منها ليست بنعمة، كالطعام المسموم، وكمن أعطى غيرَه أموالًا ليطمئنَّ ثم يقتله أو يُعذِّبه.
قالوا: والكافر كانت هذه النعم سببًا لعذابه وعقابه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 – 56]، وقال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ
_________
(1) من هنا يبدأ الأصل.
(2) في الأصل: النعيم الدنيوي، والتصحيح من هامشه.
(3) في الأصل: «فكثير».
(8/237)
حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]. وقال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم: 44 – 45].
وخالفهم آخرون من أهل الإثبات والقدر أيضًا، وقالوا: بل لله على الكافر نعمٌ دنيوية. والقولان في عامة أهل الإثبات من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم.
قال هؤلاء: والقرآن قد دلَّ على امتنانه على الكفار بنعمِه، ومطالبتِه إياهم بشكرها، فكيف يقال: ليستْ نِعَمًا؟ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] إلى قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32 – 34]. وقال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]. وكيف يكون كفورًا من لم يُنْعَم عليه؟!
قالوا: ولازمُ قولِ هؤلاء أن الكفار لم يجب عليهم شكر اللهِ؛ إذ لم يكن قد أنعم عليهم عندهم. وهذا القول يُعلَم فسادُه بالاضطرار من دين
(8/238)
الإسلام، فإن الله قد ذمَّ الإنسانَ بكونِه كَفَّارًا غيرَ شَكورٍ، إذ يقول: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]، وقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 9 – 10]، وقد قال هود عليه السلام لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69]، وقال صالح لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74]. وقال في الآية الأخرى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ} إلى قوله: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 123 – 134]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28].
وقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112]، وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} إلى قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}
(8/239)
[النحل: 80 – 83].
قال الأولون: وقد قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة 7]، والكفار لم يدخلوا في هذا العموم، فعُلِمَ أنهم خارجون من النعمة. وقد قال في خطابه للمؤمنين: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} في آيات كثيرة، وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة: 7]. وقال: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البقرة: 172].
وأما الكفار فخوطبوا بها من جهة ما هي تنعمٌ ولذة وسرور، ولم تُسمَّ في حقّهم نعمةً على الخصوص، وإنما تُسمَّى نعمةً باعتبار أنها نعمة في حق عموم بني آدم، لأن المؤمن سعِدَ بها في الدنيا والآخرة، والكافر تنعَّمَ بها في الدنيا.
وذلك أن كفر الكافر نعمةٌ في حق المؤمنين، فإنه لولا وجود الكفر والفسوق والعصيان، ولولا وجود شياطين الإنس والجن، لم يحصل للمؤمنين من بُغض هذه الأمور ومعاداتها ومجاهدةِ أهلها ومخالفةِ الهوى فيها، ما ينالون به عَلِيَّ الدرجات وعظيمَ الثواب. والإنسانُ فيه قوة الحبّ وقوة البغض، وسعادتُه في أن يُحِبَّ ما يحبُّه الله ويُبغِض ما يُبغِضه الله، فإن لم يكن في العالم ما يُبغِضه ويجاهد أصحابَه لم يَتمَّ إيمانُه وجهادُه، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا
(8/240)
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].
قالوا: ولو كانت هذه اللذاتُ نِعمًا مطلقًا لكانت نعمةُ الله على أعدائه في الدنيا أعظمَ من نعمته على أوليائِه، ونعمة الله التي بدَّلوها كفرًا هي إنزالُ الكتاب وإرسالُ الرسول، حيث كفروا بها وجَحدوا أنها حق، كما قال علي رضي الله عنه: هما الأفجرانِ من قريش (1).
وكذلك قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112]، هم الذين كفروا بما أنزله الله من الكتاب وبالرسل، وتلك نعمة الله العظيمة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، وقال تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
وحقيقة الأمر أن هذه الأمور فيها من النعم باللذة والسرور في الدنيا ما لا نزاع فيه، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75]، وقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
_________
(1) أخرجه الطبري تفسيره (13/ 670) والطبراني في المعجم الأوسط (776) والحاكم في المستدرك (2/ 352).
(8/241)
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]، وقال: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 11]، وقال: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]، وقال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
وهذا أمر محسوس، لكن الكلام في أمرين:
أحدهما: هل هي نعمةٌ أم لا؟
والثاني: أن جنسَ تَنعُّمِ المؤمنِ في الدنيا بالإيمان وما يَتْبَعه هل هو مثل تَنَعُّم الكافر أو دونَه أو فوقَه؟ وهذه المسألة المتقدمة.
فأما الأول فيقال: اللذات في أنفسها ليستْ نفسَ فعلِ العبد، بل قد تَحدُثُ عن فعلِه مع سبب آخر، كسائر المتولّدات التي يخلقها الله تعالى بأسباب، منها فعلُ العبد. لكن هذه اللذات تارةً تكون بمعصيةٍ مِنْ تركِ مأمورٍ أو فعلِ محظورٍ، كاللذة الحاصلة بالزنا وتوابِعه، وبظلمِ الناس، وبالشرك، والقولِ على الله بغير علم. فهنا المعصيةُ هي سبب العذاب الزائد على لذة العقل، لكن ألم العذاب قد يتقدم ويتأخر، وهي تُشبِه أكلَ الطعام الطيب، الذي فيه من السُّموم ما يُمرِض أو يَقتُل. ثم ذلك العذاب يمكن دفعُه بالتوبة وفعلِ حسناتٍ أُخَر.
لكن يقال: تلك اللذة الحاصلة بالمعصية لا يكون مقاوِمًا لها ما في التوبة عنها والأعمال الصالحة من المشقة والألم، ولهذا قيل: تركُ
(8/242)
الذنب أيسرُ من التماسِ التوبة (1)، وقيل: رُبَّ شهوةِ ساعةٍ أورثَتْ حُزْنًا طويلًا. ولكن فعل التوبة والحسنات الماحية قد تُوجِب من الثواب أعظمَ من ثوابِ ترك الذنب أولًا، فيكون ألمُ التائب أشدَّ من ألم التارك إذا استويا من جميع الوجوه، وثوابُه أكثر. وكذلك ما يُكفِّر الله به الخطايا من المصائب مرارتُه تزيد على حلاوة المعاصي. وتارةً تكون اللذات بغير معصية من العبد، لكن عليه أن يطيع اللهَ فيها فيعصيه فيها بتركِ مأمورِه وفعل محظورِه فيما يُؤتاه العبدُ من المالِ والسلطان، ومن المآكل والمناكح التي ليست بمحرمة.
والله سبحانه أمر مع أكل الطيبات بالشكر، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، وفي صحيح مسلم (2) عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: قال: «إنّ الله لَيَرضى عن العبد أن يأكلَ الأكْلةَ فيحمده عليها، ويَشربَ الشَّربةَ فيحمدَه عليها». وفي الأثر: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر». رواه ابن ماجه (3) عن النبي – صلى الله عليه وسلم -. وقد قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ
_________
(1) نُقل نحو ذلك عن شفي الأصبحي، انظر: حلية الأولياء (5/ 167).
(2) برقم (2734) عن أنس بن مالك.
(3) برقم (1764). وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 283) والترمذي (2486) وابن حبان (315) والحاكم في المستدرك (1/ 422، 423) عن أبي هريرة. وقال الترمذي: حسن غريب. والحديث صحيح لطرقه وشواهده، انظر: تعليق المحقق على صحيح ابن حبان.
(8/243)
النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] لما أضافَ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – وأبا بكرٍ وعمرَ أبو الهيثم ابنُ التيِّهان، وجلسوا في الظلِّ، وأطعمهم الفاكهة واللحمَ، وسقاهم الماءَ البارد، قال: «هذا من النعيم الذي تُسألون عنه» (1).
والسؤال عنه لطلب شكرِه، لا إثم فيه، فالله تعالى يطلب من عباده شكرَ نِعَمِه، وعليه أن لا يستعين بطاعته على معصيته، فإذا تركَ ما وجبَ عليه في نعمته من حقٍّ، واستعان بها على محرَّمٍ كان فعلُه بها وتركُه لما فيها سببًا للعذاب أيضًا. فالعذاب استحقَّه بترك المأمور وفعلِ المحظور، لا على النعمة التي هي من فعل الله تعالى، وإن كان فعله وتركه بقضاء الله وقدره، بعلمه ومشيئته وقدرته وخلقه. فإن حقيقة الأمر أنه نعَّمَ العبدَ تنعيمًا، وكان ذلك التنعيم سببًا لتعذيبه أيضًا، فقد اجتمع في حقه تنعيمٌ وتعذيب، ولكن التعذيب إنما كان بسبب معصيته، حيث لم يُؤدِّ حقَّ النعمة، ولم يتَّقِ الله فيها.
وعلى هذا فهذه التنعيمات هي نعمة من وجهٍ دونَ وجهٍ، فليست من النعم المطلقة، ولا هي خارجة عن جنس النعم مطلقِها ومقيَّدِها، فباعتبار ما فيها من التنعيم يَصلُح أن يُطلَب حقُّها من الشكر وغيره، ويُنهَى عن استعمالها في المعصية، فتكون نعمةً في باب الأمر والنهي والوعد والوعيد، وباعتبار أن صاحبها يترك فيها المأمورَ ويفعل بها
_________
(1) أخرجه أحمد (3/ 338، 351، 391) والنسائي (6/ 246) وابن حبان (3411) عن جابر بن عبد الله. وإسناده صحيح. وأصله عند مسلم (2038) عن أبي هريرة.
(8/244)
المحظورَ الذي يُربي عذابُه على نعيمها، كانت وبالًا عليه، وكاد أن لا يكون ذلك في حقّه خيرًا له من أن يكون، فليستْ نعمةً في حقِّه في باب القضاء والقدر والخلق والمشيئة العامة، وإن كان ذلك يكون نعمةً في حق عموم الخلق والمؤمنين. وعلى هذا يظهر ما تقدم من خبر الله بأن ذلك استدراج ومكرٌ وإملاءٌ.
وهذا الذي ذكرناه من ثبوتِ الإنعام بها من وجهٍ وسلبِه من وجهٍ آخر مثل ما ذكره الله في قوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 – 17]، فأخبر أنه أكرمه وأنكر قول المبتلَى «أكرمني»، واللفظ الذي أخبر الله به مثل اللفظ الذي أنكره الله من كلام المبتلَى، لكن المعنى مختلف، فإن المبتلَى اعتقدَ أن هذا كرامة مطلقة، وهي النعمة التي يقصد بها المنعِمُ إكرامَ المنعَم عليه، والإنعامُ بنعمةٍ لا يكون سببًا لعذابٍ أعظم منها. وليس الأمر كذلك، بل الله تعالى ابتلَى بها ابتلاءً ليتبيَّن هل يطيعه فيها أم يعصيه، مع علمه بما سيكون من الأمرين، ولكن العلم بما سيكون شيء، وكون الشيء والعلم به شيء. وأما قوله: {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} فإنه تكريم بما فيه من اللذات، ولهذا قرنَه بقوله: {وَنَعَّمَهُ}.
ولهذا كانت خوارق العادات التي تسميها العامة كرامةً ليست عند أهل التحقيق كرامةً مطلقة، بل في الحقيقة الكرامةُ هي لزوم الاستقامة،
(8/245)
وهي طاعة الله، وإنما هي مما يبتلي الله بها عبدَه، فإن أطاعه بها رفعَه، وإن عصاه بها خفضَه، وإن كانت من آثار طاعةٍ أخرى، كما قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 16 – 17].
وإذا كان في النعمة والكرامة هذان الوجهان (1) فهي في باب الأمر والشرع نعمةٌ يجب الشكر عليها، وفي باب الحقيقة القدرية لم يكن لهذا الفاجر بها إلا فتنة ومحنة استوجبَ بمعصية الله فيها العذاب، وهي في ظاهر الأمر قبلَ أن تُعرَف حقيقةُ الباطن ابتلاءٌ وامتحانٌ، يمكن أن تكون من أسباب سعادته، ويمكن أن تكون من أسباب شقاوته.
وظهر بهذا جانبُ الابتلاء بالمرّ، فإن الله يبتلي بالحلو والمرّ، كما قال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وقال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، فمن ابتلاه الله بالمرّ بالبأساء والضرَّاء والبأس وقَدَر عليه رزقَه، فليس ذلك إهانةً له، بل هو ابتلاء، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيدًا، وإن عصاه في ذلك كان شقيًّا، كما كان مثلُ ذلك سببًا للسعادة في حقّ الأنبياء والمؤمنين، وكان شقاءً وسببًا للشقاء في حقّ الكفار والفجّار، قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:
_________
(1) في الأصل: «هذين الوجهين».
(8/246)
177]. وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214]، وقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101]. وقال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76].
وكما أن الحسنات وهي المسارّ الظاهرة التي يُبتلَى بها العبدُ تكون عن طاعاتٍ فعلَها العبدُ، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]. وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62]، وقال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48].
ثم تلك المسارّ التي هي ثواب طاعته إذا عصى الله فيها كانت سببًا لعذابه، فالمكاره التي هي عقوبة معصيته إذا أطاع الله فيها كانت سببًا لسعادته.
(8/247)
فتدبَّرْ هذا لتعلمَ أن الأعمال بخواتيمها، وأن ما ظاهره نعمةٌ وهو لذة عاجلة قد يكون سببًا للعذاب، وما ظاهره عذاب وهو ألمٌ عاجل قد يكون سببًا للنعيم، وما هو طاعة فيما يرى الناس قد يكون سببًا لهلاك العبد برجوعِه عن الطاعة إذا ابتُلي في ثمرة الطاعة، وما هو معصية فيما يرى الناس قد يكون سببًا لسعادته بتوبة العبد منه وتصبُّرِه على المصيبة التي هي عقوبة ذلك الذنب.
فالأمر والنهي يتعلق بالشيء الحاصل، فيُؤمر العبد بالطاعة مطلقًا، ويُنهى عن المعصية مطلقًا، ويؤمر بالشكر على كل ما يتنعمَّ به. وأما القضاء والقدر ــ وهو عِلمُ الله وكتابُه وما طابقَ ذلك من مشيئته وخلقِه ــ فهو باعتبار الحقيقة الآجلة، فالأعمال بخواتيمها. والمنعَم عليهم في الحقيقة هم الذين يموتون على الإيمان.
وقد يكثر تنازعُ الناس في هذا الباب، فالمثبتةُ للقضاء والقدر من متكلمة أهل الإثبات وغيرِهم يُلاحِظونَ القدرَ من عِلم الله وكتابه ومشيئته وخلقِه، وقد يُعرِضون عمّا جاء به الأمر والنهي والوعد والوعيد، وعن الحكمة العامة وما في تفصيل ذلك من الحِكَم الخاصة. وأما من لم يلاحظ إلا الأمر والنهي والوعد والوعيد فقط من القدرية ومن ضاهاهم في حاله، فقد كفر بما وجبَ عليه الإيمان به من خلقِ اللهِ وكتابته ومشيئتِه، وتدبيره لعباده المؤمنين الذين سبقت لهم منه الحسنى بتدبيرٍ خاص، ومن قضائه على الكفار بما هو سبحانه فيه عَدْلٌ، كما في
(8/248)
الحديث المرفوع: «ماضٍ فيَّ حكمُك، عَدْلٌ فيَّ قضاؤك» (1)، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
وإذا عُرِف أن كل واحد من الابتلاء بالسرَّاء والضرَّاء قد يكون في باطن الأمرِ مصلحةً للعبد أو مفسدةً له، وأنه إن أطاع (2) الله فذلك كان مصلحةً له، وإن عصاه كان مفسدةً له= تبيَّن أن الناس أربعة أقسام: منهم من يكون صلاحُه على السَّراء، ومنهم من يكون صلاحُه على الضرَّاء، ومنه من يصلح على هذا وهذا، ومنهم من لا يصلح على أحدٍ منها. والإنسان الواحد قد يجتمع له هذه الأحوال الأربعة في أوقاتٍ أو وقتٍ واحدٍ، باعتبار أنواع يُبتلَى بها.
وقد جاء في الحديث المرفوع: «إن من عبادي من لا يُصلِحُ إيمانَه إلا الغِنى، ولو أفقرتُه لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلِحُ إيمانَه إلا الفقر، ولو أغنيتُه لأفسدَه ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلِح إيمانَه إلا الصحةُ، ولو أسقمتُه لأفسدَه ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلِح إيمانَه إلا السقم، ولو أصححتُه لأفسدَه ذلك، إني أدبِّر عبادي، إني بهم خبير
_________
(1) أخرجه أحمد (1/ 391، 452) وأبو يعلى (5297) وابن حبّان (972) والحاكم في المستدرك (1/ 509، 510) عن عبد الله بن مسعود. وفي إسناده أبو سلمة الجهني لم يتبيَّن من هو، فهو في عداد المجهولين. انظر: التعليق على المسند (3712). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (198).
(2) في الأصل: «طاع».
(8/249)
بصير» (1).
فكما أن التنعُّم العاجل ليس بنعمةٍ في الحقيقة، بل قد يكون في الحقيقة بلاءً وشرًّا باعتبار المعصية فيه، والطاعةُ المتقدمة قد تكون حابطةً وسببًا للشرِّ باعتبار ما يتعقبها من ردَّةٍ وفتنة، فكذلك التألُّم العاجل قد يكون في الحقيقة خيرًا ونعمةً، والمعصية المتقدمة قد تكون سببًا للخير باعتبار التوبة والصبر على ما يعقبه من محنة، لكن تبدل الطاعة والمعصية.
وهذا يقتضي أن العبد محتاجٌ في كل وقتٍ إلى الاستعانة بالله على طاعته وتثبيتِ قلبه، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، وذلك أن الإنسان هو كما وصفه الله بقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 9 – 10]، ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 11]، فأخبر أنه عند الضراء بعد السرَّاء ييأس من زوالها في المستقبل، ويكفر بما أنعمَ الله به عليه قبلها، وعند النعماء بعد الضرَّاء يأمنُ عودَ المكروه في المستقبل، وينسى ما كان فيه بقوله:
_________
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء (1) وأبو نعيم في الحلية (8/ 318) عن أنس بن مالك. قال أبو نعيم: غريب من حديث أنس، لم يروه عنه بهذا السياق إلا هشام الكناني، وعنه صدقة بن عبد الله أبو معاوية تفرد به الحسن بن يحيى الخشني. وانظر: العلل المتناهية (1/ 31، 32).
(8/250)
{ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10] على غيره، يفخر عليهم بنعمة الله.
وقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19 – 21]، فأخبر أنه جَزُوع عند الشرِّ لا يصبر عليه، مَنوعٌ عند الخير يبخل به.
وقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وقال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]، والكنود: الجَحُود الذي يُعدِّد المصائب وينسى النِّعَم.
وقال: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، وقال: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100]، وقال: {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49]، وقال: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].
وقد وصف المؤمنين بأنهم صابرون في البأساء والضراء وحين البأس، والصابرون في النعماء أيضًا، بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 11]. والصبر على السرَّاء قد يكون أشد، ولهذا قال من قال من الصحابة رضي الله عنهم: ابتُلِينا بالضرَّاء فصَبرنا، وابتُلينا بالسرَّاء فلم نصبر (1). وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستعيذ بالله من شرِّ فتنة الغنى، ومن شرِّ
_________
(1) أخرجه الترمذي (2416) عن عبد الرحمن بن عوف، وقال: هذا حديث حسن.
(8/251)
فتنة الفقر (1)، وقال لأصحابه: «واللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم، فتَنافسوها كما تَنافسوها، فتُهلككم كما أهلكتهم» (2). وفي رواية: «فتُلْهِيَكم» (3).
فمن لم يتصف بحقيقة الإيمان هو إما قادرٌ وإمّا عاجز، فإن كان قادرًا أظهرَ ما في نفسه بحسب قدرتهِ من الفواحش والإثم والبغي والإشراك بالله، تكون الدنيا جنتَه بالنسبة إلى ذلك، وذلك أن الكافر صاحب الإرادة الفاسدة إما قادر وإما عاجز، فإن كان قادرًا تعارضتْ إراداتُه حتى لا يمكنه الجمعُ بينها وبينها، ومَلَّ حتى يَقِلَّ التذاذُه بها أو يُعدَم، ولا يمكنه تركُها. ولهذا تجد الملوك من الظالمين أعظمَ الناسِ ضَجَرًا ومللًا وطلبًا لما يُروِّحون به أنفسَهم من مسموعٍ ومنظورٍ ومشمومٍ ومأكولٍ ومشروبٍ، ومع هذا فلا تطمئنُّ قلوبُهم بشيء من ذلك. هذا فيما ينالون به اللذة، وأما ما يخافونه من الأعداء فهم أ عظم الناسِ خوفًا، ولا عيشةَ لخائفٍ. وأما العاجز منهم فهو في عذابٍ عظيم، لا يزال في أسفٍ على ما نابَه وعلى ما أصابه.
وأما المؤمن فهو مع قدرتِه له من الإرادة الصالحة والعلوم النافعة
_________
(1) أخرجه البخاري (6368) ومسلم (589) عن عائشة.
(2) أخرجه البخاري (3158، 4015) ومسلم (2961) عن عمرو بن عوف.
(3) هي الرواية الثانية لمسلم والبخاري (6425).
(8/252)
ما يُوجِب طمأنينةَ قلبه وانشراحَ صدره، بما يفعله من الأعمال الصالحة، وله من الطمأنينة وقرة العين ما لا يمكن وصفُه. وهو مع عجزه أيضًا له من أنواع الإرادات الصالحة والعلوم النافعة التي يتنعم بها ما لا يمكن وصفُه، وكلُّ هذا محسوسٌ مجرَّبٌ. وإنما يقع غلطُ أكثر الناسِ لأنه قد أحسَّ بظاهرٍ من لذات أهل الفجور وذاقَها، ولم يذق لذاتِ أهل البرّ (1) ولم يُحِسَّها، ولكن أكثر الناس جُهَّالٌ لا يسمعون ولا يعقلون.
وهذا الجهل لعدم شهود حقيقة الإيمان ووجودِ حلاوته وذوقِ طعمِه انضمَّ إليه أيضًا جَهْلُ كثير من المتكلمين في العلم بحقيقة ما في أمر الله من المصلحة والمنفعة، وما في خلقه أيضًا لعبده المؤمن من المنفعة والمصلحة، فاجتمع الجهلُ بما أخبر الله به من خلقِه وأمرِه، وبما أشهدَه الله عبادَه من موجودِه، فكان هذا الجهلُ مع ما في النفوس من الظلم مانعًا للنفوس عن عظيم نعمة الله وكرامته ورضوانِه، مُوقِعًا لها في بأسِه وعذابه وسخطه.
وذلك أن الناس لما خاضوا في مسألة القدر، ولِمَ يخلُق الله ولِمَ يأمُر؟ ونحوِ ذلك، بغير هدًى من الله الذي أنزله إليهم، فرَّقوا دينَهم وكانوا شِيَعًا:
فزعم فريقٌ منهم أنه لا يخلق أحدًا من الأشخاص إلا لأجل مصلحة المخلوق، ولا يأمره إلا لأن أمره مصلحةٌ له أيضًا، وإنما العبدُ
_________
(1) في الأصل: الإيمان، والتصحيح من هامشه.
(8/253)
هو صَرَفَ عن نفسه مصلحة نفسِه، وفعلَ مفسدة نفسِه، بغير قدرة الربّ وبغير مشيئته. وهم إنما قصدوا بها تنزيهَ الربّ (1) سبحانه وتعالى عن الظلم والعبث، ووصفَه بالحكمة والعدل والإحسان، لكن سلبوه علمَه وقدرتَه وكتابَه وخلقَه ونفوذَ مشيئته وعمومَها، فقال قوم منهم: إنه لم يعلم فلم يكتب ما يكون من العباد حتى فعلوه. وقال آخرون: بل علمَ ذلك، وعلم أنهم لا يطيعونه ولا يفعلون إلا ما يضرُّهم، ومع هذا فقصد تعريفَهم بالخلق والأمر للمنفعة الخالصة الدائمة.
فقال لهم الناس: مَن عَلِمَ أن مقصوده من الخير لا يكون، وقد سعى في حصوله بمنتهى قدرته، كان من أجهلِ الفاعلين وأسفههم، فنزّهوه عن قليلٍ من السفه بالتزام ما هو أكبر منه، وزعموا أنه لا يقدر إلا على ما فعلَ بهم، فسَلَبوه قدرتَه.
فردَّ على هؤلاء طائفةٌ من أهل الإثبات، فأثبتوا عمومَ قدرتِه وعمومَ مشيئتِه وخلقِه وعلمِه القديم، وكل هذا خيرٌ موافق للكتاب والسنة، وهذا من تمام الإيمان بالقدر، بعلم الله القديم ومشيئتِه وخلقِه لكل شيء وقدرتِه. لكن ضمُّوا إلى ذلك أشياءَ ليست من السنة، فإنه من السنة أنه يفعل ما يشاء ويحكمُ ما يريد، وأنه لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وأنه يأمر العباد بطاعته، ومع هذا فهو يَهدي من يشاء ويُضِلُّ من يشاء، كما قال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].
_________
(1) في المتن: البارئ، والمثبت من هامشه.
(8/254)
فزعموا مع ذلك أنه يخلق الخلقَ لا لحكمةٍ في خلقهم، ولا لرحمةٍ لهم، بل قد يكون خلقهم ليَضُرَّهم كلَّهم. وهذا عندهم حكمةٌ، فلم يُنزِّهوه عمّا نَزَّه نفسَه عنه من الظلم، حيث أخبرَ أنه إنما يجزي الناسَ بأعمالهم، وأنه {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. وأنه {مَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112].
بل زعموا أن كل مقدورٍ عليه فليس بظلم، مثل تعذيب الأنبياء والرسل وتكريم الكفار والمنافقين، وغير ذلك مما نزَّه الله نفسَه عنه، فلم يكن الظلم الذي نزَّه الله عنه نفسَه حقيقة عند هؤلاء، إذ كلُّ ما يمكن ويقدر عليه فليس بظلم. فقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] عندهم بمنزلة قوله: لا يريد ما لا يكون ممكنًا مقدورًا عليه، وهو عندهم لا يَقدِر على الظلم حتى يكون تاركًا له.
وزعموا أنه قد يأمر العبادَ بما لا يكون مصلحةً لهم ولا لواحدٍ منهم، لا يكون الأمر مصلحةً، ولا يكون فعلُ المأمور به مصلحةً، بل قد يأمرهم بما إن فعلوه كان مضرَّةً لهم، وإن لم يفعلوه عاقبَهم، فيكون العبدُ فيما يأمره به بين ضررين: ضررٌ إن أطاع، وضررٌ إن عصى، ومن كان كذلك كان أمرُ العباد مضرَّةً لهم لا مصلحةً لهم.
وقالوا: يأمر بما يشاء، وأنكروا أن يكون في الأحكام الشرعية من العلل المناسبة للأحكام، من جَلْبِ المنافع ودَفْعِ المضارّ ما هي الشريعة ممتلئةٌ به، حتى كان منهم مَنَ دفعَ عِللَ الأحكام بالكلية، ومنهم من قال:
(8/255)
العلل مجرد علاماتٍ ودلالاتٍ على الحُكْم، لا أنها أمورٌ تناسبُ الحُكْمَ وتُلائمه.
وهم يُجوِّزون مع هذا أن لا يكون للعبد ثوابٌ ومنفعةٌ في فعلِ المأمور به، لكن لما جاءت الشريعة بالوعد قالوا: هو موعود بالثواب الذي وُعِد به، وربما قالوا: إنه في الآخرة فقط، وأما الفعل المأمور به فقد لا يكون مصلحةً للعباد ولا منفعةً لهم بحالٍ، فلا يكون فيه تنعُّمٌ لهم ولا لذةٌ بحالٍ، بل قد تكون مضرَّةً لهم ومفسدةً في حقِّهم، ليس فيه إلا ما يُؤلمهم.
ومعلومٌ أنه إذا اعتقد المرءُ أن طاعةَ الله ورسوله فيما أمر به قد لا تكون مصلحةً له ولا منفعةً، ولا فيها نعيم ولذة ولا راحة، بل تكون مفسدةً له ومضرَّةً عليه، ليس فيها إلا ألمه وعذابُه= كان هذا من أعظم الصوارفِ له عن فعلِ ما أ مرَ الله به ورسولُه. ثم إن كان ضعيفَ الإيمان بالوعد والوعيد تركَ الدينَ كلَّه، وإن كان مؤمنًا بالوعيد صارتْ دواعيه متردّدةً بين هذا العذاب وذلك العذاب، وإن كان مؤمنًا بوعد الآخرة فقط لم يَرْجُ أن يكون له في الدنيا مصلحةٌ ولا منفعةٌ، بل لا تكون المصلحة والمنفعة في الدنيا إلا لمن كفرَ وفسقَ وعصَى.
وهذا أيضًا وإن كان هو غايةَ حالِ هؤلاء فهو مما يَصرِف النفوسَ عن طاعةِ الله ورسولِه، ويبقى العبدُ المؤمن متردد الدَّواعي بين هذا وهذا، وهو لا يخلو من أمرين:
(8/256)
إمَّا أن يُرجِّح جانبَ الطاعة التي يستشعر أنه ليس فيها طولَ عمره له مصلحةٌ ولا منفعةٌ ولا لذةٌ، بل عذابٌ وألمٌ ومفسدةٌ ومضرةٌ. وهذا لا يكاد يصبر عليه أحد.
وإما أن يُرجِّح جانبَ المعصية تارةً أو تاراتٍ أو غالبًا، ثم إن أَحْسنَ أحوالِهِ مع ذلك أن ينوي التوبةَ قُبيلَ موتِه. ولا ريبَ أنه إن كان ما قاله هؤلاء حقًّا فصاحبُ هذه الحال أكيسُ وأعقلُ ممن مَحَضَ طاعةَ الله طولَ عمرِه، إذ هذا سَلِمَ من عذاب ذلك المطيع في الدنيا. ثم إنه بالتوبة أُحبِطَ عنه العذاب، وبدَّلَ الله سيئاتِه بالحسنات، فصارت جميعُ سيئاتِه حسناتٍ. فكان ثوابُه في الآخرة قد يكون أعظمَ من ثوابِ ذلك المطيع الذي مَحَضَ الطاعة. ولو كان ثوابه دون ذلك لم يكن التفاضل بينهم إلا كتفاضُلِ أهل الدرجات في الجنة.
وهذا مما يختاره أكثر الناس على مكابدة العذاب والشقاء والبلاءِ طولَ العمر، إذ هو أمرٌ لا يَصبر عليه أحدٌ، فإن مصابرة العذاب ستين أو سبعين سنةً بلا مصلحةٍ ولا منفعةٍ ولا لذةٍ أمرٌ ليس هو في جبلَّةِ الأحياء، إذا جوَّزوا أن لا يكون في شيء من طاعة الله له مصلحةٌ ولا منفعةٌ طولَ عمرِه. وهؤلاء يجعلون العبادَ مع الله بمنزلة الأُجَراءِ مع المستأجرين، كأنَّ الله سبحانه وتعالى استأجرهم طولَ مُقامِهم في الدنيا ليعملوا ما لا ينتفعون به، ولا فيه لربهم منفعةٌ ليعوِّضهم عن ذلك بعد الموت بأجرتهم، وفي هذا من التشبيه لله بالعاجز الجاهل السفيه ما يجب تنزيهُ اللهِ عنه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
(8/257)
والحق الذي يجب اعتقادُه أن الله سبحانه إنما أرسلَ رسولَه رحمةً للعالمين، وأن إرسالَ الرسل وإنزالَ الكتب رحمةٌ عامَّةٌ للخلق [أعمُّ] من إنزال المطر وإطلاع الشمس، وإن حصل بهذه (1) الرحمة تضرُّرُ بعض النفوس.
ثم إنه سبحانه وتعالى كما قال قتادة وغيره من السلف: لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجتِه إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا به، بل أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادُهم. وفي الحديث الصحيح (2) حديثِ أبي ذر عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى: يا عبادي! إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمتُه، فاستطعموني أُطعِمكم، يا عبادي! كلكم ضالّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أَهْدِكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسَكم وجنّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم اجتمعوا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسان منهم مسألتَه ما نقصَ ذلك من ملكي إلا كما ينقصُ البحر إذا غُمِسَ فيه المِخْيَطُ غمسةً واحدةً، يا عبادي! إنما
_________
(1) في الأصل: «بهذا».
(2) أخرجه مسلم (2577).
(8/258)
هي أعمالكم أُحصِيها لكم، ثمّ أُوفّيْكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلُومَنَّ إلا نفسَه».
وقد قال تعالى في وصف النبي الأمي: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. وقال تعالى لما ذكر الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]. فأخبر أنه لا يريد أن يجعل علينا من حرج فيما أمرنا به، وهذا نكرةٌ مؤكَّدةٌ بحرف «من»، فهي تَنفِي كلَّ حرج، وأخبر أنه إنما يريد تطهيرَنا وإتمامَ نعمتِه علينا.
وقال في الآية الأخرى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]. فقد أخبر أنه ما جعل علينا في الدنيا من حرج نفيًا عامًّا مؤكَّدًا.
فمن اعتقد أن فيما أمر الله به مثقال ذرَّةٍ من حرجٍ فقد كذَّب الله ورسوله، فكيف بمن اعتقد أن المأمور به قد يكون فسادًا وضررًا لا منفعةَ فيه ولا مصلحةَ لنا. ولهذا لما لم يكن فيما أمر الله به ورسوله حرجٌ علينا لم يكن الحرج في ذلك إلا من النفاق، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا
(8/259)
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وقال فيما أمر به من الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. فإذا كان لا يريد فيما أمرنا به ما يعسر علينا، فكيف يريد ما يكون ضررًا وفسادًا لنا بما أمرنا به إذا أطعناه فيه؟
ثم إنه قد أخبر أن الإيمان والطاعة خيرٌ من الكفر والمعصية للعبد في الدنيا والآخرة، وإن كان لجهله يظنُّ أن ذلك خير له في الدنيا، كما يقوله هؤلاء الذين فيهم شعبة وَهَلٍ (1) ونفاقٍ، الذين يقولون: إن المأمور به قد لا يكون فيه للعبد مصلحةٌ ولا منفعةٌ طولَ عمرِه، بل يكون ذلك في المنهيّ عنه، فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
وقال عن الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، الذين طلبوا ما في ذلك من نعيم الدنيا: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]. فأخبر أنهم يعلمون أن هذه الأمور لا تنفع بعد الموت، بل لا يكون لصاحبها نصيبٌ في الآخرة، وإنما طلبوا بها منفعةَ الدنيا، وقد يسمّون ذلك العقل المعيشي، أي العقل الذي يعيش به الإنسان في الدنيا عيشة طيبة.
_________
(1) أي ضعف وجبن.
(8/260)
فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103]. أخبر أن أولياءه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63]، يُثيِبهم على ذلك ما هو خير لهم مما طلبوه في الدنيا لو كانوا يعلمون، فيحصل لهم في الدنيا من الخير الذي هو المنفعةُ ودفعُ المضرَّة ما هو أعظمُ مما يُحصِّلونه بذلك من خير الدنيا، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56]، ثم قال: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 57].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 147 – 148]. وقال عن إبراهيم: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27].
وقد قال تعالى ما يبيِّن به أن فعلَ المكروه من المأمور به خيرٌ من تركه في الدنيا أيضًا، فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66 – 68]. وهذا في سياق حال {الَّذِينَ يَزْعُمُونَ
(8/261)
أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 – 61].
وهؤلاء منافقون من أهل الكتاب والمشركين، وحالهم أيضًا شبيهٌ بحال الذين نبذوا {كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 101 – 102]، فإن أولئك عَدَلوا عما في كتاب الله إلى اتباع الجبت والطاغوت: السحر والشيطان، وهذه حال الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، الذين يؤمنون بالجبت والطاغوت. وحالُ الذين يتحاكمون إلى الطاغوت من المُظْهِرين للإيمان بالله ورسُلِه، فيها من حالِ هؤلاء بقدر ذلك. والطاغوت: كل معظَّم ومتعظّم بغير طاعةِ الله ورسوله من إنسانٍ أو شيطانٍ أو شيء من الأوثان.
وهذه حال كثير ممن يُشبِه اليهودَ من المتفقهة والمتكلمة وغيرِهم ممن فيه نوع نفاقٍ من هذه الأمة، الذين يؤمنون بما خالفَ كتابَ الله وسنةَ رسوله من أنواع الجبت والطاغوت، والذين يريدون أن يتحاكموا إلى غير كتاب الله وسنةِ رسولِه. قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ
(8/262)
بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 61 – 62]. أي هؤلاء لم يقصدوا ما فعلوه من العدول عن طاعة الله ورسوله إلى اتباع ما اتبعوه من الطاغوت، إلا لِما ظنُّوه من جلب المنفعة لهم ودَفْعِ المضرَّة عنهم، مثل طلب علمٍ وتحقيقٍ كما يُوجَد في صنف المتكلمين، ومثل طلب أذواقٍ ومواجيدَ كما يُوجَد في صنف المتعبدين، ومثل طلب شهواتٍ ظاهرة وباطنةٍ كما يُوجَد في صنف الذين يريدون العلوَّ والذين يتبعون شهواتِ الغيِّ. قال تعالى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60]. أي ضلُّوا عن مطلوبهم الذي هو جلب المنفعة ودفع المضرة، فإن ذلك إنما هو في طاعة الله ورسوله دون اتباع الطاغوت. فإذا عاقبهم الله بنقيض مقصودهم في الدنيا، فأصابتهم مصيبةٌ بما قدَّمت أيديهم قالوا: ما أردنا بما فعلنا إلا إحسانًا وتوفيقًا. أي أردنا الإحسانَ إلى نفوسنا لا ظُلْمَها، وتوفيقًا أي جمعًا بين هذا وهذا، لنجمعَ الحقائقَ والمصالحَ. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63] من الاعتقادات الفاسدة والإرادات الفاسدة: الظنّ وما تهوى الأنفسُ {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63].
ثم قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64].
فدعاهم سبحانه بعد ما فعلوه من النفاق إلى التوبة، وهذا من
(8/263)
رحمته بعباده، يأمرهم قبل المعصية بالطاعة وبعد المعصية بالاستغفار، وهو رحيم بهم في كلا الأمرين، وأمرُه لهم بالطاعة أولًا من رحمته، وأمرهم ثانيًا بالاستغفار من رحمته، فهو سبحانه رحيمٌ بالمؤمنين الذين أطاعوه أولًا، والذين استغفروه ثانيًا. فإذا كان رحيمًا بمَن يطيعه، والرحمةُ توجب إيصالَ ما ينفعهم إليهم ودفْعَ ما يضرُّهم عنهم، كيف يكون المأمور به مشتملًا على ضررِهم دون منفعتهم؟
وقوله: {جَاءُوكَ} المجيء إليه في حضوره معلومٌ كالدعاء إليه، وأما في مغيبه ومماتِه فالمجيء إليه كالدعاء إليه والرد إليه، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} [النساء: 61]، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وهو الردُّ والمجيء إلى ما بُعِث به من الكتاب والحكمة. وكذلك المجيء إليه لمن ظلمَ نفسَه هو الرجوع إلى ما أمَره به، فإذا رجع إلى ما أمره به فإنّ الجائي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – في حياته ممن ظلم نفسَه يجيء إليه داخلًا في طاعته راجعًا عن معصيته، كذلك في مغيبِه ومماتِه. واستغفارُ الله موجودٌ في كل مكان وزمان، وأما استغفار الرسول فإنه أيضًا يتناول الناسَ في مغيبِه وبعدَ مماتِه، فإنه أُمِر أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، وهو مطيعٌ لله فيما أمَره به. والتائب داخلٌ في الإيمان، إذ المعصيةُ تَنقُص الإيمانَ، والتوبة من المعصية تزيد في الإيمان بقدرها، فيكون له من استغفار النبي – صلى الله عليه وسلم – بقدر ذلك.
فأما مجيءُ الإنسانِ إلى عند قبرِه، وقولُه: استغفِرْ لي أو ادعُ لي، أو
(8/264)
قولُه في مغيبه: يا رسولَ الله ادعُ لي أو استغفِرْ لي أو سَلْ لي ربَّك كذا وكذا، فهذا لا أصلَ له، ولم يأمر الله بذلك، ولا فَعَلَه أحدٌ من الصحابة ولا سَلَفِ هذه الأمة المعروفين في القرون الثلاثة، ولا كان ذلك معروفًا بينهم، ولو كان هذا مما يُستحبّ لكان السلف يفعلون ذلك، ولكان ذلك معروفًا عنهم بل مشهورًا بينهم ومنقولًا عنهم، فإن مثل هذا ــ إذا كان طريقًا إلى غفران السيئات وقضاء الحاجات ــ ممّا تتوفَّر الهِمَمُ والدواعي على فعلِه وعلى نقلِه، لا سيما فيمن كانوا أحرصَ الناس على الخير، فإذا لم يُعرَف أنهم (1) كانوا يفعلون ذلك ولا نقلَه أحدٌ عنهم عُلِمَ أنه لم (2) يكن مما يُستحبّ ويُؤمَر به. بل المنقول الثابت عنهم ما أمرَ به النبي – صلى الله عليه وسلم – من نهيِه عن اتخاذ قبرِه عيدًا (3) ووثنًا (4)، وعن اتخاذ القبور مساجدَ (5).
وأما ما ذكره بعضُ الفقهاء من حكاية العتبي عن الأعرابي الذي أتى قبرَ النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال: يا خيرَ البرية! إن الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية [النساء: 64]، وإني قد جئتُك. وأنه رأى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – في
_________
(1) في الأصل: أنه لم. والظاهر أنه مقلوبٌ عن الآتي.
(2) في الأصل: أنهم.
(3) أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود (2042) عن أبي هريرة، وإسناده حسن.
(4) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 172) عن عطاء بن يسار مرسلًا. وأخرجه أحمد (7358) عن أبي هريرة موصولًا.
(5) أخرجه البخاري (4443) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس. وفي الباب عن غيرهما من الصحابة.
(8/265)
المنام وأمرَه أن يُبشِّر الأعرابيَّ (1) = فهذه الحكاية ونحوها مما يُذكرَ في قبرِ النبي – صلى الله عليه وسلم – وقبرِ غيرِه من الصالحين، فيقع مثلُها لمن في إيمانِه ضعفٌ، وهو جاهل بقدرِ الرسول وبما أمرَ به، فإن لم يُسعَفْ مثلُ هذا بحاجتِه، وإلا اضطربَ إيمانُه وعَظُمَ نفاقُه، فيكون في ذلك بمنزلة المؤلَّفةِ قلوبُهم بالعطاءِ في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم -، كما قال: «إني لأَتألَّفُ رجالًا لما في قلوبهم من الهلَع والجزع، وأَكِلُ رجالًا إلى ما جعلَ الله في قلوبهم من الغنى والخير» (2). مع أنّ أخذَ ذلك المال مكروهٌ لهم، فهذا أيضًا مثل هذه الحاجات.
وإنما المشروع الذي وردتْ به سنتُه فهو دعاء المسلم ربَّه متوسِّلًا به [في حياته]، لا دعاؤه في مماته ومغيبه أن يفعلَ، ولا دعاؤه في مماتِه ومغيبه أن يَسأل، كما في الحديث الذي رواه الترمذي (3) وصححه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – علَّم رجلًا أن يقول: «اللهمَّ إني أسألك وأتوسلُ إليك بنبيك محمدٍ نبيِّ الرحمة، يا محمد! يا نبيَّ الله! إنّي أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليَقْضِيَها لي، اللهمَّ فشفِّعْه فيَّ».
_________
(1) انظر: المغني (5/ 465، 466) والمجموع للنووي (8/ 217) وغيرهما. وذكرها ابن كثير في تفسيره (2/ 960) ولم يستحسنها، وبيَّن بطلانَها ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص 212).
(2) أخرجه البخاري (923، 3145، 7535) عن عمرو بن تغلب.
(3) برقم (3578). وأخرجه أيضًا أحمد (4/ 138) والنسائي في الكبرى (10495) وابن ماجه (1385)، وصححه ابن خزيمة (1219) والحاكم (1/ 313، 519). وانظر: التوسل للألباني (ص 69).
(8/266)
وذلك أن الله تعالى يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]، ثم قال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فأقسمَ بنفسه على نفي إيمانِ من لم يجمع أمرين: تحكيمه فيما شجر بينهم وأن لا يجد في نفسه حرجًا، وهذا يُوجِب أنه ليس في أمرِه ونهيِه ما يُوجب الحرجَ ….. (1) امتثلَ ذلك …… حكمه لا بدَّ فيه من أمرٍ ونهيٍ، وإن كان فيه ……. أيضًا. فلو كان المأمور به والمنهي عنه ……. ومفسدةً وألمًا بلا لذةٍ راجحةٍ، لم يكن العبدُ مَلُومًا على وجود الحرج فيما هو مضرَّةٌ له ومفسدة.
ولهذا لم يتنازع العلماء أن الرِّضا بما أمرَ الله ورسولُه واجبٌ، بحيث لا يحبون كراهةَ ذلك ولا سخطَه، وأن محبة ذلك واجبةٌ، بحيث يُبغِضُ ما أبغضه الله، ويسخط ما سخطه الله من المحظور، ويُحِبُّ ما أحبَّه الله، ويَرضَى ما رَضِيَه الله من المأمور. وإن تنازعوا في الرضا بما قدَّره الحقُّ من الألم كالمرض والفقر، فقيل: هو واجب، وقيل: مستحب، وهو أرجح. والقولان في أصحاب أحمد وغيرهم. وأما الصبر على ذلك فلا نزاعَ أنه واجب.
وقد قال في الأول: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ
_________
(1) الكلمات في مواضع النقط غير واضحة في الأصل.
(8/267)
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 58 – 59]. فجعل من المنافقين مَن سَخِطَ فيما منعَه اللهُ إياه ورسولُه، وحضَّهم بأن يَرضَوا بما آتاهم الله ورسوله. والذي آتاه الله ورسولُه يتناولُ ما أباحه دونَ ما حظَره، ويدخل في المباح العامّ ما أوجبَه وما أحبَّه.
وإذا كان الصبر على الضرَّاء ونحوِ ذلك مما أوجبه الله وأحبَّه، كما أوجب الشكر على النعماء وأحبَّه، كان كلٌّ من الصبر والشكر مما تجبُ محبتُه وعملُه، فيكون ما قُدِّر للمؤمنين من سَرَّاءَ معها شكرٌ وضرَّاءَ معها صبرٌ خيرًا له، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا يَقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابتْه سرَّاءُ فشكَرَ كان خيرًا له، وإن أصابتْه ضرَّاءُ فصبرَ كان خيرًا له» (1).
وإذا كان ذلك خيرًا فالخير هو المنفعةُ والمصلحةُ، الذي فيه النعيم واللذة كما تقدمَّ، فيكون كلُّ مقدورٍ قُدِّر للعبد إذا عمل فيه بطاعة الله ورسولِه خيرًا له، وإنما يكون شرًّا لمن عمل بمعصية الله ورسوله، وقبلَ ذلك فهو محنةٌ وفتنةٌ وبلاءٌ، قد يَعملُ فيه بطاعة الله، وقد يعمل فيه بمعصية الله، فلا يُوصف بواحدٍ من الأمرين.
آخره، والحمد لله (2).
_________
(1) أخرجه مسلم (2999) عن صهيب.
(2) في الهامش: بلغ مقابلةً بأصلها المنقول عنه قدرَ الاستطاعة، والحمد لله.
(8/268)
فصل في آية الربا
(8/269)
فصل في آية الربا
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} إلى قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 275 – 280].
قوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي: مما كان قبضَه من الربا جعله له. {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} قد قيل: الضمير يعود إلى الشخص، وقيل: إلى «ما»، وبكل حالٍ فالآيةُ تقتضي أن أمره إلى الله، لا إلى الغريم الذي عليه الدَّين، بخلاف الباقي فإنّ للغريم أن يطلب (1) إسقاطَه، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ
_________
(1) ب: فإن الغريم يطلب.
(8/271)
أَمْوَالِكُمْ}، أي: ذَرُوا ما بقي من الربا (1) في ذِمَمِ الغُرماء، {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} أي: رأس المال من غير زيادة. فقد أمرهم بترك الزيادة وهي الربا، فيسقط عن ذمة الغريم ولا يُطالب بها، وهذه للغريم فيها حقُّ الامتناع من أدائها والمخاصمة على ذلك وإبطال الحجة المكتتبة بها.
وأما ما كان قبضَه فقد قال: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}، فاقتضى أن السالف له للقابض، وأن أمره إلى الله وحدَه لا شريكَ له، ليس للغريم فيه أمرٌ. وذلك أنه لما جاءه موعظةٌ من ربه فانتهى كان مغفرةُ ذلك الذنب والعقوبة عليه إلى الله، وهذا قد انتهى في الظاهر، فله ما سلفَ، وأمرُه إلى الله، إن علمَ من قلبه صحةَ التوبة غفَرَ له، وإلَّا عاقبَه.
ثم قال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فأمرَ بترك الباقي، ولم يأمر بردِّ المقبوض.
وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}، لا يشترط منها ما قبض. وهذا الحكم ثابتٌ في حقّ الكافر إذا عاملَ كافرًا بالربا، وأسلما بعد القبض وتحاكما إلينا (2)، فإن ما قبضَه يُحكَم له به كسائرِ ما قبضَه الكفّارُ بالعقود التي يعتقدون حِلَّها، كما لو باعَ خمرًا وقبضَ ثمنَها، ثم أسلمَ، فإن ذلك يَحِلُّ له، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «مَن أسلمَ على شيء فهو له» (3).
_________
(1) ب: الزيادة.
(2) إلينا ساقطة من الأصل.
(3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/ 113) من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف. وله شواهد موصولة ومرسلة يرتقي بها إلى الحسن. انظر: إرواء الغليل (6/ 157).
(8/272)
وأما [المسلم] فله ثلاثة أحوال:
تارةً يعتقدُ حِلَّ بعضِ الأنواع باجتهادٍ أو تقليد.
وتارةً يُعامِل بجهلٍ، ولا يعلم أن ذلك ربًا محرَّم.
وتارةً يقبض مع علمه بأن ذلك محرَّم.
أما الأول والثاني ففيه قولان إذا تبيَّن له فيما بعدُ أن ذلك ربًا محرَّم، قيل: يردُّ ما قبضَ كالغاصب، وقيل: لا يردُّه، وهو الأصح؛ لأنه كان يعتقد أن ذلك حلالٌ، والكلام فيما إذا كان مختلفًا فيه مثل الحيل الربوية، فإذا كان الكافر إذا تاب يُغفَر له ما استحلَّه ويُباح له ما قبضَه، فالمسلم المتأول إذا تاب يُغفَر له ما استحلَّه ويُباحُ له ما قبضَه؛ لأن المسلم إذا تاب أَوْلى أن يُغفَر له إن كان قد أخذ بأحد قولي العلماء في حِلِّ ذلك، فهو في تأويله أعذَرُ من الكافر في تأويله.
وأما المسلم الجاهل فهو أبعد، لكن ينبغي أن يكون كذلك، فليس هو شرًّا من الكافر. وقد ذكر فيما يتركه المسلم الجاهل من الواجباتِ التي لم يعرف وجوبها هل عليه قضاء؟ قولان، أظهرهما أنه لا قضاء عليه.
وأصل ذلك أن حكم الخطاب هل يثبت في حق المسلم قبل بلوغ الخطاب؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره. ولأحمد روايتان فيما إذا صلى في معاطن الإبل، أو صلَّى وقد أكل لحم الجزور، ثم تبين له
(8/273)
النصّ، هل يعيد؟ على روايتين. وقد نصرتُ في موضع أنه لا يُعيد (1)، وذكرتُ على ذلك أدلةً متعددة:
منها: قصة عمر وعمار لما كانا جُنُبَيْنِ، ولم يُصلِّ عمر، ولم يأمره النبي – صلى الله عليه وسلم – بالإعادة (2).
ومنها: أبو ذر لم يأمره أيضًا بالإعادة (3).
ومنها: المستحاضة (4) التي قالت: مَنَعتْني الصوم والصلاة.
ومنها: الأعرابي المسيء في صلاته، الذي قال: واللهِ ما أُحْسِنُ غير هذا. فأمره أن يعيد الصلاة الحاضرة؛ لأن وقتها باقٍ وهو مأمور بها، ولم يأمره بإعادة ما صلّى قبل ذلك (5).
ومنها: الذين أكلوا حتى تبيَّن لهم الخيط الأبيض والأسود، ولم يُؤمَروا بالإعادة (6).
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (22/ 41 – 46).
(2) أخرجه البخاري (338) ومسلم (368) من حديث عبد الرحمن بن أبزى.
(3) أخرجه أحمد (5/ 146، 155) وأبو داود (333) من حديث أبي ذر، وإسناده صحيح.
(4) هي حمنة بنت جحش، وقد أخرج حديثها أحمد (6/ 381، 349، 439) وأبو داود (287) والترمذي (128) وابن ماجه (622). قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(5) أخرجه البخاري (757، 793) ومسلم (397) من حديث أبي هريرة.
(6) أخرجه البخاري (1917، 4511) ومسلم (1091) عن سهل بن سعد.
(8/274)
والشريعة أمرٌ ونهي، فإذا كان حكم الأمر لا يثبت إلا بعد بلوغ الخطاب وكذلك النهي، فمَنْ فعلَ شيئًا لم يعلم أنه محرم، ثم علم لم يُعاقَبْ. وإذا عامل معاملاتٍ ربويةً يعتقدها جائزةً وقبضَ منها ما قبضَ، ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف، ولا يكون شرًّا من الكافر، ولو كان قد باع خمرًا أو حشيشةً أو كلبًا لم يَعلم أنها حرام وقبضَ ثمنَها. وسَمُرةُ لما باع وقبضَ ثمنها قال عمر: قاتل الله سمرةَ! ألم يَعلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله إذا حَرَّمَ على قومٍ أكلَ شيء حَرَّمَ عليهم ثمنَه»؟ (1).
وكانوا يقبضون الخمر جزيةً عن أهل الذمة ثم يبيعونهم إياها، فقال عمر: وَلُّوهم بيعَها ثمَّ خذوا ثمنها (2). وما قبضه سمرة لم يذكر أن عمر أمر بردِّه، وكيف يردُّه وقد أخذوا الخمر، ولا نهاه عن الانتفاع به؟ وذلك أن هذا الذي قبضه قبل أن يعلم أنه محرم لا إثمَ عليه في قبضه، فإنه لم يكن يعلم أنه محرم، والكافر إذا غُفِر له قبضُه لكونه قد تابَ، فالمسلم أَولى بطريق الأَولى.
والقرآن يدل على هذا بقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]، وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه، فقد
_________
(1) أخرجه البخاري (2223، 3460) ومسلم (1582) عن ابن عباس، ولم يسمِّ البخاري الرجل.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 195).
(8/275)
جعل الله له ما سلف. ويدل على أن ذلك ثابت في حق المسلم ما بعد هذا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}، فأمرهم بترك ما بقي، ولم يأمرهم بردِّ ما قبضوه، فدلَّ على أنه لهم مع قوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}، والله يقبل التوبة عن عباده.
فإذا قيل: هذا مختص بالكافرين.
قيل: ليس في القرآن ما يدلُّ على ذلك، إنما قال: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}، وهذا يتناول المسلم بطريق الأولى. وعائشة قد أدخلت فيه المسلمَ في قصة زيد بن أرقم لما قالت لأم ولده: بئسَ ما شريتِ، وبئسَ ما اشتريتِ، أخبري زيدًا أنه قد حَبِطَ جهادُه مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا أن يتوب. فقالت: يا أم المؤمنين، أرأيتِ إن لم آخذ إلا رأسَ مالي؟ فقالت عائشة: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (1).
بل قد يقال: إن هذا يتناول مَن كان يعلم التحريم إذا جاءته موعظة من ربه فانتهى، فإن الله يغفر لمن تاب بتوبته، فيكون ما مضى من الفعل وجوده كعدمه، والآية تتناوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}، ويدل على ذلك قوله بعد هذا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ
_________
(1) أخرجه الدارقطني (3/ 52)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 330). قال ابن كثير في تفسيره (2/ 651): هذا الأثر مشهور.
(8/276)
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}. والتوبة تتناول المسلم العاصي كما تتناول الكافر، ولا خلاف أنه لو عامله بربا يحرم بالإجماع لم يقبض منه شيئًا، ثم تاب، أن له رأس ماله، فالآية تناولته، وقد قال فيها: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}، ولم يأمر بردّ المقبوض، بل قال قبل ذلك: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}.
وهذا وإن كان ملعونًا على ما أكله وأوكله، فإذا تاب غُفِر له. ثم المقبوض قد يكون اتّجر فيه وتقلب، وقد يكون أَكَلَه ولم يبقَ منه شيء، وقد يكون باقيًا، فإن كان قد ذهب وجعل دينًا عليه كان في ذلك ضرر عظيم، وكان هذا منفِّرًا عن التوبة، وهذا الغريم يكفيه إحسانًا إليه إسقاطُه ما بقي في ذمته وهو برضاه أعطاه، وكلاهما ملعون.
ولو فُرِض أن رجلًا أمر رجلًا بإتلافِ مالِه وأتلفَه لم يَضمنْه وإن كانا ظالمين، وكذلك إذا قال: اقتل عبدي. هذا هو الصحيح، وهو المنصوص عن أحمد وغيره. فكذلك هذا هو سلط ذاك على أكل هذا المال برضاه، فلا وجهَ لتضمينه وإن كانا آثمين، كما لو أتلفه بفعله، إذ لا فرقَ بين أن يتلفه بأكله أو بإحراقه، بل أكلُه خير من إحراقه، فإن لم يضمنه في هذا بطريق الأولى.
وأيضًا فكثير من العلماء يقولون: إن السارق لا يغرم؛ لئلا يجتمع عليه عقوبتان من أن الحد حقٌّ لله والمال حقٌّ لآدمي. وهذا أولى، لئلا
(8/277)
يجتمع على المُرْبِي عقوبتان: إسقاط ما بقي، والمطالبة بما أكل. وإن كان عين المال باقيًا فهو لم يقبضه بغير اختيار صاحبه كالسارق الغاصب، بل قبضه باتفاقهما ورضاهما بعقدٍ من العقود، وهو لو كان كافرًا ثم أسلم لم يردّه، وقد قال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}.
وقد يقال: لا يكون لواحدٍ منهما، كما لو كان ثمنَ خمرٍ أو مهرَ بَغيٍّ أو حُلوانَ كاهنٍ، فإن هذا إذا تاب لا يعيده إلى صاحبه، بل يتصدَّق به في أظهر قولي العلماء.
وكذلك لو استأجر رجلًا لحمْلِ خمرٍ، نصَّ أحمد على أنه يُقضَى له بالكراء ولا يأكلُه، لأن الحمل عملٌ مباح فيستحقُّ أجرتَه، ولكن لقصد المستأجر لا يأكله. وكذلك لو باع عنبًا أو عصيرًا ممن يتخذه خمرًا، فإنه يُقضَى له بالثمن بلا ريب إذا تعذَّر ردُّ العنب والعصير، ولا يقول عاقل: إن الذي أخذ العنب وعَصَرَه خمرًا يُعطَى مع ذلك الثمن، لكن غاية ما يقال: إن هذا يتصدق بالثمن.
فإن قيل مثل هذا في الربا قياسًا على هذا، فقد يقال: هنا التحريمُ لحقِّ الله، لأن نَفْسَ عِوَضِ الخمر محرَّم، وهناك التحريم لما فيه من ظلم الآدمي، وإن كان لو رضي به لم يجز؛ لأنه سفيهٌ في ذلك.
وأيضًا ففي ردِّه عليه تسليطٌ لمَنْ يحتال على الناس بأن يأخذها بعقود ربوية فينتفع بها، ثم يطالبهم بما قبضوه، وقد انتفع برأس مالِه مدةً
(8/278)
بغير رضاهم، فإنهم لم يُعطُوه قرضًا.
وهذه المسألة تحتاج إلى نظر وتحقيق، وأما الذي لا ريبَ فيه عندي فهو ما قبضَه بتأويلٍ أو جهلٍ فهنا له ما سلف بلا ريب، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة والاعتبار، وأما مع العلم بالتحريم فيحتاج إلى نظر، فإنه قد يقال: طَرْدُ هذا أن من اكتسب مالًا من ثمنِ خمرٍ مع علمه بالتحريم فله ما سلف. وكذلك كلّ مَنْ كسب مالًا محرمًا ثم تاب، إذا كان برضا الدافع، ويلزم مثل ذلك في مهر البغيِّ وحُلوانِ الكاهن.
وهذا ليس ببعيد عن أصول الشريعة، فإنها تُفرّق بين التائب وغير التائب، كما في قوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وهذا في الكفار ظاهر متواتر عن الرسول – صلى الله عليه وسلم -، متفق عليه بين المسلمين، فإن الكافر إذا أسلم لم يجب عليه قضاء ما تركه من صيام وصلاة وزكاة، ولا يحرم ما اكتسبه من الأموال التي كان يعتقدها حلالًا، ولاضمانَ عليه فيما أتلفَه، لأنه كان يعتقد حِلَّ ذلك.
وأما المسلم إذا تاب ففي قضاء الصلاة والصيام نزاع، ومما يُقوّي هذا أن هذا المال لا يتلف بلا نزاع، بل إما أن يتصدق به، وإما أن يدفع إلى الزاني والشارب الذي أخذ منه مع كونه مُصِرًّا، وإما أن يُجْعَل لهذا القابض التائب.
فإذا دفعه إلى الزاني والشارب فلا يقوله مَن يتصوَّر ما يقول، وإن
(8/279)
كان من الفقهاء مَن يقوله، فإنّ في هذا فسادًا مضاعفًا، فإن ذلك كان ممنوعًا من الشرب والزنا ولو بذل العِوَض، فإذا كان قد فعله بعِوَض وأُعِيد إليه العِوَض كان ذلك زيادةَ إعانةٍ له وإغراء له بالسيئات.
وأما الصدقة فهي أوجَهُ، لكنْ يقال: هذا الباب أحقُّ به من غيره، ولا ريب إن كان صاحب هذا الباب فقيرًا فهو أحقُّ به من غيره من الفقراء، وبهذا أفتيتُ غير مرةٍ، وإذا كان التائب فقيرًا يأخذ منه حاجته، فإنه أحقُّ به من غيره، وهو إعانة له على التوبة، وإن كُلِّف إخراجَه تضرَّر غايةَ التضرُّر ولم يتُبْ. وأيضًا فلا مفسدةَ في أَخْذِه، فإنّ المال قد أخذه وخرج عن حكم صاحِبه، وعينُه ليست محرمة، وإنما حرم لكونه استُعِين به على محرم، وهذا قد غُفِر بالتوبة فيحلُّ له مع الفقر بلا ريب، وأخذُ ذلك له مع الغنى وجهٌ، وفيه تيسيرُ التوبة على من كسب مثل هذه الأموال.
وأما الربا فإنه قبض برضا صاحبه، والله سبحانه يقول: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}، ولم يقل: فمن أسلم، ولا من تبيَّنَ له التحريم، بل قال: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى}، والموعظة تكون لمن علم التحريم أعظم مما تكون لمن لم يعلمه، قال الله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 17]، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63].
(8/280)
وأيضًا فهذا وَسَطٌ بين الغريمين، فإن الغريم المدين ينهى أن يسقط عنه الزيادة، وهذا عنده غاية السعادة، وذلك لا ينهى أن يبقى له ما قبض، وقد عفا الله عما مضى. وأما تكليف هذا إعادة القرض فذلك مثل مطالبة الغريم بما بقي، وكلاهما فيه شططٌ وشدَّةٌ عظيمة، فهذا هذا. والله أعلم.
فصلٌ في الربا
قد تدبّرتُ مرَّاتٍ عَوْدًا على بدءٍ، وما فيه من النصوص والمعاني والآثار، فتبيَّن لي ــ ولا حول ولا قوة إلا بالله ــ بعد استخارة الله أن أصل الربا هو الإنْسَاء، مثل أن يبيع الدراهم إلى أجلٍ بأكثر منها، ومنها أن يؤخر دينه ويزيد في المال. وهذا هو الربا الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية. وقد سُئِل أحمد بن حنبل عن الربا الذي لا شك فيه، فذكر هذا، وهو أن يكون له دَينٌ فيقول له: أتَقضِي أم تُربِي؟ فإن لم يَقضِه زاده في المال، وزاده هذا في الأجل، فيربو المال على المحتاج من غير نفع حصل له، ويزيد مال المربي من غير نفع حصل منه للمسلمين. فهذا حرَّمَه الله تعالى؛ لأن فيه ضررًا على المحاويج، وفيه أكل المال بالباطل.
وقد كان من العلماء المشهورين في زماننا غير واحدٍ يقولون: لا نعرف حِكَمَ تحريم الربا، وذلك أنهم نظروا في جملة ما يحرم، فلم يروا فيه مفسدةً ظاهرة. والتحقيق أن الربا نوعان: جلي وخفي، فالجليّ حُرِّمَ لما فيه من الضرر والظلم، والخفيّ حُرِّمَ لأنه ذريعة إلى الجلي.
(8/281)
فربا النَّسَاء من الجليّ، فإنه يَضُرّ بالمحاويج ضررًا عظيمًا ظاهرًا، وهذا مُجرّب، والغَنِيّ يَأكل أموال الناس بالباطل؛ لأن ماله رَبَا من غيرِ نفعٍ حصلَ للخلق، ولهذا جعل الله الربا ضدَّ الصدقات، فقال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 286]، وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]. وقال لنبيه – صلى الله عليه وسلم – في أول ما أنزل عليه: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الآيات إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 130 – 134]. فنهى عن الربا الذي فيه ظلم الناس، وأمر بالإحسان إلى الناس المضاد للربا.
وفي الصحيحين (1) عن ابن عباس عن أسامة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنما الربا في النسيئة». وهذا الحصر يراد به حصول الكمال، فإن الربا الكامل هو في النسيئة، كما قال ابن مسعود: إنما العالم الذي يخشى الله. وكما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [الأنفال: 2]، ومثل ذلك كثير.
فأما ربا الفضل فإنما نُهِيَ عنه لسدِّ الذريعة، كما في المسند مرفوعًا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – من حديث سعد: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، فإن
_________
(1) البخاري (2179) ومسلم (1596).
(8/282)
أخاف عليكم الرَّمَاءَ. والرماء هو الربا» (1).
وقد تنازع السلف والخلف في ربا الفضل، فطائفة من السلف أباحَتْه ولم تُحرِّم منه شيئًا، وهذا مشهور عن ابن عباس، وهو مروي عن ابن مسعود ومعاوية، بل قد رُوي عنه أنه باعَ المَصُوغَ إلى أجلٍ، وبسبب ذلك فارقَهُ عبادة بن الصامت، وذهبَ إلى عمر رضي الله عنه شاكيًا منه (2).
ويَروي عبادة حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – في الأصناف الستة (3)، وقد قيل: كانوا في غزوة قبرص، وليس كذلك، فإن قبرص إنما غزاها معاوية في خلافة عثمان باتفاق الناس، وكانوا قد استأذنوا عمر فيها، فنهى لأجل ركوب البحر، ثم استأذنوا عثمان فأذِنَ لهم. وفيها تُوفِّيَتْ أمُّ حرام بنت مِلْحان، وقد ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – هذه الغزاة (4)، وبها احتجوا على جواز الغزو في البحر، مع ذكره غزو البحر في حديث (5).
لكن شكوى عبادة إلى عمر قد كان قبل ذلك في بعض المغازي،
_________
(1) مسند أحمد (2/ 109)، والحديث فيه عن ابن عمر لا سعد. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 113): فيه أبو جناب، وهو ثقة، لكنه مدلس.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 355).
(3) أخرجه مسلم (1587).
(4) كما في حديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري (2788)، ومسلم (1912).
(5) ورد في حديث أبي هريرة ذكر ركوب البحر مطلقًا، وقد أخرجه أحمد (237، 361، 393)، وأبو داود (83) والترمذي (69) والنسائي (1/ 50، 176) وابن ماجه (386، 3246)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(8/283)
فإن معاوية فتح قَيْسَاريةَ، وكانت مدينة بالساحل عظيمة، ولعلّ النزاع كان فيها، وقد غنم المسلمون آنيةً من ذهب وفضة، فصار في الخُمُسِ منها ما صار، فباعَهم معاوية ذلك إلى العطاء. فصار بيع الإناء الذي وزنُه عشرون درهمًا بثلاثين درهمًا لأجل صيغتِه، والناس رغبوا في ذلك؛ لأنه إلى العطاء مؤخر عنهم، ويأخذون ذلك الساعة وينتفعون بها، فأنكر ذلك عبادة، وتقاولَ هو ومعاوية في ذلك، والقصة مشهورة (1).
ولما أنكر أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة ذلك على ابن عباس، روى أبو سعيد حديث خيبر لما قال له وكيلُه: إنما نبتاعُ الصاعَ من التمر الجَنِيْب وهو جيد التمر، بالصاعين من الجمع وهو المخلوط، فقال: «إنه عين الربا، ولكنْ بِعِ الجمْعَ بالدراهم، ثم ابتَعْ بالدراهم جَنِيْبًا»، وقال في الميزان مثل ذلك (2).
ثم اتفق الناس على تحريم ربا الفضل في الأعيان الستة التي جاءت بها الأحاديث، وهي من أفراد مسلم (3) من حديث عبادة وغيره عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيدٍ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبِيعُوا حيث شئتم إذا كان يدًا بيدٍ».
_________
(1) أخرجها مسلم (1587).
(2) أخرجه البخاري (4244) ومسلم (1593) عن أبي سعيد وأبي هريرة.
(3) برقم (1587).
(8/284)
وتنازعوا فيما سوى ذلك على أقوال:
فطائفة لم تُحرِّم ربا الفضل في غيرها، وهذا مأثور عن قتادة، وهو قول أهل الظاهر، وابنُ عقيل في آخر مصنفاتِه رجَّح هذا القولَ مع كونه يقول بالقياس، قال: لأن علل القياس في مسألة الربا عللٌ ضعيفة، وإذا لم يظهر فيه علة امتنع القياس.
وطائفة حَرَّمَتْه في كلِّ مكيلٍ وموزونٍ، كما روي عن عمار بن ياسر، وبه أخذ أحمد بن حنبل في المشهور عنه، وهو قول أبي حنيفة وغيره.
وطائفة حَرَّمَتْه في الطعام وإن لم يكن مكيلًا وموزونًا، كقول الشافعي وأحمد في رواية.
وطائفة لم تُحرِّمْه إلا في المطعوم إذا كان مكيلًا أو موزونًا، وهذا قول سعيد بن المسيّب والشافعي في قول وأحمد في الرواية الثالثة، اختارها الشيخ أبو محمد (1)، وهو قريب من قول مالك: القُوت وما يُصلِح القوتَ. وهذا القول أرجح الأقوال.
وقد حكي عن بعض المتأخرين (2) أنه يحرم في جميع الأموال، لكن هذا ما علمتُ به قائلًا من المتقدمين.
فنقول: أما الدراهم والدنانير فالعلة فيهما الثمن، بدليل أنه يجوز
_________
(1) أي ابن قدامة في العمدة (ص 220).
(2) هو أبو طاهر الرياشي، وسيأتي ذكره في كلام المؤلف.
(8/285)
إسْلافُهما في الموزونات من النحاس وغيره، ولو كان الربا جاريًا في النحاس لم يُبَع موزونٌ بموزونٍ إلى أجلٍ، كما لا يُباعُ تمرٌ بحنطةٍ ودراهمُ بدنانيرَ إلى أجلٍ، وهم يسلِّمون أن هذا خلاف القياس، والعلة إذا انتقضت من غير فرقٍ عُلِمَ أنها علة باطلة. وأيضًا فالتعليلُ بكونِه موزونًا أو مطعومًا عللٌ ليس فيها ما يُوجِب الحكم، بل طردٌ محض، كما بُسِط في غير هذا الموضع.
ولكن الدراهم والدنانير هي أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يُعرَف تقويمُ الأموال، فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا، لا تُرفع قيمته ولا تنخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسِّلعَ لم يكن لنا ثمنٌ نعتبر به المبيعاتِ، بل الجميع سِلَعٌ، والحاجة إلى أن يكون للناس ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة عامة، فإنه قد يحتاج إلى بيع ثمنٍ بغير إذنِ صاحبه، فلا يُباع إلا بثمن المثل، كتقويم الشِّقْصِ على من أعتقَ نصيبَه. والناسُ يشترون بالسعر شراءً عامًّا، فإنْ لم يكن سِعرٌ لم يُعرَف ما لبعضهم عند بعضٍ، وقد يُقوِّمون بينهم عُروضًا وغيرها ممن لا تعدل فيه الأنصباء إلَّا بالقيمة.
ففي الجملة الحاجةُ إلى التقويم في الأموال حاجة عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تُعرَف به القيمة، وذلك لا يكون إلا إذا كان هناك ثمنٌ تُقوَّمُ به الأشياءُ وتُعتَبَر، وذلك إنما يكون إذا كان ذلك الثمن باقيًا على حالٍ واحدةٍ لا تزدادُ فيه القيمة ولا تنقُصُ.
(8/286)
وقد حُرِّمَ فيهما ربا النَّسَاءِ لما فيه من الضرر كما تقدم، ولو أُبِيحَ ربا الفضل، مثل أن يبيعوا دراهمَ بدراهمَ أكثر منها، مثل أن يكون محتاجًا إلى دراهم خفافًا وأنصَافًا ومكسَّرةً فيشتريها، فلا يبيعه الصيرفي إلا بفضل باقٍ يأخذ منه من الصحاح أكثر من وزنها= صار ذلك تجارةً في الثمن، ومتى اتَّجروا فيها نقدًا تذرَّعوا إلى التجارة فيها نسيئةً. ولو أبيحت التجارة في الأثمان مثل أن يبيع دراهم بدراهم إلى أجل، لصارت الدراهم سلعةً من السلع، وخرجت عن أن تكون أثمانًا، فحرم فيها ربا الفضل، لأنه يُفضِي إلى ربا النَّسَاء، وربا النَّسَاء فيها يَضرّ وإن اختلفت بالصفات، لأنه يُخرِجها عن أن تكون أثمانًا.
وإذا وقعت فيها التجارة قصدت صفاتها، فيقصد كلُّ واحدٍ ادخارَ ما يرتفع ثمنُه في وقت، كما يصنعون بالدراهم إذا كانت نقودًا ينقون خيارها، وكما يصنعون بالفلوس أحيانًا. وهذا كلُّه مما نُهِي عنه في الأثمان، فالأثمان المتساوية متى جُعِلَ بعضُها أفضلَ من بعضٍ حصلَ الفسادُ، بل لابدَّ أن لا تُقصَد لأعيانها، بل يُقصَدُ التوسُّلُ بها إلى السِّلَع. والناس كلُّهم يشتركون في التوسّل بها، وهي دائرة بين الناس بمنزلة العلامة، ولهذا في بعض البلاد يتخذون أثمانًا من نوع آخر، وهذا معنًى معقولٌ في الأثمان مختصٌّ بها، فلا يتعدّى إلى النحاس والحديد والقطن والكتَّان؛ فإنه لا فرقَ بين تلك وبين غيرها، بل المطعومات أشرف منها.
وأما الأصناف الأربعة فالناس محتاجون إلى القُوتِ، كالأصناف
(8/287)
الأربعة وكما يشابهها من المكيلات، فمن تمام مصلحة الناس أن لا يُتَّجَر في بيع بعضها ببعضٍ؛ لأنه متى اتُّجِرَ في ذلك خَزَنَها الناسُ، ومنعوا المحتاجَ منها، فيُفضِي إلى أن يَعِزَّ الطعام على الناسِ، ويتضررون بتقليل الانتفاع به، وهذا هو في بيع بعضها ببعضٍ إلى أ جل. فإنه متى بيعت الحنطة بالحنطة إلى أجل، أو التمر بالتمر، أو الشعير بالشعير أو نحوه، سمحت الأنفس ببيعها حالَّةً طمعًا في الربح إذا بيعت إلى أجل، وإذا لم تُبَعْ حالَّةً تضرر الناس، بل حينئذٍ لا تباع إلا بزيادة فيها، فيضر الناس. بخلاف بيعها بالدراهم، فإن من عنده صنف منها هو محتاج إلى الصنف الآخر، فيحتاج أن يبيعه بالدراهم ليشتري به الصنف الآخر، أو يبيعه بذلك الصنف بلا ربح. وعلى التقديرَيْن يحتاج إلى بيعه حالًّا، بخلاف ما لو أمكنه التأخر، فإنه يمكنه أن يبيعه بفضلٍ ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضلٍ؛ لأن صاحب ذلك الصنف يُربي عليه كما أربَى هو على غيره، فيتضرر هذا ويتضرر هذا مِن تأخُّر هذا ومِن تأخُّر هذا. فكان في التجارة فيها ضررًا عامًّا (1)، فنهي عن بيع بعضها ببعضٍ نساءً، وهذا من ربا النسيئة، وهو أصل الربا.
