ابن تيميةابن تيمية - كتبعطاءات العلم

جامع المسائل_9

جامع المسائل_9

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: جامع المسائل
[آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (2، 3، 4، 5، 9، 13، 17، 18، 29)]المؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661 – 728 هـ)
تحقيق: جـ 1 – 6، 8 (محمد عزير شمس)، جـ 7 (علي بن محمد العمران)، جـ 9 (عبد الرحمن بن حسن قائد)
راجعه: جـ 1 – 4، 7 (سليمان بن عبد الله العمير، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 5، 6 (سليمان بن عبد الله العمير، جديع بن محمد الجديع، محمد أجمل الإصلاحي)، جـ 9 (سليمان بن عبد الله العمير، على بن محمد العمران)
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية (للمجموعات من 1 – 9)، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 9
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

غِناه, قال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَأَىهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 – 7] , فإذا رآه استغنى طغى, وهو لا يستغني في الحقيقة قطُّ, لكن يرى نفسَه مستغنيةً رؤيةً كاذبة.
قال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 – 10] , واستغناؤه هنا كقوله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس: 5 – 6] , فالمستغني: الذي لم ير نفسه محتاجًا، فيخضعَ خضوعَ المحتاج، ويقصدَ قصدَ المحتاج.
قال سهل بن عبد الله: “ليس بين العبد وبين الله طريقٌ أقرب إليه من الافتقار, ولا حجابٌ أغلظ من الدعوى” (1).

وأصل كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة الخوفُ من الله.
وهذا الافتقار هو من العبودية التي قال فيها: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] , وإلا فجميع المخلوقات هي في نفس الأمر مفتقرةٌ إلى الله تعالى, وهم عبادٌ مُعَبَّدون (2) له, يصرِّفهم بمشيئته وقهره, ولكنهم لا يشهدون هذا ولا يشهدون (3) من أنفسهم الخضوع والعبودية والذل, بل
_________
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في “الزهد” (101 – منتخبه) , ومن طريقه النووي في “بستان العارفين” (52).
(2) الأصل: “يعبدون”, خطأ. وانظر: “مجموع الفتاوى” (1/ 44, 2/ 406, 4/ 128, 10/ 503).
(3) رسمها الناسخ هكذا:.وفوقها علامة كالضبة. ولعل الأشبه ما أثبت.

(9/179)


الإنسان ضعيفٌ جبَّار, ضعيفُ القدرة جبَّارُ الإرادة (1).
آخره. علَّقه محمد بن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحيم بن علي بن حاتم بن الحبال الأنصاري الحراني الحنبلي، عفا الله عنهم، من خط العلامة شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن المحب المقدسي الحنبلي قدس الله روحه.
_________
(1) انظر بسط هذا المعنى في “مجموع الفتاوى” (14/ 219).

(9/180)


فصلٌ
في الكلام على آياتٍ من سورة الشورى

(9/181)


فصلٌ: قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني أيضًا – رضي الله عنه -:
قال الله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 36 – 43].
فإنه ــ سبحانه ــ جمَع في هذه الآيات أصول الدِّين الجامع للأخلاق الإسلامية, فبدأ بذكر الإيمان, ثم بترك ما نهى عنه, ثم بفعل ما أمر به؛ فاجتمع فيه الإيمان والعمل الصالح.

فبدأ بذكر الإيمان وأن توكُّلهم على ربهم؛ لما قدَّمنا غير مرَّة من الجمع بين العبادة والاستعانة والتوكل والإنابة (1).
وهنا خصَّ التوكل بالذكر لوجهين:
أحدهما: أنه السببُ الموجبُ للإيمان وغيره من المطالب, كما قيل:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
_________
(1) انظر: “التدمرية” (231) , و”النبوات” (377) , و”مجموع الفتاوى” (1/ 36, 55, 69, 74, 3/ 123, 7/ 163, 10/ 176, 194, 284, 550, 16/ 55).

(9/183)


الثاني: أنه كما قال سعيد بن جبير: “التوكلُ جِمَاعُ الإيمان” (1) , كما قال تعالى في الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] , فهذا مثل ذاك.
ثم قال تعالى: {يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} , فإن السيئات لها سببان: إما الشهوة والحبُّ والطمع, وإما النُّفرة والبغض, وذلك هوى النفس والغضب.

والشهوة الظاهرة شهوةُ البطن والفرج, كما سئل النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ما أكثر ما يُدْخِل الناسَ النار؟ قال: “الأجوفان: الفم, والفرج”, وسئل: ما أكثر ما يُدْخِل الناسَ الجنة؟ فقال: “تقوى الله, وحُسْن الخلق” رواه الترمذي (2) وصحَّحه.
وفي حديث … (3): “من تكفَّل لي ما بين فُقْمَيه (4) ورجليه تكفَّلتُ له بالجنة” (5).
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في “التفسير” (2370) , وابن أبي شيبة (30205) , وأحمد في “الزهد” (103) وغيرهم بإسناد صحيح.
(2) (2004) , والبخاري في “الأدب المفرد” (294) , وغيرهما من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – , وصححه ابن حبان (476) , والحاكم (4/ 324).
(3) بياض في الأصل بمقدار كلمتين.
(4) بضم الفاء وفتحها, وهما اللَّحيان. أي من حفظ لسانه. “النهاية” (فقم).
(5) أخرجه أحمد (19559) , وأبو يعلى (7275) , وغيرهما من حديث أبي موسى – رضي الله عنه – بلفظ: “من حفظ ما بين فقميه ورجليه دخل الجنة”, وروي من حديث أبي رافع وجابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – , وهو حديثٌ واحدٌ اضطرب فيه عبد الله بن محمد بن عقيل ــ وفيه ضعف ــ على ألوان.
وأصحُّ ما في الباب حديث سهل بن سعد – رضي الله عنه – في البخاري (6807) بلفظ: “من توكَّل لي ما بين لحييه وما بين رجليه توكَّلت له بالجنة”.

(9/184)


وفي رواية: “قَبْقَبه وذَبْذَبه” (1).
والفواحشُ ظاهرةٌ في فواحش الفرج ومقدِّماتها من المباشرة والنظر, وكبائرُ الإثم ظاهرةٌ في المطاعم الخبيثة, كما قال في الخمر والميسر:
{فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219].
وجمَع هنا بين الإثم والفواحش كما جمَع بينهما في النجم في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] , وفي قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33].
وأما النُّفرة والغضب, فقال: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} , وهنا كان
_________
(1) أخرجه البيهقي في “شعب الإيمان” (5026) , والديلمي في “مسند الفردوس” من حديث أنس – رضي الله عنه – مرفوعًا بإسنادٍ واهٍ بلفظ: “من وُقِيَ شرَّ لقلقه، وقبقبه، وذبذبه، فقد وُقِيَ الشرَّ كلَّه”. وقال البيهقي: “في إسناده ضعف”. وذكره السبكي في “طبقات الشافعية” (6/ 336) فيما لم يجد له أصلًا من أحاديث “الإحياء”. وضعَّفه العراقي في “المغني عن حمل الأسفار” (996).
وإنما يروى عن أبي الأشهب العطاردي قال: كان يقال … , فذكره. انظر: “الأمثال” لأبي عبيد (42) , و”تاريخ ابن معين” رواية الدوري (4/ 338) , و”غريب الحديث” لابن قتيبة (1/ 430) , و”المجالسة” للدينوري (880). وروي عن أبي الأشهب عن الحسن عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – , أخرجه ابن الأعرابي في معجمه (1706) , وهو منقطع, والأول أشبه.
واللقلق: اللسان، والقبقب: البطن، والذبذب: الفرج.

(9/185)


الكلام في سياق الحمد والثناء وأن الآخرة لهم.

وأما في سورة الأعراف فذكر أنه حرَّم البغي, ومبدأ البغي من البغض والنُّفرة والغضب؛ إذ الإنسان لا يبغي على من يحبه, وإنما يبغي على من يبغضه, ولهذا يُقْرَنُ بالحسد كثيرًا.
ثم ذكر فعل المأمور به, فقال: {اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} , وهذا جامعٌ لما أمر به, كما أن الإيمان جامعٌ للحسنات كلها.
{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} هما قرينان في كتاب الله, ووسَّط ذلك بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}؛ فإن ذلك يدفعُ طلبَ العُلوِّ في الأرض والفساد, ويوجبُ العدلَ والصلاح؛ لأن في ذلك اجتماع الاعتقادات والإرادات, وفي تركه اختلاف العقائد والإرادات.

(9/186)


فصل
في تفسير سورة المسد

(9/187)


قال الشيخ الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى:
فصل في تفسير سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}
هذه السورة أنزلها الله تعالى في هذا الرجل وامرأته، وهما مِن أشرف بطنين في قريش: بني هاشم، وبني عبد مناف (1).
فهو أبو لهب (2) عبد العُزَّى بن عبد المطلب، عمُّ النبي – صلى الله عليه وسلم -.
وقد قيل: إن الله ذكره بكنيته دون اسمه لأن اسمَه فيه تعبيدٌ للصَّنم، ولأن في كنيته تنبيهًا على حاله في الآخرة، كما يقال: “لكلِّ أحدٍ من اسمه نصيبٌ” (3).
وأما امرأته فأمُّ جميلٍ بنتُ حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
وهذا عمُّ علي، وهذه عمَّة معاوية، وهذان البطنان هما اللذان تداولا الخلافة في الأمة: بنو هاشم، وبنو أمية، وتجمعُهما: المَنافِيَّة (4)؛ فإن عبد شمسٍ أخو هاشم، وكان عثمان بن عفان من بني أمية، وكان عليٌّ من
_________
(1) كذا في الأصل. ولعله سبق قلم، أراد: وبني عبد شمس.
(2) في طرة الأصل: “حاشية: ذكر عبد الغني بن عبد الواحد أن أباه كنَّاه أبا لهب لحُسْن وجهه”. انظر: “مختصر سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم -” للحافظ عبد الغني (98).
(3) انظر: “نفح الطيب” (6/ 480) , و”المدخل” لابن الحاج (2/ 27). وللمناسبة بين الأسماء ومسمياتها: “مجموع الفتاوى” (20/ 418)، و”زاد المعاد” (2/ 236)، و”مفتاح دار السعادة” (681, 1561) , و”تحفة المودود” (67, 211).
(4) أي كونهم من بني عبد مناف. انظر: “منهاج السنة” (6/ 170).

(9/189)


بني هاشم.
وأما أبو بكر وعمر فمن قبيلتين أبعدُ من بني عبد منافٍ نسبًا من النبي – صلى الله عليه وسلم -، أبو بكر من تَيْم بن مرَّة بن كعب بن لؤي، وعمر من بني عديِّ بن كعب بن لؤي، وهما اللذان قال فيهما النبي – صلى الله عليه وسلم -: “اقتدوا باللذَيْن من بعدي: أبي بكرٍ، وعمر” (1)،
واتفقت الأمةُ عليهما وفي عهدهما ما لم تتفق على من بعدهما وفي ولايته، وإن كانت في عهد عثمان كانت أعظم اتفاقًا.
ولمَّا وقعت الفتنة بقتل عثمان تفرَّقت الأمة وصارت شِيَعًا، قومٌ يميلون إلى عثمان، وقومٌ يميلون إلى علي، وجرى بين الطائفتين قتالٌ وحروب، وكان كثيرٌ منهم يفعل ذلك تأخذه لهما أو لأحدهما حميَّةُ النسب المَنَافيِّ؛ لقربه من النبي – صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) في طرة الأصل: “حاشية: رواه الترمذي, وقال: حديث حسن, وابن ماجه, من حديث ربعي عن حذيفة”.
قلت: أخرجه أحمد (23245) , والترمذي (3662) , وابن ماجه (97) , وغيرهم. وصححه ابن حبان (6902) , والحاكم (3/ 75) , والجورقاني في “الأباطيل والمناكير” (1/ 288) , وقال العقيلي في “الضعفاء” (5/ 308): “يروى عن حذيفة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بإسنادٍ جيد ثابت”.
وأعله أبو حاتم وابن عبد البر وغيرهما بأنه من رواية عبد الملك بن عمير عن مولى ربعي, وهو مجهول, عن ربعي. انظر: “العلل” لابن أبي حاتم (6/ 446) , و”علل الترمذي الكبير” (371) , ومنتخب “الإرشاد” للخليلي (1/ 378) , و”جامع بيان العلم وفضله” (1166) , و”البدر المنير” (9/ 581).

وهو كما قالوا, لكنه روي من وجوه أخرى تقويه من حديث حذيفة وغيره. انظر: “الروض البسام” لجاسم الفهيد (4/ 282, 283).

(9/190)


وإن كان بنو هاشمٍ أقربُ وأفضلُ من غيرهم، كما أن المذكور منهم في الآية رجلٌ، والرجلُ في الجملة أشرفُ من المرأة.
ولم يُنْزِل الله في القرآن ذمَّ أحدٍ من الكفَّار بالنبي – صلى الله عليه وسلم – باسمه إلا هذا الرجل وامرأته، وفي هذا من العبرة والبيان أن الأنسابَ لا عبرة بها، بل النَّسِيبُ الشريفُ يكون ذمُّه وعقابه على تخلُّفه عما يجبُ عليه من الإيمان والعمل الصالح أشدُّ، كما قال تعالى لأزواج النبي – صلى الله عليه وسلم -: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}
[الأحزاب: 30] (1).
وسبب نزولها: ما أخرجاه في الصَّحيحين (2) عن الأعمش، عن عمرو بن مرَّة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -: “لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ورهطَك منهم المخلصين، خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى صعد الصَّفا، فهتَف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلًا تخرجُ مِن سَفْح هذا الجبل، أكنتم مُصَدِّقيَّ؟ قالوا: ما جرَّبنا عليك كذبًا، قال: فإني نذيرٌ لكم بين يَدَيْ (3)
_________
(1) انظر: “الجواب الصحيح” (1/ 444) , و”منهاج السنة” (4/ 605) , و”الصارم المسلول” (315) , و”مجموع الفتاوى” (35/ 231).
(2) البخاري (4971) , ومسلم (208). ووقع في الأصل متصلًا بالحاشية السابقة وموضعه هنا: “ورواه النسائي في اليوم والليلة لسفيان عن حبيب عن سعيد”.
(3) في طرة الأصل: “حاشية: تثنية اليد في القرآن: هنا, وفي {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} , {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} , {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} , {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} , {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} “.

(9/191)


عذابٍ شديد، فقال أبو لهب: تبًّا لك، ما جمعتَنا إلا لهذا؟! فأنزل الله:
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وقد تَبَّ (1)}، هكذا قرأها الأعمش (2).
فذكر سبحانه تَبَابَ يديه، وتبابَه في نفسه، بقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، والتَّبَابُ: الخَسَار، قال تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] (3).
وذكر أنه ما أغنى عنه لا مالُه ولا ولدُه (4)؛ فإن قوله: {وَمَا كَسَبَ}
_________
(1) في طرة الأصل هنا حاشيتان: “حاشية: الفعل يضاف إلى العضو, وإلى النفس؛ فيقال: كَذَب فُوه, وكَذَب, وبَطَشَت يدُه, وبَطَش, وسَمِعَت أذنُه, وسَمِع, وأبصَرَت عينُه, وأبصر”. “حاشية: قال الفراء: وفي قراءة عبد الله: (وقد تبَّ) , فالأول دعاء، والثاني خبر. كما تقول للرجل: أهلكك الله، وقد أهلكك. أو تقول: جعلك الله صالحًا، وقد جعلك”. انظر: “معاني القرآن” للفراء (3/ 298).
(2) قال ابن حجر في “الفتح” (8/ 503): “وليست هذه القراءة فيما نقل الفراء عن الأعمش، فالذي يظهر أنه قرأها حاكيًا لا قارئًا, … والمحفوظ أنها قراءة ابن مسعود وحده”. وانظر: “معاني القرآن” للفراء (3/ 298) , وتفسير الطبري (24/ 714)، و”الهداية” لمكي (12/ 8482).
(3) في المسائل التي لخَّصها الشيخ محمد بن عبد الوهاب من كلام ابن تيمية (13/ 71 – مجموع مؤلفاته) هنا زيادة: “قال النحاس: {تَبَّتْ يَدَا} دعاءٌ عليه، {وَتَبَّ} خبر، وفي قراءة عبد الله: (وقد تب) “. وفي “مجموع الفتاوى” (16/ 602): “قال النحاس: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} دعاءٌ عليه بالخسر، وفي قراءة عبد الله: (وتب) “.
(4) في طرة الأصل: “حاشية: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} , {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} , {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} , {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} “.

(9/192)


يتناولُ ولدَه، كما فسَّر ذلك من فسَّره من السَّلف (1)، وكما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “إن أطيبَ ما أكل الرجلُ مِن كَسْبه، وإن ولدَه مِن كَسْبه” (2).
وبهذه الآية استدلَّ طائفةٌ من أصحابنا ــ كأبي حفصٍ (3) وغيره ــ على أن ولد الرجل مِن كَسْبه، فيجوزُ له الأكلُ منه (4).
ثم أخبر أنه {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}؛ فأخبر بخسارته وبعذابه، بزوال الخير وبحصول الشر.
والصِّلِيُّ: الدخول والاحتراق جميعًا، فصَالِي النار: الداخِلُ المحترقُ فيها.
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق (9/ 130) عن عائشة ومجاهد وعطاء، والحاكم (2/ 539) عن ابن عباس.
(2) أخرجه أحمد (24148) , والنسائي (4551) , وغيرهما من حديث عائشة – رضي الله عنها – , وصححه الترمذي (1358) , وابن حبان (4260).
وفي إسناده اختلاف. انظر: “العلل” للدارقطني (14/ 250).
وأعله الإمام أحمد بالاضطراب، كما في منتخب “العلل للخلال” (308).
والأشبه أنه اختلافٌ غير قادح, وإليه ذهب أبو حاتم وأبو زرعة، كما في “العلل” لابن أبي حاتم (4/ 246).
وله شاهدٌ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -.
(3) عمر بن إبراهيم بن عبد الله، أبو حفص العكبري, شيخ الحنابلة, توفي سنة 387. انظر: “طبقات الحنابلة” (3/ 291) , و”تاريخ الإسلام” (8/ 618).
(4) لم أقف عليه. وانظر: “المغني” (8/ 263).

(9/193)


وقوله: {وَامْرَأَتُهُ حمَّالةُ (1) … الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} لا يخلو:
* إما أن يكون “امرأته” معطوفًا على الضمير في قوله: {سَيَصْلَى} هو {وَامْرَأَتُهُ حمَّالةُ … الْحَطَبِ}.
* أو يكون جملةً مبتدأة.
لكن الأول أرجح؛ لانتظام الكلام بذلك.

والعطفُ على الضمير المرفوع مع الفصل عربيٌّ فصيح، كقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]، وقوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3]، وغير ذلك.
ويكونُ قوله: {حمَّالةُ الْحَطَبِ} صفة، والأنسب بما تقدَّم أن يكون ذلك متصلًا بما قبله، أي: وامرأته حمَّالةُ الحطب الذي يكون وقودًا لتلك النار، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، وقد قُرِئ: {حطبُ جَهَنَّمَ} (2)، وقال تعالى:
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ
_________
(1) كذا قرأ أبو عمرو, وهي قراءة المصنف وأهل الشام لعهده, وبها يستقيم سياق كلام المصنف.
(2) قراءة شاذة, رويت عن علي وعائشة وابن الزبير وغيرهم. انظر: “المحتسب” لابن جني (2/ 67) , ومختصر في شواذ القرآن لابن خالويه (93).

(9/194)


لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، وقال تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
[التحريم: 6].
{فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}، والجِيد: العُنق (1)،
والمَسَد: اللِّيف. وإذا كان في الرَّقبة حبلٌ من ليفٍ لأجل الحطب الذي يحمله كان ذلك زيادةً في العذاب؛ لأن الليف خشنٌ مؤذي.
وذِكْرُه في الآخرة {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} نظيرُ قوله: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 30 –
32]، وقوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 71 – 72].
فهذا الكلام (2):
* إما أن يكون وصفًا لحملها الحطبَ الذي يوقدُ به في الدنيا، كما يظنُّه من يظنُّه.
_________
(1) في طرة الأصل: “حاشية: قال ابن جرير: يقول: في عنقها. والعرب تسمي العنق جِيدًا, ومنه قول ذي الرمة:
فعيناك عيناها ولونك لونها … وجيدك إلا أنها غيرُ عاطل

ذِكْر من قال ذلك: حدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ} قال: في رقبتها”. تفسير الطبري (24/ 722).
(2) يعني قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}.

(9/195)


فيقال: هي لم تكن كذلك، وليس في ذلك ذمٌّ لها (1)؛
فإن هذا عملٌ مباح، وقد كان يفعله طائفةٌ من خيار هذه الأمة، كعبد الله بن سَلَام (2)، وأبي هريرة (3)، وسلمان الفارسي (4)، مع كونهما كانا أميرَين، وكذلك ثبت في الصَّحيح أن أهل الصُّفَّة كانوا يحتطبون (5)، وفي الصَّحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لأن يأخذ أحدكم حبلَه على ظهره فيحتطبَ خيرٌ له من أن يسأل الناسَ، أعطَوْه أو مَنَعُوه” (6).
* وإما أن يكون مثلًا لنميمتها في الدنيا، فيكون وصفًا لعملها السَّوء؛ فإن كلام النمَّام يُوقِدُ القلوبَ، ويُضْرِمُ النار فيها، كما يفعلُ الحطبُ في النار، فتكون حمَّالةً لحطب القلوب والنفوس.
وهذا قد يقال: إن غايتَه أن يكون نِمَامةً، وذنبُها أعظمُ من ذلك. وقد قال: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}، وحملُ النميمة لا يوصفُ بذلك.
_________
(1) ضعَّفه بنحو ذلك الثعلبيُّ في “الكشف والبيان” (30/ 473).

وقال ابن قتيبة في “تأويل مشكل القرآن” (160): “وقال بعض المتقدمين: كانت تعيِّر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالفقر كثيرًا، وهي تحتطب على ظهرها بحبلٍ من ليفٍ في عنقها! ولست أدري كيف هذا؟! لأن الله عز وجل وصفه بالمال والولد”.
(2) أخرجه أحمد في “الزهد” (1025) , والضياء في “المختارة” (9/ 454).
(3) أخرجه أبو داود في “الزهد” (284) , وأبو نعيم في “الحلية” (1/ 384).
(4) أخرجه ابن سعد في “الطبقات” (4/ 81, 82).
(5) في “صحيح البخاري” (4090) من حديث أنس – رضي الله عنه – أن القراء من الأنصار كانوا يحتطبون في النهار, وفي “صحيح مسلم” (677) أنهم كانوا يحتطبون، ثم يبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة. وانظر: “مجموع الفتاوى” (11/ 44).
(6) أخرجه البخاري (1470) ومسلم (1042) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.

(9/196)


* وإما أن يكون وصفًا لحالها في الآخرة، كما وصفَ حال بَعْلِها (1)، فهو سيصلى (2) نارًا ذات لهب، وهذه تحمل (3) الحطبَ في عنقها بحبلٍ (4) مِن مسَد، فتَسْجُر به النارَ عليه؛ فإنها في الدنيا كانت هي المعينةَ له على الكفر وعداوة النبي – صلى الله عليه وسلم -، فتكون في الآخرة كذلك.
ويكون قوله: {حمَّالةُ الْحَطَبِ} اللام لتعريف المعهود؛ لأن (5) النار تستدعي حطبًا، فذِكْرُ صِليِّ النار يقتضي حطبَها، فقيل: امرأتُه حمَّالةُ الحطب.
ويكون هذا [كما] في قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22].
ويكون في هذا عبرةٌ لكلِّ متعاوِنَيْن على الإثم والعدوان، وإن كانا شَرِيفَيْ النَّسب، قريبَيْن في النَّسب إلى أفضل الخلق؛ أنهما خاسران لا يقدران مما كَسَبا على شيء، وأنهما معذَّبان في الآخرة بما احْتَقَباه من الإثم.
ويكون المذكورُ في القرآن من حال الزَّوجين قد عَمَّ الأقسام الممكنة، وهي أربعة:
1 – فإن الزوجين إما أن يكونا سعيدَيْن، كإبراهيم الخليل وأهل بيته، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – وأهل بيته.
_________
(1) الأصل: فعلها. وهو تحريف.
(2) الأصل: فهي ستصلى. تحريف.
(3) الأصل: لحمل. تحريف.
(4) الأصل: حبل. تحريف.
(5) الأصل: ان. تحريف.

(9/197)


2 – وإما أن يكونا شقيَّيْن، كأبي لهبٍ وامرأته حمَّالة الحطب.
3 – وإما أن يكون الزوجُ سعيدًا والمرأة شقيَّةً، كنوحٍ ولوطٍ عليهما الصلاة والسلام.
4 – وإما بالعكس، كفرعون وامرأته.
قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 10 – 11]، ثم ذكر من لا زوجَ لها، فقال: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}.
فحمَّالةُ الحطب: المرأة التي أعانت زوجَها على معاصي الله، وامرأةُ نوحٍ وامرأة لوط: المرأة التي عصت زوجَها في طاعة الله، وامرأةُ فرعونٍ ممن عصت زوجَها في معصية الله.
وهذا الوصفُ المذكور في امرأته مستقيم، سواءٌ كان قوله: {وَامْرَأَتُهُ} معطوفًا أو مبتدأ.
وإذا كان معطوفًا وقولُه {حمَّالةُ الْحَطَبِ} صفةً لها = استقام أن يُفَسَّر حملُ الحطب بحمل النميمة والذنوب في الدنيا، وحملُ الوقود في الآخرة؛ فإن جزاء الآخرة من جنس عمل العبد في الدنيا، فمن كان له لسانان في الدنيا

(9/198)


كان له لسانان من نارٍ يوم القيامة (1)، ومن سأل الناسَ وله ما يُغْنِيه جاءت مسألتُه خُدوشًا أو خُموشًا أو كُدوحًا في وجهه يوم القيامة (2)، ولا تزال المسألةُ بأحدهم حتى يلقى الله يوم القيامة وليس في وجهه مُزْعَة لحم (3).
وقوله تعالى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} بيانٌ لاستمكان الحطب على ظهرها، ولزومه إياها؛ فإن كلَّ عاملٍ يلزمُه عملُه، كما قال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء:
13]، وقال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18].
فلما كانت في الدنيا تحملُ إلى زوجها ما تُضْرِمُ به نار الفتنة في قلبه وقلبها من الكلام حتى يَعْظُمَ كفرُه، متقلِّدةً ذلك في عنقها = كانت يوم القيامة حاملةَ الوقودِ الذي تُضْرَمُ به عليهما النار.
_________
(1) أخرجه البخاري في “الأدب المفرد” (1310) , وأبو داود (4873) , والدارمي
(2806) وغيرهم من حديث عمار بن ياسر – رضي الله عنه – مرفوعًا. قال علي بن المديني: إسناده حسن. انظر: “تهذيب الكمال” (29/ 482). وصححه ابن حبان (5756) , وحسنه العراقي في “المغني عن حمل الأسفار” (1052). وله شواهد كثيرة. انظر: “الروض البسام” (3/ 355 – 358).
(2) أخرجه أحمد (3675) , وأبو داود (1626) , والترمذي (657) , وابن ماجه
(1840) وغيرهم من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – مرفوعًا بإسناد ضعيف.
انظر: “السنن الكبرى” للنسائي (2384) , و”العلل” للدارقطني (5/ 215) , و”تنقيح التحقيق” (3/ 157).
(3) أخرجه البخاري (1474) , ومسلم (1040) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.

(9/199)


قال ابن إسحاق في “السيرة” (1) لما ذكر مُهَاجَر من هاجر من الصَّحابة إلى الحبشة، قال: “فلما رأت قريشٌ أن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد نزلوا بلدًا أصابوا فيه أمنًا وقرارًا، وأن النجاشيَّ قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، وكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وجعل الإسلامُ يَفْشُو في القبائل = اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب، على أن لا يُنْكِحوا إليهم، ولا يُنْكِحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا، ولا يبتاعوا منهم.
فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا واتفقوا على ذلك، ثم علَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم.
فلما فعلت ذلك قريشٌ انحازت بنو هاشمٍ وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب، فدخلوا معه في شِعْبه، واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشمٍ أبو لهبٍ عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش، فظاهَرَهُم (2) “.
قال: “وحدثني حسين بن عبد الله (3) أن أبا لهب لقي هندَ بنت عُتْبة بن ربيعة حين فارق قومَه وظاهَرَ عليهم قريشًا، فقال: يا ابنة عُتْبة، هل نَصَرْتُ
_________
(1) انظر: “دلائل النبوة” لأبي نعيم الأصبهاني (631) , و”السيرة” لابن هشام (1/ 375) , و”الروض الأنف” (3/ 282). وليس في القطعة المطبوعة من سيرة ابن إسحاق.
(2) في طرة الأصل إشارة إلى أن في نسخة: “وظاهرهم عليه”, وهي كذلك في رواية أبي نعيم الأصبهاني لسيرة ابن إسحاق في “دلائل النبوة” (632).
ثم كتب: “من مغازي الأموي: قال ابن إسحاق: فحدثني حسين بن عبد الله, عن عكرمة, عن ابن عباس: أنه ما كان أبو لهب إلا من كفار قومه, ما هو إلا … حتى خرج منا حين تحالفت قريشٌ عليه, وظاهرهم”.
(3) الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب.