لكن هنا النسيئة في صنفين معلَّلين، وهو كبيع الدراهم بالدنانير نَساءً، وهذا من ربا النسيئة، وهو ما ثبت تحريمه بالنصّ والإجماع. فربا النسيئة يكون في الصنف الواحد، وفي الصنفين اللذين مقصودهما
_________
(1) كذا في الأصل منصوبًا. والوجه الرفع.
(8/288)
واحدٌ، كالدراهم مع الدنانير، وكالأصناف الأربعة التي هي قوت الناس.
وأما ربا الفضل فإذا باع حنطة بحنطة خير منها مدّ بمدّين، كان هذا تجارة فيها، ومن سوَّغ التجارة فيها نقدًا طلبت النفوس التجارة فيها نَساءً كما تقدم في النقدين، وإن لم يشترطوا ذلك بل قد يتعاقدان على الحلول.
والعادة جارية بأنك تصبر عليَّ كما هو الواقع في كثير من السِّلع، وكما يفعل أرباب الحِيَل، يطلقون العقد وقد تواطأوا على أمر آخر، كما يطلقون عقد نكاح التحليل وقد اتفقوا على أنه يطلّق، ويطلقون البيع على بيع الفضة بالفضة وقد اتفقوا على أنه باذل عنها ذهبًا، واتفقوا على أنه يبيعه السِّلعةَ إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن، ومثل ذلك كثير.
كذلك يطلقون بيع الدراهم بالدراهم على أنها حالة، ويؤخر الطلب لأجل الربح. فكان يحرم ربا الفضل؛ لأنه ذريعة إلى ربا النَّساء، كما جاءت هذه العلة منصوصة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، فإني أخافُ عليكم الرَّماءَ، والرماء هو الربا» (1)، وإلّا فمعلوم أنه مع استواء الصفاتِ لا يبيع أحدٌ مُدَّ حنطةٍ أو تمرٍ مُدًّا بمدٍّ يدًا بيدٍ، هذا لا يفعله أحد. وإنما يُفعَل هذا عند اختلاف الصفات، مثل أن يكون هذا جيدًا وهذا رديئًا، أو هذا جديدًا وهذا عتيقًا، وإذا اختلفت الصفات فهي
_________
(1) سبق تخريج الحديث.
(8/289)
مقصودة، ولهذا يجب له في القرض مثل ما أ قرضه على صفته، وكذلك في الإتلاف، لأنه في القرض لم يقصد البيع، وإنما قصد نفعه، فهو بمنزلة العارية. ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «منيحة الورق» (1)، ويقال فيه: أَعِرْني دراهمك، فهو يستعير تلك الدراهم ينتفع بها مدة ثم يردُّها، وعينها ليست مقصودة، ويرد جنسها، كما في القراض يرد رأس المال، ثم يقتسمانِ الربح، وعين ما أعطاه ليس مقصودًا، بل المقصود الجنس. فهذه أمورٌ معقولة جاءت بها الشريعة في مصالح الناس.
ولما خفيت علة تحريم الربا أباحه مثلُ ابن عباس حبر الأمة ومثلُ ابن مسعود، فإن الحنطة الجيدة والتمر الجيد يقال لصاحبه: ألْغِ صفاتِ مالك الجيدة، لكن لما كان المقصود أنك لا تتَّجر فيها لجنسها، بل إنْ بِعْتَها لجنسها فلتكن بلا ربح ولا إلى أجل ظهرت الحكمة، فإن التجارة في بيعها لجنسها تُفسِد مقصودَ الأقوات على الناس. وهذا المعنى ظاهر في بيع الدراهم بالدراهم، وفي بيع التِّبر بالدراهم، لأن التبر ليس فيه صنعةٌ تُقصَد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قُصِد أن لا تفضل على جنسها، ولهذا جاء في الحديث: «تِبْره وعينُه سواء» (2).
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 285، 296، 300، 304) والترمذي (1957) من حديث البراء بن عازب. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(2) أخرجه أبو داود (3349) والنسائي (7/ 276) من حديث عبادة بن الصامت.
(8/290)
فصل
وأما المصوغ من الدراهم والدنانير، فإن كانت صياغة محرمةً كالآنية، فهذه يحرُم بيعُ المصاغة لجنسها وغير جنسها، وبيعُ هذه هو الذي أنكره عُبادةُ على معاوية.
وأما إنْ كانت الصياغة مباحةً، كخواتيم الفضة، وكحلية النساء، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها من الفضة، وما أبيح من الذهب عند مَن يرى ذلك= فهذه لا يبيعها عاقلٌ بوزنها، فإن هذا سفَهٌ وتضييعٌ للصنعة، والشارع أجلُّ من أن يأمر بذلك، ولا يفعل ذلك أحدٌ البتة إلا إذا كان متبرعًا بدون القيمة. وحاجة الناس ماسَّةٌ إلى بيعها وشرائها، فإنْ لم يُجَوَّز بيعُها بالدراهم والدنانير فسدتْ مصلحة الناس.
والنصوصُ الواردة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس فيها ما هو صريح في هذا، فإن أكثرها إنما فيه الدراهم والدنانير، وفي بعضها لفظ الذهب والفضة. وجمهور العلماء يقولون: لم يدخل في ذلك الحلية المباحة، بل لا زكاة فيها، فكذلك الحلية المباحة لم تدخل في نصوص الربا، فإنه بالصيغة المباحة صارت من جنس الثياب والسِّلع، لا من جنس الأثمان، فلهذا لم يجب فيها زكاة الدنانير والدراهم، ولا يحرم بيعها بالدنانير والدراهم.
ومما يبيِّن ذلك أن الناس كانوا على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – يتخذون الحلية، وكُنّ النساء يَلبسْنَ الحلية، وقد أَمرهنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم العيد أن
(8/291)
يتصدَّقْنَ، وقال: «إنَّكُنَّ أكثر أهل النار» (1)، فجعلت المرأة تُلقِي حليها، وذلك مثل الخواتيم والقلائد. ومعلومٌ أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يُعطي ذلك الفقراء والمساكين، وكانوا يبيعون، ومعلومٌ بالضرورة أن مثل هذا لابدَّ أن يُباع ويُشترى، ومعلومٌ بالضرورة أن أحدًا لا يبيعُ هذا بوزنه، ومن فعل هذا فهو سفيهٌ يستحقُّ أن يُحْجَر عليه. كيف وقد كان بالمدينة صوَّاغون، والصائغ قد أخذ أجرتَه، فكيف يبيعه صاحبه ويخسر أجرة الصائغ؟ هذا لا يفعله أحد، ولا يأمر به صاحب شرع، بل هو مُنزَّه عن مثل هذا.
ولا يُعرَف عن الصحابة أنهم أمروا في مثل هذا أن يباع بوزنه، وإنما كان النزاع في الصرف والدرهم بالدرهمين، فكان ابن عباس يبيح ذلك، وأنكره عليه أبو سعيد وغيره. والمنقول عن عمر إنما هو في الصرف.
وأيضًا فتحريم ربا الفضل إنما كان لسدّ الذريعة، وما حرم لسدِّ الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كالصلاة بعد الفجر والعصر، لما نُهِيَ عنها لئلا يُتشبَّه بالكفار الذين يعبدون الشمس ويسجدون للشيطان، أبيح للمصلحة الراجحة، فأبيح صلاة الجنازة، والإعادة مع الإمام، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لما صلَّى الفجر ورأى رجلين لم يصلِّيا وقالا: صلينا في رحالنا، فقال: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجدَ جماعةٍ فَصَلِّيا
_________
(1) أخرجه البخاري (1462) ومسلم (80) من حديث أبي سعيد الخدري.
(8/292)
معهم، فإنها لكما نافلة» (1). وكذلك ركعتا الطواف، وكذلك على الصحيح ذوات الأسباب مثل تحية المسجد وصلاة الكسوف وغير ذلك.
وكذلك النظر للأجنبية لما حُرِّم سَدًّا للذريعة، أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيح للخُطَّاب وغيره. وكذلك بيع الربوي بجنسه، لما أمر فيه بالكيل والوزن لسدّ الحاجة أبيحَ بالخرص عند الحاجة، وغير ذلك كثير في الشريعة.
كذلك هنا، بيع الفضة بالفضة متفاضلًا لما نُهِيَ عنه في الأثمان لئلا يُفضِي إلى ربا النَّساء الذي هو الربا، فنُهِيَ عنه لسدّ الذريعة، كان مباحًا إذا احتيج إليه للمصلحة الراجحة. وبيعُ المصوغ مما يحتاجُ إليه، ولا يمكن بيعه بوزنه من الأثمان، فوجب أن يجوز بيعُه بما يقوم به من الأثمان، وإن كان الثمن أكثر منه تكون الزيادة في مقابل الصيغة. والزيادة هنا تُعقَل، إذ مَنْ يأخذ لها أجرة بخلاف الزيادة في الأصناف الأربعة، فإنها من نعم الله المخلوقة، فجاز أن يؤمر ببذلها إذا بيعت بجنسها أحيانًا، وأما هنا فهو ظلم لمن أعطى أجرة الصياغة أن يقال: بِعْها واخسر الأجرة.
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 160، 161) وأبو داود (575) والترمذي (219) والنسائي (2/ 112) من حديث جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(8/293)
والدراهم والدنانير لا تتقوّم فيها الصنعة، وأما النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفاؤه فلم يضربوا درهمًا ولا دينارًا، بل كانوا يتعاملون بضرب غيرهم، وأول من ضربهما في الإسلام عبد الملك بن مروان. والسلطان إذا ضربهما ضربهما لمصلحة الناس، وإذا ضربهما ضاربٌ بأجر، والضارب الآخر ضربهما بأجر.
والمقصود أن كلَّ معارٍ للناس لا يَتّجرون فيها كما تقدم، فلا يُشبه بيع بعضها ببعضٍ متساويًا ببيع المصوغ. ولهذا ما زال الناس يقايض بعضهم بعضًا الدراهم، مثل أن يكون عند هذا دراهم كاملة ثقيلة، وهو يطلب خفافًا وأنصافًا، فيطلب مَن يقايضه، فيقايضه الناس ولا يرون أنهم خسروا شيئًا، بخلاف ما لو طلب أن يبيعوه المصوغ بوزنه دراهم، فإنهم يرونه ظالمًا لهم معتديًا، ولا يجيبُه إلى ذلك أحد.
وبالجملة فلابد من أربعة أمور:
إما أن يقال: هذه لا تُباع بحالٍ، فهو ممتنع في الشرع.
أو يقال: لا تُباع إلا بوزنها، ولا يُحْتال في بيعها بغير الوزن، وأيضًا لا يفعله أحد.
أو يقال: لا تباع إلا بوزنها، ولكن احتالوا في ذلك حتى يبيعوها بوزنها، فهذا مما لا فائدة فيه، بل هو أيضًا إتعابٌ للناس وتضييعٌ للزمان به، وعيبٌ ومكرٌ وخداعٌ لا يأمر الله به.
وإما أن يقال: بل تُباع بسعرها بالدراهم والدنانير، وهذا هو
(8/294)
الصواب، وهذا القسم حاضر. ثم إذا بيعت بالسعر فإنها تباع بالنقد، وأما بيعها بالنَّساء فلا يُحتاج إليه، وهو محتمل، وقد يحتاج إليه. وهكذا سائر ما يدخل من الذهب والفضة في لباس، كلباس النِّساء الذي فيه ذهب وفضة، فإنه يباع بالذهب أو الفضة بسعره.
وأواني الذهب والفضة وصيغتها محرمة، وأُجْرة ذلك محرمة، فإذا بيعت لم تحرم الزيادة لكونها ربًا، بل لكونها غير متقوَّمة، وهو كبيع الأصنام وآلات اللهو. وهنا يتصدق بهذه الزيادة ولا تعاد إلى المشتري؛ لأنه قد اعتاض عنها، فلو جُمِع له بين العِوَض والمُعوَّض لكان ذلك أبلغ في إعانته على المعصية. وهكذا من باع خمرًا، أو باع عصيرًا لمن يتخذه خمرًا، فهذا يتصدق بالثمن. وهكذا من كسب مالًا من غناءٍ أو فجورٍ، فإنه يتصدق به.
وكل موضع استوفى الآخر العِوَض المحرم، وهو قاصدٌ له غير مغرورٍ، فإنه يتصدق بالعِوَض، ولا يجمع له بين هذا وهذا، فإنه إذا حرم أن يعطاه بثمن يؤخذ منه، فَلَأَنْ يحرم أن يُعطاه ويُعطى الثمن أَوْلَى وأَحْرَى، اللهم إلا إذا تاب، أو كان في إعطائه مصلحة فيجوز لأجله.
وعلى هذا فتجوز التجارة في الحلي المباح، بل ويجوز الأجل فيه إذا لم يقصد إلا الانتفاع بالحلية، لم يقصد كونها ثمنًا، كما يجوز بيع سائر السِّلَعِ إلى أجل، فإن هذه سلعة من السِّلَعِ التي ليست ربوية.
(8/295)
فصل
والذي يصنع من الأصناف الأربعة إن خرج عن كونه قوتًا كالنَّشا ونحوه لم يكن من الربويات، وإن كان قوتًا كان جنسًا قائمًا بنفسه، فلم يحرم بيع الخبز بالهريسة، ولا بيع الناطف (1)
بالحبّ، فإن هذه الصنعة لها قيمة، فلا تضيع على صاحبها كالحلية، ولم يُحرِّم بيعَ بعضِ ذلك ببعضٍ لا نصٌّ ولا إجماعٌ ولا قياسٌ، بل هذه الأجناس المختلفة يباع بعضُها ببعضٍ متفاضلًا.
والنزاع في مسألة بيع اللحم بالحيوان مشهور، وحديثُه من مراسيل سعيد بن المسيب (2)، وهو ــ إذا ثبت ــ فيما إذا كان الحيوان مقصودًا للَّحم، كشاةٍ يريدون ذبحها يبيعونها بلحم، يكون قد باعُوا لحمًا بلحمٍ أكثر منه من جنسٍ واحدٍ، واللحم قوتٌ مطعوم يوزن، فما كان مثله ألحق به.
ولا يلزم إذا حرم البيع لما فيه من الضرر أن يحرم ذلك في الاستيفاء، مع أنه منفعة بلا ضرر. مثال ذلك مسألة «عَجِّلْ لي وأَضَعُ عنك»، مثل أن يكون له عند رجلٍ مئة درهم مؤجلة، فيقول له: عَجِّلْ لي تسعين وأضَعُ عنك عشرة. فقد قيل: إن هذا لا يجوز، لأنه بيع مائة مؤجَّلةٍ بتسعين حالة. وقيل: يجوز كما نُقل عن ابن عباس وغيره، ورواية عن أحمد. وهذا أقوى، فإنه رُوِي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه أَذِن في ذلك
_________
(1) ضرب من الحلوى يصنع من اللوز والجوز والفستق. قال أبو نواس:
يقول والناطفُ في كفِّه … من يشتري الحلو من الحلوِ
(2) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 655) مرسلًا. وروي موصولًا ولا يصح.
(8/296)
لما أراد إجلاءَ يهودَ، فقالوا: لنا ديونٌ على الناس، فقال: «ضَعُوا عنهم، وليُعجِّلوا لكم ذلك» (1).
وذلك أنه هناك حرم لما فيه من ضرر المحتاج، وهو الذي يأخذ التسعين، فإنه يأخذها، ويبقى عليه مئة، فيتضرر ببقاء الزيادة في ذمته، وهنا المئة له فهو غني، وهو يضع منها عشرةً عن المدين، والمدين هو المحتاج في العادة، ففي هذا رِفقٌ بالمدينِ بالوضع عنه، وفيه منفعة للآخذ لحاجته إلى التعجيل، والآخذ هنا هو صاحب المئة، فكأنه استأجر من المئة بعشرة دراهم من عجَّلها له، بخلاف ما إذا بقيت المئة في ذمة المحتاج.
فيجب أن يُفرَّق بين العوض الساقط من الذمة والعوض الواجب في الذمة، فالعوض هنا ساقطٌ من ذمة المدين لا واجب في ذمته.
ومما يُشبه ذلك أنه روي حديث أنه نَهَى عن بيع الكالئ بالكالئ (2)، أي المؤخر بالمؤخر. وإسناده ضعيف، لكن العمل عليه، مثل أنه يسلم مئةً مؤجلةً في غرارة قمح، فلا هذا قبض شيئًا ولا هذا قبض شيئًا، بل اشتغلت ذمة كل منهما بما عليه من غير منفعة، والمقصود هنا بالبيع
_________
(1). أخرجه الدارقطني (3/ 46) والحاكم في المستدرك (2/ 52) والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 28) عن ابن عباس. وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف.
(2) أخرجه الدارقطني (3/ 71، 72)، والحاكم في المستدرك (2/ 57) والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 290) من حديث ابن عمر. وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. ووقع عند الدارقطني والحاكم: موسى بن عقبة، وهو خطأ.
(8/297)
قبض المبيع.
وأما بيع التأجيل إذا كان فيه قبض أحد العِوَضَين بمصلحة القابض في ذلك، فاحتمل بقاء العوض الآخر في الذمة لمصلحة هذا، وإلا فالواجب تفريغ الذمم بحسب الإمكان، وهنا اشتغلت ذمة كل منهما بغير منفعة، فهذا متفق على المنع منه.
وقد اشتهر أنَّه نهى عن بيع الدين بالدين، لكن هذا اللفظ لا يُعرَف عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولكن الدين المطلق هو المؤخر، فيكون هو بيع الكالئ بالكالئ.
وأما بيع دين موصوف حال بموصوف وقبضهما قبل التفرق، مثل بيع مئة مُدٍّ بمئة درهم، فهذا جائز بلا خلاف، وإذا تفرقا قبل التقابض لم يَجُزْ في الربويات عند الجمهور ولو عيّن، وعند أبي حنيفة التعيين كالمقبوض.
وإذا بِيعَ ساقطٌ بساقطٍ، مثل أن يكون لهذا على هذا دراهم ولهذا على هذا دنانير، فيقول: بعتُ هذا بهذا، وتبرأ الذمتان= فهذا فيه قولان، والأظهر جواز هذا؛ لأنه بَرِئت ذمة كل منهما، فهو خلاف ما يشغل ذمة كل منهما. وكونه يشمله لفظ بيع دينٍ بدين، ولو كان هذا لفظ صاحب الشرع لم يتناول هذا، فإنه إنما يُراد بذلك إذا جُعِلَ على هذا دينٌ بدينٍ يُجْعَل على هذا، وهنا لم يبقَ على هذا دينٌ ولا على هذا دينٌ، فأيُّ محذورٍ في هذا؟
(8/298)
بل هذا خيرٌ من أن يُؤمَر كلُّ واحدٍ منهما بإعطاء ما عليه، ثم استيفاء ما له على الآخر، فإن في هذا ضررًا على هذا وعلى هذا [في] مالهما لو كان معهما ما يوفيان، فكيف إذا لم يكن معهما ذلك؟ ينزه الشارع عن تحريمه، فإن الشارع لا يحرم ما ينفع ولا يضر.
والشارع يُحرِّم أشياء لما فيها من المفاسد، فيغلط كثير من الناس فيُدخِلون في لفظِه ما لم يَقصِده، أو يُقوِّلونه أحاديث باطلةً لم يقلْها، مثل نَقْلِ بعضهم أنه نهى عن بيع وشرطٍ (1)، ونَقْل بعضهم أنه نهى عن قفيز الطحان (2)، ونحو ذلك من الأحاديث الموضوعة. وقد يفهمون من كلامه معنًى عامًّا يحرمون به، فيفضي ذلك إلى تحريم أشياءَ لم يُحرِّمها الله ورسولُه، كما يُفضِي ذلك فيما ذكره من نصوص تحريم الأعيان وتنجيسها.
وهذا قد دخل فيه على الأمة، يحرمون شيئًا من الأعيان والعقود والأعمال لم يحرمها الشارع، وقد ظنَّ كثير من الناس أنه حرَّمها، ثم إما
_________
(1) قال المؤلف في مجموع الفتاوى (29/ 132): لا يوجد في شيء من دواوين الحديث، وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء وذكروا أنه لا يُعرف. ونحوه في مجموع الفتاوى (18/ 63) ومنهاج السنة (7/ 430). وانظر: السلسلة الضعيفة (491).
(2) أخرجه الدارقطني (3/ 47) والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 339) من حديث أبي سعيد الخدري. قال المؤلف في مجموع الفتاوى (30/ 113): هذا الحديث باطل لا أصل له، وليس هو في شيء من كتب الحديث المعتمدة. ونحوه أيضًا في مجموع الفتاوى (18/ 63) وصححه الألباني في إرواء الغليل (5/ 296).
(8/299)
أن يستحلُّوها بنوعٍ من الحِيَل، أو يقولون بألسنتهم: هي حرام، وعملهم وعمل الناس بخلافه، أو يَلزَمون ويُلزِمون أحيانًا ما فيه ضرر عظيم.
فصل
قد ثبت في الصحاح بل تواتر عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يقبض، وقال: «من ابتاعَ طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفِيَه» (1). وكانوا يتبايعون الطعامَ صُبرةً، فنُهوا بأن يبيعوه في موضعه حتى ينقلوه، كما رواه البخاري (2) عن ابن عمر.
واضطرب العلماء هنا في تعليل هذا النهي ثم في تعميمه وتخصيصه، وإذا خُصَّ بماذا يخصّ؟ ثم هل حكم سائر المعاوضات كالبيع أم لا؟
فمنهم من قال: العلة في ذلك توالي الضمانين؛ لأنه قبل القبض من ضمان البائع، فإذا باعه صار مضمونًا على البائع الثاني وهو المشتري، فإذا تلف قبل القبض ضمن البائع الأول للمشتري الأول قيمته، والمشتري وهو البائع الثاني للمشتري الثاني قيمته، وقد يكون أقل أو أكثر. وهذا يعلِّل به من يقول به من أصحاب أبي حنيفة والشافعي، وتنازعوا في العقار.
_________
(1) أخرجه البخاري (2126) ومسلم (1526) من حديث ابن عمر.
(2) برقم (2131). وأخرجه أيضًا مسلم (1527).
(8/300)
وأصحاب مالك وأحمد وغيرهما يبطلون هذا التعليل من وجهين: من جهة منع الوصف، ومنع التأثير.
أما الوصف فيقولون: لا نُسلِّم أن كل مبيع قبل قبضه يكون مضمونًا على البائع، بل هذا خلاف السنة الثابتة، فقد قال ابن عمر: مضت السنةُ أن ما أدركتْه الصفقةُ حيًّا مجموعًا فضمانُه على المشتري (1). وهذا هو الحق، فإن المشتري قد ملكه وزيادته له، والخراج بالضمان، فإذا كان خراجه له كان ضمانه عليه، لكن إذا أمكنه البائع من قبضه ولم يقبضه. فإذا لم يمكنه كان البائع غير فاعلٍ ما أوجبه العقد، إما لظلمه وإما لكونه لم يتمكن من قبض الثمن، فيكون العقد لم يتم بعد، فيكون من ضمان البائع.
وأما منع التأثير فهَبْ أنه يتوالى فيه الضمانانِ، فأيُّ محذور في هذا حتى يكون موجبًا للنهي؟ ولو اشتراه مئة واحدٍ من واحد رجع كل واحدٍ على الآخر بما قبّضه إياه من الثمن، ولو ظهر المبيع مستحقًّا لرجعوا بذلك. وفي الشِّقْص المشفوع لو تابعه عشرةٌ ثم أخذه الشفيع من المشتري الأول رجع كل واحدٍ بما أعطاه.
ومن علَّل بوصفٍ فعليه أن يبيّن تأثير ذلك الوصف، إما لكون الشرع جعل مثله مقتضيًا للحكم، وإما لمناسبة تقتضي ترتيب الحكم
_________
(1) علَّقه البخاري (4/ 351) عن ابن عمر. ووصله الدارقطني في سننه (3/ 53، 54).
(8/301)
على الوصف، فإن لم يظهر التأثير لا شرعيًّا ولا عقليًّا كان الوصف طرديًّا عديم التأثير.
وآخرون قالوا: المنع يختص بالطعام لشرفه، كما اختص به الربا. وقيل: هو مختص بما يقدر بالكيل أو الوزن. وقيل: أو العدد أو الذرع، لكونه لا يدخل في ضمان المشتري حتى يُقدَّر بذلك، وهو يعود إلى توالي الضمانين. وهذه الأقوال وغيرها في مذهب أحمد وغيره.
ولقائلٍ أن يقول: إنما نهي عن ذلك لأن المبيع قبل القبض غرر، قد يُسلِمه البائع وقد لا يُسلِمه، لاسيما إذا رأى المشتري قد ربح فيه، فيختار أن يكون الربح له. وهذا واقع كثير، يبيع الرجل البيع، فإذا رأى السعر قد ارتفع سعى في ردّ المبيع، إما بجحده، وإما باحتيال في الفسخ، بأن يطلب فيه عيبًا أو يدّعي عيبًا أو غرورًا.
ومن اعتبر أحوال الناس وجدَ كثيرًا منهم يندم على المبيع، وكثيرًا ما يكون لارتفاع السعر، فيسعى في الفسخ إن لم يتمكن من المنع بيده، وإلا فإذا تمكن من ذلك فهنا إذا باع قبل القبض فإنه كثيرًا ما يُفضِي إلى ندم البائع، فيكون قد باع ما ليس عنده، ويحصل الضرر للمشتري الثاني، بأن يشتري ما يظن أنه يتمكن من قبضه، فيُحال بينه وبينه، وهذا من بيع الغرر. وهذا بخلاف ما لو كان بيده ودفعه له، فإنه لا يطمع أن يكون الربح له. وكذلك الموروث لا حقَّ فيه لغير الوارث.
وعلى هذا فالأقوى أنه يجوز فيه التولية والشركة، كما قال مالك
(8/302)
وغيره؛ لأن المحذور إنما يقع إذا كان هناك ربح، ولا ربح في التولية والشركة. وكذلك يجوز بيعُه من بائعه؛ لأنه لا محذور فيه، وقد قال ابن عباس: لا أحسب كلَّ شيءٍ إلا بمنزلة الطعام (1)، ورَوى أنه نُهي عن بيع ما لم يقبض (2). ولا ريب أن الضرر يقع في الطعام أكثر، ويقع أيضًا في غيره، فلا ينبغي أن يباع شيء حتى يقبض، وإن كان مضمونًا على المشتري كالصُّبرة من الطعام، وقد يكون مضمونًا على البائع ويجوز بيعه، كالتمر إذا بدا صلاحُه ولم يتم، فكونه مضمونًا على هذا أو على هذا غير ملازمٍ لجواز بيعه والتصرف فيه.
وهذه طريقة الخِرقي وغيره، وهي أصح الطرق، فالصُّبرة من الطعام قد ثبت عن ابن عمر أنه من ضمان المشتري، وأنهم كانوا يُنهَون عن بيعها حتى ينقلوها (3)، والثمر على الشجر قد ثبت أنه من ضمان البائع حتى يكمل صلاحه، لأن المشتري لم يتمكن من جداده. ومع هذا فالصحيح أنه يجوز بيعه؛ لأن قبضه غير ممكن إلا بالتخلية، وقد خُلِّي بينه وبينه، كالعقار إذا خلّي بينه وبينه، وكمال الصلاح إلى الله لا إلى الناس. ولأنه في هذه الحالة كالمنفعة في الإجارة قُبِضتْ من وجهٍ دون وجهٍ، قُبِضَت العينُ وما استوفيت المنفعة. كذلك هنا خُلّي بينه وبينه بحيث لو أراد المشتري أن يأخذه حِصْرِمًا وبَلَحًا كان له ذلك.
_________
(1) أخرجه البخاري (2135) ومسلم (1525).
(2) ضمن الحديث السابق.
(3) سبق تخريجه.
(8/303)
وليست الهبة وغيرها كالبيع، فإنه لا ربح هناك، فيجوز فيه. وما ملك بغير البيع فلا يُقصد به الربح، فيجوز التصرف فيه قبل قبضه؛ إذ ليس ذلك بمنصوصٍ ولا في معنى المنصوص، فلا يجوز منع الإنسان من التصرف في ملكه بغير حجة شرعية. فهذا هذا، والله أعلم.
فصل
والربا البيّن الذي لا ريب فيه هو ربا النسيئة في الجنس الواحد، وكذلك قال الإمام أحمد لما سئل عن الربا الذي لا شك فيه، فقال: مثل ربا الجاهلية، يقول له عند محلّ الأجل: تَقضِي أو تُربِيْ؟ فإنْ قَضَاهُ وإلا زاده في الأجل وزاده الآخر في الدَّين.
فإذا بيع دراهم معينة أو في الذمة بأكثر منها إلى أجل، فهذا من الربا العاصر المتفق عليه الذي نزل القرآن بسببه، فإنه ضررٌ محض بالمحتاج، وزيادة المال من غير عملٍ من صاحبه ولا نفعٍ للناس. فإن المعاوضة ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يشتري السلعة لينتفع بها بالأكل والشرب واللباس والركوب والسكنى، فهذا هو البيع الذي أحلَّه الله، ولا بدَّ منه لأهل الأرض.
والثاني: التجارة، وهو أن يشتريها لينقلها إلى مكان آخر، ويحبسها إلى وقت فيبيعها بربح. وهذه التجارة التي أحلَّها الله بقوله تعالى:
(8/304)
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، فإن المشتري من صاحب التجارة يعلم أنه قد ربح عليه، وأن رأس المال مثلًا كان مئةً، وقد باعها بمئة وعشرة أو أقل أو أكثر، ولهذا يطلب المشتري من التاجر إخبارَه برأس المال لينظركم يربح عليه، وهذا بخلاف البائع الذي ليس بتاجر، كالذي حدثت على ملكه أو وَرِثَها أو وُهِبتْ له أو نحو ذلك.
وقد ثبت في الصحيح (1) أنهم كانوا إذا اشتروا الصبرة من الطعام نُهُوا أن يبيعوها في موضعها حتى ينقلوها؛ لأن هذا المشتري تاجرٌ إنما اشتراها ليربح فيها، فلا بدَّ أن يعمل فيها عمل التاجر، من نَقْلِها من مكان إلى مكان، أو حَبْسِها إلى حين يرتفع السعرُ، وأن يشتري جملةً ويبيع مفرقًا، ونحو ذلك. فأما إذا اشتراها وباعها في مكانها بربحٍ من غير أن يعمل فيها شيئًا فليس هذا بتاجر، وإن كانت صارت في ضمانه بتخلية البائع بينه وبينها.
فليس كل مضمون يُباحُ ربحُه، ولكن ما ليس بمضمونٍ لا يباحُ ربحُه، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن ربح ما لم يضمنْ، والبائع قبل التمكن من القبض هو ضامن للمبيع، ولا يحل له ربحُه ونماؤه، بل ذلك للمشتري، وكذلك المشتري قبل كمال القبض وبعد التمكن منه هو ضامن، ولا يباحُ له ربحُه.
_________
(1) البخاري (2131) ومسلم (1527). وقد سبق.
(8/305)
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «من ابتاعَ طعامًا فلا يبيعه حتى يستوفيه» (1) هو نهيٌ للتاجر الذي يشتري الطعام ثم يبيعه، فهذا ليس له أن يبيعه حتى يستوفيه، وإن كان معينًا مضمونًا عليه بالتعيين. وابن عمر روى هذا، وروى هذا. قال ابن عمر: مضت السنةُ أن ما أدركتْه الصفقة حيًّا مجموعًا فهو من ضمان المشتري (2). وهذا احتج به مالك وأحمد وغيرهما أن ما كان معينًا ولم يمنعه البائع فهو يكون مضمونًا على المشتري وإن لم يقبضه.
وروى ابن عمر أنهم كانوا يُضرَبون إذا اشتروا الصُّبرةَ جُزافًا أن يبيعوها في موضعها حتى ينقلوها. وإذا اشترى الصبرة جزافًا دخلت في ضمانه أيضًا، ومتى خلِّي بينه وبينها كانت مضمونةً على المشتري، لكن نُهِي أن يبيعوها في موضعها، وقد قال ابن عباس: لا أحسب كلَّ شيء إلا بمنزلة الطعام. وفي السنن أنه نهى عن بيع ما لم يقبض (3)، وهذا خطابٌ للتجار، فإنهم إذا اشتروا شيئًا باعوه بربح، فلا يبيعوه حتى يقبضوه.
وأيضًا فإذا باعوه قبل القبض بربح فقد يَندمُ البائعُ أو يَستقيلُ أو يَسعى في فسخ العقد، فإذا صار في قبضة التاجر أمن من ذلك، ولم يكتف في الصبرة إلا بنقلها إلى رحالهم. وأما غير التاجر فإنه إنما
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.
(8/306)
يشتري الشيء لينتفع به، لا يشتريه للتجارة، وإن بدا له فيما بعد أن يبيعه لم يقصد أن يبيعه بربح، وإن قصد ذلك فهو تاجر. والنهي إنما كان لمن يربح في السلعة، وهو التاجر في أحد القولين.
ولهذا جوَّز مالك فيه الشركةَ والتوليةَ قبل القبض، فإنه لا ربح فيه، بل هو يبيعه بمثل الثمن، كأخذ الشفيع الشفعةَ بمثل الثمن، وكذلك جوَّز بيعَه من صاحبه بمثل الثمن قبل القبض.
وهذا هو الصحيح، فإن النهي إنما كان للتاجر الذي يربح، فلا يبيع بربحٍ حتى يصيرَ في حوزته، ويعملَ فيها عملًا من أعمال التجارة، إما بنقلها إلى مكان آخر، كالذي يشتري في بلدٍ ويبيع في آخر، وإما حَبْسها إلى وقت آخر. وأقل ما يكون قبضها، فإن القبض عمل، فأما مجرد التخلية في المنقول فليس فيها عمل. وهل تكون التخلية قبضًا في المنقول؟ فيه روايتان عن أحمد، إحداهما: [تكون] قبضًا، كقول أبي حنيفة.
وقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ربح ما لم يضمن، ولا تَبِعْ ما ليس عندك (1). قال الترمذي: حديث صحيح. ولما سأله ابن عمر أنهم يبيعون بالبقيع بالذهب ويقبضون الوَرِق، ويبيعون بالورق ويقبضون الذهب، فقال: «لا بأسَ إذا كان بسعر يومه» (2). فلم يجوِّز بيعَ الدَّين ممن هو عليه بربح،
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) أخرجه أحمد (2/ 33، 59، 83، 139) وأبو داود (3354) والترمذي (1242) والنسائي (7/ 281، 283) وابن ماجه (2262) من حديث ابن عمر. وهو حديث ضعيف، قال الترمذي: هذا الحديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر.
(8/307)
فإنه يربح فيما لم يضمن، فإنه لم يقبضه ولم يصر في ضمانه، والربح إنما يكون للتاجر الذي نفعَ الناسَ بتجارته، فأخذ الربحَ بإزاء نفعِه، فلم يأكل أموال الناس بالباطل. ولهذا لما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وهذا استثناء منقطع، فإن ربح التجارة ليس أكلًا بالباطل، بل بحق، وهو نفعُ التاجر للناس، فإذا كان له دينٌ وباعه من المدين بربح فقد أكل هذا الربح بالباطل، إذا كان لم يضمن الدَّين ولم يعمل فيه عملًا.
ولما جوَّز النبي – صلى الله عليه وسلم – اقتضاء الذهب من الورِق والورق من الذهب بالسعر، مع أن الثمن دَينٌ في الذمة لم يقبض، دلَّ على جواز بيع الدَّين ممن هو عليه بالسعر، فجوَّز ذلك في جميع الديون دَين السَّلَم وغيرِه، كما جوَّزه ابن عباس وأحمد في إحدى الروايتين ومالك على تفصيلٍ له.
والذين قالوا: لا يجوز، كأبي حنيفة والشافعي والمشهور عن أحمد عند أصحابه، قالوا: لأنه بيع غير مقبوض، فلا يجوز بيعه قبل القبض وإن باعه ممن هو عليه، كما قالوا مثل ذلك في بيع الأعيان.
(8/308)
وقد تقدم أن المحذور هو الربح، فإذا باعه ممن هو عليه بلا ربح جاز ذلك، كما قاله مالك وغيره، وجوَّز التولية فيه. وإن كان أحمد في إحدى الروايتين يجوِّز بيعَ دَين السَّلَم ممن هو عليه بالسعر، فكذلك يقال في بيع الأعيان قبل القبض ممن هو عليه بطريق الأولى. وابن عباس جوَّزه بالسعر، وقال: لا يربح مرتين.
كذلك يخرج في التولية والشركة، إذ لا ربح هناك، وأيُّ فرقٍ بين دَيْنِ السَّلَمِ والثمن وكلاهما عوضٌ في الذمة؟ وقد جوَّز النبي – صلى الله عليه وسلم – الاعتياض عنه بسعر يومه (1). وأحمد يعتبر هذا الشرط هو ومالك وغيرهما، وأبو حنيفة لا يعتبره. والحديث يدل على الأصلين: على بيع الدَّيْن ممن هو عليه وإن كان عوضًا، وعلى أنه لا يبيعه بربح. وكذلك سائر الديون، كبدل القرض وغيره.
وقد اضطرب الناس في بيع مالم يقبض في حكم النهي في مورده، وما يقاس بالطعام، وعن أحمد فيه عدة روايات.
من يجعل العلة توالي الضمانين، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في قول، يقولون: إن السلعة مضمونة على البائع قبل القبض، فإذا باعها المشتري صارت مضمونة للمشتري الثاني على المشتري الأول، فتوالى الضمانان. وهذه علة ضعيفة، فإنه إذا تلف انفسخ العقدان، ورجع كل واحد بثمنه.
_________
(1) سبق تخريجه.
(8/309)
وأبو حنيفة استثنى العقار؛ لأنه مضمون عنده بالعقد إذا كان لا ينقل ويحول، ولو باع الشقصَ المشفوع من شخصٍ، ثم باعه من شخصٍ جاز، وإن أخذه الشريك بالشفعة انفسخت تلك العقود. وهذا فيه توالي ضمانات متعددة.
ومالك وأحمد في رواية يخصّ النهي بالطعام لشرفه، لكن إذا كانت العلة أنه ربح من غير تجارة فجميع السلع سواء.
وأحمد في المشهور عنه يقول: إن المعيَّن يدخل في ضمان المشتري بتمكنه من قبضه، سواء قبضه أو لم يقبضه، ومع هذا يقول في إحدى الروايتين ــ وهي التي اختارها الخِرقي ــ: إنه لا يبيعه حتى ينقله. فالقبض عنده قبضانِ: قبضٌ ينقل الضمان، وقبضٌ يبيح البيع، فالصُّبرة إذا لم ينقلها هي من ضمانه لأنها معينة، ولا يربح فيها حتى ينقلها. وغَلَّة الثمار هي مضمونة على البائع إذا أصابتها جائحة، ويجوز للمشتري أن يبيعها على الشجر في ظاهر مذهبه إذا خُلِّي بينه وبينها. فهنا قبضانِ: قبضٌ لا يبيح البيع والربح، وقبضٌ ينقل الضمان.
وهذا كالمنافع في الإجارة، هي مضمونة على المؤجر حتى يستوفي، خلّي بين المؤجر وبين المستأجر، فإذا قبض المستأجر العين كان كقبض الشجرة التي عليها ثمرة، ثم كلاهما إذا تلف قبل التمكن من الانتفاع فهي من ضمان البائع والمؤجر، فالموجب لانتقال الضمان هو تمكن المشتري من الانتفاع، وأما البيع فيجوز إذا أخذها، لأنه عمل
(8/310)
على التاجر بقبضِها، وحفظها كما يحفظ التاجر سلعتَه. فهذا المعنى إذا فهم انكشف به مقصود هذا الباب، فإنه قد أشكل على كثير من الفقهاء أولي الألباب.
وبهذا يتبين أن أظهر القولين أنه يجوز أن يقول: «عَجِّلْ لي وأَضَعُ عنك»، كما نُقل عن ابن عباس وغيرِه. وقد روي أن اليهود لما أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – إجلاءَهم من المدينة قالوا: إن لنا ديونًا، فقال: «يُعجِّلُونها لكم، وضَعُوا عنهم البعضَ» (1). وهذا لأن صاحب المال هنا لم يربح، كما إذا قال: أجعلُ المئة بمئة وعشرين إلى سنة، بل نقصَ مالُه لأجل تعجيل القبض، والمدين ما ربحَ شيئًا، بل سقط عن ذمته. فهذا مقصوده استيفاء الدَّيْن لا بيعُ الدَّيْن، ولهذا جازت الحوالة لأنها إيفاء.
ولهذا جوَّز مالك وأبو حنيفة وغيرهما بيع الدَّيْن الساقط بالساقط، إذا كان لهذا على هذا دراهم، وللآخر ذهب، فقال: أسقط هذا بهذا، فهذا يجوز في أظهر القولين، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم ينهه عن بيع الدَّين بالدَّين، ولكن رُوي أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، مع ضعف الحديث. لكن بيع المؤخر بالمؤخر ــ مثل أن يُسلم شيئًا مؤخرًا في الذمة في شيء في الذمة ــ لا يجوز باتفاقهم إذا كان كل منهما شغل ذمته بما للآخر، من غير منفعة حصلت لأحدهما. والمقصود بالبيع النفع، فهذا يكون أحدهما قد أكل مال الآخر بالباطل إذا قال: أسلمتُ إليك
_________
(1) سبق تخريجه.
(8/311)
مئة درهم إلى سنةٍ في وَسَقٍ حنطةٍ ولم يُعطِه شيئًا، فإن هذه المعاملة ليس فيها منفعة بل مضرة، هذا يطلب هذا بالحنطة، وهذا يطلب هذا بالدراهم، ولم ينتفع واحد منهما، بل أكل مال الآخر بالباطل من غير نفع نفعه به، وهذا بخلاف بيع الساقط بالساقط، فإن براءة ذمة كل منهما منفعة له.
وكذلك إذا قال: عَجِّلْ لي وأَضَعُ عنك، فالمعجِّل برئتْ ذمتُه بإقباض البعض، فأبرأه من الباقي، وهذا منفعة له، بخلاف ما إذا زِيْدَ عليه في الدَّين، فذاك يضره. وصاحب الدَّين انتفع بتعجيل القبض، وكلٌّ منهما انتفع. وهنا المؤجَّل صار حالًّا بل ساقطًا، ليس مثله أن يبيعه دراهم إلى أجل بدراهم معجلة، فإنه هنا أجَّل عليه ما لم يكن مؤجَّلًا، فشغلَ ذمتَه بغير منفعة، وهذا ضرر، وأَمْرُ الشارع عدلٌ وحكمةٌ ورحمةٌ، وهو إ نما ينهى الناس عما يضرُّهم، لا عما ينفعهم.
ولما نهى عن بعض الرُّقى نهى عما فيه شرك، وقال: «من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل» (1)، وقال: «لا بأسَ بالرُّقى ما لم يكن شركًا» (2). وأكلُ المال بالباطل إضرارٌ وظلم، وذلك نوعانِ: ربا وميسر، والقرآن حرَّم هذا وهذا، فالربا فيه زيادة قبضٍ بلا معنى، والميسر فيه أخذ المال على باطل، ومخاطرة يتضمن أكل المال بلا منفعة.
_________
(1) أخرجه مسلم (2199) عن جابر بن عبد الله.
(2) أخرجه مسلم (2200) عن عوف بن مالك الأشجعي.
(8/312)
فهذان نوعانِ مباحانِ: اشتراء السلعة لينتفع بها، أو ليتجر فيها يقصد فيها الربح، وكلاهما مباحٌ بنصِّ القرآن والسنة وإجماع الأمة.
والثالث: الربا، وهو أخذُ مالٍ زائد بلا عوضٍ يقابلُه، بل أكلٌ له بالباطل، مثل مئة بمئة وعشرين إلى أجل، وهذا بيِّنٌ في النَّساء في الجنس، وهو متفق على تحريمه في النَّقْدَيْنِ وفي الصنف الربوي كالأعيان الستة، لا يبيع حنطةً بأكثر منها إلى أجل، ولا شعيرًا ولا تمرًا ولا زبيبًا ولا ملحًا. وهو أيضًا متفق عليه بين المسلمين في القرض من سائر الأجناس، فإذا أقرضَ ما يُكال وما يُوزَن وشَرطَ أكثر منه، لا يجوز ذلك باتفاقهم. ولو أقرضه ما يُوزن، كالقطن والكتان والحديد وغيره، وشرطَ أكثر، لم يجز بالاتفاق. وكذلك لو أقرضه ما يُكال ولا يؤكل، كالسِّدر والخِطْمي والأُشنان وغير ذلك، وشرطَ أكثر، لم يجز باتفاقهم.
وهذا من أقوى الحجج على أن الجنس الواحد إذا اجتمع فيه نوعا الربا التفاضل والنَّساء، لم يجز ذلك، وإن كان لا يجري فيه ربا الفضل، فإنهم متفقون على هذا في القرض، لو أقرضه ما يُوزَن لم تجز الزيادة.
وإن قيل: ليس فيه ربا الفضل، فيجب أن يكون إذا قال: بعتُك هذا الرطلَ برطلينِ من جنسه إلى شهرٍ، وهذا الكيلَ بكيلينِ إلى شهر، لم يجز، وهذا مذهب مالك وأحمد في رواية، لأنه لو جاز ذلك لجاز أن يُجعَل ذلك قرضًا بزيادة؛ إذ الاعتبار بالمقاصد لا بالألفاظ.
ولو قال: أقرضتُك هذا الرطلَ على أن تردَّ رطلين لم يجز، سواء
(8/313)
أجَّل القرضَ أو أطلقه وكان حالًّا، فيجب إذا قال: بعتك هذا الرطل برطلين إلى أجلٍ أن لا يجوز؛ لأن هذا هو معنى القرض بزيادة. وكلُّ قرض جرَّ زيادة بالشرط لم يجز باتفاقهم، وهو الربا الذي يجمع فيه الفضل والنَّساء، كبيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، فهذا الذي لا ريب في تحريمه، وإن احتال عليه بأيّ حيلةٍ كانت، متى كان المقصود أخذ الدراهم بأكثر منها إلى أجل فهو ربا.
ولهذا قال ابن عباس، وهو لا يحرم ربا الفضل يدًا بيدٍ، قال: إذا استقمتَ بنقدٍ ثم بعتَ بنقدٍ فلا بأس، وإذا استقمتَ بنقدٍ ثم بعتَ بنسيئةٍ فتلك دراهم بدراهم (1). واستقمتَ بمعنى قوَّمتَ، بمعنى قوَّم السلعةَ بنقدٍ وابتاعها بأكثر إلى أجل، كان مقصوده القيمة، وهو بيع دراهم بدراهم.
فإن قيل: فلو باع رطلًا برطلين جاز، ولا يجوز مثل هذا في القرض.
قيل: القرض لا يكون قطُّ مع تعجيل الوفاء، بل لابدَّ فيه من تأخير الوفاء، وإلَّا فلا يقول: أقرِضْني هذه الدراهمَ وأعطيك مثلها الساعةَ، فإن هذا لا يفعله عاقل؛ إذ لا فائدة فيه، بل هو كبيع الشيء بنفسه.
فإن قيل: تلك الدراهم تقوم مقامها، فلا تُباع بمثلها إلَّا مع التأخير، ولا تباع بدراهم معجلة إلا لاختلاف الصفة. والقرض إنما يجب فيه المثل، فلا يبيع أحدٌ رطلين برطلين كلٌّ منهما مثل ذلك الرطل، هذا لا يفعله أحدٌ عاقل، ولا يقع مثل هذا في القرض؛ إذ كان القرض لابدَّ فيه
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 236).
(8/314)
من تأخير الإيفاء، وذلك واجب فيه في أحد قولي العلماء، ولو أجَّله بأجلٍ، كمذهب مالك وقول في مذهب أحمد.
ومن قال: إن له المطالبة في الحال ولا يتأجّل، قالوا: لأن هذا تبرع، والتبرع لا يلزم بالعقد، كما قالوا مثل ذلك في الهبة والعارية. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين. وأما أهل المدينة فعندهم يلزم بالعقد، وعليه تدل نصوص الكتاب والسنة.
فالقرض من أقوى الحجج على أنه إذا اجتمع ربا الفضل والنَّساء في جنس واحدٍ حرم، وإن لم يكن مما يجري فيه ربا الفضل وحده. وهذه حجة لمالك وأحمد في إحدى الروايتين، وهو حجة على الشافعي وأحمد في رواية؛ إذ كانوا يجوزون بيعَ غير الربوي كالموزون غير النقدين بجنسه متفاضلًا، ويحرِّمون ذلك بلفظ القرض. وهؤلاء يجعلون الأحكام تختلف بمجرد اللفظ مع اتحاد المقصود، وهذا يقوله مَن يقوله مِن أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد، يقولون هذا في مواضع، كما جوَّز القاضي أبو يعلى وغيره السَّلَم الحال بلفظ البيع دون السَّلَم، وكما جوَّز أن يكون البذر من العامل إذا كان بلفظ الإجارة دون لفظ المزارعة. وأبو محمد المقدسي عكَسَ ذلك، فجوَّزه بلفظ المزارعة دون الإجارة، وأبو الخطاب جوَّزه بلفظهما، وهو الصواب، وعليه تدلُّ نصوصُ أحمد، فإنه جوَّز أن تُؤجَر الأرض بجزءٍ من الخارج منها، واحتجَّ على ذلك بمزارعة النبي – صلى الله عليه وسلم – لأهل خيبر. ولو كان الحكم يختلف باللفظ لم تصح هذه الحجة، وإنما تصح هذه
(8/315)
الحجة إذا كان البذر من أهل خيبر، فإن المستأجر للأرض هو الذي يبذر فيها، لا يبذر رب الأرض. ولهذا قال أبو الخطاب: هذه النصوص الكثيرة عن أحمد تدلُّ على أنه جوَّز المزارعة ببذر من العامل، كما ثبت في الصحيح (1) أنه عاملهم على أن يعمروها من أ موالهم. وحينئذٍ فكيف يجوز إلحاقُ فرعٍ بهذا الأصل مع مخالفته؟
ودَلَّ ذلك على أن الرواية التي اشترط فيها أن يكون البذر من المالك قياسًا على المضاربة قالها موافقة لمن قال ذلك، وهي مخالفة لهذه السنة التي قاس عليها. وأحمد أصوله توجب اعتبار المقاصد والمعاني دون مجرد اللفظ، كما يعتبرها مالك رحمه الله وغير مالك من أهل المدينة. وفقهاء الحديث وفقهاء المدينة متفقون على هذا الأصل، وهو رعاية المقاصد في العقود.
وأبو حنيفة يقول: الجنس بانفرادِه يحرمُ فيه النَّساء، وهو الرواية الأخرى عن أحمد واختياره، فلا يجوز بيع الشيء بمثله نَساءً. والقرض حجة على هذا القول، فإنه يجوز القرض، قرض الشيء بمثله مع التأخير. لكنْ أبو حنيفة يقول: أنا لا أجيز القرض إلا في المثليات، لا أجيزه إلا في المكيل والموزون. ومالك ليس عنده ربا الفضل، بل فيها ربا النساء، فهذا يجيب عن القرض.
لكن الأكثرون يجوزون قرض الحيوان استدلالًا بالسنة، وأن النبي
_________
(1) أخرجه البخاري (2328) ومسلم (1551) من حديث ابن عمر.
(8/316)
– صلى الله عليه وسلم – اقترض بعيرًا وردَّ خيرًا منه (1)، فقد ثبت أخذ الحيوان بمثله مع التأخير، وذلك مُبطِلٌ لقولِ من يقول: الجنس بانفراده يحرم النَّساء، فإنه لو جاز ذلك لم يجز قرض بعير ببعير مع التأخير.
لكنْ أبو حنيفة لا يُجوِّز قرضَ غير المكيل والموزون، فلا يجوز بعير ببعير إلى أجل، لا قرضًا ولا بيعًا. وأحمد يجوِّزه قرضًا بخلاف البيع. وهل الواجب في الردّ الجنسُ أو القيمةُ؟ على وجهين، والجنس هو المنصوص. ولا يجوِّزه بيعًا في إحدى الروايات؛ لأن البيع يجب فيه الأجل، وأما القرض فإنه بذل المنفعة بلا عوض، ولهذا لا يجوز فيه التأجيل عنده.
وكذلك أبو حنيفة لا يُجوِّز التأجيل في القرض، فإنه إذا جاز التأجيل فيه كان معنى بيع الشيء بجنسه نَسَاء، وذلك لا يجوز عند أبي حنيفة وأحمد في رواية. بل كلما يجب وفاء القرض وحده يحرم ربا النَّساء وحدَه.
والشافعي وأحمد في رواية ومن وافقهما يُجوِّزون في غير الشيء الربوي كالحيوان يبيع بعضه بجنسه حالًّا وإلى أجلٍ متماثلًا ومتفاضلًا، ولا يجوّزون أن يُقرِضه ويشترط أكثر منه. وهذا تناقض، فإنه إذا جاز معاوضة بعضه ببعض حالًّا ومؤجلًا فالقرض لا يخرج عن هذا وهذا كما تقدم. وإذا أراد أن يُقرِضه بعيرًا ويشترط بعيرين قال: بعني بعيرًا
_________
(1) أخرجه مسلم (1600) من حديث أبي رافع.
(8/317)
ببعيرين، ولكن هنا يشترط يعني الحلول أو التأجيل بخلاف القرض، وليس هذا فرقًا، فإن الناس مع القرض قد يتفقون على أنه يوفيه في وقت معين، فلا يخرج هذا عما يقصده الناس بالقرض.
فتبيَّن أن أظهر الأقوال قولُ مالك وأحمد في رواية، أنه إذا جمع النوعان حرم، فإذا باع الشيء بجنسه متفاضلًا إلى أجلٍ لم يجز، كما لا يجوز مثل ذلك في القرض، وإن تباعدت المقاصد ففيه نزاع.
فقد تبين أنه إذا اجتمع ربا الفضل والنَّساء حرم بالإجماع، مما فيه ربا الفضل، وفي غير ذلك عند أكثر العلماء، وأما إذا لم يكن إلا النَّساء فقط في غير الربوي فهذا يباح عند أكثر العلماء، كالبعير بالبعيرين إلى أجل.
فصل
وأما ربا الفضل بلا نَساءٍ فقد أشكل على السلف والخلف، فروي عن ابن عباس وابن مسعود ومعاوية أنه لا ربا إلا في النَّساء، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أسامة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لا ربا إلا في النسيئة» (1).
وبإزاء هؤلاء بعض المتأخرين الذي قال: إنه يجري في كلِّ مال. وهذا خلاف إجماع السلف، ولا معنى فيه. يحكى هذا عن أبي طاهر الرياشي.
_________
(1) سبق تخريجه.
(8/318)
وقالت طائفة: إنما يحرم في الأصناف المنصوصة الستة، وهو قول قتادة وداود وأصحابه. وابنُ عقيل قد رجَّح في آخر عمره في كتابه في الخلاف هذا، وضَعَّف ماعُلِّلتْ به الأصناف الستة كلها، وقد بَسَطَ القول عليه، وبيَّن أنه إنما حُرِّم لسدِّ الذريعة فقط، كما قال – صلى الله عليه وسلم -: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإنّي أخاف عليكم الرَّمَاء» (1). فربا النسيئة حُرّم لما فيه من الفساد والظلم، وأما ربا الفضل فإنما حرم لسدِّ الذريعة.
وأقرب الأقوال قول مَن قال: لا يُحَرَّم إلا في المطعوم المماثل المكيل والموزون، وهو قول سعيد بن المسيب والشافعي في قول وأحمد في إحدى الروايات اختارها أبومحمد. ومذهب مالك قريب من ذلك، بل هو أرجح في ربا الفضل وربا النسيئة في اعتبار المقاصد، لكنه بالغ في سدِّ الذريعة، حتى حرَّمها مع صحة القصد ورجحان المصلحة. وأحمد يوافقه على بطلان الحِيَل وعلى سدّ الذرائع إلا إذا ترجحت المصلحة. وهذا أعدل الأقوال.
والفرق بين الحيل وسدّ الذرائع أن الحيلة تكون مع قصد صاحبها ما هو محرم في الشرع، فهذا يجب أن يُمنَع من قصده الفاسد. وأما سدُّ الذرائع فيكون مع صحة القصد خوفًا أن يُفضِي ذلك إلى الحيلة. والشارع قد سدَّ الذرائع في مواضع، كما بسطتُ ذلك في كتاب: «بيان الدليل على بطلان التحليل» (2)، ولكن يُشترط أن لا تفوت مصلحة
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) (ص 256) تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي.
(8/319)
راجحة، فيكون النهي عما فيه مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة، فأما إذا كان فيه مصلحة راجحة كان ذلك مباحًا، فإن هذه المصلحة راجحة على ما قد يُخاف من المفسدة. ولهذا يجوز النظر إلى الأجنبية للخِطبة لرجحان المصلحة، وإن كان النظر لغير حاجة لم يجز.
وكذلك سفر المرأة مع غير ذي محرم منهيٌّ عنه، ويجوز لرجحان المصلحة، كسفر عائشة مع صفوان بن المعطّل لما كانت وحدها (1)، وكان سفرها معه خيرًا من أن تبقى ضائعةً.
وكذلك هجرتها بلا محرم، كهجرة أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط بلا محرم (2)، وزينب بنت النبي – صلى الله عليه وسلم – أرسل لها رجالًا جاءوا بها.
وقد تنازع الفقهاء في الحج، والأقوى أنه إذا تعذَّر حجها مع المحرم أن تحج إذا أمنت، لأن حجها مع من تأمنه أرجح من تفويت الحج. وقوله: «حُجَّ مع امرأتك» (3) دليلٌ على أنه إذا أمكن سفرُها مع محرم لم تخرج وحدَها جمعًا بين المصلحتين، وأما إذا دار الأمرُ بين تفويتِ الحج وبين سفرِها بلا محرم سفرًا آمنًا كان حصولُ الحج أصلَحَ لها، فإن حصول الفساد في دينها إذا سافرت وحدَها، وهذا في طريق الحج نادر، ومع من تأمنُه معدوم، بخلاف سفرها بلا محرم لتجارة
_________
(1) في قصة مشهورة أخرجها البخاري (2661) ومسلم (2770) عن عائشة.
(2) انظر: الاستيعاب (4/ 1953، 1954).
(3) أخرجه البخاري (5233) ومسلم (1341) من حديث ابن عباس.
(8/320)
وزيارة، فإن هذه مظنة فساد دينها، كخلوة الأجنبي بها، وخلوته بها لرجحان المصلحة جائز. وأحمد في رواية المرُّوذي قد جوَّز السفر للكبيرة التي لا محرمَ لها وقد يئست من الزواج، فإنها من القواعد.
وكذلك سفرها إلى المساجد الثلاثة هو طاعة وقربة تفوتها، فإذا أمنت لم يبعد جوازه، بخلاف السفر الذي ليس بواجب ولا مستحب، فإن هذا ليس فيه مصلحة راجحة في دينها، وفيه مفسدة في دينها، فإن انفرادها عن الزوج والمحرم مظنة حصول الشر في دينها، فإذا فوّت السفر الذي هو في نفسه طاعة، والسفر غير الطاعة، واعتبر في سفر الطاعة أن تكون آمنةً، فهذا قولٌ متوجه كما قاله كثير من العلماء.
وهم متفقون على أن قوله: «لا تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم» (1) ليس على عمومه، فإنه يجوز لها سفر الضرورة، كسفر الهجرة، وكسفر زينب وأم كلثوم بلا زوج ولا ذي محرم.
والنظر إلى الأجنبية مُنِع منه لأنه داعية للمحرَّم، يجوز للخاطب بالنصّ والإجماع للحاجة، وجُوِّز للشاهد والعامل، وجوَّزه أصحابنا وغيرهم بشرط عدم الشهوة، وجوَّزه أصحاب أبي حنيفة مع الشهوة، وإذا كان بلا شهوة يجوز عندهم مطلقًا إلى الوجه واليدين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولي الشافعي.
ومن ذلك: الصلاة وقتَ الطلوع والغروب، نُهِي عنه لسدِّ الذريعة
_________
(1) أخرجه البخاري (1995) ومسلم (827) عن أبي سعيد الخدري.
(8/321)
لئلا يُشبِه عُبَّادَ الشمس، فيجوز للمصلحة الراجحة، مثل قضاء الفوائت وغيرها. والصحيح أنه يجوز في ذوات الأسباب مطلقًا، كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين.
فصل
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لحكيم بن حزام: «لا تَبِعْ ما ليس عندك»، لما قال له: يأتيني الرجل فيطلب مني البيعَ ليس عندي فأبيعه منه، ثم أذهب إلى السوق فأبتاعه، فقال: «لا تبع ما ليس عندك» (1). وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحِلُّ سلفٌ وبيعٌ، ولا شَرطانِ في بيع، ولا رِبْح ما لم يضمن، ولا تَبعْ ما ليس عندك» (2).
وللناس في هذا الحديث أقوال:
قيل: المراد بذلك أن يبيع السلعة المعينة التي هي مال الغير، يبيعها إن ملكها، فقال: «لا تبع ما ليس عندك»، أي لا تبع ما لا تملكه من الأعيان. ونُقِل هذا التفسير عن الشافعي أنه يجوز السَّلَم الحال، وقد لا يكون عند المستسلف ما باعه. فحملَه على الأعيان، ليكون بيعُ ما في الذمة جائزًا، سواء كان حالًّا أو مؤجلًا.
_________
(1) أخرجه أحمد (3/ 402، 434) وأبو داود (3503) والترمذي (1232) والنسائي (7/ 289) وابن ماجه (2187) من حديث حكيم. وقال الترمذي هذا حديث حسن.
(2) سبق تخريجه.
(8/322)
وقال آخرون: هذا ضعيف جدًّا، فإن حكيم بن حزام ما كان يبيع شيئًا معينًا هو ملكٌ لغيره، ثم ينطلق فيشتريه منه، ولا كان الذين يأتونه يقولون: نطلبُ عبدَ فلانٍ أو دارَ فلانٍ، وإنما الذي يفعله الناس أن يأتيه الطالب فيقول: أريد طعامًا كذا وكذا، أو ثوبًا كذا وكذا، وغير ذلك. فيقول: نعم أُعطِيك، فيبيعه منه، ثم يذهب فيحصِّله من عند غيرِه إذا لم يكن عنده. هذا هو الذي يفعله من يفعله من الناس، ولهذا قال: «يأتيني فيطلب مني البيعَ ليس عندي»، لم يقل: يطلب مني ما هو مملوكٌ لغيري. فالطالب طلب الجنس لم يطلب شيئًا معينًا، كما جرت عادة الطالب لما يؤكل ويُلبَس ويُركب، إنما يطلب جنس ذلك ليس له غرضٌ في ملك شخصٍ بعينه، دون ما سواه مما هو مثله أو خيرٌ منه.
ولهذا صار أحمد بن حنبل وطائفة إلى القول الثاني، فقالوا: الحديث على عمومه يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده، وهو يتناول النهي عن السلم إذا لم يكن عنده، لكن جاءت الأحاديث في جواز السَّلَم المؤجل، فبقي هذا في السَّلَم الحال.
والقول الثالث ــ وهو أظهر الأقوال ــ: إن الحديث لم يرد به النهي عن السَّلَم المؤجل ولا الحال مطلقًا، وإنما أريد به أن يبيع في الذمة ما ليس هو مملوكًا له ولا يَقدِر على تسليمه، ويَربح فيه قبلَ أن يملكه ويقدر على تسليمه وتضمنه. فهو نهيٌ عن السَّلَم الحال إذا لم يكن عند المستسلف ما باعه، فيلزم ذمته بشيء حال ويربح فيه، وليس هو قادرًا على إعطائه. وإذا ذهب يشتريه قد يحصل وقد لا يحصل، فهو من نوع
(8/323)
الغرور والمخاطرة، وهو إذا كان السلم حالًّا وجبَ تسليمه عليه في الحال، وليس هو بقادرٍ على ذلك، ويربح فيه على أن يملكه فيضمنه. وربما أحاله على الذي ابتاع منه، فلا يكون قد عمل شيئًا، بل أكلَ المال بالباطل. وعلى هذا فالسَّلَم الحال إذا كان المسلم إليه قادرًا على الإعطاء هو جائز، وهو كما قال الشافعي: إذا جاز المؤجل فالحال أولى بالجواز.
ومما يبيِّن أن هذا مراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن السائل إنما سأله عن بيع شيء مطلق في الذمة كما تقدم، لكن إذا لم يُجوَّزْ بيع ذلك فبيعُ المعيّن الذي لم يملكه أولى بالمنع. وإذا كان إنما سأله عن بيع شيء في الذمة، وإنما سأله عن بيعه حالًا، فإنه قال: أبيعه ثم أذهب فأبتاعه، فقال له: «لا تبع ما ليس عندك»، فلو كان السَّلف الحال لا يجوز مطلقًا لقال ابتداءً: «لا تبع هذا» سواء كان عنده أو ليس عنده، فإن صاحب هذا القول يقول: بيعُ ما في الذمة حالًّا لا يجوز ولو كان عنده ما يُسلمه، بل إذا كان عنده فإنه لا يبيع إلا معينًا، لا يبيع شيئًا في الذمة. فلما لم ينهه النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك مطلقًا، بل قال: «لا تبع ما ليس عندك» = عُلِمَ أنه فرَّق بين ما هو عنده ويملكه ويقدر على تسليمه، وما ليس كذلك، وإن كان كلاهما في الذمة.
ومن تدبَّر هذا تبيَّن له أن القول الثالث هو الصواب.
وإذا قيل: المؤخر جائز للضرورة، وهو بيع المفاليس، لأن البائع
(8/324)
احتاج إلى أن يبيع إلى أجل، وليس عنده ما يبيعه الآن، وأما الحال فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه، فلا حاجة لبيع موصوف في الذمة، أو يبيع عينًا موصوفة غائبة، لا يبيع شيئًا مطلقًا، بل هذا ممنوع، فلا نسلم على خلاف الأصل، بل تأجيل المبيع كتأجيل الثمن، كلاهما من مصالح العالم.
والناس لهم في المبيع الحال والغائب ثلاثة أقوال:
منهم من يجوِّزه مطلقًا، ولا يجوِّزه معينًا موصوفًا، كالشافعي في المشهور عنه.
والأظهر جواز هذا وهذا، ويقال للشافعي مثل ما قال هو لغيره: إذا جاز بيع المطلق الموصوف فالمعين الموصوف أولى بالجواز، فإن المطلق فيه غررٌ وخطر وجهلٌ أكثر من المعيّن. فإذا باع حنطةً مطلقةً فبالصفة أولى، بل ولو بيع المعيَّن بلا صفة، وللمشتري الخيار إذا رآه، جاز أيضًا، كما نُقِل مثلُ ذلك عن الصحابة، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين.
وقد جوَّز القاضي وغيره من أصحاب أحمد السَّلَم الحال بلفظ البيع.
والتحقيق أنه لا فرقَ بين لفظٍ ولفظٍ، ونفسُ بيع الأعيان الحاضرة التي يتأخر قبضُها يُسمَّى سَلفًا إذا عجّل له الثمن، كما في «المسند» (1)
_________
(1) (2/ 46، 51).
(8/325)
عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى أن يُسلم في حائطٍ بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحُه. فهو إذا بدا صلاحُه وقال: أسلمتُ إليك في عشرة أوسُقٍ من تمر هذا الحائط جاز. كما يجوز أن يقول: ابتعتُ عشرةَ أوسُقٍ من هذه الصُّبرة، ولكن التمر يتأخر قبضُه إلى كمالِ صلاحِه، فإذا عجل له الثمن قيل له سلف، لأن السلف هو الذي تقدم، والسالف: المتقدم، قال الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 56]. والعرب تُسمّي أول الرواحل: السالفة، ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «الحقي سلفنا الخيّر عثمان بن مظعون» (1)، وقوله: «حتى تنفردَ سالفتي» (2) وهي العنق.
ولفظ «السلف» يتناول القرض والسَّلَم، لأن المقرض أيضًا سلَّف القرضَ، أي قدَّمه وعجَّله، لكن هذا تبرع بالمنفعة، وفيه حديث عبد الله بن عمرو أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا يحلُّ سلفٌ وبيع، وشرطانِ في بيع، ولا ربح ما لم يُضمَن، ولا بيع ما ليس عندك» (3). ومنه الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – استلفَ بَكْرًا وقضَى جملًا رَبَاعيًا (4).
والذي يبيع ما ليس عنده لا يقصد إلا الربح، وهو تاجر، فيسلف
_________
(1) أخرجه أحمد (1/ 237، 335) عن ابن عباس. وإسناده ضعيف، فيه علي بن يزيد، وهو ضعيف.
(2) ورد ضمن حديث المسور بن مخرمةومروان بن الحكم، الذي أخرجه البخاري (2731، 2732).
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق تخريجه.
(8/326)
بسعر، ثم يذهب فيشتري بأرخصَ منه بمثل ذلك الثمن، فإنه قد يكون أتعبَ نفسَه لغيرِه بلا فائدةٍ. وإنما يفعل هذا من يتوكل لغيره، فيقول: أعطِني فأنا أشتري لك هذه السلعة، فيكون أمينًا. أما أنه يبيعها بثمن معين يقبضه، ثم يذهب فيشتريها بمثل ذلك الثمن من غير فائدة في الحال، فهذا لا يفعله عاقل.
نعم إذا كان هناك تأخير، فقد يكون محتاجًا إلى الثمن فيستسلفه، وينتفع به مدةً إلى أن تحصل تلك السلعة، فهذا يقع في السَّلَم المؤجَّل، وهو الذي يُسمَّى بيع المفاليس، فإنه يكون محتاجًا إلى الثمن وهو مفلس، وليس عنده في الحال ما يبيعه، ولكن له مالٌ يأتي من بعدِه من تمرٍ أو مغلٍّ أو غيرِ ذلك، فيبيعه في الذمة، فهذا يفعله مع الحاجة، ولا يفعله بدون الحاجة إلا أن يقصد أن يتجر بالثمن في الحال، ويرى أنه يحصل به من الربح أكثر مما يفوت بالسَّلَم. فإن المستسلف يبيع السلعةَ في الحال بدون ما يساوي نقدًا، والمُسْلِف يَرى أنه يشتري بها إلى أجل بأرخصَ مما يكون عند حصولها، وإلّا فلو علم أنها عند الأجل كحصول الحنطة في البيدر تباع بالسَّلَم لم يسلم فيها، فيذهب نفع ماله بلا فائدة، وإذا قصد الآخر قرضه ذلك قرضًا، ولا يجعل ذلك سلَمًا إلا إذا ظنَّ أنه أرخص في الحال وقت الأجل.
فالسَّلَم المؤجل في الغالب لا يكون إلا مع حاجة المستسلف إلى الثمن. وأما الحال إن كان عنده فقد يكون محتاجًا إلى الثمن، فيبيع ما عنده معينًا تارةً وموصوفًا أخرى، وأما إذا لم يكن عنده فإنه لا يفعله إلا
(8/327)
إذا قصد التجارة والربح، فيبيعه بسعرٍ ويشتري بأرخص منه، ثم يذهب. هذا الذي قدَّره قد يحصل كما قدَّره، وقد لا يحصل، بل قد لا تحصل له تلك السِّلعة التي تسلَّف فيها، وقد لا تحصل إلا بثمنٍ أعلى مما تَسلَّفه، فيندم. وإن حَصَلَ بسعرٍ أرخصَ من ذلك ندم المُسلِف إذا كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك الرخص. فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة، كبيع العبد الآبق والبعير الشارد يباع بدون ثمنه، فإن حصل ندم البائع، وإن لم يحصل ندم المشتري. وكذلك بيع حبل الحبلة، وبيع الملاقيح والمضامين، ونحو ذلك مما هو قد يحصل وقد لا يحصل، وهو من جنس صاحب القمار والميسر.
والخطر خطران:
خطر التجارة: وهو أن يشتري السلعة يَقصِد أن يبيعها بربحٍ، ويتوكل على الله في ذلك، فهذا لا بد منه للتجَّار، والتاجر يتوكل على الله يطلب منه أن يأتي من يشتري السلعة، وأن يبيعها بربح، وإن كان قد يخسر أحيانًا، فالتجارة لا تكون إلا كذلك.
والخطر الثاني: الميسر الذي يتضمن أكلَ المال بالباطل، فهذا الذي حرَّمه الله ورسوله، مثل بيع الملامسة، والمنابذة، وحبل الحبلة، والملاقيح، والمضامين، وبيع الثمار قبل بُدوّ صلاحِها. وفي هذا يكون أحد الرجلين قد قمرَ الآخر وظلمَه، وفي هذا يذم المظلوم للظالم، بخلاف التاجر الذي اشترى السلعة، ثم بعد هذا نقصَ سعرُها، فهذا من
(8/328)
الله ليس لأحدٍ فيه حيلةٌ، ولا يتظلم مثل هذا من البائع، وبيع ما ليس عنده. والمشتري لا يعلم أنه يبيعه ثم يشتري من غيره، وأكثر الناس لو علموا لم يشتروا منه، بل يذهبون هم فيشترون من حيث اشترى هو، وإن قُدِّر أن منهم من يعلم ويشتري كما لو كانت عنده، لكونه يشتريها من مكانٍ بعيد، أو يشتري جملةً، ونحو ذلك مما قد يتعسَّر على المشتري منه، وإنما يفعل ذلك من ظنَّ أن هذا الربح هو الربح لو كانت عنده. فلو قُدِّر أن السلعة رخيصة أرخص من العادة، وأن هذا قد أربحه ما لا يصلح في مثلها ندمٌ، فهو يشتمل كثيرًا على ندم هذا وهذا، كما يشتمل على مثل ذلك سائرُ أنواع بيع الغرر.
وليس هذه المخاطرة مخاطرة التجارة، بل مخاطرة المستعجل بالبيع قبل القدرة على التسليم، كبيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها، وبيع حبل الحبلة، وبيع الملاقيح، وبيع المضامين، وبيع العبد الآبق والبعير الشارد، ونحو ذلك. فإذا اشترى التاجر السلعةَ وصارتْ عنده ملكًا وقبضًا، فحينئذٍ دخلَ في خطر التجارة، وباعَ بيعَ التجارة كما أحلَّها الله تعالى بقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «ولا شرطانِ في بيعٍ» (1) هو كنية (2) عن بيعتين في بيعة،
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) أي كناية.
(8/329)
مثل أن يتفقا على أن يبيعه بمئةٍ نسيئةً ويبتاعه بثمانين نقدًا، وهو بيع العِيْنة. وأما من فسَّره بأنهما شرطانِ في العقد الواحد أكثر من شرطٍ واحدٍ، ثم منهم من نهى عن هذا مطلقًا، كما نُقِل عن أحمد، ومنهم من قال: هذا في نوعٍ من الشروط، وهو ما ليس من مصلحة العقد= فهي أقوال مرجوحة، وليس في ذلك ما يقتضي النهي. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(8/330)
فصل
في أنه ليس في القرآن لفظة زائدة لا تفيد معنى
(8/331)
قال الشيخ الإمام العلَّامة أوحدُ (1) العصر وفريدُ الدّهر أبو العبَّاس أحمدُ ابن تيمية رحمه الله تعالى آمين:
الحمدُ للّهِ ربِّ العالمين، والعاقبةُ للمتَّقين، ولا عدوان إلَّا على الظالمين، والصلاة والسلام الأتمَّانِ الأكملانِ على رسولِه محمدٍ وآلهِ وأصحابهِ والمؤمنين والتّابعين أجمعين.
أمَّا بعد، فاعلم أنَّه ليس في القرآنِ لفظة زائدة لا تفيد معنى، ولا كلمة قد فُهم معناها [مما] قبلها فأُعيدت لا لمعنى، أو لمجرّد التأكيد المحض دون فائدة جديدة، وهذا في اللفظ المستقلّ بنفسه، بخلاف الحروف التي لا تستقل كالباء واللام.