(9/200)


اللاتَ والعزَّى، وفارقتُ من فارقَهما وظاهَرَ عليهما؟ فقالت: نعم، فجزاك الله خيرًا يا أبا عُتْبة (1) “.
قال ابن إسحاق: “وحُدِّثتُ أنه كان يقول في بعض ما يقول: يَعِدُني محمدٌ أشياء لا أراها، يزعمُ أنها كائنةٌ بعد الموت، فماذا وضع (2) في يديَّ بعد (3) ذلك؟! ثم ينفخُ في يديه، ويقول: تبًّا لكما، ما أرى فيكما شيئًا مما يقول محمد! فأنزل الله فيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} “.
قال عبد الملك بن هشام (4): ” {تَبَّتْ}: خَسِرت. والتَّباب: الخسَار (5). قال حبيب بن خِدْرة الخارجيّ، أحد بني هِلال بن عامر بن صَعْصَعة:
يا طيبُ إنا في معشرٍ ذهبَت … مَسْعاتُهم في التَّبار والتَّببِ (6)
_________
(1) في طرة الأصل: “حاشية: له كنيتان غلبت عليه إحداهما, وبنوه: عتبة, ومعتب, ودرَّة, لهم صحبة”. انظر: “جمهرة أنساب العرب” لابن حزم (72) , و”مختصر سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ” لعبد الغني المقدسي (98) , و”ذخائر العقبى” للمحب الطبري (414).
(2) كتب الناسخ في الأصل فوقها بخط صغير: “وقع”, وفوقها: خ. أي في نسخة أخرى.
(3) كتب الناسخ فوقها كذلك بخط صغير: “من”, وفوقها: خ. فتكون العبارة: “فماذا وقع في يدي من ذلك”. وفي “دلائل النبوة” لأبي نعيم (632): “فماذا وضع في يدي من ذلك”. والمثبت من الأصل موافقٌ لسيرة ابن هشام.
(4) “السيرة” لابن هشام (1/ 377).
(5) “السيرة”: “الخسران”.
(6) لم أجده في مصدر آخر, وقد فات إحسان عباس في جمعه لشعر حبيب بن خدرة في “شعر الخوارج” (210 – 215).

(9/201)


وذكر قصة الشِّعْب، قال: “ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ذلك يدعو قومه ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، مُبادِيًا بأمر الله، لا يتَّقي فيه أحدًا من الناس.
فجعلت قريشٌ حين منعه الله تعالى منها، وقام عمُّه وقومُه من بني هاشمٍ وبني المطلب دونه، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به = يهمزونه، ويستهزؤون به، ويخاصمونه.
وجعل القرآنُ ينزل في قريشٍ بأحداثهم (1)، وفي من نصَب لعداوته، منهم من سُمِّي لنا، ومنهم من نزل فيه القرآنُ في عامَّة من ذكَر الله من الكفَّار.
فكان ممن سُمِّي لنا من قريشٍ ممن نزل فيه القرآن (2): عمُّه أبو لهب بن عبد المطلب، وامرأته أمُّ جميلٍ بنتُ حرب بن أمية، حمَّالةُ الحطب، وإنما سمَّاها الله: “حمَّالة الحطب” لأنها كانت ــ فيما بلغني (3) ــ تحملُ الشَّوكَ فتطرحُه على طريق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حيث يمرُّ، فأنزل الله فيها: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} ” (4).
_________
(1) كذا في الأصل وعامة المصادر. أي: بأفعالهم. ووقع استعمالها بهذا المعنى في مواضع أخرى من السيرة. انظر: (2/ 182, 184).
(2) في طرة الأصل: “في مغازي الأموي: ممن كان يؤذي النبي – صلى الله عليه وسلم – , ويستهزئ به, ويخاصمه”.
(3) الأصل “يبلغني”. والمثبت من “السيرة” وعامة المصادر, وهو المعهود من كلام ابن إسحاق.
(4) “السيرة” لابن هشام (1/ 380).

(9/202)


قال عبد الملك بن هشام: “الجِيد: العُنق.
قال أعشى بن قيس بن ثعلبة:
يوم تُبْدِي لنا قَتِيلةُ عن جيـ … ـــــدٍ أسيلٍ تَزِينُه الأطواقُ (1)
وجمعُه: أجياد.
والمَسَد: شجرٌ يُدَقُّ كما يُدَقُّ الكتَّان، فتُفْتَل منه حبال.
قال النابغة الذبياني:
مقذوفةٍ بدَخِيس النَّحْض بازِلُها … له صَرِيفٌ صَرِيفُ القَعْو بالمَسَد (2)
وواحدُه (3): مَسَدَة”.
قال ابن إسحاق: “فذُكِر لي أن أمَّ جميلٍ “حمَّالةَ الحطب” حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن، أتت رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – وهو جالسٌ في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكرٍ الصِّديق – رضي الله عنه -، وفي يدها فِهْرٌ من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ اللهُ ببصرها عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجُوني، وتالله لو وجدتُه لضربتُ بهذا الفِهْر فاه، أما والله إني لشاعرة:
_________
(1) الأصل: “الأطراف”, وهو تحريف. والبيت في ديوان الأعشى (209) , ومعاجم اللغة (تلع).
(2) ديوان النابغة (16) , يصف ناقته. وفسَّر الصَّريف في طرة الأصل, فقال: صوت.
(3) واحدُ المسد. وفي “السيرة”: “وواحدته”. وكلاهما جائز.

(9/203)


مُذَمَّمًا عَصَيْنا
وأمرَه أَبَيْنا
ودينَه قَلَيْنا
ثم انصرفَتْ. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتكَ؟! فقال: ما رأتني، لقد أخذ اللهُ ببصرها عني” (1).
قال ابن هشام: “قولها: “ودينَه قَلَيْنا” عن غير ابن إسحاق”.
قال ابن إسحاق: “وكانت قريشٌ إنما تسمِّي رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم -: مُذَمَّمًا، ثم يسبُّونه ويهجُون مُذَمَّمًا.
فكان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ألا تعجبون لِمَا صرفَ الله عني من أذى
_________
(1) “السيرة” لابن هشام (1/ 382). وأخرج الخبر من غير طريق ابن إسحاق: الحميدي (325) – ومن طريقه ابن أبي حاتم في “التفسير” (10/ 3472) , وأبو نعيم في “دلائل النبوة” (294) -, وأبو يعلى (53) , والأزرقي في “أخبار مكة” (1/ 316) , وغيرهم من حديث سفيان بن عيينة, عن الوليد بن كثير، عن ابن تدرس, عن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما – , وصححه الحاكم (2/ 361) ولم يتعقبه الذهبي, ولا بأس بإسناده إن سلم من إرسال ابن تَدْرُس، وهو أبو الزبير المكي محمد بن مسلم بن تَدْرُس، كما بينه الحافظ ابن حجر في “إتحاف المهرة” (16/ 848).
وله شاهدٌ من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – , أخرجه البزار (15) , وأبو يعلى (25, 2358) , والدارقطني في “الأفراد” (2368 – أطراف الأفراد لابن طاهر) , وأبو نعيم في “دلائل النبوة” (293) , وغيرهم, وصححه ابن حبان (6511) , وخرجه الضياء في “المختارة” (292) , وحسنه ابن حجر في “الفتح” (8/ 738).

(9/204)


قريش؟! يسبُّون ويهجُون مُذَمَّمًا، وأنا محمد” (1).
انتهى ما ذكره شيخ الإسلام
_________
(1) “السيرة” لابن هشام (1/ 382). وهو في صحيح البخاري (3533) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.

(9/205)


مسألة
في تفسير استعاذة النبي – صلى الله عليه وسلم –
من الهمِّ والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضِلَع الدَّين وغلبة الرجال

(9/207)


مسألة في تفسير استعاذة النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحَزَن، والعجز والكسل، والبخل والجُبن، وضِلَع الدَّين وغلبة الرجال” (1).
أجاب شيخ الإسلام – رضي الله عنه -:
الحمد لله، النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – جمع في هذا الحديث بين أصناف الشرِّ (2) التي يُستعاذ منها في أحوال العبد، كل اثنين مِن صِنْف؛ فالهمُّ والحَزَنُ من صنف، والعجزُ والكسلُ مِن صِنْف، والجُبنُ والبخلُ مِن صِنْف، وضِلَعُ الدَّين وغلبةُ الرجال مِن صِنْف.
* فأول ذلك: “الهمُّ والحَزَن”، فالهمُّ يتعلق بالمستقبل، مثل أمورٍ يحذر من وقوعها، فيهتمُّ لأجلها، أو يرجو حصولها، فيهتمُّ أن لا تحصل. والحَزن يتعلق بالماضي والحاضر، مثل أمورٍ كان يكرهها، فيحزنُ لحصولها، أو كان يطلبها، ففاتت، فيحزنُ لفواتها، كما قال تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23].
* و”العجز والكسل” يتعلقان بالفعل الذي ينبغي له فعلُه، فتارةً يعجز عنه، وتارةً لا يكون عاجزًا، لكن يحصل له كسلٌ وفتورٌ في همَّته.

* و”البخل والجبن” قرينان، فالبخيلُ الذي مَنَع معروفَه خوفًا على ماله، والجبانُ الذي لا يدفعُ الشرَّ خوفًا على نفسه من عدوِّه. فالأول يخافُ
_________
(1) أخرجه البخاري (2893) واللفظ له، ومسلم (2706) من حديث أنس – رضي الله عنه -.
(2) رسمها في الأصل قريبٌ من “الفتن”، وستأتي كما أثبتُّ في آخر المسألة.

(9/209)


زوالَ النافع، والثاني يخافُ حصولَ الضارِّ.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “شرُّ ما في المرء شُحٌّ هالِع، وجبنٌ خالِع” (1) , وكلاهما يكونُ من ضعف النفس وهلعها.

* و”ضِلَع الدين وغلبة الرجال” من جنسٍ واحد؛ فإن المقهور تارةً يُقْهَرُ بحقٍّ، وهو المغلوب، وهو الذي ضَلَعه الدَّينُ، وتارةً بباطل، كرجالٍ اجتمعوا عليه فغلبوه.
وهذان كلاهما عاجزٌ مقهور، الأول عاجزٌ مقهورٌ بحقٍّ غَلَبه، عليه أن يؤدِّيه، وهو لا يقدِر، والثاني هو عاجزٌ مقهورٌ برجالٍ يعارضونه ويغلبونه حتى يمنعوه من مصالحه وأشغاله.
وقد رتَّبه النبي – صلى الله عليه وسلم – ترتيبًا محكمًا:
فالهمُّ والحَزَنُ متعلقان بالمصائب، مثل فوات مطلوبٍ وحصول مكروه.
والعجزُ والكسلُ متعلقان بالأفعال التي يُؤْثِرُها، وهي نافعةٌ له، فإذا لم يفعلها حصل له الضرر، ويكونُ تركُها لعجزٍ أو كسل.
_________
(1) أخرجه أحمد (8010)، وأبو داود (2511) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – بسندٍ حسن، وصححه ابن حبان (3250)، وقال ابن طاهر: “إسناده متصل، وهو من شرط أبي داود، وقد احتجَّ مسلمٌ بموسى بن علي عن أبيه عن جماعةٍ من الصَّحابة”، كما في “تخريج أحاديث الكشاف” للزيلعي (4/ 89)، ويشبه أن يكون من كتاب “الكشف عن أحاديث الشهاب” لابن طاهر، والزيلعي كثير النقل عنه، والحديث في مسند “الشهاب” (1338). وجوَّده العراقي في “المغني عن حمل الإسفار” (910).

(9/210)


وهذه الأربعة تتعلَّق به في نفسه، فمحلُّها (1) نفسُ الإنسان.
وأما البخلُ والجبنُ، وضِلَعُ الدَّين وغلبةُ الرجال، فإنها تتعلق بأمورٍ منفصلة عنه، الأوَّلان يتعلقان بإرادته للأمور المتصلة، والآخران يتعلقان بقدرته على الأمور المنفصلة.
كما أن الأربعة الأُوَل: الأوَّلان يتعلقان بالمحبوب والمكروه، والآخران يتعلقان بالمقدور عليه والمعجوز عنه.
فالبخيل الذي لا يريدُ أن يبذل ما ينفعُ الناس؛ لعدم إرادته الإحسانَ إليهم، أو لخوفه من إخراج النافع منه (2)، أو لبغضه (3) للخير وحسده للناس.
والجبانُ الذي لا يريدُ دفعَ المضرَّة؛ خوفًا من حصول ما يضرُّه، وزوال ما ينفعُه، فيقعُ في أعظم الضررين خوفًا من أدناهما، إما جهلًا بحقيقة ما ينفعُه ويضرُّه، وإما ضعفَ نفسٍ بهَلعٍ (4) يخلعُ قلبَه.
والجبنُ والبخلُ متعلقان بما في النفس من إرادةٍ وكراهة، وقوةٍ وضعف.
وأما ضِلَعُ الدين وغلبةُ الرجال فكلاهما هو مما يكون في المرء مقهورًا بغيره، قد عجَّزته الأمورُ المنفصلة عنه، ليس من عجزٍ حصَل في نفسه ابتداءً،
_________
(1) الأصل: “محلها”. والمثبت أشبه.
(2) كذا في الأصل. أي: خوفه من ذهاب ماله إذا أنفقه. انظر: “الرد على الشاذلي” (90).
(3) رسمها في الأصل قريب من “لتنقصه”، والمثبت أقوم، كما وقع في موضعٍ آخر من كلام المصنف. انظر: “مجموع الفتاوى” (10/ 591).
(4) الأصل: “ضعف بنفس هلع”. من سهو الناسخ.

(9/211)


فالدَّين: مطالبةُ (1) الغرماءِ به مع عجزه عن الوفاء له، وقهرُه: الرجالُ الغالبون يعجِّزون القادرَ ويمنعونه ويقهرونه.
فهذه الأمور التي استعاذ منها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – فيها من الحِكَم الجوامع التي تجمعُ أنواع الشرِّ المستعاذ منه، المتعلقة بنفس الإنسان، وأعماله الباطنة والظاهرة = ما هو مصدِّقٌ لقوله – صلى الله عليه وسلم -: “أوتيتُ جوامعَ الكَلِم” (2)، والله أعلم (3).

تمت، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
_________
(1) كذا رسمت في الأصل: “مطالبه”. ويحتمل أن يكون الصواب: “يطالبه”.
(2) أخرجه البخاري (7013)، ومسلم (523) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) انتفع ابن القيم – رحمه الله – بهذا الجواب، ولخص مقاصده في كتبه “مفتاح دار السعادة” (313)، و”طريق الهجرتين” (606)، و”روضة المحبين” (61)، و”بدائع الفوائد” (714)، و”زاد المعاد” (2/ 358).

(9/212)


مسائل حديثية

(9/213)


* مسألة في قوله – صلى الله عليه وسلم -: “اتخذوا مع الفقراء أيادي؛ فإن لهم يوم القيامة دولةً وأيَّ دولة” (1)،
وما هم الفقراء؟ وقد قيل عنه: قال: “مكتوبٌ على كل فرجٍ ناكحُه من حلالٍ وحرام” (2)، هل هو صحيحٌ أم لا؟
الجواب: أما الحديث الأول فباطل (3). والدولة في الآخرة هي للمتقين (4)، سواء كانوا من الأغنياء أو الفقراء. ومن أحسنَ إلى الفقراء الله
_________
(1) أخرجه أبو الغنائم النرسي في “ثواب قضاء حوائج الإخوان” (39) مرسلًا من حديث أبي عبد الرحمن السلمي بإسنادٍ فيه مجاهيل.
ويروى مرفوعًا من وجه آخر عند ابن عدي في “الكامل” (6/ 347)، وفيه راوٍ متهم بالكذب. قال ابن عدي: “هذا حديثٌ منكرٌ بهذا الإسناد”. وكذا قال العقيلي: “منكر”، نقله ابن حجر في “اللسان” (8/ 218)، والسخاوي في “الأجوبة المرضية” (2/ 748)، وليس في المطبوع من “الضعفاء”. وأورده ابن الجوزي في “العلل المتناهية” (2/ 25)، وقال الذهبي في “الميزان” (4/ 410): “موضوع”.
وأخرجه أبو نعيم في “الحلية” (4/ 71) من قول وهب بن منبه، وهو أشبه به، إلا أن
في الإسناد إليه كذابًا. انظر: “السلسلة الضعيفة” (1613).
وعزاه العراقيُّ في “المغني عن حمل الأسفار” (1549) للحلية من حديث الحسن بن علي – رضي الله عنهما -، وقال: “بإسنادٍ ضعيف”، ولعله وهم.

وأورد الحديث ابن القيم في “المنار المنيف” (137) في الأحاديث الباطلة، وقال ابن حجر: “لا أصل له”. انظر: “المقاصد الحسنة” (542).
(2) لا أصل له في دواوين السنة، وإنما يقع في بعض كتب المجون من كلام العامة، كما في “الروض العاطر” للنفزاوي ونحوه.
(3) انظر: “أحاديث القُصَّاص” للمصنف (59)، و”مجموع الفتاوى” (11/ 109، 111, 18/ 123)، و”الزيادات على الموضوعات” للسيوطي (2/ 794).
(4) “مختصر الفتاوى”: “للمؤمنين”.

(9/215)


يأجرُه على ذلك، ومن أحسنَ إليهم يطلبُ الجزاء منهم، كما تؤخذ (1) اليدُ من الشخص ليكافئه بها، فلا أجر له عند الله.
وأما الحديثُ الآخر فليس له صحَّة، وليس هو من كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – (2)، لكن لا ريب أن الله كتب ما يفعل العبادُ قبل أن يفعلوه، وذلك يكون عنده، وقد كتبت الملائكةُ ما يعمله العبد قبل أن يعمله (3)، والله أعلم (4).
* … * … *
* مسألة في من قال: “إن الصلاة بخاتم العقيق أفضلُ سبعين درجةً بغير خاتم عقيق”، فهل هذا صحيحٌ أم لا؟
الجواب: ليس هذا صحيحًا عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، بل هو كذبٌ عليه (5)، ومن قال هذا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان قوله مردودًا عليه؛ فإن هذا كلامٌ مخالفٌ لإجماع المسلمين، والله أعلم.
_________
(1) كذا رسمت في الأصل، ولعلها: تُتَّخذ. والعبارة في “مختصر الفتاوى”: “كما يوجد البدء بالإحسان ليكافئه عليه الفقير”، وكأنها من إصلاح المختصِر أو الناشر.
(2) “مختصر الفتاوى”: “فليس صحيحًا أيضًا، وليس هو من جنس كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – “.
(3) “مختصر الفتاوى”: “فذلك عنده، وقد ثبت أن الله يأمر الملك فيكتب على العبد كل ما يفعله قبل أن ينفخ فيه الروح”.
(4) الفتوى في “مختصر الفتاوى المصرية” للبعلي (600، 601).
(5) وكذلك قال الحافظ ابن حجر في حديث “صلاةٌ بخاتم تعدل سبعين بغير خاتم”: إنه موضوع. انظر: “المقاصد الحسنة” (423). وفي “الأسرار المرفوعة” (234) أن ابن حجر نقل ذلك عن شيخه الحافظ العراقي.

(9/216)


* مسألة: هل صحَّ أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “المؤمن حُلْوِيًّا (1)، والكافر خَمْرِيًّا”، و “المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء”؟
الجواب: الحمد لله، أما قوله: “المؤمن يأكل في مِعًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء” (2)، فهو حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وأما الأول فليس هو معروفًا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بهذا اللفظ (3)،
لكن معناه موافقٌ لسُنَّته؛ فإن
_________
(1) كذا في الأصل و”أجوبة الحافظ ابن حجر على أسئلة بعض تلامذته” (46)، بالنصب وإثبات الألف في الموضعين. وفي “المنار المنيف” (58) و”المقاصد الحسنة” (438) بالرفع على الجادة.
(2) أخرجه البخاري (5393)، ومسلم (2060) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
(3) وكذلك قال الحافظ ابن حجر في أجوبته (46): “هو باطلٌ لا أصل له”.
وقريبٌ منه ما أخرجه الديلمي في “مسند الفردوس” (4/ 177) بإسنادٍ شديد الضعف من حديث علي – رضي الله عنه – مرفوعًا: “المؤمن حلوٌ يحبُّ الحلاوة”.
وأخرجه البيهقي في “شعب الإيمان” (5534) من حديث أبي أمامة – رضي الله عنه – بلفظ: “قلب المؤمن حلوٌ يحبُّ الحلاوة”، وقال: “متن الحديث منكر، وفي إسناده من هو مجهول”.

وركَّب له بعض الكذابين إسنادًا آخر، أخرجه الخطيب في “تاريخ بغداد” (4/ 193)، ومن طريقه ابن الجوزي في “الموضوعات” (1377) من حديث أبي موسى – رضي الله عنه -، وهو موضوع مختلق، كما بيَّنه الخطيب، وقال ابن الجوزي: “هذا حديثٌ لا يصح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “.
وذكره ابن القيم في كتاب “المنار المنيف” (58) في الأحاديث التي هي بوصف الأطباء والطُّرقية أشبه، وقال: “وحديث: المؤمن حلوٌ يحبُّ الحلاوة، ورواه الكذابُ الأشِر بلفظ آخر: المؤمن حُلْوي والكافر خَمْري”.

(9/217)


النبي – صلى الله عليه وسلم – “كان يحبُّ الحَلْواء والعسل” (1)، والخمر مما حرَّمه الله ورسوله، فالخمر يستحلُّها الكفَّار، والحُلْو يستحبُّه إمام المؤمنين، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في من روى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “آيةٌ من كتاب الله خيرٌ من محمدٍ وآل محمد”، هل هو صحيحٌ أم لا؟
الجواب: هذا الحديث لم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (2)، لكن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو أفضل من كلِّ مخلوق، والله أعلم (3).
* … * … *
_________
(1) أخرجه البخاري (5431)، ومسلم (1474) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(2) وقال السخاوي في “الأجوبة المرضية” (2/ 860)، و”المقاصد الحسنة” (41): “لم أقف عليه الآن في شيءٍ من الكتب المعتمدة، وكذا – فيما قيل – شيخي [الحافظ ابن حجر]- رحمه الله – من قبلي، ولكن قد رأيته بخطِّ بعض أصحابنا المحدثين ممن أخذ عن شيخنا رحمهما الله في هامش نسخته من كتاب تلخيص شيخنا لمسند الفردوس، من غير عزوٍ لمخرِّجٍ ولا ذِكْر صحابي، وهو شيءٌ لا أعتمده”. ثم أورد آثارًا تدل على معناه عن بعض الصَّحابة.
وكذا قال السيوطي في “الحاوي” (1/ 429): “لم أقف عليه”.
وانظر: “الأسرار المرفوعة” (75)، و”كشف الخفا” (1/ 27).
(3) وقال في موضعٍ آخر: “القرآن كلُّه كلام الله، منزَّلٌ غير مخلوق، فلا يشبَّه بالمخلوقين، واللفظ المذكور غير مأثور”. “أحاديث القصَّاص” (80)، وانظر: “مجموع الفتاوى” (18/ 126، 382). وحكى بعضهم عنه أنه قال: “موضوع”، ولعله نقلٌ بالمعنى. انظر: “تنزيه الشريعة” (1/ 309).

(9/218)


* وقال – رضي الله عنه -، وقد سئل: هل قتل عُمَرُ أباه؟
فقال: لم يصحَّ هذا، والذي صحَّ أن أبا عبيدة بن الجرَّاح قتل أباه (1).
وصحَّ أيضًا أن عبد الرحمن بن أبي بكر قال لأبي بكر: رأيتُك يوم بدر، فعدلتُ عنك، فقال أبو بكر – رضي الله عنه -: لكني يا بنيَّ لو رأيتُك ما عدلتُ عنك، ثم تلا قوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ} الآية [المجادلة: 22] (2).
* … * … *
* وسئل: عن حديث ميمونة – رضي الله عنها – في إهداء الزيت إلى بيت المقدس (3).
_________
(1) أخرجه الطبراني في “الكبير” (1/ 154)، و الحاكم (3/ 296)، ومن طريقه البيهقي (18/ 91) وقال: “هذا منقطع”، وهو كما قال، فعبد الله بن شوذب لم يدرك زمن أبي عبيدة، وإن كان الإسناد إليه جيدًا كما في “الإصابة” (5/ 509).
وقال ابن الملقن في “البدر المنير” (9/ 79): “هذا مرسلٌ على قول الأكثر، وعلى قول من زعم أن المرسل لا يكون إلا من التابعين يكون معضلًا؛ لأن عبد الله هذا إنما يروي عن التابعين”. واختار ابن حجر مصطلح الإعضال، فقال في “التلخيص الحبير” (6/ 2901): “هذا معضل، وكان الواقدي ينكره، ويقول: مات والد أبي عبيدة قبل الإِسلام”. ووصفه بالإرسال في “فتح الباري” (7/ 93).
(2) أخرجه الدينوري في “المجالسة” (1076)، ومن طريقه ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (30/ 127) من حديث عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين مرسلًا. وانظر: “غريب الحديث” لابن قتيبة (1/ 578).
(3) أخرجه أحمد (27626)، وأبو داود (457)، وابن ماجه (1407) أن ميمونة مولاة النبي – صلى الله عليه وسلم – قالت: يا رسول الله، أفتنا في بيت المقدس، فقال: “إئتوه فصلُّوا فيه، فإن لم تأتوه وتصلُّوا فيه، فابعثوا بزيتٍ يُسْرَجُ في قناديله”. وهو حديثٌ مضطربُ الإسناد، منكر المتن. قال الذهبي في “الميزان” (2/ 90): “هذا حديثٌ منكرٌ جدًّا”، وبسط ذلك في “مهذب سنن البيهقي” (2/ 869)، فقال: “هذا خبرٌ منكر، وكيف يسوغ أن يبعث بزيتٍ ليُسْرِجَه النصارى على التماثيل والصُّلبان؟! وأيضًا، فالزيت منبعُه من الأرض المقدسة، فكيف يأمرهم أن يبعثوا به من الحجاز محلِّ عُدْمِه إلى معدنه؟! ثم إنه عليه السلام لم يأمرهم بوَقِيدٍ ولا بقناديل في مسجده، ولا فَعَله”.
وانظر: “بيان الوهم والإيهام” (5/ 535)، و”الإصابة” (14/ 226).
وحسَّن النووي إسناده في “المجموع” (8/ 278)، و”خلاصة الأحكام” (1/ 306)، وصححه البوصيري في “مصباح الزجاجة” (2/ 14)، و”إتحاف الخيرة” (2/ 25)، وبعض المعاصرين، فلم يصيبوا.

(9/219)


فقال: موضوع (1).
* … * … *

* وقال أيضًا في حديث “الصَّلاة في أول الوقت رضوانٌ من الله، وآخره
_________
(1) ترك الناسخ بعد هذا بياضًا بمقدار كلمة، ثم كتب: “وهو رواه الإمام أحمد وأبو داود وأبو يعلى الموصلي”. ويشبه أن يكون التخريج تعليقًا لابن المحب على نسخته، كما وقع في مواضع من هذا المجموع، فأدخله الناسخ سهوًا في المتن. وعلَّق أحدهم في طرة الأصل: “حديث ميمونة أخرجه أبو داود، فقوله: “موضوع” عجيب”.
وإنما أراد شيخ الإسلام بالوضع هنا العلمَ بانتفاء الخبر، وإن كان صاحبه لم يتعمد الكذب، بل أخطأ في روايته، وقد قرَّر أن من هذا الضرب أحاديث في المسند والسنن. انظر: “مجموع الفتاوى” (1/ 248)، و”المصعد الأحمد” لابن الجزري (16).

ومعلومٌ معرفة الشيخ بالمسند، وتوقيره له، وبيانه لتحوط الإمام أحمد من الرواية فيه عن الكذابين. انظر: “منهاج السنة” (5/ 23، 7/ 98، 278، 399، 400)، و”اقتضاء الصراط المستقيم” (1/ 440)، و”مجموع الفتاوى” (18/ 72).

(9/220)


عفوُ الله” (1): لا يصحُّ، وضعَّفه الإمام أحمد وغيره (2).
_________
(1) روي من وجوه كثيرة لا يصحُّ منها شيء، وأمثل ما في الباب روايته من قول أبي جعفر محمد بن علي الباقر – رضي الله عنهم -. انظر: “البدر المنير” (3/ 206 – 212).
(2) انظر كلام الإمام أحمد في “التحقيق” لابن الجوزي (1/ 287)، و”الإمام” لابن دقيق العيد (4/ 75)، و”شرح العمدة” (2/ 194).
وفي متن الحديث نكارةٌ بيَّنها الشيخ في “الجواب الصحيح” (3/ 170)، فقال: “ولهذا ضعَّف أحمد بن حنبل وغيره الحديثَ المرويَّ: أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله؛ فإن من صلى في آخر الوقت كما أُمِر فقد فَعَل الواجبَ، وبذلك يرضى الله عنه، وإن كان فِعْلُ المستحبات والمسابقة إلى الطاعات أبلغ في إرضاء الله”.

(9/221)


مسألة
في التوبة هل تُسْقِط قضاء الفرائض؟

(9/223)


مسألة: في رجلٍ أسرف على نفسه في الاعتقادات والعمليات، إذا تاب إلى الله هل تُقْبَل توبته؟
وهل إذا تاب يَسْقُط عنه قضاءُ ما فرَّط فيه من الفرائض، كالصلاة والصيام، كما يَسْقُط عن الكافر إذا أسلم؟ وتَسْقُط عنه كفَّاراتُ الفطر في رمضان بجماعٍ وطعام؟
وعليه صلواتٌ لم يَعْرِف عددَها.
الجواب: نعم، يقبل الله توبته وتوبة كلِّ تائب، ويغفر لكلِّ تائبٍ كلَّ ذنبٍ تاب منه، قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وأما ما تركه من الصلاة والصيام، فإن كان عن ردَّةٍ في الباطن، مثل جَحْدِ الوجوب، أو شكٍّ فيه، أو في رسالة الرسول، فهذا لا قضاء عليه عند جمهور المسلمين، مالك، وأبي حنيفة، والإمام أحمد في ظاهر مذهبه (1).
ولو كان مرتدًّا مُظْهِرًا للردَّة، فإن الذين ارتدُّوا على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم -، وعلى عهد أبي بكر – رضي الله عنه -، ثم عادوا إلى الإسلام، لم يؤمر أحدٌ منهم بقضاء ما تركه في زمن الردَّة، مثل عبد الله بن سعيد بن [أبي] سَرْحٍ، وغيره (2).
_________
(1) انظر: “الأوسط” (2/ 115، 4/ 396)، و”الإشراف” (2/ 222)، ومختصر اختلاف العلماء للطحاوي (1/ 319)، و”المغني” (2/ 48، 49).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (22/ 46، 103).

(9/225)


وكذلك إذا كان هذا في نفسه لم يُظْهِره لأحد؛ فإن غايته أن يكون منافقًا، ثم تاب وصار مؤمنًا، والمنافقون الذين كانوا يتوبون لم يكونوا يؤمرون بقضاء ما تركوه في حال النفاق.
وذلك لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
وقد أجمع المسلمون إجماعًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام أن الكافر الأصليَّ إذا أسلم لا يجبُ عليه قضاء ما تركه في حال الكفر من صلاةٍ وزكاةٍ وصيام، سواءٌ قيل: إن الكفَّار مخاطبون بفروع الشريعة، أو قيل: إنهم غير مخاطبين بها؛ فإن أثر النزاع يظهر في عقوبة الآخرة (1)، وأما في الدنيا … فلا تصحُّ منهم هذه العبادات في حال الكفر، ولا يؤمرون بقضائها بعد الإسلام.
ومن ترك بعض الصلوات، أو بعض أركانها، جهلًا بوجوبها، وكذلك الصيام، فلا قضاء عليه أيضًا في أظهر قولي العلماء (2)، وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد وغيره (3).
كما لم يأمر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – المستحاضة أن تقضي ما تركته من الصلاة زمن
_________
(1) انظر: “المحصول” (2/ 237)، و”التحبير شرح التحرير” (3/ 1158).
(2) انظر: “منهاج السنة” (5/ 123، 124)، و”مجموع الفتاوى” (3/ 287، 11/ 407، 19/ 226، 21/ 429، 22/ 42، 102، 23/ 37)، و”جامع المسائل” (7/ 111، 8/ 274)، و”الاختيارات” للبعلي (48).
(3) انظر: “الفروع” (1/ 405، 406)، و”الإنصاف” (1/ 389).

(9/226)


الاستحاضة (1).
ولم يأمر عمرَ وعمَّارًا أن يقضيا ما تركاه من الصلاة لمَّا أجنَبا، فعمرُ لم يصلِّ، وأما عمَّار فتمرَّغ كما تمرَّغ الدابة (2).
ولم يأمر أبا ذرٍّ لما كان يُجْنِب ولا يصلي بالقضاء (3).
ولم يأمر من كان يأكل حتى يتبين له الحبلُ الأبيض من الحبل الأسود [بقضاء الصيام] (4).
إلى أمثال ذلك.
بل كان يأمرهم باستئناف العمل بما أُمِروا به، وما تركوه جاهلين بوجوبه لا يقضونه؛ لأن حكمَ الخطاب إنما يثبتُ في حقِّ المكلفين بعد بلوغ الخطاب.
وإذا تعمَّد تفويتَ الصلاة والصيام، مع علمه بالوجوب، فهذا فعلُه من الكبائر، لا يَسْقُط عنه العقابُ ولو قضاه إلا بالتوبة. لكن هل يَخِفُّ (5) عنه؟ فيه قولان، والأظهر أن القضاء لا ينفعه، وإنما تنفعه التوبة، وإذا تاب تاب الله
_________
(1) في الحديث الذي أخرجه البخاري (228)، ومسلم (333).
(2) أخرجه البخاري (347)، ومسلم (368).
(3) أخرجه أبو داود (332)، وصححه ابن حبان (1311).
(4) أخرجه البخاري (1916، 1917)، ومسلم (1090، 1091). وما بين المعقوفين زيادة تقديرية يقتضيها السياق.
(5) يعني العقاب أو الإثم. انظر: “منهاج السنة” (5/ 233). وفي “الفتاوى” (22/ 39): “يخفف”، وهي الموافقة لنظم القرآن.

(9/227)


عليه، كما يتوبُ من سائر الكبائر، كالزنا والسرقة وشرب الخمر، وكما يتوبُ مِن تَرْكِ الجمعة ونحوها مما لا يُفْعَل إلا في وقته؛ فإن أدلة الشرع متطابقةٌ على أن العبادات المؤقَّتة لا يقبلها الله إلا كما أمَر في الوقت الذي شَرَع فعلَها فيه (1).
وأما إذا جامع في رمضان، عالمًا بتحريم الوطء، فعليه الكفَّارة التي أمر بها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – (2): عتقُ رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعمَ ستين مسكينًا، والله تعالى أعلم.
_________
(1) انظر: “منهاج السنة” (5/ 215 – 233)، و”الاختيارات” للبعلي (53).
(2) أخرجه البخاري (5368)، ومسلم (1111).

(9/228)


مسألة
في حكم صوم الدهر

(9/229)


* وسئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية – رضي الله عنه – عن قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من صام الدَّهر فكأنه لا صام ولا أفطَر” (1)، هل هو لانتفاء المشقَّة، أو لا ثواب ولا عقاب؟
* فأجاب: الحمد لله. هذا مبنيٌّ على أصل، وهو أن صوم الدَّهر الذي ذكره النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -، هل هو سردُ الصَّوم وإن أفطر أيام النهي الخمسة: يومي العيدين وأيام منى، أو هو الصَّوم المشتمل على صيام الأيام الخمسة؟ على قولين مشهورين للعلماء:
* منهم من قال: إنما كُرِه صوم الدَّهر لصوم الأيام الخمسة. قالوا: فإذا أفطرهنَّ لم يكن بذلك بأس.
وهذا قولُ كثيرٍ من الفقهاء والعُبَّاد، حتى إنه يُروى ذلك عن مالك، والشافعي، والإمام أحمد، وغيرهم (2).
ومن هؤلاء من قال: إنَّ سَرْدَ الصَّوم أفضلُ من صوم يومٍ وفطر يوم (3). وروى بعضهم هذا عن الشافعي.
* والقول الثاني: أن من سَرَد الصَّوم دائمًا فقد صام الدَّهر، وإن أفطر الأيام الخمسة.
_________
(1) أخرجه مسلم (1162) من حديث أبي قتادة – رضي الله عنه -.
(2) انظر: “النوادر والزيادات” (2/ 77)، و”المجموع” للنووي (6/ 388)، و”مسائل إسحاق بن منصور” (3/ 1253)، و”شرح العمدة” لابن تيمية (3/ 446).
(3) انظر: “الإحياء” (1/ 238)، و”فتاوى العز بن عبد السلام” (157)، و”الإنصاف” (3/ 342).

(9/231)


وهذا قولُ طوائف ــ أيضًا ــ من أهل العلم (1)، وهو الصواب (2)؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لو كان قصدُه مجرَّد صوم الخمسة لم يذكر الصَّوم المشتمل على أكثر من ثلاثمئة وخمسين يومًا ويريد به كراهة صوم خمسةٍ فقط؛ فإن اللفظ لا يحتمل هذا لا حقيقةً ولا مجازًا.
ولأن تلك الخمسة نُهِي عن صومها لمعنًى يخصُّها، سواءٌ صام غيرَها أو أفطره؛ فلو صامها شخصٌ وأفطر ما سواها نُهِي عن ذلك وإن لم يَصُم الدَّهر، ولو أفطرها لم يُنْهَ على هذا التقدير وإن صام سائر الدَّهر؛ فعُلِمَ أن صوم سائر الدَّهر لا تأثير له في المنع.
وأيضًا، فإن هذه حرم صومها لكونها أيام العيد، ولم يقل في من صامها: “لا صام ولا أفطر”، وصوم الدَّهر قال فيه: “لا صام ولا أفطر”.
وأيضًا، فإن هذه قَرَنها بقيام الليل كلِّه، وبقراءة القرآن على ثلاث، وقَرَنها بصيام ثلثي الزمان وثلثه وشطره؛ فعُلِمَ أنه أراد استيعاب الزمان بالصيام، لا صوم خمسةٍ منه. وهذا ظاهرٌ في حديث عبد الله بن عمرو، وحديث أبي قتادة (3)، ونحوهما.
وأما من استحبَّ صوم الدَّهر على أفضل الصيامِ صيامِ داود، فهو مقابلةٌ لصريح السُّنَّة بالرأي؛ فلا يُلتفَتُ إليه.
وعلى هذا التقرير، فصومُ الدَّهر هل هو تركُ الأولى أو هو مكروهٌ يُنهى
_________
(1) انظر: “تهذيب الآثار” (305، 319 – مسند عمر)، و”المغني” (4/ 430).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (22/ 302)، و”الاختيارات” لابن عبد الهادي (45).
(3) تقدم تخريج حديث أبي قتادة، وسيأتي حديث ابن عمرو بعد قليل.

(9/232)


عنه؟ على وجهين في مذهب الإمام أحمد وغيره (1).
* فمن قال بالأول (2) قال: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم ينه عنه، ولكن قال: من فعله فلا صام ولا أفطر.
وهذا يقتضي أن من فعله لا يحصل له فائدة الصَّوم؛ لاعتياده له، ولا هو أيضًا مفطرٌ يلتذُّ التذاذَ المفطرين.
وهذا يقتضي أنه لم ينتفع بذلك في دينه ولا دنياه، وعدم الانتفاع يقتضي أن يكون تركُه أولى.
وقد جاء في حديثٍ في “المسند”: “من صام الدَّهر ضُيِّقَت عليه جهنَّم” (3)؛ لأنه بسرد الصَّوم أغلق عنه أبواب النار.
* والوجه الثاني: كراهة ذلك؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن ذلك عبد الله بن عمرو، وقال: “إذا فعلتَ ذلك هَجَمَت (4) له العين” أي: غارت، “ونَفِهَت له النفس” أي: سَئِمَت، وقال: “إن لنفسك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا،
_________
(1) انظر: “الفروع” (5/ 95)، و”الاختيارات” للبعلي (164).
(2) أي أن صوم الدَّهر ترك الأولى.
(3) أخرجه أحمد (19713) من حديث أبي موسى – رضي الله عنه – مرفوعًا، وصححه ابن خزيمة (2154)، وابن حبان (3584)، وقال الطوسي في مستخرجه على الترمذي (3/ 429): “حسنٌ غريب”.
وروي موقوفًا على أبي موسى، وهو أشبه. وقال العقيلي في “الضعفاء” (3/ 143): “لا يصحُّ مرفوعًا”. وانظر: “مسند الطيالسي” (515)، و”مسند البزار” (3063).
(4) الأصل: “هممت”. تحريف.

(9/233)


ولزَوْرِك عليك حقًّا؛ فآتِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه” (1).
فبيَّن – صلى الله عليه وسلم – أن ذلك يوجبُ ذلك، أو يفوِّتُ حقًّا واجبًا، ومثلُ ذلك نُهِي عنه، والأعمال المشروعة لا بدَّ أن تكون مصلحتُها راجحةً على مفسدتها.
وعلى هذا، فقد يقال: صوم الدَّهر في حقِّ بعض الناس يكون حرامًا، وهو من ترَك به واجبًا، أو وقع به في محرَّمٍ من ضرر النفس.
وفي حقِّ بعضهم مكروهًا، وهو من أوقعه في أفعالٍ مكروهة، أو أوجبَ أن يفعَل المأمورَ على وجهٍ مكروه، مثل أن يُسِيء خلقَه حتى يُخاف عليه سوءُ العشرة لأهله، وأن يصلي صلاةً مكروهة، ونحو ذلك.
وقد يكون في حقِّ بعض الناس لا له ولا عليه، وهو الذي “لا صام ولا أفطر”، فلم يَتْرُك به واجبًا ولا مستحبًّا، ولا فعَل لأجله محرَّمًا ولا مكروهًا. وهذا الذي يقال في حقه: “لا ثواب ولا عقاب”.
والذين فعلوه من السَّلف قد يثابون على حُسن قصدهم واجتهادهم، وإن كانوا أخطأوا المشروع.
أو لم يكونوا يسردونه دائمًا، ولكن فعلوا ذلك أحيانًا.
أو يقال: انتفعوا به في ترك الآثام، وإن كانوا لم ينتفعوا به في حصول الحسنات، بحيث لو أفطروا لأذنبوا؛ فإذا صاموا الدَّهر كانوا بحيثُ لم يذنبوا ولم يُحْسِنوا. والسَّلامة أحد المطلوبَيْن.
_________
(1) أخرجه البخاري (1153، 1975)، ومسلم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما -، إلا قوله: “فأعط كل ذي حق حقه” ففي البخاري (1968) من حديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء – رضي الله عنهم -.

(9/234)


وعلى هذا، فيقال: النهي عن صومه لم يَرِد عامًّا، وإنما ورد (1) في حقِّ عبد الله بن عمرٍو ونحوه، وإنما قيل في العموم: “لا صام ولا أفطر”.
وأما قول السائل: هل ذلك لانتفاء المشقَّة أو لانتفاء الثواب والعقاب؟ فيقال له: بل لانتفاء فائدة الصَّوم ومقصودِه، وانتفاء الثواب تابعٌ لانتفاء المقصود؛ فإن العمل الذي لم يحصُل مقصودُه ينتفي ثوابُه، كقوله: “من لم يدع قول الزُّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامَه وشرابَه” (2)، وجاء: “ربَّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوعُ والعطش” (3).
مع أن هذا يُدْفَع عنه بالصَّوم العقابُ، فلو لم يَصُمْ لعُوقِب، ولو صام صومَ المتقين لحصل له الثواب. فإذا صام صومَ الفجَّار اندفع عنه العقاب، ولم يحصل له ثواب؛ لمقابلة ما عمله من الشرِّ فيه بما عمله من الخير.
وصائمُ الدَّهر جعل نهاره ليلًا، واعتادت النفسُ ذلك، فلم تحصل له بالصَّوم التقوى التي هي مقصود الصَّوم، كما قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، والله أعلم.
_________
(1) الأصل: “فرد”. تحريف.
(2) أخرجه البخاري (1903) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) أخرجه أحمد (8856) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – بسندٍ حسن، وصححه ابن خزيمة (1997)، وابن حبان (3481). وروي من وجوه أخرى.

(9/235)


رسالة
إلى ابن النقيب
في حديث “لا تشدُّوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد”

(9/237)


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني – رضي الله عنه -، وهي رسالة إلى ابن النقيب (1):
الحمد لله ربِّ العالمين.
السلام على الولد الفاضل اللبيب النجيب أبي عبد الله محمد بن النقيب أتمَّ الله عليه النعمة، ووهبه العلمَ والحكمة، وآتاه من لدنه الرحمة.
وبعد حمد الله، والصلاة على خاتم المرسلين محمدٍ وآله وسلَّم تسليمًا، فقد وصل ما أنعم الله تعالى على أبي عبد الله محمد، وحمدتُ الله وشكرته على ما أنعم به عليه من تعليم هذه الأمور، ومعرفة قدر العلم والإيمان؛ فإن ذلك أعظمُ نعمةٍ يُنْعِم الله بها على الإنسان، والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
والله سبحانه إذا أنعم على العبد بهذه النعمة فجميعُ الخيرات تبعٌ لها، وما أصابه بعد ذلك من سرَّاء فشكَر كان من تمام النعمة، وما أصابه بعد ذلك من ضرَّاء فصبَر كان من تمام النعمة؛ فإن الله لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له.
وقد يسَّر الله تعالى في هذه القضية (2) من أنواع النعمة والحكمة والرحمة ما يكونُ الذي رأيتُه قطرةً من بحره، ولكني أُخْرِجُه بتدريج.
_________
(1) محمد بن الحسن بن محمد، شمس الدين، أبو عبد الله الخَبَري، المعروف بابن النقيب، المحدث الفقيه، ولد سنة نيف وسبع مئة، وتوفي سنة 749. انظر: “المعجم المختص بالمحدثين” للذهبي (226)، و”الوفيات” لابن رافع (2/ 84)، و”توضيح المشتبه” (2/ 488)، و”الدرر الكامنة” (3/ 423).
(2) يعني المحنة التي جرت له سنة 726 بسبب فتواه بمنع الزيارة البدعية لقبور الأنبياء والصالحين، وسيأتي ذكرها والتعليق عليها (ص: 243، 249).

(9/239)


وإذا كَبُر الطلبُ (1) عَظُمَ المبذولُ وكَثُر؛ فإن كثيرًا منه لم تعرفه النفوسُ فتشتاق إليه؛ فإن الشوق فرعُ الشعور، ومن لم يشعُر بالشيء لم يشتق إليه (2).
والحديثُ الذي ذكرتَه في مسلمٍ هو كما وجدتَ، وهو في جميع النسخ، لا يختصُّ بنسخة، لكن مسلمًا ذكر هذا اللفظ (3) في أول المناسك عند ذكره قوله: “لا تسافر امرأةٌ إلا مع زوجٍ أو ذي محرم” (4).
فحديثُ أبي سعيدٍ تضمَّن هذا وتضمَّن قوله: “لا تسافروا إلا إلى ثلاثة مساجد”، فذكره مسلمٌ هناك لأجل ذاك، وشارحو مسلمٍ يذكرونه هناك لأجل ذاك القصد (5).
ولما ذكر مسلمٌ فضائل المدينة لم يذكر إلا حديث أبي هريرة: “لا تُشَدُّ الرحال” (6)، فشرحه من شرحه هناك، وإلا فلو تفطَّن من غلط في فهم معناه للفظ أبي سعيدٍ عرفوا غلطهم (7).
_________
(1) الأصل: “الطالب”. والمثبت أشبه بالصواب.
(2) انظر: “منهاج السنة” (3/ 64، 4/ 294).
(3) يعني قوله – صلى الله عليه وسلم – في حديث أبي سعيد: “لا تشدُّوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد”.
(4) “صحيح مسلم” (2/ 975 برقم 827).
(5) انظر: “إكمال المعلم” (4/ 448)، وشرح النووي (9/ 105).
(6) “صحيح مسلم” (2/ 1014 برقم 1397).
(7) وذلك أن لفظ حديث أبي سعيد صريحٌ في النهي. انظر: “الإخنائية” (114، 168، 393، 422)، و”قاعدة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق” (98).

(9/240)


ولفظُ أبي سعيدٍ هو في “الجمع بين الصَّحيحين” (1)، وغالبُ ظني أنه في البخاري أيضًا، فاكشِفُوه (2).
ولم يخالف هذا الحديثَ أحدٌ من السَّلف، بل الصَّحابة، كأبي سعيد، وابن عمر، وبصرة بن أبي بصرة (3)،
وغيرهم، متفقون على أن هذا نهيٌ يوجبُ التحريم، وأنه يتناول ما سوى المساجد الثلاثة (4).
والذين خالفوا هذا من المتأخرين حزبان:
* حزبٌ ظنُّوا أن النهي لم يتناول إلا المساجد، لم يتناول آثار الأنبياء.
وهذا قول ابن حزم الظاهري، استحبَّ السَّفر إلى آثار الأنبياء، ولم يذكر المقابر؛ لكونه لا يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه (5).
_________
(1) للحميدي (2/ 433)، ولعبد الحق الإشبيلي (2/ 329). ولشيخ الإسلام عناية بالغة بهما، وذكر البزار في “الأعلام العلية” (743) عنه أن أول كتابٍ حفظه في الحديث هو “الجمع بين الصحيحين” للحميدي.
(2) لم أجده في البخاري، ولا رأيت من عزاه إليه. ولفظه فيه (1197، 1864، 1995): “لا تُشَدُّ الرحال”. وانظر: “فتح الباري” (3/ 64).
(3) أثر أبي سعيد أخرجه أحمد في “المسند” (11883)، وابن شبة في “تاريخ المدينة” كما في “الإخنائية” (115، 424)، وليس بالقوي.
وأثر ابن عمر أخرجه البخاري في “التاريخ الكبير” (7/ 204)، والأزرقي في “تاريخ مكة” (304)، والفاكهي في “أخبار مكة” (2/ 87) بسند صحيح.

وأثر بصرة أخرجه مالك (364)، وأحمد (23848)، والنسائي (1430) وغيرهم بسند صحيح، وصححه ابن حبان (2772).
(4) انظر: “الإخنائية” (114، 393، 421، 424)، و”جامع المسائل” (4/ 168).
(5) انظر: “المحلى” (7/ 353). وأوجب كذلك (8/ 18) الوفاء على من نذر أن يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء. وانظر: “الإخنائية” (118، 420).

(9/241)


* وحزبٌ قالوا: إنه ليس بنهي، بل هو نفيٌ للوجوب بالنذر، أو نفيٌ للاستحباب (1).
وهذا قول طائفةٍ من أصحاب الشافعي، كالشيخ أبي حامد، وأبي المعالي، ومن تبعهم (2). وهو قول أبي محمد المقدسي ونحوه من أصحاب الإمام أحمد (3)، وقول ابن عبد البر وبعض متأخري المالكية (4).
وأما مالكٌ وجمهور أصحابه، وقدماء أصحاب الإمام أحمد وجمهورهم، وطائفةٌ من أصحاب الشافعي، فيقولون: إنه نهيٌ (5). وحديث أبي سعيد صريحٌ في حجة هؤلاء.
وأنا في جواب الفتيا التي لم يتَّسع فيها الكلام ذكرتُ القولين جميعًا، ولم أستقص الكلام فيها، بل بحسب حال السائل، وقد رجَّحتُ النهي، ولم أستوعب حججَ ترجيحه (6).
_________
(1) انظر: مختصر اختلاف العلماء للطحاوي (3/ 253)، و”معالم السنن” (2/ 222).
(2) انظر: “المهذب” (2/ 863)، و”نهاية المطلب” (18/ 431).
(3) انظر: “المغني” (3/ 117، 118).
(4) انظر: “الاستذكار” (2/ 41، 331)، و”المعونة” للقاضي عبد الوهاب (1/ 654)، و”المنتقى” للباجي (1/ 202، 3/ 231).
(5) اختاره القاضي عياض في “إكمال المعلم” (4/ 449)، وحكاه أبو المعالي عن أبيه أبي محمد الجويني في “نهاية المطلب” (18/ 431). وذكر ابن بطه أن من البدع شد الرحال إلى زيارة القبور في “الإبانة الصغرى” (366)، وكذلك ابن عقيل منع من السفر إليها. انظر: “اقتضاء الصراط” (2/ 182)، و”الإخنائية” (438).
(6) وهي فتيا قديمة مختصرة كتبها الشيخ في هذه المسألة وهو بالقاهرة، ثم أثيرت سنة 726 بعد نحو سبع عشرة سنة من كتابتها، وشنع بها بعض الناس عليه، وحرَّفوا كلامه، وكانت سبب الفتنة التي انتهت بحبسه – رحمه الله -. وقد نقل نصَّ الفتوى شيخ الإسلام في “الإخنائية” (136 – 150)، وصاحبه ابن عبد الهادي في “العقود الدرية” (400 – 410)، وهي ضمن “مجموع الفتاوى” (27/ 183 – 192).

(9/242)


وأما القول باستحباب السفر إلى زيارة القبور، فما علمتُ به إذ ذاك قائلًا لأحكيه، وإلى الآن لم أعرف أحدًا صرَّح به، لكن قد قيل: إن بعض أصحاب الشافعي قال ذلك، ابن كَجٍّ (1) أو غيره (2)، فيُكْشَفُ (3) في لفظ (4) الرافعي في النذور (5).
وقد ذكرتُ في مواضع فسادَ قول من لم يجعله نهيًا ولو لم يُرْوَ حديثُ أبي سعيد، فكيف مع لفظ أبي سعيد؟!
وقد ذكرتُ اتفاق السلف على ذلك، وذكرتُ أيضًا اتفاق الصَّحابة
_________
(1) يوسف بن أحمد بن كَجّ، أبو القاسم الدينوري، القاضي، من أصحاب الوجوه عند الشافعية، توفي سنة 405. انظر: “تاريخ الإسلام” (9/ 100)، و”طبقات الشافعية” لابن السبكي (5/ 359).
(2) قال ابن كج: “إذا نذر أن يزور قبر النبي – صلى الله عليه وسلم – فعندي أنه يلزمه الوفاء وجهًا واحدًا. ولو نذر أن يزور قبر غيره فوجهان”. انظر: “العزيز شرح الوجيز” للرافعي (12/ 395)، و”روضة الطالبين” للنووي (3/ 328).
(3) رسمت في الأصل: “فيكتب”. وأرجو أن الصواب ما أثبت.
(4) كذا في الأصل.
(5) إنما طلب الشيخ التوثق من النقل في كتاب الرافعي، لأنه رآه أو نقل إليه من “روضة الطالبين”، وهي اختصار لكتاب الرافعي. وقد عزاه إلى “الروضة” في القاعدة التي كتبها في “الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق” (109)، وهي من جملة ما كتبه في هذه المسألة.

(9/243)


والسلف على تناوله لغير المساجد، وأنه إذا نُهِيَ عن السفر إلى المساجد التي هي أحبُّ البقاع إلى الله، مع أن قصدها للعبادة والدعاء والذكر مشروعٌ باتفاق المسلمين، فالسفرُ إلى المقابر التي نُهِيَ عن اتخاذها مساجد، ولم يُشْرَع قصدُها للصلاة والدعاء والذكر، بطريق الأولى والأحرى (1).
وابن عبد البر والشيخ الموفَّق وغيرهما من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم موافقون على أنه لا يجوز اتخاذ القبور مساجد (2).
وقال الشافعي – رضي الله عنه – (3): أكره أن يُعَظَّم مخلوقٌ حتى يُتَّخَذ قبرُه مسجدًا؛ مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده (4).
وذكر الشيخ موفَّق الدين في مُغْنيه (5) أنه يحرُم بناء المساجد على القبور، وأنه لو نذر أن يذبح بمكانٍ وعنده قبرٌ أو شجرةٌ أو عينٌ أو غير ذلك مما يُعَظَّم لم يجز الوفاء بنذره.
وقد بسطتُ هذه المسائل في كتاب “اقتضاء الصراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم” (6).
_________
(1) انظر: “الإخنائية” (114، 175، 181، 242، 477).
(2) انظر: “التمهيد” (1/ 168، 5/ 45، 6/ 383).
(3) في “الأم” (2/ 633) بمعناه. وهو باللفظ الذي ذكره شيخ الإسلام في “المهذب” (1/ 456)، و”البيان” (3/ 126)، و”المجموع” (5/ 314).
(4) الأصل: “يعبده”. تحريف.
(5) “المغني” (3/ 441، 13/ 643).
(6) (1/ 332 – 339، 2/ 169 – 195، 294 – 304). وقد أشار ابن عبد الهادي في “العقود الدرية” (397) إلى كلام الشيخ عن مسألة شد الرحال في كتاب “اقتضاء الصراط المستقيم”، وذكر أنه أبلغ من تلك الفتيا التي شنع بها عليه مخالفوه وأقدم منها بكثير.