فإنْ قيل: فما تصنع في هذه الألفاظ التي وردت يُوهِمُ ظاهرها خلافَ هذا:
منها قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].
ومنها قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142].
ومنها قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38].
_________
(1) في الأصل: «أحد».
(8/333)
ومنها قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ} [الفتح: 11].
و {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5].
ومنها قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
ومنها قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 13، 14].
[ومنها قوله: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21، 22].
ومنها قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1].
ومنها قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
ومنها قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99].
ومنها قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30].
ومنها قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]، {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]، {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31]، {وَكَفَى
(8/334)
بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]. فإنَّ الباءَ هنا زائدة.
ومنها قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 62].
وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3].
وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ} [الحشر: 24]، والخالق هو البارئ.
وقوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل: 51].
وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 62].
و {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87].
وقوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35].
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 147].
وقوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 49].
وقوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34، 35].
(8/335)
وقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] في كل آية.
وقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15].
وقوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل: 10] والتولِّي لا يكون إلَّا مدبرًا.
وكذلك قوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
فالجواب: أنَّه [ليس] بحمد الله في شيء من هذه الآيات ما يخالف ما ذكرناه، وليس فيها لفظٌ إلَّا و [هو] يفيد معنًى زائدًا، ونحنُ نُبيّنُ ذلك بعون الله تعالى وتأييده آية آية.
أمّا قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196].
فقد قيل في جوابه: إنَّهُ سِيق لدفعِ توهّم احتمال التخيير، فإنَّ الواو قد تأتي بمعنى أو، فلمّا قال: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} زال هذا الاحتمال (1).
وأحسن من هذا أنْ يقال: إنَّ [عطف] السبعة على الثلاثة يحتمل معنيين:
أحدهما: أنْ تكون سبعة خارجة عن الثلاثة.
_________
(1) انظر: معاني القرآن للزجاج (1/ 268، 269).
(8/336)
والآخر: أنْ تكون سبعة بالثلاثة التي قبلها، كما قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9 – 10]. فهذه أربعةُ أيامٍ باليومين اللذين قبلهما، ولو كان ذلك لكانت أيام الخلق ثمانية؛ لأنَّه قال بعد ذلك: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 11 – 12]. فاقتضى أنْ يكون مجموع ما تقدّم أربعة.
فلمّا قال تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، علمنا أنَّ السبعة مستقلة لا تدخل فيها الثلاثة المتقدّمة، وقوله: {كَامِلَةٌ}، أي: كاملة في ثوابها [كما هي كاملة في حسابها].
وأحسن منه أنْ يُقال: لا يُعتبر (1) إلَّا كاملة لا نقص فيها، ولا يقوم الأكثرُ فيها مقام الجميع، بل لابدّ من كمالها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأمَّا قوله تعالى: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]، ففيه فائدة زائدة، وهو أنَّ قوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}، المراد به دخول العشر في أيّام الموعد، فقوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} رافعٌ
_________
(1) في النسختين: يحتر، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(8/337)
لتوهّم أنْ تكون العشر لغير مواعدة، فلمّا أدخلها في الميقات علم أنَّ المواعدة تناولتها كما تناولت الثلاثين، والتّمام وإنْ أشعر بها فليس في الصراحة كقوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
وأحسن من هذا أنْ يقال: إنَّ الله سبحانه وتعالى واعده ووقَّت له للميعاد ثلاثين ليلة، ثم أخبر أنَّه أتمَّها بعشرٍ، فلا يُدْرَى انقضى أجل الميقات عند انتهاء الثلاثين، وكانت العشر تمامًا، أي زيادة بعد انقضاء أجل الميقات، [أو] إنّما كان انقضاؤه عند تمام الأربعين، وأنَّ الإتمام بعشرة هو زيادة في الأجل. فلمّا قال: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} علمنا أنَّ العشر دخلت في الأجل، فصارت جزءًا منه.
وهذا كما تقول: اشتريت هذه السلعة من فلانٍ بتسعين، وأتممتها له مائة، فلا يُدْرَى هل أتممت الثمن بالعشرة، أو أتممتها بعد استيفاء الثمن، فإذا قلت: فتمّ له ثمن المبيع مائة، علمنا أنَّ العشرةَ صارت جزءًا من الثمن، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأمَّا قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، ففيه فائدةٌ زائدةٌ، وهي أنَّ الطيران قد يستعمل في الخفَّة وشدَّة الإسراع في الشيء، منه قول الشاعر:
فَطِرْنَا إلى الهَامَاتِ بالبيضِ والقَنَا (1)
_________
(1) شطر بيت لم أعرف تمامه وقائله.
(8/338)
ومنه بيت الحماسيّة:
طَارُوا إليْهِ زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا (1)
فقوله تعالى: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} رافع لاحتمال هذا المعنى، وإرادته بلفظ الطائر ويطير.
وأحسن من هذا أنْ يقال: إنَّه لو اقتصر على ذكر الطائر فقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ}، لكان ظاهر العطف يوهم «ولا طائر في الأرض»؛ لأنَّ المعطوف عليه إذا قيّد بظرفٍ أو حال تقيّد به المعطوف، فكان ذلك يوهم اختصاصه بطير الأرض الذي لا يطير بجناحيه، كالدجاجِ والإوزِّ والبطِّ ونحوها. فلمّا قال: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} زال هذا التوهّم، وعُلِمَ أنَّه ليس الطائر مقيّدًا بما تقيّدت به الدّابة.
وأيضًا ففيه تحقيق معنى الطيران وأنَّ المراد به هذا الجنس الذي يرونه يطير بجناحيه على اختلاف أنواعه وأجناسه أممٌ أمثالكم.
وهذا استعمالٌ مطروقٌ للعرب، كما يقال: ما خلق الله إنسانًا يمشي على رجليه إلا وهو يعلم بأنَّ له خالقًا وفاطرًا.
ونحوُهُ قول أبي ذرٍّ رضي الله تعالى عنه: «لقد توفِّي رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
_________
(1) صدره: قوم إذا الشرُّ أبدى ناجذَيه لهم
والبيت لقُريط بن أُنَيف في الحماسة (1/ 58).
(8/339)
وما طائر يقلّب جناحيه في السماء إلا ذكَّرنا منه [علمًا]» (1).
وبالجملة فليست اللفظة خالية عن معنى زائد.
وأمَّا قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ} [الفتح: 11]، و {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5].
فقد قيل: إنَّهُ رافعٌ لتوهّم إرادة حديث النفس، كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: 8].
وأحسن منه أنْ يقال: حيث ذكر الله سبحانه ويقولون بألسنتهم ويقولون بأفواههم، فالمراد به أنَّه قولٌ باللسان مجرد لا معنى تحته، فإنَّه باطلٌ، والباطل لا حقيقة تحته، وإنّما غايته وقصاراه أنَّه حركةُ لسانٍ مجرَّد عن معنى، فليس وراء حركة اللسان به شيء (2).
_________
(1) أخرجه البزار في مسنده (147) وابن حبان (65) والطبراني في الكبير (1647)، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (5/ 153، 162) وفي إسناده من لم يسمَّ.
(2) قال الفخر الرازي في تفسيره (21/ 79): كأنه يقول: هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتة، لكونه في غاية الفساد والبطلان، فكأنه شيء يجري به لسانهم على سبيل التقليد، لأنهم مع أنها قولهم عقولهم وفكرهم تأباها وتنفر عنها.
وقال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن (ص 241): لأن الرجل قد يقول بالمجاز: كلمتُ فلانًا، وإنما كان ذلك كتابًا أو إ شارةً على لسان غيره، فأعلمنا أنهم يقولون بألسنتهم.
(8/340)
وهذا استعمالٌ مطَّردٌ في القرآن، فتأمَّلْه تجدْه كما ذكرت لك.
وأمَّا قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، فإنَّه سبحانه لمّا دعاهم إلى التفكّر والتعبير وسمع أخبار مَن مضى من الأمم، وكيف أهلكهم الله تعالى بتكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره، فقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46].
قال ابن قتيبة (1): وهل شيء أبلغ في العظة والعبرة من هذه الآية؛ لأنَّ الله تعالى أراد أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار قومٍ أهلكهم الله تعالى بالكفر والعتو، فيروا بيوتًا خاوية قد سقطت على عروشها، وبئرًا يشرب أهلها منها قد عطّلت، وقصرًا بناه ملكهم بالشِّيد قد خلا من السكن وتداعى بالخراب، فيتّعظوا بذلك ويخافوا من عقوبة الله التي نزلت بهم.
ثم ذكر تعالى أنَّ أبصارهم الظاهرة لم تعمَ عن الذكر والرؤية، وإنّما عميت قلوبهم التي في صدورهم.
قيل: لمّا كانت العين قد يُعنَى بها القلب في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الكهف: 101]، جاز أنْ يُعنَى بالقلب العين، فإنَّ الشيء إذا أشبه الشيء وأطلق عليه اسمه، جاز إطلاق اسم مشبهه عليه
_________
(1) انظر: تأويل مشكل القرآن (ص 10).
(8/341)
أيضًا، لاسيما مع شدَّة اتصال العين بالقلب، فقيّد القلوب بذكر محلها دفعًا لتوّهم إرادة غيرها.
وأحسن من هذا أنْ يقال (1): إنَّه ذكر محل العمى الحقيقي الذي هو أولى باسم العمى من عمى البصر، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (2)، أي: هذا أولى بأنْ يكون شديدًا منه.
وقوله: «ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تردُّه اللقمة واللقمتان، إنَّما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يُفطَن له فيتصدَّق عليه» (3)، أي: هذا أولى باسم المسكين من الذي تسمّونه أنتم مسكينًا، ونظائر ذلك كثيرة.
أي: فعمى القلب هو العمى الحقيقي، لا عمى البصر، فأعمى القلب أولى أنْ يكون أعمى من أعمى العين، فنبّه سبحانه بقوله: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، على أنَّ العمى هو العمى الباطن في العضو الذي محلّه الصدر، لا العمى الظاهر في العضو الذي محلّه الوجه. والله تعالى أعلم بما أراد من كلامه.
_________
(1) بنحو هذا قال ابن عطية في المحرر الوجيز (11/ 208، 209).
(2) أخرجه البخاري (6114) ومسلم (2609) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري (1479) ومسلم (1039) عن أبي هريرة.
(8/342)
وأمَّا قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 13، 14]، فليس على وجه التأكيد المجرد، بل [المراد] التقييد بالمرة الواحدة، ولمّا كانت النفخة قد يراد بها الواحدة من الجنس، وقد يراد بها مطلقة، كما [في] البقلة، وحبّة الحنطة، واللعنة، والهمة، ونحوها، وكان المراد التقييد بالمرة الواحدة من هذا الجنس، أتى بالواحدة ليدل على هذا المعنى، أي: أنَّ النفخ لم يكن نفختين، ولم يك [دكّ] الأرض والجبال بعد حملهما دكّتين، بل واحدة فقط، فعل المقتدر على الشيء المتمكن منه، ونظيره قوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53].
ونظيره قوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29]، أي: لم يتابع عليهم الصيحة، بل أهلكناهم من صيحة واحدة.
وأمَّا قوله سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21، 22]، فليس للتأكيد كما يظنّه طائفةٌ من الناس، وإنّما المراد الدك المتتابع، أي: دكًّا بعد دكٍّ.
وهذا لا يفهم من قوله سبحانه: {دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا}، فقوله: {دَكًّا دَكًّا} فيه قدر زائد على مجرد الدكّ، وكذلك قوله تعالى: {صَفًّا صَفًّا}، ليس للتأكيد إذ المراد صفًّا بعد صفٍّ، أي: صفًّا يتلوه صفٌّ، وهو لا يفهم من قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا}؛ لاحتمال أنْ يكونوا
(8/343)
صفًّا واحدًا، بل هذا يكون ظاهر الكلام.
ونظير هذا الحديث في صفة جماع أهل الجنّة: «دَحْمًا دَحْمًا» (1)، أي: وطْأً بعد وطءٍ.
وأمَّا قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1]، فليس من التكرار من شيء، فإنَّ إضافة الزلزال يفيد معنًى زائدًا، وهو زلزالها المختص بها المعروف منها المتوقَّع منها، كما تقول: غضب زيدٌ غضبه، وقاتل قتاله، أي: غضبه الذي يعهد منه، وقتاله المختص به الذي يعرف منه، ومنه:
أنا أبو النجْمِ وشعرِي شعرِي (2)
وأمَّا قوله سبحانه وتعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، فهما جملتان مفيدتان معنيين:
أحدهما: أن الله سبحانه إذا أمرهم بالأمر لا يعصونه في أمره.
والثانية: أنهم لا يفعلون شيئًا من عند أنفسهم إنما فعلهم ما أمرهم به ربهم، فهم يفعلون ما يؤمرون لا ما لا يؤمرون، بل أفعالهم كلهم
_________
(1) أخرجه ابن حبّان في صحيحه (7402) وأبو نعيم في صفة الجنة (393) عن أبي هريرة. وإسناده حسن.
(2) الرجز لأبي النجم العجلي في الخصائص (3/ 337) وأمالي المرتضى (1/ 350) وشرح شواهد المغني (2/ 947).
(8/344)
ائتمار وطاعة [لأمر] ربهم.
وأمَّا قوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، فكلهم يفيد الإحاطة والعموم، ولا يلزم من قوله: {لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} أنْ يكونوا كلهم، قال وذلك على الأكثر منهم، فكلهم رافع لهذا التوهم.
وأما قوله سبحانه: {جَمِيعًا}، فليس بتأكيد، ولو كان تأكيدًا لقال: أجمعون، ولم يكن منصوبًا، وإنما هو حال، أي: مجتمعون على الهدى، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35].
ومثله قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، ولو كان «جميعًا» هنا تأكيدًا لقال: أجمعين.
وأما قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30، وص: 73]، فالكلام في كلهم كما في {لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ} [يونس: 99].
وأما أجمعون فقد قالت طائفة منهم الزمخشري وغيره: أنه يفيد معنًى زائدًا غير ما يفيده كلهم، وهو أنَّ سجودهم وقع في وقتٍ واحدٍ، فاجتمعوا في السجود ولم يتخلف منهم أحد، فهما فائدتان.
(8/345)
قال الزمخشري (1): «كل للإحاطة، وأجمعون للاجتماع، فأفادا معًا أنهم سجدوا عن آخرهم، وأنهم سجدوا جميعًا في وقت واحد غير متفرقين في أوقات».
وهذه فائدة زائدة حسنة، إلا أنه يقال: لو أريد هذا المعنى لكان منصوبًا على الحال، وكان وجه الكلام أنْ يقال: مجتمعين أو أجمعين، فلما رفعهم جعلهم إتْباعًا مجردًا لكلهم يفيد فائدته، ولهذا تقول: جاء القوم أجمعون، وإن تفرقوا في مجيئهم بعد أن يجتمعوا ولا يتخلف منهم أحد، قال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 94، 95]، أي اجتمعوا كلهم في النار، ولا يدل ذلك على أنهم دخلوها وكبكبوا فيها مجتمعون (2) في آنٍ واحد.
وبالجملة فلفظ أجمعين وإعرابها يأبى هذا المعنى، ولا شك أنه يصدق قولك: جاء القوم أجمعون، وإنْ تفرقوا في المجيء، كما تقول: قُتل بنو فلان أو ماتوا كلهم [أجمعون]، وإنْ تباينت أوقات قتلهم وموتهم، وتأمل قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]، هل يدل على أنه سبحانه يسألهم كلهم في آن واحد مجتمعين؟ أو يدل على أنه لا ينفك أحد عن السؤال وإن تعددت أوقات سؤالهم؟
_________
(1) الكشاف (3/ 334).
(2) كذا في الأصل بالواو والنون.
(8/346)
وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، هل يدل على أنه كان يحصل لهم الهدى في آن واحد؟ أو يجتمعون على الهدى وإنْ تعددت أوقات هدايتهم؟
وقد يقال: أجمعون يستعمل في هذا وهذا بدليل قوله تعالى: {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء: 65]، وقوله تعالى في أصحاب الصيحة: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 51] ولا ريب أنهم اجتمعوا في الهلاك، وأنَّ قوم موسى اجتمعوا في النجاة.
ومنه قوله تعالى حكايةً عن يوسف عليه [الصلاة و] السلام: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93]، فلم يرد بهذا أنْ يجتمعوا عنده وإنْ جاؤوا واحدًا بعد واحد، وإنما أراد اجتماعهم في المجيء إليه وأنْ لا يتخلف منهم أحد، وهذا يُعْلَمُ بالسياق والقرينة.
ومن القرينة الدالة على ذلك في قصة الملائكة لفظًا ومعنى أنَّ قوله تعالى: {كُلُّهُمْ}، يفيد الشمول والإحاطة، فلابد أنْ يفيد أجمعون قدرًا زائدًا على ذلك، وهو اجتماعهم في السجود.
وأما المعنى، فلأنَّ الملائكة لا يتخلف أحدٌ منهم عن امتثال الأمر ولا يتأخر عنه، ولا سيما وقد وقّت لهم بوقتٍ وحدّ لهم بحدٍّ، وهو التسوية ونفخ الروح، فلما حصل ذلك سجدوا كلهم عن آخرهم في آنٍ واحدٍ، ولم يتخلّف منهم أحد، بل أتوا بالسجود على الفور، فلزم
(8/347)
اجتماعهم فيه، فعلى هذا يُخرَّج كلام هؤلاء الفضلاء، والله أعلم.
وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]، {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] ونظائره، فهذا ليس بزائد، بل هو متضمن فائدة بديعة، وذلك أنَّ العرب تقول: كفيتُه الشيء، فعل متعد، ولم يجئْ عنهم: كفيتُ به، ويقولون: اكتفيت به، فهذا لازم، ولم يقولوا: اكتفيته.
ثم قالوا: كفى بزيدٍ رجلًا، فتضمن معنى فعلين، أي: كفى زيدًا ما يشتمل عليه ويحوطه فاكتفى به، فأتى بكفى المتعدي، وأتى بالباء الدالة على الفعل اللازم، فأفاد هذا التركيب معنى الفعلين معًا، أي: كفى واكتفى، فاكتفى به أحدهما بصريحه والآخر بالحرف الدال عليه؛ ولهذا المعنى انتصب وكيلًا، وحسيبًا، وهاديًا، ونصيرًا، على التمييز أو الحال، والتمييز أحسن، وهذا من أسرار لغتهم التي لا يهتدي [إليها] إلا كل روحاني الذهن، لطيف الفهم، سلس القياد، يفهم المسائل [على تعدد أنواعها] في قوالب ألفاظها.
ونظير هذا: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6]، في تشبيه معنى فعلين؛ أحدهما: بصريحه، والثاني: بحرفه المقتضي له، فكأنه في معنى يشرب ويروي بها، وهذا كثيرٌ في القرآن والكلام الفصيح.
وأما قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 62]، وقوله تعالى:
(8/348)
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]، ففيه فائدة، وهي استغراق النفي؛ لأنّ حرف «من» للجنس، فإذا سلط النفي عليه مع مجروره أفاد استغراق النفي للجنس صريحًا؛ ولهذا لا يجوز أنْ يقابله بثبوت أكثر من واحد.
فلو قلت: [ما] من درهمٍ عندي بل درهمان، كنت [مبطلًا] لاغيًا.
ولو قلت: ما عندي درهم بل دراهم، لم يكن ذلك محالًا وكان كلامًا عربيًا.
فبدخول «من» يتعين استغراق النفي صريحًا فلا يحتمل تأويلًا، وبدونها غايته أنْ يكون ظاهرًا لا يناقضه إثبات المتعدد، ولا ريب أنَّ هذه فائدةٌ جليلةٌ زائدةٌ على النفي الخالي من هذا الحرف.
وأيضًا فقد قال سيبويه (1): ما من رجل في الدار، كأنه جواب لقول مَن قال: هل من رجل في الدار؟ فدخول «من» هنا يتطابق الجواب والسؤال، والله [سبحانه] وتعالى أعلم.
وأما قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]، فليس بتكرار، بل هي معانٍ متغايرة بينهما قدر مشترك، وبيانه أنَّ الإيجاد يتعلق بالمادة وبالصورة وبمجموعهما، فإنْ تعلق بالمادة فهو برؤه، ولا يقال للمصور: إنَّه بارئ باعتبار تصويره، وإنما البارئ من برأ الشيءَ من العدم إلى الوجود، وإنْ تعلق بالصورة فهو تصوير، ويقال
_________
(1) الكتاب (3/ 205) ط. مؤسسة الرسالة.
(8/349)
لفاعله: المصور، والخالق ينظمهما معًا، فالبارئ للمادة، والمصوّر للصور، والخالق لهما جميعًا، فأين التكرار؟
وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل: 51]، فليس للتكرار والتأكيد المحض، وليس الموضع موضع تأكيد، بل لما كان النهي واقعًا على التعديد والاثنينية دون الواحد أتى بلفظ الاثنين.
لأنَّ قولك: لا تتخذ ثوبين، يحتمل النهي عنهما جميعًا، ويحتمل النهي عن الاقتصار عليهما. فإذا قلت: ثوبين اثنين، عَلِمَ المخاطب أنك نهيته عن التعدد والاثنينية دون الواحد، وأنك إنما أردت منه الاقتصار على ثوب واحدٍ.
فتوجه النهي إلى نفس التعدد والعدد، فأتى باللفظ الموضوع له الدال عليه، فكأنه قال: لا تُعدِّد الآلهة ولا تتخذ عددًا تعبد، إنما هو إلهٌ واحدٌ فلا تضُمَّ إليه غيره وتجعلهما اثنين فلا تكرار إذن.
وفيه معنى آخر، وهو أنْ تكون «اتخذ» هذه هي التي تتعدى إلى مفعولين، ويكون اثنين مفعولها الأول، وإلهين مفعولها الثاني، وأصل الكلام: لا تتخذوا [اثنين] إلهين، ثم قدم المفعول الثاني على الأول، ويدل على التقديم والتأخير أنَّ إلهين أخص من اثنين، واتخاذ اثنين يقع على ما يجوز وما لا يجوز، وأما اتخاذ اثنين إلهين فلا يقع إلا على ما لا يجوز، وقدم إلهين على اثنين إذ المقصود بالنهي اتخاذهما إلهين،
(8/350)
فالنهي وقع على نفس الإلهية المتخذة، وعلى هذا فلابد من ذكر الاثنين والإلهين إذ هما مفعولا الاتخاذ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 62]، و {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، فهذه فائدة ظاهرة، وله فائدتان لفظية ومعنوية:
أما اللفظية: فصيانة الخبر عن التباسه بالتابع الصفة وعطف البيان، هذا عند جمهور النحاة، ونازعهم في ذلك بعض المتأخرين.
وأما المعنوية: فهي إفادةُ انحصار الخبر في المبتدأ، فإذا قلت: زيدٌ هو القائم، كان في قولك: هو القائم، وحده لا غيره؛ ولهذا يقع في جواب مَن يقول: زيد وعمرو فاضلان، فتقول: زيد هو الفاضل.
وتأمّل قول قوم شعيب له عليه الصلاة والسلام: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، تجده مُفهِمًا إنك لأنت الحليم الرشيد وحدك دوننا، ولسنا نحن بحلماء ولا راشدين.
وكذا قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].
وفيه فائدة ثالثة: وهي تحقيق نسبة الخبر إلى ذلك المبتدأ بعينه، كقول إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام له لما عرّفهم نفسه: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} حقًّا؟ فذاك الذي فعلنا به ما فعلنا أنت هو يقينًا؟ {قَالَ أَنَا
(8/351)
يُوسُفُ} [يوسف: 90].
ونظير هذا: إنك أنت فلان؟ فيقول: نعم أنا فلانٌ.
وهذه فوائد لم تكن تحصل بدون إدخال هذا الفصل، والله سبحانه وتبارك وتعالى أعلم.
وأما قوله تبارك وتعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35]، فأعاد أنكم.
فقد قيل: أصلُ الكلامِ: أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم وكنتم ترابًا وعظامًا.
فإنه لو قال: أيعدكم أنكم إذا كنتم ترابًا وعظامًا، لطال الفصل بين أنَّ واسمها وخبرها، فأعاد أنَّ لتقع على الخبر.
ونظير هذا قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا} [التوبة: 63]، لما طال الكلام أعاد أنَّ، هذا قول الزجاج وطائفة (1).
وأحسن من هذا أن يقال: إن كلَّ واحدٍ من هاتين الجملتين جملةٌ شرطيةٌ مركبةٌ من جملتين خبريتين (2)، فأكدت الجملة الشرطية بأنَّ،
_________
(1) انظر: كلام الزجاج في كتابه معاني القرآن (4/ 11).
(2) في مجموع الفتاوى (15/ 276): جزائيتين.
(8/352)
على حد تأكيدها في قول الشاعر:
إنَّ مَن يدخلِ الكنيسةَ يومًا … يَلْقَ فيها جآذرًا وظِباءَا (1)
ثم أكدت الجملة الخبرية (2) بأنَّ إذ هي المقصودة، على حدِّ تأكيدها في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].
ونظير الجمع بين تأكيد الجملة الكبرى المركبة من الشرط والجزاء قوله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، ولا يقال في هذا: «إنَّ» أعيدت لطول الكلام.
ونظيره قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [طه: 74].
ونظيره قوله تبارك وتعالى: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54]، فهما تأكيدان
_________
(1) البيت ينسب للأخطل في خزانة الأدب (1/ 457)، وشرح شواهد المغني (2/ 918)، وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب (1/ 158) وشرح المفصل (3/ 115) ومغني اللبيب (1/ 37).
(2) في مجموع الفتاوى: الجزائية.
(8/353)
مقصودان لمعنيين مختلفين، ألا ترى أنَّ تأكيد قوله تعالى: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} بأنَّ، غير تأكيد «من عمل سوء بجهالة فأنه غفور رحيم» له بأن، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به، وهو كثيرٌ في القرآن وكلام العرب.
وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147].
فهذا ليس من التكرار في شيء، فإنَّ «قولهم» خبر كان قدم على اسمها، و «أنْ قالوا» في تأويل المصدر، وهو الاسم، فهما اسم كان وخبرها، والمعنى: وما كان لهم قول إلا قول: ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
ونظير هذا قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [الأعراف: 82]، والجواب قول، وتقول: ما لفلانٍ قولٌ إلا قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فلا تكرار أصلًا.
وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم: 49]، فهي من أشكل ما أورد، ومما أعضل على الناس فهمها.
فقال كثير من أهل الإعراب والتفسير: إنه على التكرير المحض والتأكيد.
(8/354)
قال الزمخشري (1): «{مِنْ قَبْلِهِ} من باب التكرير والتأكيد، كقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر: 17]، ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أنَّ عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم (2) بذلك».
هذا كلامه، وقد اشتمل على دعويين باطلتين:
إحداهما: قوله: إنه من باب التكرير.
والثانية: تمثيله ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا}.
فإنَّ «في» الأولى هي على حد قولك: أزيد (3) في الدار؟ أي: حاصل أو كائن.
وأما «في» [الثانية] فمعمولةٌ للخلود، وهو معنى آخر غير معنى مجرد الكون، فلما اختلف العاملان ذُكِرَ الحرفان، فلو اقتصر على أحدهما كان من باب الحذف لدلالة الآخر عليه، ومثل هذا لا يقال له تكرار.
ونظير هذا أنْ تقول: زيد في الدار نائم فيها، أو ساكن فيها، ونحوه مما هو جملتان مفيدتان لمعنيين.
_________
(1) الكشاف (3/ 207).
(2) في الأصل: «اهتمامهم». والتصويب من الكشاف.
(3) في مجموع الفتاوى بدون همزة الاستفهام.
(8/355)
وأما قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ}، فليس من التكرار، بل تحته معنى دقيق، والمعنى فيه: وإنْ كانوا من قبل أنْ ينزل عليهم الودق من قبل هذا النزول لمبلسين، فهاهنا قبليتان: قبلية لنزوله مطلقًا، وقبلية لذلك النزول المعين أنْ لا يكون متقدمًا على ذلك الوقت، فيئسوا قبل نزوله يأسين: يأسًا لعدمه، ويأسًا لتأخره عن وقته، فقبل الأولى ظرف لليأس، وقبل الثانية ظرف للمجيء والإنزال.
ففي هذه الآية ظرفان معمولان وفعلان مختلفان عاملان فيهما، وهما الإنزال والإبلاس، فأحد الظرفين متعلق بالإبلاس، والثاني متعلق بالنزول.
وتمثيل هذا أنْ تقول إذا كنت مؤملًا للعطاء من شخص في وقتٍ، فتأخر عن ذلك الوقت، ثم أتاك به: قد كنتُ يائسًا من قبل أنْ تجيئني بهذا من قبل، أي: أيستُ من قبل مجيئك بهذا قبل هذا الوقت.
فقبل الأولى ظرف لليأس، و قبل الثانية ظرف للوقت، كما أنك لو وضعت موضع قبل الثانية غيرها وجدتها غير متكرر، فإذا قلت: قد كنت آيسًا قبل أن تأتيني بهذا أمس، أكان تكرارًا؟ فمن قبله كان كأمس. ولو قلت: وإنْ كانوا من قبل أنْ ينزل عليهم قبل وقت نزوله لمبلسين، لما كان تكرارًا؛ لاختلاف الآية. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما قوله سبحانه وتعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34، 35]، فهذا ليس من باب التكرار، بل هو وعيدٌ ودعاءٌ، يعني: قرب
(8/356)
منك ما يهلك قربًا بعد قرب، كما تقول: غفر الله ثم غفر الله لك، أي: غفر لك مغفرة بعد مغفرة، فليس هذا بتكرار محض، ولا من باب التأكيد اللفظي، بل هو تعدد الطلب لتعدد المطلوب، ونظيره: اضربه ثم اضربه.
وأما قوله سبحانه وتعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]، [فليس] من التكرار؛ لاختلاف مقصود الفعلين، فإنَّ الأول منهما دعاء يراد به الإنشاء، والثاني خبر، أي: تبت يدا أبي لهب وقد تبّ.
قال الفراء (1): «كما تقول: أهلكه الله وقد هلك».
وقال مقاتل (2): «خسرت يداه بترك الإيمان وخسر هو».
وأما قوله سبحانه وتعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13]، فتعديد ذلك في مقابلة تعديد الآلاء (3).
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15]، فهي مع كل آية كأنها مع سورة مفردة، فلا تكرار، والله تعالى أعلم.
وأما قوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل: 10]، وقوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
_________
(1) في معاني القرآن له (3/ 398).
(2) رُوي نحوه عن قتادة، انظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 406) والطبري (14/ 715).
(3) انظر: تأويل مشكل القرآن (ص 239) والصناعتين (ص 144) وأمالي المرتضى (1/ 86).
(8/357)
مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، فكثير من النحاة يعتقدون أنَّ هذه حال مؤكدة، ويقسم الحال إلى ثلاثة أقسام: مؤكدة، ومثنية، ومقدرة، ويجعل «ولَّى مدبرًا» من الحال المؤكدة.
وهذا غلط، فإنَّ الحال المؤكدة مفهومها مفهوم عاملها، وليس كذلك التولية والإدبار، فإنَّهما بمعنيين مختلفين، فالتولية أن يولِّي الشيءَ ظهرَه، والإدبار أنْ يهرب منه، فما كل مولٍّ مدبرًا، وكل مدبر مولٍّ، ألا ترى أنك إذا قلت: ولَّى ظهره وأدبر، لم يكن من باب قوله: «كذِبًا ومَيْنًا» (1).
ونظيره قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80]، فلو كان أصمَّ مقبلًا لم يسمع، فإذا ولَّى ظهره كان أبعد من السماع، فإذا أدبر مع ذلك كان أشد لبعده عن السماع.
وقوله تعالى: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10]، إشارة إلى استقراره في الهرب وعدم رجوعه يقال: عقَّب فلان، إذا رجع، وكل راجع معقّب، وأهل التفسير يقولون: لم يقف ولم يلتفت، وعلى كل حال فليس هنا
_________
(1) هذا جزء من بيت شعر، تمامه:
وقدَّدَتِ الأديمَ لراهِشَيْهِ … فألفى قولَها كذبًا ومَيْنَا
وهو لعدي بن زيد العبادي في الشعر والشعراء (1/ 233) وجمهرة اللغة (ص 993)، ولسان العرب (مين) وشرح شواهد المغني (2/ 776).
(8/358)
تكرار أصلًا، بل لكل لفظ فائدة. والله سبحانه وتبارك وتعالى أعلم، وصلّى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
(آخر الفائدة الجليلة رحم الله مصنفها وكاتبها ومالكها، والحمد لله رب العالمين، تم بحول الله وإحسانه).
(8/359)
فصل
في توبة قوم يونس
(8/361)
فصل
في توبة قوم يونس
هل هي مختصة بالقبول دون سائر من يتوب كما تابوا؟
وفي ذلك للناس قولان:
قال كثير من المفسرين (1) ــ وربما قيل: قال أكثر المفسرين ــ: إن الله تابَ عليهم بعد معاينة بأسِه، وخصَّهم بقبول التوبة في هذه الحال دونَ سائرِ الأمم، واستثناهم من الأمم بقوله: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]، قالوا: وكَشْفُ العذاب لا يكون إلا بعدَ معاينتِه، وذكروا قولين: هل رأوا العذابَ أو دليلَ العذاب؟
قالوا: قال أكثر المفسرين: رأوا نفس العذاب بدليل قوله: {لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
وقالت طائفة: رأوا دليلَ العذاب؛ لأن التوبة بعد معاينته لا تُقبل، ولا فرقَ في ذلك بين أمّةٍ وأمّة، بل هذا حكم عام.
_________
(1) انظر: تفسير الطبري (12/ 291) وابن كثير (4/ 1773) والدر المنثور (7/ 707) والقرطبي (8/ 383) وزاد المسير (4/ 64) ومفاتيح الغيب (17/ 171) وغيرها.
(8/363)
وهذا القول يوافق قولَ من يقول: ليسوا مخصوصين بقبول التوبة، بل كل من تابَ كما تابوا قَبِلَ اللَّهُ توبتَه. وهو القول الثاني، وهو الصواب؛ لأن الله سبحانه قال: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 84 – 85]، فأخبر سبحانه أن هذه سنته، وسنته سبحانه لن تجد لها تبديلًا ولن تجد لها تحويلًا، كما قال: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].
وأيضًا فإنه قال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]. وهذا نفيٌ عامّ، ولو كان أحد مستثنًى من هذا العموم لكانت أمة محمد أحقَّ بالاستثناء من قوم يونس، فإنهم أكرم الأمم على الله، ونبيُّهم نبيّ الرحمة ونبيّ التوبة، وقد وسَّع الله لهم في التوبة ما لم يُوسِّعْه لبني إسرائيل مع كرامة أولئك على الله. وهاتان الأمتان قد فضَّلهما اللهُ على العالمين، فإذا لم يقبل توبة أحدهم إذا حضره الموت فكيف يقبل توبة قوم يونس؟
وأيضًا فإن الله حكيم عدلٌ، لا يُفرِّق بين المتماثلات ولا يُسوِّي بين المختلفات، فلا يُفرِّق بين توبة قوم يونس وغيرهم إلا لافتراقِ العملَينِ، وإلا فمن تابَ مثلَ ما تابوا فحكمهُ حكمُهم، وهم إذا تابوا بعد رؤية البأس فهم كغيرهم.
(8/364)
وأيضًا فقد قال موسى في دعائه على قوم فرعون: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] قال الله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89]. ولم يؤمن فرعون حتى أدركَه الغرقُ فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، قال الله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]. فدعاءُ موسى هذا الدعاءَ دليلٌ على أنه قد علم حينئذٍ أن التوبة لا تنفعُ، ولو جاز أن يُخَصَّ من هذا أحدٌ جَوَّز موسى أن تُقبَل توبة فرعون حينئذٍ كما قُبِلتْ توبةُ قوم يونس، فعُلِم أنه كان مستقرًّا عند موسى أن هذا حكمٌ عامٌّ.
وأما ما احتجُّوا به من أن الله كشفَ عنهم العذابَ لما تابوا فهو حقٌّ كما أخبر الله، وسواء كانوا قد رأوا العذابَ أو لم يَرَوه، فإن العذاب نوعان: عذابٌ يتيقن معه الموت، وعذاب لا يتيقن معه الموت، فهذا الثاني عذابٌ أيضًا، ومن تاب كشفَ الله عنه العذابَ، بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ
(8/365)
عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 130 – 136]. وقال تعالى: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الزخرف: 49 – 50].
فقد أخبر أنه كشفَ العذابَ عن قومِ فرعونَ.
وعذابُ الله ثلاثة أنواع:
نوع يكون في الدنيا قبلَ الموت، فهذا يقبل الله توبةَ من تابَ بعدَ معاينته، ويكشفه عنه.
وعذاب يكون بالهلاك عند المعاينة، فهذا لا كرَّةَ فيه، ولا تُقبَل توبتُه بعد معاينته.
وكذلك عذاب يوم القيامة، فإن الموت هو القيامة الصغرى، قال المغيرة بن شعبة: إنكم تقولون: القيامة القيامة، وإنه من مات فقد قامتْ قيامتُه. وشهِدَ علقمةُ بن قيس صاحبُ ابن مسعود جنازةً، فلما دُفِنَ قال: أما هذا فقد قامتْ قيامتُه (1).
وهذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين
_________
(1) ذكر السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 428) هذين الأثرين، وعزاهما للطبراني.
(8/366)
وأهل السنة، الذين يُثبِتونَ في البرزخ بعدَ الموتِ وقبلَ قيامِ الناس من قبورِهم عذابًا ونعيمًا. وطائفة من أهل البدع تُنكِر هذا ويُنكِرون عذابَ القبر، فهؤلاء ليس عندهم جزاءٌ إلا في القيامة الكبرى. وبإزاء هؤلاء كثير من المتفلسفة والملاحدة الباطنية ومن وافقهم يُثبِتون القيامة الصغرى، وهو معادُ النفس إذا فارقت البدنَ، وليس عندهم قيامة كبرى يقوم الناس عنها من قبورهم، وإنما يُثبِتون تغيُّرَ العالم السُّفلِيّ من حالٍ إلى حال. وهذه القيامة الوسطى التي ذكرها النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «إن يَستنفِدْ هذا الغلامُ أجلَه لن يُدرِكَه الهَرَمُ حتى تقوم الساعةُ» (1). يُريد به انخرامَ ذلك القرن، هكذا جاء مبينًا في الأحاديث الصحيحة.
وعذاب الله هو في هذه القيامات الثلاث، يُعذِّب من يشاء بعدَ الموتِ ويُعذِّب كثيرًا من الأمم بهلاكهم جميعًا، كما أهلك قومَ نوح وعادًا وثمودَ وغيرهم. وكذلك يُزيلُ الدُّوَل، وقد قال: «إذا رأيتَ الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعاءَ البَهْمِ يتطاولون في البنيان، فذلك من أشراطها» (2).
والقيامة الكبرى إذا قامَ الناس من القبور، وانشقَّتِ السماءُ وبُسَّتِ الجبالُ، وكان ما أخبر الله به في كتابه. والوعيد في القرآن يتناول هذا وهذا وهذا، والمفسرون يذكرون الأمور الثلاثة.
ومما يبيِّن ذلك قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا
_________
(1) أخرجه البخاري (6167) ومسلم (2953) عن أنس.
(2) أخرجه البخاري (50) ومسلم (10) عن أبي هريرة، ومسلم (8) عن عمر بن الخطاب.
(8/367)
يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]. فدلَّ ذلك على أنه بعد أن يُصيبَ الإنسانَ العذابُ تُقبَل منه الاستكانةُ والتضرعُ، كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94]، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 – 41]. فهذا يُبيِّن أنه قد يكشف العذاب الذي دَعَوا الله إليه، كما قال: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8].
ومما يبيِّن ذلك قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]، فأخبر أنه يُذِيق الناس العذابَ الأدنى في الدنيا لعلهم يتوبون، وذلك أن التوبة ترفعُ العذاب الأدنى عن جميع الناس. وقال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]، وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وإذا كان القرآن قد فرَّق بين العذاب الذي يستعقبه الموتُ وبين
(8/368)
غيره وجبَ الفرقُ، والمريض تُقبل توبتُه ما لم يُغرْغِر (1) ويُعايِنْ ملك الموت، وإن كان مرضه مخوفًا. فقوم يونس إنما أخبر الله عنهم أنهم لما آمنوا كشف عنهم عذابَ الخِزي في الحياة الدنيا، فبيَّن أن العذاب المكشوف كان مما يُعذَّب به في الحياة الدنيا لم يكن هو العذاب الموجب للهلاك، ولو لم يفسّر ذلك فلفظ العذاب مجمل، والقرآن قد فرَّقَ بين النوعين، فلا يجوز حملُ هذا العذاب على العذاب الموجب للموت الذي لا يقبل معه توبة، فإنّ في هذا مخالفةً لسائرِ آيات القرآن ولحكمةِ الربّ وعدلِه بلا دليلٍ؛ إذ كان اللفظ المجمل لا يعين أحد النوعين، فكيف إذا كان معه ما يقتضي التعيين أنه كان العذاب الأدنى، وإن كانوا قد عاينوه وأصابهم، فالتوبة بعد هذا العذاب مقبولة، فقد أصابَ قومَ فرعون من أنواع العذاب ما ذكره الله، ومع هذا فقد كان يقبل توبتهم لو تابوا ووعدوا بالإرسال، فلما كشف عنهم العذاب نقضوا عهدهم.
وما رُوِي أنه غشِيَهم العذابُ كالغمام الأسود واسودَّتْ أَسْطِحَتُهم (2) ونحو ذلك الله أعلم بثبوته، فإن هذا لم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وأكثر ذلك إنما يأخذه المسلمون عن أهل الكتاب، وقد نهانا النبي – صلى الله عليه وسلم – أن نصدِّقهم أو نكذِّبهم. لكن مثل هذا العذاب قد يكون تهديدًا: إن
_________
(1) كما في حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد (6160) والترمذي (3537) وابن ماجه (4253). وإسناده حسن.
(2) انظر: زاد المسير (4/ 65) والدر المنثور (7/ 707 وما بعدها).
(8/369)
تبتم وإلا أصابكم كنَتْقِ الجبل فوق بني إسرائيل، وهذا من أعظم الآيات. قيل لهم: إن أخذتم التوراة وإلّا أطبقناه.
ومما يبيِّن ذلك أن القوم لم يَطُلْ مقامُ يونسَ عندهم، بل حين كذَّبوه وعدَهم بالعذاب كما نقله هؤلاء، ومثل هذا يكون عذابَ تهديد، كما قد يُصيبُ الناسَ من الجدب والجوع ما هو أعظمُ من ذلك، ويُصيبُهم من الوباء والطاعون ما يُصيبهم، والذين عبدوا العجلَ أمرهم الله بقتلِ بعضهم بعضًا وقَبِلَ توبتَهم، ثم بعثَهم من بعد موتهم لعلهم يشكرون. وإنما الذي لا يقبل معه توبة ما يقترن به الموتُ كغرقِ فرعون ونحوه.
وأما استثناء الله قومَ يونس فهو حجة في المسألة، فإنّ الله قال: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [يونس: 98]، وقوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} استثناء منقطع، وهم قد سلموا أنه منقطع، ودليل ذلك أنه منصوب، ولو كان مثبتًا لكان مرفوعًا في اللغة المشهورة، كما في قوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، فلما قال: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} كان منقطعًا، كالاستثناء في قوله: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116]، فإنه منقطع. وكذلك أهل العربية والتفسير قالوا (1): هو استثناء منقطع، والمعنى: لكن قليل ممن أنجينا
_________
(1) انظر: زاد المسير (4/ 170) وتفسير القرطبي (9/ 113).
(8/370)
منهم من نهى عن الفساد. وقال مقاتل (1): لم يكن من القرون من ينهى عن المعاصي والشرك، إلا قليلًا ممن أنجينا من العذاب مع الرسل.
ومما يُبيِّن ذلك أن قوله: {فَلَوْلَا} بمعنى فهلَّا، وهي كلمة تحضيضٍ على المذكور وذمٍّ لمن لم يفعله (2)، والمعنى: فهلَّا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها؟ كما قال: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود: 116]، أي لِمَ لا كان فيهم مَنْ ينهى وفي القرى مَن آمن فنفعه إيمانُه؟ وهذا يقتضي أن أهل القرى لو آمنوا لنفعهم إيمانهم كما نفعَ قومَ يونس، لكن لم يؤمنوا. وعلى ما قاله المنازعون يكون معنى الآية: ما آمنت قرية فنفعَها إيمانُها إلا قوم يونس، أو ما آمن أحدٌ عند رؤية العذاب فنفعَه إيمانُه إلا قوم يونس. فبهذا فسَّروا القرآن، وليس هذا مراد الله، فإن الله لم يخبرنا أن غير قوم يونس آمنوا وما نفعَهم إيمانهم، وأن الإيمان لم ينفع إلا قومَ يونس. بل مقصوده أنه لم يؤمنْ وينتفعْ بإيمانه من أهل القرى إلا قومُ يونس.
وأيضًا فإن هذا المعنى يقال فيه: فما قرية آمنت فنفعَها إيمانُها إلا قومَ يونس بصيغة النفي والسلب، لا يقال: فهلَّا كانت قرية آمنت بصيغة التحضيض والطلب والاستدعاء والتوبيخ والملام على ترك الإيمان،
_________
(1) كما في زاد المسير (4/ 171).
(2) انظر: مغني اللبيب (ص 303) والكتب الأخرى في حروف المعاني. وهو أحد وجوه «لولا» الأربعة.
(8/371)
فإن هذه الصيغة أصل وضعها هو للتحضيض لا للنفي، ولهذا قد يُفعل المحضوضُ عليه بعد التحضيض، كما يُفعل بعد الأمر، كما قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ} [محمد: 20]، ثم قال: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 20]، فأين هذا من هذا؟ أين إخبارُه بأنهم آمنوا ولم ينفعهم إيمانُهم من كونه وبَّخهم وذمَّهم على أنهم لم يؤمنوا فينتفعوا بالإيمان؟
ولهذا كان الاستثناء بعده منقطعًا، ولو كان نفيًا وسلبًا لكان الاستثناء معه متصلًا، كقوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، فلما قُطِع الاستثناء ونُصِب المستثنَى عُلِمَ أنه استثناء من نفيٍ وسلبٍ، لكن الكلام تحضيض، فلو اتصل الاستثناء لكان المعنى تحضيضهم على الإيمان إلا قوم يونس، وتحضيضهم على النهي عن الفساد إلا القليل. وهذا يوجب قلبَ المعنى، فإن الله يحضُّ الجميع على الإيمان وعلى النهي عن الفساد، لكن لما ذكر صيغة للحضّ العام بيَّن أن هؤلاء وهؤلاء فعلوا ما حُضُّوا عليه، فلا يتناولهم الذمُّ، فإن الاستثناء المنقطع قد يكون من الجنس المشترك بين المستثنَى والمستثنى منه، كما في قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]، فاتباع الظن مستثنًى من المعنى العام المشترك بين العلم والظن، وهو الاعتقاد، فإنه لما قال: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} بقيت النفس تطلب: فهل عندهم شيء من الاعتقاد؟
(8/372)
فيقال: ما عندهم إلا اتباع الظن.
وكذلك قوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]، فإنه استثناء من المعنى المشترك بين الجنة والدنيا، فلما قال: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} بقيت النفس تطلب: هل ذاقوه في غيرها؟ فقال: لم يذوقوا إلا الموتة الأولى. وكذلك نظائره.
وقد يكون أخصَّ من المستثنى منه، فلما قال: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116] و {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس: 98] كان هذا تحضيضًا للجميع، والتحضيض أمر مؤكد يقتضي ذمَّ مَنْ لم يفعل المأمور وعقابَه، ونفسُ الحضّ والأمر لا يستلزم الخبر، فإن المأمور لم يَفعل ما أُمِر به، بل قد يفعله وقد لا يفعله، وإذا لم يفعله استحقَّ الذمَّ والتوبيخ. وقد يكون في المحضوضين مَن فعلَ، فلما ذكر التحضيض والفاعل مستثنى من التوبيخ لا مستثنى من الحضّ، فلو قال: {إِلَّا قَلِيلٌ} و {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} لكان هذا استثناءً من التحضيض، وليس كذلك، وإنما هو استثناء من أخص منه وهو التوبيخ ونفي الفعل، فإنه لما حضّ الجميع كأنه قيل: فكلُّهم لم يُنْهَ، وكلُّهم يستحقون الذمَّ والتوبيخ، فيقال: نعم إلا قوم يونس، وإلا قليلًا.
ومما يبيِّن أن مثل هذا التحضيض لا يستلزم النفي عن الجميع قولُه: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ
(8/373)
عَظِيمٌ} [النور: 16]، وقوله: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]. وقد كان من المؤمنين من قال لما سمعه: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم. وكثير منهم أو أكثرهم ظنَّ بعائشة خيرًا، مثل أسامة بن زيد وجاريتها وغيرهما ممن زكَّاها وبرَّأها. فعُلِم أن التحضيض لا يستلزم النفي العام.
فلهذا كان قوله: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116] التحضيض فيه عام لم يُستثنَ منه أحد، فلم يكن الاستثناء متصلًا، ولكن الاستثناء وقعَ من ترك المحضوض عليه ولوازم الترك، من الذم والتوبيخ، وهذا الترك قد كان في أكثر المحضوضين، وقد صار يُفهم منه أن هذه الصيغة لم تُستعمل إلا إذا حصل تركٌ من جميع المحضوضين أو من بعضهم. فإذا فرَّ الجيشُ مثلًا قيل: هلَّا ثَبتُّم؟! وإذا فرَّ الأكثر قيل: يستحقون العقوبة إلَّا فلانًا، ولا يقال: هلَّا ثبتُّم إلَّا فلان؟! فإنه تحضيض على الثبات إلَّا لفلانٍ، وهذا ليس بمرادٍ، بل هو مستثنًى من الترك وسلبِ الفعل والذمّ والعقاب، لا من شمولِ الطلبِ والحضِّ له. والله أعلم.
ثم يقال: هو مستثنًى من القدر المشترك بين أنواع الحضّ والأمر، حضٌّ وأمرٌ لمن فعلَ ولمن ترك. وقد يقال مستثنى مما هو أخصُّ من الحضِّ، وهو الترك والذمّ، وكلا الأمرين واحدٌ. والله أعلم.
ومثل هذا قوله: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود: 81]
(8/374)
فمن رفعَ جعلها مستثناةً من النهي، فلم تُنهَ عن الالتفات لأنها من المعذبين. ومن نصبَه جعلَه منقطعًا، فإنه لما نهاهم عن الالتفات، والالتفات مُوجب للعقوبة، فقد يكون منهم من لا يطيع فيُعاقَب، ومنهم من لا يُعاقَب، فكأنه قال: فهل تُطيع وتسلِّم؟ فقال: نعم إلا امرأتك. وقيل: إنها استثناء من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}، وقد ذكروا الوجهين في قراءة النصب، وهي قراءة نافع وغيره.
قال ابن الأنباري (1): على قراءة نافع يكون الاستثناء منقطعًا، معناه: لكن امرأتك فإنها تلتفتُ، فيُصيبها ما أصابهم. فإذا كان الاستثناء منقطعًا كان التفاتُها معصية لربِّها؛ لأنه نَدبَ إلى ترك الالتفات.
وقال الزجاج (2): من قرأ بالنصب فالمعنى: فأسْرِ بأهلك إلا امرأتك. ومن قرأ بالرفع حمله: ولا يلتفتُ منكم أحد إلا امرأتك، وإنما أُمِروا بترك الالتفات لئلا يروا عظيمَ ما نزلَ بهم من العذاب.
فإن قيل: فإذا جعل الاستثناء منقطعًا تكون منهيَّةً عن الالتفات، وعلى قراءة نافعٍ ليست منهيةً، والقراءتانِ لا تتناقضان.
قيل: الالتفات نوعان: نوع يكون مع محبة المعذبين، كالتفاتها. ونوع يكون مع بُغضِهم، كالتفاتِ لوطٍ لو التفتَ.
_________
(1) نقل عنه ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 142).
(2) في معاني القرآن له (3/ 69، 70).
(8/375)
فنُهوا عن الالتفات لئلا يروا عظيمَ العذاب، فيحصل لهم روعٌ وفزعٌ. فكلهم منهيُّون عن النوع الأول، وهي عاصية التفتتْ التفاتَ محبة، فكان الاستثناء في حقّها منقطعًا. وأما الثاني فهم نُهُوا عنه، وهي لم تُنْهَ عن هذا الالتفات الذي هو مع البغض، ليَسلَمَ صاحبُه من الفزع والروع، بل لو التفتتْ مع البغض لم تكن عاصيةً وإن حصلَ لها روعٌ، ولكن لما التفتتْ وهي مُحِبّةٌ لهم على دينهم ــ والمرء على دين خليله ــ أصابها ما أصابَهم، لمشاركتها لهم في الذنب، لا لمجرد الالتفات لو خلا عن دين القوم. ولهذا لو التفتَ لوطٌ أو إحدى ابنتيهِ لم يُصِبه ما أصابهم. فهذا من دقائق معاني القرآن.
وقد ذكر ابن الجوزي القولين، قال (1):
فإن قيل: [كيف] كُشِف العذابُ عن قومِ يونس بعد إتيانه إليهم، ولم يُكشَف عن فرعونَ حين آمن؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن ذلك كان خاصًّا لهم، كما ذكرنا في أول الآية.
والثاني: أن فرعون باشره العذابُ، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم، فكانوا كالمريض يخاف الموتَ ويرجو العافيةَ، فأما الذي يُعاين فلا توبة له. ذكره الزجاج (2).
والثالث: أن الله علم فيهم صدقَ النيات، بخلاف من تقدمَهم من
_________
(1) زاد المسير (4/ 66، 67). وما بين المعكوفتين منه.
(2) في معاني القرآن (3/ 34).
(8/376)
الهالكين. ذكره ابن الأنباري.
قلت: هذا القول معناه: أن هؤلاء تابوا، وغيرهملم يتبْ، ولو تابَ قُبِلتْ توبتُه. وهذا إنما يكون قبل المعاينة.
وقد ذكر في الكلام هل هو نفيٌ أو تحضيضٌ قولين، فقال (1):
وفي {لَوْلَا} قولان:
أحدهما: أنها بمعنى لم تكن قرية آمنتْ فنفعَها إيمانُها ــ أي قُبِل منها ــ إلا قوم يونس. قاله ابن عباس (2).
وقال قتادة (3): لم يكن هذا لأمةٍ آمنتْ عند نزول العذاب إلا لقوم يونس.
_________
(1) أي ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 64 – 65).
(2) انظر: تفسير الطبري (12/ 292، 293).
(3) تفسير الطبري (12/ 293).
(8/377)
والثاني: أنها بمعنى هلَّا. قاله أبو عبيدة (1)، وابن قتيبة (2)، والزجاج. قال الزجاج (3): المعنى: فهلَّا كانت قرية آمنتْ في وقتٍ ينفعها إيمانُها إلا قوم يونس. و {إِلَّا} ههنا استثناء ليس من الأول، كأنه قال: لكن قوم يونس.
وقال الفراء (4): نصب القوم على الانقطاع مما قبله، ألا ترى أن ما بعد {إِلَّا} في الجحد يتبع ما قبلها. تقول: ما قام أحدٌ إلَّا أخوك، فإذا قلتَ: ما فيها أحدٌ إلا كلبًا أو حمارًا نصبْتَ؛ لانقطاعهم من الجنس. كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء، ولو كان الاستثناء وقعَ على طائفة منهم لكان رفعًا (5).
قلت: هذا قول أئمة العربية، وهذا مما يُعلَم بالاضطرار من لغة العرب التي بها نزل القرآنُ. {وَلَوْلَا} تارةً يليها الاسم، كقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}، فيكون حرف امتناع. وتارةً يليها الفعل، كقوله: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}. فيكون حرفَ تحضيضٍ، وهو يتضمن النفي. فالنفي لازمٌ لها، لا أنها بمعنى «لم تكن».
والمفسرون من السلف يُفسِّرون المعنى، لا يتكلمون في دلالة العربية؛ لأن العربية عادتهم وطبعُهم، لا يحتاجون فيها إلى مقاييس النحاة. وابن عباس ذكر أن الآية دلَّتْ على أنه لم تكن أمةٌ آمنتْ فنفعَها إيمانُها إلَّا قوم يونس. وهذا حق، والاستثناء المنقطع يدل عليه. لم يقل: إنها بمعنى: لم تكن. وكذا قتادة ظنَّ أن المراد أن الإيمان نفعَهم ولم ينفع غيرَهم. وليس كذلك، بل غيرهم لم يؤمن إيمانًا ينفعه، وهؤلاء آمنوا إيمانًا ينفعهم، كانوا صادقين وآمنوا قبل حضور الموت، وغيرهم
_________
(1) مجاز القرآن (1/ 284).
(2) تفسير غريب القرآن (ص 200).
(3) معاني القرآن (3/ 34).
(4) معاني القرآن (1/ 479).
(5) إلى هنا انتهى النقل عن زاد المسير.
(8/378)
إما أن يكون كاذبًا في إيمانه كقوم فرعون، وإما أن يؤمن بعد حضور الموت، كالذين قال تعالى فيهم: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85]، والذين قال فيهم: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 5]، وقوله: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 12 – 15]، فهؤلاء لم يؤمنوا. وكذلك قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]، فهؤلاء إما أنهم لم يتوبوا أو حضر الموتُ الذي لا يندفع.
وقد ذكر ابن الأنباري (1) في الآية قولين آخرين فاسدين:
أحدهما: أن {إِلَّا} بمعنى الواو، فالمعنى: وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا. قال: وهذا مروي عن أبي عبيدة (2)، والفراءُ (3) ينكره.
والثاني: أن الاستثناء من الآية التي قبلها، تقديره: حتى يروا العذاب الأليم إلَّا قوم يونس. والاستثناء على هذا متصل غير منقطع.
_________
(1) نقل عنه ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 65).
(2) مجاز القرآن (1/ 282).
(3) مجاز القرآن (1/ 489).
(8/379)
قلت: هذا في غاية الفساد، فإن ذاك من كلام موسى، قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]، وهو دعاء على آل فرعون، كما قال: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية [يونس: 88]. ولم يَستثنِ موسى من هؤلاء أحدًا، وقوم يونس ليسوا من قوم فرعون، فأين هذا من هذا؟
والأول أيضًا في غاية الفساد، فإنّ جَعْلَ {إِلَّا} المُخرِجة بمعنى الواو الجامعة استعمالٌ للفظ في نقيض معناه، وهذا فاسدٌ. وأبو عبيدة له من هذا الجنس أقوال فاسدة، وهذا مما يعلم أئمة النحاة أنه منكر، فالبصريون كلهم ينكرون ذلك، وقد أنكره الفراء وغيره من الكوفيين. وقد ذكر نحو هذا في قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] (1)، وهو فاسد من وجوه متعددة. والله أعلم.
فصل
وقد دلت الآية على أن كل من آمن وتاب بعد نزول العذاب نفعَه إيمانُه، وأما من لم يتب أو تاب توبةً كاذبةً فهذا لا ينفعه. وأما التوبة عند
_________
(1) كلام أبي عبيدة على هذه الآية وأن {إِلَّا} هنا بمعنى الواو في مجاز القرآن (1/ 60). وردّ عليه الطبري في تفسيره (2/ 688).
(8/380)
حضور الموت فهي كالتوبة يوم القيامة، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]، وقال: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: 86 – 91]. وقد فسّروا ازديادهم كفرًا بأنهم أصرُّوا عليه إلى الموت، فلن تُقبل توبتُهم عند الموت، وذلك ــ والله أعلم ــ لأنه حين الموت وقع مبادئ الجزاء، فلم يكن ثمَّ زمنٌ يتسع لأنْ يرجعوا عن السيئات، فتنقص أو تذهب، بل حصلت بالإصرار في زيادة بلا نقصان. ولو تاب أحدهم قبل الموت لم يكونوا قد ازدادوا كفرًا، بل ذهب الأصل والزيادة، فإنهم بدَّلوا السيئات بالحسنات، وأما عند الموت فقد ازدادوا بالإصرار، ولم يكن هناك وقت يذهب، لا هذا ولا هذا.
فقوله: {ثُمَّ ازْدَادُوا} في معنى قوله: واستمروا على كفرهم وأصرّوا على كفرهم، ونظيرها قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ
(8/381)
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137]، فهنا قال: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}، وهناك قال: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، فإنه لو آمن ثم كفر ثم آمن وتاب من رِدَّته قُبِلتْ توبتُه كما تقدَّم، فإن كَفَر وارتدَّ مرةً ثانيةً حَبِطَ الإيمان الذي غُفِر به ذلك الكفر، فيبقى عليه إثم الكفر الأول والثاني، فإذا ازداد كفرًا فأصرَّ إلى الموت لم يُغفَرْ له. وقد ذكر في أول السورة الذي ازداد كفرًا بعد الكفر الأول، فذكر الكفر الأول والمكرر إذا حصل معهما ازدياد، ولما قال هناك: لم تُقبل توبتُهم عند الموت كان هذا تنبيهًا على أن الثاني لا تُقبل توبتُه بطريق الأولى. ولما ذكر في الثاني أنهم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا، كان مفهومه أنهم لو تابوا قبل الارتداد لَقُبِلَتْ توبتهم وإن كرروا الكفر. فدلَّ على أن قوله في الأولى: {ازْدَادُوا} أراد به الإصرار، فإنه لو لم يرد به الإصرار لكان من كفر بعد إيمانه وبقي مدةً ثم تابَ لم تُقبل توبتُه، وهذا خلاف قوله قبل ذلك: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 89]، وخلاف مفهوم آية التكرير، ولو كان كل مرتد بقي مدةً لا تُقبَل توبتُه لم يحتج إلى التكرير.
فإن قيل: ازدياد الكفر أن يأتي مع الردّة بزيادة في الكفر يغلظ به الكفر، فتكون رِدَّتُه مغلَّظةً، كردّة مِقيَس بن صُبابة وعبد الله بن خَطَل
(8/382)
اللذين (1) أُهدِر دمُهما يوم الفتح.
قيل: هذا من مسائل الاجتهاد، والكلام فيه مبسوط في غير هذا الموضع. والذين أتاهم العذابُ وبقي زمنًا حتى ماتوا، كقوم نوح لما شرع الماء يزيد لو تابوا كما تاب قوم يونس لقَبِلَ الله توبتَهم، لكن لم يتوبوا. وكذلك قوم عادٍ لما رأوا السحابَ فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]، فهبَّت الريح سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام حُسومًا، لم يتوبوا. وكذلك قوم صالح لما عقروا الناقة قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] لم يتوبوا.
فإن قيل: فقد قال: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء: 157 – 158].
قيل: وقد قال عن أحد ابنَي آدم: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31]، ولم يكن هذا ندمَ توبة، كذلك أولئك قالوا: وقد يقال: كانوا موعودين بالعذاب إذا عقروها، وعذاب الدنيا لا يندفع بمثل هذه التوبة، فإن قوم موسى لما تابوا من عبادة العجل كانت توبتهم بقتل خلقٍ كثير منهم. وكذلك لما سألوا الرؤية جهرةً فأخذتهم الصاعقة وهم لم يتوبوا إلّا خوفًا من عذاب الدنيا.
أو يقال: كانت توبتهم من جنس توبة آل فرعون، إذا جاءهم العذاب
_________
(1) في الأصل: الذي الخطل.
(8/383)
تابوا، فإذا رُفِع نكثوا التوبة. فقوله: {نَادِمِينَ} لا يدل على توبة صادقة ثابتة.
وكذلك قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 11 – 15]. فهو لم يذكر عنهم توبة، ولكن إخبارهم بأنهم ظالمون، والكفار والعصاة معترفون أنهم ظالمون مع الإصرار، وإبليس معترف أنه عاصٍ لربه مع إصرارِه، وفرعون كان يعلم أن موسى صادق مع إصراره، ومجرد العلم بأنه مذنب ليس توبة، إنما التوبة رجوع القلب عن الذنب إلى الله تعالى وطاعتُه.
وكذلك قوم شعيب لما أخذتْهم الظُّلَّة لم يتوبوا، وكذلك قوم لوط لما جاءهم العذاب لم يتوبوا. والتوبة عند نزول العذاب كثيرًا ما تكون غير صادقة، بل يتوب إلى أن ينكشف، ثم يعود، كتوبة آل فرعون باللسان من غير عملٍ بموجبها، بل مع الكذب.
ولهذا لم يقبل أكثر العلماء توبةَ الزنديق في الظاهر؛ لأنه لا يُعلَم صدقُه، وهو ما زال يُظهِر الإيمان، فلم يجدِّد شيئًا يُعرَف به صدقُه، وهو منافق، ولم ينتهِ عن إظهار النفاق. وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا
(8/384)
يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 60 – 62]، ولو تاب قبل أن يؤخذَ، وأظهر التوبةَ بحيث تغيّر حاله وهجرَ ما كان عليه أولًا، قُبِلتْ توبتُه.
وكذلك أرجح القولين أن كل مَنْ تابَ قبلَ الرفع إلى الإمام لم يقم عليه [الحدّ]، ولو جاء إلى الإمام تائبًا فأقر لم تجب إقامة الحدّ عليه، فلا تجب إقامته على تائب. لكن مَن جاء مقرًّا وطلب من الإمام أن يُقيمه فله أن يقيمه، لأنه من تمام تطهيره، وللإمام أن يدفع مَن جاء مقرًّا تائبًا، بخلاف من أُخِذَ قهرًا واعترف بهذا ولم تظهر منه توبة، فقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] نص عام، ومَن جاء مقرًّا تائبًا فقد تابَ قبل القدرة عليه، فإن هذا قد ظهر صدقُه في توبته، بخلاف من قامت عليه البيّنةُ ثم تاب، أو أقرَّ بعد أن أخذوه، فإن هذا لا يُعرَف صحة توبته، ولو أُسقِط الحدُّ عن مثلِ هذا لأمكنَ كلَّ مجرمٍ أن يُظهِر مثلَ هذه التوبة.
وقد قال بعض العلماء عمّن تاب عند رؤية السيف، {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 84 – 85]، وهذا لأن هؤلاء قد يتوبون مثل توبة آل فرعون، وينقضون التوبة. أو يكون هذا العالم رأى معاينة القتل لم يتحتم مثل معاينة الملَك، ولكن هذا مثل من يُطعَنُ في جوفه ويجيئه
(8/385)
الموت، وهذا تُقبل توبتُه على الصحيح وتنفذ وصاياه، فإن عمر أوصى في هذه الحال، وغايته أنه أيقن بالموت بعد زمنٍ، وكلُّ أحدٍ يوقن بالموتِ بعد زمنٍ طويل أو قصير، إلا أن يقال: من هؤلاء من يضطرب عقلُه، فلا يمكنه توبة صحيحة، فإن التوبة لابد فيها من رجوع القلب إلى الله عما فعله من السيئات، وهذا قد لا يحصل في هذا الزمان مع تغير العقل.
ومن المذنبين من لا يتوب توبة صادقة بعد معاينة عذاب الآخرة، فكيف بعذاب الدنيا، بل يَعِد بالتوبة، فإذا أُطلِق عاد. قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27]. قال الله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 27]. فهؤلاء قد عاينوا العذابَ وتمنَّوا الردَّ، وقالوا: إنهم لا يكذبون بآيات ربهم ويكونون من المؤمنين، وقد كذَّبهم الله في ذلك فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
وهذا يُبيِّن أن قوله: {وَلَا نُكَذِّبَ} و {وَنَكُونَ} إخبارٌ منهم عن أنفسهم، وجواب تمنيهم ليس هو مما تمنَّوه، كأنهم قالوا: يا ليتنا نُردّ فنكون حينئذٍ مؤمنين لا مكذبين. وجواب النهي في لغة العرب يكون بالواو والفاء. فما كلُّ من ذكر أنه تائب عند معاينة العذاب يَصدُق في بقائه تائبًا، كآل فرعون، وهذا موجود في الناس كثيرًا عند الشدائد يتوبون وينذرون، ثم إذا زالت الشدة منهم من يُوفي بتوبته ونذره، ومنهم
(8/386)
من لا يوفي بذلك. قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 – 77].
فهذا النفاق الذي حصل في قلوب هؤلاء قد أخبر الله أنه باقٍ إلى يوم يَلْقَونه، وهذا قد يكون لأنهم لم يتوبوا منه توبةً صادقةً. ومن الناس من يقول: إن من الذنوب ما لا يزول بالتوبة، وقد روي أن منهم من جاء بصدقته فلم يقبلها، كالذين قال فيهم: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83]. فهؤلاء لم يُقبل منهم الجهاد لما امتنعوا عام تبوك، وهذا لم تُقبل منه (1) الصدقة لما منعها أولًا.
وقوله في الثلاثة الذين خُلِّفوا: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] دليلٌ على أن هؤلاء الذين عُذّبوا لم يتب الله عليهم، إما لكونهم لم يأتوا بتوبةٍ تمحو ذلك الذنب، هذا قول الأكثرين. وحينئذٍ فيكون التقصير منهم، وهم ظلموا أنفسهم. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، على أنه إذا تاب توبةً صادقةً، والشأن في تحقيق التوبة، ولهذا أخَّر الثلاثة الذين خُلِّفوا، وقد كانوا
_________
(1) في الأصل: منهم.
(8/387)
نادمين من حين رجع الرسول والمؤمنون.
وهذا كما قد قيل: إن الله حجرَ التوبة عن كل صاحب بدعة، بمعنى أنه لا يتوب منها، لأنه يراها حسنةً، والتوبة إنما تتيسر على من عرف أن عمله سيِّء قبيح، فيكون عمله داعيًا له إلى التوبة، أما إذا اعتقد أنه حسن فيحتاج ذلك الاعتقاد إلى أن يزول، وزوال الاعتقاد لا يكون بالوعظ والتخويف، وإنما يكون بعلم وهدى يبيِّن الله له فساد اعتقادِه، وصاحب الاعتقاد الفاسد جهلُه مركب، وهو لا يُصغي إلى أدلّة مخالفيه وتفهُّمِها لوجهين:
أحدهما: أنه لا يجتمع النقيضان في القلب، فلا يجتمع ذلك ودليلُ نقيضِه، فإن دليل النقيض يستلزمه، فلا يمكن أن يتصور دليل النقيض إلا مع عُزوب ذلك الاعتقاد عن القلب، لا مع حضوره، ولأن اعتقاده لذلك القول يدعوه إلى أن لا ينظر نظرًا تامًّا في دليل خلافه، فلا يعرف الحق.
ولهذا قال السلف: إن البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية. وقال أيوب السختياني وغيره: إن المبتدع لا يرجع. واحتج بقوله في الخوارج: «يمرقون من الإسلام كما يمرق السهمُ من الرميَّة، ينظر في نَصْلِه فلا يرى شيئًا، وينظر في رِصَافِه فلا يرى شيئًا، وينظر في قِدْحِه فلا يرى شيئًا، وينظر في نَضِيِّه فلا يرى شيئًا، ويتمارى في الفُوْق قد سبقَ الفرثَ والدمَ» (1).
_________
(1) أخرجه البخاري (3610) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري. والرميَّة: الصيد المرميّ، والنصل: حديدة السهم، ورِصافه: عصبه الذي يكون فوق مدخل النصل، والنضيّ: عود السهم قبل أن يُراش ويُنصل، وقيل: هو ما بين الريش والنصل. والقِدح هو النضيّ كما فُسّر في الحديث. والفُوق من السهم: حيث يثبت الوتر منه.
(8/388)
وهذا الذي ذكره هو كحال من {أَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]، والذين لو {رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]. لكن ليس هذا وصف جميع أهل البدع، فليست البدعة أعظم من الردّة عن الإسلام والكفر، وقد تاب خلقٌ من المرتدّين والكفار، لكن هو مظنة الخوف، كالذين أسلموا من المرتدّين كان الصحابة يحذرون منهم خوفًا من بقايا الردَّة في قلوبهم. فهذا هو العدل في هذا الموضع، وقد تاب خلقٌ من رأي الخوارج والجهمية والرافضة وغيرهم. لكن التوبة من الاعتقادات التي كثُر ملازمةُ صاحبها لها ومعرفتُه بحججها يحتاج إلى ما يقابل ذلك من المعرفة والعلم والأدلة.
ومن هذا الباب قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «اقتلوا شيوخَ المشركين واستبقُوا شَرْخَهم» (1). قال أحمد وغيره: لأن الشيخ قد عسَى في الكفر، فإسلامه بعيد، بخلاف الشاب، لأن قلبه لين، فهو قريبٌ إلى قبول الإسلام.
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (5/ 12، 20) وأبو داود (2670) والترمذي (1583) من حديث سمرة بن جندب. وإسناده ضعيف لعنعنة الحسن البصري وهو مدلس، وفيه الحجاج بن أرطاة، وفيه لين. انظر: ضعيف سنن أبي داود للألباني (459).
(8/389)
ومما يناسب هذا قوله تعالى عن مسجد أهل الضرار: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110]، هذا قرأه الجماعة، وقرأ يعقوب «إلى أن تقطع» (1)، وعلى هذا فالريبة باقية إلى حين التقطع. وأما قراءة الجمهور فإنه استثنى فقال: {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}، فإذا قطعت قلوبهم لم يبقَ ريبةٌ في قلوبهم. وقد قال سفيان وغيره: هو التوبة. وقال كثير من المفسرين (2): هو التقطع بالموت أو في القبر أو يوم القيامة. وقول هؤلاء يناسب قراءة يعقوب، فإنه لا تزال ريبة إلى حين تقطع القلوب. وأما قراءة الاستثناء فإن كانت توبتهم مقبولة كما قال سفيان وغيره فهي تحتاج إلى تقطع القلوب، تتمزق بالتوبة، فتحتاج إلى مشقة وشدة. وهكذا كثير من ذنوب أهل الاعتقاد والشبهات وأهل الشهوات القوية يحتاج صاحبُها إلى معالجة قلبه ومجاهدة نفسه وهواه. وتوبة الثلاثة قد قال الله فيها: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118]، فكيف غيرهم؟ وتوبة أبي لبابة وأصحابه كانت لما ربطوا أنفسَهم في السواري (3)، وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يدل على أنه
_________
(1) انظر: النشر في القراءات العشر (2/ 281).
(2) انظر: زاد المسير (3/ 503) وتفسير الطبري (11/ 701) والقرطبي (8/ 266) وابن كثير (4/ 1711).
(3) لأنهم تخلفوا عن غزوة تبوك، وقيل لسبب آخر. انظر: مصنف عبد الرزاق (5/ 405) والاستيعاب (4/ 1741) وتفسير ابن كثير (4/ 1702).
(8/390)
سبحانه يعلم من أحوالِ القلوب ما يناسب هذا، وهو حكيم في حكمه بأنه {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}.
وإذا أريد بتقطع القلوب تقطعها بالتعذيب فقط فيكون ذلك لأنه علمَ أن هؤلاء المعينين لا يتوبون، وإن أريد تقطعُها بالتوبة أو بالتعذيب فلابدّ لهم من أحد الأمرين: إما أن يقطعوها بالتوبة، وإلا قطعت بالعذاب، كما قال: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106]. وأولئك المعينون إذا لم يقطعوها بالتوبة قطعت بالتعذيب، فالعذاب مُخرِج ما في النفوس من الريبة والنفاق، لمن لم يُخرِجه بالتوبة، والذنوبُ لابد فيها من توبة أو تعذيب، ولو أنه ينقص الحسنات لأجلها، كما قال: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}، كما قد بُسِط في غير هذا الموضع. والله أعلم.
فصل
وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]، نُقل عن ابن عباس وغيره أنهم قالوا: عسى من الله واجب (1). وهذا الذي قالوه قد وُجِد بالاستقراء في مواضع، كقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ} [الممتحنة: 7]. وجعل الله المودة بين المؤمنين وبين الذين كانوا يعادونهم بعد أن نزلت هذه الآية لما فُتِحتْ مكة وآمن الطلقاءُ، كأبي سفيان، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن
_________
(1) انظر: البرهان للزركشي (4/ 160).
(8/391)
أبي جهل، والحارث بن هشام وغيره.
وقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]، وأتى الله بالفتح وبأمرٍ من عنده، فأصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
وقوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]، وتاب عليهم.
وقوله: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 50 – 52]. وهذا يكون ذلك اليوم.
وقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، ومن تولى عن طاعة الله والرسول أفسد في الأرض وقطعَ رَحِمَه، كما فعل المشركون {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 10].
(8/392)
مسألة
عن رجل يزعم أنه شيخٌ ويتوِّب الناس
ويأمرهم بأكل الحيَّة
(8/393)
سُئِل الشيخ تقي الدين رحمة الله عليه
عن رجلٍ يَزعم أنه شيخٌ ومن أولاد المشايخ، ويَجلسُ على سجَّادةٍ ويُتوِّبُ الناس، ثم إنه يأمر الفقراءَ بأكل الحيَّةِ وبمَسْكِها، وإذا قصدوا أكلَها أكلُوها في حضرة الشيخ، ويَسِيل دمُها على لِحاهم، ثم يأمرهم بالدخول في النار ويأكلوا منها، ويأخذ الشيخ عصًا يَعصِر منها دمًا أو سَمْنًا، ويُتوِّب النساءَ حتى يخرجن مُوَلَّهين (1)، ويُحاضِر الشيخ النساءَ ويزعم أنه من السادات العلماء المتصلين بالله تعالى، وأن ذلك كله من الكرامات الربانية، فهل ذلك كله أفعال ربانية أو شيطانية؟ وهل السلف فعلوا ذلك أم لا؟ وهل يَحلُّ فعلُ ذلك أم لا؟ وهل يحلُّ لمسلمٍ إكرامُ من كانت هذه أفعاله أو مجالستُه أم لا؟ وكلُّ ذلك بدعة محضةٌ أو لا؟ أفتونا رحمكم الله، وأوضِحْ (2) عن كل فصل، فإن هذه البدع قد فشَتْ في البلاد، واستحوذَ الشيطانُ على قلوب جماعة كثيرة، أفتونا مأجورين مُثابِين.
فأجاب رحمه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين. من أمر الناس بأكل الحيَّات أو العقارب أو الزنابير أو غير ذلك من الخبائث التي حرَّمها الله ورسولُه، وجعل كلَّ ذلك من كرامات الأولياء، فهو مبتدع ضالٌّ مستحقٌّ للعقوبة التي تَزجُره
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) كذا في الأصل بصيغة الإفراد.
(8/395)
وأمثالَه عن ذلك، فإن المسلمين متفقون على أن أكلَ الحيات ليس مما أمر الله به ورسولُه، ولا هو من كرامات الأولياء، بل ذلك محرَّم عند جمهور علماء المسلمين. وقد ثبت في الصحيحين (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «خمسُ فواسقَ يُقتَلنَ في الحلّ والحرم»، وذكر منها الحية والعقرب. وثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه أمر بقتل الحيّات (2)، ولم يتقدم لأحدٍ من أهل الخير أمرٌ لأحدٍ من أتباعهم بأكل الحيات.
ومن أكلَ الحياتِ والعقارب والزنابير والميتةَ والعذراتِ وغير ذلك من هؤلاء المنتسبين إلى الفقر والتولُّه، فإن الشيطان يَدخلُ فيهم حتى يأكلوا ذلك، ثم يفعلوا ما حرَّمه الله ورسولُه، فلا يأكلون طيبًا ولا يعملون صالحًا. وهؤلاء خالفوا أمر الله، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال (3): «إن الله تعالى أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]. وهؤلاء خالفوا أمرَ الله، فلم يأكلوا طيبًا ولم يعملوا صالحًا.
وكذلك من أمرَ مُريديه بدخول النار فهو شيخٌ ضالٌّ مبتدع، غايته أن
_________
(1) أخرجه البخاري (1829) ومسلم (1198) عن عائشة. وفيه ذكر الحدأة لا الحية. وقد جاء ذكر الحية في حديث ابن عباس في مسند أحمد (1/ 257).
(2) أخرجه مسلم (1200) عن ابن عمر عن إحدى نسوة النبي – صلى الله عليه وسلم -.
(3) أخرجه مسلم (1015) عن أبي هريرة.
(8/396)
يكون معه شياطين تلبس المريدَ حتى يدخل النار، ولهذا إنما يدخلونها عند أهل الجهل والضلال الذين ليس عندهم من الإيمان شيء واليقين ما يحضر معه الملائكة الذين يطردون الشياطين، فإذا حضر هؤلاء عند أهل العلم والإيمان بالله ورسولِه، المُتَّبِعين لمحمد – صلى الله عليه وسلم – باطنًا وظاهرًا، فدخلَ أحدُهم النارَ احترقَ، لأن شياطينه التي كانت تلبسه تهربُ حينئذٍ، وإذا قرأ عليهم الصادقُ آيةَ الكرسي مرّاتٍ بقلبٍ صادق هربت شياطينُهم وأحرقتْهم النار، كما قد جَرى مثلُ ذلك لغيرِ واحد من الصالحين معهم. هذا إن كان أحدهم يأكل الحية ويدخل النارَ بالحال الشيطاني.
وأما من يفعل ذلك بالمحال البهتاني، فهؤلاء يصنعون حِيَلًا وأدويةً كحجر الطَّلْق ودهن الضفادع وقُشور النارنج وغير ذلك من الأدوية المعروفة عند من يُعاني ذلك. وكذلك ما يُظهرونه من الدم والزعفران واللاذَن (1) والسمن مَن يكون عن حالٍ شيطاني، ومن يكون عن حالٍ بهتاني.
وأما تَولِيْهُ النساء والصبيان والرجال بحيث يزول عقلُ أحدهم ويبقَى مسلوبَ العقل، فهذا من المحرَّمات التي يستحق فاعلُها غليظَ العقوبات. فكل من قصدَ أن يُزيل عقلَه بسببٍ من الأسباب فإنه آثمٌ عاصٍ معتدٍ، حتى قد حرَّم الله ما يُزيل العقلَ بعضَ يومٍ كشراب الخمر، وحرَّم قليلَ الخمر وإن كان لا يُسكِر لأنه يدعو إلى كثيرها، مع ما في
_________
(1) هو شيء من رطوبة يكون على شجرة القيسوس، يُستخرج منه صمغ راتينجي، يُعلَك ويُستعمل عطرًا ودواءً. انظر: المعتمد في الأدوية المفردة (ص 439) والمعجم الوسيط (لذن).
(8/397)
الخمرة من اللذة والمنفعة، فكيف إذا أزيل العقل بلا منفعة؟
ولهذا إنما يتولَّهُ أحدُهم إذا لبسه الشيطان، وإن تمكَّن منه صارَ لا يعقل، وإن كان يعتريه بعضَ الأوقات أو يعتريه في حالِ السماع كان بمنزلةِ المجنون الذي يُصرَع في بعض الأوقات. ولهذا يتكلم الشياطين على لسانِ أحدِهم إذا أخذه الحالُ الشيطاني وقتَ السماع، كما يتكلم الجني على لسان المصروع، ويتكلم أحدهم بكلامٍ لا يَعرِفُه بلغاتٍ لا يُحسِنها كما يسمع من المصروع، وإذا فارقَه الحالُ الشيطاني لم يَدرِ ما تكلم على لسانه، ولكن الحاضرون يقولون له: قلتَ كذا وقلتَ كذا، وهو لايعرف بشيء من ذلك، كما يقول للمصروع: قلت كذا وقلت كذا، والمصروع لا يعرف شيئًا مما تكلم به الشيطانُ على لسانِه.
ولهذا لا تأتيهم الأحوال الشيطانية عند أمر الله به ورسوله، مثل الصلوات الخمس وقيام الليل وقراءة القرآن بالتدبر والطواف بالبيت، بل تأتيهم عند المنكرات التي لا يحبها اللهُ ورسولُه. وكلَّما كان الشرُّ أعظمَ كان الحالُ الشيطاني أقوى، فإذا سمعوا مزاميرَ الشيطان، وحرَّكوا الأردانَ، وتراقصوا كالدِّباب، ومزَّقوا الثياب، وارتفعت الأصواتُ كرُغاءِ البعير وخُوارِ الثِّيران، وثارتِ الأرواحُ المنتنةُ وحَضَر النساءُ والمردان= تنزَّلت عليهم الشياطينُ وجُندُ إبليس اللعين، فسقاهم الشرابَ الشيطاني، وسَلَبَهم الحالَ الإيماني، حتى لو أراد أحدُهم أن يذكر الله ويقرأ القرآن ويصلي بخشوعٍ لما أطاقَ ذلك، بل كثير منهم يُعيِّطون في الصلوات بالشَّخير والنَّخِير والصوت الذي يُشبه نَهِيقَ الحمير، وإن
(8/398)
صَلَّوا صَلَّوا بقلوبٍ غافلةٍ لاهية، صلاةً لا يذكرون الله فيها إلا قليلًا، يَنقُرونَها نَقْرًا، كما ثبتَ في الصحيح (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، يَرقُب الشمسَ حتى إذا كانت بينَ قَرنَي الشيطان قامَ فنَقَرها أربعًا، لا يذكر الله فيها إلا قليلًا».
ثم من هؤلاء من يُباشِر النجاساتِ، ويأوي إلى القمامين والمراحيض والحمامات، ومنهم من يُعاشِر الكلاب والحيّات، وهم مُقصِّرون فيما أمر الله به ورسولُه من الطهارةِ طهارةِ الحدث والخبث، ومن قراءة القرآنِ وتدبر معانيه، ومعرفةِ حديثِ النبي – صلى الله عليه وسلم – واتباع سنتِه، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فأمرَ من ادَّعَى محبةَ الله باتباعِ نبيه، وضَمِنَ لمن اتبعَ نبيَّه أن يُحِبَّه. وهؤلاء من أبعد الناس عن متابعة الرسول، وهم بأعداء الله الملحدين أشبهُ منهم بأوليائه المتقين، ووصفُ ما في هؤلاء من العيوب والقبائح لا يتسع له هذا المكتوب.
فمن اعتقد في هؤلاء أنهم من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وجندِه الغالبين، فهو من أضلِّ العالمين، وأبعدِهم عن دين الإسلام، الذي بُعِث به محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكن التبستْ أحوالُهم على كثير من الناس لما يرونه أحيانًا من أحدهم من نوع مكاشفةٍ وتصرُّفٍ خارج عن العادة، وهم في ذلك من جنس الكهان والسحرة التي كانت الشياطين تنزل عليهم. قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى
_________
(1) أخرجه مسلم (622) عن أنس بن مالك.
(8/399)
مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 – 222].
ولهذا لا يوجد من هؤلاء إلا من هو خارجٌ عن الكتاب والسنة، وإذا صدقَ مرةً في مكاشفته فلا بدَّ أن يكذب مرةً أخرى، وإن لم يتعمد هو الكذب لكن شيطانه الذي يُلقي في قلبه ما يُلقي وهو يكذب، كما كان يجري لمثل عبد الله بن صيَّاد الذي ظنَّ بعضُ الصحابة أنه الدجّال ولم يكن هو الدجال، ولكن كان من جنس الكهان، ولهذا لما خَبأ له النبي – صلى الله عليه وسلم – سورةَ الدخان قال: «قد خَبأتُ لك خَبِيئًا»، فقال: الدُّخ الدُّخ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «اخْسَأْ فلن تَعْدُوَ قَدْرَك» (1). يريد: أنك من جنس الكهان الذي يقترن بأحدهم شيطان. وقال: «ما تَرى؟» قال: أرى عرشًا على الماء، وذلك عرش الشيطان. وقال له: «ما يأتيك؟» قال: يأتيني صادقٌ وكاذبٌ.
وهؤلاء الذين يقترن بهم الجنُّ في غير ما أمر الله به ورسوله ثلاثة أصنافٍ بحسب قُرَنائهم من الجنّ:
فمنهم: من هو كافرٌ وشيطانُه كافر، كاليونسية الذين يُنشِدون الكفريات، كقولهم (2):
تعالَوا نُخرِبِ الجامِعْ … ونَجعلْ فيه خمَّارَهْ
_________
(1) أخرجه البخاري (1354) ومسلم (2930) عن ابن عمر.
(2) هذه الأبيات كان ينشدها الطائفة اليونسية، وذكرها المؤلف في مجموع الفتاوى (2/ 107) باختلاف، وطبعتْ بصورة نثر.
(8/400)
نُخرِّبْ خَشَبَ المِنْبَرْ … ونَجعلْ منه طُنبارَهْ
ونُحرِقْ وَرَقَ المصحفْ … ونَجعلْ منه زَمَّارَهْ
ونَنْتِفْ لِحيةَ القاضِي … ونَجعلْ منه أوتارَهْ
وقولهم (1):
وأنا حميتُ الحمَى وأنت سكنتَ فيهْ … وأنا تركتُ الخلائق في بحارِ التِّيْهْ
موسى على الطور لما خرَّ لي ناجَى … وصاحب يثرِبْ أنا جِبْتُوه حتى جا
وقولهم:
أنت إلاهْ وأنا في جانبك رَبّ … خَلقك تُعذّبْ، وخَلقي ما عليهم ذَنْبْ
وأمثال هذه الكفريات.
ومنهم: من يكون جِنُّه فُسَّاقًا، كالذين يجتمعون اجتماعًا محرمًا بالنسوان والمردان، ويتواجدون في سماع المكاء والتصدية الذي يُشبِه سماعَ عُبَّاد الأوثان، إذا كانوا مصدّقين بتحريم ما حرَّمَه الله ورسوله، وفعلوا الكبائر مع اعتقاد تحريمها، فهم فُسَّاق.
وصنف ثالث: جُهَّال مبتدعون، فيهم ديانة، فيهم زهد وعبادة
_________
(1) هذا من المواليا، وذكره المؤلف في مجموع الفتاوى (2/ 107) ببعض الاختلاف. ويُنسب البيت الأول إلى رئيس الطائفة اليونسية الشيخ يونس المخارقي في وفيات الأعيان (7/ 257) وشذرات الذهب (5/ 87) مع بعض الاختلاف.
(8/401)
وتعظيم لدين محمد – صلى الله عليه وسلم -، لا يختارون مخالفته ولا الخروج عن دينه وشريعته، والتبست عليهم هذه الأحوال الشيطانية، فظنّوها كراماتِ الأولياء، وأن من يحصل له من هذه الأحوال يكون من أولياء الله المتقين. ولو أنهم علموا أنها مخالفة لأمر الله ورسولِه لم يدخلوا فيها، لكن جهلوا ذلك، فهؤلاء ضُلَّال.
ومن أكابر هؤلاء من تحمله الشياطين وتذهب به عشيةَ عرفةَ إلى عرفات، وتَرجِع به في تلك الليلة، وهو لم يُحرِم ولم يُلَبِّ ولم يَطُفْ بالبيت ولا بين الصفا والمروة، ولم يُفِضْ إلى مزدلفة ولا رَمَى الجمار، بل ويَقِفُ بعرفات بثيابه. ومعلومٌ أن هذا ليس من العبادات التي يحبها الله ورسولُه، بل قد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعرفةَ قومًا عليهم الثياب فطلبَ عقوبتَهم. وهذا بمنزلة من حَملتْه الشياطين إلى الجامع، فصلَّى مع الناس بلا وضوء أو إلى غيرِ القبلة.
ولو كان هؤلاء عالمين بدين محمد – صلى الله عليه وسلم – مُتّبِعِين له لعلموا أن هذا الحملَ إلى عرفات على هذا الوجه من أحوال الشياطين، لا من كرامات أولياء الله المتقين. وبسط الكلام في هذا الباب وما فيه من الخطأ والصواب، والفرق بين كرامات أولياء الله المتقين وبين أحوال أتباع الشياطين (1)، لا يتسع له هذا الجواب.
وإذا كان كذلك فهؤلاء تجب استتابتُهم وعقوبةُ من لم يَتُبْ منهم،
_________
(1) انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان للمؤلف.
(8/402)
وأقلُّ عقوباتهم أن يُهجَر أحدُهم حتى يتوب، ومَن أكرمَهم لله تأليفًا لقلوبهم واستتابَهم وبيَّنَ لهم ضلالَهم فقد أحسن، وأما من يكرمهم معتقدًا أنهم من أولياء الله المتقين فهذا مخالفٌ لدين المسلمين، يجب عليه أن يتوب من ذلك، ويعرف الحقّ الذي بعثَ الله به رسولَه – صلى الله عليه وسلم -، وأنّ مَن خالفَ أمرَ اللّهِ ورسولِه فهو ضال، وعليه أن يتبع أمر الله ورسوله، فإن الله بعث رسولَه بالهدى ودينِ الحق ليُظهِره على الدِّين كله، وكفى بالله شهيدًا. وفي الصحيح (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يقول في خطبته: «خير الكلام كلامُ الله، وخير الهدي هدي محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -، وشرُّ الأمورِ محدثاتُها، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ».
تمت بحمد الله وعونه.
_________
(1) مسلم (867) عن جابر بن عبد الله.
(8/403)
مسألة
في النسبة إلى الخرقة
(8/405)
سُئل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية عن نسبته إلى الخرقة.
فأجاب، فقال:
الحمد لله، أما بعد، فإن الله سبحانه خلق الخلقَ لعبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وبعث إليهم رُسُلًا اصطفاهم يدعونهم إلى دينه الذي ارتضاه لنفسه، وهو دين الإسلام، وإن تنوعت شرائعُهم ومناهجهم، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الآية [الشورى: 13].
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} الآية [المؤمنون: 51].
قال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36].
وختمهم بسيّد ولد آدم خاتم النبيين وإمام المرسلين إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، وشفيع الخلائق يوم القيامة محمد – صلى الله عليه وسلم -، بعثَه
(8/407)
بأفضل المناهج وأعلى الشرائع، وأتمَّ عليه وعلى أمته النعمةَ، وأكملَ لهم الدين، فقال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].
وقال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67]، {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148].
وفرضَ على أهل الأرض عربِهم وعجمِهم وإنسِهم وجنِّهم الإيمانَ به وطاعتَه، فإن النبي قبله كان يُبعَث إلى قومه خاصة، وإن محمدًا – صلى الله عليه وسلم – بعثه الله إلى الناس عامةً، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية [النساء: 69]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} الآية [النساء: 13 – 14].
وجعل من أُمَّته أولي أمرٍ يَرجعُ الناسُ إليهم في صلاح دينهم
(8/408)
ودنياهم، إذ لا يقوم الدين والدنيا إلا بولاة أمورها. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} إلى قوله: {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 102 ــ 104].
فولاة أمور الدين [الذين] أمر الله أن يكونوا ولاة أمورهم، الدعاة إلى الخير، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33]، هو الذي أرسل الله به الرسلَ، وأنزلَ به الكتب، وجعل نعت هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، كما جعلهم شهداء على الناس. فلهم الشهادة في الخبر، والإمامة في الطلب والإنشاء. والكلام إما إنشاء وإما إخبار، وذلك هو الذي وصف القرآن حين قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].
ثم إنه قرن طاعته بطاعة رسوله، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. [فوليُّ الأمر] منهم يُطاع فيما أمر الله بطاعته، وهو الأمر الذي يحتاج إليه فيه، وكان ذلك قد اجتمع في الخلفاء الراشدين الذين نصَّ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم –
(8/409)
على اتباع سنتهم، حيث قال – صلى الله عليه وسلم -: «إنه مَنْ يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنّ كلّ محدثةٍ بدعةٌ، وإنّ كلّ بدعةٍ ضلالةٌ» (1).
وأما بَعْدَ الخلفاءِ الراشدين فتفرَّق الأمرُ في أنواعٍ من ولاة الأمور، ما بين أمراء وعلماء وملوك ومشايخ ونحوهم، فأكرمهم عند الله أتقاهم، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وأولاهم بالله ورسوله أشدُّهم اتباعًا لكتاب الله وسنة رسوله، ولكلٍّ محلٌّ تنفُذُ فيه ولايتُه، وحقٌّ يجبُ فيه طاعتُه، وتَصرُّفٌ يجب فيه طاعته، كما تنفُذُ أمورُ الجهاد فيما يتولونه من الجهاد في سبيل الله لمن خرج عن دين الله، وتنفُذُ أمورُ قضاةِ الإسلام فيما شرع له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الواقع على حدود الكتاب والسنة، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرًا فَلْيُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (2).
وتنفُذ فتاوي العلماء فيما يخبرون به من الأحكام الشرعية، ويأمرون
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 126 – 127) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (44) عن العرباض بن سارية، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(2) أخرجه مسلم (49) عن أبي سعيد الخدري.
(8/410)
به من طاعة الله ورسوله.
وينفُذ أمرُ مشايخ الدين فيما يدعون إليه من طريق الله، ويرشدون العباد إليه من دين الله.
وأحقُّهم بالاتباع مَن كان بالإيمان والقرآن أَوْلى بالاطلاع، إذ لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، والويل لمن اتبع الأكابر فيما خرج عن سنن المرسلين، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 – 29]، وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 66 – 68].
في أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – خاصة، وقد جعلهم الله صنفين: أهل سعادة وأهل شقاوة، وجعل السعداء صنفين: سابقين ومقتصدين، فقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27]، {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة: 9]، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 – 11].
وقال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ
(8/411)
(89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 88 – 94]، فهذا في الخلق جميعهم.
وقال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32].
وقد ذكر الأصناف الثلاثة في الخلق في الإنسان والمطففين، وجعل صِنفَي السعداء أربعَ درجات في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]. فأفضل الخلق بعد النبيين الصّدّيقون. ووصف سبحانه أولياءه الذين هم أولياؤه بأن: {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(8/412)
مسألة في الحضانة
(8/413)
مسألة في الحضانة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ربِّ يسّر
صورة كتاب كتبه الشيخ الإمام العلامة علم الأولياء تاج الأصفياء قامع البدع محيي الشريعة ناصر السنة مفتي الفرق تقي الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية ــ أعاد الله من بركته على المسلمين ــ إلى بعض الأمراء المقدَّمين. وذلك في العشرين من شهر رمضان من سنة ثلاث وسبعمئة بسبب ابنة يتيمة طلب عمها أخذها بالحضانة بحكم الشرع المطهر، وطلب معاونته على أخذ ابنة أخيه، فكتب:
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
من الداعي أحمد ابن تيمية إلى الأمير الكبير أسد الدين أحسن الله إليه في الدنيا والآخرة، وأسبغ نعمه عليه باطنة وظاهرة، وتولاه في جميع الأمور، وصرف عنه كلَّ محذور. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على إمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
(8/415)
أما بعد، فإن الله قد منَّ على الأمير ومنَّ به لما جمعه فيه من العقل والدين والخير والسياسة والمداراة وحسن البصيرة الذي يميز بها بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، وقد قدم الشيخ فلان بن فلان وهو كثير الدعاء للأمير كثير الثناء عليه، وأظهر له لسان صدق بين الدولة وأعيان الناس لما رآه من إحسان الأمير ومساعدته على مصالح المسلمين، وإظهار شعائر الإسلام التي بعث الله بها رسولَه وأنزل بها كتابه بحسب الإمكان، فإن الأمير أحسن الله إليه يعلم أن المسلمين كما (1) اجتهدوا في طاعة الله ورسوله واتباع كتابه المنزل ونبيه المرسل الذي أقام الله به الحجة على أهل الأرض عربهم وعجمهم، وإنسهم وجنهم، وأوجب من طاعة غيره ما وافق طاعته، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والله هو المسؤول أن يجمع أمر هذه الأمة على ما يحبه ويرضاه، ويؤلف بين قلوبها على البر والتقوى.
والمولى يعلم قاعدة كلية أن الذي أوجب الله تعالى والذي يمكن المؤمن أن يعلمه هو طاعة الله بحسب الإمكان، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم” (2). والله تعالى يوفق الأمير وأصحابه في هذا الشهر المبارك وسائر الأوقات لما يحبه ويرضاه في خير وعافية.
_________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب “كلهم” أو “قد” ليستقيم السياق.
(2) أخرجه مسلم (1337) من حديث أبي هريرة.
(8/416)
وقد قصد الداعيَ بعضُ الناس في امرأة لم تبلغ وقد تزوجت أمُّها، وأقرب الأقارب إليها عمّها مولاهم، ولا ريب أن النبي – صلى الله عليه وسلم – جعل الحضانة للأم ما لم تتزوج، فإذا تزوجت بأجنبي فلا حضانة لها، بخلاف ما لو تزوجت بقريب من البيت، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما تحاكم إليه علي وزيد وجعفر في ابنة حمزة بن عبد المطلب، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – لما اعتمر عمرة القضية تعلقت بعلي، فقال علي لفاطمة: دونك ابنة عمك. فلما قدموا إلى المدينة تحاكم فيها الثلاثة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال علي: ابنة عمي، وأنا أحق بها، يعني لأني أنا أخذتها من مكة. وقال جعفر: ابنة عمي، وخالتها تحتي، وكان جعفر مزوجًا بخالتها. وقال زيد: ابنة أخي لأن المؤاخاة كانت بين زيد وحمزة. فقضى بها النبي – صلى الله عليه وسلم – لجعفر، وقال: “الخالة أمٌّ”، ثم طيَّب أنفس الثلاثة، فقال لعلي: “أنت مني وأنا منك”، وقال لجعفر: “أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي”. وقال لزيد: “أنت أخونا ومولانا” (1).
فهذه الخالة لما كانت مزوجة بابن عم الجارية لم ينتزعها منها. وقال لامرأة أخرى لما نازعت مطلِّقَها في حضانة ولدها: “أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي” (2). وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “عمُّ الرجل صِنْو أبيه” (3). ورُوي
_________
(1) أخرجه البخاري (4251) عن البراء بن عازب.
(2) أخرجه أبو داود (2276) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهو حديث حسن.
(3) أخرجه مسلم (983) عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي (3762) عن عبد المطلب بن ربيعة، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(8/417)
“العمُّ والدٌ في كتاب الله” (1). قال الله تعالى عن يعقوب: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]. وإسماعيل إنما كان عمَّه. وكما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “الخالة أم” فكذلك العم أب، فالحضانة لهذا العمّ الذي هو بمنزلة الأب في كتاب الله وسنة رسوله. والمسلمون متفقون على ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75].
وهم يطلبون مساعدة الأمير على إيصال الحق إلى مستحقيه وتسليم هذه الجارية إلى من هو أحق بها في كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين.
هذا أمرها في الحضانة. وأما النكاح فإذا كانت تُؤثِر أن تتزوج ولها إذن صحيح، فالأمير أحسن الله إليه يعلم حكم الله ورسوله، حيث قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تُستأذن في نفسها وإذنها صماتها” (2)، وقال – صلى الله عليه وسلم -: “لا تُنكَح البكر حتى تُستأذن، ولا الأيم حتى تُستأمر” (3). وقال الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] نزلت
_________
(1) أخرجه سعيد بن منصور عن عبد الله الورَّاق مرسلًا. وانظر: السلسلة الصحيحة (1041).
(2) أخرجه مسلم (1421) من حديث ابن عباس.
(3) أخرجه البخاري (5136) ومسلم (1419) من حديث أبي هريرة.
(8/418)
في معقل بن يسار لما منع أخته أن تتزوج بزوجها الذي كان طلقها واحدة (1).
وروى الترمذي (2) عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “يا علي! ثلاث لا تؤخرهن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدتَ لها كفؤًا”. فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن الأيم إذا وُجِدَ لها كفؤٌ أن لا تُؤخَّر. ولهذا خطب إلى الحسين بن علي بعض بنات أخيه وهو يتعرَّق لحمًا، فزوَّجه إيَّاها قبل أن يأكل لحم العرق طاعةً للحديث الذي رواه أبوه عن جدّه.
وإذا كان قد أمر بأن الأيم لا تؤخر عن وجود الكفؤ، وأمر أن لا تزوج إلا بإذنها، فدلت النصوص على أنه يجب على الولي أن يزوج المرأة إذا طلبت منه أن يزوجها بمن عيّنتْه إذا كان كفؤًا، وألا يزوجها بغيره، والولي هو العم، وهو موافق على ذلك.
ولهذا أجمع المسلمون على أن الولي لا يجوز له عضلُ المرأة إذا طلبت النكاح من كفؤ، وأنها لا يُجبِرها مَن سوى الأب والجد إذا كان لها إذن، وفي الأب والجد تفصيل ليس هذا موضعه.
_________
(1) أخرجه البخاري (5331) عن معقل بن يسار.
(2) برقم (171، 1075). وأخرجه أيضًا أحمد (1/ 105). قال الترمذي: هذا حديث غريب حسن. وضعفه الحافظ ابن حجر في الدراية (2/ 63) لجهالة سعيد بن عبد الله الجهني. وصححه أحمد شاكر في شرحه على الترمذي (1/ 321).
(8/419)
وهم قد طلبوا من الأمير المعاونة على ذلك باطنًا وظاهرًا، لما في ذلك من البر والقربة الذي أمر الله به ورسوله. والله يُوفق الأمير لصالح القول والعمل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى من تحيط به عنايتكم، وعلى سائر الإخوان. والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا.
(كتبه محمد بن الحاج عبد الله، والحمد لله رب العالمين، من كلام شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه، في الحكم في تزويج البنت اليتيمة وغيرها، واستشهاده على ذلك بالأحاديث النبوية):
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
ربِّ يَسِّر برحمتك يا كريم يا عظيم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لا تُنكَح الأيم حتى تُستأمر، ولا تُنكَح البكر حتى تُستأذن”، قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: “أن تسكت”. رواه البخاري ومسلم (1).
وعن ابن عباس أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “الأيم أحقُّ بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صُمَاتها”. وفي رواية: “والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وصمتها إقرارُها”. رواه مسلم في صحيحه (2).
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(8/420)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الجارية يُنكِحُها أهلُها أتُستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “نعم، تستأمر”. قالت عائشة: فقلت له: فإنها تستحي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “فذلك إذنُها إذا هي سكتت” (1).
وعن خنساء بنت خِذام أن أباها زوَّجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – فردَّ نكاحه، رواه البخاري (2).
قال الشيخ الإمام المفتي تقي الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ للإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رضي الله عنه كاتبُ الخط المنقول منه هذه الأحاديث: فالمرأة لا ينبغي لأحد أن يزوجها إلا بإذنها كما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم -، فإن كرهت ذلك لم تُجبَر على النكاح إلا الصغيرة البكر، فإن أباها يزوجها ولا إذن. وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها، لا للأب ولا لغيره، بإجماع المسلمين. وكذلك البكر البالغ ليس لغير الأب والجد تزويجها بدون إذنها بإجماع المسلمين. وأما الأب والجد فينبغي لهما استئذانها.
واختلف العلماء في استئذانها هل هو واجب أو مستحب، والصحيح أنه واجب. ويجب على ولي المرأة أن يتقي الله فيمن يُزوِّجها به، وينظر في الزوج هل هو كفؤ أم غير كفؤ، فإنه إنما يُزوجها لمصلحتها لا لمصلحته، وليس له أن يزوجها
_________
(1) أخرجه البخاري (5137) ومسلم (1420).
(2) برقم (5138، 6969).
(8/421)
بزوج ناقص لغرضٍ له، مثل أن يُزوِّج وليَّه ذلك الزوجُ بدلَها، فيكون من جنس الشغار الذي نهى عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – (1)، أو يزوجها بأقوام تخالفهم عن أغراض له فاسدة، أو يزوجها برجل لمالٍ يبذله له وقد خطبها من هو أصلح لها من ذلك الزوج، فيقدم الخاطب الذي بَرْطَله على الخاطب الكفؤ الذي لم يُبرطِلْه.
وأصل ذلك أن تصرف الولي في بُضْع وليته كتصرفه في مالها، فكما لا يتصرف في مالها إلا بما هو أصلح لها، فكذلك لا يتصرف في بضعها إلا بما هو أصلح لها. إلّا أن الأب له من التبسط في مال ولده ما ليس لغيره، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أنت ومالك لأبيك” (2)، بخلاف غير الأب، والله أعلم.
وعن أبي موسى الأشعري أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “تُستأمر اليتيمةُ في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبَتْ لم تُكْرَه”. رواه أحمد في مسنده (3).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “اليتيمة تُستأمر في نفسها،
_________
(1) أخرجه البخاري (5112) ومسلم (1415) عن ابن عمر. وفي الباب أحاديث أخرى.
(2) أخرجه أبو داود (3530) وابن ماجه (2292) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وإسناده حسن، وله شواهد يرتقي بها إلى الصحة.
(3) (4/ 394). وإسناده حسن.
(8/422)
فإن صمتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها”. رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي (1).
فإن كانت المرأة لها تسع سنين ولا أب لها فقيل: يُزوِّجها الولي بلا إذنها، وقيل: لا تُزوَّج حتى تبلغ، وقيل: يزوجها بإذنها كما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم -. وهذا أصح الأقوال، وعليه دلَّ الكتاب والسنة.
(نقله كما شاهده من خط الشيخ الإمام العالم المفتي تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه، وأذن له الشيخ في نقله أيضًا العبد الفقير إلى … ).
_________
(1) أحمد (2/ 259) وأبو داود (2093) والنسائي (6/ 85) والترمذي (1109).
(8/423)
مسائل مختلفة
(8/425)
سئل الشيخ أبو العباس أحمد ابن تيمية عمن تُصِيبه جنابةٌ، والماء يضرُّه، أو يكون مجروحًا، فهل يجوز له أن يصلي أو يقرأ القرآن؟ وما قدرُ المدة التي يصلي فيها ويقرأ؟ وهل نُقِل عن النبي – صلى الله عليه وسلم – شيء من ذلك أو عن السلف الصالح؟
فأجاب:
الحمد لله، إذا أصابته جنابةٌ وكان عادمًا للماء، أو يخاف الضررَ باستعماله، بحيث يجوز له التيمم من الحدث الأصغر، فإنه يتيمم للحدث الأكبر وهو الجنابة، كما يتيمم للحدث الأصغر، في مذهب الأئمةِ الأربعة وجماهير الصحابة وسائرِ أئمة المسلمين. وقد دلَّ على ذلك آيتان من كتاب الله: آية النساء (1) وآية المائدة (2)، وعدة أحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
حديث عمار بن ياسر الذي في الصحيحين (3) لما أجنبَ هو وعمر، فتمرَّغ عمارٌ كما تتمرَّغ الدابةُ ظانًّا أن التراب كالماء في الفعل فيَعُمُّ البدن، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إنما كان يكفيك هكذا»، وضربَ بيديه الأرضَ ضربةً واحدةً، فمسحَ بهما وجهَه وكفَّيه.
_________
(1) رقم (43).
(2) رقم (6).
(3) البخاري (338) ومسلم (368).
(8/427)
وحديث عمران بن الحصين الذي في الصحيح (1) في نومهم عن صلاة الفجر في غزوة خيبر، وكرامة النبي – صلى الله عليه وسلم – في تكثير ماء المزادة، وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما رأى رجلًا معتزلًا من القوم لم يُصلِّ قال: «يا فلان! ما منعَك أن تصلِّيَ معنا؟» فقال: إني كنتُ جُنبًا، فأخبرَه أن الصعيد الطيب يكفيه. ثم لما أُتِي بالماء أعطاه قَدَحًا فاغتسلَ.
وحديث أبي ذر في التيمم من الجنابة، وفيه: «إن الصعيدَ الطيب طَهورُ المسلم، ولو لم يجد الماءَ عشرَ سنين، فإذا وجدتَ الماءَ فأمِسَّه بَشْرَتَك، فإن ذلك خير» (2).
وحديث عمرو بن العاصي لما بعثَه النبي – صلى الله عليه وسلم – أميرًا في غزوة ذات السلاسل، وأصابتْه الجنابة في ليلةٍ باردةٍ فخشيَ مضرَّةَ الاغتسال، فتيمم وصلَّى بأصحابه وهو جنب، وذكر ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم -، فأقرَّه عليه (3).
وحديث صاحب الشجَّة الذي أفتاه بعضُ الناسِ بالاغتسال حتى مات، فذكروا ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال: «قَتلوه قَتلَهم الله، هَلَّا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شِفاء العِيِّ السؤالُ» (4).
_________
(1) البخاري (344) ومسلم (682).
(2) أخرجه أبو داود (332، 333) والترمذي (124) والنسائي (1/ 171). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3) أخرجه أبو داود (334، 335). وهو حديث حسن.
(4) أخرجه أبو داود (336) عن جابر بن عبد الله. وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه أبو داود (337) وابن ماجه (572). وهو حديث حسن بشواهده.
(8/428)
وقد رُوي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود منعُ الجنب من التيمم، ولكن خالفهما جمهور الصحابة والتابعين. وإذا تنازع السلف في شيء رُدَّ ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله، فوجدَ الأئمةُ الكتابَ والسنة قد دلَّ على مذهب الجمهور، فاستقرَّت أقوال الأئمة على ذلك.
وإنما تنازعوا في حدّ الضرر الذي يُبيح التيمم، فالجمهور يقولون: إذا خاف مرضًا، أو كان مريضًا فخافَ زيادة المرض بزيادة الألم، أو يضرُّه البردُ. هذا هو الصواب، كما قالوا مثل ذلك في فطْر المريض ونحو ذلك، وهو مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي في قولٍ، وفي قولٍ قال: هو أن يخاف هلاكَ نفسِه أو بعضِ أعضائه.
وتنازعوا أيضًا فيمن يتيمم لخشية البردِ، هل عليه إعادة؟ فقيل: يُعيد في الحضر والسفر، كقول الشافعي. وقيل: لا يُعيد فيهما، كإحدى الروايتين عن أحمدَ وقولِ غيره. وقيل: يُعيد في الحضر دون السفر، كقول الشافعي وأحمد. والصحيح قول الأكثرين أنه لا إعادةَ في الحضر ولا في السفر.
واتفقوا على أن من تيمم لعدم الماء في السفر أو للمرض أو الجرح أنه لا يُعيد، ولم يأمر الله ولا رسوله أحدًا بفعلِ الصلاة مرتين مع كونه فعلَها على الوجه الذي أمر به أولًا، بل قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أينهاكم عن الربا ويقبله منكم؟» (1).
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 441) وابن خزيمة (994) وابن حبان (1461) عن الحسن عن عمران بن حصين. والحسن لم يسمع من عمران، فهو منقطع.
(8/429)
وتفريقُ من فرَّق بين العذر النادر والمعتاد فرقٌ ضعيف، وإنما قاسوه على الحائض التي تُؤمَر بقضاء الصوم الذي لا يتكرر، ولم تُؤمَر بقضاء الصلاة التي تتكرر، فقالوا: ما يتكرر من الأعذار كالصلاة، وما لم يتكرر كالصوم. وهذا قياس ضعيف فإن الحائضَ لا تُؤمَر بالصوم أولًا وبقضائه ثانيًا، وإنما تُؤمَر بصومٍ واحد كما يُؤمر الطاهرُ بصومٍ واحد، ولكن أُمِرتْ بالصوم في غير وقتِ الحيض. وأما الصلاة فإن كل يومٍ وليلةٍ فيه صلوات خمس واجبة، فلو أُمِرتْ بالقضاء لكانت مأمورةً في أمر واحدٍ بعشرِ صلوات، وهذا خلاف الواجب.
فهؤلاء إذا أمروا المعذور بالصلاة مرتين فقد أمروه بعشر صلواتٍ في زمن القضاء، وهو خلاف الأصل الذي قاسوا عليه. فعُلِمَ أن المشروع في الحائض حجةٌ عليهم لا أنه حجة لهم. وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم» (1).
فمن فَعَلَ الصلاةَ كما يستطيع فلا إعادةَ عليه، ولم يأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أحدًا من أهل الأعذار بصلاتين قطُّ، فالأمر بذلك ذريعة إلى الترك، فإن المعذور حَسْبُه أن يفعلها مرةً، فإذا أُمِر بها مرتين أفضَى إلى الترك. وقد أمر الله بالصلاة في شدة الخوف رجالًا وركبانًا، وهي من الأعذار
_________
(1) أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337) عن أبي هريرة.
(8/430)
النادرة، ولم يأمر بالإعادة، بل نفس صلاة الخوف الخفيف التي فعلها النبي – صلى الله عليه وسلم – بإزاء العدو، وهي في غالب الأمور من الأعذار النادرة، وفيها أمورٌ تخالف صلاة الاختيار، مثل استدبار القبلة، والعمل الكبير في الصلاة، ومفارقة الإمام قبل السلام، وغير ذلك، ولم يكن فيها إعادة.
وكل من جازت له الصلاةُ فرضًا أو نفلًا جازت له القراءةُ باتفاق المسلمين، فإن الصلاة أكمل وأفضل وأوجب من مجرد القراءة، وشروطها أشد، فإذا جاز الأشد فالأسهل أولى. ولهذا يقرأ القرآن طاهرًا ومحدثًا، إلى القبلة وغيرها، قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا، لابسًا وعاريًا، حاملًا للنجاسة ومجتنبًا لها، والصلاة بخلاف ذلك. وإنما اشتركا في الجنابة، فإن الجنب لا يقرأ القرآن عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، وأما إذا جازت له الصلاة بالتيمم فرضًا ونفلًا فالقراءة أولى داخلَ الصلاةِ وخارجَ الصلاة. وليس لذلك زمنٌ مقدَّرٌ، بل لا يزال يعبد الله بالتيمم، كما يعبده بالوضوء والغسل، حتى يزول العذرُ المبيحُ للتيمم. والله أعلم.
(8/431)
مسألة
في رجل دخل في الصلاة وقد أحرم الإمام، ثم ركع الإمام، وقد قرأ الرجل بعض الفاتحة، ولم يتبع الإمام في الركوع حتى قرأ بقية الفاتحة، فقام الإمام من الركوع وسجد، فأتى الرجل بالركوع ولحقَ الإمام معتقدًا أن الركعة لا تتم إلا بإتمام الفاتحة.
الجواب:
أما المسبوق الذي دخل في الصلاة حين أمكنه، ولم يتسع وقت قيامه لقراءة الفاتحة، فإنه يركع ولا يُتِمُّ قراءة الفاتحة باتفاق الأئمة المتبوعين، وإن كان فيه خلاف فهو شاذ (1). وأما إذا أخَّر الدخول في الصلاة مع إمكانه حتى قصر القيام، [و] كان القيام متسعًا لقراءة الفاتحة ولم يقرأها، فهذا تجوز صلاته عند جماهير الأئمة. وأما الشافعي فعليه عنده أن يقرأ وإن تخلف عن الركوع، وإنما تسقط قراءتها عنده عن المسبوق خاصة. فهذا كان حقه أن يرجع مع الإمام، ولا يُتم القراءة، لأنه مسبوق باتفاق الأئمة، فإذا تخلف عن الإمام متأوّلًا ظانًّا أن ذلك هو الواجب لم تبطل صلاته، كما يتخلف لنسيان [أو] لنومٍ أو زحمة.
ثم مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين في المتخلف المعذور مثل هذا إذا أمكنه أن يأتي بما تخلَّف عنه ويلحق الإمام، وقد
_________
(1) هذه الكلمة غير واضحة في الأصل.
(8/432)
سبقه بركنٍ أو اثنين أو ثلاثة، وهو مدركٌ للإمام في تلك الركعة= أن صلاته تصح، فتصح صلاة هذا وهذا، كما أنه لو زاد في صلاته ركعةً نسيانًا لم تبطل، وكذلك لو زادها متأولًا جاهلًا لم تَبطُلْ، فالمخطئ في هذا الباب كالناسي. والله أعلم.
(8/433)
مسألة
في رجلٍ أدرك الصلاة مع [إمام] من المسلمين، لا يعلم فيه ما يمنع الائتمام، فلم يصلِّ معه، فقال له رجل: صَلِّ مع هذا، فقال: أنا لا أصلي إلا خلف من يكون من أهل مذهبي. فما حكم هذا الرجل؟
وفي رجلٍ سئل عن مذهبه فقال: مذهبي اتباع الكتاب والسنة، فقال له قائل: لابد لكل أحدٍ من التقليد بأحد (1) هذه المذاهب الأربعة، فقال: أنا لا أتقيد بأحد هذه المذاهب الأربعة، وإنما أتقيد بالكتاب والسنة. فقال له: أنت مَارِقٌ. فما يجب عليه؟
وفي رجلٍ عُرِض عليه حديثٌ صحيح، فأنكره وقال: لو كان صحيحًا لما أهمله أهلُ مذهبنا، لم ينقلوه، فلو كان صحيحًا لما خفي على إمامنا. فما حكمُ هذا الكلام.
الجواب
هذا الكلام محرم في دين المسلمين، وقائله يستحقُّ العقوبة التي تزجرُه وأمثالَه، فإنه ليس من أئمة المسلمين من قال: إن صلاة المسلم لا تسوغ إلا خلفَ من يوافقُه في مذهبه المعين الذي انتسب إليه، إذ هؤلاء الأئمة الأربعة ومن قبلهم وبعدهم من سلف الأمة كانوا يصلون خلف من يوافقهم على مذهبهم ومن يخالفهم فيه. وإنما تنازع العلماء في
_________
(1) كذا في الأصل، والأولى أن يكون: التقيد بأحد أو التقليد لأحد، كما سيأتي (ص 441، 442).
(8/434)
مسائل: مثل إذا فعل الإمام ما يُبطِل الصلاةَ في مذهب المأموم دون مذهب الإمام، مثل من يوجب البسملةَ إذا صلى خلف من لا يقرؤها، ومن يتوضأ من الدم والرُّعاف والقيء، إذا صلى خلفَ من احتجم أو رُعِفَ ولم يتوضأ لأن ذلك مذهبه، ونحو هذه المسائل. فهذه فيها قولان.
ومع هذا فالصحيح الذي عليه جمهور الفقهاء أن صلاة المأموم صحيحة، لأن ما فعله الإمام إن كان صوابًا فقد أحسنَ، وإن كان خطأً فقد غفرَ الله له خطأه، كما قال: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. والمأموم يعلم أنه متأوِّلٌ في ذلك، ليس هو متعمدًا لذلك، فتكون صلاته صحيحة.
وفي صحيح البخاري (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «يُصلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أ خطأوا فلكم وعليهم». وما زال الصحابة والسلف يصلي بعضهم خلف بعض مع تنازعهم في المذاهب. وتكلم العلماء أيضًا في الإمام إذا كان من أهل الفجور والبدع، وفيه تفصيل ونزاع لم يقله أحدٌ من المسلمين.
ثم إن أراد بذلك أن يوافقه على مسائل الاجتهاد الخارجة عن الصلاة، فهذا غاية الجهل. وإن أراد موافقته على مسائل الصلاة لم ينضبط أمره، وإن الطائفة الواحدة من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد
_________
(1) برقم (694) عن أبي هريرة.
(8/435)
متنازعون في واجبات الصلاة ومبطلاتها. فمن التزم هذا القول لزِمَه أن لا يصلي بعض أهل المذهب الواحد خلف بعضٍ، حتى لايصلي أبو يوسف ومحمد خلف أبي حنيفة، ولا ابن القاسم وابن وهب ونحوهما خلف مالك، ولا بعض أصحاب الشافعي وأحمد خلفهما.
وقد قال بعض المتأخرين: إنه لابد أن ينوي المصلي أداءَ الواجب في تفاصيل الصلاة، وإنه إذا فعل ما يُوجبه المأموم دونَه ولم يَنوِ أنه واجبٌ لم يصحَّ الاقتداء به. وهذا قول محدَثٌ في الإسلام، لا أصل له عن أحدٍ من السلف. وما زال المسلمون يصلُّون ولا يُميِّزون هذا التمييز، لا اعتقادًا ولا نيةً، وكيف يمكن هذا والنزاع في واجباتها ومُبطِلاتها من أصعب مسائل الفقه، فكيف يُكلَّف كل مُصلٍّ أن يحرم باعتقادٍ لا يعلم دليله؟ ومن احتاط، فإذا ما اشتبه عليه واجب هو أو مستحب؟ وترك ما اشتبه أحرامٌ هو أم لا؟ فقد استبرأ لعِرضِه ودينِه. فكيف يُذمُّ مثل هذا؟
وأما إن كان هذا القائل أراد [بقوله] «مذهبي» مذهبًا مبتدعًا في الأصول ما يخالف الكتاب والسنة، كمذهب الرافضة والمعتزلة والخوارج ونحوهم، فهذا ضالٌّ من وجهين: من جهة اعتقاد الباطل، ومن جهة امتناعه عن الائتمام بمن يعتقد الحق. وهكذا فعل أهل الأهواء بأئمة المسلمين، كما فعلت الخوارج بعلي رضي الله عنه، ابتدعوا بدعًا ما أنزل الله به من سلطان، وطعنوا مع هذا على من خالفهم من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، حتى آلَ الأمرُ بهم
(8/436)
إلى تكفير الجمهور وقتالهم، فهؤلاء أهل التفرق والاختلاف والأهواء. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} إلى قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 102 – 106]، قال ابن عباس: تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفرقة (1).
ومثل هؤلاء قد ذمَّهم رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – غاية الذم، بل أمر بقتالهم، مع وصفه لهم بالعبادة، حيث قال: «يَحقِرُ أحدكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامهم، وقراءتَه مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يُجاوِز حناجرهم، يَمرُقون من الإسلام كما يَمْرُق السهم من الرميَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلَهم يوم القيامة» (2).
فمن اعتقد ما يخالف الكتابَ والسنة، وذَمَّ الموافقَ للكتاب والسنة، ودخلَ في الفرقة والاختلاف لأجل ذلك، فهو من جنس هؤلاء.
وإن كان هذا القائل التزمَ بعض مذاهب الأئمة المشهورين كمذهب
_________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 747).
(2) جمع المؤلف بين حديثي أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب: والأول عند البخاري (5058) ومسلم (1064). والثاني عند البخاري (5057) ومسلم (1066).
(8/437)
أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فهذا إذا فعل ما يَسُوغ له لم يكن له أن يُنكِر على غيرِه إذا فعلَ أيضًا ما يسوغُ له، فإنه لم يقل أحدٌ من المسلمين: إنه يجب على الأمة كلها اتباعُ واحدٍ بعينه من هؤلاء الأربعة ولا من غيرهم، بل اتفقوا على أنه لا يجب طاعة أحدٍ في كل شيء إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فهو الذي فرض الله على الخلق اتباعَه وطاعتَه مطلقًا، فعليهم تصديقه في كل ما أخبر به عن الله، وطاعته في كل ما يأمر به.
وأما العلماء رضي الله عنهم فتجب طاعتُهم فيما يأمرون به من طاعة [الله] ورسوله. وعلى الجاهل أن يسألهم ويتعلم منهم ويرجع إليهم في دينه، وله أن يسأل هذا العالم وهذا العالم، ليس عليه أن يقتصر في السؤال والاستفتاء في جميع الدين على واحدٍ بعينه.
لكنْ تَنازعَ المتأخرون من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما: هل على العامي أن يلتزم مذهبَ واحدٍ بعينه من الأئمة المشهورين، بحيث يأخذ بعزائمه ورُخَصِه، على وجهين، والمشهور الذي عليه الأكثرون من [أصحاب] الشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم [أنه لا يجب] (1) في كل شيء، كما أنه ليس له أن يقلد في كلّ مسألة بمن يوافق غرضه، وليس له أن يقلّد في المسألة الواحدة إذا كان الحق له مَن لا يقلده إذا كان الحق عليه، بل عليه باتفاق الأئمة أن يعدل بين نفسه وغيره في الأقوال، فإذا اعتقد وجوبَ شيء أو تحريمَه اعتقد ذلك عليه وعلى من يماثله.
_________
(1) هنا في الأصل كلمات غير واضحة.
(8/438)
مثال ذلك شفعة الجوار، فإن للعلماء فيها قولين مشهورين، فمن اعتقد أحد القولين فقد قال بقول طائفة من علماء المسلمين، وليس لأحدٍ ثبوتُ الشفعة إذا كان هو الطالب، وانتفاؤها إذا [كان] هو المطلوب، كما يفعله الظالمون أهلُ الأهواء، يتبعون في المسألة الواحدة هواهم، فيوافقون هذا القول تارةً وهذا أخرى متابعةً للهوى لا مراعاة للتقوى.
وقد ذمَّ الله من يتبع الحق إذا كان له، ولا يتبعه إذا كان عليه، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} إلى قوله: {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 48 – 52].
وإذا كان جماهير العلماء لا يُوجبون على أحدٍ أن يلتزم قولَ شخصٍ بعينه غيرِ الرسول في كل شيء، إذْ في ذلك تنزيلُ ذلك الشخص منزلة الرسول، وليس لأحدٍ أن يُنزِل أحدًا منزلةَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، بل قد قال الصِّدِّيق الذي هو أفضل الخلق بعده: «أطيعوني ما أطعتُ الله، فإذا عصيتُ الله فلا طاعة لي عليكم» (1). فالرجل إذا اتبع قولَ بعض الأئمة في مسألة، وقول آخر في مسألة أخرى، إمَّا لظهور دليل ذلك له، وإما لترجيح بعض العلماء الذين يَسُوغ له تقليدُهم قولَ هذا في هذه وقولَ
_________
(1) أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2/ 660، 661). قال ابن كثير في البداية والنهاية (9/ 415): هذا إسناد صحيح.
(8/439)
هذا في هذه= لم يكن على فاعلِ ذلك ملامٌ، ولم يكن ذلك الذي التزمَ قولَ واحدٍ بعينهِ أحسنَ حالًا منه، بل هذا أحسنُ حالًا من ذلك، لأن الأئمة الذين تُوُفُّوا كأبي حنيفة ومالك والشافعيّ وأحمد وغيرهم لا يمكن كثيرًا من العامة بل ولا أكثرهم أن يعرفوا مراتبَهم في العلم والدين، بل الخاصة من العلماء الذين لا هوى لهم قد يتعذر عليهم كثير من ذلك، فكيف لمن يتبع الظن وما تهوى الأنفس؟
وجمهورُ من اتبع الواحدَ من هؤلاء إنما اتبعه من جهة دين العادة، لا من جهة دين العبادة، فإن الرجل ينشأ على مذهب أبيه أو مالكه أو أهل مدينته أو أهل خِطّته ونحو ذلك، ثم يحب ذلك وينتصر له تارةً بعلمٍ وتارةً بلا علمٍ، وتارةً مع حُسنِ النية وتارةً مع فسادها. ومن المعلوم أن الله قد ذمَّ في القرآن من يتبع دينَ الآباء ويَدَعُ دينَ ما أنزل الله على الرسول، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
وإذا كان كذلك فثقةُ المقلِّد بمن يثِقُ بعلمه ودينه من أهل العلم في ترجيح قولٍ على قولٍ أعظمُ من ثِقَتِه بترجيح ما يقوله [بعض القا] ئلين مطلقًا على ما يقوله الآخر، وكذلك ثقةُ المستدلّ [بما يقتضيه] الدليلُ أعظم من ثقته بذلك. فمن كان قادرًا على الاستدلال الذي يُوصله إلى معرفة الحق في أعيان المسائل كانت هذه الطريقُ خيرًا له، [و] هي الواجبة عليه دون تقليدِ شخصٍ واحدٍ في كل شيء، ومن يكن قادرًا على
(8/440)
التقليد، فالتقليد المفضل لمن يثق بعلمِه ودينه أقوى من التقليد العام المتضمن لفضلِ شخصٍ مطلقًا، مع أن هذا العالم ينفع إذا لم يكن أخصَّ منه. فمن علم أنه أعلمُ وأدْيَنُ كانتِ الثقةُ بأقواله أقوى، إذا لم يعلم رجحان أحد القولين. وتقليدُ الأعلم والأدين إما واجبٌ وإما مستحبٌّ.
وجماعُ هذا الأصل أن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، فمن كان من أهل الإيمان واجتهد في طاعة الله ورسوله علمًا وعملًا فلا ملامَ عليه، بل يغفر اللهُ له خطأه، ويُثيبه على صوابه.
وقد ظهر بما ذكرناه أن قول القائل: «لابد لكل أحدٍ من التقليد لأحد هذه [المذاهب] الأربعة» هو قول طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، لكن الجمهور على خلافه، فإن هذا لا يجب على كل أحد. ومن قال: «أنا متقيدٌ بالكتاب والسنة» لم يجز لأحدٍ أن يقول له: أنت مارِقٌ، ومن قال له ذلك أُدِّبَ على ذلك؛ فإن المروقَ هو الخروج، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في صفة الخوارج: «يَمرُقون من الإسلام كما يَمرُقُ السهمُ من الرميَّة» (1). وهؤلاء المارقون مَرَقُوا من السنة وخالفوا الجماعة، فمن تقيَّد بالكتاب والسنة كان متبعًا لا مبتدعًا، ومطيعًا لا عاصيًا.
ثم الكتاب والسنة يُوجِب عليه طاعةَ الله ورسولِه في كل وقتٍ وحينٍ، ومن أطاع الله ورسولَه دائمًا بحسب استطاعته كان من أولياء الله المتقين.
_________
(1) سبق تخريجه.
(8/441)
وقول القائل: «أنا لا أتقيد بأحد هذه المذاهب الأربعة» إذا أراد بذلك أي: لا أتقيَّدُ بواحدٍ بعينِه دون الباقين، فقد أحسن في هذا الكلام، بل هذا هو الصواب. وإذا أراد: أني لا أتقيد بها كلِّها بل أخالفُها، فهذا هو مخطئٌ في الغالب قطعًا، إذ الحق لا يخرج عن هذه المذاهب الأربعة في عامة الشريعة، ولكن تنازع العلماء: هل يخرج عنها في بعض المسائل؟ على قولين، كما قد بُسِط ذلك في غير هذا الموضع.
وكثيرًا ما يترجح قولٌ من الأقوال، ويظن الظانُّ أنه خارج عنها، ويكون داخلًا فيها، فيكون كلٌّ من القائلين معذورًا باعتبار نظره. لكن لا ريبَ أن الله لم يأمر الأمّة (1) باتباع أربعة أشخاص دون غيرهم، هذا لا يقوله عالم، وإنما هذا كما يقال: أحاديث البخاري ومسلم، فإن الأحاديث التي رواها الشيخان وصححاها قد صححها من الأئمة ما شاء الله، بل جمهورها اتفق أهل العلم بالحديث على صحته، فإخراجها لذلك دليلٌ على أنه قد صححه أئمة الحديث، لا أنه مجرد قول شخصٍ يُفيد العلم بصحة الحديث. فهكذا عامة ما يوجد (2) من أقوال الصحابة والتابعين أو أكثر ذلك يوجد في مذاهب الأربعة.
وأما من عُرِض عليه فأنكره، وقال: «لو كان (3).
_________
(1) في الأصل: الأئمة.
(2) في الأصل: يجد.
(3) ها هنا انتهى الموجود من هذه الفتوى في الأصل.
(8/442)
مسألة
في جماعة حنفية لهم إمام شافعي يصلّي بهم مدةً، فهل تصحُّ صلاتُهم خلفه أم لا؟ وهل يجب على فاعل ذلك التعزير؟
الجواب
صلاة المسلمين بعضهم خلفَ بعضٍ مع تنازعهم في موارد الاجتهاد هو الذي [عليه] سلف الأمة وأئمتُها، من غير خلافٍ بينهم في ذلك، فما زال الصحابة والتابعون يُصلِّي بعضُهم خلفَ بعضٍ، مع تنازعهم في كثير من مسائل الصلاة وغيرها. فإذا فعل الإمام ما يسوغُ فيه الاجتهاد اتبعه فيه المأمومُ، وإن كان هو لا يراه، مثل أن يصلي مَنْ لا يرى القنوت خلفَ مَنْ يقنت، فإنه يصلي خلفه ويتبعه في القنوت في أصح قولي العلماء. وكذلك من يَصِلُ الوتر خلفَ من يفصله، أو من يفصِله خلفَ من يَصِلُه، فإنه يصلي متبعًا لإمامه. وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به» (1)، [و] قال: «لا تختلفوا على أئمتكم» (2).
ولهذا مضت السنة واتفقَ المسلمون على أن المأموم يفعل لأجل
_________
(1) أخرجه البخاري (805، 1114) ومسلم (411) عن أنس بن مالك. وفي الباب عن غيره من الصحابة.
(2) أخرجه مسلم (432) عن أبي مسعود.
(8/443)
الائتمام ما لا يسوغ له أن يفعله منفردًا، كالمسبوق إذا أدرك الإمامَ راكعًا كبَّر وركع معه، واعتدَّ له بالركعة، وإن أدركه ساجدًا كبَّر وسجَد معه، ولم يَعتدَّ له بها، ثم إنه يتشهَّدُ عقيب الأوتار، ولو فعل ذلك منفردًا عمدًا سجد بالاتفاق. وكذلك لو سَها المأموم دون الإمام لم يسجد لسهوه، ولو سها إمامه دونَه سجد لسهوِه لأجل المتابعة.
وقد تنازع العلماء فيما إذا صلى باجتهاده فترك ما هو واجب عند المأموم، أوفعلَ ما هو محرم عند المأموم، كالشافعي والحنبلي على قولٍ، فصلَّى خلف المالكي الذي لا يقرأ البسملة، أو المالكي والشافعي إذا خرج منه دمٌ ولم يتوضأ، فصلَّى خلفه حنفي أو حنبلي يرى الوضوء من ذلك، [وأمثال] (1) هذه المسائل. فهذا إذا تيقَّنه المأموم ففي صلاته قولانِ مشهوران للعلماء، والنزاع في ذلك في مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة. وأما مذهب مالك فما أعلم فيه نزاعًا أنه يصح الصلاة خلفه. وهذا هو الصحيح المشهور عن أحمد في مسائل الاجتهاد التي تعارضت فيها النصوص. وكذلك الشافعي، وقد ثبت عنه أنه كان يصلي خلف المالكية، وهو يعلم أنهم لا يقرأون البسملة، وأبو يوسف صلَّى خلف هارون الرشيد، وقد احتجم وأفتاه مالك أنه لا يتوضأ.
وقد دلَّ على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه (2) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه
_________
(1) هنا بياض في الأصل بقدر أربع كلمات.
(2) برقم (694) عن أبي هريرة.
(8/444)
قال: «يصلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم». فصرَّح أن الإمام إذا أخطأ كان خطؤه عليه دون المأموم. وغاية هذه المسائل أن يكون الإمام فيها مخطئًا، وقد بيَّن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن خطأه عليه دون المأموم.
وبهذا يظهر الجواب عن قولهم: «إن المأموم يعتقد بطلانَ صلاة الإمام، فإذا علم بطلانَ صلاتِه كانت صلاتُه خلفه كالصلاة خلفَ من لا صلاة له، كالمحدِث المتعمد الصلاة مع حدَثِه». فإن هذا القياس خطأ وذلك أن المأموم يعلم أن الإمام مجتهد، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطؤه مغفورٌ له، وإذا كان يعلم أنه لا إثمَ عليه فممتنعٌ أن يعتقد بطلانَ صلاته. وإن كان هو يرى بطلان صلاة نفسه، كما أنه لو فعل ما يعلم تحريمه أو ما يرى وجوبه، قدحَ ذلك في دينه وعدلِه، ولو فعل ذلك من هو مجتهد يسوغ له الاجتهاد لم يقدح ذلك في دينه وعدله.
وأما أكثر من يترك واجبًا في نفس الأمر أو يفعل محرمًا في نفس الأمر، ولم تكن قد قامتْ عليه الحجةُ، فلا يثبت في حقِّه حكم الوجوب والتحريم؛ لأن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
ولو قيل لهذا المأموم: أنت تقول في هذا الإمام: «إن صلاته باطلة، بمنزلة من صلَّى بغير وضوءٍ وهو يعلم ذلك بخبثِه وفسقِه»، فيقول: لا. ويقال له: هو مأجور على هذه الصلاة مُثابٌ عليها، قد برئت ذمته من
(8/445)
الطلب [بها] أو هي ثابتة في [ذمته] عليه إعادتها؟ فإن قال بالثاني فقد خالف إجماع الفقهاء، وإن قال بالأول بطلَ قوله.
ويقال له: من صلى ………. (1) ولم يُبسمِلْ مثلًا متأوِّلًا، يَلقَى اللهَ لقاءَ من أقام الصلاةَ أو لقاءَ من لم يُصلِّ صلاةً أصلًا؟ فإن قال بالثاني فقد كفر، وإن قال بالأول عُلِمَ أن من فعل ذلك فهو مقيم الصلاة.
ويقال له: من لم يُصلِّ أصلًا هل يكون وليًّا لله؟ فإن قال: نعم، كان ضالًّا، وإن قال: لا، قيل له: فهل في هؤلاء أولياء لله؟ فإن قال: نعم، عُلِمَ أن صلاتهم صحيحة لأجل التأويل والاجتهاد.
وسِرُّ المسألة أن ما تركوه إن لم يكن واجبًا في نفس الأمر فلم يتركوا واجبًا، وإن كان واجبًا فقد سقط عنهم باجتهادهم الذي استفرغوا فيه وُسْعَهم، وبلغوا فيه إلى حدٍّ يَعجِزون معه عن معرفة الوجوب، فسقط عنهم ما عَجَزوا عن معرفته، كما أسقطوا بالعجز عن فعله حينئذٍ، فيكونون قد فعلوا الواجبَ، فتكون صلاتهم صحيحة. وقد قال الله تعالى في القرآن في الدعاء المستجاب: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، إذ قد ثبت في الصحيح (2): أن الله استجاب هذا الدعاء للنبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين. وإذا كان الله قد رفع المؤاخذة عن المخطئ لم تَبطُلْ صلاتُه، كما لا يُؤاخَذ به.
_________
(1) هنا كلمتان لم أستطع قراءتهما.
(2) أخرجه مسلم (125) عن أبي هريرة، و (126) عن ابن عباس.
(8/446)
وطردُ هذا إن كان ناسيًا بحدثِه، ثم علمه بعد الصلاة، فإنه لا إعادة على المأمومين عند مالك والشافعي وأحمد، كما رُوي عن عمر وعثمان وغيرهما. ونظير هذا سقوطُ الوضوءِ عمن عجز عنه لعدم الماء أو لضرورة، إذا صلَّى بالتيمم فإنه يصحُّ أن يأتمَّ به المتوضئ عند الجماهير، كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأبي يوسف، لحديث عمرو بن العاص لما صلَّى بأصحابه في غزوة ذات السلاسل، وفعلَه ابنُ عباس أيضًا. والله أعلم.
(8/447)
مسألة
في إمام مُدْمنِ الخمر، هل تصح الصلاة خلفه أم لا؟ وما صفة مُدمن الخمر؟ هل هو الذي لا يتركه دائمًا، أو من يكون أكثر أوقاتِه مخمورًا، أو من ينوي بقلبه أنه متى حصلَ خمرٌ شربَه؟
الجواب
من شرب الخمرَ يومًا ثم لم يشربْها إلى شهر، ومن نيتُه أنه إذا قدرَ عليها شرِبَها فهو مُصِرٌّ عليها ليس بتائبٍ منها. وكذلك من اعتادَ شربَها كما يشرب أمثالُه الشرابَ فهو مُدمِنٌ عليها وإن لم يكن مخمورًا أكثرَ أوقاتِه، فإن اعتياد الخمر كاعتياد اللحم، من الناس من يأكله كل يوم، ومنهم من يأكله يومًا ويومًا، ومنهم من يأكله في الأسبوع مرةً أو مرتين. وكلُّ هؤلاء مُدمنون.
ولا يجوز أن يُولَّى لا المُصِرُّ ولا المدمن إمامةَ الصلاة، لكن إذا ولّاه القادرُ الذي لا يمكن منازعتُه الصلاةَ صَلَّى خلفه ما يحتاج منه إلى الصلاة معه، كالجمعة وكالجماعة التي لا يقوم بها غيرُه. وأما إذا أمكن الصلاةُ خلفَ البَرِّ على الوجه المشروع فهو أولى من الصلاة خلفَ الفاجر. والله أعلم.
(8/448)
سُئِل شيخنا تقي الدين أحمد ابن تيمية رحمه الله
عن رجلٍ اشترى جاريةً كافرةً، فأسلمتْ، فأعتقَها وتزوَّجها، فأنجبتْ منه ولدًا، ثم ماتت، ولم تكن تعرف تُصلِّي، ولم تكن صلَّت في الإسلام. فأين تكون من زوجها إن كان من أهل الجنة؟ وهل يتعارفون ويتساءلون؟ أو أن أحدهما يعذَّب والآخر في راحة، وهل العذاب على النفس والبدن والروح أم على واحدٍ دون الآخر؟
فأجاب
الحمد لله. إن ماتت قبل أن تعرفَ الصلاةَ تجبُ عليها بحسب حالها، وكانت مؤمنةً بأن دينَ محمد – صلى الله عليه وسلم – هو الحق، ولو أمرها الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالصلاة لصلَّت، فهذه حكمها حكمُ أمثالِها ممن آمن وجهلَ بعضَ شرائعِ الإسلام، وهذا ممن يُرجى له الجنة. وإن دخلَ زوجُها الجنةَ فهي زوجتُه في الجنة، وإن لم يدخل أحدُهما لم يُغنِ عنه دخولُ الآخر الجنةَ، بل أهل الجنة في النعيم، وأهل النار في الجحيم، ولو كانا أخوين شقيقين أو زوجين، أو كان بينهما غير ذلك من الأسباب.
وإذا مات الميتُ وكان من أهل الجنة تلقَّاه أهلُ الجنة، ويسألونه عما يَعرِفونه من الأحياء، ما فعلَ فلانٌ؟ فيقول: على حال حسنة. وما فعلَ فلان؟ فيقول: قد تزوج. وما فعلَ فلان؟ فيقول: ألم يأتِكم؟ فيقولون: لا، فيقول: ذُهِبَ به إلى أمّه الهاوية. والأعمالُ التي تعرض على أقاربهم من الأحياء.
(8/449)
والنعيم والعذاب للروح والبدن جميعًا، فالروح تَنعَم وتُعذَّب مفردةً، وينعم ويُعذّب البدن بواسطة الروح إذا شاء الله. وتفصيل هذا مبسوطٌ في موضع آخر (1).
_________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (4/ 282 – 299).
(8/450)
سئل الشيخ رحمه الله ما صورته:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين ــ رحمهم الله أجمعين ــ في عرب البادية، الذين كلَّ سنةٍ يَقصِدون إلى قربِ الحجاز في أهلهم وبيوتهم وجميع مالهم، وقتٌ يَجِدِّون في السَّير، ووقتٌ يُقيمون، ووقتٌ يكون سيرُهم سهلًا، فهل يَحِلُّ لهم قصرٌ في جميع ذلك أو في شيء منه؟ أو قصرٌ في وقتٍ دون وقت فيما يحل؟ وهم كلَّ عامٍ يكون هذا دأبهم، في كل سنة يكون مدة رحيلهم ثمانية شهور أو تسعة شهور، وجميع مقامهم في الشام كلَّ عام ثلاثة شهور، وإن كثر أربعة. أفتونا وبينوا رحمكم الله تعالى.
فأجاب الشيخ رحمه الله تعالى بما صورته:
الحمد لله. هؤلاء إذا سافروا من أهليهم في جهادٍ أو سفر إلى السلطان أو لحملِ حنطةٍ أو غير ذلك قَصَروا الصلاة، وأما إذا كانوا مع أهليهم يطلبون الماء والمرعَى، أيَّ موضعٍ وجدوه أصلحَ لهم أقاموا به لم ينتقلوا منه إلى غيره، فهذا هو مقامهم فلا يقصرون الصلاة. مثل ذلك مثل ما يكونون منتقلين بأرض الشام أو أرض نجد، وإذا ارتحلوا من الشام إلى نجد سفرًا مستمرًّا من غير إقامةٍ كانوا مسافرين أيضًا. والله أعلم.
(8/451)
سئل شيخنا رضي الله تعالى عنه في مسائل:
1 ــ إحداها:
فيمن قتل النفسَ التي حرَّمَ الله بغير الحق، وتمكن أولياء المقتول من القَوَد، ويعفو أولياءُ المقتولِ عنه، أو يصالحوه على شيء دون الدية الشرعية، هل يعود المقتول يطالب في الآخرة أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله. نعم يطالب المظلوم المقتول حقَّه من الظالم القاتل في أحد قولي العلماء، والله أعلم. كتبه أحمد ابن تيمية.
2 ــ ومنها:
ما تقول برجلٍ كثير الحسنات كثير السيئات، فهل تُكتب حسناته وسيئاتُه؟ أم يُذهِبُ بعضُهن بعضًا؟
فأجاب:
تُكتَب حسناته وسيئاته، والله تعالى يَزِنُ هذه بهذه، فإن رجَحَت الحسناتُ دخل الجنة، والله أعلم. كتبه أحمد ابن تيمية.
3 ــ ومنها:
ما يقول سيّدنا في اليتيم والأرملة، هل هما من أهل الزكاة أم لا؟
فأجاب:
إذا كانا من الفقراء والمساكين أُعْطُوا من الزكاة، وهما أحقُّ مِن غيرهما.
(8/452)
4 ــ ومنها:
ما يقول سيّدنا بمن يَستمني بيده، هل هو زنا أم لا؟ وماذا يجب عليه إذا فعلَ ذلك؟
أجاب:
هذا حرام يُعزَّر صاحبُه، لكن إذا اضطُرَّ إلى ذلك وخشيَ العنَتَ، مثل أن يخاف المرضَ أو الزنا، ففيه قولانِ للعلماء.
5 ــ مسألة:
وما يقول سيدنا في التين هل يجب عليه عُشْرٌ أم لا؟
فأجاب:
نعم، التين يُعشر في أظهر قولي العلماء. كتبه أحمد ابن تيمية.
6 ــ مسألة:
وما يقول سيّدنا بمن يأكل الحرام ويترك الصلاة، هل يجوز أن يُعطَى الزكاةَ أم لا؟
فأجاب:
يُستتاب، فإن التزم أن يُصلِّي أُعطِيَ من الزكاة، وإن امتنع من الصلاة لم يُعطَ، والله أعلم. كتبه أحمد ابن تيمية.
(8/453)
7 ــ مسألة:
وما يقول سيّدنا في المسافر إذا نزلَ في موضع وهو يعلم أنه يُقيم فيه عشر ليالٍ وأكثر، فهل يجوز له أن يَقصُر ويجمع؟ أو يُتِمّ؟
فأجاب:
السنة للمسافر أن يقصر الصلاةَ ركعتين ركعتين إلا المغرب، والجمع إذا احتاج إليه، وإذا كان المسافر نازلًا فالسنةُ أن يَقصُر ولا يجمع إلّا إذا احتاج إلى ذلك، وإذا كان لا يدري كم يُقيم فإنه يَقصُر أبدًا، وإن عَلِمَ أنه يُقيم عشرًا أو خمسة عشر ففيه قولان للعلماء، أظهرهما أنه يَقصُر أيضًا، والله أعلم. كتبه أحمد ابن تيمية. (صورة خطه في المواضع كلها).
فصل
إذا أقرَّ الأب في ملكٍ كان له بأنه ملكٌ لأولادِه بناءً على أنه وهبَه لهم، فله أن يرجعَ في هذه الهبة. وإذا كان الإقرار مطلقًا، فادعى أنهم إنما ملكوه بطريق الهبة لا بطريق المعاوضة، فالقول قولُه مع يمينه في ذلك، وله أن يرجع في الهبة، فإن الأصل عدمُ العِوَض، وقد جرت العادة بأن التمليك يكتب إقرارًا، والله أعلم. كتبه أحمد ابن تيمية.
(8/454)
مقدمة التحقيق
الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وصلاة الله وسلامه على خاتم أنبيائه ورسله محمد وعلى أزواجه وذريته.
أما بعد، فهذه هي المجموعة التاسعة من «جامع المسائل» لأبي العباس تقي الدين وشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، مما لم يُنشر من قبلُ من آثاره، أحمدُ الله مسبغَ النعم أن هيأ لي أسباب نشرها والعناية بها، مقتفيًا سبيل أخوين كريمين سبقا إلى نشر المجموعات السابقة من هذا الجامع المبارك، الشيخ المحقق البحاثة محمد عزير شمس، والشيخ المحقق الدكتور علي بن محمد العمران، بارك الله صنيعهما وزادهما إحسانًا وتوفيقًا.
وقد اعتمدت في تحقيقها على ثلاثة أصول خطية، بذلت الوسع في قراءتها قراءة صحيحة، وأدائها إلى القارئ بريئة من سهو النساخ، خالصة من سقطهم، مذيَّلة بتعليقات هادية إلى تخريج حديثٍ أو توثيق نصٍّ أو إحالة إلى نظير من آثار شيخ الإسلام أو غير ذلك مما اجتهدتُ في بذل النصح فيه وتقريب ما تناءى منه، وما أزعم أني أوفيت على الصواب في كل ما تقدمتُ به، ولكني اجتهدتُ ولم آلُ، والله من وراء قلب كل امرئ وقصده.