(9/244)


والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى سائر من تختارون تبليغَه السلام.

نقله شمس الدين ابن المحب من خط عمه الإمام برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن المحب، وهو نقله عن خط المؤلف، رحمهم الله تعالى.

(9/245)


رسالة
إلى القاضي محمد بن سليمان بن حمزة المقدسي
في حاجة الناس إلى مذهب الإمام أحمد
ومسألة ضمان البساتين

(9/247)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نقلت من خط الشيخ الإمام العلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن المحب المقدسي الحنبلي، قال: نقلت من خط الشيخ بدر الدين حسن بن قاضي القضاة عز الدين محمد بن قاضي القضاة تقي الدين سليمان أعزه الله تعالى، قال: نسخة رسالةٍ أُرسِلت إلى والدي محمد بن سليمان بن حمزة (1) من شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني قدَّس الله روحه، يسلِّم على قاضي القضاة عزِّ الدين ــ أعزَّه الله تعالى بطاعته، وأسبغ عليه جميل نعمته ــ، ويعرِّفُ خدمتَه:
إنَّا ولله الحمدُ في نعمٍ عظيمة، ومننٍ جسيمة، لا يحصيها إلا الله، وهذه القضيَّة (2) كانت من أعظم نعم الله علينا وعلى سائر المسلمين، ولله فيها حكمةٌ بالغة، ورحمةٌ سابغة؛ فإن السلطان (3) أراد أن يسعى في قطع أصول
_________
(1) عز الدين محمد بن تقي الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن أبي عمر بن قدامة المقدسي، قاضي الحنابلة بدمشق، ذو فضلٍ وعقلٍ وحسن خلق وتهجُّدٍ وقضاء حوائج للناس. توفي سنة 731. انظر: “ذيل طبقات الحنابلة” (5/ 23). وقال الذهبي في “معجم الشيوخ” (2/ 194): “لم يُحْمَد في القضاء، ولا كان بصيرًا بالعلم”.
(2) يعني المحنة التي جرت له سنة 726 بسبب فتواه بمنع الزيارة البدعية لقبور الأنبياء والصالحين، وحُبِس لأجلها في القلعة بأمر السلطان الناصر، والظاهر أن هذه الرسالة مما كتبه في القلعة، كما يشير إليه صدر الرسالة وخاتمتها من الإخبار بما هو فيه من النعم, وأنه لو أنفق ملء القلعة ذهبًا ما بلغ شكرها، وأنه ليس في شدةٍ ولا ضيق، بل في جهادٍ لنصرة دين الله، كجهاده التتار والجبليَّة أهل كسروان، ونحو هذا مما ذكره في رسائله التي كتبها في القلعة، وأورد بعضها ابن عبد الهادي في “العقود الدرية” (438، 441)، ولذلك أحال القاضي عزَّ الدين على أصحابه إن أراد الوقوف على ما كتبه في هذه القضية.
(3) الملك الناصر بن قلاوون، وكان محبًّا لشيخ الإسلام ناصرًا له في أول أمره، ولعله لم يطلع على ما كتبه في هذه المسألة، بل وصلته فتواه محرَّفةً على أيدي خصومه، ولم يكن الشيخ – رحمه الله – من “رجال الدولة، ولا سلك معهم تلك النواميس، فلم يعد السلطانُ يجتمع به”، كما قال الذهبي في “الدرة اليتيمية” (45 – تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام). وقد عفا عن الملك الناصر قبل وفاته وأحلَّه، واعتذر له بأنه مقلدٌ لغيره، وأنه لم يفعل ذلك لحظِّ نفسه، بل لِمَا بلغه. وانظر: “موقف ابن تيمية من الأشاعرة” (1/ 193، 194).

(9/249)


الإسلام والتوحيد وعبادة الله وحده وما بعث به رسوله، فمنَّ الله في ذلك بمننٍ لا يُقْدَر قدرُها.
وقد كتب الخادمُ في ذلك أمورًا كثيرة (1)، وما كنتُ أرجو أن يتهيَّأ مثلُها بدون هذه القضيَّة، وكثيرٌ من ذلك عند الشيخ أبي عبد الله (2)، وبعضه عند عبد الله الإسكندراني (3)، فأيما طلبتَ هذا أو هذا فهو بِوَقْفِ خِدْمَتِك.
_________
(1) قال ابن عبد الهادي في “العقود الدرية” (435): “وكتب في المسألة التي حُبِس بسببها عدة مجلدات، منها: كتابٌ في الردِّ على ابن الإخنائي قاضي المالكية بمصر، تُعْرَف بالإخنائية، ومنها: كتابٌ كبيرٌ حافلٌ في الردِّ على بعض قضاة الشافعية، وأشياء كثيرة في هذا المعنى”. وذكر ذلك أيضًا في (61).
(2) محمد بن عبد الله بن رُشَيِّق المغربي الفقيه المالكي، من أكثر أصحاب شيخ الإسلام كتابةً لكلامه وحرصًا على جمعه، وكان أبصر بخطِّ الشيخ منه، توفي سنة 749. انظر: “العقود الدرية” (40)، و”البداية والنهاية” (18/ 510)، و”ذيل مشتبه النسبة” لابن رافع (27)، و”المشتبه” للذهبي (317).
(3) جمال الدين عبد الله بن يعقوب بن سيدهم، المحدِّث العالم، المعروف بابن أردبين، كتب كثيرًا من تصانيف ابن تيمية وفتاويه، وتوفي سنة 754. قال الذهبي في “المعجم المختص بالمحدثين” (132): ” أوذي من أجل ابن تيمية، وقُطِع رزقُه، وبالغوا في التحريز عليه”. وانظر: “الوفيات” لابن رافع (2/ 163) , و”الرد الوافر” (103).

(9/250)


على ما في ذلك من فضل الله ورحمته، ولو أنفقتُ ملء القلعة ذهبًا شكرًا على هذه النعمة كنتُ مقصِّرًا في ذلك.
ولسَلَفِكم الطيِّب (1) علينا من الحقوق المشكورة, والانتفاع بعلمهم ودينهم، ما يوجبُ لكم ولهم من المودَّة والموالاة والمحبة ما الله به عليم، ولهذا كتبتُ إليكم هذه الورقة.
فإنكم تعلمون أن مذهب الإمام أحمد مذهبٌ عظيمُ القدر؛ لعلمه بما جاء به الرسول، واتباعه له، ومعرفته بآثار الصَّحابة والتابعين، وفي كلِّ مذاهب المسلمين خير.
والناس محتاجون إلى مذهب الإمام أحمد في مسائل متعددة؛ لكونه كان عنده فيها من العلم ما ليس عند غيره، ولاحتياج المسلمين إليها.
* مثل: مسألة تغيير الوقف من حالٍ إلى حالٍ أحسن منها؛ للمصلحة الراجحة، فإنه كان عنده أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – هدم الجامعَ الأول بالكوفة، وبنى مكانه جامعًا آخر، وصار الأولُ سوقَ التمَّارين (2)، مع تغيير
_________
(1) آل قدامة الذين هاجروا من بيت المقدس واستقروا في صالحية دمشق، وهم من أشهر الأسر العلمية الحنبلية في الشام.
(2) أخرجه أبو بكر عبد العزيز في “الشافي” من طريق الخلال عن صالح بن الإمام أحمد عن أبيه – كما في “مجموع الفتاوى” (30/ 405، 31/ 215)، و”المناقلة بالأوقاف” لابن قاضي الجبل (12، 36) -، والطبراني في “الكبير” (9/ 192) بإسنادٍ فيه إرسال. قال الهيثمي في “المجمع” (6/ 275): “القاسم لم يسمع من جده، ورجاله رجال الصحيح”. وانظر: تعليق الجبرين على “شرح الزركشي” (4/ 289)، و”التحجيل” للطريفي (251).

(9/251)


عمر وعثمان – رضي الله عنهما – لمسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (1)، ومع قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لعائشة – رضي الله عنها -: “لولا أن قومك حديثو عهدٍ بجاهلية لنقضتُ الكعبة، ولألصقتُها بالأرض، ولجعلتُ لها بابين” (2).
ولهذا كان الإمام أحمد يتوسَّعُ في هذا الباب ما لا يتوسَّعُ غيرُه، والناسُ محتاجون إلى ذلك.

* ومن ذلك: مسألة (3) المساقاة والمزارعة، فإن الناس محتاجون إلى مذهبه فيها، وهو أوسعُ من مذهب غيره.
والصَّحيح جواز المزارعة ببَذْرٍ من العامل، كما اختاره موفَّقُ الدين (4)؛ لحديث خيبر (5).
وكذلك: لو كانوا ثلاثة (6).
ويجوز أمثال ذلك مما لا يتسعُ له هذا الموضع.
* وكذلك: المُناصَبة (7)، نصَّ عليها قدماء أصحابه، كأبي حفصٍ وغيره،
_________
(1) أخرجه البخاري (446). وانظر: “وفاء الوفا” للسمهودي (2/ 225، 248).
(2) أخرجه البخاري (1584)، ومسلم (1333).
(3) الأصل: “مثل”، وهو تحريف، ويشبه أن تكون قد رسمت في أصله: “مسله”.
(4) “المغني” (7/ 563).
(5) أخرجه البخاري (1551) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
(6) من أحدهم: الأرض، ومن آخر: العمل، ومن آخر: البذر. انظر: “مجموع الفتاوى” (30/ 110)، و”الفروع” (7/ 125)، و”الاختيارت” للبعلي (219).
(7) وهي المغارسة، دفع شجر معلوم له ثمرٌ مأكولٌ بلا غرسٍ مع أرضه لمن يغرسُه ويعمل عليه حتى يثمر بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ منه أو من ثمره أو منهما. انظر: “الفروع” (7/ 119)، و”المنتهى” (1/ 471)، و”كشاف القناع” (9/ 11).

(9/252)


وذكرها القاضي في تعليقه (1)، ورجع عما نقله عنه في “المغني” (2) من منعه منها، وذكر دلالة كلام أحمد عليها.

* ومن ذلك: أنه لا يُلْزَم الزوجُ بالصَّداق المؤخَّر حتى يحصُل بينهما فُرقةٌ بموتٍ أو طلاق. وبهذا قضى أصحابُ النبي – صلى الله عليه وسلم – (3).
* ومن ذلك: ما كان الوالد تقيُّ الدين (4) قدَّس الله روحه يحكمُ به

ــ وأحسَنَ في ذلك (5) ــ من إثبات الجائحة في المَزارع إذا أُكْرِيَت الأرض بألفٍ، وكان بالجائحة يساوي كِرَاها تسعمئة.
وبعض الناس يظن أن هذا خلافٌ لما في “المغني” (6) من الإجماع، وهو غلط؛ فإن الذي في “المغني” أن نفسَ الزَّرع إذا تلفَ يكونُ من ضمان المستأجر صاحب الزَّرع، لا يكونُ كالثمرة المشتراة، وهذا ما فيه خلاف،
_________
(1) قال في “الإنصاف” (5/ 471): “وصححه القاضي في التعليق أخيرًا”.
(2) (7/ 553).
(3) حكاه عنهم الليث بن سعد في رسالته إلى مالك. انظر: “المعرفة والتاريخ” ليعقوب بن سفيان (1/ 692)، و”التاريخ” ليحيى بن معين (4/ 492 – رواية الدوري).
(4) سليمان بن حمزة المقدسي، الإمام الفقيه القاضي مسند الشام، توفي سنة 715. انظر: “البداية والنهاية” (18/ 147)، و”ذيل طبقات الحنابلة” (4/ 398).
(5) الأصل: “من ذلك”. تحريف.
(6) (6/ 181).

(9/253)


وإنما الجائحة (1) في نفس أجرة الأرض ونقصِ قيمتها، كما لو انقطع الماء عن الرَّحى (2)، ونحو ذلك.
* ومن ذلك: أمر ضمان البساتين (3)، فإن أحمد قد نصَّ على أن الاحتيال بإكراء الأرض والمساقاة على الشجر لا يجوز (4).
وابن عقيل اختار جواز ضمان الأرض والشجر جميعًا (5)، كما يفعلُ الناس؛ لأن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قَبَل (6) حديقة أسيد بن حُضَير ثلاث سنين، وتسلَّف الأجرة، فقضى بها دينه، وكان قد قُتِل في قتال مسيلمة الكذاب. روى هذا حربٌ الكرماني في مسائله عن أحمد، ورواه أبو زرعة الدمشقي، وغيرهما (7).
_________
(1) “الاختيارات” للبعلي (192): “وإنما الخلاف”، والنصُّ فيه بألفاظه، وما في الأصل أولى بالصواب.
(2) وكذلك لو انقطع الماء عن الأرض. انظر: “مجموع الفتاوى” (30/ 291)، و”جامع المسائل” (1/ 230، 238).
(3) بسط ابن تيمية القول في هذه المسألة في مواضع من كتبه، وأفرد لها قاعدة مستقلة. انظر: “القواعد النورانية” (197 – 217)، و”الفتاوى” (30/ 220 – 244)، و”جامع المسائل” (6/ 405 – 423).
(4) في مسائل حرب. انظر: “الاستخراج لأحكام الخراج” لابن رجب (65).
(5) انظر: “الفروع” (7/ 130).
(6) أي: كَفَل وضَمِن. انظر: “المجموع المغيث” (2/ 660).
(7) أخرجه ابن أبي شيبة (23723) مختصرًا من حديث هشام بن عروة عن سعد مولى عمر، ولا بأس بإسناده، سعد كان عاملًا لعمر – رضي الله عنه – على الجار، ولا يستعمل عمر إلا العدول. وانظر: “تعجيل المنفعة” (1/ 578).

ورواه حرب الكرماني من حديث هشام بن عروة عن أبيه، وإسناده جيد إلا أن عروة لم يدرك عمر، كما أشار إلى ذلك الحافظان ابن كثير في “مسند الفاروق” (1/ 358) , وابن رجب في “الاستخراج لأحكام الخراج” (69)، وصححه ابن تيمية في “الفتاوى” (29/ 479، 30/ 284).
وأخرجه أبو زرعة الدمشقي في “التاريخ” (1/ 443) من حديث أبي الزناد، ولم يدرك زمان عمر.
وروي من وجوه أخرى جمعها ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (9/ 93 – 95)، ولا ريب في ثبوت أصل الخبر، وفي تفاصيله اختلاف.
وذكر ابن عبد البر في “الاستذكار” (6/ 306) أنه لا يعلم أحدًا من العلماء تابع عمر – رضي الله عنه – على ما فعل. ولعله هو الذي عناه ابن تيمية بقوله في “جامع المسائل” (6/ 409): “وقد ذكر هذا الأثر عن عمر بعض المصنفين من فقهاء ظاهرية المغرب، وزعم أنه خلاف الإجماع. وليس بشيء، بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب؛ فإن عمر فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهدٍ من المهاجرين والأنصار، وهذه القضية في مظنة الاشتهار، ولم ينقل عن أحدٍ أنه أنكرها”.

(9/254)


وليس هذا داخلًا فيما نهى عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – من بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها (1)؛ فإن ذلك بيعُ الثمر بمنزلة أن يبيع الحبَّ قبل اشتداده، والنبي – صلى الله عليه وسلم – “نهى عن بيع العنب حتى يسودَّ، وعن بيع الحبِّ حتى يشتدَّ” (2)، فإذا كان له زرعٌ فباعه قبل اشتداده لم يَجُز, ولو آجَر الأرضَ لمن يزرعها جاز ذلك، والضمانُ هو من جنس الإجارة، لا من جنس البيع.
_________
(1) أخرجه البخاري (1486, 1487، 2197)، ومسلم (1534، 1536، 1538).
(2) أخرجه أحمد (13314)، وأبو داود (3371)، والترمذي (1228)، وابن ماجه (2217) من حديث أنس – رضي الله عنه -. قال الترمذي: “حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث حمَّاد بن سلمة”، وصححه ابن حبان (4993)، والحاكم (2/ 19)، وابن الملقن في “البدر المنير” (6/ 530).

(9/255)


وفي البيع يكون سقيُ الثمرة وخدمتُها على البائع، ولو تلفت بجائحةٍ كانت من ضمان البائع. وفي الإجارة يكون السقيُ والعملُ على الضامن المستأجر، ولو تلفت الثمرةُ كانت مِن ضمانه، لكن توضعُ عنه الجائحةُ لنقص منفعة الإجارة، كما لو استأجر الأرض.
والناس كلُّهم محتاجون إلى مسألة الضمان، وإلى هذا القول الذي اختاره ابن عقيل.
ومالكٌ يقول بذلك، لكن يشترِطُ أن يكون بياضُ الأرض الثلثين (1)، وأما ابن عقيل فيجوِّز ذلك مطلقًا ولو كان الشجر هو الغالب، مثل كثيرٍ من البساتين، وعُمَرُ ضَمِنَ حديقةَ نخلٍ.
والنقيبُ جمال الدين (2) من خيار الناس، ومقاصدُه صالحة، وهو سليمُ القلب، وهو قد اطمأنَّ إلى خدمتك، وهو محبٌّ لك، وهو يطلبُ من إحسانك إحكامَ قضيَّته؛ لئلا يُمْكَر به، وهو قد وقف نصفَ الشجر، وصار هذا النصفُ معه بحكم الضمان، وإذا انقضت هذه المدَّة فإنه يصيرُ ضامنًا لنصف الشجر، والأرض (3) بيضاء، فهو يطلبُ أن يُحْكَم له بذلك.
فإن شرح الله صدرَك بأن تكتبَ ضمانًا للأرض، والشجر داخلةٌ في ذلك، وأنه هو المستحقُّ لثمرتها، وتحكمَ بصحة هذا الضمان، مع علمك باختلاف
_________
(1) انظر: “المدونة” (4/ 505)، و”تهذيب المدونة” (3/ 471).
(2) لعله نقيب قلعة دمشق، حيث محبس الشيخ، وكان نقيبها يكرمه ويستعرض حوائجه ويبالغ في قضائها، كما يقول ابن عبد الهادي في “العقود الدرية” (438).
(3) الأصل: “والأرض الأرض”.

(9/256)


العلماء = فهذه رحمةٌ لهذا ولجميع المسلمين، ولك إن شاء الله بهذا من الدعاء والثناء ما الله به عليم.
وهذا أشبهُ بأصول أحمد، وأبعدُ عن المكر والظلم، وهو الموافقُ لعقول الناس وفطرتهم؛ فإن الضامن إنما يُعْطِي الضمانَ لأجل الشجر، ولو كانت أرضًا بيضاء لم يستأجرها إلا بقليل.
وأيضًا، فالمساقاة بجزءٍ من ألف جزءٍ لا تسوغ لناظر الوقف ووليِّ اليتيم ونحوهما، فإنْ عَقَدَ المساقاة مجرَّدًا لم يَجُز، وإنْ شَرَطَها في إيجاره الأرضَ لم يَجُز، والإمام أحمد قد نصَّ على إبطال هذه الحيلة بعينها.
وهذا وأمثاله من محاسن مذهب أحمد؛ فإنه لا يسوغ المكرُ والخداع، كما قال أيوب السختياني: “يخادعون الله كأنما يخادِعون صبيًّا، لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل” (1).
والناسُ لا بدَّ لهم من ضمان البساتين، فإما على الوجه الذي فعله عمرُ بن الخطاب – رضي الله عنه -، وأجازه ابن عقيل، وإما على وجه الاحتيال، ومعلومٌ أن الأول أحسن، وهو عدلٌ باطنًا وظاهرًا.
والنقيبُ جمال الدين يبلغني خدمتكم ومحبَّتكم، والمملوك يسلِّم على من تحيط به العناية، ويعرِّفهم عظيمَ نعم الله ومننه وآلائه وفضله.
وأنا ولله الحمد لستُ في شدَّةٍ ولا ضيقٍ أصلًا، بل في جهادٍ في دين الله
_________
(1) علقه البخاري في الصحيح (9/ 24) مجزومًا به، بلفظ: “يخادعون الله كأنما يخادعون آدميًّا، لو أتوا الأمر عيانًا كان أهون عليَّ”. ووصله وكيع في مصنفه. انظر: “فتح الباري” (12/ 336)، و”تغليق التعليق” (5/ 264).

(9/257)


وسبيله ونصر دينه، مثل ما كنتُ أخرجُ إلى قازان، وأغزو الجَبَلِيَّة (1).

والجهاد لا بدَّ فيه من اجتهاد، {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6] , {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].
وتفاصيلُ الأمور المبشِّرة التي يسرُّ بها خدمته (2)، وتُسَرُّ بها قلوبُ الجماعة – رضي الله عنهم -، كثيرةٌ لا تتسع لها هذه الورقة لتفصيلها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله حده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلَّم تسليمًا.

علَّقها محمد بن موسى بن الحبال الأنصاري الحراني الحنبلي لطف الله تعالى به وبهم
_________
(1) أهل جبل كسروان من الرافضة، وكانوا بغاةً مفسدين خارجين على الإمام، فكتب ابن تيمية إلى أطراف الشام في الحث على قتالهم، ثم تجهَّز بمن معه وخرج إليهم آخر سنة 704 مع الجيش ونائب السلطنة، وكان النصر لهم. وقد حكى ما وقع له في ذلك غير مرة. انظر: “العقود الدرية” (230 – 245)، ورسالته إلى ابن ابن عمه عبد العزيز بن عبد اللطيف الآتية (ص: 473).
(2) كذا في الأصل.

(9/258)


فصل
إذا استأجر أرضًا لينتفع بها فتعطلت منفعتُها

(9/259)


وقال – رضي الله عنه – ــ ومن خطه نقل الإمام العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن المحب المقدسي، ومن خطه نقلت ــ:
الحمد لله ربِّ العالمين.
فصل
إذا استأجر أرضًا لينتفع بها، فتعطلت منفعتُها المستحَقَّة بالعقد، سقطت الأجرة، مثل أن يستأجر أرضًا للزرع فتَغْرَق ولا يمكن الزَّرع فيها، وكذلك إذا أصابتها آفةٌ غير ذلك من الآفات مَنَعت من الزَّرع، ففي مثل هذا تَسْقُط الأجرة إذا لم يتمكَّن المستأجرُ من الانتفاع بشيءٍ منها باتفاق الأئمَّة (1).

وإن ازدَرَعها ثم حصلت آفةٌ سماويةٌ تَلِفَ بها الزَّرع، مثل الجراد الذي يأكل جميع الزَّرع، فهنا يتلفُ (2) الزَّرع من مال المستأجر؛ فإنه ملكُه، ولكن هل عليه الأجرة فيه؟ قولان للعلماء، أصحُّهما: أنه إذا تعطَّلت المنفعةُ المستحَقَّة كلُّها سقطت الأجرة كلُّها؛ لأن هذه الآفة فوَّتت المنفعة المستحَقَّة بالعقد، وتعذَّر معها انتفاع المستأجر بشيءٍ من الأرض؛ فإن المقصود بالعقد ليس مجرَّد البَذْر، بل المقصود نباتُ الزَّرع، وكمالُ نباته حتى يمكن حصادُه.
وإن كانت الآفة السَّماوية فوَّتت بعض المنفعة، بأن أكل الجرادُ بعض الزَّرع، فإنه يقال: كم قيمة منفعة هذه الأرض لو سَلِمَت من هذه الآفة؟ وكم قيمتها مع حصول هذه الآفة؟ فيُنْظَر تفاوتُ ما بينهما فيُحَطُّ عن المستأجر
_________
(1) انظر: “المغني” (8/ 28، 29).
(2) مهملة في الأصل.

(9/261)


من الأجرة المسمَّاة بقِسْط ذلك.
وإن كانت الآفة عطَّلت المنفعة بالكلية، فإنه يُحَطُّ عنه جميعُ الأجرة، ولا يستحقُّ المؤجِّر شيئًا من الأجرة؛ فإن المنفعة المستحَقَّة بالعقد لا بدَّ فيها من بقاء الزَّرع حتى يتمكَّن من حصاده، فإذا حصلت آفةٌ منعت من بقاء الزَّرع فيه فهو كما لو منعه من نباته وأبلغ؛ فإنه هنا تَلِف مالُ المستأجر أيضًا، لكن من غير تفريط من المؤجِّر، فلهذا قيل: “الزَّرع يتلفُ من ضمان المستأجر، والمنفعة تتلفُ من ضمان المؤجِّر” (1)، فتسقط الأجرة التي آجر بها الأرض تعديلًا بينهما.
ومن قال: إن المستأجر تجبُ عليه الأجرة مع ذهاب زرعه، فهو نظير أن يقال: بل المؤجِّر يجبُ عليه ضمان زرع المستأجر؛ لأن تلفَ مال المستأجر في أرضه، كما لو غَرَّه. وكلا القولين ظلم، والعدل ما تقدَّم.
ونظير هذا: لو استأجر خانًا أو حمَّامًا، فجاء عدوٌّ منع الناسَ من سكنى تلك الأرض والانتفاع بذلك، فإنه لا أجرة مع ذلك (2).
وليس ذلك بمنزلة ما لو سرق بعضُ اللصوص مالَه؛ فإن هذا لم تتعطَّل به المنفعة, إذ يمكنُ منعُ الأرض من اللصِّ، فالمستأجر هنا مفرِّطٌ في استيفاء المنفعة، فهو كما لو نبت الزَّرع وجاء بعض اللصوص سَرَقه، وليس هو عذرًا غالبًا، فهذا لا يمنع وجوبَ الأجرة.
وليس هذا كما لو تعذَّر على المستأجر وحده الانتفاع، كما لو احترق
_________
(1) انظر: “المغني” (6/ 178, 181).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (30/ 311).

(9/262)


مالُه؛ فإن المنفعة هنا باقية، ولكن تعذَّر على هذا المعيَّن استيفاؤها، بخلاف الآفة التي يتعذَّر معها الانتفاعُ على كلِّ أحد، والله أعلم (1).
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (30/ 257 – 263, 288 – 302)، و”جامع المسائل” (1/ 229 – 241).

(9/263)


فصل
في انعقاد النكاح بأي لفظٍ يدلُّ عليه

(9/265)


عَقْدُ النكاح بأيِّ لفظٍ دلَّ عليه (1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية الحرَّاني قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه:
يجوز عقدُ النكاح، وكتابةُ الصَّداق، ليلًا ونهارًا.
فصل
* وأكثر العلماء على أن النكاح ينعقدُ بغير لفظ التزويج والإنكاح؛ فإذا قال: “ملَّكتُك ابنتي بألفٍ” أو غير ذلك من الألفاظ التي يفهمان منها النكاحَ انعقد النكاح. وما عدَّه الناسُ نكاحًا فهو نكاح، والصِّفاحُ (2) الذي تعدُّه الأعرابُ [نكاحًا] هو نكاح (3).
وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، وعليه تدلُّ نصوصُه ونصوصُ قدماء أصحابه (4)، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، لكنه يَشترِط ما فيه معنى التمليك (5).
_________
(1) العنوان من ناسخ الأصل.
(2) كذا في الأصل، ولعل المراد: عقدهم النكاح بالمصافحة باليد دون لفظ التزويج. وقد اختار شيخ الإسلام انعقاد النكاح بما عدَّه الناس نكاحًا بأي لفظ أو فعل.
(3) انظر: “القواعد النورانية” (157 – 160)، و”مجموع الفتاوى” (20/ 533 – 534، 29/ 448، 32/ 15 – 17)، و”الفروع” (8/ 202)، و”إعلام الموقعين” (3/ 199)، و”تنقيح التحقيق” (4/ 336)، و”الاختيارات” للبعلي (293).
(4) وأول من خالف في ذلك من متأخري أصحاب أحمد: أبو عبد الله بن حامد، وتبعه القاضي وأبو الخطاب. انظر: “مجموع الفتاوى” (20/ 534، 32/ 64).
(5) انظر: “الإشراف” للقاضي عبد الوهاب (2/ 699)، و”المغني” (9/ 460).

(9/267)


* وإذا أعلنَا النكاحَ، ولم يكتماه، فظَهَر بين الناس، صحَّ النكاح، سواءٌ حضر العقدَ شاهدان أو لم يحضراه.
هذا قول أكثر السلف، وهو مذهبُ مالك، وداود، وغيرهما، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد (1).
قال الإمام أحمد: “ليس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الشهادة حديثٌ صحيح” (2).
ومعلومٌ أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد بيَّن الدين وما يحتاجُ إليه المسلمون، ولم يوجب على أمَّته الإشهاد على النكاح (3).
بل أمر الله بالإشهاد على الرَّجعة، وهو أمرُ إيجابٍ أو استحباب، وفي ذلك قولان للشافعي والإمام أحمد. وأمر بالإشهاد على البيع، وهو أمرُ استحبابٍ عند أكثر العلماء (4).
قال يزيد بن هارون: “هؤلاء (5) يوجبون الإشهادَ على النكاح، ولم يأمر الله به، ويُسْقِطون ما أمر الله به! ” (6)، والله أعلم.
_________
(1) انظر: “المدونة” (2/ 158)، و”المحلى” (9/ 49)، و”مسائل إسحاق بن منصور” (4/ 1429)، و”الروايتين والوجهين” (2/ 83)، و”المغني” (9/ 347).
(2) انظر: “التحقيق” لابن الجوزي (2/ 268)، وشرح الزركشي (5/ 23).
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (32/ 35، 94، 127 – 131، 33/ 93، 158).
(4) انظر: “المغني” (6/ 381، 10/ 558)، و”مجموع الفتاوى” (32/ 129).
(5) يعني أصحاب الرأي.
(6) ذكره ابن المنذر في “الأوسط” (8/ 318)، و”الإشراف” (5/ 31).

(9/268)


قاعدة
الاعتبار بموجب اللفظ والمعنى

(9/269)


قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية – رضي الله عنه – (1):
فصل
قاعدة: إذا تكلَّم بلفظ العقد يظنُّ أن معناه ومُوجَبُه في الشريعة شيئًا، فتبيَّن بخلافه، فالأصل في مثل هذا أنه لا يثبتُ فيه حكمُ المعنى الذي لم يقصده؛ وذلك لأن اللفظ يَتْبَعُ المعنى، والمعنى هو المقصود.

ولهذا إذا عبَّر عن المعنى بأيِّ لفظٍ دلَّ على معناه انعقد به العقدُ، سواءٌ كان اللفظ عربيًّا أو عجميًّا معرَّبًا، أو ملحونًا، ولا يفرَّق بين العربيِّ وغيره في ذلك.
لكن قد فرَّق بعض أصحاب الشافعيِّ والإمام أحمد في النكاح بين لفظ العربيِّ وغيره؛ لما فيه من شَوْبِ العبادة. ولكنَّ هذا ضعيف، قد بسطنا الكلام على ضعفه في القواعد الكبار الفقهية الدمشقية (2).

ومعنى اللفظ هو ما يَعْنِيه (3) المتكلِّمُ، أي: يَقْصِده ويريده. وذلك مشروطٌ بالعلم به؛ فإنَّ قصدَ الشيء إنما يصحُّ إذا كان مشعورًا به، فما لا يَشْعُر به المتكلمُ لا يَقْصِده، وكذلك الفاعل.
_________
(1) كتب الناسخ عنوانًا لهذه القاعدة: “الاعتبار بموجب اللفظ والمعنى شرعًا لا ظنًّا”.
(2) وهي المطبوعة بعنوان “القواعد النورانية الفقهية”، والتسمية من أحد ناسخيها، وظنَّ الشيخ حامد الفقي في تقدمته لنشرتها أنها القاعدة التي ذكر ابن عبد الهادي في “العقود الدرية” (74) بقوله: “قاعدة كبيرة في أصول الفقه غالبها نقل أقوال الفقهاء”، وليس كما ظن. والموضع الذي يشير إليه شيخ الإسلام هنا فيها (157 – 160).
(3) الأصل: “يعينه”. تحريف.

(9/271)


لكن لو نوى باللفظ معناه عند أهله وهو لا يفهمُه، كما لو تكلَّم بلفظ العجميِّ وهو لا يفهمُه ونوى مُوجَبَه عند أهله، أو نوى مُوجَبَ العربية من لا يفهمُه، أو مُوجَبَ الحساب من لا يفهمُه = ففيه وجهان مشهوران، والأقوى في الحجَّة: أنه لا يصحُّ؛ لأنه قصَدَ ما لا يعرفُه، وذلك لا يصحُّ.
ولهذا لو أقرَّ بمثل هذا، أو شهد بمثل هذا، لم يلزمه إقرارٌ ولا شهادة.
وهذا من باب المخاطرة والقِمَار في الألفاظ؛ فإن حقيقته أني قصدتُ ما يفهمُه غيري من هذا اللفظ كائنًا ما كان. وهذا لا يصحُّ.
وإذا كان المعنى هو المقصود المراد بلفظ العقد، فلفظُ (1) “البيع” ونحو ذلك معناه ومقصوده هو انتقالُ المبيع إلى المشتري، وانتقالُ الثمن إلى البائع، وتحصيل المقصود المراد هو إلى الشارع، فالصَّحيح ما ترتَّب عليه مقصوده وحصل به أثرُه، والباطل ما لم يترتَّب عليه مقصوده ولم يحصل به أثرُه.
فإذا كان قد عنَى وقَصَد بلفظ العقد معنًى، فرتَّبه عليه الشارع وحصَّله، كان العقد صحيحًا، وإلا كان فاسدًا.
وإذا كان المقصود بلفظ “البيع” حصول الملك من الطرفين، فإنْ حَكَم الشارعُ بحصول المقصود [في بعضٍ] (2) دون بعض، فيكون العقد صحيحًا من وجهٍ دون وجه، كما بينَّاه في غير هذا الموضع (3).
_________
(1) الأصل: “بلفظ”. وأرجو أن الصواب ما أثبت.
(2) ساقط من الأصل.
(3) انظر: “بيان الدليل على بطلان التحليل” (464).

(9/272)


فإذا كان هو لم يعرف أن ذلك المعنى هو المقصود المراد باللفظ لم يكن قاصدًا له، فلا يكون قد عناه، فيبقى في حقِّه لفظًا لا معنى له، فلا ينعقد به عقدٌ، كما لو اعتقد أن لفظ “التحرير” المراد به العفاف دون العتق (1)، فهذا لا يعتقُ به العبد في الباطن قطعًا. ومتى شاع هذا العُرف في العامة لم يكن اللفظ صريحًا في حقِّهم.
ولو اعتقد أن معنى “الإعتاق” إعتاقه من شغلٍ أو عملٍ ألزمه إياه، ولم يكن يفهم أن معناه التخليص من الرِّقِّ مطلقًا، لم يكن اللفظ في الباطن في حقِّه عتقًا، وأما قبوله في الظاهر ففيه تفصيل.
ولو اعتقد أن “الوقف” معناه تسبيل المنفعة فقط، دون إخراج الرقبة من ملكه، لم ينعقد الوقفُ بمجرَّد لفظه في نفس الأمر.
ولو اعتقد أن لفظ “الطلاق” ليس معناه الفُرقة الناجزة، ولكن معناه أنه إذا أوقعه في الحيض فإن الأمر يتأخر إلى الطُّهر، فإن شاء وقع الطلاق وإن شاء لم يقع، أو أنه إذا أوقعه في الطُّهر فإنه يتأخر إلى الحيض، فإن شاء وقع وإن شاء لم يقع = [لم يقع] (2) بهذا اللفظ طلاقٌ منجَّزٌ أو مؤخَّرٌ بدون مشيئته؛ لأنه إذا لم يعلم أن هذا معنى اللفظ ومقصوده ومراده لم يقصد المعنى ولم يُرِده ولم يَعْنِه، وإذا لم يقصده ولم يُرِده ولم يَعْنِه كان لفظًا بدون معنى (3).
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (32/ 122)، و”جامع المسائل” (1/ 391).
(2) سقط على الناسخ لانتقال نظره.
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (33/ 239، 241).

(9/273)


وليس هذا كطلاق الهازل؛ فإن الهازل قَصَد اللفظ عارفًا بمعناه، واللفظُ من آيات الله، فلم يكن له أن يستهزئ بآيات الله.
وقد بسطنا الكلام في ذلك، وبيَّنَّا الفرق بين الهازل والمُكْرَه وخلع اليمين والمحلِّل ونحوهما في “بيان بطلان التحليل” (1).
فإن المُكْرَه والمحلِّل قَصَدا (2) اللفظ لأمرٍ آخر غير معناه، هذا قَصَد دفعَ الضرر عن نفسه، [وهذا قَصَد إعادة المرأة إلى المطلِّق] (3)، بخلاف الهازل فإنه لم يقصد معنًى آخر غير حكم اللفظ.
وهذا الجاهل بمعنى اللفظ يشبه المُكْرَه، بل هو أقوى من المُكْرَه؛ فإن المُكْرَه عرف معنى اللفظ، وقَصَد اللفظ، لكن لمقصودٍ آخر يُعْذَرُ فيه، وهو دفعُ ضرر الإكراه، ولم يقصد معنى اللفظ وحكمه. وأما الجاهل فإنه قصد معنًى آخر، ولم يقصد معنى اللفظ، ولا يمكن أن يقصده مع عدم العلم به. ومن قال: يقع الطلاق بمثل هذا، فرأيه من جنس رأي من يوقع طلاق المُكْرَه ويمين المُكْرَه؛ نظرًا إلى أنه قاصدٌ للَّفظ مريدٌ (4) له، فأشبه الهازل.
ثم كلُّهم متفقون على أنه لو سبق لسانُه إلى اللفظ بغير قصدٍ لم يقع به شيءٌ، ولو نوى باللفظ غير الطلاق، مثل أن ينوي: طالقٌ من وثاقٍ، أو من زوجٍ كان قبلي، أو من نكاحٍ سابق = لم يقع شيءٌ في الباطن.
_________
(1) (96 – 118). وشيخ الإسلام كثير الإحالة عليه في كتبه وفتاويه.
(2) الأصل: “قصد”.
(3) زيادة مستفادة من “بطلان التحليل” (97، 100)، ولعلها سقطت على الناسخ سهوًا.
(4) الأصل: “يريد”. تحريف.

(9/274)


فإن قيل: ما ينويه باللفظ لا بد أن يكون اللفظ محتملًا له، بخلاف ما إذا نوى ما لا يحتمله اللفظ.
قيل: هذا صحيح، لكن هو إذا اعتقد أن اللفظ يحتمله، ونواه، كان كمن تكلَّم بلفظٍ يعتقد له معنًى، وكان له معنًى آخر، فلا يلزمه المعنى الذي لم يعلم أن اللفظ دالٌّ عليه، كما قد تقدَّم ذكره.
وهذه المسألة لها صورتان:
إحداهما: أن يقصد بلفظ “الطلاق” هذا المعنى الذي ليس هو معناه في العادة، معتقدًا أن ذلك هو معناه = فهذا ظاهر.
والثانية: أن يكون معتقدًا أن ذلك هو معناه، ويتكلَّم به، غير مستحضرٍ معنًى من المعاني؛ إما لفرط الغضب أو غيره = فهذا أيضًا إنما يُحْمَلُ كلامُه على ما يعتقده معناه؛ فإنه إنما يعنِي باللفظ ويقصِد ما يعتقده معناه، لا يمكن أن يقصِد ويعنِي ما لا يعلمه ولا يقصده، فيكون المعنى المعتاد لم يقصده ولم يَعْنِه، فلا يكون قد أوقعه، فلا يقع.

(9/275)


فصل
الشُّروط في النكاح

(9/277)


الشُّروط في النكاح (1)
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني الإمام الرباني – رضي الله عنه -:
فصل
إذا نكح نكاحًا وشرط فيه شرطًا:
فإن كان الشَّرط صحيحًا، لزم الوفاء به.
وإن كان الشَّرط محرَّمًا، ففيه قولان للعلماء:
قيل: يلزم العقد، ويبطل الشَّرط.
وقيل: بل العقد غير لازم، ولا يلزم العقدُ إلا إذا تراضى به المتعاقدان، وكان موافقًا للشرع. وهذا أظهر القولين.
فإذا شرط للمرأة زيادةً على مهر المثل، كان هذا شرطًا لازمًا باتفاق العلماء.
وإن شرط أن لا يتزوَّج عليها، أو لا يتسرَّى، أو لا ينقلها من دارها؛ فهل هذا شرطٌ صحيح؟ فيه للعلماء قولان:
أحدهما: أنه شرطٌ صحيحٌ لازم.
وهو مذهبُ الإمام أحمد وغيره (2)؛ كما ثبت في الصَّحيحين عن النبي
_________
(1) العنوان من الأصل.
(2) انظر: “اختلاف الفقهاء” لمحمد بن نصر المروزي (340)، و”الإشراف” (5/ 68)، و”المغني” (9/ 483)، و”إغاثة اللهفان” (2/ 761).

(9/279)


– صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إن أحقَّ الشُّروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج” (1).
والثاني: أنه شرطٌ باطل.
وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي (2).

ولو تزوَّج المرأة مدَّةً كان هذا نكاحَ متعة, وهو باطلٌ عند عامة العلماء، وذهب زُفَر إلى أنه يلزم العقدُ ويبطُل التوقيت (3)، وخُرِّجَ ذلك في مذهب الإمام أحمد (4)، وهذا بناء على قولهم: إنه يصحُّ العقدُ ويبطُل الشَّرط.
وإذا تزوَّجها على أنه إن أحبَلَها إلى عامٍ وإلا فلا نكاح بينهما؛ فهذا الشَّرط إن قيل: إنه فاسد، فقيل: إن النكاح لازم، وقيل: ليس بلازم، بل المرأة أحقُّ بنفسها، وهذا أظهر القولين (5).
_________
(1) أخرجه البخاري (2721)، ومسلم (1418) من حديث عقبة بن عامر – رضي الله عنه -.
(2) انظر: “الهداية” (2/ 458)، و”الحاوي” (9/ 506).
(3) انظر: “شرح مختصر الطحاوي” للجصاص (4/ 368)، و”المبسوط” (5/ 153).
(4) انظر: “المغني” (9/ 488)، و”مجموع الفتاوى” (32/ 158)، و”جامع المسائل” (3/ 413).
(5) انظر: “مجموع الفتاوى” (29/ 135، 348 – 356، 32/ 157 – 170)، و”الفروع” (8/ 259)، و”الاختيارات” للبعلي (314 – 317).

(9/280)


سؤال منظوم
في تحريم نكاح المحلِّل وبطلانه وجوابه

(9/281)


كتاب فيه سؤال نظم في تحريم نكاح المحلِّل وبطلانه، لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه وأرضاه وقدس روحه ونوَّر ضريحه، على التمام والكمال، وأجاب عنها رحمه الله تعالى.
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
رب يسِّر
سؤال نظم في تحريم نكاح المحلِّل وبطلانه، وفي حكم سابِّ أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – ومُبغضِه، أجاب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية – رضي الله عنه -.
أيها العالمُ الفقيهُ المؤيَّدْ … أفتنا سيِّدي بمذهب أحمَدْ
رجلٍ يدَّعي الفضائل جمعًا … ويرى أنه بفقهٍ مُسَدَّدْ
حرَّم البيعَ للعقار بنقدٍ … وبعقدٍ إلى النسيئة يُقْصَدْ
بعد بيع ومشترى ثم تسليـ … ـمٍ وبعد الفراق والعرف يُعْقَدْ
وأجاز النكاح في نيَّة التحـ … ـليلِ من أعبد بقصدٍ مُجَرَّدْ
ثم من عابري سبيلٍ ومملو … كٍ صغيرٍ وفعلُ ذا قد تأكَّدْ
أيُّ ما عندكم يكون جديرًا … تركُه منهما حريًّا مُقَيَّدْ
أفأخطا وهذه الحال حقًّا … أم أصاب الفقيهُ فيما تعمَّدْ
أفتنا يا إمامَ كلِّ إمامٍ … بعده والمقيمَ شرعَ محمَّدْ
بك يا أحمدَ الخليقةِ أضحَت … جِلَّقٌ (1) أحمَدَ الأماكن أحمَدْ
ثم ماذا تقولُ في مسلمٍ قا … مَ بشرط الإسلام ثم تَجَرَّدْ
لأبي بكرٍ الخليفة بالبغضا … ءِ والسَّبِّ هل بنارٍ يُخَلَّدْ
_________
(1) من أسماء دمشق.

(9/283)


أم عليه العقابُ يُقْطَعُ حتى … يأذن الله بالخروج ويَسْعَدْ
وإذا باح بالمَسَبَّة هل يُقْـ … ـتَلُ شرعًا وبيننا قد يُلَحَّدْ
أم بفرطِ النَّكال يُمنَعُ والتعـ … ـزيرُ أولى أم عن أذاه يُفَنَّدْ
فاشفنا بالجواب أيَّدك الـ … ـلهُ وأولاك أنعُمًا ثم أمجَدْ
وحباك المزيدَ بالقُرب منه … ورِضاهُ على الدَّوام مُجَدَّدْ
* … * … *
صفة جواب شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية الحراني – رضي الله عنه – عن هذا الاستفتاء:
أيها السائلُ المريدُ بيانًا … بالهدى (1) والسَّداد كي يتأيَّدْ
إن فرضًا على الأنام جميعًا … طاعةُ الله والرسولِ محمَّدْ
وأولي الأمر من ذوي العلم والسَّيـ … ـفِ في طاعة الرَّسول المؤيَّدْ
وإذا أجمعوا فهم لن يضلُّوا … نهج المؤمنين نهجٌ مُسَدَّدْ
وإذا ما تنازعوا فإلى اللـ … ـهِ والرَّسولِ المَرَدُّ في كلِّ مَقْصَدْ
خيرُ قولٍ مقالُ ربِّ البَرايَا … وخِيَارُ السَّبيل سُنَّةُ أحمَدْ
وهُدى الله بالكتاب وبالسُّنـ … ـنةِ والإجماع مِن خيرِ قَرنٍ وأرشَدْ
قد أتى بالتَّحقيق فيما سألتُم … وأبان الهدى لمن كان يُقْصَدْ
لعن الله تيسَ غَيٍّ مُعَارًا … ذا سِفاحٍ وللخِداع تَعَمَّدْ
قاصدًا للتحليل في صُورة التَّز … ويجِ شبيهَ السُّموم في جوفِ أسْوَدْ
والذي طلَّق الثلاثَ جميعًا … شارَك التَّيسَ لا بعقدٍ مؤكَّدْ
_________
(1) الأصل: “بالهداد”. تحريف.

(9/284)


حيث باءا بلعنة الله طُرًّا … في حديثٍ عن سيِّد الخلق أحمَدْ (1)
أن يُراجِعْ ذاتَ الطلاق بتحليـ … ـلٍ وذلك التَّيسُ الاسْفَدْ (2)
فالذي حرَّم السفاحَ وإن خا … دَعَ من أظهَر النكاحَ المُجَدَّدْ
حرَّم الظلمَ مثلَ أكلِكَ مالَ الـ … ـغيرِ بالباطل الذي لا يُسَدَّدْ
كالرِّبا والقِمَار ذُمَّا جميعًا … والتَّرابِي فوق القِمَار وأفسَدْ
ولقد قال خاتمُ الرُّسْل قولًا … فيه فصلٌ في كلِّ قولٍ ومَقْصَدْ
حيث رَدَّ الأعمال طُرًّا إلى النِّيْـ … ـيَاتِ (3) كي يُتْبَعَ الرَّشادُ ويُقْصَدْ
فإذا ما قصدتَ قَصْدَ المُرابِي … لعُقودٍ لغير ذلك تُعْقَدْ
فلقد بُؤْتَ بالرِّبا مَعْ خداعٍ … لإله الخلق الذي هو يُعْبَدْ
مثل بيعَيْن يُعْقَدانِ لبيعٍ … أو كقرضٍ مع المحاباة يُعْمَدْ
في بيوعٍ أو في إجارةِ بيعٍ … أو قِرَاضٍ على الذي هو يُنقَدْ
وكذاك الشخصُ المُحِلُّ حرامًا … بين هذين أجل نيلٍ (4) مزهَّدْ
ثالثُ القوم في الربا الحطَّا … مِ (5) هو فيهِ شِبْهُ الذي يَتَقَوَّدْ
وكذا كاتبُ الوثيقة أيضًا … رابعُ القوم في كلام المؤيَّدْ
لعَنَ المصطفى لآكلِ فضلٍ … ولمُعْطِيهِ والشُّروطيِّ يَشْهَدْ (6)
_________
(1) حديث لعن المحلِّل والمحلَّل له، وتقدم تخريجه قريبًا.
(2) كذا في الأصل.
(3) أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر – رضي الله عنه -.
(4) أي: من أجل نيل.
(5) كذا في الأصل، مضبوطًا بالتشديد.
(6) في حديث علي وابن مسعود – رضي الله عنهما – المشار إليه آنفًا: “لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه”، وشواهده كثيرة.

(9/285)


وإذا ما تواطؤوا قبل عقدٍ … أن يُعَاد المبيعُ بالبيع يُعْقَدْ
فهما بائعان بيعَيْنِ في بيـ … ـعٍ وذا ظاهرٌ لمن قد تعوَّدْ
فلشَارِيه منهما أوكسُ البيـ … ـعَيْن وذاك للرِّبا قد تعمَّدْ
هكذا قال صاحبُ الشَّرع والمنـ … ـهاج خاتمُ المرسلين طُرًّا محمَّدْ (1) … لكنِ الذمُّ والعقابُ جميعًا … من الشَّارع الإله المُوَحَّدْ (2)
هو في حقِّ من يبوءُ بذنبٍ … بعد سَمْعِ الشَّرع العظيم المُسَدَّدْ
دون أهل الأعذار مثل إمامٍ … تابعٍ للهدى وللحقِّ يَعْمَدْ
قال قولًا عن اجتهادٍ مباحٍ … خَفِيَت عنه بعضُ سُنَّة أحمَدْ
وكذاك الذي تقلَّد هذا … مع ترك الهوى وعجزٍ عن الرَّدّ
إذ وجوبُ المقال والفعل جمعًا … هو بالوُسْع في الكتاب مُقَيَّدْ
كلُّ ما حَرَّم الإلهُ علينا … فخبيثٌ والظلمُ في ذاك أوكَدْ
إذ لأجلِ الإقساطِ والعدلِ فينا … أرسل اللهُ صفوةَ الخلق أحمَدْ
وكذا المُرسَلون من قبلُ جاؤوا … ليقومَ القسطُ القويمُ المُسَدَّدْ
ولهذا كان العقابُ عظيمًا … لمُعَادِي ربِّ العباد المُوَحَّدْ
ومُعَادِي وليِّه بارَزَ الـ … ـلَّهَ تعالى بالحرب منه وأفسَدْ
مثل ما آذَنَ الإلهُ لِمُرْبٍ … بحِرَابٍ وبالعذابِ المُوَصَّدْ
فالشَّقيُّ الذي يحارِبُ من هم … أفضلُ الأولياء طُرًّا وأحمَدْ
هو شرٌّ حالًا وأعظمُ حربًا … ولحربِ الإله أولى وأوكَدْ
_________
(1) أخرجه أبو داود (3461) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا”، وصححه ابن حبان (4974).
(2) كذا وقع الشطر في الأصل، وسقط منه شيء.

(9/286)


فقتالُ المحارِبين كهذا … واجبٌ باتفاق أمَّة أحمَدْ
ثم قتلُ الفردِ الذي يُظْهِر القو … لَ برفضٍ أو بالخروج المُفَنَّدْ
هو قتلٌ لأجل تركِ فسادٍ … ومُروقٍ عن محضِ دين محمَّدْ
وهو أولى القولين من علماء الدْ … دِين وأدنى إلى الصواب وأرشَدْ (1)
وبه جاءت الأثارةُ عن مثـ … ـل عليٍّ (2) وهو الإمامُ المسدَّدْ
لكنِ القتلُ لا يجوزُ لِمُخْفٍ … مُسْتَسِرٍّ وبالهدى هو يَشْهَدْ
ومقالُ الأقوام (3) شرُّ مقالٍ … وهو كفرٌ من شرِّ كفرٍ وأجحَدْ
لكنِ الكفرُ في حقوق أناسٍ … دخلوا في عموم من يَتَشَهَّدْ
ضلَّ عنهمْ ما جاء عن خاتم الرُّسْـ … ـلِ من الوحي والبيان المؤيَّدْ
خطأٌ منهمُ وزيغٌ عن الحقْ … قِ وجهلٌ وسوءُ رأيٍ مُفَنَّدْ
فإذا لم تَقُم عليهم حجةُ اللـ … ـهِ فهم عن عقوبة الله بُعَّدْ
إذ مضى حكمُ خالق الخلق جمعًا … في الكتاب الذي به جاء أحمَدْ
أنه لا يعذِّبُ الخلقَ إلا … بعد بعث الرُّسْل الكرام ليُعْبَدْ (4)
وله الحمدُ إذ هدانا إلى الدِّيـ … ـنِ دينِه الكامل القويم المُسَدَّدْ
وعلى خاتم النبيِّين منَّا … صلواتٌ مع السَّلام المُسَرْمَدْ
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (28/ 475، 499).
(2) علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في قتله للسبئية وقتاله للخوارج. انظر: “جامع المسائل” (5/ 37).
(3) الرافضة.
(4) قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].

(9/287)


وهذا آخر الاستفتاء والجواب، والحمد لله الملك الوهاب.
قال ابن سونج (1): قابلتُه بنسخةٍ مقروءة على المجيب، وعليها خطُّه، على يد أحمد الزُّهري (2).
_________
(1) الحسين بن إبراهيم بن سونج، من أصحاب ابن تيمية وناسخي كتبه. انظر: “جامع المسائل” (7/ 224, 257) , و”الجامع لسيرة شيخ الإسلام” (221, 222). ووالده هو محيي الدين إبراهيم بن أحمد بن سونج الطبيب. ذكره الذهبي وإخوته في “تاريخ الإسلام” (15/ 517, 625, 948)، وأثنى عليهم, وتحرَّف اسمه في الموضع الثاني إلى “محسن”, وعلى الصواب في طبعة تدمري. واشتبه على ناسخ الأصل، فضرب عليه وكتب: “الزهري”، فلم يصب.
(2) لعله أحمد بن إبراهيم الفقيه العالم شهاب الدين الزهري الشافعي، ترجمه الذهبي في “المعجم المختص بالمحدثين” (12).

(9/288)


مسألة
في اللعب بالشِّطْرَنج

(9/289)


الحمد لله.
قال الإمام شمس الدين ابن المحب المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى: رأيت ما صورته سؤالًا وجوابًا:
ما قول السادة العلماء ــ نفع الله بهم – في اللعب بالشِّطْرَنج، هل هو حرامٌ أم لا؟ وهل يَفْسُق اللاعبُ به إذا أصرَّ عليه أم لا؟ وهل قال أحدٌ من أصحاب الأئمَّة الثلاثة القائلين بتحريمه بحِلِّه فيما تعلمون أم لا؟ ومن أفتى من أصحاب القائلين بتحريمه بحِلِّه يكونُ منتسبًا إلى مذهب ذلك الإمام أم لا؟
أجاب: الحمد لله. اللعبُ بالشِّطْرَنج حرامٌ في مذهب الأئمَّة الثلاثة، وجماهير العلماء (1)، وطائفةٍ من أصحاب الشافعي (2).
حتى قال مالك: “هي شرٌّ من النَّرد” (3).
وقال الإمام أحمد وغير واحدٍ في من يلعبُ بالشِّطْرَنج: “ما هو بأهلٍ أن يُسَلَّم عليه” (4) , يعني في حال لعبه؛ لأنه متلبِّسٌ بمعصية.
وقال أيضًا في من يمرُّ بقومٍ يلعبون بالشِّطْرَنج: “يَقْلِبُها عليهم، إلا أن
_________
(1) انظر: “الاستذكار” (8/ 462)، و”المغني” (14/ 155).
(2) مال إليه الحليمي في “المنهاج” (3/ 90)، واختاره القاضي الروياني كما في “العزيز” (13/ 11)، و”كفاية النبيه” (19/ 114).
(3) انظر: “المدونة” (4/ 19).
(4) انظر لقول الإمام أحمد: مسائل إسحاق بن منصور (3363)، و”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” للخلال (78)، و”جامع المسائل” (7/ 325)، ولغيره: “الزهد” لأحمد (467)، ومسائل حرب (932)، و”تحريم النرد والشطرنج” للآجري (159، 160)، و”عمدة المحتج في حكم الشطرنج” للسخاوي (93، 95، 97).