وهذا موضع القول في تلك الأصول، وما اشتملت عليه من المسائل والرسائل، تعريفًا وتوثيقًا:
* الأصل الأول:
مجموع نفيس محفوظ بمكتبة أيا صوفيا برقم (1596)، عدد أوراقه
(مقدمة 9/5)
240 ورقة، بخط شمس الدين محمد بن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحيم بن علي بن حاتم بن عمر بن محمد بن يوسف بن أحمد بن محمد, من ولد عبد الرحمن بن سعد بن عبادة سيد الخزرج – رضي الله عنه – , الأنصاري, الحرَّاني, الشهير بابن الحبَّال, الحنبلي.
هكذا ساق اسمه ورفع نسبه في مواضع من المجموع, وذكر في موضعٍ أنه سِبْطُ سِبْط الشيخ محمد بن قوام الصَّالحي (ت: 658) (1) , أي من جهة أمه, ووجدتُ من طبقتها: عائشة بنت أبي بكر بن محمد بن عمر بن أبي بكر بن قوام الصَّالحية (ت: 803) (2)، فلعلها هي.
ولم أقف له على ترجمة فيما نظرت من المصادر, ومما رأيتُ بخطه غير هذا المجموع نسخة جيدة من «مفتاح دار السعادة» للإمام ابن القيم بمكتبة حسن باشا (برقم 580)، نسخها سنة 792 بطرابلس، فهذه قرينةٌ على أنه كان من أهلها.
ومن آل بيت الحبَّال عددٌ من أهل العلم ينسبون إلى حرَّان, وبعضهم إلى بعلبك, وذلك أن أصولهم من حرَّان (3) , ثم سكن بعضهم بعلبك, وبعضهم طرابلس, وبعضهم دمشق.
ومن أعلامهم: الشيخ المسند جمال الدين يوسف بن عبد الله بن علي
_________
(1). ترجمة الشيخ الصالح ابن قوام في «تاريخ الإسلام» (14/ 902).
(2). انظر: «إنباء الغمر» (2/ 179).
(3). كما قال اليونيني في «ذيل مرآة الزمان» (4/ 55) عن داود بن حاتم بن عمر بن الحبال (ت: 679): «أصل أجداده من حرَّان». وانظر: «البداية والنهاية» (17/ 568).
(مقدمة 9/6)
ابن حاتم بن محمد بن يوسف البَعْلي الدمشقي ابن الحبال (ت: 778).
ومنهم: جدُّ الناسخ: إبراهيم بن عبد الرحيم بن علي (ت: 744)، وهو من أصحاب شيخ الإسلام، وقد ذكر في نصيحته المنشورة بعنوان «النصيحة المختصة» (ص: 42) وصية ابن تيمية له سنة ثلاث وسبع مئة، وهي مطبوعة عن أصل فريد كتبه بطرابلس الشام سنة 759 ابنه وعمُّ الناسخ: أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحيم (1).
وخطُّ الناسخ واضحٌ حسن, وعنايته بالضبط وعلامات الإهمال تدلُّ على فضله واشتغاله, ولا يخلو من تحريفٍ وسقطٍ لعل بعضه من الأصل الذي ينقل عنه لمحوٍ أو استغلاق رسمٍ أو غير ذلك، فإنا نجد بعض المسائل والرسائل حافلة بالتحريف، وبعضها خالية منه أو تكاد.
ومن دلائل فضله: ذِكره في الطُّرر لبعض القراءات الأخرى المحتملة للمواضع المشكلة، يصدِّرها بقوله: «لعله … »، كما في (ق 4/و، 9/ظ، 10/ظ، 14/و، 69/ظ، وغيرها)، وربما كانت مما رآه على الأصول التي ينقل عنها.
ومن دلائل عنايته: مقابلته لرسائل المجموع ومسائله, يقيد بلاغاتها في الطرر بقوله (ق 10/ظ، 20/ظ، 30/ظ، 37/ظ، 39/ظ، وغيرها): «بلغ مقابلة»، وفي بعضها (ق 12/ظ، 42/ظ، 52/ظ، 62/ظ، وغيرها): «بلغ مقابلة مع قاضي القضاة أبي العباس أحمد ابن الحبال الحنبلي» , وهو الشيخ الإمام شهاب الدين ابن الحبال أحمد بن علي بن عبد الله بن علي بن حاتم
_________
(1). أفادنيه الشيخ الدكتور سليمان بن عبد الله العمير جزاه الله خيرًا.
(مقدمة 9/7)
البعلي الحنبلي قاضي القضاة (ت: 838) (1).
وآثار المقابلة من اللحق والتصحيح باديةٌ على صفحات المجموع, وكذلك الفصل بين المسائل ونحوها بدائرة منقوطة على طريقة المحدثين, والنقط علامة المقابلة عندهم.
وهو يضع في الطُّرر عناوين لبعض المسائل، وربما وضعها في المتن قبل بدايتها، ولا أدري أمن إنشائه هو أم من الأصول التي ينقل عنها؟
وقد كتبه ابن الحبال في شهور سنة 793، كما يدل عليه تتبُّع التواريخ التي قيَّدها لنَسْخِه, فأول ذلك (ق 12/ظ): سادس شهر ربيع, ثم في (ق 26/ظ): خامس وعشرين شهر ربيع الآخر, ثم في (ق 135/و): سابع وعشرين من جمادى الأولى, ثم في (ق 173/ظ): ثالث شهر رجب الفرد الأصب من شهور سنة ثلاث وتسعين وسبعمئة.
وعلى صفحة العنوان بضعة تملكات، من أهمها تملُّك لأحمد بن النجار الحنبلي سنة 894، ولعله الإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي الحنبلي، المعروف بابن النجار، ولد سنة 862 وتوفي سنة 949.
ومن نفاسة هذا المجموع أن جُلَّ ما فيه منقولٌ عن خط الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد ابن المحب، وهو عن خط شيخ الإسلام ابن تيمية، وخطوط كبار أصحابه وناسخي كتبه العارفين بآثاره، كالمحب الصامت، وعمه برهان الدين إبراهيم ابن المحب، وتقي الدين أبي بكر
_________
(1). انظر: «المقصد الأرشد» (1/ 147, 185, 2/ 502).
(مقدمة 9/8)
الدريبي، والحسين بن إبراهيم بن سونج، وبدر الدين بن عز الدين المقدسي.
كما أن على بعض طرره تعليقات لشمس الدين ابن المحب، كتعليقه على تفسير سورة المسد (ق 40/ظ- 44/ظ)، وتعليقه على فصل في الأم إذا أنفقت على ابنها وهو في حضانتها تنوي بذلك الرجوع على الأب (ق 72/و-72/ظ)، والفصل منشور في «مجموع الفتاوى» (34/ 134).
وقد سُمِّي المجموع في صفحة العنوان بخط أحدهم: «مجموع من فتاوى الشيخ تقي الدين ابن تيمية»، وتحته: «وهذا المجموع بخط الشيخ شمس الدين ابن الحبال تغمده الله برحمته».
وهو كذلك، فغالب ما فيه رسائل ومسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية، بعضها مما سبق نشره في «مجموع الفتاوى» و «جامع المسائل»، وبعضها مما لم يسبق نشرُه من قبل، وهو ما تضمُّه المجموعة التي بين يديك، وسآتي على ذكرها مفصَّلة بعد قليل.
وما نُشِر من تلك الرسائل والمسائل لم يُعتمد في نشره على نُسَخ هذا المجموع، وبعضها في غاية النفاسة والإفادة، كمسألة الكلام على القراءات السبع هل هي المرادة بحديث الأحرف السبعة؟ (ق 27/و-33/و)، فإن في صدر نسختنا النصَّ على أن السائل هو الإمام أبو حيان الأندلسي، وأن ذلك كان بمصر في رجب سنة سبع وسبعمئة، وأن جواب شيخ الإسلام سُمِع من لفظه. وهي نسخةٌ جليلة، نقلها ابن الحبال من خط شمس الدين ابن المحب الذي قرأها على ابن عمه الإمام المحب الصامت، ونقل من خطه: «قرأها كاتبها أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن المحب عليَّ, بسماعي من
(مقدمة 9/9)
أبي محمد عبد الله بن يعقوب الإسكندري , بسماعه من الشيخ , … في محرم سنة اثنتين وستين وسبعمئة. كتبه محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب».
ومنها: القاعدة المشهورة في العبادات التي جاءت على وجوه متنوعة (ق 54/ظ-63/و)، ففي صدر نسختنا النصُّ على أنها مما كتبه الشيخ في محبسه بقلعة دمشق آخر عمره – رحمه الله -.
ومنها: مسألة في الذنوب الكبائر هل لها حدٌّ تعرف به؟ (ق 96/ظ-99/ظ)، وفي صدر نسختنا النصُّ على أن السائل هو الشيخ أبو عبد الله بن رُشَيِّق، وهي منقولة من خط ابن المحب. وفي نشرتها من «مجموع الفتاوى» (11/ 650 – 657) سقط.
ومنها: فصل في قيام الليل (ق 104/ظ-106/ظ)، كتب الناسخ في أوله: «وهو من القلعيَّات مما سئل عنه شيخ الإسلام»، يعني مما كتبه في قلعة دمشق، وقد نقله ابن الحبال عن خط شمس الدين ابن المحب عن خط عمه إبراهيم ابن المحب.
ومنها: المسألة المشهورة بالرسالة الأكملية, وقد نشرت مفردة وضمن مجموع الفتاوى (6/ 68 – 140). وهي في نسختنا بعنوان: «مسألة تتعلق بالكمال في حقِّ ذي الإكرام والجلال» (ق 205/ظ-237/ظ)، وكتب الناسخ في صدرها: «وهذه تسمى: الأكملية الجوزية؛ لأن السائل عنها إمام الجوزية». وقد نقلها ابن الحبال عن خط الإمام المحب الصامت, ونقل المحبُّ طبقة سماعٍ للمسألة من لفظ المجيب شيخ الإسلام بدار الحديث السكرية بدمشق سنة 716, وكاتب السماع هو الشيخ المحدث محمد بن
(مقدمة 9/10)
إبراهيم بن محمد بن الواني, وممن ورد اسمه في طبقة السماع: الإمام المزي, وابن القيم, وابن رُشَيِّق, وتاج الدين الفارقي، وطائفة.
هذه نماذج لما سبق نشرُه، وقد تركتُ أكثر مما ذكرت.
وفي المجموع بعض ما صرَّح الناسخ بنسبته لغير شيخ الإسلام، كرسالة برهان الدين ابن القيم في الكلام على سنَّة الجمعة (ق 13/و-26/ظ)، وهو أصلٌ نفيسٌ مقابلٌ منقولٌ عن نسخة عليها خطُّ شمس الدين ابن المحب، وفيه التصريح باسم المردود عليه، وهو الشيخ زين الدين القرشي الشافعي، ولم يُعتمد في النشرة المطبوعة لهذه الرسالة.
ومن ذلك: دعاءٌ طويل لختم القرآن، نقله ابن الحبال (ق 90/و-91/ظ) عن خطِّ ابن المحب عن خطِّ برهان الدين ابن القيم، ولم يصرِّح بنسبته لشيخ الإسلام، فلم أدرجه في هذه المجموعة، وهو بالبرهان ابن القيم أو غيره أشبه، والله أعلم.
ومما لم يصرِّح الناسخ بنسبته لشيخ الإسلام أو لغيره: مسألة مختصرة فيما يستحقه الشهود الخارجون للقسم من الأجرة (ق 149/و-149/ظ)، ولم أعتمدها لذلك أيضًا في هذه المجموعة.
ومن هذا الباب: رسالةٌ إخوانيةٌ في الصبر على البلاء (ق 157/ظ-160/و)، لم يذكر الناسخُ كاتبها، وليست من نمط كلام شيخ الإسلام.
ومما لم أر مناسبته لهذه المجموعة: وقائع شيخ الإسلام مع الجن، وما يتصل بها من الحكايات، كتبها الشيخ شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن محمود بن إسماعيل البعلبكي الشافعي في أثناء كلامه على
(مقدمة 9/11)
حوادث فتنة سنجار (ق 149/ظ- 153/و)، وهي بكتب التراجم أليق منها بجامع المسائل.
وفي المجموع سوى ما تقدم ذكره: بضع فوائد متفرقة منقولة عن ابن الجوزي وابن الأثير وابن كثير وشرح المنهاج للأذرعي (ق 178/ظ، 186/و- 186/ظ)، وأبيات وقصائد لجمال الدين يوسف السرمري وغيره (ق 160/ظ، 198/و- 205/و).
أما الرسائل والمسائل التي ضمَّتها مجموعتنا هذه من ذلك المجموع، فهي:
1. فصل في الكلام الذي ذمَّه السلف.
(ق 108/و- 112/و)، نقله ابن الحبال عن خط شمس الدين ابن المحب عن خط شيخ الإسلام.
وهو فصلٌ نافعٌ حرَّر فيه الشيخ حقيقة الكلام الذي تواردت عبارات السلف على ذمه والنهي عنه، وبيَّن اضطراب الناس في فهمهم له، وأن التحقيق هو أن مرادهم به الكلام المبتدع الذي لم يشرعه الله ورسوله، وأنهم لم ينكروا مجرَّد إطلاق ألفاظٍ لها معانٍ صحيحة، كما يعتقده قومٌ من أهل الكلام وغيرهم.
وأحال في مواضع منه على كتابه «اقتضاء الصِّراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم»، وعلى قاعدته في السُّنة والبدعة.
2. مسألة في الأولياء والصالحين والأقطاب والأبدال ورجال الغيب.
(ق 122/و- 127/و)، سئل فيها الشيخ عن حديث: «ما من جماعةٍ
(مقدمة 9/12)
اجتمعوا إلا وفيهم وليٌّ لله تعالى، لا هم يدرون به، ولا هو يدري بنفسه»، هل هو صحيح؟ ومن أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون؟ ومن الصَّالح؟ وهل لرجال الغيب حقيقة؟ وهل ينبتُ الشَّعرُ على أبدانهم، فيستغنون به في جميع أوقاتهم عن لبس الثياب؟ وما معنى الأبدال والقُطْب؟ وهل يكونون في البراري والجبال، أم في المدن بين أظهر الناس؟ وهل لهم علامةٌ يُعْرَفون بها أم لا يعلمهم إلا الله عزَّ وجل؟ فأجاب عن جميع ذلك فصلًا فصلًا.
وقد نقل من هذا الجواب بلفظه ابن أبي العز في شرحه على الطحاوية (2/ 508 – 509) دون عزوٍ على طريقته المعهودة.
3. مسألة في حياة الخضر وادعاء لقائه.
(ق 137/ظ-139/و)، سئل فيها الشيخ عن الخَضِر، هل هو حيٌّ الآن؟ وهل يأثمُ من كذَّب إنسانًا ادَّعى أنه لقيه واجتمع به في غير النوم؟ فأجاب ببيان أنه ليس في دعوى الاجتماع بالخَضِر فائدةٌ في دين المسلمين، سواءٌ كانت صدقًا أو كذبًا، ذلك أنه لا يُرْجَعُ إلى الخَضِر ولا إلى من يَنْقُل عن الخَضِر من غير طريق النبي – صلى الله عليه وسلم – في شيءٍ من دينهم، ثم قرَّر أن الصواب موت الخَضِر قبل النبي – صلى الله عليه وسلم -، وأنه لم يُدْرِك زمنَه ولا رآه، ولا ذكر أحدٌ من الصَّحابة أنه كان موجودًا، وأن كلَّ من ذكَر أنه حيٌّ، فإن كان صادقًا فهو مُلَبَّسٌ عليه؛ وإن كان كاذبًا كان من أهل الإفك المستحقِّين التعزير.
وقد ذكرتُ في حواشي المسألة أن القول بموت الخضر هو المعروف المستقر في كتب شيخ الإسلام، وأحلتُ على مواضعها، وبينتُ أن ما وقع في «مجموع الفتاوى» (4/ 337) من القول بحياة الخضر منحولٌ على شيخ
(مقدمة 9/13)
الإسلام أو منتزعٌ من سياقه إذ كان نقلًا لقول من يذهب إلى حياته، كما أوضحه الخيضريُّ في كتابه «افتراض دفع الاعتراض».
4. رسالة إلى الشيخ قطب الدين في الكلام عن ابن عربي وطائفته.
(ق 139/و-143 ظ)، نقلها ابن الحبال عن خط ابن المحب عن خط عمِّه إبراهيم ابن المحب عن خط شيخ الإسلام.
وهي رسالة كتبها شيخ الإسلام إلى قطب الدين موسى بن أحمد بن الحسين، ناظر الجيوش بالشام ومصر، وكان من رجال الدهر سؤددًا وفضلًا، وتوفي سنة 732، بخصوص قضية وقعت سنة 704 إذ نشب خلافٌ بين جماعة من المتصوفة ببعلبك في كلام ابن عربي ونحوه من الاتحادية، فقدموا إلى شيخ الإسلام بدمشق، واجتمعوا عنده بدار الحديث السكرية حيث كان يسكن، بحضور جماعةٍ من كبار أصحابه، وجرى الحديث فيما وقع الخلاف فيه من أمر الاتحادية، وقرئ بعض ما به بيان حقيقة أمرهم من كلامهم، ثم اتفقوا على أن تلك المقالات وما أشبهها كفر، وتبرؤوا منها، وكُتِب محضرٌ بذلك وقَّع عليه الحاضرون، وكتب شيخ الإسلام إلى أهل بعلبك رسالة بيَّن لهم فيها الحقَّ وشرح ما وقع في ذلك الاجتماع.
ويظهر أن خبر ذلك الاجتماع وما جرى فيه قد بلغ ناظر الجيش الشيخ قطب الدين، فكتب إلى شيخ الإسلام يسأله عنه، ويحثُّه على جمع الكلمة، وإصلاح ذات البين، ونحو ذلك، فأجابه الشيخ بهذه الرسالة.
والمحضر الذي أشرت إليه ورسالة شيخ الإسلام إلى أهل بعلبك في هذا الأمر كلاهما منشورٌ في «جامع المسائل» (7/ 245 – 259).
(مقدمة 9/14)
5. فصل في الكلام على الاتحادية.
(ق 112/و- 114/و)، نقله ابن الحبال عن خط ابن المحب عن خط شيخ الإسلام.
وهو فصلٌ نافعٌ في الرد على الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، ابتدأه بفصلٍ منقول من كلام ابن سبعين، ثم شرع في بيان وجوه الكفر في تلك المقالة وأنها جامعة لكلِّ كفرٍ في العالم، ولفساد كلِّ عقلٍ ودين. وفي آخره مقارنةٌ مهمة بين قولهم وقول فرعون لم أقف على نظيرٍ لها فيما رأيت من تراث الشيخ – رحمه الله -.
6. مسألة في الأفعال الاختيارية من العباد.
(ق 164/و- 173/ظ)، نقلها ابن الحبال عن خط ابن المحب عن خط شيخ الإسلام, وفي صدرها: «مسألة سئل عنها بالشام شيخُ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني – رضي الله عنه – قبل دخوله مصر وسُمِعت من لفظه في رمضان سنة أربع وتسعين وستمئة, في الأفعال الاختيارية من العباد … ». وفي آخر الجواب قال ابن الحبال: «آخر ما وُجِد بخطه، ومنه نقل الإمام شمس الدين محمد ابن المحبِّ المقدسي الحنبلي تغمده الله تعالى برحمته، وقال: إنه وجده في دُرْجٍ، وفي ظهره مكتوبٌ ما صورته بخطه أيضًا: … » ثم ساق تتمة مهمة للجواب في ثلاث صفحات.
وقد نُشِرت المسألة في «مجموع الفتاوى» (8/ 386 – 405) عن أصل كثير التحريف والبياض أشار إليه الشيخ ابن قاسم – رحمه الله – في عدة مواضع (8/ 394، 401، 402، 403، 404، 405)، وينفرد الأصل الذي معنا
(مقدمة 9/15)
بتلك التتمة التي أشرنا إليها، وهي الباعث الأساس لنشر المسألة ضمن هذه المجموعة، كما ينفرد بالنص على تاريخ المسألة ومكانها وسماعها من لفظ شيخ الإسلام، بالإضافة إلى تصحيح التحريف واستدراك السقط. وقد انتفعت بمطبوعة «الفتاوى»، وجعلت زياداتها بين معقوفين، وأشرت إلى المهم من قراءاتها وخللها، رامزًا إليها بحرف (ف).
7. فصل في الكلام على حديث «اللهم إني عبدك بن عبدك … ».
(ق 50/ظ- 53/و)، وهو شرحٌ لحديث ابن مسعودٍ – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ما أصاب عبدًا قطُّ همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدُك ابن عبدُك ابن أمتك، ناصيتي بيدك … ».
وقد ذكر ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (105) في الأحاديث التي شرحها شيخ الإسلام: «وحديث ابن مسعودٍ في درء الهمِّ»، وهو هذا.
واعتمد عليه ابن القيم، ولخَّص عيونه، ونقل كثيرًا من ألفاظه في «شفاء العليل» (749 – 760).
8. مسائل عقدية.
وهي سبع مسائل (ق 135/ظ، 137/ظ، 63/و- 63/ظ، 79/ظ، 86/و)، جمعتها تحت هذا العنوان لاختصارها:
الأولى: في معتقد أهل السنة في كرامات الأولياء، ومذاهب مخالفيهم فيها. نقلها ابن الحبال عن خط ابن المحب عن خط تقي الدين الدريبي. وهي مختصرة بألفاظها في «مختصر الفتاوى المصرية» (600).
(مقدمة 9/16)
الثانية: في من يعتقدُ أن الله يكلِّفُ العباد ما لا يطيقونه.
الثالثة: في جملة أمور سئل عنها شيخ الإسلام، وهي: هل صلى أحدٌ من الأنبياء إلى المشرق، أو المغرب، أو إلى بيت المقدس؟ وهل بعث الله نبيًّا بغير دين الإسلام؟ وما سببُ صلاة نبينا – صلى الله عليه وسلم – إلى بيت المقدس؟ وهل صخرة بيت المقدس أفضل من غيرها من الحجارة؟ وهل يأجوج ومأجوج من ولد آدم – صلى الله عليه وسلم -؟ وهل طلوع الشمس من مغربها قبل خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج؟ فأجاب جوابًا محكمًا مختصرًا عن جميع ذلك.
الرابعة: في المفاضلة بين المسلم والمؤمن.
الخامسة: في أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – أيتهنَّ أفضل؟ وهل فاطمة – رضي الله عنها – مثلهنَّ في الفضل؟ وما سببُ حياء الملائكة من عثمان – رضي الله عنه -؟
السادسة: في الكلام عن الخطِّ في الرمل، وما ينسبُ فيه إلى النبيِّ إدريس عليه السلام، ولم أجد لشيخ الإسلام كلامًا في هذه المسألة فيما وصلنا من تراثه سوى هذا الموضع.
السابعة: في صحة قول رجل: إن أولياء الله الأبرار يقولون للشيء: كن، فيكون بإذن الله. وهي فتوى محررة تدمغ ما تعلق به بعض أهل الأهواء من إيراد شيخ الإسلام لأثر «يقول الحقُّ عزَّ وجلَّ: يا عبدي، إني أقول للشيء: كن، فيكون. فإن أطعتني جعلتك تقول للشيء: كن، فيكون» في «مجموع الفتاوى» (4/ 377).
وقد اختصرها البعليُّ في «مختصر الفتاوى المصرية» (587).
(مقدمة 9/17)
9. فصل في تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
(ق 34/و- 36/ظ)، نقله ابن الحبال عن خط ابن المحب، وذكره ابن رُشَيِّق في أسماء مؤلفات ابن تيمية (290 – الجامع لسيرة شيخ الإسلام).
10. فصل في الكلام على آياتٍ من سورة الشورى.
(ق 36/ظ- 37/ظ)، ابتدأه ابن الحبال بقوله: «فصلٌ: قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني أيضًا – رضي الله عنه -».
11. فصل في تفسير سورة المسد.
(ق 40/ظ- 44/ظ)، نقله ابن الحبال عن خط ابن المحب، وذكره ابن رُشَيِّق في أسماء مؤلفات ابن تيمية (221، 231 – الجامع لسيرة شيخ الإسلام)، والصفدي في «الوافي» (7/ 24). ولخص مقاصده الشيخ محمد بن عبد الوهاب في صفحة واحدة ضمن «المسائل التي لخَّصها من كلام شيخ الإسلام» (13/ 71 – مجموع مؤلفاته) , وعنه في «مجموع الفتاوى» (16/ 602).
ولشمس الدين ابن المحب زياداتٌ نفيسة على تفسير شيخ الإسلام، عمادها نقولٌ بديعة استخرجها من دواوين اللغة وأمات كتب الحديث والتفسير وعلوم القرآن وغيرها مما يتصل بتفسير السورة، وطائفةٌ منها من مصادر عزيزة تُذكر اليوم في عداد المفقود من كتب التراث. وقد نشرتها رفقة تفسير ابن تيمية مع دراسةٍ لكليهما عام 1436، عن مركز تفسير للدراسات القرآنية، وفي هذه النشرة تصحيحٌ لما فات هناك.
(مقدمة 9/18)
12. مسألة في تفسير استعاذة النبي – صلى الله عليه وسلم – من الهمِّ والحَزَن، والعجز والكسل.
(ق 53/ظ- 54/ظ)، شرح فيها شيخ الإسلام قوله – صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحَزَن، والعجز والكسل، والبخل والجُبن، وضِلَع الدَّين وغلبة الرجال» شرحًا بديعًا، انتفع به ابن القيم، وأفاد منه في «مفتاح دار السعادة» (313)، و «طريق الهجرتين» (606)، و «روضة المحبين» (61)، و «بدائع الفوائد» (714)، و «زاد المعاد» (2/ 358).
13. مسائل حديثية.
وهي سبع مسائل (ق 66/و، ظ، 80/و، ظ، 83/ظ، 84/ظ)، أجاب فيها عن سؤالاتٍ تتصل بالحكم على بعض الأحاديث والأخبار، ولم يرد السؤال في الأخيرة.
وقد ذكر ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (107) أن لشيخ الإسلام «أجوبة كثيرة في أحاديث يُسأل عنها، من صحيحٍ يشرحه، وضعيفٍ يبين ضعفه، وباطلٍ ينبه على بطلانه».
وجمعتها تحت هذا العنوان لاختصارها:
الأولى: عن حديث «اتخذوا مع الفقراء أيادي؛ فإن لهم يوم القيامة دولةً وأيَّ دولة»، ومن هم الفقراء؟ وحديث: «مكتوبٌ على كل فرجٍ ناكحُه من حلالٍ وحرام». وهي باختصار في «مختصر الفتاوى المصرية» (600).
الثانية: عن صحة القول بأن «الصلاة بخاتم العقيق أفضلُ سبعين درجةً بغير خاتم عقيق».
(مقدمة 9/19)
الثالثة: عن حديث «المؤمن حُلْوِيًّا، والكافر خَمْرِيًّا»، وحديث «المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء».
الرابعة: عن حديث «آيةٌ من كتاب الله خيرٌ من محمدٍ وآل محمد».
الخامسة: عن عمر – رضي الله عنه – هل قَتَل أباه؟
السادسة: عن حديث ميمونة في إهداء الزيت إلى بيت المقدس.
السابعة: في حديث: «الصَّلاة في أول الوقت رضوانٌ من الله».
14. مسألة في التوبة هل تُسْقِط الفرائض؟
(ق 106/ظ- 108/و)، أجاب فيها شيخ الإسلام جوابًا محرَّرًا عن سؤال في من تاب هل يَسْقُط عنه قضاءُ ما فرَّط فيه من الفرائض، كالصلاة والصيام، كما يَسْقُط عن الكافر إذا أسلم؟ وهل تَسْقُط عنه كفَّاراتُ الفطر في رمضان؟
15. مسألة في حكم صوم الدهر.
(ق 238/و- 239/ظ)، سئل فيها شيخ الإسلام عن قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «من صام الدَّهر فكأنه لا صام ولا أفطر»، فأجاب بجواب مبسوط في حكم صوم الدهر، وتفسير حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومذاهب العلماء في ذلك، وتوجيه ما ورد عن بعض السلف من صيام الدهر. وهو أوسع موضعٍ بحث فيه شيخ الإسلام هذه المسألة فيما وصلنا من آثاره.
16. رسالة إلى ابن النقيب في حديث «لا تشدُّوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد».
(ق 136/و- 137/ظ)، نقلها ابن الحبال عن خط ابن المحب عن
(مقدمة 9/20)
خط عمه إبراهيم ابن المحب عن خط شيخ الإسلام.
وهي رسالة أرسلها شيخ الإسلام من محبسه بقلعة دمشق آخر عمره إلى شمس الدين أبي عبد الله محمد بن الحسن الخَبَري، المعروف بابن النقيب، المحدث الفقيه، ولد سنة نيف وسبع مئة وتوفي سنة 749, جوابًا على رسالة بعثها إليه ابن النقيب يذكر له رواية مسلم لحديث أبي سعيد في حديث شدِّ الرحال بلفظ النهي «لا تشدُّوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، وأن ذلك مؤيدٌ لما ذهب إليه شيخ الإسلام في فتواه المشهورة بمنع شدِّ الرحال إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وكانت سبب محنته وسجنه.
وفي هذه الرسالة يشير شيخ الإسلام إلى تلك المحنة، وما يسَّر الله تعالى له فيها من أنواع النعمة والرحمة والحكمة، ثم يعلق على رواية حديث أبي سعيد ودلالتها على المنع ومذاهب العلماء في المسألة.
وأحال فيها على ما كتبه في «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم»، وقد أشار ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (397) إلى كلام الشيخ عن مسألة شد الرحال في كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم»، وذكر أنه أبلغ من تلك الفتيا التي شنَّع بها عليه مخالفوه وأقدم منها بكثير.
17. رسالة إلى القاضي محمد بن سليمان بن حمزة المقدسي في حاجة الناس إلى مذهب الإمام أحمد ومسألة ضمان البساتين.
(ق 63/ظ- 66/و)، نقلها ابن الحبال عن خط ابن المحب عن خط بدر الدين بن القاضي عز الدين محمد سليمان، قال: نسخةُ رسالةٍ أُرسِلت إلى والدي محمد بن سليمان بن حمزة من شيخ الإسلام ابن تيمية.
(مقدمة 9/21)
وهي كذلك مما كتبه شيخ الإسلام في محبسه بقلعة دمشق، وذكر فيها خبر تلك المحنة، ونعم الله عليه بسببها، وموقف السلطان الملك الناصر، كما أشار إلى ما كتبه في مسألة المنع من الزيارة البدعية، وأثنى على سلف القاضي عز الدين المقدسي من آل قدامة ومنزلتهم، ثم تحدث عن فضل مذهب الإمام أحمد وحاجة الناس إليه في مسائل متعددة، ومثَّل لذلك بمسائل، ثم تخلَّص إلى الحديث عن مسألة ضمان البساتين وترجيح مذهب أحمد فيها القائم على العدل واتباع الأثر ومنع الحِيَل، وختم الرسالة بشفاعة في النقيب جمال الدين، ولعله كان نقيب القلعة كما ذكرت في حاشيتي هناك، في قضية تتصل بضمان أرضٍ له.
18. فصل: إذا استأجر أرضًا لينتفع بها، فتعطلت منفعتها المُسْتَحَقَّة بالعقد.
(ق 74/ظ- 75/ظ)، نقله ابن الحبال عن خط ابن المحب عن خط شيخ الإسلام.
19. فصل في انعقاد النكاح بأي لفظٍ يدلُّ عليه.
(ق 185/و- 185/ظ)، نقل ابن الحبال قبله عن شيخ الإسلام قوله:
«يجوز عقدُ النكاح، وكتابةُ الصَّداق، ليلًا ونهارًا»، ثم ساق هذا الفصل.
20. قاعدة: الاعتبار بموجب اللفظ والمعنى.
(ق 183/و- 185/و)، وهي قاعدة جليلة في تقرير أن من تكلَّم بلفظ العقد يظنُّ أن معناه ومُوجَبُه في الشريعة شيئًا، فتبيَّن بخلافه، فالأصل في مثل هذا أنه لا يثبتُ فيه حكمُ المعنى الذي لم يقصده؛ وذلك لأن اللفظ يَتْبَعُ
(مقدمة 9/22)
المعنى، والمعنى هو المقصود. وكتب ابن الحبال عنوانًا لها: «الاعتبار بموجب اللفظ والمعنى شرعًا لا ظنًّا».
وقد أحال فيها شيخ الإسلام على ما كتبه في «بيان بطلان التحليل»، و «القواعد الكبار الفقهية الدمشقية» وهي المنشورة بعنوان «القواعد النورانية الفقهية».
21. فصل: الشروط في النكاح.
(ق 182/و- 182/ظ)، حرَّر فيه شيخ الإسلام القول مختصرًا في ما يصحُّ وما يحرم من الشروط في النكاح، وأثرها في العقد.
22. سؤال منظوم في تحريم نكاح المحلل وبطلانه، وجوابه.
(ق 179/و- 181/ظ)، وهو سؤال منظوم من بحر الخفيف، أجاب عنه شيخ الإسلام بجواب منظوم من بحره ورويِّه، اشتمل على مسألتين: الأولى في تحريم نكاح المحلِّل وبطلانه، وهي عماد السؤال، والثانية في حكم سابِّ أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – ومُبغضِه.
وذكر ابن الحبال في آخر الجواب قول الحسين بن سونج صاحب شيخ الإسلام: «قابلتُه بنسخةٍ مقروءة على المُجِيب، وعليها خطُّه، على يد أحمد الزُّهري». وترجمتُ في الحاشية هناك لابن سونج والزهري.
23. مسألة في حكم اللعب بالشطرنج.
(ق 120/و- 121/و)، نقلها ابن الحبال عن خط ابن المحب.
وهي مسألة نافعة، وفيها زياداتٌ في الاستدلال والاحتجاج على غيرها
(مقدمة 9/23)
من فتاوى شيخ الإسلام المنشورة في الشطرنج، وقد ذكر ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (76)، وابن رشيِّق في «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (308 – الجامع لسيرة شيخ الإسلام) أن له في الكلام عليه قاعدة.
24. سؤال منظوم في حكم الرقص والسماع، وجوابه.
(ق 66/ظ- 68/و)، وهو سؤالٌ منظومٌ من بحر الكامل، لا تخلو أبياته من ضعفٍ ولحنٍ يدلَّان على أن صاحبهما ليس من أهل العلم، سأل عن حكم ما يفعله بعضهم عند السَّماع من الرقص على أصوات الدفِّ والتصفيق، وكأنه يميل إلى استحسان ذلك، إذ يذكر في أبياته أنهم يستفتحون السَّماع بالذكر ويختمونه بالدعاء، ويجتنبون البدع المحدثات! ثم يتساءل: هل يضرُّهم ذلك السماع؟! وهل يوجبُ لهم النار؟ وهل ورد في الكتاب والسنة ما يدلُّ على أن الوجد بدعة أو أنه يُذْهِبُ الحسنات؟ وأيهما أحلُّ: الوجدُ أم أكل لحوم الناس بالغيبة؟! فأجابه شيخ الإسلام جوابًا منظومًا من بحره ورويِّه، بسط فيه القول وحرَّره وبيَّن الفرق بين سماع أولياء الله وذلك السماع المحدث المبتدع.
25. فصل في دفع صيال الحراميَّة.
(ق 89/و- 89/ظ)، وهو فصلٌ مختصر في أحكام دفع صيال الحراميَّة واللصوص الذين يقطعون طريق الحُجَّاج، حرَّر فيه أحوال الدفع وأحكامه، مستدلًّا لذلك، حاكيًا للخلاف والأقوال.
26. مسائل فقهية.
وهي خمس وتسعون مسألة فقهية مختصرة، وقعت في مواضع متفرقة
(مقدمة 9/24)
من المجموع (ق 33 – 34، 54، 72 – 74، 75 – 88، 114 – 115، 121، 153، 181، 182، 239)، وليست كل ما فيه من مسائل، وإنما اقتصرتُ هاهنا على ما لم يسبق نشره منها، فجمعتها تحت هذا العنوان، ورتبتها على أبواب الفقه.
27. جزء فيه جواب سائل سأل عن حرف «لو».
(ق 187/و- 197/ظ)، وهي نسخةٌ تامة مقابلة، وفي صدرها تقريظٌ منقولٌ من خط ابن الزَّمْلَكاني، وكذلك هو في «الأشباه والنظائر» النحوية للسيوطي (3/ 681 – طبعة مجمع دمشق)، وقد كتب ابنُ الزَّمْلَكاني التقريظ ذاته على كتابَي «إبطال التحليل»، و «رفع الملام عن الأئمَّة الأعلام»، كما في «الرد الوافر» لابن ناصر الدين (56، 57).
وموضوع الجزء هو الكلام على حرف «لو»، وكيف يتخرَّج على معناها المعروفِ القولُ المنسوبُ إلى عمر – رضي الله عنه -: «نِعْمَ العبد صهيب، لو لم يَخَفِ الله لم يَعْصِه».
وفيه يقول ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (107) في سياق ذِكْر ما كتبه شيخُ الإسلام من شروح الحديث: «وشَرَح ما رُوِي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: نِعْمَ العبد صهيب، لو لم يَخَف الله لم يَعْصِه. وتكلَّم على لو».
وقد انتقى السيوطيُّ في «الأشباه والنظائر» (3/ 682 – 689) قطعةً من أول هذا الجواب وقطعةً من آخره، تاركًا ما بينهما ــ وهو ثلاثة أرباع الأصل ــ دون تلخيصٍ أو اختصار، فجاء النصُّ مبهمًا مقطع الأوصال. وهو ينقل من نسخةٍ بخط الحافظ علم الدين البرزالي.
(مقدمة 9/25)
وعن كتاب السيوطي نشره الأخ الكريم البحاثة المحقق الشيخ محمد عزير شمس في هذا الجامع المبارك «جامع المسائل» (3/ 313 – 320)، ثم نشره كذلك الدكتور يوسف بن خلف العيساوي عن دار الصميعي.
28. مسألة في الانتماء إلى الشيوخ.
(ق 103/ظ- 104/ظ)، وهي مسألة مهمة في الانتماء إلى الشيوخ الذي اعتاده الناس، والفرق بين الانتفاع بعلم الشيخ والاقتداء به في الأعمال الصالحة وبين التعصب الباطل والتفرق المذموم.
29. مسائل متفرقة.
وهي ستُّ مسائل مختصرة متفرقة (ق 148، 149، 76/ظ، 80/ظ، 114/ظ) رأيت جمعها تحت هذا العنوان:
الأولى: هل يجوز لوليِّ الأمر أن يُستفتَى؟ وهي من مسائل أدب القضاء وأصول الفقه، وقد نقل بعض عباراتها ابن مفلح في «الفروع» (11/ 113)، والبعلي في «الاختيارات» (481).
الثانية: أيُّهما أفضل: العالم العامل، أو المجاهد المخلص؟ وهي فتيا مختصرة، ولشيخ الإسلام قاعدة مفردة في المفاضلة بين مداد العالم ودم الشهيد، ذكرها ابن رشيِّق في أسماء مؤلفاته (308 – الجامع لسيرة شيخ الإسلام)، وابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (80).
الثالثة: في المفاضلة بين طلب العلم وحفظ القرآن، جوابًا على من سأل عن رجل قال: إن العلم أفضل من القرآن.
الرابعة: في الحكم بين رجلين تنازعا في الجهل، فقال أحدهما للآخر: أنت جاهلٌ في الأحكام الشرعية. وفي الجواب بيانُ من هو العالم بالشريعة
(مقدمة 9/26)
ومن الجاهل بها.
الخامسة: في جنديٍّ يريد أن يصير فقيرًا (أي متصوفًا)، فذكر شيخ الإسلام أن الجنديَّ إذا اتقى الله، وقصد أن ينصر الله ورسوله، ويُعِين على طاعة الله، فهو أفضلُ من أن يتصوَّف ويترك الجهاد بلا منفعةٍ للمسلمين.
السادسة: كلامٌ لشيخ الإسلام في حقيقة الكيمياء، ومن عمل بها. وقد نقله بتمامه كما وقع في الأصل ابن مفلح في «الفروع» (6/ 314 – 315)، وعنه متأخرو الحنابلة، وأسقط اختصارًا أسماء من عمل بها، فاستدركهم ابن قندس في حاشيته.
* … * … *
* الأصل الثاني:
مجموعٌ نجديٌّ، استقرَّ به المقام في خزانة العلامة عبد العزيز الميمني التي آلت إلى مكتبة جامعة السند، جامشورو، بحيدراباد، برقم (36377)، وعدد أوراقه 465 ورقة، وفي أوله فهرسٌ للرسائل والمسائل التي يشتمل عليها المجموع.
وجلُّه بخط محمد بن حمد بن نصر الله، كما قيَّد اسمه في مواضع منه (ق 81، 449، 457)، وهو من مشاهير النسَّاخ بنجد في القرن الثالث عشر، ووُصِف بأنه «الكاتب المشهور»، أي «جميل الخطِّ مضبوطه»، كما يقول الشيخ ابن بسام (1)، وكان مولده في حدود سنة 1210.
_________
(1). «علماء نجد خلال ثمانية قرون» (5/ 523). وانظر لبعض ما وصلنا من منسوخاته: «صناعة المخطوطات في نجد» للدكتور عبد الله المنيف (301).
(مقدمة 9/27)
نَسَخَه في شهر جمادى الأولى من سنة 1228، فيما أرجِّح، كما تشير إليه خاتمةٌ ركيكة كتبها لإحدى المسائل (ق 235)، قال: «تمت مسألة القدرة، بين الآصال والبكرة، بضع مضين من جمادى الأول، بورك خميس إلى الجمعة تحوَّل، أربع مئين مع أيضًا ثمان، وبضع أفراد ليست مئين، من هجرة خاتم النبيين … ». وحاصل مجموع ما ذكره هنا: ألف ومئتان وبضع أفراد من السنين.
وذكر تاريخ نسخه أيضًا في آخر مسألة من مسائل المجموع، فقال: «تمت المسائل، وأستغفر الله بكرة وأصائل، وكان الفراغ بين الفروض، وقت خفي صريح الغموض، وهو من الأيام نهار السبت، ومن الأشهر بقين ست من جمادى الأول، وهو من الشهور الأُوَل سنة 128 من هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم -»، ولا ريب أن ثمة رقمًا قد سقط هنا على الناسخ سهوًا، وأظنه الثاني، فيكون صوابه 1228.
وظنَّ العلامة الميمني أن الرقم انقلب على الناسخ، فعلَّق: «يريد سنة 821، كما صرح بذلك في المسائل الكيلانية. وكتب العاجز عبد العزيز الميمني 16 أكتوبر 1957 م».
والموضع الذي يشير إليه الميمني هو قول الناسخ (ق 309) في صدر المسألة الكيلانية: «فصلٌ نُقِل من سؤالٍ قدم من بلاد كيلان في مسألة القرآن إلى دمشق، في سنة أربع وسبعمئة، من جهة سلطان تلك البلاد وعلى يد قاضيها؛ لأجل معرفة الحق من الباطل عندما كثر عندهم الاختلاف والاضطراب، ورغب كلٌّ من الفريقين في قبول كلام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية في هذا الباب، فأملاه شيخ الإسلام في المجلس، وكتبه أحمد بن
(مقدمة 9/28)
محمد بن مري الشافعي بخطٍّ جيدٍ قوي، ثم إن كاتب هذه الأوراق اطلع على هذه الفتوى يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثمانمئة، فاخترتُ لنفسي منها مواضع نقلتها في هذه الأوراق … ».
وهو صريحٌ كما ترى لو كان من كلام الناسخ حقًّا، لكنه في واقع الأمر منقولٌ بحروفه من نسخة ابن عروة (ت: 837) التي أودعها كتابه «الكواكب الدراري» (1).
وإنما رجَّحتُ أن الساقط من الرقم الذي كتبه الناسخ هو الرقم الثاني، وإن كان من المحتمل أن يكون الساقط هو الأخير، فيكون 1280 مثلًا؛ لأن على أول صفحة من المجموع تملكًا لعلي بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقد توفي سنة 1245.
وعلى الأصل تعليقاتٌ متفرقة لبعض قرائه، باقتراح قراءة، واستدراك سقط، ونحو ذلك، وتصحيحاتٌ من آثار المقابلة التي نصَّ عليها الناسخ في مواضع عديدة.
وقد وجدتُ في المجموع مما لم ينشر لشيخ الإسلام ثلاثة نصوص، فحققتها وضممتها لهذه المجموعة من «جامع المسائل»:
1. مسألة في مذهب الشافعي في القرآن وكلام الله.
(ق 451 – 457)، وفي النسخة بعض التحريف والسقط اجتهدت في إصلاحه ورأب صدعه، وكتب الناسخ في طرة خاتمتها: «بلغ مقابلة على نسخة لا تخلو من الغلط».
_________
(1). انظر: «مجموعة الرسائل والمسائل» التي نشرها الشيخ رشيد رضا (3/ 2).
(مقدمة 9/29)
وهي مسألة مهمة في الدفاع عن الإمام الشافعي ودرء فرية بعض الناس عليه في مسألة كلام الله تعالى، وبراءته ممن انتسب إليه وخالف مذهبه، ومفارقة طريقته لطريقة الأشعري ومن تابعه, وبيان اعتقاد أهل السنة في القرآن وكلام الله عز وجل، وأن ما زعمه ذلك المفتري لا يوجد في دين أهل الإسلام ولا غيرهم.
2. فصلان في الإنذار والخوف والرجاء والشفاعة.
(ق 288 – 298)، وقع هذان الفصلان ضمن مجموعة فصول لشيخ الإسلام: الفصل الأول في الشرك وأنواعه، وهو منشور في «مجموع الفتاوى» (1/ 88 – 96)، وبعده قاعدة الصبر والشكر الآتية، ثم هذان الفصلان في الإنذار والخوف والرجاء والشفاعة، ثم فصل في أصل الإيمان والهدى، وهو منشور في «جامع المسائل» (8/ 199 – 217) عن نسخة ضمن «الكواكب الدراري» لابن عروة.
3. قاعدة في الصبر والشكر.
(ق 264 – 288)، وقد وقعت ضمن الفصول التي ذكرتُ قبل قليل، وهي قرينةٌ قوية على نسبتها لشيخ الإسلام، ويؤيد ذلك نقلُ الإمام شمس الدين محمد بن محمد الصالحي المنبجي الحنبلي المتوفى سنة 785 عن هذه القاعدة نصوصًا طويلة وتصريحُه بنسبتها إلى شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه «تسلية أهل المصائب» (173 – 176)، ووصلتنا منه نسخة نفيسة بخطه في تشستربيتي برقم (3321)، وقد قابلتُ النصوص عليها وأحلتُ إلى المطبوع تيسيرًا على القارئ.
(مقدمة 9/30)
وللمنبجي عنايةٌ ظاهرة بتراث ابن تيمية، وهو قريب العهد به، وفي دار الكتب المصرية مجموعٌ بخطه نقل فيه كثيرًا من كلام شيخ الإسلام، وطُبع منه أجوبةٌ في حكم الرقص والسماع وكلامٌ على الفطرة ضمن «مجموعة الرسائل الكبرى» (2/ 277 – 334).
كما نقل منها الإمام ابن القيم في «طريق الهجرتين» (203 – 206) دون عزو، على طريقته في تضمين كلام شيخه في تصانيفه.
ولخص منها الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب نصًّا في «تيسير العزيز الحميد» (446)، وعزاه لشيخ الإسلام.
والحقُّ أنها غنيةٌ عن هذا لمن كان له بصرٌ بآثار شيخ الإسلام، ومعرفةٌ بتقريراته، وأنسٌ بكلامه، فأسلوبه وعباراته التي يكثر دورانها على قلمه، وحتى أوهامه ومفاريده في رواية بعض الأحاديث والآثار نجدها هنا كما هي في سائر كتبه (1).
وسقطت فاتحة القاعدة من الأصل الذي معنا، فلم نقف على تسميتها أو ما يقوم مقامه، لكن ذكر ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (62)، وابن رشيِّق في «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (298 – الجامع لسيرة شيخ الإسلام) أن لشيخ الإسلام «قاعدة في الصبر والشكر»، وبالنظر إلى موضوع هذه الفصول التي بين أيدينا فإني أرجو أن تكون هي تلك القاعدة.
ولهذه القاعدة والفصلين السابقين نسخة نجدية أخرى ضمن مجموع
_________
(1). كرواية لفظ «مضطهد» في حديث «ثلاثٌ من نجا منهنَّ فقد نجا: موتي، وقتلُ خليفةٍ مضطهد … »، وغير ذلك. انظر: (ص: 384، 401، 432).
(مقدمة 9/31)
في المكتبة المحمودية (1)، ونسخة نجدية ثالثة في جامعة ليدن، وكلها تؤول إلى أصل واحد، وعن النسخة الثالثة نشرها أحد الباحثين حديثًا، وظنها فريدة، ونسبها لابن القيم، فلم يصب.
* … * … *
* الأصل الثالث:
من مكتبة كوبريلي برقم (1142/ 4)، (ق 186 – 188)، وهو أصلٌ في غاية الحُسن والتحرير والضبط، إلا هنات يسيرة لا يكاد يسلمُ منها ناسخ، كتبه عبد الرزاق بن محمد بن أحمد بن أبي الفتح الحلبي، ولم أقف له على ترجمة، سنة 758، كما قيَّده (ق 197) في آخر رسالة عبد الله بن حامد إلى ابن بُخَيخ الحراني، وهي تلي رسالة شيخ الإسلام التي معنا.
وفي هذا الأصل نصٌّ واحد، هو رسالة شيخ الإسلام إلى ابن ابن عمه عبد العزيز بن عبد اللطيف بن عبد السلام ابن تيمية في فتح جبل كسروان، ألحقه الناسخُ بكتاب ابن عبد الهادي في ترجمة شيخ الإسلام، مع أربعة نصوص أخرى، اثنان منها لابن تيمية، وسبق نشرُهما، وهما: رسالتاه إلى الملك الناصر في فتح الجبل، نُشِر الأول في «العقود الدرية» (235 – 247)، و «مجموع الفتاوى» (28/ 398 – 409)، ونُشِر الثاني في «جامع المسائل» (5/ 293 – 305). والنص الثالث: رسالة من عبد الله بن حامد إلى عبد الله بن رُشَيِّق، ونُشِر في «الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (241 – 245)، والرابع: رسالة من ابن حامد إلى ابن بُخَيخ الحراني، ونُشِر في «تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (55 – 67).
_________
(1). برقم (1696). أرشدنا إليه د. عبد الله بن محمد المديفر، جزاه الله خيرًا.
(مقدمة 9/32)
وقد أشرت (ص: 258) إلى خبر فتح جبل كسروان وسببه ودور شيخ الإسلام فيه، كما ترجمت (ص: 473) لابن ابن عمه عبد العزيز بن عبد اللطيف بن عبد السلام ابن تيمية وما كان بينهما من الودِّ والصِّلة.
* … * … *
منهج التحقيق:
مضيتُ في تحقيق هذه المجموعة على ما مضت به سنن نشر النصوص في عصرنا، وكان رأس الأمر في عملي الاجتهاد في إقامة النص ليكون أدنى ما يكون إلى صورة ما كتبه مؤلفه، ولذا تجاسرتُ على مخالفة النسَّاخ في بعض المواضع التي تبيَّن لي ذهابهم فيها عن الصواب، مع تنبيهي على ما أتيتُ في الحاشية، ورفوتُ ما ظننت سقوطه من أقلامهم بزيادات تقديرية أو محقَّقة ووضعتُ ما زدته بين قوسين معقوفين، لينظر القارئ في ذلك لنفسه ويأخذ بما اخترته أو يدع على بينة من أمره.
ثم يأتي من بعد ذلك تخريج المنقول من الآي والأحاديث والأخبار والشعر وأقوال العلماء ومذاهبهم، وتفسير الغريب وشرح المصطلحات الحضارية ونحو ذلك مما قد يغمض على كثيرٍ من القراء دون إسرافٍ وتتايعٍ في هذه السبيل.
ومما حرصتُ عليه وتكلَّفتُه الإحالة على كتب شيخ الإسلام وأجوبته في كثير من المواضع، دفعًا لوهم التحريف ودلالةً على ورود نظيره، أو صلةً لمسائل الكتاب بمظانها من سائر ما وصلنا من آثاره، زيادة في الاطمئنان إلى ثقة النسبة، وشفاءً لظامئ لم يقنعه اختصار القول، وعونًا لمن يروم جمع
(مقدمة 9/33)
المتفرِّق وضمَّ النظير إلى النظير.
وأسأل الله أن يتجاوز عما أخطأنا فيه بجهلنا واغترارنا، وألا يجعل حظَّنا من عملنا لغوبًا ورهقًا، إنه سبحانه أكرم مسؤول.
وكتب
عبد الرحمن بن حسن قائد
الرياض 20 ذي الحجة 1436
(مقدمة 9/34)
نماذج من صور الأصول المعتمدة
(مقدمة 9/35)
صفحة عنوان الأصل الأول
(مقدمة 9/37)
تاريخ نسخ الأصل الأول واسم الناسخ
(مقدمة 9/38)
آخر المسألة الأولى من الأصل الثاني وفيها اسم الناسخ
(مقدمة 9/39)
تاريخ نسخ الأصل الثاني وتعليق العلامة الميمني
(مقدمة 9/40)
الصفحة الأولى من رسالة ابن تيمية إلى ابن ابن عمه
(مقدمة 9/41)
جامِعُ المَسائلِ
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية
(661 – 728)
(المجموعة التاسعة)
(9/1)
فصل
في “الكلام” الذي ذمَّه الأئمَّة والسَّلف
(9/3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية الحرَّاني أيضًا – رضي الله عنه -، ومن خطِّه المبارك نقَل الإمام شمس الدين محمد ابن المحب رحمه الله تعالى، ومنه نقلتُ:
فصل
“الكلام” الذي ذمَّه ونهى عنه الأئمَّة والسَّلفُ الصالح، كما هو مشهورٌ متواترٌ عنهم في كتب السُّنَّة والحديث والتصوُّف وكلام الفقهاء وغيرهم، وقد جمع فيه شيخُ الإسلام الأنصاري كتابه المشهور (1)، ولمالك والشافعي والإمام أحمد وغيرهم في ذلك نصوصٌ مشهورة = قد حصل فيه اضطراب؛ فإن من الناس من يعتقدُ أنهم نَهَوا عن جنس الاستدلال والمجادلة في أصول الدين، ثم تحزَّبوا حزبين، بل ثلاثة:
* حزبٌ رأوا ذلك عجزًا وتفريطًا، وإضاعةً لواجب الدين أو مُسْتَحَبِّه، بل إضاعةً لأصوله التي لا يتم إلا بها؛ فطعنوا في السَّلف ومن اتبعهم، ورأوا لنفوسهم الفضلَ عليهم، مع ما هم فيه من الابتداع والضلال المشتمل على الجهل أو الظلم.
وهذه طريقة كثيرٍ من أهل الكلام المتفلسفة، لا سيما المتكلمون الذين لا يعظِّمون أهل الفقه والحديث، مثل كثيرٍ من المعتزلة والمتفلسفة؛ فإن لهم في هذا الضلال مجالًا رحبًا.
* وحزبٌ رأوا أن ما فهموه من كلام الأئمَّة والسَّلف هو الصواب، لِمَا علموه من فضلهم؛ فأعرضوا عن جنس النظر والاستدلال في ذلك، وعن
_________
(1) حاشية بطرة الأصل: “يعني كتاب ذم الكلام الذي جمعه الهروي صاحب منازل السائرين”. وهو مطبوع.
(9/5)
جنس المحاجَّة والمجادلة، ورأوا ذلك هو السَّلامة والورع والاتباع، فوقعوا في التفريط في جنب الله، وإضاعة بعض العلم بدين الله وبعض الكلام فيه، ولزم من ذلك استيلاء أهل التحريف والإلحاد عليهم وعلى المسلمين، فوقعوا هم في الجهل البسيط، ووقع أولئك ومن اتبعهم في الجهل المركَّب (1).
وكان من سبب ذلك أنهم فهموا من كلام السَّلف أعمَّ مما أرادوه، كما قررتُ نظير ذلك في “قاعدة السُّنَّة والبدعة” (2).
وقد يؤول بهم الأمر إلى الإعراض عن آيات الله تعالى، وترك اتباع هدى الله، فإما أن يعرضوا عن ألفاظ النصوص فلا يقولونها ولا يسمعونها، وإما أن يكتفوا بمجرَّد قول اللفظ وسماعه من غير تدبرٍ له ولا فقهٍ فيه، ويرون أن عدم معرفة معاني الكتاب والسُّنَّة هي الطريقة التي سلكها السَّلف وأمَروا بها وعَنَوها في مواضع.
* وحزبٌ ثالث اعتقدوا فضلَ الأئمَّة والسَّلف، واعتقدوا الحاجة والانتفاع والاستحسان (3) لِمَا خاضوا فيه من الكلام في أصول الدين؛ فقالوا: الذي نهى عنه السَّلف – رضي الله عنهم – هو الكلام الذي انتحله أهلُ البدع من
_________
(1) انظر: “النبوات” (619، 636)، و”بيان تلبيس الجهمية” (8/ 503).
(2) وهي قاعدة عظيمة كما يظهر من موضوعها وإحالة الشيخ عليها في “الانتصار لأهل الأثر” (158)، و”الاستقامة” (1/ 5) , و”مجموع الفتاوى” (10/ 371, 21/ 319). وذكرها ابن عبد الهادي في “العقود الدرية” (73) , وابن رُشَيِّق في “أسماء مؤلفات ابن تيمية” (306 – الجامع لسيرة شيخ الإسلام) , ولم يُعثر عليها بعد. وقد حرَّر – رحمه الله – هذا الباب كذلك في “اقتضاء الصراط المستقيم” (2/ 82 – 120).
(3) كتبها ناسخ الأصل: “والاستحباب”، ثم أصلحها إلى المثبت.
(9/6)
المعتزلة ونحوهم ممن يخالفُ السُّنَّة، لا الكلام الذي تُنْصَرُ به السُّنَّة. وهذه طريقة البيهقي (1).
أو قالوا: الكلام يُنهى عنه في غير وقت الحاجة، ومع من يُفْسِدُه الكلام، ويؤمر به وقت الحاجة، ومع من ينفعُه الكلام. وهذه الطريقة قد يشير إليها ابن بطه (2)، والقاضي (3)، والغزالي (4)، وآخرون.
فصل
والتحقيق أن الذي نهى عنه السَّلف هو الكلام المبتدَع الذي لم يَشْرَعه الله ولا رسوله، كما قد قرَّرتُ في “قاعدة السُّنَّة والبدعة” أن البدعة هي ما لم يُشْرَع من الدين (5).
وغلبةُ اسم “الكلام” على الكلام المبتدَع كغلبة اسم “السَّماع” على السَّماع المبتدَع؛ فإن ناسًا لما أحدثوا سماع القصائد والتَّغبير، لتحريك قلوبهم وصلاحها، وإثارة مقاصدها ومَواجِدها، وأحدثَ آخرون كلامًا ونظرًا، لعِلْم قلوبهم، وصلاح عقائدهم، وتحقيق مقالهم = كان هؤلاء فيما
_________
(1) انظر: “مناقب الشافعي” للبيهقي (1/ 454، 458، 460، 463، 467)، و”النبوات” (615)، و”درء التعارض” (7/ 243، 249، 251، 273).
(2) انظر: “الإبانة” (2/ 542).
(3) القاضي أبو يعلى. انظر: “النبوات” (259)، و”مجموع الفتاوى” (5/ 543).
(4) انظر: “إحياء علوم الدين” (1/ 96)، و”درء التعارض” (7/ 156 – 177).
(5) انظر: “الاستقامة” (1/ 13، 42)، و”الفتاوى” (23/ 133، 31/ 36)، والمصادر المحال إليها قريبًا عند ذكر هذه القاعدة.
(9/7)
أحدثوه من الأصوات المسموعة شبيهًا بهؤلاء فيما أحدثوه من الحروف المنطوقة.
وعبَّروا هم والمسلمون عن ذلك بأعمِّ صفاته، وهو السَّماع، والكلام، فإذا أُطلِق اسمُ “السَّماع” عند كثيرٍ من الناس، أو قيل: فلانٌ يحضر السَّماع، أو يقول به، وفلانٌ ينكر السَّماع وينهى عنه، انصرف الإطلاقُ إلى السَّماع المُحْدَث الذي هو موردُ النزاع.
وإن [كان] (1) السَّماع المشروع المأمور به، الذي هو واجبٌ تارةً ومستحبٌّ أخرى، هو سماعًا أيضًا، بل هو السَّماع المعروف في كلام من حَمِدَ السَّماعَ وأثنى عليه من المُحْتَذِين طريقة السَّلف – رضي الله عنهم -.
وكذلك إذا أُطلِق لفظُ “الكلام” الذي يذمُّه وينهى عنه قوم، ويمدحُه ويأمر به آخرون، فإنه عندهم هو الكلام المُحْدَث.
وإن كان الكلامُ الذي أنزله الله تعالى هو أصدقَ الكلام وخيرَه وأفضلَه، وكلامُ النبي – صلى الله عليه وسلم – والصَّحابة والتابعين والأئمَّة كلامًا (2).
لكن خُصَّ المُحْدَثُ من النوعين باسم “الكلام” و”السَّماع”؛ لأن هذا الاسم بمجرَّده تعبيرٌ عنه، لا يدلُّ على حمدٍ ولا ذم، ولا أمرٍ ولا نهي، واللام فيه تنصرفُ إلى المعهود.
بخلاف ما كان من الكلام والسَّماع مشروعًا، فإن ذاك يُعَبَّر عنه بأخصِّ أسمائه، مثل: عِلم، وقرآن، وسماع القرآن، ونحو ذلك؛ لأن من عادة العرب
_________
(1) ليست في الأصل. وسيأتي نظيرها على الصواب.
(2) أي: وإن كان كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – والصَّحابة والتابعين والأئمَّة يسمى كلامًا.
(9/8)
وغيرهم في الخطاب: إذا كان تحت الجنس نوعان عبَّروا عن أشرفهما باسمه الخاصِّ، وتركوا الاسم المشترك للنوع المرجوح، كما فعلوا ذلك في مثل لفظ: دابة، وحيوان، وذوي الأرحام (1).
وقولنا: “كلام” أو “سماع” إنما هو تعبيرٌ عنه بالاسم المشترك بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغيِّ والرشاد، فإذا كان عندهم متميزًا بما يدل على أنه حقٌّ وهدًى ورشادٌ عبَّروا عنه بالاختصاص، كما أنه إذا كان متميزًا بما يقتضي أنه باطلٌ وضلالٌ وغيٌّ عبَّروا عنه بالاختصاص.
ولا ريب أن المُحْدَث من النوعين ليس حقًّا وهدًى ورشادًا من كلِّ وجه، ولا باطلًا وضلالًا وغيًّا من كلِّ وجه.
وهذا باتفاق جميع الطوائف؛ فإن القائلين بالكلام والسَّماع المُحْدَثَيْن يسلِّمون أن فيه (2) ما هو باطلٌ وضلال، وأن كثيرًا من أهل الكلام ضلَّ، وكثيرًا من أهل السَّماع غوى، ويميِّز هؤلاء الكلامَ الصوابَ بصفاتٍ قد يكون في بعضها نزاعٌ بينهم، كما يميِّز أولئك السَّماعَ النافعَ بصفاتٍ يكون في بعضها نزاعٌ عند بعضهم.
والمنكرين (3) للسَّماع والكلام المُحْدَثَيْن لا ينكرون أن في كلام المتكلمين ما قد يكون حقًّا وصوابًا، وأن السَّماع قد تحصُل به رقةٌ ومنفعةٌ
_________
(1) انظر: “بيان تلبيس الجهمية” (1/ 318)، و”منهاج السنة” (3/ 84، 85، 4/ 172)، و”الجواب الصحيح” (3/ 317)، و”مجموع الفتاوى” (21/ 132).
(2) أي: المحدث من النوعين.
(3) معطوف على “القائلين”.
(9/9)
للقلب، وإن كان تحصُل به أيضًا مضرَّة، كالخمر والميسر التي قال الله فيهما: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
ولهذا يقولون: فلانٌ صاحبُ علم، وفلانٌ صاحبُ كلام. وهذا كثيرٌ في كلامهم، مثل قول الإمام أحمد عن ابن أبي دؤاد: “لم يكن يعرفُ العلم ولا الكلام” (1)، وقوله: “عليكم بالعلم” (2).
فصل
إذا عُرِف هذا، فالكلام المبتدَع المذموم هو الذي ليس بمشروعٍ [ولا] مسنون، وليس بحقٍّ ولا حسن، وهذان الوصفان متلازمان، فإن كلَّ مشروعٍ مسنونٍ فهو حقٌّ حسن، وكلَّ ما هو حقٌّ حسنٌ فهو مشروعٌ مسنون، وكذلك بالعكس.
وذلك أن الكلام نوعان: إنشاء، وإخبار.
فأما الإنشاء، فمثل: الأمر والنهي، فكلُّ أمرٍ ونهيٍ لا يكون موافقًا لأمر الله تعالى ونهيه فهو ضلالٌ وغيٌّ.
وأما الإخبار، وهو الغالبُ على فنِّ الكلام المتنازع فيه، فإنه إخبارٌ عن حقائق الأمور الموجودة والمعدومة، كالإخبار عن الله تعالى وصفاته
_________
(1) انظر: “محنة الإمام أحمد” لحنبل (47)، ولعبد الغني المقدسي (115).
(2) لعله يريد أثر معاذ بن جبل – رضي الله عنه – المشهور في فضل العلم الذي أخرجه أبو نعيم في “الحلية” (1/ 238)، وإسناده شديد الضعف. وانظر: “الانتصار لأهل الأثر” (52، 160).
(9/10)
وأفعاله، وعن المعاد وما يكون بعد الموت، وعما مضى قبلنا، وما سيكون بعدنا (1).
والإخبار عن هذه الأمور إن كان مطلوبًا فهو المسائل والأحكام، وإن كان طريقًا إلى المطلوب فهو الوسائل والأدلة.
فالكلام يشتمل على هذين الصنفين: المسائل، والدلائل، والذمُّ والنهيُ واقعٌ في هذين الجنسين:
* أما المسائل، فكلُّ جواب مسألةٍ خالف الكتابَ والسُّنَّة وما كان عليه السلف فهو بدعةٌ وضلالة، وهو من الكلام المذموم المنهيِّ عنه، سواءٌ كانت المسألة نفيًا أو إثباتًا، مثل: إنكار صفات الله أو بعضها الذي جاء به الكتابُ والسُّنَّة، وإنكار قَدَر الله وقدرته ومشيئته، أو إنكار محبَّته ورضاه وخُلَّته وتكليمه وعلوِّه على عرشه، أو إنكار فتنة القبر وعذابه ونعيمه، والحوض والميزان والشفاعة والصراط ونحو ذلك من عقود أهل السُّنَّة التي أثبتتها نصوص الكتاب والسُّنَّة وآثار السَّلف.
ثم المُنْكِر لذلك أو بعضه هو مفترٍ (2)، ولهذا كان السَّلف – رضي الله عنهم – يسمُّونهم: “أهل الفِرَى” (3)، ويتأوَّلون فيهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}
_________
(1) انظر: “درء التعارض” (7/ 177).
(2) الأصل: “مفتري”. من غلط الناسخ. وستأتي على الجادة.
(3) كما ورد عن قتادة. انظر: تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2780)، و”الوسيط” للواحدي (2/ 191).
(9/11)
[الأعراف: 152]، قال أبو قلابة – رضي الله عنه -: “هي لكلِّ مفترٍ من هذه الأمة إلى يوم القيامة” (1).
وهو مفترٍ من وجهين:
أحدهما: نفيُ ما أثبته الكتابُ والسُّنَّة، أو إثبات ما نفاه.
والثاني: تحريفُ النصوص بما يوافقُ ظنَّه وهواه، ودعواه أن ذلك هو معناها.
فهو مخبرٌ عن الأمور بخلاف ما هي عليه، ومخبرٌ عن النصوص بخلاف ما دلَّت عليه، فافترى في الوجودَين: العيني، والعِلْمي.
* وأما الدلائل، فإنهم كثيرًا ما يستدلُّون ويحتجُّون على الحقِّ الذي جاء به الكتابُ والسُّنَّة بحججٍ مُحْدَثةٍ باطلة، ثم تلك تُوقِعُهم في البدع المخالفة للكتاب والسُّنَّة، بمنزلة الذي يجاهد الكفَّار بقتالٍ محرَّم في الشريعة، فيزيل باطلًا بباطل (2).
ولهذا كان السَّلف إذا قيل: فلانٌ يردُّ على فلان، قالوا: بكتابٍ وسنة؟ فإن قال: “نعم” صوَّبوه، وإن قال: “لا” قالوا: ردَّ بدعةً ببدعة (3).
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في “التفسير” (2/ 236)، وابن جرير (13/ 135).
وأخرجه اللالكائي في “السنة” (289) عن أيوب، وأبو نعيم في “الحلية” (7/ 280) عن سفيان بن عيينة.
(2) انظر: “منهاج السنة” (2/ 342)، و”الصفدية” (2/ 327)، و”الفتاوى” (3/ 348، 16/ 241).
(3) روي هذا عن عبد الرحمن بن مهدي. انظر: “ترتيب المدارك” (3/ 208).
(9/12)
وكثيرًا ممَّا أوقعهم ــ أو أكثر ما أوقعهم ــ في البدع المخالفة للكتاب والسُّنَّة احتجاجُهم لنوعٍ من الحقِّ بحجَّة مبتدعةٍ اعتقدوا أنها لا تَسْلَمُ من المناقضة والمعارضة إلا بما التزموه لتصحيحها من اللوازم التي قد يخالفون بها الكتابَ والسُّنَّة.
وكان مبدأ ذلك تكلُّمهم في “الجسم، والجوهر، والعَرَض”، وظنُّهم (1) أن بهذا التقسيم والترتيب يَثْبُت لهم وجودُ الصانع، وحدوثُ العالم، ونحو ذلك.
فلم ينكر السَّلفُ مجرَّد إطلاق لفظٍ له معنًى صحيح، كما يعتقده قومٌ من الناس من أهل الكلام وغيرهم؛ فإنَّا عند الحاجة إلى الخطاب نخاطبُ الرجل بالفارسية والرُّومية والتُّركية.
والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لما كتب إلى أهل اليمن، كتب إليهم بلغتهم التي يتخاطبون بها، وليست هي لغة قريش.
ولما قَدِمت أمُّ خالدٍ من أرض الحبشة، وكانت قد سمعت لغتهم، قال لها لما أعطاها الخَمِيصة: “يا أم خالد، هذا سَنَا” (2)، والسَّنا بلسان الحبشة: الحَسَن، أراد مخاطبتَها بذلك إفهامًا لها وتطييبًا لنفسها.
ولا بأس أن يخاطِبَ المسلمُ كلَّ قومٍ بلغتهم التي يعرفون؛ لِقَصْدِ إفهامهم، إذا لم يحصُل المقصودُ بخطابهم بالعربية.
_________
(1) ألحق ناسخ الأصل قبلها: “وظنوا”، ثم رسم حاء صغيرة لعلها إشارة إلى أنها من نسخة أخرى، والسياق يستقيم بأي الكلمتين.
(2) أخرجه البخاري (5823) من حديث أم خالد – رضي الله عنها -.
(9/13)
لكن كَرِه السَّلفُ والأئمَّة، كمالك والشافعي والإمام أحمد التخاطبَ بغير العربية لغير حاجة (1)؛ لأنها شعارُ أهل القرآن والإسلام، وبها يَعْرِفون ما أُمِروا بمعرفته من أمر دينهم، ولمعاني أُخَر ذكرتُها في “اقتضاء الصِّراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم” (2).
فلم تكن كراهةُ السَّلف لمجرَّد اللفظ.
ولا كَرِهوا أيضًا معنًى صحيحًا يكون دليلًا على حقٍّ، كما يتوهَّمه أيضًا هؤلاء، ويقولون: “إن كُرِه اللفظُ فهو اصطلاحيٌّ كاصطلاحات سائر العلماء من الفقهاء والنحاة، وإن كُرِه المعنى فلا يريد (3) إلا الدلالة على أصول الدين، مثل: ثبوت الصانع، ووحدانيته، وصحة الرسالة والنبوة” (4)؛ فإن هذا المعنى لم يكرهه السَّلف، ولا يكرهه مؤمنٌ عليم.
كيف والقرآن من أوله إلى آخره إنما هو في تقرير هذه المعاني التي هي أعلامُ علوم الدين، وأشرفُ مقاصد الرسل؟!
وقد صرَّف الله في القرآن الدَّلالات بوجوه المقاييس (5)، وضرب الأمثال، وأنواع القصص، وغير ذلك مما هو دليلٌ ومرشدٌ إلى الإيمان بهذه الأصول.
_________
(1) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (13/ 402)، و”المدونة” (1/ 161)، و”مسند الفاروق” لابن كثير (2/ 494).
(2) (1/ 461 – 470).
(3) أي: صاحب الكلام.
(4) انظر: “إحياء علوم الدين” (1/ 96، 97).
(5) المقاييس العقلية، وهي الأمثال. انظر: “مجموع الفتاوى” (2/ 61، 10/ 355).
(9/14)
وكيفَ وعلمُ الإيمان بهذه الأصول هو أفضلُ علمٍ في الدين، والكاملون فيه هم خلاصةُ الأمة؟!
وبمثله برَّز السابقون والمقرَّبون، وقيل في الصدِّيق – رضي الله عنه – صدِّيق الأمة: “ما سبقهم أبو بكرٍ بفضل صلاةٍ ولا صيام، ولكن بشيءٍ وَقَر في قلبه” (1).
وقد مدح الله أهلَ العلم به في غير موضع، وقال فيهم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، وقال فيهم: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي} [سبأ: 6]، إلى غير ذلك مما ليس هذا موضعه.
فكيف يكره السَّلفُ – رضي الله عنهم – معانٍ إما هي واجبةٌ وإما مستحبَّة؟!
وكيف وهؤلاء السَّلف لهم من الدلائل والبراهين في مسائل السُّنَّة والردِّ على أهل البدع ما ليس هو لمن ذمُّوه من أهل الكلام؟! وإن أنكروا الطرق والدلائل المُحْدَثة المبتدَعة؛ لما فيها من الفساد والتناقض، وأنها من جنس الكذب والخطأ.
_________
(1) أخرجه أحمد في “فضائل الصَّحابة” (118)، والحكيم الترمذي في “نوادر الأصول” (127، 1117، 1269) من قول بكر بن عبد الله المزني بإسنادٍ صحيح.
ورفعه بعضهم إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولا أصل له، وذكره ابن القيم في “المنار المنيف” (109) فيما وضعته جهلة المنتسبين إلى السنة في فضائل الصدِّيق – رضي الله عنه -. وانظر: “المغني عن حمل الأسفار” (1/ 23).
(9/15)
فتدبَّر هذا؛ فإنه فرقانٌ يفرِّق الله به بين الحقِّ والباطل (1).
وإنما أضربُ لك أمثلةً من أدلتهم وحججهم الفاسدة، كما ضربتُ لك أمثلةً من مسائلهم الفاسدة.
وذلك أن أهل الكلام من أهل قبلتنا يأخذون كثيرًا في (2) الردِّ على من خالف المسلمين (3) من المشركين والمجرمين واليهود والنصارى، ويأخذ كثيرٌ منهم في الردِّ على من خالف السُّنَّة في بعض المواضع، وإن كان الرادُّ قد يخالفُ هو السُّنَّة في موضعٍ آخر (4).
فيريدون أن يثبتوا وحدانية الصَّانع وكماله، ويثبتون (5) نبوَّة محمد – صلى الله عليه وسلم -، ويسمُّون هذه المطالب “العقليات”؛ لاعتقادهم أنها لا تثبتُ إلا بالعقل الذي ادَّعوه وكانوا مختلفين في طرقه!
وقد يعتقدون أن الكتابَ والسُّنَّة لم تبيِّن أدلة هذه المطالب الشريفة! والقرآن مملوءٌ منها.