(9/291)


يُغَطُّوها ويستروها” (1)، وذلك لأن المعصية إذا أُعلِنَت وجب إنكارُها، وإذا سُتِرَت لم تضرَّ إلا صاحبَها.
وما علمتُ أحدًا من أتباعهم أباحها.
ولفظ الشافعي – رضي الله عنه – فيها مُمَرَّض؛ فإنه قال: “النَّرد حرام، والشِّطْرَنج أخفُّ منه، ولا يتبيَّنُ لي تحريمُه” (2)، فلفظُه صريحٌ في التوقُّف في التحريم، لا في نفي التحريم، وبينهما فرقٌ بيِّن.
وأما الجماهير فجزموا بالتحريم؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} إلى قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 90 – 91].
والشِّطْرَنج من المَيْسِر، إما لفظًا ومعنًى، وإما معنًى؛ فإنه قد قال غير واحدٍ من السلف، منهم القاسم بن محمد: “الشِّطْرَنج من المَيْسِر” (3).
_________
(1) انظر: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” للخلال (61). وقد فعل ذلك ابن تيمية مرة في حادثةٍ تدل على شجاعةٍ ورباطة جأش. انظر: “العقود الدرية” (352).
(2) لم أجده بهذا اللفظ في “الأم” (6/ 224)، ولا فيما نقله الشافعية عنه. انظر: سنن البيهقي (10/ 357)، و”المعرفة” (14/ 322)، و”الحاوي” (17/ 177)، و”البيان” (13/ 287)، و”عمدة المحتج” (160, 161)، وغيرها.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في “ذم الملاهي” (92)، والخلال في “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” (63)، والآجري في “تحريم النرد والشطرنج والملاهي” (26، 28).
وروي عن علي – رضي الله عنه – أنه قال في الشطرنج: “هو ميسر الأعاجم”. أخرجه البيهقي (10/ 358) من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن عليٍّ به. قال البيهقي: “هذا مرسل، ولكن له شواهد”. وقال ابن كثير في “إرشاد الفقيه” (2/ 419): “هذا منقطعٌ جيد؛ لأن أهل الرجل أعلم بحديثه”.

(9/292)


وهؤلاء أهلُ اللغة، وأعلمُ بها وبمعاني الكتاب ممَّن بعدهم، فإن كانوا أرادوا أن اللفظ يشملها لغةً فقولهم في ذلك مقبول (1)، وإن كانوا أرادوا أن الشرع نقَل اسم “المَيْسِر” إلى أعمَّ من معناه في اللغة فهم ثقاتٌ في ذلك.
وإن لم يثبت أن اللفظ يشملها أُلحِقَت بالمَيْسِر من جهة المعنى، كما أن النبيذ المختلف فيه أدرجناه في اسم “الخمر” تارةً بالنقل وتارةً بالقياس.
فنقول: المَيْسِر قد بيَّن الله علَّة (2) تحريمه بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، وهذه العلَّة موجودةٌ فيه سواءٌ اشتمل على بدل المال أم لم يشتمل؛ فإن اللاعبين بالشِّطْرَنج إذا استكثروا منها صدَّتهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وألهت عقولهم حتى عن الأكل والشرب، وأوقعت بينهم عداوةً وبغضاء، كما يُعْلَم ذلك من استقراء أحوال مُدْمِنيها. والقليلُ مِن لعبِها يدعو إلى الكثير، كما يدعو قليلُ الخمر إلى كثيره، وقد يفعل في النفوس شرًّا من فعل الخمر.
وقد ثبت عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه مرَّ على قوم يلعبون بالشِّطْرَنج، فقال: “ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟! ” (3)، فشبَّه
_________
(1) انظر: “عمدة المحتج” للسخاوي (133, 155)، ولتحرير مسألة الاحتجاج بأقوال السلف في اللغة: “التفسير اللغوي للقرآن الكريم” لمساعد الطيار (560 – 590).
(2) الأصل: “عليه”. ولعلها: عِلِّيَّة. والمثبت أظهر.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (26682)، والبيهقي (10/ 358) وغيرهما بسندٍ رجاله ثقات إلا أن فيه إرسالًا، ميسرة لم يدرك عليًّا – رضي الله عنه -. انظر: المنتخب من “العلل للخلال” (102)، و”المختارة” للضياء (2/ 361).
وروي من وجهٍ آخر مرسل لا يتقوى به، من حديث أبي إسحاق عن علي. انظر: “عمدة المحتج” (70)، و”الإرواء” (8/ 289).
وقال أحمد: “أصح ما في الشطرنج قول علي – رضي الله عنه – “. “المغني” (14/ 156).

(9/293)


عكوفهم عليها بالعكوف على الأوثان، كما قرن الله بين الخمر والمَيْسِر والأنصاب والأزلام، وكذلك ما روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “مدمنُ الخمر كعابدِ وثن” (1).
وروي المنعُ منها عن عبد الله بن عمر (2) وغيره من الصَّحابة (3)، ولا يُعْرَفُ عن صحابيٍّ خلافُه.
وسعيدُ بن جبير إنما لعبَ بها ليدفَع عن نفسه ولاية القضاء (4)، خوفًا من الوقوع في المحرَّمات الكبائر، وإذا لم يندفع المحرَّمُ الكبير إلا بما هو أخفُّ منه تعيَّن فعلُه.
وأما ردُّ الشهادة، فأكثر أصحاب الإمام أحمد ومالك على أنه من أدام
_________
(1) أخرجه أحمد (2454) بإسنادٍ ضعيف. وله طرق وشواهد لا تخلو من ضعف.
(2) وقال: “هو شرٌّ من النرد”. أخرجه البيهقي (10/ 359) بسندٍ حسن. قال الذهبي في “مهذب سنن البيهقي” (8/ 4224): “أرى سندًا نظيفًا إن كان جعفر ثقة”، وهو ثقة، ولم ينفرد به، تابعه عليه غير واحد.
(3) انظر: “عمدة المحتج” (68 – 82).
قال ابن القيم في “المنار المنيف” (130): “أحاديث اللعب بالشطرنج إباحةً وتحريمًا كلها كذبٌ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإنما يثبت فيه المنعُ عن الصَّحابة”.
وانظر: “إرشاد الفقيه” لابن كثير (2/ 418).
(4) انظر: “عمدة المحتج” (107, 145، 155).

(9/294)


اللعبَ به رُدَّت شهادتُه (1) وإن كان متأولًا؛ بناءً على أن المداومة عليه سَفَهٌ يذهبُ بالمروءة، فيصير مظنَّةً للفسق، كما تُرَدُّ الشهادة بسائر مظانِّ الفسق وإن لم تكن فسقًا.
وقال القاضي في موضعٍ من “التعليق”، وابن عقيل: إذا فعله متأولًا لم تُرَدَّ شهادتُه، كمن شرب النبيذ المختلفَ فيه متأولًا، على المشهور من المذهب (2).
وهذا هو المنصوص عن الشافعي (3)، أعني قبول شهادة المتأوِّل، والله أعلم (4).
_________
(1) انظر: “البيان والتحصيل” (13/ 255)، و”الذخيرة” (10/ 215).
(2) انظر: “المستوعب” (2/ 634)، و”المغني” (14/ 156).
(3) انظر: “الأم” (6/ 224).
(4) في هذه الفتوى فوائد وزيادات في الاستدلال والاحتجاج على غيرها من فتاوى الشيخ في الشطرنج. انظر: “مجموع الفتاوى” (32/ 216 – 245). وله في الكلام عليه قاعدة ذكرها ابن عبد الهادي في “العقود الدرية” (76)، وابن رشيِّق في “أسماء مؤلفات ابن تيمية” (308 – الجامع لسيرة شيخ الإسلام)، وقد سميت المسألة التي في “مجموع الفتاوى” (32/ 216 – 239) في نسخة برنستون (ق 82): “قاعدة في الشطرنج” دون ذكر السؤال في أولها.
وفي جزء ابن عبد الهادي في “النهي عن اللعب بالنرد والشطرنج” (231 – 248 ري الفسائل) نقول عن شيخه ابن تيمية في هذه المسألة، ويشبه كذلك أن يكون ابن القيم – رحمه الله – قد انتفع بكلامه في “الفروسية” (241 – 254).

(9/295)


سؤال منظوم
في حكم الرقص والسَّماع وجوابه

(9/297)


الحمد لله ربِّ العالمين.
* سأل بعضُ الناس (1) شيخَ الإسلام ابن تيمية (2):
يا معشر الفقهاء والساداتِ … رُفِعَت لكم في الجنة الدرجاتُ
ماذا تقولوا في أناسٍ يرقصوا … وهمُ رجالٌ خيِّرون ثقاتُ
فأنا أخبِّركم على ما يرقصوا … بالدفِّ ثم الكفِّ معْ أصواتِ
يستفتحون سماعهم بقراءةٍ … بالذكر والتسبيح والزفراتِ
وإذا انتهوا في وَجْدِهم وسماعهم … ختموا السَّماعَ بفاضل الدعواتِ
يتجنَّبون المُحْدَثاتِ بأسرها … ما فيه من حَدَثٍ (3) ولا قَيْناتِ
أيضرُّهم هذاك عند إلـ?ههم … أم يوجبُ النيرانَ واللَّفحاتِ
أم يُنْسَبوا للكفر من بين المَلا … أم دينُهم باقٍ لهم بثباتِ
أم ذلك الوجدُ المعيَّنُ بدعةٌ … وردت في الأخبار (4) والآياتِ
في أيِّ آيات الكتاب سمعتمُ … أن التواجُدَ يُذْهِبُ الحسناتِ
أيْما أحلُّ: الوجدُ في مَذْهَبْكِمُ … أم أكلُ لحم الناس بالغِيباتِ
بالله أفتونا بما أوليتمُ … علمًا وبرهنةً عن الشبهات
أجاب شيخُ الإسلام ابن تيمية – رضي الله عنه -:
_________
(1) لم يذكر اسمه في الأصل، ولم أهتد إليه، ولا يظهر أنه من أهل العلم.
(2) في الأبيات ضعفٌ ظاهر، وخللٌ من جهة النحو في مواضع، وفي البيتين الأولين إقواء.
(3) الأصل: “ما فيهم حدثٌ”، وكتب الناسخ تحتها بخط صغير ما أثبته، ويشبه أن يكون قد قابل الأبيات على نسخة أخرى، كما تدل عليه المواضع التالية.
(4) كذا في الأصل.

(9/299)


يا سائلين عن الطريق المرتضى … السالكينَ طرائقَ الخيراتِ
القاصدينَ رضى الإله ودينَه … العابدين لمُنْزِل الآياتِ
التابعينَ المصطفى خيرَ الورى … والمقتفِينَ مسالكَ السَّاداتِ
الطالبينَ سبيلَ أرباب الصَّفا … أهل الهدى والصِّدق والإخباتِ
وذوي المحبة للإله مليكِنا (1) … أهل الإرادة في سبيل نجاةِ
قد قال خالقُنا كلامًا بيِّنًا … بان الطريقُ به من الشبهاتِ (2)
إن كنتَ يا عبدي محبًّا مخلصًا … فرسوليَ الهادي إلى مرضاتي
فأنا المحبُّ لمن يتابعُ أحمدًا … لستُ المحبَّ طرائقَ البِدْعاتِ
وسماعُه وسماعُ أتباعٍ له … هو سمعُ قولي مُحْكَمِ الآياتِ
وهو السَّماعُ لكل عبد صالحٍ … وبه تُنال جميعُ محبوباتي
وهو الذي كان النبيُّ وصحبُه … والتابعون لهم على الخيراتِ
يَجِدُون فيه مَوَاجِدَ الحبِّ الذي … يعلو علوًّا عالي الدرجات
فسماعُ قول الله في (3) تنزيله … بابُ الهدى ومقدَّم الطاعاتِ
وهو السَّماعُ سماعُ أرباب التُّقى … وسماعُ أهل الدين والقرباتِ (4)
وهو الذي من فاته حُرِمَ الهدى … وغدا غَوِيًّا تابعًا لِغُواةِ
مستوجبًا لعذاب نار جهنَّمٍ … مع حزب شيطانٍ وجمع طغاةِ
_________
(1) الأصل: “إلهنا”. وكتب الناسخ فوقها بخط صغير ما أثبته.
(2) يريد قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} آل عمران: 31.
(3) كتب الناسخ فوقها: “من”.
(4) كتب الناسخ فوقها: “والبركات”.

(9/300)


هذا السَّماع يُنِيلُ صاحبَه الذي (1) … يبغي الوصولَ لأكبر الحالاتِ
مما أنال الربُّ أهلَ ولايةٍ … الواجِدينَ مَوَاجِدَ الساداتِ
أهل المحبَّة للإله ودينه … ورسوله المبعوث بالآياتِ
أهل الصَّفاء المُصْطَفَيْن من الورى … القائمين بواجب الطاعاتِ
أما سماعُ العازفاتِ فكلُّها … والنفخ في المزمار والقَصَباتِ
والضربِ بالكفِّ المصفِّق والغِنا … والرقص عند مَناكِر الأصواتِ
فمن الأمور المُبْدَعاتِ بلا هدى … قد جاء في هذا من الآياتِ
لم يأمر الربُّ الكريمُ بذلكم … كلا ولا قد جاء في الطاعاتِ
لا أمرَ فرضٍ لا ولا فضلٍ ولا … شَرَع النبيُّ لهذه الفِعْلاتِ
والقربُ من رب السَّماوات العُلى … لا ينبغي إلا بذي الطاعاتِ
إما بفرضٍ واجبٍ تُؤتى به … أو مستحبٍّ يرفعُ الدرجاتِ
فمتى يكن هذا السَّماعُ المُبتَغَى … من غير (2) دينٍ جامع القربات
كان السُّلوكُ به ضلالًا بيِّنًا … عن طُرْق أهل الدين والخيراتِ
وسلوكُ صاحبه به نحو العُلى … يهوي به في ظلمة الدَّركاتِ
مثلُ التقرُّب بالصلاة لمَشْرقٍ (3) … وبغيرها من سائر البِدْعاتِ
فالربُّ جلَّ جلالُه لا يُبْتَغى … رضوانُه إلا بسُبْلِ نجاةِ
_________
(1) كتب الناسخ فوقها: “الردى”.
(2) الأصل: “عند”. وكتب الناسخ فوقها بخط صغير ما أثبته.
(3) كفعل النصارى المبتدعين. انظر: “الجواب الصحيح” (2/ 87، 3/ 18، 29، 438)، و”منهاج السنة” (1/ 321)، و”اقتضاء الصراط” (2/ 723)، و”مجموع الفتاوى” (17/ 331، 28/ 611).

(9/301)


لا يُبْتَغى رضوانُه بعبادةٍ … لسواه كالآتي بقصد اللاتِ
وكذاك لا إلا بطاعة رُسْله … للمبتغي للفضل والمرضاةِ
فالله يهدينا جميعًا للذي … يختاره في سائر الحالاتِ
والحمد لله الكريم الهادِ ذي … اَلفضل والإحسان والبركات
تمت، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

(9/302)


فصل
في دفع صِيَال الحراميَّة

(9/303)


الحمد لله ربِّ العالمين، قال شيخ الإسلام أبو العباس – رضي الله عنه -:
فصل
من خرج من الحراميَّة (1) على الحُجَّاج أو غيرهم، قبل الإحرام أو بعد الإحرام، فإنه صائلٌ ظالمٌ عادٍ، يجوز دفعُهم باتفاق المسلمين، وإذا احتاجوا في دفعهم إلى قتالٍ أو رمي نُشَّابٍ (2) قاتلوهم ورموهم بالنُّشَّاب، قبل الإحرام وبعد الإحرام، باتفاق المسلمين.
وإذا قُتِل هذا الحراميُّ الذي لم يندفع إلا بالقتال، فدمه هَدَرٌ لا يُضْمَنُ بقَوَدٍ ولا ديةٍ ولا كفارة (3).

وإن قُتِل الدافعُ كان شهيدًا؛ قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتِل دون حُرمته فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد” (4).
ومن لم يندفع إلا بالقتال، كالرمي بالنُّشَّاب، جاز ذلك بالاتفاق. وإن
_________
(1) جمع “حراميّ”، وهو فاعل الحرام، وغلب استعماله على اللصِّ في اصطلاح العامة من قديم. انظر: “محيط المحيط” (164)، و”تكملة المعاجم” (3/ 148)، و”كناشة النوادر” لعبد السلام هارون (168).
(2) وهي النَّبلُ والسهام.
(3) انظر: “الاختيارات” للبعلي (428، 437).
(4) أخرجه أحمد (1652)، وأبو داود (4772)، والترمذي (1481) من حديث سعيد بن زيد – رضي الله عنه -، وقال الترمذي: “هذا حديثٌ حسنٌ صحيح”. إلا أني لم أجد لفظ “دون حرمته” مسندًا. وانظر: “السنة” للخلال (1/ 164).

(9/305)


جاء بسلاحٍ، وخيف هجومُه، جاز رميُه أيضًا.
فإذا كان يطمعُ في الحُجَّاج إذا صِيحَ به، وإنما يَفْزَعُ من النُّشَّاب، رُمِي بالنُّشَّاب. وإن أمكن دفعُه بالصِّياح، فهل يجوز رميُه قبل الصِّياح به؟ فيه نزاعٌ بين العلماء.

وكذلك إذا دخل الحراميُّ إلى داره، فهل يجوز دفعُه بالسِّلاح قبل الصِّياح؟ فيه قولان:
قيل: يجوز، كما دخل لصٌّ على ابن عمر – رضي الله عنهما -، فقام إليه ابن عمر بالسيف. قالوا: فلولا أنا نهيناه عنه لضرَبَه (1).
وقد ثبت في الصَّحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لو أن رجلًا اطَّلع في دارك بغير إذنك، فطعنتَه، ففقأتَ عينَه، لم يكن عليك بأس” (2).
وثبت أيضًا في الصَّحيح أن رجلًا اطَّلع في دار النبي – صلى الله عليه وسلم -، فجعل يتبعُه بمِدْرًى (3)، ليفقأ عينَه (4).
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – أباح فقأ عين هذا المعتدي الناظِر، بدون نهيه والصِّياح عليه.
وهذا مذهبُ فقهاء الحديث، كالشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهما،
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق (10/ 112، 198)، وابن أبي شيبة (14/ 346)، والخلال في “السنة” (1/ 167)، بإسنادين صحيحين.
(2) أخرجه البخاري (6888)، ومسلم (2158) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) المِدْرى: حديدةٌ تشبه المشط. وانظر لتنوينها: “التوضيح” لابن الملقن (29/ 52، 31/ 450).
(4) أخرجه البخاري (6242)، ومسلم (2157) من حديث أنس – رضي الله عنه -.

(9/306)


في الناظر (1).
فكذلك قال من قال في كلِّ صائل (2).
وقيل: يجبُ دفعُه بالأسهل فالأسهل، ولا يُرمى إلا إذا احتيج إلى ذلك.
ولو طلبَ من مال الحاجِّ أو غيرهم مالًا قليلًا أو كثيرًا، وأمكن دفعُهم بالقتال، لم يجب على الحاجِّ بذلُ شيءٍ من أموالهم، وجاز لهم قتاله (3).
وإذا أُمْسِك الحراميُّ وقد قَتَل، قُتِل حتمًا وصُلِب.
وإن أخَذ المالَ ولم يَقْتُل، قُطِعَت يدُه اليمنى ورجلُه اليسرى جميعًا، وحُسِمتا بالزيت المغليِّ.
وإن لم يَقتُل ولم يأخذ مالًا، وأمكن نفيُه بحبسه أو إخراجه من الأرض، فُعِل به ذلك. ويجوز عند بعض العلماء إذا شَهَر السلاحَ على الحُجَّاج قتلُه وإن لم يَقتُل ولم يأخذ مالًا. وإن كان بغير سلاحٍ عُزِّر بالحبس وغيره بعد أن يُمْسَك، والنفيُ (4) هو حبسٌ في السفر، والله أعلم (5).
_________
(1) انظر: “الإشراف” (7/ 386)، و”نوادر الفقهاء” (209)، و”المغني” (12/ 539).
وللمذهب الآخر: “شرح مشكل الآثار” (2/ 396)، و”فتح الباري” (12/ 245).
(2) انظر: “السنة” للخلال (1/ 176، 178، 180، 184)، و”المغني” (12/ 533).
(3) انظر: “السياسة الشرعية” (112)، و”مجموع الفتاوى” (28/ 540، 34/ 242)، و”جامع المسائل” (4/ 229).
(4) رسمت في الأصل: “والزنجير”. ولعل الصواب ما أثبت.
(5) انظر: “المغني” (12/ 475)، و”السياسة الشرعية” (99، 103، 104)، و”مجموع الفتاوى” (28/ 100، 34/ 239).

(9/307)


مسائل فقهية

(9/309)


[الطهارة]* مسألة: في الماء الجاري، إذا تغيَّر أحد أوصافه بالزِّبْل.
الجواب: إن كان متغيِّرًا بزِبْلٍ طاهر، كزِبْل الخيل، جاز التوضُّؤ به في أظهر قولي العلماء.
وإن كان متغيِّرًا بزِبْلٍ يُعْلَمُ أنه نجس، لم يَجُز التوضُّؤ به.
وإن شكَّ هل تغيَّر بطاهرٍ أو نجسٍ ففيه وجهان، أظهرهما أنه طاهر (1).
* … * … *
* مسألة: إذا كان على المرء خاتمٌ فيه ذكر اسم الله، ولم يمكنه نزعُه عند الخلاء، دخَل به، لكن يجعل فِصَّه مما يلي كفَّه (2).
* … * … *
* مسألة: إذا كان المُمَوَّه لا يجتمعُ من تمويهه شيءٌ من الذهب جاز استعماله (3).
* … * … *
* مسألة: لا تُسْتَعْمَلُ الإبَرُ الفِضَّة، كما لا تُسْتَعْمَلُ سائر آنية الذهب
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 40, 73, 326).
(2) انظر: “شرح العمدة” (1/ 107).
(3) انظر: “شرح العمدة” (2/ 309).

(9/311)


والفضة؛ فإن الإبَر والمَرَاوِد ونحو ذلك من قسم الآنية المنقولة التي يُنْهى عنها الرجال والنساء (1).
* … * … *
* مسألة: مسُّ فرج الصبيِّ الرضيع وغيره، هل ينقض الوضوء؟
[الجواب]: هذه المسألة أيضًا فيها نزاعٌ مشهور، والأظهر أن الوضوء من مسِّ الذكر مستحبٌّ ليس بواجب، فإن توضأ فهو أفضل، وإن لم يتوضأ جازت صلاته (2).
* … * … *
* مسألة: في زيتٍ نجس، إذا صُبَّ عليه زيتٌ آخر حتى كَثُر ولم يبق متغيِّرًا بالنجاسة، فهو طاهرٌ يجوز استعماله، وكذلك المائعات، كالخلِّ والدِّبس وغيرهما (3).
* … * … *
* مسألة: إذا كان المتنجِّس من الثياب مما يضرُّه الغسل، كبعض ثياب الحرير، ونحو ذلك، أجزأ مسحُها حتى تذهب النجاسة.
_________
(1) انظر: “شرح العمدة” (1/ 72)، و”الاختيارات” للبعلي (13).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (20/ 526، 21/ 222، 241، 35/ 358)، و”الاختيارات” للبعلي (28)، وجزء في أحاديث مس الذكر لابن عبد الهادي (72 – ري الفسائل).
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 488، 512, 524)، و”الاختيارات” للبعلي (12).

(9/312)


ولو كان غير ذلك، وكان المسحُ مُنْقِيًا لا يبقي شيئًا من النجاسة، طَهُر المحلُّ أيضًا بذلك، في الأظهر من الأقوال (1).
* … * … *
* مسألة: في حبل الغسيل.
الجواب: حبلُ الغسيل طاهر، وإذا غُسِلَت الثيابُ ونُشِرَت عليه فالثيابُ طاهرة، والبِلَّةُ التي فيها طاهرة، والحبلُ طاهر.
وإن كانت البِلَّةُ نجسة، فيَبِس الحبلُ وزالت البِلَّةُ عنه، فهو طاهر، نصَّ على ذلك الإمام أحمد وغيره؛ فإن النجاسة زالت بالشمس، والله أعلم (2).
* … * … *
* مسألة: في بول الفأر على الحُصُر.
الجواب: اليسيرُ من بول الفأر وبَعْرِه يُعْفى عنه في أظهر قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد (3).
فإذا مُسِحَت الحُصُرُ فبقي شيءٌ يسيرٌ عُفِيَ عنه.
ولو كانت النجاسةُ على ما يضرُّه الغَسْل، كثياب الحرير، والوَرَق، وغير
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 523)، و”الاختيارات” للبعلي (39).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 209، 279، 510)، و”إغاثة اللهفان” (284)، و”الإنصاف” (1/ 318)، و”الاختيارات” للبعلي (41).
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 534)، و”الفروع” (1/ 350)، و”مختصر الفتاوى المصرية” (14)، و”الاختيارات” للبعلي (43).

(9/313)


ذلك، مُسِحَت، ولا يحتاج إلى غَسْلٍ، في أظهر قولي العلماء (1).
وأصلُ ذلك أن للعلماء في إزالة النجاسة بغير الماء ثلاثة أقوالٍ في مذهب الإمام أحمد وغيره (2):
قيل: يجوز بكلِّ مُزِيلٍ، كقول أبي حنيفة، وهو الأقوى (3).
وقيل: لا يجوز إلا بالماء، كقول الشافعي.
وقيل: يجوز عند الحاجة، كقول مالك.
وأما العفوُ عن يسير البول والعَذِرة من الحيوان الطاهر الذي لا يؤكل لحمُه، كالفأرة ونحوها، ففيه قولان هما روايتان عن الإمام أحمد (4).
* … * … *
* مسألة: في زِبْل الخيل والبغال والحمير، وما يلصقُ بالإنسان من ذلك في المنزل، وبدن (5) الدابة، والفِراش، وغير ذلك، هل يُغْسَل أم لا؟
الجواب: الحمد لله. أما زِبْلُ الخيل وبولُها فإنه طاهرٌ في أظهر قولي
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 523)، و”الاختيارات” للبعلي (38, 39)، وللبرهان ابن القيم (58).
(2) انظر: “المغني” (1/ 16، 17).
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 475، 508)، و”منهاج السنة” (5/ 178، 179)، و”الاختيارات” لابن عبد الهادي (16، 18، 27)، وللبعلي (38).
(4) انظر: “المغني” (2/ 486).
(5) الأصل: “وبذب”. تحريف. وستأتي على الصواب في الجواب.

(9/314)


العلماء. وإذا شكَّ في الزِّبْل: هل هو زِبلُ خيلٍ أو غيره؟ لم يحكم بنجاسته، على الصَّحيح (1).
وأما زِبْلُ البغال فيُعفى عن يسيره للحاجة، على الصَّحيح، مثل ما يلصقُ بالمِقْوَد وببدن الدابة إذا تمرَّغَت، فلا حاجة إلى غسل ذلك. وكذلك ما يلصقُ بالبِسَاط الذي يحتاجُ إلى فرشِه على الزِّبل، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: رَوْثُ دود القَزِّ، هل هو طاهر؟
الجواب: نعم، هو طاهرٌ عند أكثر العلماء (2).
* … * … *
* مسألة: في يسير النجاسة المعفوِّ عنها في بدن المصلِّي وثيابه، ما مقدارها؟
الجواب: اليسيرُ من الدم والقيح والصَّديد معفوٌّ عنه عند عامة العلماء، وهو ما لا يَفْحُش في نفس الإنسان.
ويُعْفى أيضًا عن اليسير من سائر النجاسات التي يشقُّ الاحترازُ منها، في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب كثيرٍ من العلماء، كأبي حنيفة.
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 40، 72، 74، 75، 542 – 587، 613)، و”شرح العمدة” (1/ 69).
(2) انظر: “الاختيارات” للبعلي (42).