ولم يعلموا أن [كون] (6) العقل قد يعلمُ صحَّتها لا يمنع أن يكون الشرعُ
_________
(1) انظر: “درء التعارض” (1/ 44، 232، 7/ 154، 166، 176، 351)، و”بيان تلبيس الجهمية” (1/ 221)، و”مجموع الفتاوى” (3/ 307، 13/ 147).
(2) الأصل: “من”. تحريف. وسيأتي نظيره على الصواب.
(3) رسمت في الأصل: “المساله”. ولعله تحريف عما أثبت.
(4) انظر: “بيان تلبيس الجهمية” (2/ 291)، و”التسعينية” (232)، و”مجموع الفتاوى” (3/ 348).
(5) كذا في الأصل.
(6) زدتها لحاجة السياق.
(9/16)
دلَّ عليها وأرشد إليها، فهي شرعيةٌ عقلية، بل ما يبيِّنه الكتابُ والسُّنَّة من أدلة هذه المطالب فوق ما في قُوى البشر، ولم يأت أهلُ الفلسفة والكلام من ذلك إلا بحقٍّ قليلٍ مخلوطٍ بباطلٍ كثير، فلبَسُوا الحقَّ بالباطل.
آخر ما وُجِد من ذلك
(9/17)
مسألة
في مذهب الشافعي في القرآن وكلام الله
(9/19)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين، وصلى الله على سيد المرسلين
* ما تقول السادة العلماء أئمَّة الدين – رضي الله عنهم – أجمعين في رجلٍ قال له شخصٌ: يا فلان، ما مذهبك؟ قال: شافعيُّ المذهب. فقال له ذلك الشخص: بل أنت حنبلي. قال: ولِمَ؟ قال: لأنك تعتقد اعتقاد الحنابلة، تزعم أن القرآن كلام الله. فقال له: فكلامُ من هذا القرآن؟ فقال: يصلحُ أن يكون كلام جبريل. وقيل له: أنت تقول: القرآن كلام جبريل؟ فقال: أيُّ قرآن؟ فقيل له: وللناس قرآنان؟! فقال: نعم. وقال: من زعم أن هذا القرآن الذي يقرؤه الناسُ كلام الله فهو حلوليٌّ يقول بقول النصارى الذين يقولون بحلول القديم بالمُحْدَث! فهل أصاب في هذه الإطلاقات أم أخطأ؟ وهل يستتابُ منها أم لا؟ وهل يكفر إن دعا إليها وأصرَّ عليها بعد بيان الأدلة من الكتاب والسُّنَّة وإجماع السَّلف أم لا؟ أفتونا مأجورين، وابسطوا لنا القول.
فأجاب الشيخ أبو العباس أحمد ابن تيمية – رحمه الله -، فقال:
الحمد لله ربِّ العالمين.
كلام هذا السائل فيه افتراءٌ على الشافعيِّ – رضي الله عنه – ومذهبه، يستحقُّ به التعزير البليغ بافترائه على أئمَّة المسلمين ومذاهبهم.
وفيه افتراءٌ على الله عزَّ وجلَّ وكتابه، يستحقُّ به أن يستتاب، فإن تاب وأقرَّ أن القرآن كلام الله وإلا ضُرِبت عنقُه.
* أما الأول، فإنه يقتضي أن مذهب الشافعيِّ – رضي الله عنه – أن القرآن ليس كلام الله. وهذا افتراءٌ على الشافعي ومذهبه، وكلُّ من عرف مذهب الشافعيِّ
(9/21)
علم بالاضطرار أن مذهبه أن القرآن كلام الله ليس شيءٌ منه كلامًا لغيره.
وإن كان بعض المنتسبين إليه قال قولًا يخالفُ ذلك فالشافعيُّ – رحمه الله – بريءٌ منه، كبراءة عليٍّ – رضي الله عنه – من الرافضة، وبراءة سائر الأئمَّة مالك وأبي حنيفة وأحمد من الرافضة والمعتزلة والحلولية ومِن هذا القول المذكور، وإن كان من المنتسبين إلى الأئمَّة من يقول ببعض أقوال هؤلاء.
وهذا القول إنما يضافُ إلى بعض المنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري، والشافعيُّ – رضي الله عنه – كان قبل الأشعري، ومات رحمة الله عليه قبله بأكثر من مئة سنة (1).
وأصحابه العارفون بمذهبه، كالشيخ أبي حامد الإسفراييني إمام الطريقة العراقية، والشيخ أبي محمد الجويني شيخ الخراسانيين، وغيرهما، يذكرون أن مذهب الشافعي في مسألة كلام الله تبارك وتعالى هو مذهب أحمد بن حنبل وسائر أئمَّة المسلمين، وأنه ليس هو القول المضاف إلى الأشعري (2).
مع أن الأشعريَّ لا يُطْلِقُ القول بأن القرآن كلام جبريل، بل يقول: إن القرآن كلام الله عزَّ وجل، لكن هو صنَّف في الردِّ على الفلاسفة والمعتزلة والرافضة وغيرهم، وانتصر لمذهب أهل الحديث والسُّنَّة، وانتسب إلى الإمام أحمد وسائر أئمَّة السُّنَّة، وأثبت الصفات الواردة في القرآن، وأبطل
_________
(1) توفي الشافعي سنة 204، وتوفي الأشعري سنة 324.
(2) انظر: “درء التعارض” (2/ 95 – 100، 105 – 110)، و”جامع المسائل” (5/ 127، 128)، و”مجموع الفتاوى” (12/ 160، 306، 557).
(9/22)
تأويل النُّفاة لها، ولم يختلف كلامه في ذلك، بل جميع كتبه المصنَّفة بعد رجوعه عن قول المعتزلة ليس فيها إلا هذا القول.
وكذلك أئمَّة أصحابه، كالقاضي أبي بكرٍ (1) وأمثاله.
وقال في آخر مصنَّفاته (2): “فإن قال قائل: قد أنكرتم قول الجهميَّة والقدريَّة والرافضة والحرورية والمرجئة، فعرِّفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تَدِينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي نَدِينُ بها: التمسُّك بكتاب ربنا، وبسنَّة نبينا، وبما روي عن الصَّحابة والتابعين وما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون، ولما خالف قولهم مجانبون؛ فإنه الإمام الكامل، والرئيس الفاضل، الذي أبان الله به الحقَّ، وأوضح به المنهاج، وقمع به بِدَع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشكَّ الشاكِّين، فرحمة الله عليه من إمامٍ مقدَّم، وكبيرٍ مفهَّم، وعلى جميع أئمَّة المسلمين”، وذكر جملة اعتقاده الذي حكاه عنه الحافظ أبو القاسم علي بن عساكر في كتاب الذَّبِّ عنه (3).
وكان القاضي أبو بكر بن الطيِّب ــ من أجلِّ أتباعه ــ يكتبُ أحيانًا في أجوبته: “محمد بن الطيِّب الحنبلي” (4).
_________
(1) محمد بن الطيب الباقلاني.
(2) “الإبانة عن أصول الديانة” (20).
(3) “تبيين كذب المفتري” (157 – 158). وفي بعض حروفه اختلاف، وكأن الشيخ … ينقل هنا من حفظه. والنص في “الفتوى الحموية” (499)، و”بيان تلبيس الجهمية” (3/ 310، 4/ 285) وغيرهما موافق للفظ “الإبانة” و”التبيين”.
(4) انظر: “درء التعارض” (1/ 270، 2/ 17، 100)، و”الصفدية” (2/ 162). وقال ابن كثير في “البداية والنهاية” (15/ 549): “وهذا غريبٌ جدًّا”.
(9/23)
ومع هذا، فاعتقاد أهل السُّنَّة ليس لأحدٍ من الأئمَّة به اختصاص، لا لأحمد ولا للشافعي ولا غيرهما، بل هو التصديق بما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – من ربه تبارك وتعالى.
فأهل السُّنَّة يؤمنون بما أخبر الله به ورسولُه، وهذا هو أصلُ اعتقادهم، وإنما الأئمَّة مبلِّغون لذلك، ومثبتون له، و [منكرون] (1) لقول من خالفه.
فأبو الحسن الأشعريِّ صنَّف في الردِّ على أهل البدع الكبار مصنفاتٍ، وسلك في مسألة الكلام والصفات مسلك أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب.
وكان ابن كُلَّاب قد صنَّف في إثبات الصفات والردِّ على المعتزلة مصنفاتٍ، لكنه سلك في إثبات حدوث العالم طريقة المعتزلة المعروفة بطريقة الأعراض، المبنية على امتناع دوام الحوادث.
وهذه الطريقة أنكرها أئمَّة السُّنَّة، وهي أصلُ الكلام الذي أنكره مالكٌ والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم، وهو المنقول إنكارُه عن أبي حنيفة وأئمَّة أصحابه (2).
وهي الطريقة التي استطالت بها عليهم الفلاسفة في مسألة حدوث العالم (3)؛ فإنهم ظنُّوا أنهم يثبتون بها حدوث العالم، فعُورِضوا بأنها توجبُ
_________
(1) زيادة ضرورية لاستقامة الكلام. وكذلك سائر الزيادات الآتية.
(2) انظر: “بيان تلبيس الجهمية” (2/ 161)، و”درء التعارض” (7/ 294).
(3) انظر: “درء التعارض” (8/ 279)، و”التسعينية” (771)، و”منهاج السنة” (1/ 299، 425، 445)، و”النبوات” (279)، و”مجموع الفتاوى” (13/ 157)، و”جامع المسائل” (2/ 279).
(9/24)
قِدَم العالم، وبين أن القول بها نشأ من القول بحدوث العالم، بل وبإثبات الصانع (1).
فلما سلك أبو محمد ابن كُلَّاب هذا المسلك، اضطرَّه التقسيمُ إلى أن جعل كلام الله معنًى واحدًا قائمًا بذات الله، هو الأمرُ بكلِّ ما أمَر به، والخبرُ عن كلِّ ما أخبَر به، إن عُبِّر عنه بالعِبرانية كان توراةً، وإن عُبِّر عنه بالسريانية كان إنجيلًا، وإن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآنًا.
واتفق جمهور العقلاء من أهل السُّنَّة والبدعة على أن هذا القول معلومُ الفساد بالضرورة.
واضطرَّه ذلك إلى أن جَعَل الكلام العربيَّ مخلوقًا، وأنه ليس هو كلام الله، وأن القرآن العربيَّ الذي نزل به جبريلُ على محمدٍ ليس هو كلام الله، ولم يتكلَّم به، وإنما كلامه ذلك المعنى الذي هو الأمر والنهي.
فوافق المعتزلةَ على القول بخلق القرآن الذي قالوا: إنه مخلوق، وأثبت كلامًا قديمًا.
فبيَّن جمهورُ العقلاء أنه لا حقيقة له.
فصار بعض المنتسبين إليه يقول: إن القرآن العربيَّ خلقه الله في بعض الأجسام، كما قالته المعتزلة.
_________
(1) كذا في الأصل. والعبارة مضطربة.
(9/25)
وبعضهم يقول: بل هو تأليفُ جبريل ونظمُه، فَهِمَ عن الله معانيَ (1) مجرَّدة، ثم عبَّر عنها.
فقال له من أراد بيان فساد هذا: [هذا] تشبيهٌ (2) للربِّ سبحانه بالأخرس الذي في نفسه معنًى [لا] يمكنه التعبيرُ [عنه]، فيجيء من فَهِم مراده فيُعَبِّرُ عنه (3).
لكن الأخرس يُفْهَمُ ما في نفسه بإشارته وإيمائه، وهذا عنده ممتنعٌ على الربِّ سبحانه، بل طريقُ ذلك أن يَخْلُقَ في نفس جبريل علمًا بمراده، من جنس الإلهام.
وحينئذٍ فيكون جبريلُ أُلْهِمَ شيئًا عبَّر عنه وجاء به إلى محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -؛ فيكون من أُلْهِمَ مرادَه أن يُرى (4) بمنزلة جبريل الذي أخذ عنه محمدٌ – صلى الله عليه وسلم -.
ولهذا يقول من بنى على هذا الأصل، كابن عربي: أنا آخذُ من المعدن الذي يأخذُ منه الملَكُ الذي يوحي به إلى الرسول (5).
وقد فرَّق الله بين الوحي وبين التكليم الخاصِّ في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
_________
(1) ضبطت في الأصل: “معانٍ”، وهو خلاف العربية وأسلوب المصنف في عامة كلامه، ولعله من تصرف الناسخ. وانظر: “جامع المسائل” (6/ 16).
(2) الأصل: “فنسبه”. تحريف.
(3) انظر: “التسعينية” (98، 434)، و”مجموع الفتاوى” (6/ 537، 12/ 552).
(4) كذا في الأصل. والضبط مني.
(5) “فصوص الحكم” (63).
(9/26)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} إلى قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163 – 164] , ففرَّق بين إيحائه إلى سائر الأنبياء وتكليمه لموسى (1).
وكذلك قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] , فجعل تكليمَه للبشر ثلاثة أصناف (2):
أحدها: الإيحاء إليهم.
والثاني: التكليم من وراء حجاب، كما كلَّم موسى.
والثالث: أن يرسل رسولًا، فيوحيَ بإذنه ما يشاء.
فإن كان جبريلُ لم يأخذ القرآن عن الله إلا وحيًا كان إيحاءُ الله بلا واسطة جبريلَ أعظم، فتكون إلهاماتُ عمر بن الخطاب أفضل من القرآن وأعلى بدرجتين؛ لأن القرآن أخذه محمدٌ عن جبريل، وجبريلُ عن إلهام الله، وعمرُ [أخذ] الإلهام عن الله!
وقال بعضهم: إن جبريل أخذ القرآن عن اللوح المحفوظ.
_________
(1) انظر: “الصفدية” (1/ 204)، و”التسعينية” (969)، و”درء التعارض” (10/ 200، 213)، و”بغية المرتاد” (385)، و”بيان تلبيس الجهمية” (8/ 129)، و”مجموع الفتاوى” (6/ 477، 532، 12/ 128، 137، 396، 402، 532، 542، 558، 588، 15/ 224).
(2) انظر: “بيان تلبيس الجهمية” (7/ 265)، و”مجموع الفتاوى” (2/ 228، 6/ 477، 12/ 279، 300، 397)، و”جامع المسائل” (5/ 284).
(9/27)
وعلى هذا تكون اليهودُ أعظم قدرًا عند الله من محمدٍ – صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله كتب التوراة لموسى، وأنزلها مكتوبةً، فتلقَّى بنو إسرائيل ما في الألواح عن الله. فإن كان جبريلُ إنما أخذ القرآن عن اللوح، صار جبريلُ كبني إسرائيل، وصار محمدٌ كمن أخذ كلام الله عن بني إسرائيل! وإذا كان هذا باطلًا وكفرًا فما استلزم الباطلَ فهو باطل (1).
وأيضًا، فتفريقُ الله بين “الإيحاء” و”التكليم” دليلٌ على أن الله كلَّم موسى بكلامٍ سمعه موسى، كما قال تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13].
ومن قال: “الكلام مجرَّد معنًى قائمٍ بالنفس” يقول: تكليمُ موسى إنما هو خلقٌ لطبيعةٍ فيه أدرك بها ذلك المعنى.
ثم إنهم يقولون: إن ذلك المعنى لا يتبعَّض، فقال لهم بعض أهل العلم: فموسى أدركَ جميعَ المعنى القائم بالذات أو بعضه؟ إن قلتم: الجميع، فيكون موسى قد أدرك جميع كلام الله، وعَلِمَ جميع ما تكلَّم الله به، وكلامُه متضمنٌ (2) لكلِّ خبرٍ أخبر الله به، فيكون موسى قد علم جميعَ ما أخبَر به الأولين والآخرين!
وهذا معلومُ الفساد بالضرورة، ولو لم يكن إلا ما أتاه الخضر، فإن موسى لم يعلم ذلك، بل قال له الخضر لما نقر العصفورُ في البحر نقرة: “ما نقص علمي وعلمُك من علم الله إلا كما نَقَصَ هذا العصفورُ من هذا
_________
(1) الأصل: “بالباطل”.
(2) الأصل: “يتضمن”.
(9/28)
البحر” (1).
وهذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع (2).
وبالجملة، فنحن نعلمُ بالاضطرار من دين محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – أن القرآن كلام الله، ليس كلامًا لغير الله، لا لمحمدٍ ولا جبريل ولا غيرهما، ولكن الله يضيفه إلى هذا الرسول تارة، وإلى هذا الرسول تارة؛ لكونه بلَّغه وأدَّاه، لا لأنه أنشأه وابتداه.
ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19 – 20]، فالرسول هنا: جبريل.
وقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40 – 41]، فالرسول هنا: محمدٌ – صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل: لَقَوْلُ ملَكٍ ولا نبيٍّ.
بل كفَّر من قال: إنه قولُ البشر، كما في الوحيد الذي قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} الآية (3) [المدثر: 25 – 26].
وقول القائل: “إنه قولُ مَلَكٍ أو نبيٍّ (4) ” من جنس قوله: “إنه قول
_________
(1) أخرجه البخاري (122) ومسلم (2380) من حديث أبي بن كعب – رضي الله عنه -.
(2) انظر: “منهاج السنة” (5/ 419)، و”مجموع الفتاوى” (9/ 283، 12/ 49، 130، 17/ 153)، و”جامع الرسائل” (2/ 12).
(3) كذا في الأصل. وموضع الشاهد هو الآية الأولى، وأخشى أن تكون زيادة الثانية من سهو الناسخ واسترساله مع حفظه. وانظر: “بغية المرتاد” (220)، و”درء التعارض” (1/ 258)، و”التسعينية” (543، 1009)، و”مجموع الفتاوى” (12/ 20).
(4) الأصل: “اوحي”. تحريف.
(9/29)
البشر”، كلُّ ذلك كفر.
وقد قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، فأخبر أن جبريل نزَّله من الله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114]، وقال تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 1 – 2]، {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1 – 2]، ونظائره كثيرة.
فصل
وأما قول القائل: “من زعم أن القرآن الذي يقرؤه الناسُ كلام الله فهو حلوليٌّ يقول بقول النصارى الذين يقولون بحلول القديم في الحادث”، فهذا يدلُّ على جهله بدين المسلمين ودين النصارى!
* أما المسلمون، فإنهم إذا قالوا كما قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] لم يريدوا (1) بذلك أن الكلام الذي تكلَّم به الربُّ وقام بذاته انتقل إلى القُرَّاء؛ فإن الانتقال ممتنعٌ على صفات المخلوقين، فكيف على صفات الخالق؟!
والمسلمون إذا سمعوا كلام النبي – صلى الله عليه وسلم -، وبلَّغوه عنه، وقالوا: إنه قال: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى” (2)، كانوا مبلِّغين لكلام
_________
(1) الأصل: “يريدون”.
(2) أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر – رضي الله عنه -.
(9/30)
النبي – صلى الله عليه وسلم – بحركاتهم وأصواتهم، لا بصوت النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن ما قام به من كلامه ــ حروفه ومعانيه ــ منتقلةً عنه ولا حالَّةً فيهم.
فكيف يقال: إن جبريل سمع كلام الله من الله، وبلَّغه إلى رسوله محمد، فيكون شيءٌ (1) من كلام الله منتقلًا عن ذات الله وحالًّا بجبريل، فضلًا عن أن ينتقل إلى البشر ويحلَّ بهم؟!
بل الكلامُ كلامُ من قاله مبتدِئًا، لا كلامُ من قاله مبلِّغًا مؤدِّيًا (2).
وموسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة، وأما المسلمون فإنما سمعوه من المبلِّغين عنه، لم يسمعوه من الله عزَّ وجل.
والفرق بين السَّماعَيْن ظاهر، هذا سماعٌ بواسطةٍ وهذا سماعٌ بلا واسطة، كما أن الشمس والقمر والكواكب قد يراها بطريق المباشرة، وقد يراها بواسطة ماءٍ أو مرآةٍ أو جسمٍ صقيل؛ فهذه رؤيةٌ مقيَّدةٌ بواسطة، لم يباشِرْها بالرؤية. وكذلك السامع لكلام المتكلِّم من المبلِّغ عنه، هو سمعٌ مقيَّدٌ بواسطة، لم يباشره بالسَّمع (3).
وإذا قيل: “رسول الله بلَّغ عن ربه”، و”حكى عن ربه”، و”حدَّث عن ربِّه”، و”روى عن ربِّه”، كان صحيحًا.
وإذا قيل: “هذا حكاية القرآن”، بمعنى أن أحدًا يحاكي كلام الله، فيأتي
_________
(1) الأصل: “يكون شيئا”. والمثبت أظهر.
(2) انظر: “درء التعارض” (1/ 256)، و”التسعينية” (538، 550، 963).
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (12/ 137).
(9/31)
بمثله (1)، فهذا باطل، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
ومن قال: “إن المداد الذي في المصاحف، والأصوات المسموعة من القُرَّاء، قديمةٌ أزليَّة”، فهو ضالٌّ ضلالًا مبينًا، مخالفٌ لصريح المعقول والمنقول، ولم يقل هذا أحدٌ من أئمَّة المسلمين، لا أبو حنيفة، ولا مالك، ولا الشافعي، ولا أحمد، ولا جماهير أصحابهم (2). كما أن القول بأنه معنًى واحدٌ قائمٌ بالذات قولٌ مخالفٌ لصريح المعقول والمنقول، لم يقله أحدٌ من أئمَّة المسلمين ولا جماهير أصحابهم.
* وأما مذهب النصارى، فإن عندهم أن أُقْنُومَ الكلمة هو جوهرٌ قائمٌ بنفسه، يخلقُ ويرزق، ويغفرُ ويرحم، وهو الإله المعبود، وهو المتَّحدُ بالمسيح.
فالكلمة عندهم ليست مجرَّد (3) صفةٍ قائمة بالمتكلِّم، ولا الحلولُ عندهم حلول صفة الله في غيره، بل نفس المسيح عندهم إلهٌ يغفرُ ويرحم، ويقيمُ القيامة.
فالحلول الذي تقوله النصارى يشبه قول من يقول في بعض البشر: إنه إله، كما تقوله الغاليةُ في الأئمَّة والشُّيوخ.
_________
(1) الأصل: “مثله”.
(2) انظر: “التسعينية” (437، 533، 535).
(3) الأصل: “مجردة”.
(9/32)
فإن كان في المسلمين من يقول: إنه (1) من القرآن، فقد صار إلهًا، فهذا يقول بقول النصارى. وإن لم يكن في المسلمين من يقول ذلك فهذا كذبٌ (2) على المسلمين (3).
وهذه نكتةٌ مختصرة؛ إذ كان جوابُ هذه الورقة مبسوطًا في غير هذا الموضع.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمدٍ وآله.
وكان الفراغ على يد العبد الفقير الحقير المقر بالذنب والتقصير راجي عفو ربه السميع البصير محمد بن حمد بن نصر الله، غفر الله له ولوالديه.
_________
(1) أي: بعض البشر.
(2) الأصل: “تحدث”. ويحتمل أن تكون: “تحريف”.
(3) انظر: “الجواب الصحيح” (3/ 315، 489، 4/ 332 – 350)، و”التسعينية” (845 – 866)، و”مجموع الفتاوى” (12/ 292 – 295، 389).
(9/33)
مسألة
في الأولياء والصالحين والأقطاب والأبدال
ورجال الغيب
(9/35)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين.
وسئل شيخ الإسلام ومفتي الأنام أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني – رضي الله عنه -:
عن الحديث المرويِّ على ألسنة الناس: “ما من جماعةٍ اجتمعوا إلا وفيهم وليٌّ لله تعالى، لا هم يدرون به، ولا هو يدري بنفسه”، هل هو صحيحٌ أم لا؟
ومن أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون؟
ومن الصَّالح؟
وهل لرجال الغيب حقيقة؟ وهل ينبتُ الشَّعرُ على أبدانهم، فيستغنوا به في جميع أوقاتهم عن لبس الثياب، ويقيهم من الحرِّ والبرد، ويستُر عوراتهم، أم لا؟
وما معنى الأبدال والقُطْب؟ وهل يكونون في البراري والجبال، أم في المدن بين أظهر الناس؟ وهل لهم علامةٌ يُعْرَفون بها أم لا يعلمهم إلا الله عزَّ وجل؟
أجاب شيخ الإسلام – رضي الله عنه -:
الحمد لله ربِّ العالمين.
* أما الحديث المذكور أنه “ما من جماعةٍ اجتمعوا إلا وفيهم وليٌّ لله”، فلا أصل له (1)، وهو كلامٌ باطل؛ فإن الجماعة قد يكونون كفارًا مشركين
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (11/ 60)، و”المصنوع” للقاري (163).
(9/37)
وكتابيِّين، وقد يكونون فسَّاقًا يموتون على الفسق.
* وأما أولياء الله عزَّ وجلَّ، فهم الموصوفون في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 – 63]، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون.
والتقوى هي المذكورة في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وهم قسمان: مقتصِدون، ومقرَّبون (1).
فالمقتصِدون: الذين يتقرَّبون إلى الله بالفرائض من أعمال القلوب والجوارح.
والسَّابقون: الذين يتقرَّبون إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، كما روى البخاري في صحيحه (2) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى
_________
(1) انظر: “الجواب الصحيح” (5/ 59)، و”الفتاوى” (2/ 224، 417، 11/ 23، 61، 176، 549)، و”جامع المسائل” (1/ 68، 86). والمقربون هم السابقون.
(2) صحيح البخاري (6502).
(9/38)
أحِبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يبصرُ به، ويدَه التي يبطشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يسعى، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذ بي (1) لأعيذنَّه، وما تردَّدتُ عن شيءٍ أنا فاعلُه تردُّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموتَ وأكره مساءته، ولا بدَّ له منه” (2).
والوليُّ: خلاف العدوِّ. وهو مشتقٌّ من الوَلاء، وهو الدنوُّ والتقرُّب (3). والتقرُّب
_________
(1) هذه إحدى الروايتين، والأخرى بالنون “استعاذني”، وكلاهما محفوظ.
(2) كذا ساق شيخ الإسلام الحديثَ في مواضع كثيرة من كتبه معزوًّا إلى البخاري، وفي سياقه زياداتٌ وألفاظ لم أجدها في الصحيح:
– كقوله: “فقد بارزني بالمحاربة”، وإنما يروى هذا من حديث أنس وعائشة – رضي الله عنهما – ولفظ البخاري: “فقد آذنته بالحرب”.
– وكزيادة: “فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يسعى”، فليست في الصحيح، ونصَّ الشيخ على أنها روايةٌ في غير الصحيح، في “مجموع الفتاوى” (2/ 390)، ولم أقف عليها مسندة، وهي في “نوادر الأصول” (2/ 112، 408، 4/ 69)، و”الرسالة القشيرية” (1/ 192)، وغيرهما دون إسناد.
وقال الذهبي في “تاريخ الإسلام” (15/ 629): “لم أجد هذه اللفظة”. وانظر: “كلمة الإخلاص” لابن رجب (34)، و”فتح الباري” (11/ 344)، و”السلسلة الصحيحة” (4/ 191).
– وكذلك زيادة: “ولا بدَّ له منه” في آخره ليست من رواية البخاري، وإنما رواها محمد بن مخلد العطار عن ابن كرامة. انظر: “فتح الباري” (11/ 346).
– وكذلك فلفظ البخاري هو: “بشيء أحب إلي مما افترضت عليه”، “ترددي عن نفس المؤمن”.
(3) كذا رسمت في الأصل إلا أن التاء غير معجمة، والأحق بالصواب أن تكون “والقُرْب” كما في “الفتاوى” (11/ 62)، و”بدائع الفوائد” (1014)، ومعاجم اللغة. واختلفت فيها نسخ “الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان” (11). ولا يبعد أن يكون نظر الناسخ انتقل إلى كلمة “التقرب” في السطر الثاني فكتبها هنا على التوهُّم. ولم أجسر على تغييرها؛ لأنها وقعت كذلك في “شرح الطحاوية” لابن أبي العز، وقد نقل النصَّ بألفاظه.
(9/39)
فوليُّ الله: هو من والى الله بموافقته في محبوباته، إليه بمرضاته.
وهؤلاء كما قال الله تعالى فيهم: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 – 3]، قال أبو ذرٍّ – رضي الله عنه -: لما نزلت هذه الآية قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “يا أبا ذر، لو عمل الناسُ كلُّهم بهذه الآية لكفتهم” (1).
فالمتقون يجعلُ الله لهم مخرجًا مما ضاق على الناس، ويرزقُهم من حيث لا يحتسبون، فيدفعُ الله عنهم المضارَّ، ويجلبُ لهم المنافع، ويعطيهم الله أشياء يطول شرحُها من المكاشفات والتأثيرات (2).
فصل
* وأما الصَّالح، فهو: المطيعُ لله ورسوله.
وهو أيضًا: القائمُ بما وجب عليه لله ولخلقه.
وهو أيضًا: المؤدِّي للواجبات، المجتنب للمحرَّمات.
وهو أيضًا: البَرُّ.
_________
(1) أخرجه أحمد (21551)، وابن ماجه (4220)، والدارمي (2767)، وغيرهم بإسنادٍ فيه إرسال، وصححه ابن حبان (6669)، والحاكم (2/ 534).
(2) انظر: “شرح الطحاوية” (2/ 508 – 509).
(9/40)
وهو أيضًا: العَدْل.
وهو أيضًا: وليُّ الله.
كلُّ هذه أسماءٌ متكافئةٌ (1) في الكتاب والسُّنَّة، أو متقاربة، وإن كان بعض الناس قد يفرِّق بينهم في عُرْفِه.
وهم قسمان، كما تقدَّم: المقتصِدون أصحابُ يمين، والسابقون المقرَّبون، كما ذكر الله تعالى هذين القسمين مع القسم الثالث في سورة فاطر، والواقعة، وسورة الإنسان، وسورة المطففين (2)، وأخبر أن الأبرار
ــ وهم عموم المؤمنين والأولياء ــ يشربون من كأسٍ ممزوجةٍ بالشراب الذي يشربُ به المقرَّبون عبادُ الله، وهم خصوصُ الصالحين، وخصوصُ أولياء الله تعالى.
فصل
* وأما رجالُ الغيب الذين يَغِيبون عن الناس، فلا يراهم إلا بعض الناس في البراري والجبال والمغارات المنقطعة عن الناس، فهم من الجنِّ لا من الإنس، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6].
_________
(1) الأسماء المترادفة في الذات المتباينة في الصفات يسميها بعض الناس: “المتكافئة”، وهي مرتبة بين المترادفة المحضة والمتباينة المحضة. انظر: “الرد على الشاذلي” (123)، و”مجموع الفتاوى” (6/ 63، 13/ 333، 20/ 424)، و”جامع الرسائل” (2/ 203)، و”جامع المسائل” (4/ 414).
(2) فاطر: 32. الواقعة: 7 – 11، 88 – 91. الإنسان: 5 – 6. المطففين: 18 – 28.
(9/41)
وقد يقول أحدهم لمن يراه: “أنا الخَضِر”، أو “أنا من الأبدال”، أو “أنا من الأربعين التي في جبال لبنان”، وليس في جبل لبنان أحدٌ من الإنس يغيبُ عن الناس، والخَضِر عليه السلام مات، وإنما ذلك شيطانٌ من الجنِّ يقترنُ بمن خالف الكتابَ والسُّنَّة (1).
ومن الناس من يكونُ صالحًا وليًّا لله، ويكونُ حالُه غائبًا عن عامة الناس.
نعم، يكونُ نورُ قلبه وهدى فؤاده وما فيه من أسرار الله وأمانته وأنواره ومعرفته غيبًا عن الناس، ويكونُ صلاحُه وولايتُه غيبًا عن أكثر الناس، وأسرار الله بينه وبين أوليائه، وأكثر الناس لا يعلمون، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “رُبَّ أشعث، أغبر، ذي طِمْرَين، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسَم على الله لأبرَّه” (2).
فأما أن يكون رجلٌ يغيبُ جسدُه عن أبصار الناس دائمًا، فهذا لا حقيقة له، وإن كان قد يغيبُ عن أبصار الناس بعض الأحيان، إما لدفع عدوٍّ عنه، وإما لغير ذلك، وذلك قد يكونُ لأولياء الله، وقد يكونُ للسَّحرة، لكن لا تدومُ الغَيبة (3).
_________
(1) انظر: “الإخنائية” (287، 423)، و”منهاج السنة” (3/ 379)، و”مجموع الفتاوى” (1/ 362، 11/ 294، 13/ 71، 78، 217، 17/ 465، 27/ 17، 50)، و”جامع المسائل” (1/ 81).
(2) أخرجه مسلم (2622، 2854) بنحوه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (11/ 443، 27/ 58).
(9/42)
[فصل]* وأما القُطْب، فهو مدارُ الأمر، كلُّ من دار عليه تدبيرُ أمرٍ من أمور الدين والدنيا فهو قطبُه، قد يكونُ الرجلُ قُطبَ داره ودربه وبلده، إما في أمرٍ معيَّنٍ من أمر الدين والدنيا، وإما في أمورٍ كثيرة، كما يكونُ رئيسُ القرية ووالي البقعة قطبًا في الأمور التي يدبِّرها (1)؛ فإن للقلوب من التأثير أكثر مما للأجساد (2).
فصل
* وأما الأبدال، فقد جاء فيهم ما رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق الشاميين، وإسناده منقطع، عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه قال: لا تسبُّوا أهل الشام؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن فيهم الأبدال، أربعون رجلًا، كلما مات منهم رجلٌ أبدل الله تعالى مكانه رجلًا” (3).
وهذا ليس بصحيح.
وفي غير هذا الحديث عن طائفةٍ أنهم يجعلون من الأبدال من هو في غير الشام.
وقد فسَّر الناطقون بهذا الاسم معنى “الأبدال” بمعانٍ (4):
– فمن الناس من يقول: سُمُّوا أبدالًا لأنهم أبدال الأنبياء.
– وقيل: كلما مات رجلٌ أبدل الله مكانه رجلًا.
_________
(1) الأصل: “تدبرها”.
(2) فصَّل الشيخ – رحمه الله – القول في “القطب” في مواضع أخرى من كتبه وفتاويه. انظر: “منهاج السنة” (1/ 91 – 96)، و”جامع المسائل” (1/ 77 – 79، 2/ 70 – 90)، و”مجموع الفتاوى” (11/ 167، 433، 440، 27/ 96 – 105)، و”مختصر الفتاوى المصرية” (197، 199).
(3) أخرجه أحمد (896)، وإسناده منقطع كما قال ابن عساكر وشيخ الإسلام، شريح بن عبيد لم يدرك عليًّا – رضي الله عنه -. انظر: “تاريخ دمشق” (1/ 289)، و”مجموع الفتاوى” (11/ 434)، و”جامع المسائل” (2/ 102).
وروي موقوفًا، وهو أشبه. انظر: “الأحاديث المختارة” للضياء (2/ 111).
ويروى مرفوعًا من وجوه كثيرة لا يصحُّ منها شيء. انظر: “المنار المنيف” (132)، و”المقاصد الحسنة” (43)، و”السلسلة الضعيفة” (936، 2498، 2993، 4779).
(4) انظر: “مجموع الفتاوى” (11/ 441)، و”جامع المسائل” (2/ 67).
(9/43)
فكيف يُعْتَقَدُ أن الأبدال جميعهم في أهل الشام؟! هذا باطلٌ قطعًا.
– وقيل: لأنهم بدَّلوا سيئاتهم حسنات.
وفي الجملة فليس هذا الاسمُ من الدين الذي يجبُ الاعتناء به، ولا أصل له معتمدًا في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ولا ينبغي تعلُّق القلب به وبأمثاله من الأمور المجهولة التي ليس لها أصلٌ ثابتٌ في العلم الثابت المرويِّ عن نبينا – صلى الله عليه وسلم -.
فإن الله تعالى يقول: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4]، فمن لم يأت على ما يقوله في الدين بكتابٍ من عند الله أو أثارةٍ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإلا فهو مُبْطِل.
وقد قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
(9/44)
اللَّهُ} [الشورى: 21].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]؛ فكلُّ شيءٍ تنازع فيه المسلمون من أمر دينهم الباطن والظاهر، فعليهم ردُّه إلى كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -.
فإن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فإذا كان الله قد أكمل لهذه الأمة دينها على لسان نبيه – صلى الله عليه وسلم -، فإنه يجبُ أن يؤخذ جميعُ الدين من الرسول.
والدين يتناول الأمور الباطنة في القلب، والظاهرة على الأجسام، فكلُّ ما يُتَقَرَّبُ به إلى الله من الأمور الباطنة والظاهرة إن لم يكن مأخوذًا عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإلا كان من البدع المُضِلَّة.
وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالك” (1).
وكان يقول في خطبته: “إن أصدق الكلام كلامُ الله، وخير الهُدى هُدى محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة” (2).
_________
(1) أخرجه أحمد (17142)، وابن ماجه (43) من حديث العرباض بن سارية – رضي الله عنه – في سياق طويل، وصححه طائفة من أهل العلم. وانظر تخريجًا مبسوطًا له في التعليق على “ذم الكلام” لأبي إسماعيل الأنصاري (3/ 122 – 148 طبعة الغرباء).
(2) أخرجه مسلم (867) من حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – بلفظ: “فإن خير الحديث كتاب الله”. ولفظ أحمد (14334): “فإن أصدق الحديث كتاب الله”. وباللفظ الذي معنا يورده الشيخ – رحمه الله – في عامة كتبه منسوبًا إلى الصحيح، ولم أجده فيه. انظر: “درء التعارض” (1/ 272)، و”الفتاوى” (11/ 471، 20/ 164، 31/ 36)، و”جامع المسائل” (8/ 212)، وغيرها. وهو على الصواب في “اقتضاء الصراط المستقيم” (2/ 82).
(9/45)
فكلُّ من أخذ دينه عن المجهولات صار في جاهليةٍ وبدعةٍ وضلالة.
قال عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه -: “من عبد الله بغير علمٍ كان ما يُفْسِدُ أكثر مما يُصْلِح” (1).
وقد قال الله في كتابه تعليمًا لنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 – 7].
وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “اليهود مغضوبٌ عليهم، والنصارى ضالُّون” (2).
قال سفيان بن عيينة: “كانوا يقولون: من فسَد من العلماء ففيه شَبَهٌ من اليهود، ومن فسَد من العبَّاد ففيه شَبَهٌ من النصارى” (3).
_________
(1) أخرجه أحمد في “الزهد” (1760)، وابن سعد في “الطبقات” (7/ 362)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (36246)، والدارمي (313)، وغيرهم.
(2) أخرجه أحمد (19381)، والترمذي (2954) من حديث عدي بن حاتم – رضي الله عنه -، وقال: “هذا حديثٌ حسنٌ غريب”. وصححه ابن حبان (6246، 7206).
وفي إسناده مقال. وله شواهد يتقوى بها. انظر: “فتح الباري” (8/ 159)، و”الروض البسام” (4/ 126).
(3) لم أقف عليه مسندًا، ولا رأيته عند أحدٍ قبل شيخ الإسلام، وعنه انتشر في التصانيف، فذكره بعده ابن القيم وابن كثير وابن رجب وغيرهم، ولعله في بعض ما لم يصلنا من كتب “السنة” المتقدمة، وهو من دلائل سعة اطلاعه وغزارة حفظه – رحمه الله -.
(9/46)
وذلك أن اليهود كانوا يعرفون الحقَّ كما يعرفون أبناءهم، ولا يتبعونه. والنصارى عبدوا الله بغير علمٍ ولا شرع، بل كما قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27].
فمن فعل ما ذمَّه الله من اليهود، مثل الكِبْر، والحسد، وكتمان العلم، واتباع سبيل الغيِّ، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وجَحْد الحقِّ الذي يجيء به غيرُ أصحابهم، ونحو ذلك = ففيه من الشَّبه بهم بقدر ذلك.
ومن فعل ما ذمَّه الله من النصارى، مثل الغلوِّ في الأنبياء والصالحين، وابتداع العبادات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وتَرْك دين الحقِّ الذي شرعه الله لعباده، وتَرْك تحريم ما حرَّمه الله ورسوله، واتباع الأهواء بغير علمٍ ولا هدى، ووَضْع الشرائع بحكايةٍ أو منام، ونحو ذلك من أمور الضلال = ففيه من شَبَه النصارى بقدر ذلك.
وهذا بابٌ يطول شرحُه (1)، وإنما ذكرنا ما تحتمل هذه الفتوى (2).
_________
(1) كتب الناسخ فوق كلمة “شرحه” بخط دقيق: “وصفه” ولم يضرب عليها، فلعله أراد التصحيح، أو الجمع بين اللفظين، وكلاهما مألوف في كلام ابن تيمية.
(2) انظر لهذا الباب: “اقتضاء الصراط المستقيم” (1/ 79)، و”الإخنائية” (385، 491)، و”الجواب الصحيح” (2/ 140، 402، 3/ 185)، و”النبوات” (337)، و”منهاج السنة” (1/ 22، 473، 2/ 453، 5/ 169، 329، 7/ 210)، و”الرد على الشاذلي” (31)، و”الاستقامة” (1/ 100)، و”الفتاوى” (1/ 65، 197، 3/ 360، 5/ 100، 7/ 633، 8/ 260، 11/ 26، 453، 16/ 567، 19/ 277، 22/ 307، 27/ 127، 176، 464، 28/ 480)، و”جامع الرسائل” (1/ 259، 2/ 245)، و”جامع المسائل” (2/ 73، 5/ 217، 7/ 195).
(9/47)
فصل
* وأما سكَّان البادية والجبال، فليس ذلك مشروعًا لأهل الإسلام إلا عند حصول الفتنة في المِصْر، مثل أن يقتتل المسلمون، فيهاجر المرءُ إلى حيث يأمن على دينه حتى تَسْكُن الفتنة؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “المهاجر من هجر ما نهى الله عنه” (1).
فأما أن يكون سُكنى البادية والغِيران مستحبًّا على الدوام، فليس ذلك من دين الإسلام، فضلًا عن أن يكون شعارًا لأهل ولاية الله والصَّلاح (2).
وإن كان طائفةٌ من الزهَّاد فعلوا ذلك:
– ففيهم من كان معذورًا، لأجل السبب الذي أباح له ذلك.
– ومنهم من كان مجتهدًا مخطئًا، يثيبُه الله على قصده الحسن وعمله الصالح، ويغفر له خطأه.
– ومنهم من كان مذنبًا ذنبًا صغيرًا، يغفر الله له باجتناب الكبائر.
– ومنهم من كان مذنبًا ذنبًا كبيرًا، أمره إلى الله تعالى، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له.
_________
(1) أخرجه البخاري (10) من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما -.
(2) انظر: “الاستقامة” (2/ 61)، و”مجموع الفتاوى” (18/ 11، 27/ 55)، و”جامع المسائل” (2/ 89).
(9/48)
– وفيهم من كان مارقًا من الدين، خارجًا عن شريعة سيد المرسلين.
– وفيهم من كان كافرًا بالكلِّية، وإن كان له عبادةٌ وزهدٌ فعبادته كعبادة النصارى والمشركين.
[فصل]* وأما نبات الشعر على أجسادهم، فهذا كذبٌ ومحال (1).
وليس لأولياء الله وعباده الصالحين زيٌّ مخصوصٌ يتميَّزون به على غيرهم في الظاهر، لا حلقُ رأس، ولا لبسُ صوفٍ أو شَعر، ولا اعتزالٌ في المنزل دائمًا، ولا تركُ مخالطة الناس دائمًا، ولا غير ذلك من الأمور التي هي غير مستحبَّةٍ في الشريعة (2).
بل ولا من خصائصهم أو لوازمهم لزومُ شيءٍ معيَّن مستحبٍّ في الشريعة، ولا الزهدُ في فضول المباح، ولا صوم الاثنين والخميس، ولا صلاة الضحى، ولا التسوُّك، ولا غير ذلك (3).
بل أولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، من جميع أصناف الناس، وتقوى كلِّ شخصٍ بحسب ما أمره الله تعالى به ونهاه.
فولاة الأمور تقواهم في العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (27/ 58).
(2) انظر: “الاستقامة” (1/ 260)، و”مجموع الفتاوى” (11/ 555).
(3) أي أن هذه الأمور وإن كانت مستحبة في الشريعة فليست شرطًا لولاية الله، فمن أولياء الله من لا يحافظ عليها. انظر: “مجموع الفتاوى” (10/ 460، 11/ 179).
(9/49)
والحكم بالكتاب والسُّنَّة، بحسب الإمكان.
وتقوى التاجر أن يكون صدوقًا أمينًا، مع ما يلزمه من الواجبات في غير تجارة.
فكلُّ من آمن الإيمانَ الذي أمره الله تعالى به، واتقى الله التقوى التي (1) أمره الله تعالى بها، فهو من أولياء الله تعالى، سواء كان من العلماء، أو الأجناد، أو الزهَّاد، أو التجَّار، أو الصُّنَّاع (2).
فإن الله لما ذكر القُرَّاء في القرآن، الذين هم أهلُ الدين والعبادة، قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20].
ومعنى قول من قال: “إن لم يكن العلماء العاملون أولياء الله فما لله تعالى وليٌّ” (3)، أي: أنهم من أولياء الله، أو من خير أولياء الله، أو من كبار أولياء الله. لا أن يكون أولياء الله مخصوصين بهم، كما ليسوا مخصوصين بغيرهم.
ويكونون في الفقراء والأغنياء، وفي العبيد والملوك، وغيرهم، كما كان أصحابُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، الذين فيهم سادة الأولياء، وعمدة الأصفياء، من المهاجرين والأنصار:
_________
(1) الأصل: “الذي”. تحريف.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (11/ 22، 28/ 570، 577).
(3) أخرجه البيهقي في “المدخل إلى السنن” (1/ 174)، و”مناقب الشافعي” (2/ 155)، والخطيب في “الفقيه والمتفقه” (1/ 150) عن الشافعي.
(9/50)
فيهم تجَّار، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم.
وفيهم من له عقار، مثل سعد بن معاذ، وأسيد بن حُضير، وأبي أيوب الأنصاري، وسعد بن عبادة، وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين.
وكان فيهم فقراء، ليس لهم أهلٌ ولا مال، كأهل الصُّفَّة في شمالي المسجد؛ فإن تلك الصُّفَّة كان يأوي إليها من المسلمين من لم يكن له أهلٌ ولا مال، وكان يجتمعُ بها منهم تارةً قليل، وتارةً كثيرٌ نحو سبعين، ويقيم الرجلُ مدَّةً ثم ينتقلُ عنها، لم يكونوا ملازمين لها إلا بقدر حاجاتهم (1). وقد قيل: إن جملة من أوى إليها نحو أربع مئة (2).
وأجلُّ من ذُكِر فيها: سعدُ بن أبي وقاصٍ أحدُ أهل الشورى والعشرة (3).
ولم يكن في أهل الصُّفَّة ولا غيرهم من يتخذ مسألة الناس والإلحافَ
_________
(1) انظر: “الاعتصام” للشاطبي (1/ 345 – 348).
(2) انظر: “حلية الأولياء” (1/ 340)، و”رجحان الكفة” للسخاوي (143).
(3) انظر: “منهاج السنة” (7/ 438)، و”مجموع الفتاوى” (11/ 38، 41، 57، 81، 166). وإنما أورد بعض من صنف في تاريخ أهل الصفَّة سعدًا – رضي الله عنه – فيهم، لقوله: “فينا نزلت: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} , كما أشار إلى ذلك أبو نعيم في “الحلية” (1/ 368)، والسخاوي في “رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة” (209)، وهو من جملة أوهامهم، فإن الآية نزلت بمكة قبل الهجرة، قبل أن يكون في الصَّحابة “أهل الصفَّة”، وإنما كان ذلك في المدينة. انظر: “منهاج السنة” (7/ 431)، و”مجموع الفتاوى” (7/ 192، 11/ 60).
(9/51)
بالكُدْية (1) والشِّحاذة ــ لا بالزَّنبيل ولا غيره ــ صناعتَه وحِرْفتَه، بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك (2).
وكانوا (3) أهل الصُّفَّة يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يصدُّهم عما هو أحبُّ إلى الله من الاكتساب (4).
ولم يكن أهلُ الصُّفَّة كلُّهم من فضلاء الصَّحابة، بل أكثر فضلاء الصَّحابة – رضي الله عنهم – من غيرهم.
وقد أثنى الله على أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان.
وأهل بدرٍ كانوا ثلاث مئةٍ وبضعة عشر، وهم الذين قال الله فيهم: “اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم” (5).
وأهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة بالحديبية كانوا أكثر من ألف وأربع مئة، وأقلَّ من ألفٍ وخمس مئة، وهم الذين قال فيهم النبي – صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) الكُدْية هي الشحاذة وسؤال الناس، من قولهم: حَفَرَ فأكْدَى، إذا بلغ الكُدْية (وهي الأرض الصلبة) وأيس من الماء. وقيل فيها غير ذلك. انظر: “الزاهر” لابن الأنباري (1/ 385)، و”درة الغواص” (152)، و”شفاء الغليل” (259)، و”تاج العروس” (39/ 381).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (11/ 44 – 46).
(3) كذا في الأصل، فإن لم يكن خطأ من الناسخ فهو على لغة “يتعاقبون فيكم ملائكة”.
(4) من قوله: “ولم يكن في أهل الصفة” إلى هنا وقع في الأصل بعد قوله فيما بعد: “وأقل من ألف وخمس مئة”. ويشبه أن يكون لحقًا في الطرة لم يهتد الناسخ إلى موضعه.
(5) أخرجه البخاري (3007)، ومسلم (2494) من حديث علي – رضي الله عنه -.
(9/52)
“لا يدخل النار أحدٌ بايع تحت الشجرة” (1).
وفيهم من أهل الصُّفَّة، وغالبُهم لم يكونوا من أهل الصُّفَّة؛ إذ الفضلُ عند الله ورسوله بالإيمان والتقوى، لا بصنفٍ معيَّنٍ من الأصناف المباحة، ولا بزيٍّ مخصوص.
لكن غالب الخلق إنما يَسْلَمُون من فتنة الفسوق والعصيان إذا لم يُبْتَلوا بكثرة المال وعزَّة السُّلطان، كما يقال: “مِن العصمة أن لا تَقْدِر” (2).
والسلامةُ من الذنوب في الذين لم يُبْتَلوا أكثر، مع أن الابتلاء بالمال والسُّلطان إن سَلِم صاحبُها فهو أفضل من هذا الوجه ممن ليس له مثله، وإن ابتُلِيَ ببعض الذنوب وله حسناتٌ لا يقدرُ عليها أولئك فالله تبارك وتعالى يزنُ حسناتهم وسيئاتهم، فإن فَضَل له من الحسنات ما يزيدُ على حسنات
_________
(1) أخرجه مسلم (2496) من حديث جابر عن أم مبشر – رضي الله عنهما -. وبلفظ المصنف عند أحمد (14778)، وأبي داود (4653)، والترمذي (3860)، والنسائي في “الكبرى” (11444) عن جابر – رضي الله عنه -، وقال الترمذي: “حديثٌ حسن صحيح”، وصححه ابن حبان (4802).
(2) عبارة مشهورة تروى عن المعتمر بن سليمان في “شعب الإيمان” (9/ 428).
وفي “مناقب الشافعي” (2/ 208)، و”تلبيس إبليس” (301) عن الشافعي أنه قال: “صحبتُ الصوفية عشر سنين، ما استفدتُ منهم إلا هذين الحرفين: الوقت سيفٌ، وأفضل العصمة أن لا تَقْدِر”.
وتفسيرها في “الحلية” (4/ 243)، عن عون بن عبد الله قال: “إن من العصمة أن تطلب الشيء من الدنيا ولا تجده”. …
وانظر: “الجواب الصحيح” (6/ 444)، و”مجموع الفتاوى” (11/ 28).
(9/53)
غيره كان أفضل (1)، والله تعالى حَكَمٌ مُقْسِطٌ {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].
فنسأل الله العظيم أن يوفِّقنا لطاعته من الأقوال والأفعال، والله أعلم.
_________
(1) انظر: “الاستقامة” (1/ 349).
والأصل في هذا ما قرره شيخ الإسلام في المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر، وأن أفضلهما أتقاهما لله، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة. “مجموع الفتاوى” (11/ 21، 22، 123، 196).
(9/54)
مسألة
في الخَضِر وحياته وادعاء لقائه
(9/55)
مسألة في الخَضِر، هل هو حيٌّ الآن أم لا؟ ومن ادَّعى أنه لقيه واجتمع به في غير النوم، إذا كذَّبه إنسانٌ هل يأثم أم لا؟
الجواب: الحمد لله. ليس في دعوى المدَّعي اجتماعَه بالخَضِر فائدةٌ في دين المسلمين، سواءٌ كان صادقًا أو كاذبًا.
بل اتفق المسلمون على أنه لا يُرْجَعُ إلى الخَضِر ولا إلى من يَنْقُل عن الخَضِر من غير طريق النبي – صلى الله عليه وسلم – في شيءٍ من دينهم.
بل لو نقل ناقلٌ عن نبيٍّ من الأنبياء، كموسى وعيسى، من غير أن يكون نبيُّنا – صلى الله عليه وسلم – واسطةً في ذلك النقل، لم يَرْجِع إليه المسلمون في دينهم.
بل في السُّنن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى بيد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ورقةً من التوراة، فقال: “أمتهوِّكون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقيَّة، لو كان موسى حيًّا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم” (1)، وفي رواية: “لما وَسِعَه
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق (10164)، ومن طريقه الإمام أحمد (15864) من حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – بسندٍ فيه جابر الجعفي، وهو ضعيف.
وتابعه مجالد بن سعيد، وليس بالقوي، عند أحمد (14631)، والدارمي (449)، وهي الرواية الثانية التي ذكرها المصنف، وأغرب الحافظ ابن كثير إذ صحح إسنادها على شرط مسلم في “البداية والنهاية” (1/ 458، 3/ 35).
وللحديث شواهد لا تخلو من ضعف، وحسَّنه بها بعض أهل العلم. انظر: تفسير ابن كثير (8/ 8 – 11)، و”الإرواء” (6/ 34 – 38).
وقال ابن حجر في “الفتح” (13/ 525) بعد أن تكلم على طرق الحديث وشواهده: “وهذه جميع طرق هذا الحديث، وهي وإن لم يكن فيها ما يُحْتَجُّ به، لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلًا”.
(9/57)
إلا اتباعي”.
وثبت في الصَّحيح أن عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل إلى الأرض، فإنما يحكم في الأمة بكتاب ربِّها وسنَّة نبيِّها (1).
فالخَضِر لو كان موجودًا بين الناس لم يَرْجِع إليه المسلمون في شيءٍ من دينهم.
فإن (2) لم يكن نبيًّا، كما قاله الجمهور، كالشريف أبي علي بن أبي موسى وغيره، [فمِن هذه الأمة من هو أفضل منه] (3)، كأبي بكرٍ وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار.
وإن كان نبيًّا، كما قاله طائفةٌ منهم أبو الفرج ابن الجوزي، وأبو عمرو ابن الصلاح (4)، فمحمدٌ وعيسى صلى الله عليهما وسلَّم أفضلُ منه.
وعيسى لا ينزل إلا بشريعة محمد – صلى الله عليه وسلم -، لا بشريعته.
وإذا كان وجودُ الخَضِر وحياتُه لا يتعلَّق بدين المسلمين، ولا يرجعون إليه في شيءٍ من دينهم، كان كثرة الكلام في وجوده من باب الضلالات
_________
(1) أخرجه مسلم (155).
(2) الأصل: “ان”.
(3) ما بين المعقوفين زيادة يلتئم بها السياق. وانظر: “الرد على المنطقيين” (185)، و”جامع المسائل” (4/ 60)، و”مجموع الفتاوى” (4/ 397)، و”مختصر الفتاوى المصرية” (113، 560).
(4) انظر: “تلبيس إبليس” (285)، وفتاوى ابن الصلاح (1/ 186)، و”الزهر النضر في حال الخضر” لابن حجر (98)، و”الإصابة” (3/ 232).
(9/58)
والجهالات، وتَطْرِيق الناس على الأكاذيب والأغاليط.
وقد اتفق أئمَّة الدين على أن رجلًا لو روى (1) حديثًا في زماننا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – عن (2) غير الرجال المعروفين عند الأئمَّة لم يُلْتَفت إليه، مثل ما يرويه بعض الضُّلَّال عن شيخٍ اسمه “رَتَن” (3)، ومثل ما ذكره أبو طالب في إسناد المُسَبَّعات أن رَقَبة بن مَصْقَلة رواها عن الخَضِر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (4)، وأمثال ذلك.
والله قد بعث محمدًا بدينٍ بيَّنه وبلَّغه، وهو محفوظٌ محروسٌ لا يحتاج فيه المسلمون إلى أحدٍ غير نبيهم، وأمَّتُه قد أكمل الله لهم الدين، وأتمَّ عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام دينًا.
_________
(1) الأصل: “راى”. والمثبت أقوم، وكذلك الموضع الآتي.
(2) الأصل: “من”.
(3) رتن الهندي، شيخٌ دجَّال، ظهر بعد الست مئة وادعى الصُّحبة. وربما لم يوجد، بل اختلق خبره بعض الكذابين. وللإمام الذهبي جزءٌ في بيان حاله وهتك باطله سماه “كَسْر وَثَن رَتَن”، نقل نُبَذًا منه ابن حجر في “الإصابة” (3/ 591 – 595)، و”لسان الميزان” (3/ 457 – 460)، وله فيه أقوالٌ طريفة في كتبه. انظر: “تاريخ الإسلام” (14/ 69)، و”السير” (22/ 367)، و”الميزان” (2/ 45)، و”المغني” (1/ 230)، و”المجمع المؤسس” لابن حجر (2/ 552). ولم أر فيما وصلنا من تراث شيخ الإسلام ذكرًا لرتنٍ إلا في هذا الموضع.
(4) انظر: “قوت القلوب” لأبي طالب (1/ 17)، وفيه أن إبراهيم التيمي يرويها عن الخضر، وكذلك رواها ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (16/ 430). وهي روايةٌ مختلقة، وكذبٌ محض لا أصل له. انظر: “مجموع الفتاوى” (10/ 404)، و”المغني عن حمل الأسفار” (1/ 400)، و”فتح الباري” (6/ 435).
(9/59)
فهذا أصلٌ يجبُ على كل مسلمٍ معرفتُه.
وبعد هذا، فالصوابُ أن الخَضِر – رضي الله عنه – مات قبل النبي – صلى الله عليه وسلم -، وأنه لم يُدْرِك زمنَه، ولا رآه، ولا ذكر أحدٌ من الصَّحابة أنه كان موجودًا، كما قد بسطتُ دلائل ذلك في مواضع كثيرة (1).
وكلُّ من ذكَر أنه حيٌّ، فإن كان صادقًا فهو مُلَبَّسٌ عليه؛ رأى رجلًا ظنَّ أنه الخَضِر غلطًا منه، أو قال له رجلٌ: أنا الخَضِر ــ وكان كاذبًا ــ، أو تخيَّل شيئًا في نفسه ظنَّه الخَضِر في الخارج (2).
وإن كان كاذبًا كان من أهل الإفك والبهتان المستحقِّين التعزير، مثل كثيرٍ ممن يتظاهر برؤيته ليُحْسِنَ الناسُ به الظنَّ ويجتمعوا عليه؛ فإن هؤلاء كلُّهم كذابون دجَّالون يستحقُّون العقوبة البليغة. وقد رأينا من هؤلاء
_________
(1) انظر: “الرد على المنطقيين” (184)، و”منهاج السنة” (1/ 97، 4/ 93)، و”مجموع الفتاوى” (1/ 249، 4/ 337، 27/ 18، 100 – 101)، ومختصر الفتاوى المصرية (198 – 199)، و”جامع المسائل” (5/ 133 – 137)، و”المنار المنيف” لابن القيم (63 – 69)، و”العقود الدرية” لابن عبد الهادي (91).
ولا ريب أن ما في “مجموع الفتاوى” (4/ 338) من القول بحياة الخضر منحولٌ على شيخ الإسلام أو منتزعٌ من سياقه إذ كان نقلًا لقول من يذهب إلى حياته، كما بيَّنه الخيضري في كتابه “افتراض دفع الاعتراض”. انظر: “جامع المسائل” (5/ 9 – مقدمة التحقيق).
(2) انظر: “الرد على المنطقيين” (185)، و”الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان” (237)، و”الجواب الصحيح” (2/ 319، 335، 3/ 114)، و”الإخنائية” (191)، و”منهاج السنة” (1/ 104، 4/ 94، 8/ 262)، و”النبوات” (1056)، و”مجموع الفتاوى” (1/ 249، 13/ 93).
(9/60)
طوائف، منهم من عُزِّر، ومنهم من تاب قبل أن يحتاج إلى التعزير.
ولهذا كان المثبتون لوجوده منهم من يجعله مغيَّبًا، ومنهم من يجعل ذلك مرتبةً، كما يقولون ذلك في “الغوث”، وكلُّ ذلك غلطٌ كما قد بُسِط في موضعه (1).
وطائفةٌ ثالثةٌ تُعَبِّر بالخَضِر وإلياس عن حالين للقلب، وهما: القبض، والبسط، كما فعل ابن عربي صاحبُ “الفصوص” (2)، وأمثاله من الملاحدة الباطنية، والله أعلم.
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (27/ 97)، و”جامع المسائل” (2/ 60، 5/ 137).
ومن ملاحدة المتصوفة من يزعم أن أرسطو كان هو الخضر. انظر: “الانتصار لأهل الأثر” (227)، و”الرد على المنطقيين” (183).
(2) ذكره في “الفتوحات المكية” (2/ 131). وانظر: “اصطلاحات الصوفية” للكاشاني (179)، و”التعريفات” (99)، و”التوقيف على مهمات التعاريف” (156).
(9/61)
رسالة
إلى الشيخ قطب الدين ناظر الجيش
في الكلام عن ابن عربي وطائفته
(9/63)
الحمد لله
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نقلتُ ما صورته:
من المملوك أحمد بن تيمية إلى الشيخ السيد الإمام الكبير، جلال الأعيان الكبراء، وجمال الصدور الرؤساء، قطب الدين (1)، أصلح الله له وبه أمر الدنيا والآخرة، وأتمَّ عليه نعمه الباطنة والظاهرة، وألَّف به بين القلوب المتنافرة، وأطفأ به البدعَ وأحيا به السُّننَ الزاهرة.
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته.
فإنا نحمدُ إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيءٍ قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وسيِّد ولد آدم محمدٍ عبده ورسوله، وعلى آله وسلَّم تسليمًا.
أما بعد، فقد وصل مُشَرِّفُ الشيخ (2) أيَّده الله تعالى، وفهمتُ مضمونه،
_________
(1) قطب الدين موسى بن أحمد بن الحسين، ابن شيخ السلامية، ناظر الجيوش بالشام ومصر، ومن رجال الدهر سؤددًا وفضلًا، توفي سنة 732. انظر: ذيل “العبر” للذهبي (176)، و”أعيان العصر” (5/ 469)، و”البداية والنهاية” (18/ 351).
(2) أي: خطابه، ومن الرسوم في العهد المملوكي إطلاق “المشرِّفة” على الرسالة، على جهة التكريم، كأنها تشرِّف المرسل إليه. انظر: “صبح الأعشى” (8/ 214)، و”تكملة المعاجم” (6/ 297). وفي رسالة شيخ الإسلام هذه ضروبٌ من مراعاة تلك الرسوم في الألفاظ، والتزام السجع ونحوه مما شاع في ذلك العهد، وكأنه جارى فيها رسالة قطب الدين إليه، وأجراها على منوالها.
(9/65)
وتقبَّلتُه بالقبول والطاعة، والسَّعي في مصلحة الجماعة (1)؛ فإن هذا من أوجب الواجبات على الناس عمومًا وعلى الخادم خصوصًا، وهو من أقرب القربات إلى الله تعالى، وأفضل الحسنات؛ لما في ذلك من رضا الرحمن، وسرور الإخوان، وقمع الشيطان، وصلاح السرِّ والإعلان، وفتح أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النيران.
فإنه غير خافٍ على علم الشيخ أن الحسد والبغضاء هو داء الأمم قبلنا، وهو لهذه الأمة من أعظم الأدواء، وكذلك اتباع الظنون والأهواء، وتفرُّق القلوب وتشتُّت الآراء. وهذه الأمور السيئات، ينشأ غالبها من شبهاتٍ وشهوات.
وقد روي في الحديث: “إن الله يحبُّ البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحبُّ العقل الكامل عند ورود الشهوات، ويحبُّ الشجاعة ولو على قتل
_________
(1) وذلك أنه وقع خلافٌ بين جماعة من المتصوفة ببعلبك في كلام ابن عربي ونحوه من الاتحادية، فقدموا إلى شيخ الإسلام بدمشق سنة 704، واجتمعوا عنده بدار الحديث السكرية حيث كان يسكن، بحضور جماعةٍ من كبار أصحابه، وجرى الحديث فيما وقع الخلاف فيه من أمر الاتحادية، وقرئ بعض ما به بيان حقيقة أمرهم من كلامهم، ثم اتفقوا على أن تلك المقالات وما أشبهها كفر، وتبرؤوا منها، وجمع الله قلوبهم على الهدى، وكُتِب محضرٌ بذلك وقَّع عليه الحاضرون، وكتب شيخ الإسلام إلى أهل بعلبك رسالة بيَّن لهم فيها الحقَّ وشرح ما وقع في ذلك الاجتماع، والمحضر والرسالة في “جامع المسائل” (7/ 245 – 259).
ويظهر أن خبر ذلك الاجتماع وما جرى فيه قد بلغ ناظر الجيش الشيخ قطب الدين، فكتب إلى شيخ الإسلام يسأله عنه، ويحثُّه على جمع الكلمة، وإصلاح ذات البين، ونحو ذلك مما يُفْهَم من سياق هذه الرسالة.
(9/66)
الحيَّات، ويحبُّ السَّماحة ولو بكفٍّ من تمرات” (1).
وهذه الأربعة هي الفضائل التي ترتفعُ بها الدرجات، ويتميَّز بها ذوو المراتب العليَّات، وقد اتفق على فضلها جميعُ أنواع البريَّات، والشيطانُ فهِمَّتُه مصروفةٌ إلى أصحابها، وسهامُه مُفَوَّقةٌ نحو أربابها؛ لأنهم إذا سَلِمُوا منه قطعوا عنه مادة الفساد، وأصلحوا بأمر الله العباد والبلاد.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
وفي الحديث: “مثَل المؤمن مثَل الفَرَس في آخيَّته، يجولُ ثم يرجعُ إلى آخيَّته، كذلك المؤمنُ يجولُ ثم يرجعُ إلى الإيمان” (2).
_________
(1) أخرجه أبو عبد الرحمن السُّلمي في “الأربعون في التصوف” (6)، والقضاعي في “مسند الشهاب” (1080)، والبيهقي في “الزهد” (954)، وأبو نعيم في “الحلية” (6/ 199) وغيرهم من حديث الحسن عن عمران بن حصين – رضي الله عنه -.
وفي إسناده ضعفٌ شديدٌ وإرسال. انظر: “المغني عن حمل الأسفار” (1774)، و”تخريج الأربعين السلمية” للسخاوي (49 – 51). وقد استشهد به شيخ الإسلام في “درء التعارض” (5/ 131) ومواضع أخرى وأشار إلى أنه مرسل.
(2) أخرجه أحمد (11526)، وأبو يعلى (1106)، وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – بسندٍ ليِّن، وصححه ابن حبان (616).
وله شاهدٌ واهٍ من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -، عند الرامهرمزي في “الأمثال” (126). انظر: “السلسلة الضعيفة” (6637).
والآخيَّة: حبلٌ أو عودٌ يُعْرَض في الحائط، ويُدْفَنُ طرفاه فيه، ويصيرُ وسطُه كالعُروة، تُشَدُّ إليه الدابة. “النهاية” (أخو).
(9/67)
و”لو لم تكن التوبةُ أحبَّ الأشياء إليه، لما ابتلى بالذنب أكرمَ الخلق عليه” (1).
وهذا هو الحكمة في ابتلاء الكُبراء بالذنوب؛ ليُنْقَلوا منها إلى درجة المحبوب المفروح به؛ فإن الله يحبُّ التوابين، ويحبُّ المتطهِّرين، والله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده من فاقد الضالَّة التي عليها طعامُه وشرابُه إذا وجدها بعد الفِقدان (2).
وهكذا ما قد يقعُ بين الناس عمومًا، وأهل الطريق خصوصًا، من المُحَاقَّات والمنافرات؛ فإن ذلك قد ينتفعون به، كما يروون عن الجنيد قال: “الصُّوفية بخيرٍ ما تَنافَروا” (3).
وكثيرًا ما يقعُ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لنوع هوًى في النفوس، فلا تَخْلُص فيه النيَّة. وكثيرًا ما يقعُ ركوبُ المنكرات، ومدحُ ذي الضلالات، لعدم العلم بحقيقة أمرهم.
وهذه الأمور ــ وهي: الجهل، والظلم ــ مبدأ الفتن والشرور، إذا لم يتداركها الله تعالى بالعلم والهداية، قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ
_________
(1) أخرجه الخطيب في “الزهد” (114) عن يحيى بن معاذ، بلفظ: “لولا أن العفو من أحب الأشياء إليه … “. وانظر: “صفة الصفوة” (4/ 92). وفي “الطيوريات” (965) بلفظ: “لولا أن الافتقار إليك من أحب الأشياء إليك … “.
(2) كما في البخاري (6308)، ومسلم (2744).
(3) هو في “طبقات الصوفية” للسُّلمي (183)، و”الرسالة القشيرية” (2/ 443)، و”سير السلف الصالحين” لأبي القاسم التيمي (1113) وغيرها عن رُوَيْم، وتتمته: “فإن اصطلحوا هلكوا”.
(9/68)
ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
وبهذين السببين يدخل أكثرُ الناس النار, كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “القضاة ثلاثة، قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة، رجلٌ عَلِم الحقَّ فقضى به فهو في الجنة، ورجلٌ قضى للناس على جهلٍ فهو في النار، ورجلٌ عَلِم الحقَّ وقضى بخلافه فهو في النار” (1).
فهذا الحديثُ في القضاة، وكلُّ من حكم بين اثنين أو طائفتين، في دينٍ أو دنيا، فهو قاضٍ. وغيرُ القاضي في معناه. بيَّن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الذي في الجنة من عَلِم وعدَل، دون من جَهِل أو ظلَم.
ولمَّا حضر المشايخُ السادة: الشيخ قاسم (2)، والشيخ هارون (3)، والشيخ محمد (4).
_________
(1) أخرجه ابن ماجه (2315)، وأبو داود (3573)، والترمذي (1322) وغيرهم من حديث بريدة – رضي الله عنه -، وهو حديثٌ حسنٌ أو صحيح، كما قال ابن عبد الهادي في “تنقيح التحقيق” (5/ 62). وصححه ابن حبان (3616)، وابن الملقن في “البدر المنير” (9/ 552)، والعراقي في “المغني عن حمل الأسفار” (78، 1237).
(2) كذا في الأصل. وفي “جامع المسائل” (7/ 246، 256، 257): أبو القاسم بن عبد الله بن محمد اليونيني. ولابنه ترجمة في “الدرر الكامنة” (5/ 411).
(3) هارون بن إبراهيم المقدسي. ولعله كان يحسن الظن بابن عربي وطائفته، ثم وافق الجماعة بعد ذلك، كما في “جامع المسائل” (7/ 256، 257).
(4) وهو أخو أبي القاسم. وهؤلاء الثلاثة هم الذين قدموا من بعلبك، كما في “جامع المسائل” (7/ 246، 256، 258).
(9/69)
وكان بحضور الشيخ السيد عماد الدين الحَزَّامِي (1)، والشيخ القُدوة محمد بن قِوَام (2)، والشيخ عبد الله الجَزَري (3)، والشيخ تاج الدين الفارِقي (4)، وغيرهم (5) من المشايخ الذين تُحْمَدُ مقاصدُهم، وتصفو عقائدُهم، وتتطهَّر سرائرُهم.
وكان ذلك رحمةً رُحِمَ بها الحاضرُ والسامع، وانتفع به القريبُ (6) والشاسِع، وقام عذرُ المعذور، وعفا الله عن الذنب المغفور، وأزال الله تعالى ما كان في النفوس من الأهواء والجهل الذي يجعل المؤمنين أحزابًا وألوانًا،
_________
(1) أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي، ابن شيخ الحَزَّامين، الإمام الزاهد القدوة العارف، توفي سنة 711، وكان شيخ الإسلام يعظِّمه ويجلُّه ويقول عنه: “هو جُنَيد وقته”. انظر: “ذيل طبقات الحنابلة” (3/ 380 – 384).
(2) محمد بن عمر بن أبي بكر بن قوام البالسي، الشيخ الصالح الناسك الوَرِع، توفي سنة 718، وكان شيخ الإسلام “يحبُّه كثيرًا”، كما يقول ابن كثير في “البداية والنهاية” (18/ 183). وكان هو معظمًا لشيخ الإسلام، ويحكى أنه كان يقول: “ما أسلمَت معارفُنا إلا على يد ابن تيمية”. انظر: “ذيل طبقات الحنابلة” (4/ 504).
(3) مهملة في الأصل. وهو عبد الله بن موسى بن أحمد الجزري، الشيخ الصالح العابد، توفي سنة 725، وكان من الملازمين لمجالس شيخ الإسلام. انظر: “أعيان العصر” (2/ 734)، و”البداية والنهاية” (18/ 258).
(4) محمود بن عبد الكريم بن محمود، الإمام الصالح العارف، توفي سنة 733، وكان “كثير الفكر، بصيرًا بآفات القلوب، مخلصًا قانتًا لله”، كما يقول الذهبي في “معجم الشيوخ الكبير” (2/ 330).
(5) كالشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن جبارة، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن سُونج. انظر: “جامع المسائل” (7/ 246، 257، 258).
(6) سها ناسخ الأصل فأعاد الكلمة مرة أخرى.
(9/70)
وألَّف الله بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا، ومن أسرَّ خلافَ ما أعلَن فالله يجعلُ السَّريرة إعلانًا.
وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: “والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه” (1).
وقال – صلى الله عليه وسلم -: “مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطفهم كمَثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر” (2).
وقال: “المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدُّ بعضه بعضًا”، وشبَّك بين أصابعه (3).
وقال: “ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4)؟ ” قالوا: بلى يا رسول الله، قال: “صلاحُ ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلقُ الشَّعر، ولكن تحلقُ الدِّين” (5).
_________
(1) أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -.
(2) أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير – رضي الله عنهما -.
(3) أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585) من حديث أبي موسى – رضي الله عنه -.
(4) لم أر جملة “والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في شيء من المصادر. وقد وقعت هذه الزيادة كذلك في “الاستقامة” (1/ 330)، و”الفتاوى” (11/ 93، 15/ 346، 22/ 359، 24/ 174، 28/ 14، 208).
(5) أخرجه أحمد (27508)، والبخاري في الأدب المفرد (391)، وأبو داود (4919)، والترمذي (2509) من حديث أبي الدرداء – رضي الله عنه -، وقال الترمذي: “هذا حديثٌ حسنٌ صحيح”. وصححه ابن حبان (5092).
وقوله: “لا أقول تحلق … ” إلى آخره ليس من حديث أبي الدرداء، وإنما علَّقه الترمذي عقب حديثه. وهو عند أحمد (1430)، والترمذي (2510)، وغيرهما من حديث الزبير بن العوام – رضي الله عنه -، وفي إسناده اضطرابٌ نبَّه عليه الترمذي. وانظر: “العلل” لابن أبي حاتم (6/ 253)، وللدارقطني (4/ 247). وأخرجه بإسنادٍ ليس بالقوي البخاري في “الأدب المفرد” (260) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(9/71)
وكان الأمرُ أخفَّ مما شُنِّع به وقيل، ولم يكن صدر قبل ذلك ما كَثُرت به الأقاويل.
وإنما سالكو طريق الله، العارفون بحقيقة السَّير إلى الله، لا بدَّ عند سلوكهم الطريق، وملاحظتهم غاية التحقيق، أن يتأملوا دعاة الطريق وهُداتَه، وحفَّاظ سبيل الله وحُماتَه، ويتأملوا مصنفاتهم ومسطوراتهم ومنثوراتهم.