(9/315)


وعلى القول الآخر (1) يُعْفى عن يسيره في أظهر القولين، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد (2).
* … * … *
* مسألة: في رجلٍ به دُمَّلٌ، وهو يسيل، وقد امتنع من الصلاة لأجل ذلك.
الجواب: الحمد لله. يصلِّي، ولا يدع الصلاة لأجل ذلك، بل يجتنبُ النجاسة بحسب الإمكان، فإذا لم تُمْكِنه الصلاة إلا مع النجاسة صلَّى، ولا إعادة عليه، والله تعالى أعلم (3).
* … * … *
* مسألة: يجوز أكل الشِّواء والحلواء التي تباع في السوق، وتوضعُ على الأخشاب والبلاط البائت في السوق، وإن ظُنَّ أن الكلاب تمسُّها لم يُلْتَفت إلى ذلك؛ لأن الأصل عدمُه، ولأن غاية ذلك أن يكون بعضُ ريقِ الكلب أصاب ذلك، فإنه يسيرٌ في العادة، والشِّواء واللحمُ جامد، فلا يُعْرَف أن فيه
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) انظر: “القواعد النورانية” (34)، و”مجموع الفتاوى” (21/ 482، 520)، و”شرح العمدة” (1/ 58 – 63)، و”الاختيارات” للبعلي (40، 41، 43).
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 221)، و”جامع المسائل” (7/ 70).
ومن اختياراته – رحمه الله – طهارة المِدَّة والقيح والصديد، وذكر أنه لم يقم الدليلُ على نجاستها. انظر: “إغاثة اللهفان” (272)، و”الإنصاف” (1/ 325)، و”الاختيارات” للبعلي (43).

(9/316)


شيئًا من ريق الكلب، ولو عُرِف كان يسيرًا في الجامد، مِن جنس ما يصيبُ الصَّيدَ من فم الكلب، وهذا ليس بنجس، والله أعلم (1).
* … * … *
* مسألة: في آنية الخمر الفخَّار، إذا وُضِع فيها دبسٌ أو خلٌّ أو غير ذلك، هل ينجس؟
الجواب: إذا كانت الخمرُ تخلَّلت فيها بفعل الله طَهُرَت وطَهُر الوعاء، ولم يحتج إلى غسل. وإن لم تتخلَّل طُهِّر الإناءُ بالماء، واستُعمِل.
فإن لم يُغْسَل، فبقي فيه شيءٌ يسيرٌ من الخمر، فاختلط بالدِّبس والخلِّ والماء، ولم يُغَيِّره، ولم يظهر فيه أثرُه، فهو طاهرٌ في أظهر القولين؛ بناء على أن المائعات والماء إذا وقعت فيه نجاسة، فاستُهلِكَت، ولم يظهر لونُها ولا طعمُها ولا ريحُها، فإن المائعات والماء طاهرٌ، والله أعلم (2).
* … * … *
* مسألة: في الزئبق، قيل: إنه يُحْمَل في جلد خنزيرٍ أو كلب، هل ينجسُ أم لا؟
الجواب: الزئبق طاهر، وإن لاقى نجاسة جلد خنزيرٍ أو غير ذلك لم يَنْجُس في أظهر قولي العلماء؛ فإنه لا يتغيَّر بملاقاة النجاسة، ولا يظهرُ فيه طعمُها ولا لونُها ولا ريحُها (3)، ومتى كان كذلك لم يَنْجُس عند جمهور
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 522)، و”الفروع” (1/ 108).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 481، 502).
(3) انظر: “شرح العمدة” (1/ 51).

(9/317)


السَّلف، وهو مذهبُ أهل المدينة وغيرهم، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، والشافعي في قولٍ محكيٍّ عنه اختاره طائفةٌ من أصحابه في الماء (1).
وأما سائر المائعات، فقد قيل: إنها كالماء، كقول أبي ثور، ورواية الإمام أحمد (2).
وقيل: لا تَنْجُس وإن نَجَسَ الماء، كقول بعض المدنيين (3).
وقيل: بل تَنْجُس وإن لم يَنْجُس الماء، كقول الشافعي (4).
والقولان الأولان أصحُّ، كما قد بُسِط في موضعه (5).
ومن قال: إن الزئبق يَنْجُس، فقد قيل: إنه يَطْهُر بالغسل، كما ذكره ابنُ عقيلٍ وغيره (6).
* … * … *
* مسألة: في إناءٍ فيه دِبْسٌ، فولغ فيه كلبٌ.
_________
(1) انظر لمذهب الشافعية في الزئبق تصيبه نجاسة: “المجموع” (2/ 599)، و”الروضة” (1/ 30)، و”كفاية النبيه” (2/ 283)، و”الهداية إلى أوهام الكفاية” (92).
(2) انظر: “المغني” (1/ 45)، و”مجموع الفتاوى” (21/ 489).
(3) انظر: “النوادر والزيادات” (4/ 380).
(4) انظر: “المجموع” (2/ 599).
(5) انظر: “مجموع الفتاوى” (20/ 516، 21/ 488)، و”جامع المسائل” (7/ 315)، و”الاختيارات” لابن عبد الهادي (14)، والبرهان ابن القيم (40)، والبعلي (11).
(6) ذكره ابن عقيل في “الفصول”. انظر: “المغني” (1/ 52)، و”الإنصاف” (1/ 321). وقطع به في “المستوعب” (1/ 119).

(9/318)


الجواب: إن كان جامدًا أُلْقِي ما ولغ فيه، وأُكِل الباقي (1).
* … * … *
* مسألة: في بول الفأر إذا بَلَّ الدقيقَ، هل ينجِّسُه أم لا؟
الجواب: يُلْقى ما فيه البولُ من الدقيق، وسائره طاهرٌ بلا نزاع. وإذا شكَّ هل تنجَّس؟ فالأصل طهارتُه، فلا يزول اليقين بالشكِّ.
* … * … *
* مسألة: في ظُفر الإنسان.
الجواب: ظُفره طاهرٌ في حال انفصاله في أظهر قولي العلماء، وكذلك شعرُه المقطوع والمحلوق، وقد صحَّ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه لما حلق رأسَه أعطى بعض شعره لأبي طلحة، وبعضه قسَمه بين المسلمين (2)، والله أعلم (3).
* … * … *
* مسألة: في يد الإنسان إذا كانت قِشْبة (4)، وانفركت في العجين والطبيخ والغسيل، هل تُنجِّسُه؟
_________
(1) انظر: “جامع المسائل” (7/ 314، 318)، و”مجموع الفتاوى” (21/ 515).
(2) أخرجه البخاري (171)، ومسلم (1305) من حديث أنس – رضي الله عنه -.
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (22/ 201).
(4) أي: يابسةً شلَّاء. والقِشْب: اليابس الصلب، كما في “اللسان” و”التاج” (قشب).

(9/319)


الجواب: الآدميُّ إذا مات فهو طاهرٌ في أظهر قولي العلماء (1).
وكذلك لو قُطِعَت يدُه فهي طاهرةٌ على الصَّحيح. وشعرُه المقطوع، وقُلامة ظفر الإنسان، طاهرةٌ على الصَّحيح. فقِشْبُه أولى بالطهارة.
* … * … *
* مسألة: في الرِّيش من الميتة، هل تصحُّ الصلاة بحَمْلِه؟
الجواب: ريشُ الميتة وصوفُها ووَبَرُها وشعرُها طاهرٌ تجوز فيه الصلاة عند جماهير العلماء من السَّلف والخلف، وهو مذهب الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، ومالك، وأبي حنيفة (2).
* … * … *
* مسألة: في شَعر الخيل، إذا أُخِذ بعد موته.
الجواب: شَعرُ الخيل إذا أُخِذ بعد موته فهو طاهرٌ عند جماهير العلماء، وهو مذهبُ مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في ظاهر مذهبه.
* … * … *
* مسألة: في عظم الميتة، هل يجوز استعمالُه؟
الجواب: عظمُ الميتة التي يؤكل لحمُها، والتي لا يؤكلُ كالفيل وغيره،
_________
(1) انظر: “شرح العمدة” (1/ 95).
(2) انظر: “الأوسط” (2/ 272، 282)، و”المغني” (1/ 106، 107)، و”شرح العمدة” (1/ 81)، و”مجموع الفتاوى” (21/ 97، 619)، و”جامع المسائل” (7/ 64).

(9/320)


طاهرٌ عند كثيرٍ من السَّلف والخلف، وهو مذهبُ أبي حنيفة وغيره، وهو قولٌ في مذهب الإمام أحمد (1)، وهو أظهر قولي العلماء.
* … * … *
* مسألة: في إنفَحَة الميتة، هل تُنَجِّسُ الجُبْن؟
الجواب: إنفَحَة الميتة إذا صُنِع بها الجُبْنُ جاز أكلُ الجُبن في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه (2)، وأصحابُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما فتحوا البلاد أكلوا من جُبْن المجوس (3)، وذبائحُهم محرَّمة (4).
* … * … *
* مسألة: في مرارة الضبُع ومِنْفَحته (5)، هل هو طاهر؟
الجواب: إن ذُكِّيَت فمرارتُها مباحةٌ طاهرةٌ عند أكثر العلماء، كمالك، والشافعي، والإمام أحمد، وغيرهم. وأما أصحابُ أبي حنيفة فلهم في
_________
(1) انظر: “فتح القدير” (1/ 96)، و”الانتصار” لأبي الخطاب (1/ 210).
(2) انظر: “المبسوط” (24/ 27)، و”المغني” (1/ 100، 13/ 352).
(3) انظر: “المصنف” لعبد الرزاق (4/ 538)، وابن أبي شيبة (12/ 378).
(4) انظر: “الفتاوى” (21/ 103)، و”الاختيارات” لابن عبد الهادي (25)، و”الإنصاف” (1/ 92). وكان في صدر حياته ينصر رواية نجاسة الإنفحة والجبن، كما في “شرح العمدة” (1/ 93). وذكر في موضعٍ أنها مسألةٌ اجتهادية للمقلد أن يقلد من يفتي بأحد القولين. “مجموع الفتاوى” (35/ 155)، و”مختصر الفتاوى المصرية” (475).
(5) كذا في الأصل، بالميم. وهي لغةٌ في الإنفحة. انظر: “تهذيب اللغة” (5/ 112).

(9/321)


طهارتها بالذكاة قولان.
وإنفَحَتُها إن ذُكِّيَت طاهرةٌ عند الأئمَّة الأربعة، وإن كانت ميتةً فهي طاهرةٌ عند طائفة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
* … * … *
* مسألة: في حيوانٍ مأكولٍ رضعَ [من] كلبةٍ مدة رضاعه، هل يؤكل؟ وكذلك بَقْلٌ يُسقى بماء المَطاهِر (1).
الجواب: [أما] الحيوان الذي شرب لبنَ الكلبة فإنه حلال (2)، فإذا اغتذى (3) بعد هذا بطاهرٍ حلَّ أكلُه، وأكثر ما قيل فيه: أربعون يومًا.
وأما البَقْلُ الذي يُسقى بماء المَطاهِر ففيه نزاع (4)، وأكثر الفقهاء لا يحرِّمونه، والله أعلم.
* … * … *
_________
(1) مواضع يُتطهَّر فيها بالوضوء والغسل والاستنجاء. “التاج” (طهر). وذكر في “اقتضاء الصراط المستقيم” (2/ 676) أن المطاهر محل النجاسات. وانظر: “شرح العمدة” (2/ 475).
(2) انظر: مختصر الفتاوى المصرية (334). ولعل ما في “مجموع الفتاوى” (35/ 209) محرفٌ عنها.
(3) الأصل: “اعتدى”. تحريف.
(4) انظر: “المغني” (13/ 333)، و”مجموع الفتاوى” (21/ 618).

(9/322)


* مسألة: في اللَّاذَن (1)، هل هو طاهر؟
الجواب: ما علمتُ فيه نجاسة (2)، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في غُسل المرأة الحائض، هل تحتاج إلى سِدْرٍ ونقضٍ لشعرها؟
الجواب: الأفضل للحائض أن تَنْقُض شعرَها، وتغتسل بسِدْر. وإن اقتصرت على الماء ولم تَنْقُض شعرَها، كما تغتسل من الجنابة، جاز ذلك عند جماهير العلماء (3).
* … * … *
* مسألة: هل يجوز وطء النُّفَساء إذا طَهُرت قبل أن تغتسل أم لا؟
الجواب: لا يجوز وطء الحائض والنُّفَساء إذا طَهُرت حتى تغتسل، فإن عَدِمَت الماء، أو خافت الضرر باستعماله، لمرضٍ أو بردٍ شديد، فإنها تتيمَّم
_________
(1) وهو رطوبةٌ وندًى يكون على نباتٍ ترعاه المعزى، فيتعلَّق بها، ويتَّخذ منه دواءٌ وعطر. انظر: “الفروع” (4/ 124)، و”تاج العروس” (لذن)، و”المعتمد” (319).
(2) كتب أحدهم في الطرة تعليقًا: “هذا عجيب، فإنه يمكن أدنى تردد، مع أنه شيءٌ ينزل من السَّماء على بعض الأشجار، كالمَنِّ”. هكذا وقعت العبارة، ولعل فيها سقطًا أو تحريفًا. وكأن كاتب التعليق رأى في السؤال أو الجواب بعض التردد في طهارة اللاذن فتعجَّب من ذلك، مع ظهور طهارته.
(3) انظر: “شرح العمدة” (1/ 406).

(9/323)


وتُوطَأ (1) بعد ذلك، والله أعلم (2).
* … * … *
_________
(1) الأصل: “وتتوضأ”. وهو تحريف.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 626، 635).

(9/324)


[الصلاة]* مسألة: في تارك الصلاة ــ سوى الجمعة ــ تهاونًا، وأُنذِر مراتٍ (1)، فلم يَقْبَل، هل يكفُر أو يُقْتَل؟ وهل يُشْرَع رفعُ أمره إلى وليِّ الأمر؟
الجواب: نعم، يستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل.
وإذا أصرَّ على تركها بعد الاستتابة، وصبَر حتى قُتِل ولم يُصَلِّ، فهذا لا يكون إلا كافرًا، وإلا فالمؤمنُ المُقِرُّ بوجوبها لا يختارُ القتلَ على الصلاة، ولا يفعلُ هذا إلا من في قلبه الكفر.
وحينئذٍ لا يُغَسَّل، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدْفَنُ في مقابر المسلمين. وهو شرٌّ من المرتدين مانعي الزكاة الذين قاتلهم الصدِّيق.
ويُشْرَع رفعُه إلى ولاة الأمور؛ ليأمروه بما أمر الله به ورسولُه، ويقيموا عليه الحدَّ، والله أعلم (2).
* … * … *
* مسألة: في أهل بلدٍ لهم أشغالٌ في ظاهرها (3)، يأتي عليهم وقتُ الصلاة ولا ماء عندهم، وإن ذهبوا إليه تعطَّلوا عن مصالحهم من الحِرَاثة والحصاد ونحو ذلك، فهل يجوز لهم التأخير؟
_________
(1) كتب الناسخ في الأصل: “ثلاث مرات” ثم ضرب على “ثلاث”.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (22/ 47 – 53، 62، 63)، و”جامع المسائل” (7/ 117 – 119)، و”الفروع” (1/ 417)، و”الاختيارات” للبعلي (50، 131).
(3) ظاهر البلد.

(9/325)


الجواب: لا يجوز لهم تأخير الصلاة عن وقتها، بحيث تؤخَّر صلاةُ النهار إلى غروب الشمس، باتفاق المسلمين، بل تأخير الصلاة إلى الغروب كتأخير صيام شهر رمضان إلى شهر شوال.
وإذا كانوا يحرثون أو يحصدون، والماء بعيدٌ إذا ذهبوا إليه تعطَّلت مصلحتهم، فإنهم يتيمَّمون ويصلُّون، وإن جمعوا بين الصلاتين بوضوءٍ جاز، والله أعلم (1).
* … * … *
* مسألة: في رجلٍ قرأ في صلاة النفل قراءةً لم تُقْرَأ في السَّبع, وادَّعى أنها شاذة, فهل تبطلُ صلاته أم لا؟ والذي تلاه: (إن هذا لفي الصُّحف الأولى صحف إبراهيم وموسى وعيسى) , فزاد: وعيسى.
الجواب: الحمد لله, هذه القراءة لا أصل لها, فإن عَلِمَ أنها ليست من القرآن وتعمَّد قراءتها بطلت صلاته, وإن كان جاهلًا وظنَّ أنها في القرآن ففي بطلان صلاته نزاع, والأظهر أنها لا تبطل, والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في رجلٍ كان يقرأ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس: 69]، ويُلْحِقُها بالصلاة على محمَّد، يزيدُ في القرآن، فهل هذا مصيبٌ أم لا؟
الجواب: إن كان قد ذكر ذلك على سبيل الدُّعاء، لا على سبيل التلاوة،
_________
(1) انظر: “منهاج السنة” (5/ 229)، و”مجموع الفتاوى” (21/ 432، 22/ 27).

(9/326)


لم يكن قد زاد في القرآن شيئًا، ولكن تلاوة القرآن على وجهه أحسن.
* … * … *
* مسألة: إذا كان قيام المصلي على موضعٍ، ويسجدُ على غيره.
الجواب: نعم تصحُّ صلاته والحالة هذه.
* … * … *
* مسألة: في صلاة المؤتمِّ قُدَّام الإمام من وراء البناء، هل تجوز أم لا؟
الجواب: نعم، إذا كان لحاجة، مثل أن لا يمكنه الصلاة خلفه، صحَّت صلاته أمامه للحاجة. وأما بدون الحاجة فلا يُشْرَع ذلك (1).
* … * … *
* مسألة: في المرأة، هل يجوز لها لباسُ شاشٍ (2)؟
الجواب: لا يجوز للمرأة أن تتشبَّه بالرجال في شيءٍ من لباسهم، لا
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (20/ 559، 23/ 404)، و”جامع المسائل” (4/ 207، 208، 7/ 91)، و”الاختيارات” للبعلي (108).
(2) الشاش: ضربٌ من القماش كان يضعه الرجال على عمائمهم. وشاع في القرن الثامن وضع النساء له على رؤوسهن، والتزيُّن به، وزخرفته بالذهب واللؤلؤ. انظر: “المعجم المفصل بأسماء الملابس عند العرب” لدوزي (235)، و”معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي” لدهمان (95)، و”المعجم العربي لأسماء الملابس” لرجب عبد الجواد (251).

(9/327)


لبس عمامةٍ، ولا شاشٍ، ولا غير ذلك، والله أعلم (1).
* … * … *
* مسألة: في المرأة، هل تلبسُ الخُفَّ والزَّرْبُون (2) أم لا؟
الجواب: لا تلبسُ الزَّرْبُونَ التي تُلْبَسُ فوق الخُفِّ، ولا التي يلبسها الرجال، والله أعلم.
* … * … *
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (22/ 145 – 157)، و”الاختيارات” للبعلي (117).
(2) مهملة في الأصل في السؤال والجواب. والزربون: حذاءٌ واسعٌ يغطي القدم وجزءًا من الساق، كان من لباس الفلاحين في عهد المماليك. واللفظة مولدة. انظر: “شفاء الغليل” (170)، و”تاج العروس” (35/ 143 – زربن)، و”تكملة المعاجم العربية” (5/ 300)، و”المعجم المفصل بأسماء الملابس عند العرب” (225)، و”المعجم العربي لأسماء الملابس” (206).

(9/328)


[الجنائز]* مسألة: أيما أفضل للميت: أن يُقْرَأ له الختمُ على هيئة ما يفعله الناس, أو صرفُ ذلك على الفقراء من أهل القرآن وغيرهم؟ وأيهما أفضل؟
الجواب: الحمد لله, بل الصدقةُ على الفقراء وغيرهم أفضلُ من ذلك؛ فإن هذا مشروعٌ بالنصِّ والإجماع, وهو واصلٌ إلى الميت باتفاق الأئمَّة.
ثم تلك الصدقة إذا انتفع بها من يقرأ القرآن كان للميت أجرُ ما يقرؤونه من القرآن؛ فإنه “من جهَّز غازيًا فقد غزا, ومن خَلَفَه في أهله بخيرٍ فقد غزا” (1) , “ومن فطَّر صائمًا فله مثلُ أجره” (2)، فهكذا من أعان القارئ على قراءته والمصلِّي على صلاته.
وأما إذا استأجر من يقرأ بالكِرَاء, فالقارئ لا يقرأ لله, فلا يثاب على ذلك, والمعطي ما أعطى لله, فلا يثاب على ذلك, فأيُّ شيءٍ يصلُ إلى الميت؟!
ولم يكن أحدٌ من السلف يفعل ذلك, ولا قال أحدٌ من العلماء بأنه يستحبُّ مثل ذلك, وإنما النزاع فيمن قرأ لله وأهدى إلى الميت, والصَّحيح
_________
(1) أخرجه البخاري (2843)، ومسلم (1895) من حديث بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني – رضي الله عنه – مرفوعًا.
(2) أخرجه أحمد (17033)، والترمذي (807) وصححه، وابن خزيمة (2064)، وابن حبان (3429)، وفي إسناده انقطاع، عطاء لم يسمع من زيد بن خالد، كما قال علي بن المديني في “العلل” (328)، ولعل الشيخين أعرضا عنه عمدًا لهذه العلَّة، وله شواهد لا يصحُّ منها شيء.

(9/329)


أنه يصلُ إليه, والله أعلم (1).
* … * … *
* مسألة: في جامعٍ في قريةٍ بجبل نابُلُس، تقام فيه الجمعة، وفي المسجد قبر، قيل: إنه قبر نبيٍّ من أولاد يعقوب عليهم السلام، وثَمَّ أناسٌ سامِرةٌ ينوِّروا (2) الضريح كلَّ ليلة، ويدخلون المسجد غالبًا، وربما كانوا سكارى، فهل يجوز ذلك؟ وهل يثابُ وليُّ الأمر على منعهم من المسجد؟
الجواب: الحمد لله، ليس لأهل الذمة (3) أن يدخلوا مسجدًا للمسلمين، لخدمة ضريحٍ هناك، لا سيما مع ما ذُكِر، بل يجبُ منعُهم من ذلك.
بل ولا يجوز اتخاذُ القبور مساجد، ولا إيقادُ السُّرُج عليها؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لعن من يفعل ذلك (4).
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (24/ 300، 31/ 316)، و”جامع المسائل” (3/ 133)، و”الفروع” (3/ 431).
(2) كذا في الأصل.
(3) كسامرة اليهود المذكورين في السؤال، ولهم في نابلس جبلٌ يسمى “جرزيم” و”جبل الطور”، يعظمونه ويصلُّون إليه. انظر: “الملل والنحل” (2/ 24)، و”بدائع الفوائد” (1606).
(4) أخرجه أحمد (2030)، وأبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -، وقال الترمذي: “حديث حسن”، وصححه ابن حبان (3179). وفي إسناده مقال. قال الإمام مسلم: “هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماعٌ من ابن عباس”. انظر: “فتح الباري” لابن رجب (1/ 648)، و”العلل” للإمام أحمد (3/ 322 – رواية عبد الله)، و”البدر المنير” (5/ 347).

(9/330)


وقول القائل: إن هذا قبر نبيٍّ من أولاد يعقوب قولٌ لا تُعْرَفُ صحَّتُه (1)،
بل يجبُ أن يُجْعَل هذا كسائر مساجد المسلمين، ويُسَوَّى ذلك المكان، فلا يُتْركُ فيه صورة قبر, والله أعلم.
* … * … *
* سئل شيخ الإسلام ابن تيمية – رضي الله عنه -: هل صحَّ أن في جامع دمشق قبورًا، كقبر هود؟
فأجاب: ليس في جامع دمشق قبرٌ أصلًا، ومن قال: إن فيه قبر نبيٍّ من
_________
(1) يُزْعَم أن في نابلس قبور يوسف وأبناء يعقوب عليهم السلام. انظر: “الإشارات إلى معرفة الزيارات” للهروي (31)، و”الأنس الجليل” (1/ 155، 2/ 137).
وأكثر ما يُذكر من قبور الأنبياء عليهم السلام لا يصحُّ تعيين موضعه، بل ذهب بعض أهل العلم، كالإمام مالك وعبد العزيز الكناني وابن الجزري وأبي زرعة العراقي وغيرهم إلى أنه لا تصحُّ نسبة شيء من هذه القبور المضافة إلى الأنبياء إلا قبر النبي – صلى الله عليه وسلم -، وأثبت بعضهم أيضًا قبر إبراهيم عليه السلام. انظر: “اقتضاء الصراط المستقيم” (2/ 656)، و”جامع المسائل” (4/ 340)، و”مجموع الفتاوى” (27/ 254، 273، 444 – 446)، و”قاعدة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق” (105)، و”طرح التثريب” (3/ 303)، و”كشف الخفا” (2/ 403)، و”الأنس الجليل” (2/ 76)، و”آثار المعلِّمي” (5/ 111، 128).

وإنما وقع الاضطراب في العلم بأمر هذه القبور لأن ضبط ذلك ليس من الدين، ولا في معرفته فائدةٌ شرعية؛ فلم يجب ضبطه، ولو كان من الدين لحفظه الله تعالى كما حفظ سائر الدين. انظر: “مجموع الفتاوى” (4/ 516، 27/ 444)، و”جامع المسائل” (4/ 161).

(9/331)


الأنبياء فقد كذب (1)، والله أعلم (2).
* … * … *
_________
(1) انظر: “اقتضاء الصراط المستقيم” (2/ 160)، و”مجموع الفتاوى” (4/ 502، 516، 27/ 48، 128، 445، 447، 491)، و”جامع المسائل” (4/ 155، 340).
(2) علَّق أحدهم في طرة الأصل: “الحكم بأنه ليس فيه قبر نبيٍّ أصلًا مُشْكِل، وهو تهوُّرٌ بلا دليل، ولو قال: ليس ذلك بثابتٍ لاستقام. وقوله: من قال: إن فيه نبيًّا كَذَبَ عجيبٌ أيضًا”. يريد أن النفي هنا كالإثبات، كلاهما يحتاج إلى دليل. ولشيخ الإسلام فيما ذهب إليه من النفي أدلةٌ وقرائن، كما في المصادر المذكورة في الحاشية السابقة، وما تقدم من القول في تعيين قبور الأنبياء.

(9/332)


[الزكاة]* مسألة: في من يُخْرِج الزكاة ولم يجد أربابها، فتهلك، هل يضمنُها؟ وإذا أخذ الفقراءُ الزكاة هل يجوز شراؤها له منهم؟
الجواب: تكونُ في ضمانه إذا تَلِفَت قبل وصولها إلى مستحقِّها أو وكيلِه. وليس لصاحبها أن يشتريها بعد أن يخرجها (1).
* … * … *
* مسألة: في رجلٍ له أولادٌ خارجين (2) عنه، وهم محتاجون، هل يجوز دفعُ زكاته إليهم؟
الجواب: إذا كان قادرًا على أن ينفق عليهم من غير الزكاة أنفقَ عليهم من غيرها، وإن كان عاجزًا عن ذلك ففي إعطائه لهم الزكاة نزاع (3).
* … * … *
_________
(1) انظر الاحتجاج لذلك في “أعلام الموقعين” (5/ 271 – 272).
(2) كذا في الأصل.
(3) واختار الجواز. انظر: “مجموع الفتاوى” (25/ 88، 90، 91، 34/ 107)، و”جامع المسائل” (6/ 373)، و”الاختيارات” للبعلي (154).

(9/333)


[الصيام]* مسألة: هل الحجامة والفِصَاد يفطِّر؟
الجواب: هذه المسألة فيها نزاعٌ مشهورٌ بين العلماء، ولا ينبغي أن يفعل ذلك إلا لحاجة، وإذا فعله لحاجةٍ فالأحوط أن يصوم يومًا مكانه إن كان من صومٍ واجب (1).
* … * … *
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (25/ 252 – 258، 268).

(9/334)


[البيع]* مسألة: في بيع البهيمة، الشاة أو البقرة، ويستثني الجلد، يجوز؟
الجواب: بل ذلك جائزٌ في أظهر قولي العلماء (1)، وهو مذهبُ مالك (2) وأحمد (3)، وقد روي ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (4) وأصحابه (5).
* … * … *
* مسألة: في من يشتري بهيمةً بدراهم، ثم تُقِيمُ عنده، فيزيد ثمنُها، ويعلم بعد ذلك أن أصلها حرام.
الجواب: إذا كان أصلها حرامًا يأخذ رأسَ ماله، ويتصدَّق بالزيادة.
* … * … *

* مسألة: في بيع البقرة بالبقرة بزيادة، أو الصُّوف بزيادة.
_________
(1) انظر: “جامع المسائل” (6/ 397)، و”القواعد النورانية” (295).
(2) انظر: “المدونة” (3/ 315)، و”النوادر والزيادات” (6/ 335)، وتوجيه اضطراب الروايات عن مالك في هذه المسألة وتحرير مذهبه في “المعونة” للقاضي عبد الوهاب (1015)، و”الكافي” لابن عبد البر (2/ 681).
(3) انظر: “المغني” (6/ 174)، و”تحفة المودود” (130).
(4) أخرجه ابن وهب (3/ 317 – المدونة)، ومن طريقه أبو داود في “المراسيل” (179)، وابن حزم في “المحلى” (7/ 401) من حديث عروة بن الزبير مرسلًا. وانظر: “بيان الوهم والإيهام” (3/ 65).
(5) أخرجه عبد الرزاق (8/ 195)، وابن أبي شيبة (11/ 328) عن عليٍّ وزيد بن ثابت، ولا يعلم لهم مخالف من الصَّحابة – رضي الله عنهم -، كما يقول ابن حزم.