وكان سيدُنا العارفُ المحقِّقُ عمادُ الدين (1)، وغيرُه من السالكين، كالشيخ العارف المرحوم إبراهيم الرَّقِّي (2)، والشيخ الإمام قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد (3)، وغيرهما ممن في عصرنا وقبل عصرنا، مشايخُ
_________
(1) الواسطي الحزَّامي، المتقدم.
(2) إبراهيم بن أحمد بن محمد، الشيخ الإمام الصالح، توفي سنة 703. انظر: “معجم الشيوخ الكبير” للذهبي (1/ 127)، و”البداية والنهاية” (18/ 36)، و”ذيل طبقات الحنابلة” (4/ 345). وله ثناءٌ عظيم على ابن تيمية، نقله ابن فضل الله والمقريزي. انظر: “الجامع لسيرة شيخ الإسلام” (319، 513).
ومن أقواله في كلام ابن عربي: “مثَله مثَل عسلٍ أُدِيفَ فيه سمٌّ، فيستعمله الشخصُ ويستلذُّ بالعسل وحلاوته، ولا يشعر بالسُّمِّ، فيسري فيه وهو لا يشعر، فلا يزال حتى يهلكه”. انظر: “تاريخ الإسلام” (15/ 297).
(3) ونقل ذلك عن العز بن عبد السلام في قول مشهور. انظر أسانيد الخبر والكلام عليه في “القول المنبي عن ترجمة ابن العربي” للسخاوي (1/ 151 – 154).
(9/72)
كثيرون (1) = تجري بينهم المفاوضةُ في كلام ابن العربي وذويه، فيرون فيه ما يُقْبَلُ وهو مِن أحسن الكلام، وفيه ما يَعْزُب فهمُه عن أكبر المميِّزين فضلًا عن العوامّ.
ثم إنهم تأملوا حقيقة ما يقصدُه في “فصوص الحكم” ونحوها مما هو خلاصة معارفه وحقائقه، وما يقصدُه من جرى على طرائقه، كابن سبعين المغربي في كتاب “البُدِّ” و”الإحاطة”، والعفيف التِّلِمْساني في شروحه (2) وقصائده، ومثل أواخر قصيدة ابن الفارض المسماة “نظم السُّلوك”، ومثل كلام الصَّدر القُونَوي في كتاب “مفتتَح غيب الجمع والوجود” ونحوه، ومثل كلام عبد الله (3) الشيرازي البِلْياني، ونحو هذه الطائفة الحادثة في دولة التتار = فوجدوا حقيقة أمرهم هو تعطيلُ الصانع، وجحدُ الخالق، وهو باطنُ مذهب الفرعونية والقرامطة الباطنية.
وهم معترفون بأن قولهم هو حقيقة قول فرعون؛ إذ ليس عندهم للخلق ربٌّ خالقٌ متميزٌ عن المخلوق، بل المخلوق عينُ الخالق، والمصنوع عينُ
_________
(1) ذكر السخاوي طوائف منهم في “القول المنبي”. وانظر: “العقد الثمين” لتقي الدين الفاسي (2/ 161 – 199)، و”القلائد الجوهرية” لابن طولون (538).
(2) كشرح الأسماء الحسنى، وشرح مواقف النفري.
(3) الأصل: “أبي عبد الله”، لعله من سهو الناسخ، وعلى الصواب في “الجواب الصحيح” (4/ 498)، و”مجموع الفتاوى” (2/ 80، 115، 294، 297).
وهو عبد الله بن مسعود بن محمد بن علي البلياني الشيرازي الصوفي، توفي سنة 686. له رسالة في الوحدة المطلقة وحديث “من عرف نفسه فقد عرف ربه”، نسخها الخطية كثيرة. وانظر: “معجم المؤلفين” (6/ 150).
(9/73)
الصانع، والناكح عينُ المنكوح، والشاتم عينُ المشتوم؛ فما نكَح سوى نفسه، وما شتَم سوى نفسه.
والذين عبدوا اللاتَ والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى ما عبدوا إلا الله، ولا يُتَصَوَّر عندهم أن يعبدوا إلا الله، وهو العابد والمعبود، والحامد والمحمود، وفرعونُ كان صادقًا في قوله: “أنا ربكم الأعلى”، والله – سبحانه – عينُ المُحْدَثات، حتى الخبائث والنجاسات.
وليس عندهم على العارف منهم واجباتٌ ولا محرَّمات، ولا أهل النار يذوقون فيها أليمَ العقوبات، ويفضِّلون أنفسهم من كثيرٍ من الوجوه على الأنبياء والرسل، حتى على خاتم الرسالات.
ويزعمون أن الله يعبدُهم كما يعبدونه، ويفتقرُ إليهم كما يفتقرون إليه، وهو غذاؤهم بالوجود، وهم غذاؤه بالأحكام، وأنه لولاهم لما كان الله تعالى.
إلى أمثال هذه العقائد التي تكاد السَّماواتُ يتفطَّرن منها، وتنشقُّ الأرض، وتخرُّ الجبال هدًّا.
ولا يرتضون لأنفسهم أن يقولوا بأنه حالٌّ في جميع المخلوقات، كما تقوله مُثْبِتَةُ الجهميَّة (1) الذين كفَّرهم سلفُ الأمة وأئمَّة الإسلام؛ لأن هذا
_________
(1) وهم متصوفة الجهمية ومتعبدتهم. انظر: “التسعينية” (194)، و”بيان تلبيس الجهمية” (3/ 290، 783، 4/ 558، 5/ 24، 70)، و”الرد على الشاذلي” (169)، و”بغية المرتاد” (350، 411)، و”درء التعارض” (10/ 288)، و”الانتصار لأهل الأثر” (86)، و”مجموع الفتاوى” (2/ 140، 172، 298، 477، 5/ 123، 228، 272)، و”جامع المسائل” (3/ 204، 4/ 417).
(9/74)
عندهم تثنيةٌ وقولٌ باثنينٍ أحدهما حالٌّ والآخر مَحَلّ، كما قال شاعرهم (1) يدعو على نفسه بالعبادات:
متى حِلْتُ عن قولي: أنا هي، أو أقُل … ــ وحاشى لمثلي ــ: إنها فيَّ حَلَّت
ولا يرتضون أيضًا بالاتحاد في معيَّنٍ، أو الحلول فيه، كما تقوله النصارى في المسيح، وغالية الرافضة في أمير المؤمنين عليٍّ وبعض أهل بيته، وكما يقوله قومٌ من الضُّلَّال في الحاكم بمصر، أو الحلَّاج، أو يونس القُنَيِّي (2)، وكما يقوله قومٌ في جميع المشايخ والأنبياء.
لا يرتضون قول من يقول بالاتحاد، أو الحلول في معيَّن، بل النصارى عندهم إنما كفروا للتخصيص، وإلا فلو أطلقوا وقالوا بالاتحاد في كلِّ شيءٍ لكانوا عارفين محقِّقين.
وكذلك عُبَّاد العجل والأصنام ما عبدوا إلا الله، لكن اقتصروا على بعض المَجَالِي (3)، والعارفُ عندهم من يعبد جميع الأشياء ويسجدُ لها.
وليس للربِّ عندهم حقيقةٌ سوى حقيقة العبد، قال شاعرهم:
_________
(1) ابن الفارض في قصيدته “نظم السلوك”، ديوانه (49).
(2) الأصل: “القنيني”. تحريف. وهو يونس بن يوسف الشيباني المخارقي، شيخ الطائفة اليونسية، توفي سنة 619. ونسبته إلى القُنَيَّة، تصغير قناة، قرية من نواحي ماردين. انظر: “وفيات الأعيان” (7/ 257)، و”تاريخ الإسلام” (13/ 591). وتتحرف إلى: القنيني، العنيني، القتي. انظر: “مجموع الفتاوى” (2/ 296، 448، 3/ 395).
(3) المظاهر، جمع مَجْلَى. وهي من ألفاظ متصوفة الاتحادية، ثم شاعت.
(9/75)
ما بالُ عِيسِكَ لا يَقِرُّ قرارُها … وإلام ظلُّك لا يني متنقِّلا
فلسوف تعلمُ أن سيرَك لم يكن … إلا إليك إذا بلغتَ المنزلا (1)
وقال أيضًا (2):
وتلتذُّ (3) إن مرَّت على جسدي يدي … لأنِّيَ في التحقيق لستُ سواكمُ
وقال أيضًا (4):
وما أنت غيرَ الكون بل أنت عينُه … ويفهمُ هذا السِّرَّ من هو ذائقُ
ووصفُ هؤلاء يطول ذكرُه هنا، وكان الشيخ عمادُ الدين ــ نفع الله ببركاته ــ قد كتب في بيان حال هؤلاء ما نفع الله به (5)، وكتب الخادمُ في ذلك
_________
(1) البيتان منسوبان لابن إسرائيل نجم الدين بن سوار الدمشقي في “مجموع الفتاوى” (2/ 81)، وليسا فيما طبع من ديوانه، والثاني للعفيف التلمساني في “تاريخ الإسلام” (14/ 522).
(2) ابن إسرائيل، كما في “الفتاوى” (2/ 80)، و”جامع المسائل” (4/ 392، 8/ 138)، وليس في المطبوع من ديوانه. ودون نسبة في “درء التعارض” (6/ 171) وغيره.
(3) الأصل: “ويلتذ”. وفي الطرة: “لعله: وألتذ”. والصواب ما أثبت. وتحرفت في “جامع المسائل” (4/ 393) إلى: وقلقل.
(4) ابن إسرائيل، والبيت في ديوانه (269)، و”الجواب الصحيح” (4/ 500)، و”مجموع الفتاوى” (2/ 80)، و”جامع المسائل” (4/ 392، 8/ 138)، و”تاريخ الإسلام” (15/ 347)، و”لسان الميزان” (7/ 190).
(5) وكان – رحمه الله – ذا “ورع وإخلاص ومنابذة للاتحادية” كما يقول الذهبي، وذكر أن له “أجزاء عديدة في السلوك، والسير إلى الله تعالى، وفي الرد على الاتحادية والمبتدعة”، وأشار إليها شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (2/ 464).
ومن تلك الأجزاء والرسائل: “أشعة النصوص في هتك أستار الفصوص”، و”لوامع الاسترشاد في الفرق بين التوحيد والإلحاد”، و”البيان المفيد في الفرق بين الإلحاد والتوحيد”. والأوليان منشورتان في “العماديات” (53 – 85، 87 – 97)، والأخيرة أشار إليها في رسالته إلى الشيخ المغربي، وهي من جملة ما كتبه في هذا الباب. انظر: “العماديات” (114)، و”القول المنبي” للسخاوي (1/ 177 – 181).
(9/76)
لمن استدعى ذلك منه ما يسَّره الله تعالى (1)، ولولا مسيسُ الحاجة إلى ذلك، والضرورة التي هي أهمُّ عند من سلك الطريق وابتُلي بهؤلاء من قتال التتار، لم يكن بالمسلم حاجةٌ إلى كشف الأسرار وهتك الأستار (2)، ولكن قد ابتُلي المسلمون بالتتار من جميع الأصناف.
وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
وكان الخادمُ لما ذهب إلى مصر ــ مع ضيق الوقت ــ تحدَّث معه في مذهب هؤلاء جماعاتٌ من أعيان العلماء والمشايخ والكتَّاب، وكذلك قدم علينا من الشرق مشايخُ يقتدي بهم ألوفٌ مؤلَّفة، سألوا عن حال هؤلاء.
فهذا ونحوه ما كان عندنا في هذا، وأما قصدُ أحدٍ بعينه، لا سيَّما من
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (2/ 111 – 479)، و”جامع الرسائل” (1/ 201 – 216)، و”جامع المسائل” (4/ 387 – 425، 7/ 243 – 259)، و”المسائل الإسكندرية في الرد على الملاحدة والاتحادية” المطبوع بعنوان “بغية المرتاد”، و”الجامع لسيرة شيخ الإسلام” (257، 303، 378).
(2) ذكر شيخ الإسلام هذا المعنى في رسالته إلى نصر المنبجي. انظر: “مجموع الفتاوى” (2/ 464).
(9/77)
يَكْرُم (1) على إخوانه، فلا نقصدُ له إلا ما يقصدُه المؤمنُ لنفسه؛ إذ هذا حقيقة الإيمان.
والشيخُ العارفُ الجليلُ الشيخُ هارون قد عَلِم من جُمَل هذه الأمور وتفاصيلها، ومعرفتنا بما للشيطان في النفوس من الأغراض، ما يُخْبِرُ به الشيخَ (2) أيَّده الله تعالى.
فإن الله سبحانه قد أنعمَ عليكم وبكم، وأجرى على أيديكم من منافع أهل البلد ما تجبُ معاونتكم عليه، وجعل فيكم من الحِلم، والكرم، والسيادة، وصحَّة الاعتقاد، وتعظيم الدين وأهله، والقيام بمصالح الإخوان وحقوق ذوي الحقوق، وقضاء حوائج ذوي الحاجات = ما نرجو من الله تعالى أن يتمَّ نعمته عليكم، ويجعل ما أنعم به نعمةً تامةً في الدين والدنيا.
وقد تحدَّثتُ مع الشيخ هارون غير مرَّةٍ فيما يتعلَّق بهذا، والخادمُ حريصٌ على خدمتكم وإعانتكم، وجلب المنفعة في الدين والدنيا لأهل البلد بسببكم.
ولا ريب أن الله إذا أقام بكم منار الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالصَّلوات والزَّكوات، والنهي عن الربا في المعاملات، والعدل في القضايا، ودفع الظلم عن الرَّعايا = كان هذا من أكبر نعم الله عليكم وعلى المسلمين، فأنتم الرأسُ وغيركم جسدٌ من الأجساد، وأنتم إنسانُ العَين وغيركم السَّواد.
_________
(1) أي: يعزُّ عليهم. والكلمة مشتبهة مهملة في الأصل.
(2) الشيخ قطب الدين ناظر الجيش.
(9/78)
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لعلي: “لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعَم” (1).
وقال – صلى الله عليه وسلم -: “من سنَّ سنَّةً حسنةً كان له أجرُها وأجرُ من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سنَّةً سيئةً كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ من عمل بها إلى يوم القيامة” (2).
وإذا ألَّف الله بكم بين ذوي الأرحام والأصهار، كان هذا من نعم الله الكبار.
والخادمُ خادمٌ لخدمتكم، مسارعٌ إلى قضاء ما يُطْلَبُ من المصالح من جهتكم، ذابٌّ عن حماكم، وهو يرى ذلك من الواجبات في دين الإسلام، أعني به الإسلام الحقيقيَّ الذي بعث الله به رسوله، فإني دائمًا أجدِّدُ إسلامي (3)، وأعوذ بالله من الخروج عنه في نقضي وإبرامي.
واتفق أنه لما أراد الخادمُ أن يكتب جوابكم، وهو والشيخ هارون في هذه الهمَّة، قدم علاء الدين علي بن سَبُع من الديار المصرية، ومعه مراسيمُ سلطانيةٌ ببعض الجهات المتعلِّقة بالبلد مِن نظر الحِسبة وغيرها، واجتمع بالخادم، فقلت له: هذا أمرٌ لا يُتَكلَّم فيه إلا بمرسوم الشيخ قطب الدين
_________
(1) أخرجه البخاري (2942)، ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد – رضي الله عنه -.
(2) أخرجه مسلم (1017) من حديث جرير بن عبد الله البجلي – رضي الله عنه -.
(3) قال ابن القيم في “مدارج السالكين” (1330) عن شيخ الإسلام: “وكان إذا أُثنِي عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدِّد إسلامي كلَّ وقت، وما أسلمتُ بعد إسلامًا جيدًا”.
(9/79)
وبأمره؛ فإني أحبُّ أن يكون أمر البلد منتظمًا فيما يراه من المصلحة.
وحضر الشيخُ هارون وعلاء الدين، فرأيتُ علاء الدين كثير الخدمة والخضوع للشيخ (1)، وقال لي وللشيخ هارون ما أشهدنا به عليه أنه مملوكُ الشيخ وعبدُه وتحت أمره، ومنفِّذٌ ما يَرْسُمُ به، مطيعٌ لما يتقدَّم به، وأشياء كثيرة من هذا النمط، والكلام فيه موقوفٌ على ما يَرْسُمُ به الشيخُ ويتقدَّم به؛ فإنه قد ظهر الخللُ في أحواله، لفقره وكثرة عياله، وقد اعتنى به من المصريين مثل الوزير والصاحب شمس الدين وغيرهما من أمرائهم.
والله يَخِيرُ لكم وله ولأهل البلد ولسائر المسلمين ما هو الخِيَرة من الدنيا والآخرة، ويصلح الأحوال الباطنة والظاهرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.
آخر ما كتب قدَّس الله روحه، ونقلته من خطِّ الإمام شمس الدين محمد ابن المحب، وقال: نقلته من خط عمي أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن المحب. كتبه محمد بن الحبال الحراني سبط سبط الشيخ محمد بن قوام عفا الله عنهم.
_________
(1) الشيخ قطب الدين ناظر الجيش.
(9/80)
فصل
في الكلام على الاتحادية
(9/81)
ومن كلام شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية الحراني – رضي الله عنه -، ومن خطه نقل الإمام شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن المحب عبد الله المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى، ومنه نقلت:
قال – رضي الله عنه -:
الحمد لله ربِّ العالمين.
فصل
هؤلاء الاتحادية القائلون بوحدة الوجود، وأنه الله تعالى، ينكرون أن يكون لله غيرٌ أو سِوًى بوجهٍ من الوجوه، إما مطلقًا على رأي ابن سبعين والتِّلِمْساني، وإما من جهة الوجود على رأي ابن عربي.
قال ابن سبعين في رده على الحشوية والمشبهة والمجسِّمة: “فما أجهل من يجهل ما يجبُ له عزَّ وجلَّ، وما أبعده عنه!
ليت شعري، كيف حال من يقول بمثل هذا القول إذا سمع الكلام على توحيد الأفعال، ثم توحيد الصفات، ثم توحيد الذات، ثم الكلام على وحدة الوجود، والقوة الشائعة، والحياة السارية في الموجودات، والمعنى المحيط، والوجود الحاضر مع كل موجودٍ مشخَّص، ثم هو بالنظر إلى ذاته هو الحق، وغيره لا وجود له البتة إلا بما يرى له من فضله.
ثم لا يجرِّد القول في التوحيد الذي يُفْهَم بالسكينة فقط، ولا تنفع فيه صناعة المنطق ولا العلوم الصناعية بالجملة، ويعود الأمر إلى فطرةٍ ثانية (1).
_________
(1) الأصل: “نابنه”. تحريف.
(9/83)
بها يتوجه إلى المعنى الغريب، ويظهر لمن قام به الفضلُ أن العالم ــ بل مدلول الكليات الثلاثة، والكمية المنطقية، والوجود المعتد ــ لاحقٌ كله، ويجد من نفسه أن الواحد المحض لا هو إلا هو؛ لأنه لا غير له بالجملة.
ويفعل مع هذا ويدرك ــ أعني الواصل المحقق ــ ويقوم الفضل به، حتى إنه يجد الانفعال، ويدرك النظام القديم، ويكون مع الموجودات على أي حال قدرت، حتى إنه ذلك بعينه، ويكون كأنه حاسَّةٌ مدركة على العموم، لا يرجع عن شيء، ويكون المعلوم من حيث هو العالم، وغير ذلك مما لا يمكن ذكره” (1).
قلت: قولهم مع أنه جامعٌ لكلِّ كفرٍ وإشراكٍ في العالم (2)، ولفساد كلِّ عقلٍ ودين، فالقرآن قد أثبت لله غيرًا في غير موضع، كقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]، وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114]، وقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164]، وقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64].
_________
(1) لم أقف عليه فيما نظرت من كتب ابن سبعين ورسائله، وهو مثالٌ لكلامه المستغلق الذي وصفه الإمام ابن دقيق العيد بقوله: جلستُ مع ابن سبعين من ضحوةٍ إلى قريب الظهر، وهو يسرد كلامًا تُعْقَل مفرداتُه ولا تُعْقَل مركَّباتُه!
وانظر للقول في غموض أسلوبه وإبهامه ما كتبه أبو الوفا التفتازاني في “ابن سبعين وفلسفته الصوفية” (90 – 97).
(2) الأصل: “العلم”. وهو خطأ، وليس من عادة الناسخ إسقاط الألف. وانظر: “بيان تلبيس الجهمية” (5/ 48، 6/ 609)، و”مجموع الفتاوى” (2/ 255، 477).
(9/84)
فقد أمره الله تعالى أن ينكر عليهم ما أمروه به من عبادة غير الله. وعلى زعمهم ما ثَمَّ غيرٌ، ولا يُتَصَوَّر أن يَعبد غيرَ الله، كما لا يعبدون (1) أيضًا غيرَه.
ولذلك (2) أنكر عليهم أن يتخذ غيره وليًّا أو ربًّا أو حَكَمًا؛ فإن هذا استفهامُ إنكار، إنكار نهي وذمٍّ لمن أمره بإيجاد وليٍّ أو حَكَمٍ أو ربٍّ غيرَه، ونفيٍ لأن يتخذ غيره وليًّا أو حَكَمًا أو ربًّا.
فإذا لم يكن له غيرٌ (3) بوجهٍ من الوجوه امتنع هذا الكلام، وصار المعنى: “لا أتخذ وليًّا غير موجود، أو ربًّا غير موجود، أو حَكَمًا لا وجود له”، ومعلومٌ أن هذا لم يأمروه به، ولم يفعلوه، ولا يقصده أحدٌ حتى يتنزَّه عنه ويتبرَّأ منه (4).
وكذلك قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3]، وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
ومن ذلك ما قصَّ الله عن إبراهيم – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 – 77]، وقول المكَبكَبين في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 – 98]، وعلى زعمهم ما ثَمَّ إلا ربِّ العالمين، وما ثمَّ
_________
(1) الأصل: “يعبد”. والمثبت أشبه بالصواب.
(2) كذا رسمت في الأصل. ويحتمل أن تقرأ: “وكذلك”.
(3) الأصل: “غيره”. والمثبت أظهر.
(4) انظر: “مجموع الفتاوى” (2/ 330، 353، 376، 7/ 596).
(9/85)
عدوٌّ له، ولا فرق بين المسوِّي والمسوَّى به.
وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]، وعندهم هي الله.
وقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 191 – 192]، وعندهم الخالق هو المخلوق.
وكذلك قوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} إلى قوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 17 – 21]، وعندهم الجميع واحد.
وكذلك قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 – 20] الآيات، وعندهم ليست اللاتُ والعزَّى ومناة شيئًا غير الله تعالى.
وكذلك قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56]، وعندهم ما ثَمَّ غيرُه حتى يُدْعى من دونه.
وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} الآية [سبأ: 22]، وعندهم ما ثَمَّ غيرٌ فيكون مدعوًّا من دونه.
وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]، وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقوله تعالى: {لَا
(9/86)
تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وعندهم هو الشافع، والمشفَّع، والمشفوع له وإليه.
والقرآن كلُّه يكذِّبُ قولهم (1)، ولهذا قال التِّلِمْساني: “القرآن كلُّه شرك” (2)، ليس فيه توحيدٌ على أصلهم الكفريِّ الفرعوني القُرمطي.
وعلى قولهم ليس للعبد ربٌّ يدعوه، أو يفتقرُ إليه، أو يستعينُ به، أو يتوكلُ عليه؛ فإن الداعي هو المدعوُّ، فلا فقر له إلى غيره.
وعلى أصل ابن عربي: وجودُ الربِّ مفتقرٌ إلى ذات العبد، وذاتُ العبد إلى وجود الربّ؛ فكلٌّ منهما فقيرٌ إلى الآخر خليلٌ له (3).
وعلى أصل البقية: لا فرق بين الوجود والثبوت أصلًا؛ فيصيرون في مقام الاستغناء عن الله تعالى، والاستكبار عن عبادته ودعائه، مستشعرين أنهم هو.
فهم أكفر الخلق بالله، وأبعدهم عنه، معتقدين أنهم أعرفُ الخلق، وأعظم من سائر الأولياء، بل ومن الأنبياء!
فمن تدبَّر حال هؤلاء علم أنهم جمعوا بين غايتي التناقض؛ فإنهم أجهلُ (4)
_________
(1) الأصل: “قوله”. والمثبت أشبه بالسياق. وإن كان يحتمل أنه يريد ابن سبعين الذي ساق كلامه في صدر الفصل.
(2) انظر: “الصفدية” (1/ 244)، و”الرد على الشاذلي” (174)، و”الجواب الصحيح” (4/ 500)، و”مجموع الفتاوى” (2/ 201، 244، 472، 11/ 241، 13/ 186).
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (2/ 468).
(4) كتب الناسخ: “أضل أجهل”. ثم ضبَّب على الأولى ورسم فوق الثانية حاء صغيرة.
(9/87)
الخلق وأكفرُهم، معتقدين أنهم أعظمُ الخلق علمًا وإيمانًا.
ومن هذا الوجه هم شرٌّ من فرعون؛ فإن فرعون لم يدَّع العلم والإيمان، وإنما أظهر الجحود. وفرعون شرٌّ منهم من وجهٍ آخر؛ من حيث إنه أنكر الربَّ بالكلية، ودفَع وجودَه، ولم يعترف لا بعينه (1) ولا باسمه ولا نعته، وهؤلاء معترفون بوجوده من حيث الجملة، وبأسمائه، لكن الذي يعيِّنونه هو الذي كان فرعونُ يقرُّ بوجوده (2).
فصاروا هم وفرعون بمنزلة رجلين:
أحدهما أنكر وجودَ النبوَّة.
والآخر اعترف بها، وجعَلها نبوَّة مسيلمة الكذَّاب، أو جعَلها الفِلاحة أو التجارة.
فأتى (3) ذلك المنكِر يوافقه على وجود جنس مسيلمة الكذَّاب، ووجود الفِلاحة والتجارة، لكن يقول: هذا ليس بنبوَّة (4). وهو صادقٌ في نفيها عن هؤلاء، كاذبٌ في نفيها مطلقًا.
وأولئك يقولون: بل ثَمَّ نبوَّة، وهي هذه. وهم صادقون في إثباتها، كاذبون في تعيينها، وهم موافقون للأول في إثبات ما يثبته وفي نفي ما ينفيه، لكن
_________
(1) الأصل: “بغيبه”. تحريف.
(2) انظر: “الانتصار لأهل الأثر” (226).
(3) الأصل: “فابي”. تحريف.
(4) كذا في الأصل. والجادة: هذه ليست بنبوة.
(9/88)
النزاع بينه وبينهم في وصف ما ثبتت بهذه الصفة فقط، وفي ثبوتها من حيث الجملة.
آخره. ونقله من خط محمد بن محمد بن أحمد بن المحب عبد الله المقدسي الحنبلي رحمهم الله تعالى.
(9/89)
مسألة
في الأفعال الاختيارية من العباد
(9/91)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مسألة (1) سئل عنها بالشام شيخُ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني – رضي الله عنه -، قبل دخوله مصر، وسُمِعت من لفظه في رمضان سنة أربع وتسعين وستمئة:
في الأفعال الاختيارية من العباد تَحْصُل بخلق الله وبكَسْب العبد، فما حقيقة كَسْب العبد؟ وهل هو مؤثرٌ في وجود الفعل، فيصير مشاركًا للحقِّ في خلق الفعل، فلا يكون العبد شريكًا كاسبًا، بل شريكًا خالقًا؟ وإن لم يكن مؤثرًا في وجود الفعل فقد وُجِد الفعلُ بكماله بالحقِّ سبحانه، وليس للعبد في التأثير شيء، فلِمَ يُنْسَبُ إلى العبد الطاعةُ والعصيان، والكفرُ والإيمان، حتى يستحقَّ الغضبَ والرضوان؟ فكيف السُّلوك أيها الهُداة (2)؟
[فأجاب]:
تلخيص الجواب: أن الكسبَ هو الفعلُ الذي يعودُ منه على فاعله نفعٌ
_________
(1) نُشِرت هذه المسألة في “مجموع الفتاوى” (8/ 386 – 405) عن أصل كثير التحريف والسقط أشار إليه جامع “الفتاوى” في مواضع. وينفرد الأصل الذي معنا بتتمة مهمة للجواب وجدها ابن المحب بخط شيخ الإسلام، كما سيأتي، وهي الباعث الأساس لنشر المسألة ضمن هذه المجموعة، كما ينفرد بالنص على تاريخ المسألة ومكانها وسماعها من لفظ شيخ الإسلام، بالإضافة إلى تصحيح التحريف واستدراك السقط. وقد انتفعت بمطبوعة “الفتاوى”، وجعلت زياداتها بين معقوفين، وأشرت إلى المهم من قراءاتها وخللها، رامزًا إليها بحرف (ف).
(2) وقعت صيغة السؤال في (ف) على نحو مختلف مطوَّل يشتمل على زيادات وعبارات إنشائية، ورد بعضها في مثاني جواب الشيخ.
(9/93)
أو ضرٌّ (1)، كما قال سبحانه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]؛ فبيَّن سبحانه أن كسبَ النفس لها وعليها، والناس يقولون: “فلانٌ كَسَبَ مالًا أو حمدًا أو شرفًا”؛ لِمَا (2) أنه يَنْتَفِعُ بذلك.
ولمَّا كان العباد يَكْمُلون بأفعالهم، ويَصْلُحون بها؛ إذ كانوا في أول الخلق خُلِقوا ناقصين = صحَّ إثباتُ الكسب لهم (3)؛ إذ كمالُهم وصلاحُهم عن أفعالهم، والله سبحانه وتعالى فِعْلُه وصُنْعُه عن كماله وجلاله، فأفعالُه عن أسمائه وصفاته، ومشتقَّةٌ منها، كما قال: “أنا الرحمن، خلقتُ الرَّحِم، وشققتُ لها من اسمي” (4). والعبد أسماؤه وصفاته عن أفعاله، فيَحْدُث [له] اسمُ “العالم” “الكامل” بعد حدوث العلم والكمال [فيه].
ومن هنا ضلَّت القدريَّة؛ حيث شبَّهوا أفعاله ــ سبحانه وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا ــ بأفعال العباد، وكانوا هم المشبِّهة في الأفعال؛ فاعتقدوا أن ما حَسُنَ منهم حَسُنَ منه مطلقًا، وما قَبُحَ منهم قَبُحَ منه مطلقًا، بقدر عقلهم وعلمهم.
_________
(1) الأصل: “الذي منه على فاعليه من نفع أو ضر”. وفي (ف): “الذي يعود على فاعله بنفع أو ضر”. ولعل المثبت أدنى إلى الصواب. وانظر نحو هذا التركيب في “مجموع الفتاوى” (8/ 89).
(2) (ف): “كما”. تحريف.
(3) (ف): “إثبات السبب”. تحريف.
(4) أخرجه أحمد (1686)، وأبو داود (1694)، والترمذي (1907)، وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه -، وقال الترمذي: “حديث صحيح”.
(9/94)
أو لم يعلموا [أنها] إنما حَسُنَت منهم لإفضائها إلى ما فيه صلاحُهم (1)، وقَبُحَت لإفضائها إلى ما فيه فسادهم؟! والله سبحانه متعالٍ عن أن يلحقه ما لا يليق بسُبُحَاته (2).
وأما قوله: “هل هو مؤثرٌ في وجود الفعل أم غير مؤثر؟ “، فالكلام في مقامين:
* أحدهما: أن هذا سؤالٌ فاسدٌ إن أُخِذ على ظاهره؛ لأن كسبَ العبد هو مِن فِعله (3) وصُنعه، فكيف يقال: هل يؤثِّر كسبُه في فعله؟ وهل (4) يكون الشيء مؤثرًا في نفسه؟!
وإن حَسِبَ حاسبٌ أن الكسبَ هو التعاطي والمباشرةُ وقصدُ الشيء ومحاولتُه، فهذه كلُّها أفعالٌ يقال فيها ما يقال في أفعال البدن من قيامٍ وقعود. وأظنُّ السائل فَهِم هذا، وتشبَّث بقول من يقول: إن فعل العبد يحصلُ بخلق الله وكسب العبد.
وتحقيقُ الكلام أن يقال: فعلُ العبد خلقٌ لله وكسبٌ للعبد، إلا أن يراد أن أفعال بدنه تحصلُ بكسبه، أي بقصده وتأخِّيه (5)، وكأنه قال: أفعاله الظاهرة تحصلُ بأفعاله الباطنة.
_________
(1) (ف): “صلاحهم وفلاحهم”.
(2) كذا في الأصل دون ضبط، ولم أره في موضع آخر من كلام الشيخ. وفي (ف): “يليق به سبحانه”. وسُبُحات الله: جلاله ونوره وعظمته.
(3) (ف): “هو نفس فعله”.
(4) (ف): “أو هل”. وهو خطأ.
(5) التأخِّي هو التحرِّي والقصد.
(9/95)
وغيرُ مستنكَرٍ عدم تجويد (1) هذا السؤال؛ فإنه مَزَلَّة أقدامٍ ومَضَلَّة (2) أفهام. وحُسْنُ المسألة نصفُ العلم إذا كان السائلُ قد تصوَّر المسؤول (3)، وإنما يَطْلُبُ إثباتَ الشيء أو نفيَه، ولو حصل التصوُّرُ التامُّ لعَلِم أحد الطرفين.
* والمقام الثاني: في تحرير السؤال وجوابه.
وهو أن يقال: هل قدرةُ العبد المخلوقة مؤثرةٌ في وجود فعله؟ فإن كانت مؤثرةً لزم الشِّركُ، وإلا لزم الجبر.
والمقام مقامٌ معروف، وقف فيه خلقٌ من الفاحِصين، والباحثين، والبُصَراء، والمُكَاشَفِين، وعامَّتُهم فَهِمُوا صحيحًا، لكن قلَّ منهم من عبَّر فصيحًا.
فنقول: التأثير اسمٌ مشترك، قد يرادُ بالتأثير: الانفرادُ بالابتداع، والتوحيدُ بالاختراع.
فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذا القَدْر (4)، فحاشا لله، لم يَقُلْه سُنِّيٌّ، وإنما هو المعزوُّ إلى أهل الضلال.
وإن أريد بالتأثير نوعُ معاونةٍ، إما في صفةٍ من صفات الفعل، أو في وجهٍ من وجوهه، كما قاله كثيرٌ من متكلِّمي أهل الإثبات = فهو أيضًا باطل؛
_________
(1) الأصل و (ف): “تجديد”. والمثبت أشبه بالصواب.
(2) الأصل: “أو مضلة”.
(3) المسؤول عنه. وفي (ف): “السؤال”.
(4) (ف): “هذه القدرة”. تحريف.
(9/96)
لِمَا (1) به بَطَل التأثيرُ في ذات الفعل؛ إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرَّةٍ أو فِيلٍ، وهل هو إلا شركٌ دون شرك؟! وإن كان قائلُو هذه المقالة ما نَحَوا إلا نحوَ الحق.
وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسُّط القدرة المُحْدَثة، بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سببٌ وواسطةٌ فيه (2)، خلَق الله سبحانه الفعلَ بهذه القدرة، كما خلَق النباتَ بالماء، وكما خلَق الغيثَ بالسَّحاب، وكما خلَق جميعَ المسبَّبات والمخلوقات بأواسِط (3) وأسباب = فهذا حقٌّ، وهذا شأنُ جميع الأسباب والمسبَّبات. وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركًا، وإلا فيكون إثباتُ جميع الأسباب شركًا.
وقد قال الحكيم الخبير: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60]، وقال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14]؛ فبيَّن أنه هو
_________
(1) (ف): “بما”. وكلاهما محتمل.
(2) (ف): “في”.
(3) كذا في الأصل، بمعنى الأسباب، وهي قليلة الاستعمال، وممن التزمها أبو طالب في “قوت القلوب”. وتأتي بمعنى: الأدلة والحجج، كما في تعريفات الجرجاني (39)، وفسرها بذلك ابن تيمية في “الرد على المنطقيين” (192، 193)، ولم يصب المعلق عليه في شرحها. ووقعت في (ف): “بوسائط”، على الجادة. وسترد بعد قليل بالمعنى ذاته بلفظ: أوساط، وهو استعمالٌ أندر من الأول. انظر: “البحر المحيط” للزركشي (1/ 427).
(9/97)
المُعَذِّبُ، وأن أيدينا أسبابٌ وآلاتٌ وأوساطٌ وأدواتٌ في وصول (1) العذاب إليهم.
وقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “لا يموتنَّ أحدٌ منكم إلا آذنتموني، حتى أصلِّيَ عليه؛ فإن الله جاعلٌ بصلاتي عليه بركةً ورحمة” (2)؛ فالله سبحانه هو الذي يجعلُ الرحمةَ والبركة (3)، وذلك إنما يجعلُه بصلاة نبينا – صلى الله عليه وسلم -.
وعلى هذا التحرير فنقول: خلقَ سبحانه أعمال الأبدان بأعمال القلوب، ويكونُ لأحد الكسبَين تأثيرٌ في الكسب [الآخر بهذا الاعتبار، ويكونُ ذلك الكسبُ من جملة القدرة المعتبرة في الكسب] (4) الثاني.
فإن القدرة هنا ليست عبارةً إلا عما يكون الفعلُ به لا محالة، من قصدٍ وإرادةٍ وسلامةِ الأعضاء والقوى المخلوقة في الجوارح وغير ذلك، ولهذا وجب أن تكون مقارنةً للفعل، وامتنع تقديمها على الفعل بالزمان.
وأما القدرة التي هي مناطُ الأمر والنهي، فذاك حديثٌ آخر ليس هذا موضعه (5).
_________
(1) الأصل: “وصل”. والمثبت من (ف).
(2) أخرجه أحمد (19452)، وابن ماجه (1528)، والنسائي (2022) من حديث يزيد بن ثابت – رضي الله عنه – بنحوه، وصححه ابن حبان (3087).
(3) ساقطة من (ف).
(4) ما بين المعقوفين سقط من الأصل، لانتقال نظر الناسخ، واستدركته من (ف).
(5) انظر: “منهاج السنة” (3/ 40 – 54، 71)، و”درء التعارض” (1/ 63)، و”الرد على البكري” (514)، و”مجموع الفتاوى” (8/ 129، 290، 371).
(9/98)
وبالتمييز بين هاتين القدرتين يظهرُ لك قول من قال: القدرة مع الفعل، ومن قال: قبله، ومن قال: الأفعال كلُّها تكليفُ ما لا يطاق، ومن منَع ذلك، وتقفُ على أسرار المقالات.
وإذا أشكَل عليك هذا البيان، فخذ مثلًا من نفسك أنت، إذا كتبتَ بالقلم، وضربتَ بالعصا، ونَجَرْتَ بالقَدُوم، هل يكون القلمُ شريكَك أو يضاف إليه شيءٌ من نفس الفعل وصفاته؟ أم هل يصلح أن يُلغى أثرُه، ويُقطع خبرُه، ويُجعل وجودُه كعدمه؟ أم يقال: به فُعِل، وبه صُنِع؟
ولله المثلُ الأعلى، فإن الأسباب بيد العبد ليست من فعله، وهو محتاجٌ إليها لا يتمكَّنُ إلا بها، والله سبحانه خلق الأسباب ومسبَّباتها، وجعل خلقَ البعض شرطًا وسببًا في خلق غيره، وهو مع ذلك غنيٌّ عن الاشتراط والتسبُّب ونَظْمِ (1) بعضها ببعض، لكن لحكمةٍ تتعلقُ بالأسباب وتعودُ إليها، والله عزيزٌ حكيم.
وأما قوله: “إنَّا إذا نفينا التأثيرَ لزم انفرادُ الله سبحانه بالفعل، ولزم الجبرُ وطيُّ بساط الأمر والنهي”.
فنقول: إذا أردتَ بالتأثير المنفيِّ التأثيرَ على سبيل الانفراد في نفس الفعل أو في شيءٍ من صفاته، فلقد قلتَ الحقَّ، وإن كان بعض أهل الاستنان يخالفك في القسم الثاني (2).
وإن أردتَ به أن القدرة وجودُها كعدمها، وأن الفعل لم يكن بها، ولم
_________
(1) الأصل: “ونطق”. وعلى الصواب في (ف).
(2) كما سيأتي (ص: 104).
(9/99)
يُصْنَع بها، فهذا باطلٌ، كما تقدم بيانه.
وحينئذٍ لا يلزم الجبر، بل يُبْسَطُ بساطُ الشرع، ويُنْشَرُ عَلَمُ (1) الأمر والنهي، ويكونُ لله الحجة البالغة.
فقد بان لك [أن] إطلاق القول بإثبات التأثير أو نفيه، دون الاستفصال وتبيين معنى التأثير، ركوبُ جهالاتٍ واعتقادُ ضلالات، ولقد صدق القائل: “أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء” (2).
وبان لك أن ارتباطَ الفعل المخلوق بالقدرة المخلوقة ارتباطُ المسبَّبات بأسبابها (3)، ويدخل في عموم ذلك جميعُ ما خلقه الله في السموات والأرض والدنيا والآخرة؛ فإن اعتقادَ تأثير الأسباب على الاستقلال (4) دخولٌ في الضلال، واعتقادَ نفي أثرها وإلغاءه ركوبُ المحال، وإن كان لقدرة الإنسان شأنٌ ليس لغيرها كما سنومئ إليه إن شاء الله.
فلعلَّك تقولُ بعد هذا البيان: أنا لا أفهمُ الأسباب، ولا أخرجُ عن دائرة التقسيم والمطالبة بأحد القسمين، وما أنتَ إن قلتَ هذا إلا مسبوقٌ بخلقٍ
_________
(1) الأصل: “على”. والمثبت من (ف) أظهر.
(2) القول في “الصفدية” (2/ 30)، و”منهاج السنة” (2/ 217)، و”بيان تلبيس الجهمية” (7/ 400)، و”درء التعارض” (1/ 299)، و”الجواب الصحيح” (4/ 67)، و”جامع المسائل” (7/ 89)، و”مجموع الفتاوى” (5/ 217، 7/ 664، 12/ 452، 552، 19/ 140) دون نسبة. وانظر لآفة اشتراك الأسماء وترك التفصيل: “إحكام الأحكام” لابن حزم (6/ 70).
(3) (ف): “الأسباب بمسبباتها”. وهو خطأ.
(4) الأصل: “الاستطلاق”، وهو تحريف صوابه في (ف).
(9/100)
من الضُّلَّال، {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]، وموقفُك هذا مَفْرِق طرقٍ إما إلى الجنة وإما إلى النار.
فيُعاد عليك البيانُ بأن لها تأثيرًا من حيث هي سببٌ كتأثير القلم، وليس لها (1) تأثيرٌ من حيث الابتداع والاختراع، وتُضْرَب لك الأمثال، لعلك تفهمُ صورة الحال، ويتبيَّن لك أن إثباتَ الأسباب مبتدِعاتٍ هو الإشراك، وإثباتَها أسبابًا مُوصِلاتٍ (2) هو عينُ تحقيق التوحيد، عسى الله [أن] يقذفَ في قلبك نورًا ترى به هذا البيان، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
فإن قلت: إثباتُ القدرة سببًا نفيُ التأثير في الحقيقة؛ فما بالُ الفعل يضافُ إلى العبد؟ وما باله يُؤمر ويُنهى، ويثابُ ويعاقَب؟ وهل هذا إلا محضُ الجبر؟! وإذا كنتَ مشبِّهًا لقدرة الإنسان بقلم الكاتب وعصا الضارِب، فهل رأيتَ القلم يثابُ أو العصا تعاقَب؟!
فأقول لك الآن ــ إن شاء الله ــ ما يوجبُ (3) هُداك، بمعونة مولاك، وأن تطَّلع من أسرار القدَر، على مثل خُرْتِ الإبَر (4)، فألقِ السَّمعَ وأنت شهيد، عسى الله أن يمدَّك بالتأييد.
اعلم أن العبد فاعلٌ على الحقيقة، وله مشيئةٌ ثابتة، وإرادةٌ جازمة، وقوةٌ
_________
(1) الأصل: “ولها”، وهو خطأ. وعلى الصواب في (ف).
(2) (ف): “موصولات”. تحريف.
(3) الأصل و (ف): “وجب”. ولعل المثبت أقوم بالمراد.
(4) خُرْت الإبرة: ثُقبها. أي شيئًا يسيرًا أو دقيقًا. وتحرفت العبارة في (ف) إلى: “وإن لم تطلع من أسرار القدر إلا على مثل ضرب الأثر”.
(9/101)
صالحة.
وقد نطق القرآنُ بإثبات مشيئة العباد في غير ما آية، كقوله: { … لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 28 – 29]، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29 – 30]، {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 55 – 56].
ونطق بإثبات فعله في عامة آيات القرآن: {يَعْمَلُونَ}، {يَفْعَلُونَ}، {يُؤْمِنُونَ}، {يَكْفُرُونَ}، {يَتَفَكَّرُونَ}، {يَتَذَكَّرُونَ}، {يَجْعَلُونَ} (1)، {يَتَّقُونَ}.
وكما أنَّا فارقنا مجوسَ الأمَّة بإثبات أنه [تعالى] خالق، فارقنا الجبريَّة بإثبات أن العبد (2) كاسبٌ فاعلٌ صانعٌ عامل.
والجبر المذموم (3) الذي أنكره سلفُ الأمَّة وعلماءُ السُّنَّة هو أن يكون الفعلُ صادرًا عن الحيِّ (4) من غير إرادةٍ ولا مشيئةٍ ولا اختيار، مثل حركة الأشجار بهبوب الرِّياح، وحركات الأبواب (5) بإطباق الأيدي، ومثلُه في
_________
(1) (ف): “يحافظون”.
(2) الأصل: “بإثبات أنه”. والمثبت من (ف) أوضح.
(3) مشتبهة في الأصل. وفي (ف): “المعقول”. وأرجو أن الصواب ما أثبت.
(4) (ف): “الشيء”. وهو تحريف. ولم تحرر في الأصل.
(5) بياض في أصل (ف).
(9/102)
الأناسِيِّ: حركة المَحْمُوم والمَفْلُوج والمُرْتَعِش؛ فإن كل عاقلٍ يجدُ تفرقةَ بديهتِه (1) بين قيام الإنسان وقعوده، وصلاته وجهاده، وزِنَاه وسَرِقَته، وبين ارتعاش المَفْلُوج وانتفاض المَحْمُوم، ويعلمُ أن الأول قادرٌ على الفعل مريدٌ له مختار، وأن الثاني غيرُ قادرٍ عليه ولا مريدٍ له ولا مختار.
والمحكيُّ عن جهمٍ وشيعته الجبريَّة أنهم زعموا أن جميع أفاعيل العباد قسمٌ واحد. وهو قولٌ ظاهر الفساد.
ولِمَا بين القسمين من الفُرقان انقسمت الأفعالُ إلى: اختياريٍّ، واضطراريٍّ، واختصَّ المختارُ منها باعتقاب (2) الأمر والنهي عليه، ولم يجئ في الشرائع ولا في كلامِ حكيمٍ أمرٌ للأعمى بنَقْط المصحف، أو للمقعَد بالاشتداد (3)، أو للمحموم بالسُّكون، وشِبه ذلك، وإن اختلفوا في تجويزه عقلًا أو سمعًا، فإنها (4) منعت وقوعَه وورودَه (5) بإجماع أولي العقل (6) من جميع الأصناف.
فإن قيل: هَبْ أن فعلي الذي أردتُه واخترتُه هو واقعٌ بمشيئتي وإرادتي، أليست تلك الإرادة وتلك المشيئة مِن خلقِ الله؟ وإذا خُلِق الأمرُ الموجِبُ للفعل، فهل يتأتى تركُ الفعل معه؟ أقصى ما في الباب أن الأول جبرٌ بغير
_________
(1) (ف): “بديهية”.
(2) (ف): “بإثبات”، تحريف. والاعتقاب هو التعاقب والتناوب.
(3) أي الجري والعَدْو الشديد.
(4) الأصل و (ف): “فإنما”. والمثبت أشبه.
(5) ساقطة من (ف).
(6) (ف): “العقلاء أولي العقل”.
(9/103)
توسُّط الإرادة من العبد، وهذا جبرٌ بتوسُّط الإرادة!
فنقول: الجبر المنفيُّ هو الأول، كما فسَّرناه.
وأما إثباتُ القسم الثاني، فلا ريب فيه عند أهل الاستنان والآثار، وأولي الألباب والأبصار، لكن لا يُطْلَقُ عليه اسم “الجبر” خشية الالتباس بالأمر (1) الأول، وفرارًا من تبادر الأفهام إليه، وربما سُمِّي [جبرًا] إذا أُمِن اللبسُ وعُلِم القصد.
قال عليُّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – في الدعاء المشهور عنه في الصَّلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم -: “اللهم داحِيَ المَدْحُوَّات، وباري المَسْمُوكات، جبَّارَ القلوب على فِطْراتها شقيِّها وسعيدِها (2) ” (3).
فبيَّن أنه سبحانه (4) جَبَر القلوب على ما فَطَرها عليه من شقاوةٍ أو
_________
(1) (ف): “بالقسم”.
(2) (ف): “شقاها أو سعدها”، تحريف. والمثبت من الأصل وسائر كتب المصنف، وهو كذلك في بعض المصادر، وفي بعضها: فطرتها، بالإفراد.
(3) أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب “الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – ” (23)، والطبري في “تهذيب الآثار” (221 – مسند باقي العشرة)، والآجري في “الشريعة” (2/ 842)، وغيرهم من حديث سلامة الكندي عن علي – رضي الله عنه -، ولا يعرف له سماعٌ منه، كما ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه في “الجرح والتعديل” (4/ 300)، وبيَّنه الحافظ عبد العزيز النخشبي في تخريجه للحنائيات (1263). وانظر: “جامع التحصيل” (193)، وتفسير ابن كثير (11/ 217).
وأخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف” (30134) من وجهٍ آخر عن رجلٍ عن علي – رضي الله عنه -، وفيه من لا يعرف. انظر: “القول البديع” للسخاوي (119).
(4) الأصل: “سبحانه أنه”. من سهو الناسخ.
(9/104)
سعادة (1)، يعني (2) الفطرة الثانية، ليست الفطرة الأولى، وبكلا الفطرتين فُسِّر قولُه – صلى الله عليه وسلم -: “كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرة” (3)، وتفسيره بالأولى واضح.
وقال (4) محمد بن كعب القُرظي ــ وهو من أفاضل تابعي أهل المدينة وأعيانهم، وربَّما فُضِّل على أكثرهم ــ في قوله: الجبَّار (5)، قال: “جَبَر العبادَ على ما أراد” (6)، ورُوِي ذلك عن غيره (7).
وشهادةُ القرآن والأحاديث، ورؤيةُ أهل البصائر والاستدلال التامِّ، لتقليب الله سبحانه قلوبَ العباد، وتصريفِه إيَّاها، وإلهامه إيَّاها فجورَها وتقواها، وتنزيلِ القضاء النافذ من عند العزيز الحكيم في أدنى مِن لَمْحِ البصر على قلوب العاملين (8) حتى تتحرَّك الجوارحُ بما قُضِيَ لها وعليها = بيِّنٌ غاية البيان إلا لمن أعمى الله بصرَه وقلبَه.
_________
(1) انظر: “غريب الحديث” لابن قتيبة (2/ 145)، و”تهذيب الآثار” للطبري (263 – مسند باقي العشرة)، و”عمدة الكتاب” لأبي جعفر النحاس (306)، و”منهاج السنة” (3/ 247)، و”درء التعارض” (1/ 256)، و”مجموع الفتاوى” (8/ 132، 465).
(2) (ف): “وهذه”.
(3) أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(4) (ف): “قاله”. وهو تحريف مفسد للمعنى.
(5) أي في تفسير اسم الله “الجبار”.
(6) أخرجه الخلال في “السنة” (935، 936)، والثعلبي في “الكشف والبيان” (9/ 288)، والبيهقي في “الأسماء والصفات” (1/ 89)، وغيرهم.
(7) رواه ابن جرير (22/ 554) عن قتادة. وانظر: “شأن الدعاء” للخطابي (48).
(8) (ف): “العالمين”.
(9/105)
فإن قلت: فأنا أسألك على هذا التقدير، بعد خروجي عن تقدير الجبر الذي نَفَوه وأبطلوه، وثباتي على ما قالوه وبيَّنوه، كيف انبنى الثوابُ والعقابُ (1)، وصحَّ تسميتُه فاعلًا حقيقةً (2)، وانبنى فعلُه على قدرته؟
فأقول ــ والله الهادي إلى سواء السبيل (3) ــ: اعلم أن الله جعَل (4) فعلَ العبد سببًا مفضيًا إلى آثارٍ (5) محمودةٍ أو مذمومة.
فالعملُ الصالحُ ــ مثل صلاةٍ أقبل عليها بقلبه ووجهه، وأخلصَ فيها، وراقبَ، وفَقِه ما بُنِيت عليه من الكلمات الطيبات، والأعمال الصالحات ــ يُعْقِبُه في عاجل الأمر نورًا في قلبه، وانشراحًا في صدره، وطمأنينةً في نفسه، ومزيدًا في علمه (6)، وتثبيتًا في يقينه، وقوةً في عقله، إلى غير ذلك من قوة بدنه، وبهاء وجهه، وانتهائه عن الفحشاء والمنكر، وإلقاء المحبَّة له في قلوب الخلق، ودفع البلاء عنه، وغير ذلك مما يعلمُه ولا يعلمُه (7).
ثم هذه [الآثار] التي حَصَلت له من النور والعلم واليقين وغير ذلك أسبابٌ مفضيةٌ إلى آثارٍ أُخَر من جنسها وغير جنسها أرفعَ منها، وهلمَّ جرًّا.
_________
(1) (ف): “انبنى الثواب والعقاب على فعله”.
(2) (ف): “على حقيقته”.
(3) (ف): “الصراط”.
(4) (ف): “خلق”.
(5) (ف): “مقتضيا لآثار”.
(6) الأصل: “عمله”. والمثبت من (ف) أصح، وسيأتي قوله: “التي حصلت له من النور والعلم واليقين”، وسيأتي كذلك ضده بنسيان العلم.
(7) أي العبد. والكلمة مهملة في الأصل، وفي (ف): “نعلمه”.
(9/106)
ولهذا قيل: “إن من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها، وإن من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها” (1).
وكذلك العملُ السيِّء ــ مثل الكذب، مثلًا ــ يُعْقِبُ صاحبَه في الحال ظلمةً (2) في القلب، وقسوةً، وضيقًا في صدره، ونفاقًا، واضطرابًا، ونسيانَ علمٍ كان يَعْلَمُه (3)، وانسدادَ باب علمٍ كان يطلبُه، ونقصًا في يقينه (4) وعقله، واسودادَ وجهه، وبغضةً في قلوب الخلق، واجتراءً على ذنبٍ آخر من جنسه أو غير جنسه، وهلمَّ جرًّا، إلا أن يتداركه الله بلطفه (5).
فهذه الآثار التي (6) تُورِثها الأعمالُ هي الثوابُ والعقاب، وإفضاءُ العمل إليها واقتضاؤه إياها كإفضاء جميع الأسباب التي جعلها الله أسبابًا إلى مسبَّباتها (7).
فالإنسان إذا أكل أو شربَ حصل له الرِّيُّ والشِّبع، وقد ربط الله تعالى
_________
(1) أخرجه أبو عبد الرحمن السلمي في “طبقات الصوفية” (382)، ومن طريقه البيهقي في “شعب الإيمان” (6829)، والقشيري في “الرسالة” (1/ 125) عن علي بن محمد أبي الحسن المزيِّن (ت: 328).
(2) (ف): “يعاقب صاحبه في الحال بظلمة”. وهو تحريف.
(3) (ف): “ونسيان ما تعلمه”.
(4) الأصل: “نفسه”. والأشبه ما أثبت من (ف).
(5) (ف): “برحمته”.
(6) (ف): “هي التي”.
(7) الأصل: “كاقتضاء جميع الأسباب التي جعلها مسبباتها التي جعلها الله”. وهو تخليط صححته من (ف).
(9/107)
الشِّبَع والرِّيَّ بالأكل والشرب ربطًا محكمًا. ولو شاء أن لا يُشْبِعه [ويُرْوِيه] مع وجود الأكل والشرب فَعَل، إما بأن لا يجعل في الطعام قوَّةً مغذِّية (1)، أو يجعل في المحلِّ قوةً مانعة، أو بما شاء سبحانه وتعالى، ولو شاء أن يُشْبِعه ويُرْوِيه بلا أكلٍ وشربٍ لفَعَل، أو بأكل شيءٍ غير معتاد.
كذلك في اقتضاء (2) الأعمال المثوباتِ والعقوبات حذو القذَّة بالقذَّة؛ فإنه إنما سُمِّي “الثوابُ” لأنه يثوبُ إلى العامل من عمله، أي يرجع، و”العقابُ” لأنه يَعْقُب العملَ، أي يكون بعده. ولو شاء أن لا يُثِيبه على ذلك العمل، إما بأن لا يجعل في العمل خاصَّةً تفضي إلى الثواب، أو بوجود أسبابٍ تنفي ذلك الثواب، أو غير ذلك = لفعَل سبحانه (3). وكذلك في العقوبات.
وبيان ذلك: أن نفس الأكل والشرب باختيار العبد ومشيئته التي هي مِن فِعل الله أيضًا، وحصول الشِّبَع في عقبَ الأكل ليس للعبد فيه صنعٌ البتة، حتى لو أراد دفعَ الشِّبع بعد تعاطي الأسباب الموجبة له لم يُطِق.
وكذلك نفس العمل، هو بإرادته واختياره، فلو شاء أن يدفعَ أثر ذلك العمل وثوابَه بعد [وجود] موجِبه لم يَقْدِر.
وهذه حكمة الله وسنَّته (4) في جميع الأسباب في الدنيا والآخرة، لكن
_________
(1) ساقطة من (ف).
(2) ساقطة كذلك من (ف).
(3) الأصل: “تنفي ذلك الثواب لفعل يفعل سبحانه”. والمثبت من (ف).
(4) (ف): “ومشيئته”.
(9/108)
العلمَ بالأعمال النافعة في الدار الآخرة، والأعمال الضارَّة، أكثرُه غيبٌ عن عقول الخلق، وكذلك مصيرُ العباد ومُنقَلبُهم بعد فراق رُوحِهم (1) هذه الدار؛ فبعث الله رسله، وأنزل كتبه، مبشِّرين ومنذرين؛ لئلَّا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسل.
وحكمتُه في ذلك تضارِع حكمتَه في خلق جميع الأسباب والمسبَّبات، وما ذاك إلا [أن] علمَه الأزليَّ ومشيئتَه النافذة وقدرتَه القاهرة اقتضت ما اقتضته، وأوجبت ما أوجبته، من مصير أقوامٍ إلى جنَّته بالأعمال الموجبة لذلك؛ فخلَقهم وخلَق أعمالهم (2)، وساقهم بتلك الأعمال إلى رضوانه. وكذلك أهل النار.
كما قال الصَّادق المصدوق – صلى الله عليه وسلم – لما قيل له: “ألا ندَع العمل ونتَّكل على الكتاب؟ ” فقال: “لا، اعملوا؛ فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِق له. أما من كان من أهل السَّعادة فسَيُيَسَّر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشَّقاوة فسَيُيَسَّر لعمل أهل الشقاوة” (3).
فبيَّن – صلى الله عليه وسلم – أن العبد (4) قد يُيسَّر للعمل الذي يسوقُه الله به إلى السعادة، وكذلك الشقيُّ تيسيرُه له هو نفسُ إلهامه ذلك العمل وتهيئةُ أسبابه.
_________
(1) ساقطة من (ف).
(2) (ف): “مصير أقوام إلى الجنة بأعمال موجبة لذلك منهم وخلق أعمالهم”.
(3) أخرجه البخاري (4949)، ومسلم (2647) من حديث علي – رضي الله عنه -.
(4) (ف): “السعيد”.
(9/109)
وهذا هو نفسُ (1) خلق أفعال العباد؛ فنفسُ خلق ذلك العمل هو السببُ المفضي إلى السعادة أو الشقاوة، ولو شاء لفعله بلا عمل، بل هو فاعلُه؛ فإنه ينشئ للجنة خلقًا لما يبقى فيها من الفضل (2).
يبقى أن يقال: ما الحكمةُ (3) الكليَّة التي اقتضت ما اقتضته من الأسباب الأُوَل، وحقيقةُ ما الأمر صائرٌ إليه في عواقب (4) العواقب، والتخصيصات والتمييزات الواقعة في الأشخاص والأعيان، إلى غير ذلك من كليَّات القدَر التي لا تختصُّ بمسألة خلق أفعال العباد؟ وليس هذا الاستفتاء معقودًا لها، وتفسير جُمَل ذلك لا يليق بهذا الموضع، فضلًا عن بعض تفصيله.
ويكفي العاقل أن يعلم أن الله عليمٌ حكيمٌ رحيم، بهرت الألبابَ حكمتُه، ووسعت كلَّ شيءٍ رحمتُه، وأحاط بكلِّ شيءٍ علمُه، وأحصاه لوحُه وقلمُه، وأن لله في قدَره سرًّا مصونًا، وعلمًا مخزونًا، اختزنه (5) دون جميع خلقه، واستأثر به على جميع بريَّته، وإنما يصلُ أهلُ العلم به (6) وأربابُ ولايته إلى جُمَلٍ من ذلك وجوامعَ وكليَّات، قد يؤذنُ لبعضهم في إفشاء شيءٍ من جُمَل ذلك (7) وقد
_________
(1) (ف): “تفسير”.
(2) أخرجه البخاري (4850، 7384)، ومسلم (2846، 2848) من حديث أبي هريرة وأنس – رضي الله عنهما -.
(3) (ف): “فالحكمة”. وهي مهملة في الأصل. ولعل الصواب ما أثبت.
(4) ساقطة من (ف).
(5) (ف): “احترز به”. تحريف.
(6) (ف): “يصل به أهل العلم”. وهو خطأ.
(7) من قوله: “وجوامع وكليات” إلى هنا ساقط من (ف)، ولعله لانتقال النظر.
(9/110)
لا يؤذن، وربما [كلَّم] الناسَ في ذلك على قدر عقولهم.
وقد سأل موسى وعيسى وعزيرٌ ربَّنا تبارك وتعالى عن شيءٍ من سرِّ القدر، وأنه لو شاء أن يُطاع لأطيع، ولو شاء أن لا يُعصى لما عُصِي، وأنه قد أمَر أن يُطاع (1)، وأنه مع ذلك يُعصى، فأخبرهم سبحانه أن هذا سرُّه، وأنه لا يُسأل عن سرِّه (2).
وفي هذا المقام تاهت عقولُ كثيرٍ من الخلائق، وفيه ضلَّ القائلون بقِدَم العالم، وأن صانعه موجِبٌ بذاته، ومقتضٍ بنفسه (3) اقتضاء العلَّة للمعلول، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما صُنِع.
ودبَّ هذا الدَّاءُ إلى بعض أهل الكتاب و [أتباع] الرُّسل؛ فزعم انحصار (4) الممكِن في الموجود، وكلُّ ذلك طلبًا للاستراحة من مؤونة (5) تعليل الأفعال الإلهيَّة، ووجود (6) الأسباب الحادثة للأمور الحادثة.
وعلَّله أهلُ القدر بعللهم العليلة (7) في التعديل والتجوير (8)، ووجوب
_________
(1) من قوله: “ولو شاء أن لا يعصى” إلى هنا ساقط كذلك من (ف).
(2) “وأنه لا يسأل عن سره” ساقط من (ف).
(3) الأصل: “مقتضي نفسه”. (ف): “مقتضي بنفسه”.
(4) (ف): “فقد قرروا انحصار”.
(5) (ف): “مؤمنة”. تحريف.
(6) الأصل: “ووجوب”. والمثبت من (ف) أشبه.
(7) (ف): “العائلة”. أي: الظالمة الجائرة، ولعله تحريفٌ لما أثبته من الأصل، فوصف العلل بأنها عليلة هو الجادة.
(8) (ف): “والتجويز”، بالزاي، وهو تحريفٌ شائع في كتب الشيخ وغيره.
(9/111)
رعاية الصَّالح (1) أو الأصلح.
ولم يستقم لواحدٍ من الفريقين أصلُهم، ولم تطَّرد عللُهم (2).
ومن هنا ذهب أهلُ التثنية والتمجُّس إلى الأصلين، والقول بقِدَم النور والظُّلمة.
وسَلِم بعضَ السلامة ــ وإن كان فيه نوعٌ من اليبوسة، وضربٌ من الجَفاف (3) ــ كثيرٌ [من] متكلِّمي أهل الإثبات، حيث ردُّوا الأمر إلى محض المشيئة وصِرْف الإرادة، وأن انتسابها إلى (4) جميع الجائزات، واقتضاءها كلَّ الممكنات، على نحوٍ واحدٍ ووتيرةٍ واحدة (5)، وأنها بذاتها تخصِّصُ وتُميِّز. ولو خُلِط بهذا الكلام ضربٌ من وجوه الرَّحمة وأنواع الحكمة
ــ علمناها أو جهلناها ــ لكان أقربَ إلى القبول (6).
وبكلِّ حال، فلامُ التعليل في فعله سبحانه ليست على ما يعقله (7) أكثرُ الخلق من لام التعليل في أفعالهم.
_________
(1) الأصل: “المصالح”. والمثبت من (ف).
(2) (ف): “يطرد لهم”. تحريف.
(3) (ف): “نوع من ظن السوء بالله وضرب من الجفاء”. وهو تحريفٌ وتصرف.
(4) (ف): “إنشاءها”.
(5) الأصل: “نحو واحدة ونثرة واحدة”. والمثبت من (ف).
(6) الأصل: “القلوب”. وما في (ف) أظهر.
(7) الأصل: “يفعله”، تحريف. وعلى الصواب في (ف).
(9/112)
ووراء ما يعلمُه هؤلاء ويقولونه ما أنار الله (1) به قلوبَ أوليائه، وقذفه في أفئدة أصفيائه، ممَّن استمسك فيما يَظْهَر من الكلام بسبيل أهل الآثار، واعتصم فيما يَبْطُن من الأفهام بحبل أهل الأبصار.
وفي هذا المقام يعرفُ أولو الألباب سرَّ قوله عز وجل: “سبقت رحمتي غضبي” (2)، وقوله: “والشرُّ ليس إليك” (3)، وقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، وقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2]، وقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء: 80]، و {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]، وما شاكل ذلك = من أن الشرَّ إما أن يُحْذَف فاعلُه، أو يضافَ إلى الأسباب، أو يندرج في العموم. وأما إفرادُه بالذكر، مضافًا إلى خالق كلِّ شيء، فلا يقعُ في (4) كلامِ حكيم؛ لما توجبُه الحقيقةُ المقتضيةُ للأدب المؤسَّس [على الدِّين] (5)، لا لمحض الأدب العريِّ عن أصلٍ متين (6).
وهنا يُعرَف سبب دخول خلقٍ كثيرٍ الجنةَ بلا عمل، وإنشاء خلقٍ لها، وأن النار لا تُدْخَلُ إلا بعمل، ولا يدخلُها إلا أهلُ الدنيا (7).
_________
(1) (ف): “ويقولون: مما أنار”. وهو خطأ.
(2) أخرجه البخاري (7422)، ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) أخرجه مسلم (771) من حديث علي – رضي الله عنه -.
(4) (ف): “فلا يقتضيه”. تحريف.
(5) زيادة يقتضيها السياق والسجع، ليست في الأصل و (ف)، وأرجو أن تكون صوابًا.
(6) (ف): “لا لمحض متميز”. وهو محض تحريف.
(7) انظر: “مجموع الفتاوى” (16/ 47)، و”جامع المسائل” (3/ 239)، و”أحكام أهل الذمة” (1104).
(9/113)
ويُعرَفُ حقيقةُ {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، مع أن السيئة من القدَر، وقول الصدِّيق وغيره من الصَّحابة – رضي الله عنهم -: “إن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان” (1).
إلى غير ذلك ممَّا يتَّسعُ القول فيه، ممَّا قد لَحَظ (2) كلُّ ناظرٍ منه شعبةً من الحقِّ، وتعلَّق بسببٍ من الصواب، ولم يجمَع (3) وجوهَ الحقِّ ويؤمنْ بالكتاب كلِّه إلا أولو الألباب، وقليلٌ ما هم.
فهذه إشارةٌ يسيرةٌ إلى كلِّيِّ التقدير.
وأما كونُ قدرة العبد وكسبه له شأنٌ من بين سائر الأسباب، فإن الله خصَّ الإنسان بأن عمله (4) يورثه في الدنيا أخلاقًا وأحوالًا وآثارًا، وفي الآخرة أيضا أمورًا أُخَر، لم يجعَل (5) هذا لغيره من مخلوقاته.
والوجوه التي خُصَّ بها الإنسانُ في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله شخصًا ونوعًا أكثرُ من أن تحصى، وما من عاقلٍ إلا وعنده منها طرف.
ولهذا حَسُنَ توجيهُ الأمر والنهي إليه، وصحَّ إضافة الفعل إليه حقيقةً
_________
(1) أخرجه الدارمي (3015) عن أبي بكر، وأحمد (4276)، وأبو داود (2116) عن ابن مسعود – رضي الله عنهما -.
(2) (ف): “إلى غير ذلك مما فيه ما قد لحظ”، وفي العبارة خللٌ وسقط.
(3) (ف): “وما يتبع”.
(4) (ف): “علمه”. وهو تحريف.
(5) (ف): “يحصل”.
(9/114)
وكسبًا، مع أنه خلقٌ لله؛ فإن الله خلق العبد وعملَه، وجعل هذا العمل له عملًا قام به، وصدَر عنه، وحدث بقدرته الحادثة.
وأدنى أحوال الفعل أن يكون بمنزلة الصفات والأخلاق المخلوقة في العبد إذا جُعِلت مفضيةً إلى أمورٍ أُخَر، فهل يصحُّ تجريدُ العبد عنها؟! كلَّا (1).
وأما الأمر، فإنه في حقِّ المطيعين من الأسباب التي بها يكونُ الفعل منهم؛ فإنه يبعثُ داعِيَتهم، ثم إنه يوجبُ لهم اسمَ (2) الطاعة ومحضَ الانقياد والاستسلام، فهو من جملة القدَر السَّائق (3) لهم إلى السعادة. وفي حقِّ العاصين هو السببُ الذي يستحقُّون به العصيان؛ إذ لولا هو لما تميَّز مطيعٌ من عاصٍ، فهو أيضًا (4) في حقِّهم من القدر السَّائق لهم إلى المعصية؛ ليضلَّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا.
فلا تغفلنَّ (5) عن إدخال الأمر والنهي في جملة المقادير؛ فإنه (6) يحلُّ عُقَدًا كثيرة.
هذا في أمر الله (7) سبحانه؛ لعلمه بالعواقب.
_________
(1) (ف): “كلا ولم”.
(2) ساقطة من (ف).
(3) (ف): “السابق”، وكذلك الموضع التالي، وهو تحريف.
(4) (ف): “وأيضا” وسقطت “فهو”. وهو خطأ.
(5) “فلا تغفلن” ساقط من (ف).
(6) ساقطة من (ف).
(7) “في أمر الله” ساقط من (ف).
(9/115)
وأما أمر العباد فظاهر؛ لعدم تميُّز المطيع من العاصي (1) في علمهم، وأن قصدهم نفس صدور الفعل من الجميع.
وهو ــ أيضًا ــ كذلك (2) في ظاهر الأمر الشرعيِّ على لسان المرسلين بالكتب المنزَّلة.
ولله في كلِّ مظهرٍ أمرٌ وحكمةٌ تخصُّه (3)؛ فالإرادة والأمر كلٌّ منهما منقسمٌ إلى:
* قدرٍ نافذٍ (4)، عامِّ الوقوع، جامعٍ للقسمين.
* وإلى شرعٍ ربما نَفَذ (5)، وربما وَقَف، بحسب معونة (6) القدر له، والخيرُ كلُّ الخير لنا في نفوذه، وهو خاصُّ الوقوع، مفرَّقٌ بين (7) القسمين.
واضع الأشياء في مراتبها (8).
وصحَّ إذًا (9) نسبةُ الطاعة والمعصية إلى من خُلِقت فيه، ولو أنه
_________
(1) (ف): “فظاهر العدم من المعاصي”، وفيه سقط وتحريف.
(2) ساقطة من (ف).
(3) (ف): “والله كله مظهر وحكم يمضيه”، وفيه سقط وتحريف.
(4) الجملة ساقطة من (ف).
(5) (ف): “وبما بعد”. تحريف.
(6) سقطت الكلمتان من (ف).
(7) (ف): “بفرق إلى”. تحريف.
(8) كذا وقعت الجملة في الأصل و (ف)، ولعلها محالة عن موضعها، أو أن قبلها سقطًا.
(9) (ف): “وإذا صح”.
(9/116)
كخلقِ (1) الصِّفاتِ أفيحسُن بالإنسان أن يقول: أسود، وأحمر، وطويل، وقصير، وذكيٌّ، وبليد، وعربيٌّ، وعجميٌّ، فيضيفُ جميعَ الصفات التي ليس للإنسان فيها إرادةٌ أصلًا إليه (2)؛ لقيامها به، وتأثيرها فيه، تارةً بما يلائمُه وتارةً بما ينافِرُه، ثم يستبعِد أن يضاف إليه ما خُلِق فيه من الفعل بواسطة قصدِه وإرادتِه المخلوقَين أيضًا، ثم يقول: ليس للعبد في الاثنين (3) شيء؟! وهل الجميعُ إلا له، ليست لأحدٍ غيره؟!؛ لكن الله سبحانه خلقها له، وإضافةُ الفعل إلى خالقه ومبدعه لا تنافي إضافته إلى صاحبه ومحلِّه الذي هو فاعله وكاسبُه، وقد بيَّنَّا الجبرَ المذموم ما هو.
ونختم الكلام بكلامٍ وجيزٍ في سبب الفرق بين الخلق والكسب، فنقول: الخلق يجمع معنيين:
أحدهما: الإبداع والبَرْء.
والثاني: التقدير والتصوير.
فإذا قيل: “خَلَق” فلا بدَّ من أن يكون أبدع إبداعًا مقدَّرًا، ولما كان الله سبحانه وتعالى أبدَع جميعَ الأشياء من العدَم، وجعَل لكلِّ شيءٍ قدرًا، صحَّ إضافة الخلق إليه بالقول المطلق.
والتقدير في المخلوق لازم؛ إذ هو عبارةٌ عن تحديده والإحاطة به، وهذا
_________
(1) مهملة في الأصل، وفي (ف): “بخلق”، والأشبه ما أثبت.
(2) (ف): “البتة”. تحريف.
(3) لم تحرر في الأصل، وضبب عليها الناسخ. وفي (ف): “السيء”. وهو تحريف.
(9/117)
لازمٌ لجميع الكائنات، لا كما زعم من حَسِب أن الخلق يختصُّ (1) ذواتِ المساحة، وهي الأجسام، مفرِّقًا بين الخلق والأمر بذلك (2)؛ فإنه قولٌ باطلٌ مبتدَع.
والأمرُ هو كلامُه، كما فسَّره الأوَّلون (3).
والخلقُ مصنوعاتُه (4)، وقد (5) يُجْعَل الخلقُ بإزاء إبداع الصُّور الذهنية وتقديرِها، ومنه تسمية الكذب “اختلاقًا” (6)؛ إذ هو صورٌ ذهنيةٌ ليس لها حقيقةٌ خارجةٌ عن الذهن واللسان (7).
وربما (8) جُعِل الخلقُ بمعنى التقدير فقط، مقطوعًا عنه النظرُ إلى الإبداع، كما قال (9):
_________
(1) ساقطة من (ف)، وزادت “في”.
(2) وهو قول الغزالي. انظر: “إحياء علوم الدين” (3/ 382، 4/ 26)، و”كيمياء السعادة” (126)، و”الرد على المنطقيين” (197)، و”بغية المرتاد” (218، 231)، و”مجموع الفتاوى” (11/ 231).
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (6/ 17).
(4) (ف): “مفسر”. تحريف.
(5) ساقطة من (ف).
(6) (ف): “اختلافا”. وهو تحريف. وسقطت منها كلمة “الكذب”.
(7) ساقطة من (ف).
(8) ساقطة كذلك من (ف).
(9) زهير بن أبي سُلمى، في ديوانه (94). والبيت:
ولأنت تفري ما خلقتَ وبعْـ … ـضُ القوم يخلقُ ثم لا يفري
(9/118)
* ولأنتَ تَفْرِي (1) ما خلقتَ *
وكما قال عيسى (2) في تمثالٍ صَنَعه: “أنا خلقتُه”، ولو قيل: هو عائدٌ إلى الأول (3) من حيث إن تلك الصورة مُبْدَعَةٌ لكان قولًا.
فلما كان هذا المعنى (4) لا يكونُ إلا لله صحَّ وصفُه سبحانه بأنه خالق كل شيء.
وأما الكسب، فقد ذكرنا أنه إنما يُنْظَر فيه إلى تأثيره في محلِّه، ولو لم يكن له عليه قدرةٌ أصلًا، فكيف بما له عليه قدرة (5)؟!
حتى يقال: الثوبُ قد اكتَسبَ مِن ريح المسك، والمسجدُ قد اكتسبَ الحُرمة من أفعال العابدين، والجلدُ اكتسبَ الحُرمة بمجاورة المصحف، والثمرةُ قد اكتسبت لونًا وريحًا وطعمًا؛ فكلُّ محلٍّ تأثَّر عن شيءٍ تأثرًا ملائمًا أو منافِرًا (6) صحَّ وصفُه بالاكتساب، بناءً على تأثُّره وتغيُّره وتحوُّله من حالٍ إلى حال.
_________
(1) (ف): “بما قال سدى”. سقط وتحريف.
(2) رسمت في الأصل و (ف): “علي”. وأحسبها محرفة عما أثبت، يشير إلى قول عيسى – عليه السلام -: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}. وانظر: “الانتصار” للباقلاني (2/ 728)، و”الجواب الصحيح” (4/ 46). ولا يمكن أن يصنع عليٌّ – رضي الله عنه – تمثالًا وقد بعثه النبي – صلى الله عليه وسلم – بطمس التماثيل.
(3) أي: معنى إبداع الصور. والعبارة في (ف): “والفرق الأولى”. سقط وتحريف.
(4) وهو الإبداع والبَرْء. والجملة ساقطة من (ف).
(5) من قوله: “أصلا” إلى هنا ساقط من (ف)، لانتقال النظر.
(6) (ف): “مؤثرا وملائما ومنافرا”. تحريف.
(9/119)
والإنسانُ يتأثَّر عن الأفعال الاختيارية ولا يتأثَّر عن الأفعال الاضطرارية، وتُورِثه أخلاقًا وأحوالًا على أيِّ حالٍ كان، حتى على رأي من يطلق اسم “الجبر” على مجموع أفعاله؛ فإنه يستيقنُ تأثير الأفعال الاختيارية في نفسه، بخلاف الاضطرارية، [اللهم إلا من حيث قد توجبُ الأفعالُ الاضطرارية] (1) أمرًا في نفسه، فيكون ذلك اختيارًا.
ثم اعلم أن الاضطرار إنما يكون في بدنه بدون قلبه، إمَّا بفعل الله، كالأمراض والأسقام، وإمَّا بفعل العباد، كالقَيد والحَبس.
وأما أفعالُ روحه المنفوخة فيه إذا حرَّكت بدنَه (2) فهي كلُّها اختيارية، ومن وجهٍ ــ قد بيَّنَّاه ــ كلُّها اضطرارية؛ فاضطرارُها هو عينُ الاختيار (3)، واختيارُها إنما هو بالاضطرار.
وحقيقة الاضطرار (4) هو أن يخلُق فيها الاختيار (5)، وربما أحبَّت من وجهٍ وكرهت من وجه، لكن هذا كلَّه لا يمنعُ ورودَ التكليف واقتضاءَ الثواب والعقاب، كما قد أومأنا إليه (6).
هذا الذي تيسَّر كتابتُه (7) في هذه الحال، والله يقول الحقَّ وهو يهدي إلى
_________
(1) سقط من الأصل، واستدركته من (ف).
(2) (ف): “يديه”. تحريف.
(3) الأصل: “الاختيارية”. وهي ساقطة من (ف).
(4) الأصل: “الاضطرارية”. والمثبت من (ف) أشبه.
(5) (ف): “هو أن اضطرار”. سقط وتحريف.
(6) “كما قد أومأنا إليه” ساقط من (ف).
(7) الأصل: “كتابه”. والمثبت من (ف).
(9/120)
سواء السبيل، والحمد لله، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليمًا.
آخر ما وُجِد بخطه، ومنه نقل الإمام شمس الدين محمد ابن المحبِّ المقدسي الحنبلي تغمده الله تعالى برحمته، وقال: إنه وجده في دُرْجٍ، وفي ظهره مكتوبٌ ما صورته بخطه أيضًا:
الحمد لله.
وضلَّ بالأسباب خلقٌ كالتراب، كما هُدِي إلى حقيقتها أولو الألباب، فمِن هنا ضلَّ الطبائعيُّون القاصرون نظرَهم على الطبائع المخلوقة في الأجسام؛ إذ نسبوا إليها التأثيرَ على الكمال والتمام، والمنجِّمون الناظرون إلى حركة الكواكب والأفلاك، حين حسبوا أن لها في ذلك شِركًا من الأشراك، والصابئة الزائغون أبصارَهم إلى حقيقة (1) الأرواح، ولكن وقفوا عندها فحادوا عن سَنَن الفلاح.
وكان شيطانُ القدريَّة فيما رأوه من الحركات الاختيارية شيطانًا مَرِيدًا، فضلُّوا من حيث ظنُّوا الهدى ضلالًا بعيدًا.
وآخرون غلوا في مناقضة أهل البدع والضلال، فأفضى بهم الغلوُّ إلى سوء الحال، فسلبوا المخلوقاتِ ما فيها من القُوى والإرادات والطِّباع، حتى تجهَّموا فصاروا جبريَّة من أهل الابتداع.
ودينُ الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه.
واعلم أنه ما من عاقلٍ يقول مقالةً إلا ولا بدَّ أن تكون مشتملةً على شيءٍ
_________
(1) رسمت في الأصل: “حروره”. وأثبتُّ أشبه ما يحتمله الرسم من الصواب.
(9/121)
من الحق، حتى يقبلها قلبُه، وتُقْبَل عنه، كما يُقْبَلُ الدرهمُ الزائفُ بما فيه من الفضة، واللبنُ المَشُوبُ بما فيه من المَحْض، وإلا فلو خَلَصَ الباطلُ وتمحَّض لما خفي على من له أدنى مسكةٍ من عقل (1)، ومن هنا سُمِّيت الأباطيل “شبهات”؛ لمشابهتها الحقَّ ببعض الصفات (2).
فالقول الحقُّ أن الله سبحانه خلق الخلقَ كلَّهم، أوَّلهم وآخرَهم، وعاليَهم وسافلَهم، وأنه أحاط علمًا بدِقِّهم وجِلِّهم، وخفيِّهم وجليِّهم، وأنهم متساوون في الافتقار إليه، ومتكافئون في الاضطرار إليه، وأن رحمتَه وقدرتَه ومشيئتَه وعلمَه محيطٌ بجميعهم، وأن الأسباب بيديه سبحانه وتعالى بمنزلة الآلات والأدوات في أفعال العباد من بعض الوجوه، ولله المثل الأعلى.
فالكاتبُ والصانعُ يفعله بقلمه وقَدُومِه وسيفه وسوطه وعصاه، فيقال: كتبَ بقلمه، وضربَ بعصاه، فلا يضافُ الفعلُ إلى الأداة، ولا يُجْعَلُ وجودُها كعدمها، لكن الله سبحانه لو شاء لفعل بلا آلة، لكن في الآلات أنواعٌ من الحكمة، كما أنه لو شاء لابتدع الإنسان العظيم في لمح البصر، وإن كان إنما يخلقه على وجه التدريج.
وعلى هذا السياق جاء القرآن، قال سبحانه: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [النحل: 65]، {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [المؤمنون: 18]،
_________
(1) انظر: “درء التعارض” (1/ 209، 2/ 104، 7/ 170)، و”تنبيه الرجل العاقل” (5، 6)، و”الاستقامة” (1/ 416، 455)، و”الانتصار لأهل الأثر” (43، 74)، و”مجموع الفتاوى” (8/ 37)، و”جامع الرسائل” (2/ 317).
(2) انظر: “منهاج السنة” (5/ 167).
(9/122)
{فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60]، {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، إلى غير ذلك من الآيات؛ فبيَّن سبحانه أنه يُنزِلُ الماء بالسحاب، وأنه يُنبِتُ الأشجار بالماء.
قال الإمام شمس الدين محمد ابن المحب المقدسي الحنبلي: إلى هنا وجدتُ بخطِّ شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني – رضي الله عنه -. ومن خطِّ الإمام شمس الدين محمد ابن المحب المقدسي الحنبلي نقلتُ. علَّقه الفقير محمد بن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحيم بن علي بن حاتم بن عمر بن محمد بن يوسف بن أحمد بن محمد, من ولد عبد الرحمن بن سعد بن عبادة سيد الخزرج, الأنصاري الحرَّاني الشهير بابن الحبَّال الحنبلي، سبط سبط الشيخ محمد بن قوام الصالحي، لطف الله تعالى بهم وعفا عنهم، في نهار السبت ثالث شهر رجب الفرد الأصب من شهور سنة ثلاث وتسعين وسبعمئة أحسن الله تقضِّيها.
(9/123)
فصل
في الكلام على حديث
“اللهم إني عبدُك ابن عبدُك ابن أمتك … “
(9/125)
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية – رضي الله عنه -:
فصل
الدُّعاء الذي رواه الإمام أحمد – رضي الله عنه – وغيره، ورواه ابنُ حبان في صحيحه، عن ابن مسعودٍ – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ما أصاب عبدًا قطُّ همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدُك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلِّ اسمٍ هو لك، سمَّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجِلاءَ حزني، وذَهَابَ همِّي وغمِّي= إلا أذهبَ الله همَّه وغمَّه، وأبدله مكانه فرحًا”، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلَّمه؟ قال: “بلى، ينبغي لمن سمعه أن يتعلَّمه” (1).
_________
(1) أخرجه أحمد (3712)، وصححه ابن حبان (972) من حديث أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن جده، وحسنه ابن حجر في “نتائج الأفكار” (4/ 100)، وصححه ابن القيم في مواضع من كتبه. انظر: تعليقي على “الوابل الصيب” (298).
والراجح ثبوت سماع عبد الرحمن من أبيه، وأبو سلمة قال غير واحدٍ من الحفاظ المتأخرين: “لا يدرى من هو”. انظر: “الميزان” (4/ 533)، و”اللسان” (9/ 84)، و”تعجيل المنفعة” (2/ 471). وفاتهم قول شيخ الصنعة يحيى بن معين في “التاريخ” (3/ 442 – رواية الدوري): “أراه موسى الجهني”، وهو ثقة، واستقربه الشيخ أحمد شاكر في شرح “المسند” (5/ 267) بفطنته، وقرينة تعيينه في “السلسلة الصحيحة” (199)، وهذا أشبه بالصواب مما في التعليق على “مسند أحمد” (6/ 248 – طبعة الرسالة)، و”موارد الظمآن” (7/ 406).
وتوبع من وجهٍ مضطرب لا يصح. انظر: “علل الدارقطني” (5/ 201).
وله شاهدٌ بإسنادٍ ضعيف من حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – عند ابن السني في “عمل اليوم والليلة” (340).
(9/127)
هذا الحديث فيه فوائد:
* منها: أن أسماء الله تعالى أكثر من تسعة وتسعين اسمًا؛ فإن قوله في الحديث الصَّحيح: “إن لله تسعةً وتسعين اسمًا، مئةً إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة” (1)، إنما أراد المُحْصَى (2)؛ لقوله: “من أحصاها”، كما يقال: عندي مئة غلامٍ أعددتهم للجهاد. وهذا قول الأكثرين، كالخطابي وغيره (3). وقد قيل: إنه ليس لله إلا تسعةٌ وتسعون اسمًا. وهو قول ابن حزم (4).
* ومنها: أن في الحديث تنبيهًا على أصلي الصفات والقدر، والتوحيد والعدل.
فإن قوله: “بكلِّ اسمٍ هو لك، سمَّيت به نفسك” دليلٌ على أنه سبحانه يسمِّي نفسه بأسماء ليست مخلوقةً من صنع الآدميين.
_________
(1) أخرجه البخاري (2736)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(2) أي: المحصى من الأسماء. والعبارة في الأصل: “اما المحصى”، ولعل المثبت أشبه.
وعبَّر عنها ابن القيم في “شفاء العليل” (758) ــ وقد اعتمد – رحمه الله – على هذا الفصل ولخصه ونقل كثيرًا من ألفاظه ــ فقال: “فقوله: إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة، لا ينفي أن يكون له غيرها، والكلام جملة واحدة، أي له أسماء موصوفة بهذه الصفة”. وانظر تقرير المعنى وبسطه في “درء التعارض” (3/ 332)، و”الجواب الصحيح” (3/ 223)، و”مجموع الفتاوى” (6/ 381، 22/ 486).
(3) انظر: “شأن الدعاء” للخطابي (24)، و”الأسنى” للقرطبي (10)، وشرح البخاري لابن بطال (10/ 141)، وشرح مسلم للنووي (17/ 5)، و”فتح الباري” (11/ 220).
(4) انظر: “المحلى” (1/ 50)، و”الفصل” (2/ 126)، و”الدرة” (242).
(9/128)
وكذلك قوله: “أو استأثرت به في علم الغيب عندك” دليلٌ على أن من أسمائه ما لا يعلمه غيرُه.
وهذا يدلُّ على تكلُّمه بأسمائه، واختصاصِه بذلك.
وعند الجهميَّة القائلين بخلق القرآن لا يقوم به كلامٌ، ولا يتكلَّم، بل إذا خاطب غيرَه خلق في الهواء كلامًا؛ فلا يُتَصَوَّر عندهم أن يكون له كلامٌ اختصَّ به عن أسماع المخلوقين.
ولهذا كان قوله أيضًا: “من ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي” (1) حجةً عليهم أيضًا.
* وقوله: “أو أنزلتَه” “أو علَّمتَه” “أو استأثرتَ به” هو تفصيلٌ لما سمَّى به نفسه؛ فإن ما سمَّى به نفسه إما أن يُعْلِمَه أحدًا بخطابٍ أو كتاب، أو لا يُعْلِمَه أحدًا، بل يستأثر به في علم الغيب عنده.
وإن كان الحديث بلفظ “أو” فإن “أو” حرف عطف، والعطفُ قد يكون للخاصِّ على العام، كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] , وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] , وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] , وقوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8].
* وقوله: “ربيع قلبي”، الربيع: هو المطر الذي يُنْبِتُ ربيعَ الأرض،
_________
(1) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(9/129)
فسأل أن يجعل القرآن ماءً ونورًا لقلبه، فيحيى به قلبُه كما تحيى الأرض بوابل السَّماء، وينوِّر الله به قلبه (1).
والحياة والنور جماعُ الخير، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122].
ولهذا ضرب الله مثل الإيمان بالماء والنار في قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} الآية [الرعد: 17].
وضرب مثل المنافقين بما انطفأ ضوؤه، وبالصيب الذي فيه رعدٌ وبرق، فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} الآية [البقرة: 17 – 19].
* ثم لما ذكر تحصيلَ الخير ذكر دفعَ الشر، فقال: ” وجلاء حزني، وذهاب همِّي وغمِّي”، والفرق بينهما: أن الحزنَ يتعلَّق بالماضي، والهمَّ يتعلَّق بالمستقبل، والغمَّ يتعلَّق بالحاضر (2).
* وقوله: “ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤك”, ردٌّ على طائفتي المعتزلة والجهميَّة، ويدخل في ذلك القدريَّة، ومِن غلاة أهل الإثبات المُجْبِرةُ ونحوهم؛ فإن القدريَّة تنكر أن يقدر الله على تغيير أعمال عباده، أو
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (18/ 310)، و”جامع المسائل” (8/ 106).
(2) انظر: “شفاء العليل” (750)، و”الفوائد” (37)، وما سيأتي (ص: 209).
(9/130)
هدايتهم أو إضلالهم، بل تنكر أن يقدر على ما به يهتدي العبد غير ما خلقه فيه (1).
فقوله: “ماضٍ فيَّ حكمُك” اعترافٌ بنفاذ حكم الله فيه، وأنه ما شاء الله به فَعَله، لا مخرج له عن حكمه.
ومعلومٌ أنه لم يُرِد مجرَّد الأمر والنهي الشرعيَّين؛ فإن العبد قد يطيع تارةً ويعصي أخرى، وإن كانت الطاعة واجبةً عليه، بل أراد الحكم القدريَّ الكونيَّ الذي هو كلماته التاماتُ التي لا يجاوزهنَّ برٌّ ولا فاجر.
فهذا يبيِّن أن حكم الله القدريِّ ماضٍ في العباد، وهو ردٌّ على القدريَّة الذين لا يُنفِذون له مشيئة، ولا يجعلون له على ذلك قدرة.
ثم قوله بعد ذلك: “عدلٌ فيَّ قضاؤك” دليلٌ على أن الله عادلٌ فيما يفعله بالعبد من القضاء كلِّه، خيره وشرِّه، حُلوه ومرِّه.
فجمع في الحديث الإيمانَ بالقدر، والإيمانَ بأن الله عادلٌ فيما قضاه، وهذا ردٌّ على الطائفتين:
أما القدريَّة، فعندهم لو كان حكمُه فيه ماضيًا لكان ظالمًا له بإضلاله وعقوبته.
وأما أندادُهم من الجبريَّة ونحوهم، فيقولون: الظلم لا حقيقة له، بل هو الممتنعُ الذي لا يدخل تحت القدرة، فلا يَقْدِر الله عندهم على ما يسمَّى
_________
(1) الأصل: “على ما به يهتدي غير ما خلق”، والمثبت من “شفاء العليل” (753) أقوم بالمراد.
(9/131)
ظلمًا حتى يقال: تَرَك الظلمَ وفَعَل العدل؛ فيكون قوله: “عدلٌ فيَّ قضاؤك” كلامًا لا فائدة فيه عندهم، بل هو بمنزلة “ماضٍ فيَّ حكمُك”، ولا يكون سبحانه ممدوحًا بفعل العدل!
والحديث دليلٌ على الثناء على الله بأنه مع كمال قدرته فإنه عادلٌ في قضائه، كما قال: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن: 1] , فهو له الملك، وله الحمد، ولهذا كان مستحقًّا للحمد على كلِّ حال.
ولو كان الظلمُ عبارةً عما لا يَقْدِر عليه لم يُمْدَح ويُثنى عليه بترك ما لا يَقْدِر عليه، كما لا يقال: لك الحمدُ إذ لم تَخْلُق مثلَ نفسك، ولك الحمدُ إذ لم تُعْدِم ذاتَك. والمُجْبِرة عندهم تركُه للظلم من هذا الباب، وعدلُه هو مجرَّد الخلق؛ فيكون قوله: “عدلٌ فيَّ قضاؤك” عندهم: أي موجودٌ فيَّ قضاؤك، أو ثابتٌ فيَّ قضاؤك. وهذا معنى قوله: “ماضٍ فيَّ حكمُك”.
فعُلِم أن معنى حكمه يعود إلى قدرته ونفاذ مشيئته، وعدله في قضائه يعود إلى أنه يشاء ويختار ما هو عدلٌ لا ما هو ظلم، وأنه لا يشاء أن يَظْلِم، ولا يريد ذلك، ولا يختاره، وهو محمودٌ على ذلك، وإن كان لو شاءه لكان قادرًا عليه، كما لا يشاء ما أخبر أنه لا يكون، وعُلِم أنه لا يكون، وإن كان قادرًا عليه.
كما أخبر في غير موضعٍ من كتابه أنه لو شاء لفعل غير ما فعل، فقال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4] , وقال تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 17].
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ
(9/132)
أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65]، ومنها أمران لا يكونان، وهو العذاب من فوقهم، ومن تحت أرجلهم، كما ثبت في الصَّحيح (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قرأ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}، فقال: “أعوذ بوجهك”،
{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، فقال: “أعوذ بوجهك”، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، فقال: “هاتان أهون”.
والحكمُ هو الأمر، وهو أمرُ التكوين، فمعناه هو بوجود المأمور به الذي قيل له: “كن” فيكون.
وأما القضاء، فهو الإكمالُ والإتمام، كما قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] , وقال الشاعر (2):
وعليهما مَسْرُودتان قَضَاهما … داودُ أو صَنَعُ السَّوابغِ تُبَّعُ
وذلك هو كمال الوجود المخلوق، فلا بد من كونه واقعًا على العدل، كما قال: {خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7].
وفرَّق – صلى الله عليه وسلم – بين لفظي “القضاء” و”الحكم”، ووصَفَ الحكمَ بالنفاذ، والقضاءَ بالعدل (3)؛ لأن القضاء هو الإكمال والإتمام لما يخلقُه، فوصَفه
_________
(1) “صحيح البخاري” (4628) من حديث جابر – رضي الله عنه -.
(2) أبو ذؤيب الهذلي، من عينيته الذائعة. في “ديوان الهذليين” (1/ 19)، و”المفضليات” (428).
(3) انظر: “الفوائد” لابن القيم (33).
(9/133)
بأنه بعد كماله وتمامه عدلٌ لا ظلمَ (1) فيه.
وأما الحكمُ فهو مبدأ التكوين، مثل كونه يقول للشيء: “كن” فيكون، فهذا إذا كان نافذًا لا يردُّه شيءٌ كان دالًّا على كمال القدرة.
فوصَفَه بكمال القدرة، وكمال العدل؛ فإن العدلَ شاملٌ لكل ما خلقه، والقدرةَ متناولةٌ لكل ما شاءه.
ووصَفَ العدلَ بالتمام والكمال؛ لأن العدل المطلوب هو الغاية والنهاية.
وكلا الأمرين: القضاء، والعدل، يتعلَّقُ بالنهاية والعلَّة الغائيَّة، وهما متعلِّقان بإلهيَّته تعالى.
وأما الحكمُ فهو نَفَاذ مشيئته.
فهذا متعلِّقٌ بقدرته، وهذا متعلِّقٌ بربوبيَّته؛ فدلَّ الحديثُ على كماله في ربوبيَّته، وأنه له الملك كلُّه، وعلى كماله في إلهيَّته، وأنه له الحمدُ كلُّه، وأن إلهيَّته متضمنةٌ لربوبيَّته، كما أن ربوبيَّته مستلزمةٌ لإلهيَّته، كما أن قضاءه متضمنٌ لحُكْمِه، كما أن حُكْمَه مستلزمٌ لقضائه.
ولما كانت الإلهيَّة متضمنةً للربوبيَّة كان اسمُه الذي هو “الله” مقدَّمًا على الاسم الذي هو “الربُّ”، وكان بذلك الاسم يُذْكَر، ويُثنى عليه، ويُسَبَّح، ويُحْمَد، ويُكَبَّر في الصلوات والأذان، وغير ذلك.
ولهذا كان سبحانه يقرنُ بين اسمي: القدرة، والحكمة، كقوله: {وَهُوَ
_________
(1) الأصل: “يظلم”. والمثبت أشبه.
(9/134)
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) [إبراهيم: 4] , وقوله: {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] , وقوله: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40] , وقوله تعالى: {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان: 26].
والعزَّة خصوصٌ في القدرة، كما أن الحكمة خصوصٌ في الإرادة … (2) وهو متضمنٌ للعلم.
ولا يكون حكيمًا إلا من أراد ما ينبغي أن يُرَاد، لا من كان يستوي عنده إرادةُ كلِّ شيء، ولا يكون حكيمًا إلا من أمر بما ينبغي أن يُؤمر به، ونهى عما ينبغي أن يُنهى عنه، لا من كان يستوي عنده الأمرُ بكلِّ شيء، والنهيُ عن كلِّ شيء. كما لا يوصفُ بأنه حكيمٌ إلا من كان صادقًا في خبره، لا من يستوي عنده الإخبارُ بالصدق والكذب.
والعزيزُ من العِزَّة، والعربُ تقول: “عَزَّ يَعَزُّ” ــ بالفتح ــ إذا صَلُبَ، و”عَزَّ يَعِزُّ” ــ بالكسر ــ إذا امتنع من غيره، و”عَزَّ يَعُزُّ” ــ بالضم ــ إذا غَلَبَ غيرَه، كقوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]؛ فأقوى الحركات لأقوى المعاني، وهو الضمُّ. وأوسطُها لأوسطها، وهو الكسر. وأخفُّها لأخفِّها، وهو الفتح (3).
_________
(1) الأصل: “وهو العزيز الحميد”، وهو سبق قلم أو تحريف.
(2) كلمة مشتبهة في الأصل، رسمت هكذا. ولا وجه لذكر الكلام هنا.
(3) انظر: “منهاج السنة” (3/ 325)، و”الفتاوى” (14/ 180، 16/ 538، 20/ 421). وبسط هذا البحث ابن القيم ونسبه لشيخ الإسلام في “جلاء الأفهام” (147). وانظر: “طريق الهجرتين” (231)، و”مدارج السالكين” (3/ 241).
(9/135)
والأخفُّ (1) ــ وهو قولهم: “عَزَّ يَعَزُّ” بالفتح ــ يتضمَّن القدرة، فكيف بالثاني والثالث؟! والله أعلم.
آخر ما وُجِد منها بخط الشيخ رحمه الله تعالى، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه.
_________
(1) الأصل: “وهو الأخف”، وأحسبه من سهو الناسخ.
(9/136)
فصلان
في الإنذار ولوازمه والخوف والرجاء والشفاعة
(9/137)
فصل
وإذا كان الإنذار لا بدَّ فيه من شيئين:
* الإعلام بالمَخُوف.
* والإعلام بسبيل النجاة منه.
فمعلومٌ أن الأول هو الوعيد، وهو مستلزمٌ للوعد الصَّريح (1) أو اللازم وهو التبشير. والثاني هو الأمر والنهي؛ لأن النجاة من العذاب بأداء الواجبات وترك المحرمات.
فصارت هذه الأصول الأربعة: الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، لازمةً لا بدَّ منها في الإنذار الذي لا بدَّ منه لبني آدم، وبذلك بعث الله الرسل جميعهم.
ولكن الأمر والنهي لا بدَّ للناس من معرفته مفصَّلًا؛ إذ قد يَحْتَاجُ إلى العمل، والعمل لا يكون إلا مفصَّلًا، لكن إنما يَحْتَاجُ إلى معرفة التفصيل فيما يجبُ عليه، وأما ما يجبُ مطلقًا فيكفي فيه العلمُ المجمل.
ولكن لا بدَّ أن يكون في الأمَّة من يدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما أوجب الله ذلك، وهذا لا يكونُ إلا إذا علموا ما يدعون إليه ويأمرون به وينهون عنه مفصَّلًا؛ إذ المجملُ لا يكفي عند الحاجة إلى الامتثال.
ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة،
_________
(1) الأصل: “للوعد والوعيد الصريح”. وزيادة “الوعيد” من سهو الناسخ.
(9/139)
وإنما تنازعوا في تأخيره من حين الخطاب إلى حين الحاجة (1).
وأما العلمُ بالوعد والوعيد فقد يكفي فيه المجمل؛ فإنه إذا عَلِم أن هذا الفعل يكون سببًا للعذاب حصَل ذلك، فأما العلمُ بالوجوب والتحريم بدون الإيمان بأن المعصية سببُ العذاب فلا يحصِّلُ النجاة، وهذا الأصل هو من الإيمان بالوعد والوعيد، كما أن الأول من الإيمان بالأمر والنهي.
ومتى صدَّق العبد بذلك خاف عقوبة المعصية؛ فإن الحيَّ مجبولٌ على أنه يخاف ما يُجَوِّزُ وجودَه من الضرر، فإذا استشعر أن المعصية سببٌ للضرر خافَ، وهو يرجو مع ذلك السَّلامة من الضرر إذا أطاع، ولو لم يكن الرجاء مقرونًا بما يُجَوِّزُ وجودَه من النفع.
وإذا لم يقترن بالخوف رجاءٌ لم يكن خوفًا، وإنما هو يأسٌ (2) وقُنوطٌ،
و {لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، ولا {يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].
ومتى لم يقترن بالرجاء خوفٌ لم يكن رجاءً، وإنما هو أمنٌ، ولا {يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
ولهذا كان الرجاء والخوف واجبَين، وهما مُوجَبُ الوعد والوعيد، كما أن الطاعة والامتثال مُوجَبُ الأمر والنهي.
_________
(1) انظر: “المسوَّدة” (387 – 390، 392).
(2) الأصل: “يائس”. والمثبت أقوم.
(9/140)
وهما متلازمان؛ فكلُّ خائفٍ راجٍ مطيعٌ، وكلُّ مطيعٍ خائفٌ راجٍ (1)، كما أن كلَّ أمرٍ ونهيٍ فهو مستلزمٌ للوعد والوعيد، وكلَّ وعدٍ ووعيدٍ فهو مستلزمٌ للأمر والنهي.
فالمُعْرِض عن الخشية والرجاء عاصٍ، وقد يكون بعض ذلك ذنبًا، وقد يكون فسقًا، وقد يكون كفرًا، ولذلك أمر الله بهما، وأثنى على أهلهما، وذمَّ المعرضين عنهما، فقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55 – 56]، فأمر بدعائه، وأن يكون الداعي خائفًا طَمِعًا.
وقال تعالى لمَّا ذكر دعاء زكريا له، وإصلاحه زوجَه له، قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]، وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9].
وقال عن الملائكة والنبيِّين، كالمسيح وعُزَير: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الآية [الإسراء: 57].
_________
(1) انظر: “الانتصار لأهل الأثر” (50)، و”مجموع الفتاوى” (27/ 256).
(9/141)
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218].
وقال الخليل: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82].
وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر: 8]، وابتغاء ذلك هو طلبُه، وهو الرجاء في العمل.
فإن الرجاءَ قد يكونُ من باب المحبَّة والإرادة والطلب الذي يَتْبَعُ اعتقادَ جواز [وقوع] (1) المحبوب، والخوفَ من باب النفرة والكراهة والبغض الذي يَتْبَعُ اعتقادَ جواز وقوع المكروه.
ولهذا قيل: “من رجا شيئًا طَلَبه، ومن خاف من شيءٍ هَرَبَ منه” (2)، أي: من رَجَاه بقلبه طَلَبه بنفسه، ومن خافه بقلبه هَرَب منه.
_________
(1) ليست في الأصل، وكتب الناسخ في الطرة: “لعله كذا: وقوع”. وهو كما رجا، وسيأتي نظيره.
(2) روي مرفوعًا من حديث حذيفة – رضي الله عنه – عند ابن أبي الدنيا في “حسن الظن بالله” (132)، وأبي القاسم الأصبهاني في “الترغيب والترهيب” (505)، ومن حديث أنس – رضي الله عنه – عند الخطيب في “تلخيص المتشابه” (2/ 697)، ولا يصحُّ منهما شيء.
وأخرجه ابن المبارك في “الزهد” (305)، وأحمد في “الزهد” (1400)، وابن أبي الدنيا في “الوجل والتوثق بالعمل” (1)، وأبو نعيم في “الحلية” (2/ 292) وغيرهم عن مسلم بن يسار. وهو في “الحنائيات” (253) عن المضاء بن عيسى. وينسبُ إلى عليٍّ – رضي الله عنه – في كتب الأدب.
(9/142)
وقد يكونان من باب الاعتقاد والظنِّ، كما يقال: أخاف أن لا يُقْبَل، وأرجو أن يُتقبَّل مني، وأرجو أن لا يأمره بهذا، وأرجو أن لا يكون فلانٌ مؤمنًا، وأخافُ أن يكون عدوًّا.
وفي الجملة، فالرجاء والخوف متضمِّنٌ (1) للتجويز في الاعتقاد الذي يكونُ ظنًّا وأقوى وأضعف، وللمحبة والبغض التابع لذلك الاعتقاد، فهو مشتملٌ على جنس الظنِّ والإرادة معًا (2).
ولهذا قال: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2]، وقال: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، وكذلك قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]، وقوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19 – 20]، وقوله تعالى: { … مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152].
وكذلك ما في القرآن من المسألة والدعاء، ومن التوكُّل على الله والاستعانة به، وكلُّ ذلك متضمِّنٌ للرجاء.
وقد ذمَّ الله تعالى من لا يرجو رحمة الله، فقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا
_________
(1) الأصل: “يتضمن”. والمثبت أولى بالصواب. والإفراد من باب الحمل على المعنى، وهو سائغٌ في العربية، ومألوفٌ في أسلوب المصنف.
(2) انظر: “جامع المسائل” (8/ 90)، و”درء التعارض” (6/ 47).
(9/143)
رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9]، وقال تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].
وقال عن يعقوب: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} الآية [يوسف: 87].
وقال تعالى عن إبراهيم: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} لمَّا قالت له الملائكة: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 55 – 56].
وقال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} الآية [الفتح: 12]، وقال: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} الآيتين [الأحزاب: 10 – 11].
وكذلك ذَمَّ من لا يخشاه، وأمَر بخشيته دون خشية الخلق، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150]، وقال تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران: 175]، وقال: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41]، وقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) [آل عمران: 175]، وقال: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 3]، [وقال:] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} إلى قوله:
_________
(1) كذا تكرر الاستشهاد بالآية في الأصل.
(9/144)
{إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77]، وقوله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 13].
وقال في التوراة: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} إلى قوله: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} الآية [المائدة: 44].
وقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، وقال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52]، وقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [فاطر: 18]، وقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11]، وقال: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} (1) [الأعلى: 10]، وقال: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45].
وقال عن أهل الجنة: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: 26].
وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} الآية [المؤمنون: 60]، وقال:
{وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]، وقال:
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 – 41]، وقال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وقال: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:
_________
(1) الأصل: “إنما يتذكر من يخشى”. وهو سهو من المؤلف أو الناسخ.
(9/145)
16]، وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} إلى قوله: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 50 – 51]، وقال: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} الآية [لقمان: 33]، وقال:
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33].
فصل
الرجاء والخوف قد يتعلَّقان بما بعد الموت من النعيم والعذاب، وقد يتعلَّقان بما يكون في الدنيا من نعيمٍ أو عذاب. وكذلك الوعدُ والوعيد، يتعلَّقان بما بعد الموت، ويتعلَّقان بما في الدنيا.
ولهذا يجمعُ الله سبحانه بين قصص الأمم المتقدِّمين التي فيها عبرةٌ [وبين ذِكر هذين الأمرين؛ فيَذْكُر] (1) من الخوف والرجاء ما يتعلَّق بالدنيا، ويَذْكُر ما في الآخرة من الثواب والعقاب، كما فعل ذلك في غير سورة (2).
فكلٌّ منهما قد يتعلَّق بفعل، مثل أن يرجو الثوابَ ويخاف العقاب على حسناته وسيئاته (3).
وقد يكون متعلِّقًا بغير فعله، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد: 12]، فقد قيل: “خوفًا للمسافر، وطمعًا للمُقِيم” (4).
_________
(1) ما بين المعقوفين بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات، وأتممته بما يلائم السياق.
(2) انظر: “الاستقامة” (2/ 236).
(3) يرجو الثواب على حسناته ويخاف العقاب على سيئاته.
(4) روي عن قتادة عند ابن جرير (13/ 475، 18/ 480) وغيره.
(9/146)
وكلٌّ من الرجاء والخوف لا يجوز تعليقُه إلا بالله.
وقد تقدمت آيات الخوف.
وكذلك آياتُ الرجاء، مثل قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت: 17]؛ فإن ابتغاء الرزق هو من الرجاء.
وكذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؛ فإن المستعين راجٍ.
وكذلك قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]؛ فإن التوكُّل رجاءٌ وزيادة.
وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2].
وكذلك [ما وَرَد] (1) من أنه لا يُدْعى إلا الله، ولا يُستعان إلا به.
وبينهما (2) فرقٌ من وجهٍ آخر (3)، كما قال عليٌّ عليه السلام: “لا يرجونَّ عبد إلا ربَّه، ولا يخافنَّ عبد إلا ذنبه” (4).
_________
(1) زيادة تقديرية يقتضيها السياق.
(2) الرجاء والخوف. وفي الأصل: “بينهما”. والمثبت أولى.
(3) انظر: “طريق الهجرتين” (619 – 620).
(4) أخرجه معمر في “الجامع” (21031 – المصنف لعبد الرزاق)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (35645)، وغيرهما في سياقٍ طويل من طرقٍ كثيرة خيرها طريقا أبي إسحاق وعكرمة عن علي – رضي الله عنه -، ولم يدركاه.
ولشيخ الإسلام جوابٌ مبسوط في شرحه، ذكره ابن عبد الهادي في “العقود الدرية”
(107)، وهو في “مجموع الفتاوى” (8/ 161 – 180).
(9/147)
فإن الرجاء بفضل الله ورحمته، وإن كان العبد قد فعَل عملًا صالحًا، فإن العمل الصالح غايته أنه سببٌ للخير، ولو أقام الله سببًا أكملَ منه للخير لكان (1) الواجبُ على العبد أن لا يرجو إلا رحمة الله، ولا يتوكَّل إلا عليه، لا على الأسباب المخلوقة؛ فإنه سبحانه خالقُها وخالقُ العمل الصالح وسائر الأسباب، ومع هذا فليس من الأسباب ما هو موجِبٌ لا محالة إلا بمشيئة الله تعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فما من سببٍ يلتفتُ إليه العبد [إلا] (2) وهو يقفُ على شروطٍ ويتخلَّفُ عنه لموانع، فالعمل الصالح قد يَحْبَط، وقد يكون له من السيئات ما يعارضه، وقد لا يكون في نفسه صالحًا؛ لكون العبد لم يتَّقِ الله فيه.
وسائر ما ينظر إليه في أمر الرزق والنصر والهدى شأنُه كذلك، فليس في الأسباب ما هو مستقلٌّ، وهي جميعُها من الله وحده لا شريك له، لا قيام لها إلا بمشيئة الله وقدرته.
فـ “لا حولَ” وهي الحركة والتحوُّل من حالٍ إلى حال، و”لا قوَّة” على ذلك الحَوْل إلا به، سواءٌ في ذلك الحولُ والقوَّة الموجود (3) في السَّماء، والأرض، والآدميِّين، والملائكة، والجنِّ، وسائر الدوابِّ، وغيرها.
_________
(1) الأصل: “لكن”، وليس من عادة الناسخ إسقاط الألف.
(2) بياض في الأصل. وبما أثبت يستقيم السياق.
(3) كذا في الأصل بالإفراد، وسبق نظيره.
(9/148)
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 – 23]، فليس لغيره مِلْكٌ ولا شِرْكٌ في مِلْك، فلا مَلِيك غيرُه، ولا شريك له، وهذان (1) الصنفان هما اللذان لهما مِلْكٌ إما كاملٌ وإما مُشَاع. ومن ليس له مِلْكٌ فإما أن يكون عونًا للمالِك، كالوكلاء، والأُجَراء (2)، والغلمان، والجند، والأولياء، وإما أن يكون سائلًا طالبًا منه؛ لأنه إما أن ينفع المالكَ فيكون له عليه حقٌّ، وإما أن لا ينفع لكن يسأله، فأخبر سبحانه أنه ليس له من المخلوقات ظهير.
وأما مسألة الشفاعة، فلم يَنْفِها، لكن أخبر أنها لا تنفعُ إلا لمن أذن له في الشفاعة له، فنفعته الشفاعة (3)، وإلا فلا.
وهذا بخلاف الشفعاء للمخلوقين، فإنهم قد يشفعون لمن لم يؤذن لهم في الشفاعة له، وقبل استئذان المشفوع إليه.
وهذا كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وكقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} الآية [يونس: 3].
_________
(1) الأصل: “هذان”.
(2) الأصل: “والوجراء”، وأحسبه من سبق القلم مشاكلة للفظ “الوكلاء” الذي قبله. ولم أجد لفظ “الوجراء” مستعملًا عند المصنف أو غيره.
(3) كذا في الأصل.
(9/149)
وهذا يوجبُ انقطاع تعلُّق القلوب بغيره، ولو كان ملَكًا أو نبيًّا، فكيف بالمشايخ، والعلماء، والملوك، والأغنياء؟! فإن غاية الراجي لهم، المعتمد عليهم، أن يقول: هم يشفعون لي. فقد أخبر أنه ما من شفيعٍ إلا من بعد إذنه، وأنكر أن يشفع أحدٌ إلا بإذنه، وأخبر أن الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن له.
ولهذا إذا جاء سيِّد الشفعاء يوم القيامة إلى ربه، ورآه سَجَد وحَمِدَه بمحامد يفتحُها عليه، لا يبتدي بالشفاعة حتى يقال له: “أي محمَّد، ارفع رأسَك، وقُل يُسْمَع، وسَلْ تُعْطَه، واشفَع تُشَفَّع” (1).
وبهذا تتبيَّن الشفاعة المنفية يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 48]، وكذلك نظيرُه في الآية الأخرى [البقرة: 123]، وقال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، وقال: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].
وذلك أن الإنسان في الدنيا يُحَصِّلُ ما ينفعُه إما بمعاوضةٍ وإما بغير معاوضة، فالمعاوضة هي البيعُ، [والعَدْلُ من المعاوضة] (2)؛ فإنَّ عَدْلَ الشيء ما عادله من [غير] (3) جنسه، وهي الفدية، كما قال: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95].
_________
(1) أخرجه البخاري (4476)، ومسلم (193) من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -.
(2) ما بين المعقوفين بياض في الأصل بمقدار أربع كلمات، وأتممته بما يلائم السياق.
(3) زيادة ضرورية سيأتي ما يدل عليها. وانظر: “اقتضاء الصراط المستقيم” (2/ 394)، و”مجموع الفتاوى” (17/ 137، 208).
(9/150)
وهذا أجود من قول من قال في قوله: “لا يُقْبَل منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ” (1): إن الصَّرْفَ هو [التطوُّع، والعدلَ: الفريضة.
بل الصَّرْفُ هو] (2) التوبة، وهو صَرْفُه وانصرافُه عن الذنب، والعَدْل: النظير، وهو الفداء والعِوَض من غير الجنس؛ فإن التوبة من جنس السيئة، والعَدْل من غير جنسها، ولهذا لما كانت التوبةُ تبديلَ السيئة بجنسها جعل الله للتائب مكان كلِّ سيئةٍ تاب منها حسنة (3)، فكأنه قال: لا يُقْبَل منه البدلُ، لا بجنسه وهو الصَّرْف، ولا بغير الجنس وهو العَدْل.
ولهذا شَرَع الله ما يمحو السيئات تارةً صَرْفًا، وهو التوبة. وتارةً عَدْلًا، وهو الحسناتُ الماحية، كالكفَّارات المشروعة لذنوبٍ معيَّنة، أو للذنوب المطلقة، فإن الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تكفِّر فتنة الرجل في أهله وماله وولده، كما نطق بذلك حديثُ حذيفة الذي في الصَّحيح (4).
فأخبر سبحانه أنه يوم القيامة لا يُحَصِّلُ ما ينفعه، ويدفعُ ما يضرُّه، لا بمعاوضةٍ وهي البيع والعَدْل، ولا بغير معاوضة؛ لأن غير المعاوضة إما أن يكون مِن عند الباذِل (5)، وإما أن يكون سائلًا لها من غيره.
_________
(1) أخرجه البخاري (1870)، ومسلم (1370) من حديث علي – رضي الله عنه -.
(2) ما بين المعقوفين لعله سقط على الناسخ لانتقال نظره، وإثباته ضروريٌّ لاستقامة السياق. وانظر: “معالم السنن” للخطابي (4/ 22)، و”المعلم” للمازري (2/ 118).
(3) انظر: “طريق الهجرتين” (544).
(4) أخرجه البخاري (525)، ومسلم (144).
(5) الأصل: “الرجل”. تحريف. وستأتي على الصواب.
(9/151)
والتي مِن عنده أعلى مراتبها أن يكون خليلًا له، وهو الكاملُ في محبَّته، التي تخلَّلت محبَّتُه كلَّه (1)، كما قيل:
قد تخلَّلتَ مَسْلَكَ الرُّوح مني … وبذا سُمِّيَ الخليلُ خليلا (2)
فيبذلُ له ما ينفعُه، ويَدفعُ عنه ما يضرُّه، بلا عِوَض.
فنفى سبحانه أن يكون هناك خُلَّة (3)، وهو تنبيهٌ على انتفاء ما سواها بالعموم بالفحوى.
ونفى في الأخرى (4) بصيغة العموم اللفظي، فقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}، وهو في معنى قوله: {وَلَا خُلَّةٌ}، فهذا الباذِلُ من عنده. والطالبُ من غيره وهو الشفيع، فقال: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}، وقال: {وَلَا شَفَاعَةٌ}.
فالآيتان سواء، وهما جامعتان للأنواع نوعًا نوعًا.
_________
(1) كذا في الأصل. وانظر: “منهاج السنة” (5/ 351)، و”مجموع الفتاوى” (10/ 67، 203).
(2) البيت لأبي بكر الشبلي في “عَطف الألِف المألوف” للديلمي (42). ولبشار في “أدب الدنيا والدين” (161)، وتفسير القرطبي (5/ 400) وغيرهما، وجزم بصحة نسبته الطاهر بن عاشور في ملحقات ديوانه (4/ 139). وللبحتري في إحدى نسخ ديوانه (1912). وبلا نسبة في “معاني الأخبار” للكلاباذي (276)، و”المنتخل” (801)، و”الدر الفريد” (4/ 300)، ومصادر كثيرة.
(3) آية البقرة: 254.
(4) آية البقرة: 48.
(9/152)
وهذا مِن معنى كون القرآن متشابهًا مثاني، ومِن معنى كونه من جوامع الكَلِم، ومِن معنى أنه أُحْكِمَت آياتُه ثم فُصِّلَت، ومِن معنى كونه ضُرِبَ فيه من كلِّ مثل.
وهو كما قال ابن عباس: ” فيه الأقسام والأمثال” (1).
فالأمثال (2): الأمور المتشابهة المتماثلة. ويُضْرَبُ لها المثلُ بقياس الشَّبه، والتمثيل، وقياس الشمول.
والأقسام: هي الأصنافُ والأنواع المختلفة، وهي التي تُثَنَّى أي: تُعَدَّد وتُقَسَّم، فتُذْكَر كلمةٌ بعد كلمة، واسمٌ بعد اسم، بخلاف المتشابهة، فإنه يجمعها اسمٌ واحدٌ وكلمةٌ واحدة. ويُضْرَبُ لها المثلُ بقياس التقسيم والتفصيل (3).
ومثل هؤلاء الآيات قوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70].
فلما نفى سبحانه أن يُقْبَل في الآخرة من النفس الشفاعة، وأخبر أنه لا شفاعة في ذلك اليوم، [بيَّن أنه في من قُبِلت شفاعتُه] (4) هو الآمرُ بالشفاعة،
_________
(1) أخرجه ابن جرير (5/ 193) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
(2) الأصل: “فالاشباه”. تحريف.
(3) الأصل: “والتفضل”. تحريف.
(4) ما بين المعقوفين بياض في الأصل بمقدار أربع كلمات، وأتممته بما يلائم السياق.
(9/153)
وأَذِنَ له فيها، ففي الحقيقة ليس هو شفيعًا، وإنما هو عبد مطيع (1).
يبيِّن ذلك أن “الشفاعة” سُمِّيت بذلك لأن الشفيع يصيرُ شَفْعًا للطالب، فإنه يكون طالبًا لأمرٍ، فإن أعانه آخرُ صار شافعًا (2)، والشفيعُ كالمُعِين والنصير، وهذا في الدنيا يُفْعَلُ ابتداءً، وأما في الآخرة فلا مُعِين ولا نصير إلا بأمر الله، فلا فرق بين الذي هو يشفعُ بإذنه وبين سائر جنود الله الذين لا يفعلون إلا بإذنه، والذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
وهكذا قولُ المشركين: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 97 – 101]، فإن الصديق الحَمِيم هو مِثل الخليل، ومثل قوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]، ومثل قوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33].
والله سبحانه بيَّن [أنَّ] ذلك يوم القيامة؛ لأنه في الدنيا قد خلق أسبابًا تعلَّق بها كثيرٌ من الناس، وأشركوا بها خالقَها، وأعرضوا عنه، واتخذوا عباده من دونه أولياء، ونازعه المستكبرون الربوبيَّة والإلهيَّة، ونازعوه العظمة والكبرياء، فوقع الإشراك من الأتباع والمتبوعين.
فإذا كان يومُ القيامة، ونادى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، لم يبق أحدٌ يدَّعي ذلك، فهو مالكُ يوم الدين، الذي كان يكذِّبُ به
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (1/ 118)، و”إغاثة اللهفان” (398 – 400).
(2) انظر: “الصفدية” (2/ 291)، و”مجموع الفتاوى” (1/ 278، 28/ 300).
(9/154)
الكافرون، حيث يقول: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الانفطار: 9].
والأمر يومئذٍ لله وحده، فلا أحد يظنُّ أو يدَّعي أن له أمرًا أو شِرْكًا في أمر، بل باتفاق الخلق كلِّهم أن ذلك كلَّه لله، وإن كان في الدنيا ينازعونه ويشركون به.
والمستحِقُّ للحقِّ إذا نازعه المُبْطِلون، ثم سلَّموا له حقَّه، فهو في الموضعين قد (1) كان حقَّه، لكن حقٌّ مُسَلَّمٌ، أو حقٌّ ينازِع فيه المُبْطِلُ أو يدَّعيه لنفسه.
فأما شفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم -، وشفاعة غيره يوم القيامة، فهي بأمره وإذنه، وهي منه لا من الشافع، فلا يشفعون إلا بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فلا يتوكَّل العبد إلا على الله، ولا يعبد إلا إياه؛ فإنه الذي يسَّر له الشُّفعاء.
ولهذا لمَّا سأل أبو هريرة النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -: من أسعدُ الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: “لقد ظننتُ أن لا يسألني عن هذا أحدٌ أوَّل منك؛ لِمَا رأيتُ من حرصك على الحديث. أسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله” (2).
فقد أخبر أن أسعد الناس بشفاعته هم أهلُ التوحيد لله، الذين أخلصوا له الدين، الذين لم يتألَّهوا غيرَه (3).
_________
(1) الأصل: “وان”. ولعله تحريفٌ عن المثبت.
(2) أخرجه البخاري (99).
(3) انظر: “الصفدية” (2/ 291)، و”اقتضاء الصراط” (2/ 362)، و”الرد على البكري” (296)، و”شرح الأصبهانية” (436)، و”قاعدة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق” (128)، و”مجموع الفتاوى” (7/ 78، 11/ 528، 14/ 410، 18/ 323، 27/ 440).
(9/155)
فبيَّن أن كلَّ من كان بالأسباب أشدَّ تعلُّقًا ورجاءً كان عن رحمة الله بشفاعة الشفعاء وغيرها أبعَد، وكلَّ من كان لله أعظمَ إخلاصًا وعليه أشدَّ توكُّلًا كان أولى برحمة الله بشفاعة الشفعاء وغيرها؛ فإن الأسباب جميعها كالشفاعة ليست مستقلَّةً مُوجِبة، ومع هذا فالله خالقُها وربُّها.
وأعظمُ الأسباب التي يرجو بها العبد رحمة الله: العمل الصالح، والدعاء، والشفاعة، ومع هذا فالثلاثة بمنزلة الأسباب التي ليست من فعل العباد، من جهة أنها من جملة مخلوقات الله ومصنوعاته وما سبَّبه من الأسباب، ومن جهة أنها غيرُ مُوجِبةٍ ولا مستقلَّة.
فلذلك وجب أن لا يتوكَّل العبد إلا على ربِّه، ولا يتَّخذ من دونه وليًّا ولا شفيعًا.
قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} الآية [الأنعام: 51]، وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4].
فليس للعباد وليٌّ يتولى أمورهم دونه، ولا شفيعٌ يعينُهم على أمورهم دونه.
ولهذا قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
(9/156)
وَالْأَرْضِ} [الزمر: 43 – 44]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} الآية [الأنعام: 94]، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} الآية [الروم: 12 – 13].
ومعلومٌ أن الخلق إنما دَعَوا غيره لرجاء المنفعة به، أو خوف الضرر في ترك ذلك، كما دَعَوا (1) الشمس والقمر أو شيئًا من الكواكب، أو دَعَوا الملائكة أو النبيين، أو دَعَوا غير ذلك من المخلوقات، كالفلَك والسَّحاب والمطر وغير ذلك؛ فإن جميع المخلوقات عُبِدَت من دون الله سبحانه وتعالى (2).
_________
(1) الأصل: “يدعوا”. وكذلك المواضع التالية. ولعله من غلط الناسخ.
(2) هذا آخر الفصل في الأصل الذي بين يدي.
(9/157)
مسائل عقدية
(9/159)
* وسئل أيضًا عن من يعتقد أن كرامات الأولياء حقٌّ، وأن منهم من يُكاشَفُ ماضي ومستقبل (1)، فهل هذا الاعتقاد صحيحٌ أم لا؟
أجاب – رضي الله عنه -: كراماتُ الأولياء حقٌّ باتفاق أئمَّة أهل الإسلام والسُّنَّة والجماعة، وقد دلَّ عليه (2) القرآن في غير موضع، والأحاديث الصَّحيحة، والآثار المتواترة عن الصَّحابة والتابعين وغيرهم.
وإنما أنكرها أهلُ البدع من المعتزلة والجهميَّة ومن تابعهم.
وأما أئمَّة الإسلام وشيوخه المقبولون عند الله فلم ينكروها، لكن كثيرًا ممن يدَّعيها أو تدَّعى له يكون كذابًا أو ملبوسًا عليه.
وأيضًا، فإنها لا تدلُّ على عصمة صاحبها، ولا على وجوب اتباعه في كلِّ ما يقول.
بل قد تصدُر بعض الخوارق من الكشف وغيره عن بعض الكفَّار من المشركين وأهل الكتاب ومن هو شرٌّ منهم (3)، كما ثبت في الصَّحيح أن الدجَّال يقول للسماء: أمطري، فتُمْطِر، ويقول للأرض: أنبتي، فتُنْبِت، وأنه يقتل واحدًا ثم يحيا، وأنه تخرجُ خلفه كنوز الذَّهب والفضَّة (4).
_________
(1) كذا في الأصل، أي بالأمور الماضية والمستقبلة.
(2) أي على هذا الحق. وفي “مختصر الفتاوى المصرية” (600)، وقد نقل نصَّ الفتوى: “عليها”. وهي محتملة.
(3) في “مختصر الفتاوى المصرية”: “بل قد تصدر بعض الخوارق من الكشف وغيره عن الكفَّار والسِّحرة بمؤاخاتهم للشياطين”.
(4) أخرجه مسلم (2937) من حديث النواس بن سمعان – رضي الله عنه -.
(9/161)
ولهذا اتفق أئمَّة الدين على أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء، لم يُغْترَّ به (1) حتى يُنْظَر وقوفُه عند الأمر والنهي الذي بعث الله به رسوله – صلى الله عليه وسلم -.
وهذه جملةٌ مختصرةٌ مفصَّلةٌ مبسوطةٌ في غير هذا الموضع، والله أعلم، والحمد لله ربِّ العالمين (2).
قال الإمام شمس الدين بن المحب: نقلت هذه المسألة من خط الشيخ تقي الدين أبي بكر الدريبي رحمه الله تعالى (3)، ونقلتها من خطه.
* … * … *
_________
(1) في “مختصر الفتاوى المصرية”: “لم يثبت له ولاية، بل ولا إسلام”.
(2) بسط شيخ الإسلام هذا الباب في كتابه “الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان”، وهو منشور مفردًا وضمن “مجموع الفتاوى” (11/ 156 – 310)، وقد أحال عليه في “الجواب الصحيح” (3/ 349)، و”قاعدة في التوسل والوسيلة” (1/ 176 – مجموع الفتاوى)، وبعض أجوبته “جامع المسائل” (1/ 96، 101).
وهذه الفتوى مختصرة في “مختصر الفتاوى المصرية” (600).
(3) أبو بكر بن أحمد بن عبد الله الدريبي، توفي ببعلبك سنة 765. انظر: “توضيح المشتبه” (4/ 61). وهو من محبي ابن تيمية وناسخي آثاره، ومن منسوخاته كتاب “العقود الدرية” لابن عبد الهادي، كما يعلم من حاشيته (ص: 524).
(9/162)
* مسألة: في من يعتقدُ أن الله يكلِّفُ العباد ما لا يطيقونه، هل هو اعتقادٌ صحيحٌ أم لا؟
الجواب: إن اعتقد أن الله يكلِّفُ العبد ما هو عاجزٌ عنه، كتكليف المُقْعَد أن يقوم في الصلاة، وأن يحجَّ ماشيًا، وتكليف من لا يقدر على المال أن يؤدِّي مالًا، وتكليف الإنسان أن يطير في الهواء، ونحو ذلك = فعليه أن يرجع عن ذلك؛ فإن الله لا يكلفُ نفسًا إلا وسعها.
وقد قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وإن اعتقد أن الله يكلِّفُ العبد ما قد سبق علمُه أنه لا يفعله، فهذا صحيح. وكذلك إن اعتقد أنه يكلِّفُه (1) ما هو مشغولٌ بضدِّه، وهو لا يقدر على الجمع بين الضدَّين، فلا يطيقُ فعل المأمور حتى يترك الضدَّ المانع، فهذا صحيح.
وهذا الجوابُ مختصرُ تفصيل جواب هذه [المسألة]، وبسطُ هذا لا يحتملُه هذا الموضع، والله أعلم (2).
_________
(1) ألحق الناسخ هنا في الطرة: “لا يفعله فهذا صحيح. وكذلك إذا اعتقد أنه يكلفه”. وبعدها علامة التصحيح. ويشبه أن يكون سهوًا منه وتكرارًا.
(2) انظر بسط القول في “درء التعارض” (1/ 59 – 72)، و”منهاج السنة” (3/ 52 – 53، 102 – 107)، و”مجموع الفتاوى” (8/ 130، 293 – 302، 437 – 447، 469 – 475، 10/ 344).
(9/163)
ومما سئل شيخ الإسلام – رضي الله عنه -، وهو:
مسألة: هل صلى أحدٌ من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه إلى المشرق، أو المغرب، أو إلى بيت المقدس؟
وهل بعث الله نبيًّا بغير دين الإسلام؟
وما سببُ صلاة نبينا – صلى الله عليه وسلم – إلى بيت المقدس؟
وهل صخرة بيت المقدس أفضل من غيرها من الحجارة؟
وهل يأجوج ومأجوج من ولد آدم – صلى الله عليه وسلم -؟
والحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – “أول الآيات طلوعُ الشمس من مغربها” (1)، فهل ذلك قبل خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج أم لا؟
الجواب: الحمد لله. لم يُصَلِّ أحدٌ من الأنبياء إلى المشرق ولا إلى المغرب، بحيث يتخذونه قبلة.
وكذلك بيتُ المقدس، إنما صلَّى إليه من صلَّى من الأنبياء لأجل قُبَّة العَهْد (2) التي جُعِلت عليها (3)، وإليها كان موسى – صلى الله عليه وسلم – يصلي في التِّيه (4).
_________
(1) أخرجه مسلم (2941) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -.
(2) في طرة الأصل: “قبة العهد كانت لموسى – صلى الله عليه وسلم -، أمره الله أن يضعها، وليست هي اليوم موجودة”. ولعله من تعليقات ابن المحب.
(3) أي: على صخرة بيت المقدس.
(4) انظر: “الرد على المنطقيين” (289).
(9/164)
ولم يكن لله عز وجل نبيٌّ ولا وليٌّ إلا على دين الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له بما أمَر به، فهذا دينُ الإسلام الذي لا يقبلُ الله دينًا غيره في كلِّ زمانٍ ومكان.
والله أمر محمدًا – صلى الله عليه وسلم – في أول الإسلام أن يصلي إلى بيت المقدس، فصلى إليها بعد الهجرة نحو سنةٍ ونصف، ثم صُرِفَت القبلةُ إلى الكعبة، وكان مِن حكمة ذلك ما دلَّ عليه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] , فأراد الله تعالى أن يمتحن عبادَه بأن يصلُّوا إلى قبلةٍ ثم يُصْرَفوا (1) عنها؛ ليتبيَّن من يتبعُ الرسولَ ممَّن ينقلبُ على عقبيه، {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}.
وأما الصَّخرة، فهي كغيرها من أرض المسجد الأقصى، لا فضيلة لها بعد النَّسخ، مثل يوم السبت ويوم الأحد (2).
ويأجوج ومأجوج من ولد آدم، كما ثبت ذلك في الصَّحيحين (3) عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وأخبارُهم في الأحاديث الصَّحيحة لا تتسعُ لها هذه الورقة في صحيح مسلمٍ وغيره.
وأول الآيات السَّمائية (4) طلوعُ الشمس من مغربها، وأما الدجال ونحوه
_________
(1) الأصل: “ينصرفوا”، والمثبت أشبه بالصواب.
(2) انظر: “اقتضاء الصراط المستقيم” (2/ 819)، و”الفتاوى” (27/ 12).
(3) في حديث إخراج آدم عليه السلام بعثَ النار من ذريته. “صحيح البخاري” (3348)، ومسلم (222).
(4) كذا في الأصل، وهوصحيح، يقال: سمائي وسماوي، والأول أجود.
(9/165)
فليس هو من الآيات السَّمائية، وذلك يكون قبل طلوع الشمس من مغربها؛ فإن طلوع الشمس من مغربها آيةٌ على انتقاض الفَلَك والعالم العُلوي (1)، وهو آيةٌ بينةٌ على القيامة الكبرى، بخلاف الآيات الأرضية، فإنها لا تدل بمجرَّدها على ذلك، ولكن عُلِم أنها من أشراط الساعة بإخبار الصادق المصدوق – صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم.
* … * … *
_________
(1) انظر: “البداية والنهاية” لابن كثير (19/ 254)، و”فتح الباري” (11/ 353).
(9/166)
* مسألة: في رجلين قال أحدهما: المسلم أفضل من المؤمن، وقال الآخر: لا فرق، واستدلَّ بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 – 36].
الجواب: الذي عليه جمهور أئمَّة المسلمين أن كلَّ مؤمنٍ مسلمٌ، وليس كلُّ مسلمٍ مؤمنًا. فالمؤمن أفضل.
قال الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] , وكما ثبت في الصَّحيحين عن سعد بن أبي وقاصٍ – رضي الله عنه – قال: أعطى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجالًا ولم يعط رجالًا، فقلت: يا رسول الله، أعطيتَ فلانًا وتركتَ فلانًا وهو مؤمن، قال: “أو مسلم”، ثم قال: “إني لأعطي الرجلَ وغيرُه أحبُّ إليَّ منه” (1)، والله أعلم (2).
* … * … *
_________
(1) أخرجه البخاري (27)، ومسلم (150).
(2) انظر: “مختصر الفتاوى المصرية” (586)، و”مجموع الفتاوى” (7/ 359، 362، 10/ 269، 19/ 171).
(9/167)
* مسألة: في أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – أيتهنَّ أفضل؟ وهل فاطمة مثلهنَّ في الفضل؟ وما سببُ حياء الملائكة من عثمان – رضي الله عنه -؟
الجواب: أفضلُ نساء هذه الأمة: خديجة، وفاطمة، وعائشة (1). وقد تنازع الناسُ في أفضلهنَّ، وكثيرٌ من أهل العلم فضَّلوا عائشة (2)؛ لما ثبت في الصَّحيح من حديث أبي موسى وحديث أنس – رضي الله عنهما – أنه [- صلى الله عليه وسلم -] قال: “فضلُ عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام” (3).
وأما عثمان، فكان في نفسه حَيِيًّا، فاستحيَت منه الملائكة؛ لأن الجزاء من جنس العمل (4). والله أعلم.
* … * … *
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (4/ 393، 394)، و”بدائع الفوائد” (1104)، وفي “جلاء الأفهام” (263) سؤال ابن القيم لشيخه عن هذه المسألة وجوابه.
(2) انظر: “منهاج السنة” (4/ 301 – 308).
(3) أخرجه البخاري (3411، 3770)، ومسلم (2431, 2446).
(4) انظر: شرح البخاري لابن بطال (2/ 34).
(9/168)
* مسألة: هل صحَّ عن إدريس النبيِّ عليه الصلاة والسلام أنه خَطَّ في الرَّمل، وتكلَّم فيه؟ وهل الاشتغال به حلالٌ أم لا؟
الجواب: هذا الخطُّ الذي يخطُّه الناسُ في الرَّمل ونحوه لم يصحَّ عن إدريس ولا غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وليس الاشتغالُ به واستخراجُ المغيَّب منه (1) مما أَذِن فيه الله ورسوله، بل هو من جنس الاستقسام بالأزلام، والله أعلم (2).
* … * … *
_________
(1) الأصل: “فيه”، والوجه ما أثبت.
(2) لم أجد لشيخ الإسلام كلامًا في هذه المسألة سوى هذا الموضع. وانظر: “مسائل أبي الوليد ابن رشد” (1/ 204 – 214).
(9/169)
* مسألة: في رجلٍ قال: إن أولياء الله الأبرار يقولون للشيء: كن، فيكون بإذن الله. فهل لهذا صحة؟
الجواب: من قال: إن غير الله إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل. [وليس] أحدٌ في الدنيا (1) يحصلُ له كلُّ ما يريد، ولو كان من كان. وأما في الآخرة فيُعطى المؤمنُ كلَّ ما يشتهي، وإذا اشتهى شيئًا حصل له ذلك بقدرة الله.
ويُذْكَر في الإسرائيليات: “يقول الحقُّ عزَّ وجلَّ: يا عبدي، إني أقول للشيء: كن، فيكون. فإن أطعتني جعلتك تقول للشيء: كن، فيكون” (2) , وهذا ليس له إسنادٌ يُعتمَدُ عليه. وإن لم يُرِد به قائلُه أن الله يعطيه ما يريده في الآخرة وإلا كان قوله مردودًا عليه، والله أعلم.
_________
(1) الأصل: “لاحد في كتاب”. ثم ضرب الناسخ على “كتاب” وألحق “الدنيا”. والمثبت أشبه بأسلوب المصنف. والعبارة في “مختصر الفتاوى المصرية” (587): “وليس كل ما يريده ابن آدم يحصل له ولو كان من كان”.
(2) الخبر في “رسائل إخوان الصفا” (1/ 298)، ولم أقف عليه مسندًا. وأورد ابن عربي نحوه في “الفتوحات المكية” (3/ 295) في أهل الجنة، كما ذكره شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (4/ 377)، وسياق كلامه هناك أن ذلك إنما هو في الآخرة، كما هو صريح قوله هنا.
(9/170)
فصلٌ
في تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
(9/171)
قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}:
فصلٌ في أن عبادة الله تعالى تمنعُ من معصيته, وأن إرادة هذا وهذا ضدَّان لا يوجدُ أحدهما إلا لنقص الآخر. والإنسان إذا وقع منه ذنبٌ كان لنقص عبادته لله تعالى, وهذا كما قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
فأخبر سبحانه أنه جعل الآخرة للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا, فوصفهم بأنهم لا يريدون واحدًا من هذين, فمن أراد أحد هذين لم يكن من هؤلاء الذين أخبر أنه جعل لهم الدار الآخرة.
وهو تعالى لم يَصِفهم بهذا إلا بعدم الإرادة, والعدم المحض لا يُسْتَحَقُّ به الثواب؛ لأن عدم هذه الإرادة لا يكون إلا إذا أرادوا ما أمرهم به من عبادته وحده لا شريك له, ولذلك استحقُّوا الدار الآخرة.
وقال في المخالفين لهؤلاء: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] , وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 13 – 14] , فوصفهم بالظلم والعُلوِّ.
وقوله تعالى سبحانه (1): {لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} ذكر الفساد
_________
(1) كذا في الأصل.
(9/173)
مقرونًا بالعُلوِّ, والفسادُ المطلق يتناول إرادة العلوِّ؛ فإن هذا من الفساد الذي هو خلافُ الصَّلاح, وهذا قد يكونُ مِن عطف العامِّ على الخاصِّ, وقد يكونُ لمَّا قُيِّد بالعطف صار عطف خاصٍّ على خاصٍّ, ولذلك نظائرُ كثيرةٌ في القرآن, مثل قوله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] , وقتل النفس أيضًا فساد.
وقد قال تعالى في الفساد المطلق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 – 12] , {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] , وقال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] , وقال تعالى عن صالح: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 150 – 152].
وقد ذكر الله المحرَّمات بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] , والجميع فساد.
وهُنَّ (1) إثمٌ وعدوان, قال تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] , وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
_________
(1) يعني المحرمات. ورسمها في الأصل يحتمل: “وهذه”.
(9/174)
[الطلاق: 1] , وقال تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81].
والمدحُ بالأمور العدميَّة لا يكونُ إلا لأنها تستلزم أمورًا وجودية, كما قد بُسِط هذا في غير موضع (1) , فما يُنفى من صفات النقص وما يُنَزَّه (2) عنه من الأفعال المذمومة, فإن ما يُمْدَحُ به من [نفي] صفات النقص يستلزم أمورًا وجودية من صفات الكمال, وما يُنَزَّه عنه من الأفعال المذمومة يستلزم وجود ما يُمْدَحُ به من الأفعال المحمودة.
فإن الإنسان كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أصدق الأسماء الحارث وهمَّام” (3) , لا يزال حارثًا همَّامًا, وهو حسَّاسٌ متحركٌ بالإرادة.
وفي الحديث: “لَلْقَلْبُ أشدُّ تقلُّبًا من القِدْر إذا استَجْمَعَتْ غليانًا” (4) ,
_________
(1) انظر: “التدمرية” (59) , و”الصفدية” (1/ 91, 2/ 63, 66) , و”درء التعارض” (6/ 177) , و”بيان تلبيس الجهمية” (4/ 338) , و”الجواب الصحيح” (3/ 209) , و”مجموع الفتاوى” (17/ 109) , و”جامع المسائل” (3/ 207).
(2) الأصل: “ينهى”. وكذا الموضع الثاني. وهو تحريف. وانظر: “الجواب الصحيح” (4/ 151) , و”جامع المسائل” (1/ 152).
(3) روي من وجوه مرسلةٍ مخارجُها جميعًا من الشام, وربما آلت إلى مصدرٍ واحد, فلا تعتضدُ ببعضها. ورفعه بعضهم ولا يصح. انظر: “المراسيل” لابن أبي حاتم (117) , و”العلل” له (2451) , و”الإصابة” (7/ 461) , وتعليقي على “مفتاح دار السعادة” (1524) , و”الانتصار لأهل الأثر” (49).
(4) أخرجه أحمد (23816) من حديث المقداد بن الأسود – رضي الله عنه – مرفوعًا بإسناد منقطع. وروي موصولًا عند ابن أبي عاصم في “السنة” (226) , والقضاعي في “مسند الشهاب” (1331) وغيرهما, وفيه ضعف. وعند الخرائطي في “اعتلال القلوب” (373) , والطبراني في “الكبير” (20/ 252) , وهو أمثل, وحسَّنه البزار (2112) , وصححه الحاكم (2/ 317) على شرط البخاري, وليس كما قال.
(9/175)
و”مَثَلُ القلب مَثَلُ ريشةٍ ملقاةٍ في أرضٍ فلاة” (1).
والنفس طبيعتُها الحركة, ولهذا قال بعضهم: “نفسك إن لم تَشْغَلها شَغَلتْك” (2) , إن لم تَشْغَلها بالحق شَغَلَتْك بالباطل.
فالإنسان لا يعدلُ عن فعلٍ إلا لاشتغاله بفعلٍ آخر, ولا يترك إرادةً يهواها إلا لإرادةٍ أخرى، إما إرادة محبوبٍ هو أحبُّ إليه من الأول, فيتركه لأجلها؛ لأن الضدَّين لا يجتمعان. وإما لمكروهٍ يتحصَّل له من ذاك, فتكون إرادتُه للسلامة من ذاك ولنجاته منه مانعًا من إرادة ذلك المكروه.
فإذا كان الله تعالى أحبَّ إلى العبد من كل شيء, وأخوفَ عنده من كل شيء, كان ذلك باعثًا له على طاعته, وزاجرًا له عن معصيته.
_________
(1) أخرجه أحمد (19661, 19756) , وعبد بن حميد (535) , وابن ماجه (88) من حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – مرفوعًا.
وروي عنه موقوفًا وهو أصح, أخرجه ابن أبي شيبة (35965) , وأبو القاسم البغوي في “الجعديات” (1472) , وغيرهما.
ومن حديث أنس – رضي الله عنه – مرفوعًا عند ابن الأعرابي في معجمه (856) , والقضاعي في “مسند الشهاب” (1369) , والبيهقي في “شعب الإيمان” (736) , وهو وهمٌ. انظر: مسند البزار (7509) , وعلل الدارقطني (12/ 250).
(2) من مستجاد كلام الحسين بن منصور الحلَّاج. أخرجه الخطيب في “تاريخ بغداد” (8/ 692, 711). وانظر: “عيوب النفس” للسلمي (43) , و”بداية حال الحلَّاج ونهايته” لابن باكويه (35) , و”أخبار الحلَّاج” لابن الساعي (90).
(9/176)
وقد قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] , وقال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 – 83].
وقوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} استثناءٌ منقطعٌ في أصحِّ القولين (1)؛ فإن المراد بالعباد هنا الذين عبدوه, وهم عباده المخلصون الذين قال فيهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] , وقال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] , وقال تعالى: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68] , وقال تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 – 30] , وهؤلاء عباده الذين عبدوه.
والعبادة تجمع الحبَّ والخضوع, فالحبُّ بلا خضوعٍ لا يكون عبادة, والخضوع بلا محبةٍ لا يكون عبادة, والله تعالى يستحقُّ أن يُعبد وحده ولا يُشْرَك به شيء, فلا بد أن يكون أحبَّ إلى العبد مما سواه, وأن يكون أعظم عند العبد من كل ما سواه, بحيث يَخْضَعُ له ولا يَخْضَعُ لشيءٍ كما يَخْضَعُ له, وكذلك يحبُّه ولا يحبُّ شيئًا كما يحبُّه.
فالربُّ تعالى يستحقُّ غاية الحبِّ وغاية الخضوع, ويستحقُّ أن يكون ذلك خالصًا له لا يُشْرَك فيه غيره, فمن استكبر عن عبادته لم يكن عابدًا له, ومتى عبد معه غيره كان مشركًا به, فلم يكن عابدًا له وحده.
_________
(1) انظر: “جامع الرسائل” (2/ 264)، و”جامع المسائل” (1/ 215).
(9/177)
وحبُّ العبد له وخضوعُه له ينافي إرادة العلوِّ في الأرض والفساد؛ فإنه إذا شَهِد العبد أنه العليُّ الأعلى, وأن كلَّ ما سواه مفتقرٌ إليه, وشَهِد فقرَ نفسه وحاجتَه إليه من جهة ربوبيَّته له, ومن جهة إلهيَّته له, فإنه لا بدَّ له من أن يعبده, ولا بدَّ له من إعانة الرب له, فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, ما لا يكون بالله لا يكون, فليس يوجدُ للعبد ولا لغيره شيءٌ إلا به.
وهذا تحقيق “لا حول ولا قوَّة إلا بالله”, فكل ما سواه فقيرٌ إليه دائمًا, وهو غنيٌّ عن كل ما سواه دائمًا, والعبد لا يصلح إن لم يكن الربُّ معبوده وهو غاية محبوبه ومطلوبه, وإلا فكلُّ عملٍ لا يراد به وجهُ الله فهو فاسدٌ ضارٌّ لا ينفعُ صاحبه. فكما أنه [ما] لا يكونُ به لا يكون, فما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم (1) , ولهذا أُمِرْنا أن نقول في كلِّ صلاة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
فشهودُ العبد هذا ينفي أن يريد علوًّا في الأرض أو فسادًا, ويستلزم أن يكون من المتقين؛ فإن شهود العبد لحقيقة حاجته وفقره يمنع عنه العلوَّ, وشهوده لحاجته إلى ما ينفعه ينفي عنه إرادة ما يضرُّه, ولكن هو جاهلٌ ظالم, وقلبه يغفل عن الله فيتبع هواه, قال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] , وقال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19] , فهو بغفلته عن ذكر ربه, ونسيانه إياه, ينسى نفسَه وحاجتَها ومصلحتها, فهو في غاية الفقر والحاجة.
وقد ينفخُ فيه الشيطانُ الكِبْرَ فينسى حاجتَه وفقرَه, ويطغى إذا استشعر
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (8/ 329).
(9/178)