(9/335)


الجواب: أما بيعُ البقرة بالبقرة بزيادة، فذلك جائزٌ باتفاق الأئمَّة إذا كان يدًا بيد، وإن كان نسيئةً ففيه نزاع (1).
وأما الصُّوفُ بالصُّوف متفاضلًا ففيه قولان (2)، والأولى تركُه.
* … * … *
* مسألة: في رجلٍ فلَّاحٍ عامَلَه رجلٌ، وكلما طالبه وهو مُعْسِرٌ أباعه البقرَ واشتراهم منه بأقلَّ.
الجواب: هذه المعاملة محرَّمة (3)، لا سيَّما إن كان الفلاحُ مُعْسِرًا، فإنه يجب عليه إنظارُه إلى ميسرة، وليس له أن يُضِرَّ به، والله أعلم (4).
* … * … *
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (29/ 496) , و”الاختيارات” للبعلي (189).
(2) انظر: “المغني” (6/ 59)، و”مجموع الفتاوى” (29/ 459 – 460).
(3) وهي مسألة العينة.
(4) انظر: “مجموع الفتاوى” (29/ 435 – 448)، و”جامع المسائل” (1/ 224)، و”بيان الدليل على بطلان التحليل” (71 – 78, 222).

(9/336)


[الشركة]* مسألة: في شريكين اشتريا سلعةً بمالٍ في الذمة، ولأحدهما مالٌ يختصُّ به، واتفقا على أن الربح بينهما، فاشترى صاحبُ المال منهما بماله المخصوص به، فهل يَلْزم شريكَه الآخر شيءٌ من التبعات والعُلْقة أم لا؟
الجواب: إذا كان قد اشترى بما يختصُّ به، ولا يدخل في عقد الشركة، فهو مخصوصٌ بغُنمه وغُرمه، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في فرسٍ بين شريكين، ولها مُهْر، فعزل أحدُ الشريكين المُهْرَ عن أمِّه من الرَّضاع، وأطلق عليها مُهْرًا يختصُّ به تُرْضِعُه، وجَبَر شريكَه على بيع الفرس لشخصٍ بعينه.
الجواب: ليس له أن يمنع ولدَها المشترك من الرَّضاع المعتاد بغير إذن شريكه، ولا أن يُرْضِع منها مُهْرًا يختصُّ به. وإذا تلف المُهْر المشترك بهذا السبب لزمه ضمان نصيب شريكه.
ولكن إن طلبَ أحدهما أن تباع عليهما جميعًا، ويقتسما الثمن، أُجْبِر الممتنعُ على ذلك عند جماهير العلماء (1)، حتى ادعى بعض العلماء فيه الإجماع (2)، ولكن لا يُجْبَر على البيع لشخصٍ معيَّن، ولا على البيع بدون
_________
(1) انظر: “بداية المجتهد” (4/ 51)، و”الكافي في فقه أهل المدينة” (2/ 875)، و”جامع الأمهات” (422)، و”المحلى” (6/ 418، 7/ 519).
(2) نسبه لبعض المالكية في “مجموع الفتاوى” (28/ 97، 29/ 248, 30/ 384)، ولم أجده. وانظر: (31/ 274, 35/ 416)، و”جامع المسائل” (8/ 50).

(9/337)


ثمن المِثْل، بل تباعُ عليهما في سوق المسلمين البيعَ المعروف في مثلها، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في رجلٍ دفع إلى رجلٍ مالًا مضاربةً مدة شهر، فغاب سنين، ثم حضر وأنكَر، وأقيمت عليه بينة، وطلب ردَّ الثمن.
الجواب: إذا جحَد، ثم ثبت كذبُه، فهو خائن، حكمُه حكمُ أمثاله من الخونة، لا يُقْبَل منه ما يُقْبَل من الأمناء. لكن إن ردَّ الثمن إلى المدَّعي فله ذلك، والله أعلم.
* … * … *

(9/338)


[الإجارة]* مسألة: في من استأجر قرار أرضٍ للبناء والعِمارة والانتفاع كيف شاء، من آجرٍ مأذونٍ له من الحاكم، والقرار المأجور بذرعٍ معيَّن، ثم إنه بنى في بعضه وترك بعضه، ثم انقضت الإجارة، وجدَّد إجارةً أخرى، فلم يعيِّن الذَّرْع، بل عيَّن الحدود، واستأنف المستأجر إجارةً بدون إذن الحاكم، وعيَّن الذَّرْع، وحكم الحاكمُ بصحَّتها، ثم إن المؤجِّر ادعى أن المستأجر ما يستحقُّ إلا ما هو حاملٌ للعِمارة. فهل تُفْسَخُ الإجارة بمجرَّد دعواه، بعد ثبوتها عند الحاكم، أم لا؟
الجواب: الحمد لله، لا تفتقر الإجارةُ إلى تحديد (1) الذَّرْع، بل يكفي التمييزُ الحاصل بالحدود، بل يكفي التمييزُ الحاصل بمجرَّد الاسم، وليس لأحدٍ فسخ الإجارة لما ذُكِر من عدم تعيين الذَّرْع. وللمستأجر أن ينتفع بجميع ما دخل في العقد، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في من استأجر أرضًا من أوقاف المساجد من ناظر الوقف وهي مغلقةٌ بالزَّرع (2)، ليغرسها، فغرَسَها، وبقيت في يده ستَّ سنين أو أكثر، فهل الإجارة صحيحة؟ وإذا قُلِعَت منه فهل يُقْلَع غرسُه؟
الجواب: ليس لأحدٍ قلعُ غِراس المستأجر وزرعِه، سواء كانت الإجارة
_________
(1) الأصل: “تحدد”.
(2) كذا في الأصل دون إعجام، كأنه يريد أنها مغلقة ومشتملة على غراسٍ وزرع.

(9/339)


صحيحةً أو فاسدة، بل إذا بقي فعليه أجرةُ المثل (1). وأما المستأجر فله أخذُ غَرْسِه. والإجارة في صحَّتها نزاع، والأظهر صحَّتها، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في الراعي إذا ضرب الشاة ضربًا شديدًا، فماتت. هل يضمن؟
الجواب: نعم، إذا كان ضرَبها ضربًا خارجًا عن العادة فعليه ضمانُها، وإن ضرَبها الضربَ المعتاد ففيه نزاعٌ بين العلماء (2)، والله أعلم.
* … * … *
_________
(1) بحروفه في “الاختيارات” للبعلي (227).
(2) انظر: “الإشراف” لابن المنذر (6/ 290)، و”المغني” (8/ 116، 123).

(9/340)


[الغصب]* مسألة: في رجلٍ من أهل الدين والصَّلاح، يطلبُ ولايةً ببلده، مثل استيفاء أموالٍ سلطانية، وفيها مكوسٌ ونحو ذلك، وفيها خراج، وإذا تولى خفَّف الظلمَ وعَدَل، وإن تولى غيرُه زاد. فهل تجوز له الولاية أو لا؟ وإذا قبض مالًا على هذه الصفة هل يَضْمَنُه لأربابه؟
الجواب: بل إذا تولى مثلُ هذا الرجل، وأقام العدلَ بحسب اجتهاده، ودفَعَ الظلمَ بحسب اجتهاده، أثابه الله على ما فعله من العدل، ولم يطالبه بما يعجزُ عنه.
والوظائف السُّلطانية (1)
التي لا يمكنُه رفعُها عن الناس، إذا اجتهد في أن يعدل فيها بين الناس، وفي أن يخفِّف عنهم بحسب الإمكان، أثيب على الاجتهاد في العدل فيها وفي تخفيفها، ولم يؤاخذ بما يعجز عنه.
وإذا قبض تلك الأموال من تولِّيه، وحمَلها، لم يكن عليه إثمٌ في ذلك ولا ضمان.
وكذلك لو احتاج إلى أن يكون هو القابض الدافعَ لها، بمنزلة وكيل المظلومين الذي يَقْبِض منهم ما يُطالَبون به من المظالم، ويدفعُها إلى القاهر
_________
(1) المكوس والضرائب. ومنها ما هو ظلمٌ عظيمٌ وحرامٌ حكى ابن حزم الاتفاق عليه في “مراتب الإجماع” (121)، وذكر ابن تيمية أنه لا أصل لها في سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه الراشدين، وسمَّاها مرة “الوظائف الظُّلمية”، كما في “الفتاوى” (29/ 201).

وانظر: فصل “المظالم المشتركة” في “الفتاوى” (30/ 337 – 355)، ولتحرير القول في أصلها وتاريخها: “جامع المسائل” (5/ 392 – 396).

(9/341)


الظالم، فإنه لا إثم عليه في ذلك ولا ضمان، بل إذا أعان المظلوم كان محسنًا في إعانته له.
وهكذا ناظر الوقف، ووليُّ اليتيم، والعامل في المضاربة، إذا دفعوا إلى الظَّلمة الكُلَفَ (1) التي يطالبون بها على العقار والمَتاجِر وغير ذلك، لم يكن عليهم في ذلك إثمٌ ولا ضمان، بل من كان قادرًا على تخفيف الظلم، لا على رفعه كلِّه، وجب عليه أن يحقِّقه، وهو آثمٌ بما يتركه من الواجب عليه، فإذا قدر على بعض العدل لم يجز تركُ ذلك الواجب لعجزه عن تمامه؛ فإن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم” (2)، فلا يُتْرَكُ المقدورُ عليه من العدل للعجز عن غيره، والله أعلم (3).
* … * … *

* مسألة: في الرجل إذا باع بضاعةً، وأخذ منها ديوانُ السلطان بسببها شيئًا، على جاري عادتهم بمرسوم السلطان، فهل يكون أجرُه للبائع أو المشتري؟ وإذا دفعها الرجلُ بنيَّة الزكاة أو الصَّدقة، هل تكونُ زكاةً أو صدقة؟
الجواب: أجرُ ذلك للبائع. ولا يجوز أن يعتدَّ بها المكلَّفُ من الزكاة؛ والدواوينُ المُوَلَّون على هذه الجهات لم يُوَلَّوا لقبض مال الزكاة، فدفعُ
_________
(1) هي الوظائف السلطانية المتقدم ذكرها.
(2) أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (30/ 336، 356 – 360).

(9/342)


الزكاة إليهم كدفعها إلى من لا يستحقُّ الزكاة ولا له ولايةُ قبضها، وذلك لا يبرأ بالدفع إليه باتفاق الأئمَّة، كما لو دفعها إلى والي الشَّرط، والحاجب، ونقيب العسكر، والله أعلم (1).
* … * … *
* مسألة: في أقوامٍ مقيمين ببلاد التَّتر من العَرَب، يُغِيرون على المسلمين، ويقتلون النفس، وينهبون المال، إذا أُخِذَت الأموالُ التي بأيديهم، هل تزكَّى (2) أو تُرَدُّ إليهم؟
الجواب: هؤلاء المعروفون بقتل النفوس، وأخذِ أموال المسلمين بالباطل، الذين كانوا قد أخذوا من أموال المسلمين وغيرهم أكثر من هذه الأموال (3) = لا تُرَدُّ إليهم هذه الأموالُ التي أُخِذَت منهم، لكنها تُصْرَف في مصالح المسلمين، فتُصْرَف جميعها في الزكاة وغيرها من مصالح المسلمين، فيُطْعَم منها الفقراء، والضيف، وأبناء السبيل، وأما الأغنياء فينبغي أن يستغنوا عنها، والله أعلم (4).
_________
(1) نقل عنه البعلي في “الاختيارات” (155) جواز دفع ما يؤخذ من المكوس بنية الزكاة، وهو خلاف كلامه هنا ومواضع أخرى. وتعقبه الشيخ ابن عثيمين في حاشيته. وانظر: “مجموع الفتاوى” (25/ 93)، و”مختصر الفتاوى المصرية” (275).
(2) رسمت في الأصل: “نركي”.
(3) كذا في الأصل.
(4) انظر: “مجموع الفتاوى” (28/ 568، 29/ 263، 276، 321، 30/ 336، 413)، و”جامع المسائل” (1/ 47).

(9/343)


* مسألة: في رجلٍ حَمَل فَحْلَه على حِجْرةٍ (1) لغيره، فولدت حصانًا، فَلِمَن الحصان؟
الجواب: الحملُ لربِّ الحِجْرة، لكن إن نقصت قيمةُ الفحل ضَمِن صاحبُها النقصَ لربِّ الفحل، والله تعالى أعلم (2).
* … * … *
_________
(1) الحِجْرة: الأنثى من الخيل. انظر: “تاج العروس” (10/ 536 – حجر).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (30/ 320)، و”الاختيارات” للبعلي (240).

(9/344)


[الوقف]* وسئل الإمام أبو العباس ابن تيمية – رضي الله عنه -: عن امرأةٍ يهوديَّةٍ وقفَت وقفًا على أولاد أخيها يهوديٍّ ومسلم، من أبوين، فجعلته أوَّلًا على اليهودي، ومِن بعدِه على المسلم، ثم أسلم اليهوديُّ، فهل الوقفُ صحيحٌ من أوَّله أم يشتركا فيه جميعًا؟
فأجاب: الحمد لله. شرطُ تقديم اليهوديِّ على المسلم شرطٌ فاسد، كما لو شرطَت تخصيصَ الكافر؛ فإن الكفر لا يجوز أن يُجْعَل سببًا للاستحقاق ولا للتقديم، لكن غايتُه أن لا يكون مانعًا، فإذا وقفَت على معيَّنٍ كافرٍ استحقَّ، سواء كان مسلمًا أو كافرًا.
فإن شُرِطَ في الاستحقاق كونُه كافرًا، أو شُرِطَ في تكثير نصيبه أو تقديمه كونُه كافرًا = لم يصحَّ.
وحينئذٍ فالمسلمُ واليهوديُّ كانا سواءً في الاستحقاق قبل إسلام اليهودي وبعد ذلك، وللمسلم أن يشارِك اليهوديَّ فيما قبضه قبل إسلامه، والله أعلم (1).
* … * … *
* مسألة: في رجل وقف وقفًا، وشرط أن يُقْرَأ على ضريحه في كلِّ يوم ما
_________
(1) انظر: “منهاج السنة” (8/ 434)، و”مجموع الفتاوى” (31/ 27، 31)، و”مختصر الفتاوى المصرية” (399)، و”الفروع” (7/ 338)، و”إعلام الموقعين” (6/ 85 – 86)، و”أحكام أهل الذمة” (1/ 603).

(9/345)


تيسَّر من القرآن, فإذا قرأ القارئ في بيته وأهدى إليه, فهل تبرأ ذمتُه بذلك أم لا؟
الجواب: الحمد لله, إذا كان له عذرٌ مثل مرضٍ أو مطرٍ أو وحلٍ ونحو ذلك مما يُسْقِط الجماعة = يَسْقُط عنه حضورُه في ذلك المكان, وكفاه القراءة في بيته.
وإن لم يكن له عذرٌ ففي ذلك نزاع، وليس في الدلالة الشرعية ما يقتضي وجوب ذلك؛ فإنه لم يقل أحدٌ من المسلمين: إن قراءة القرآن على القبور أفضل من قراءته في البيوت, بل تنازعوا في كراهة القراءة على القبور.
فإذا قرأ في بيته وأهدى إليه كان عند من يقول: إن القراءة تصل إلى الميت, كأحمد وأبي حنيفة ومن وافقهما من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما = أفضل ممن يقرأ على القبر ويُهْدِي له, والله أعلم (1).
* … * … *
_________
(1) انظر: “اقتضاء الصراط المستقيم” (2/ 743)، و”مجموع الفتاوى” (31/ 26 – 52)، و”الفروع” (3/ 420)، و”الاختيارات” للبعلي (136، 137).

(9/346)


[الهبة والعطية]* مسألة: في رجلٍ له ابنٌ وبنت، فأعطى البنت مالًا وزوَّجها، وتوفي قبل أن يعطي الابنَ مثلَي ما أعطاها، فهل للابن أن يرجع على أخته بما يخصُّه من باقي عطيَّتها، وهل للحاكم الحكمُ له بذلك أم لا؟
الجواب: الحمد لله, نعم له ذلك في أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد (1). وللحاكم أن يحكمَ بذلك، وإذا حكم بذلك نَفَذ حكمُه، والله أعلم (2).
* … * … *
* مسألة: في رجلٍ أعطى ابنته عطيَّةً، وزوَّجها، ثم بعد ذلك وُلِد له أولاد، فهل له أن يعطيهم مثلها، وما بقي يكون ميراثًا أم لا؟
الجواب: نعم، له أن يعطي كلَّ واحدٍ مثل ما أعطاها، بل هذا هو الذي أمر الله به ورسولُه؛ فإنه قال: “اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم” (3)، والأفضل له أن يعطي الذكر مثل حظِّ الأنثيين، وما بقي من المال يكون بينهم ميراثًا، والله أعلم.
* … * … *
_________
(1) انظر: “الروايتين والوجهين” (1/ 439)، و”الإرشاد” (229)، و”المستوعب” (2/ 153)، و”المغني” (8/ 269)، و”الفروع” (7/ 413).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (31/ 276، 281، 294، 297)، و”جامع المسائل” (4/ 329)، و”الاختيارات” للبعلي (268).
(3) أخرجه البخاري (2587)، ومسلم (1623) من حديث النعمان بن بشير – رضي الله عنهما -.

(9/347)


* مسألة: في امرأةٍ ملَّكت أحد أولادها مِلْكًا في مرضها، فلما تعافت استرجعَتْه واستغلَّته مدةً طويلة، وماتت وهو في مِلْكها، فاستغلَّه مِن بعدها ورثتُها، وباعوه، فهل يثبت الملكُ للأول أم لا؟
الجواب: الحمد لله. إذا كان الأمر على ما ذُكِر من التمليك في المرض، الذي يُقْصَد به التمليكُ إن ماتت، وقد رجعَت بعد ذلك، فالملكُ ينتقل إلى الورثة على فرائض الله تعالى.
* … * … *

(9/348)


[الفرائض]* مسألة: في امرأةٍ ماتت ولها أبٌ وزوجٌ وابنةٌ وأمٌّ، فما لكلٍّ منهم؟ وهل تستقرُّ البنتُ عند أبيها وميراثُها؟
الجواب: للأب السُّدس، وللأمِّ السُّدس، وللزوج الرُّبع، وللبنت النصف، فتَعُولُ الفريضة، وتُقْسَمُ على ثلاثة عشر سهمًا، للأب سهمان، وللزوج ثلاثة، وللأم سهمان، وللبنت ستَّة.
وأبو البنت أحقُّ بحضانتها وبولاية مالها من غيره، إذا كان حافظًا له (1)، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في رجلٍ حلف بالطلاق ثلاثًا، ومات ولم يوفِ بما حلف عليه، فهل ترثه امرأته أم لا؟
الجواب: نعم، ترثه عند جماهير السلف والأئمَّة، وهذا مذهبُ مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والشافعي في أحد قوليه، وهو قول السَّابقين الأولين، مثل عمر وعثمان وأمثالهما من الصَّحابة – رضي الله عنهم – (2).
* … * … *
_________
(1) انظر: “جامع المسائل” (3/ 417، 421, 423).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (31/ 368 – 371)، و”الاختيارات” للبعلي (285).

(9/349)


[النكاح]* مسألة: في من تزوَّج امرأةً بشرط أن يحجَّ بها هذا العام، فجاء أوانُه، فماطَلَها.
الجواب: عليه أن يحجَّ بها كما شرط على نفسه، وإن لم يَفِ لها بذلك فلها أن تفارقه (1).
* … * … *
* سؤالٌ في نكاح التحليل.
جواب شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه:
الحمد لله.
قد صحَّ عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “لعن الله المحلِّل والمحلَّل له” (2).
وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: “لا أوتى بمحلِّلٍ ولا محلَّلَ له إلا رجمتهما” (3).
_________
(1) انظر المصادر المذكورة في الحاشية السابقة.
(2) أخرجه أحمد (4283)، والترمذي (1120)، والنسائي (3416) وغيرهم من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -. وقال الترمذي: “حديثٌ حسنٌ صحيح”، وصححه ابن دقيق العيد في “الاقتراح” (592) على شرط البخاري.
وفي الباب عن علي، وأبي هريرة، وجابر، وعقبة بن عامر، وابن عباس، وغيرهم – رضي الله عنهم -. انظر: “البدر المنير” (7/ 612 – 615).
(3) أخرجه سعيد بن منصور في “السنن” (1992)، وابن أبي شيبة (17363)، وغيرهما بسندٍ صحيح.

(9/350)


وما يفعله بعض الناس من أمره المطلَّقة ثلاثًا بأن تتزوَّج من يُحِلُّها؛ لتعود إليه، ويواطئها على ذلك = حرامٌ بإجماع المسلمين؛ فإن المطلَّقة الثلاث (1) لا يحلُّ لأحدٍ أن يصرِّح بخطبتها حتى تقضي العدَّة، فكيف إذا كانت لم تتزوَّج بعدُ ولم يطلِّق الزوجُ الثاني؟!
وليس لأحدٍ أن يُكْرِه المرأة على ذلك، لا أبوها ولا غيره، ومن أكرهها استحقَّ العقوبة باتفاق المسلمين.
ومتى تزوَّجها الرجل بنكاح المسلمين، النكاح … (2).
* … * … *
* سؤال: هل يصحُّ نكاح الشِّغار (3)؟
أجاب شيخ الإسلام تقي [الدين] أبو العباس أحمد بن تيمية – رضي الله عنه -:
الحمد لله.
قد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه “نهى عن نكاح الشِّغار” (4)، وهو نكاحٌ باطلٌ لا يصح، لا هذا ولا هذا، بل يفرَّق بينهما عند أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، كعمر،
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) هذا آخر الجواب في الأصل، وبيَّض الناسخ لباقيه بضعة أسطر. وكلام شيخ الإسلام في المسألة مبسوطٌ في كتابه الجليل “بيان الدليل على إبطال التحليل”، وفي طائفة من أجوبته وفتاويه. انظر: “مجموع الفتاوى” (32/ 92 – 97، 146 – 156).
(3) كتب ناسخ الأصل فوق السؤال عنوانًا: “بطلان نكاح الشغار”.
(4) أخرجه البخاري (5112)، ومسلم (1415) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.

(9/351)


وزيد، وعبد الله بن عمر، وغيرهم – رضي الله عنهم – (1)، وهو قول جمهور العلماء (2).
والصواب أنه نكاحٌ باطل، وإن لم يقل: “وبُضْعُ (3) كلِّ واحدةٍ منهما مهرُ الأخرى”. هذا هو الذي عليه جمهور السلف والخلف.
ولو رضيَت بنكاح الشِّغار لم يصحَّ النكاحُ أيضًا؛ فإن وجوب المهر في العقد حقُّ الله.
ولو تزوَّجت المرأة على أنه لا مهر لها لم يَجُز ذلك بإجماع المسلمين، لكن هل يبطل النكاح، أو يصحُّ ويجبُ مهرُ المثل فيه؟ قولان في مذهب مالك (4):
أحدهما: صحة النكاح. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
والثاني: بطلانه. وهذا قول أكثر السلف. وهو الأظهر (5).
_________
(1) حكاه الإمام أحمد عن عمر وزيد – رضي الله عنهما -، كما في “المغني” (10/ 42). وأخرجه أبو داود (2075)، وصححه ابن حبان (4153) عن معاوية – رضي الله عنه -.
(2) انظر: “الإشراف” لابن المنذر (5/ 48).
(3) كذا في الأصل، وهو الصواب. وتتحرف في بعض المطبوعات على أنحاء، ففي “الحاوي” (9/ 323)، و”الهداية” لأبي الخطاب (392)، و”تنقيح التحقيق” للذهبي (2/ 190)، و”المبدع” (7/ 84): “وتضع”.
وفي “المحرر” للمجد (2/ 23)، و”الإعلام” لابن الملقن (8/ 191): “ويضع”.
وفي “تنقيح التحقيق” لابن عبد الهادي (4/ 360): “ونضع”.
(4) كذا في الأصل، ولعله سبق قلم، أراد مذهب أحمد، كما في “الفتاوى” (29/ 350، 352، 32/ 63)، وفيها أن قول مالك بطلان النكاح.
(5) انظر: “الفتاوى” (29/ 352، 32/ 63، 157)، و”الفروع” (8/ 267).

(9/352)


وأما إذا لم يُقَدَّر المهرُ، فيصحُّ النكاح، ويجبُ لها مهرُ المثل بالاتفاق.
ولهذا تنازع العلماء في علة [بطلان] (1) نكاح الشِّغار:
فقيل: هو التشريك في البُضع.
وقيل: هو نفيُ المهر، وإشغارُ النكاح عنه. وهذا أصحُّ. والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في رجلٍ زوَّج ابنتَه لرجل، وعلم قبل الدخول أنه رافضيٌّ, هل له الفسخ؟
الجواب: نعم، إذا تبيَّن له أنه كان رافضيًّا فله الفسخُ ولو رضي به أبوها؛ فإن الرافضيَّ ليس كفؤًا للسُّنِّيَّة، والله أعلم (2).
* … * … *
* مسألة: في امرأةٍ تغنِّي، فهل لوليِّها أن يمنعها أو يطلِّقها؟
الجواب: الحمد لله. نعم لوليِّها أن يمنعها من هذه الأعمال المنهيِّ عنها، وإذا تزوَّجت برجلٍ من أصحاب الملاهي ليس بكفؤٍ لها فللوليِّ فسخُ النكاح، والله أعلم.
* … * … *
_________
(1) زيادة يقتضيها السياق، ويصح أن تقدَّر: “فساد”. وانظر لهذا النزاع واختيار شيخ الإسلام: “مجموع الفتاوى” (20/ 379، 29/ 343، 32/ 64، 132، 159، 162، 34/ 126)، و”جامع المسائل” (3/ 414 – 415).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (32/ 61)، و”مختصر الفتاوى المصرية” (433).

(9/353)


* مسألة: في رجلٍ مملوكٍ اشترى جارية، وقال لبائعها: “هي أختي”؛ ليبيعها، ولم تكن أخته، ثم أعتقها. هل يحرم نكاحُها بهذا القول؟
الجواب: إذا كان كاذبًا لم تَحْرُم عليه بذلك، بل يجوز له أن يتزوَّجها والحالة هذه إذا كان حُرًّا، فإن كان رقيقًا لم تُعْتَق إلا بإذن سيِّده، ولم يتزوَّج إلا بإذن سيِّده، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في رجلٍ جاء ببنتٍ من الزنا، هل يحلُّ له أن يتزوَّجها أم لا؟
الجواب: لا يجوز له أن يتزوَّج بها عند جماهير السَّلف والخلف (1)، وقد ذكر طائفةٌ من الأئمَّة (2) أن هذا إجماعٌ من الصَّحابة – رضي الله عنهم -، وأفتوا بقتل من يفعلُ ذلك، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في من تزوَّج امرأةً، وسمَّوها في العقد، والعاقِدُ أبوها مُقِرٌّ بذلك، وهي مصدِّقةٌ له، وعند دخوله بها جابُوا (3) غيرَها، ولم يَعْلَم إلى مدَّة، فما الحكمُ في ذلك؟
_________
(1) انظر: “الحاوي” (11/ 393)، و”المغني” (9/ 529).
(2) كالإمام أحمد، ولم يظهر الخلاف إلا في زمنه بقول الشافعي. انظر: “منهاج السنة” (3/ 420)، و”مجموع الفتاوى” (18/ 127، 32/ 134، 138، 142).
(3) أي: أحضروا. تركيبٌ عاميٌّ من الفعل “جاء” بحذف الهمز ووصله بالجار والمجرور “به”. انظر: “رد العامي إلى الفصيح” (109).

(9/354)


الجواب: إذا تزوَّج امرأةً، وسُمِّيَ له في العقد غيرُها، فالنكاحُ باطل. فإن دخل بها وهو لا يعلم، وهي تعلم، فهي غارَّة، وإنها لا تستحقُّ عليه مهرًا، بل تردُّ ما أخذت منه، والله أعلم.
* … * … *

(9/355)


[الطلاق]* مسألة: في من قال عن زوجته: “هذه حرامٌ إن عدتُ إلى كذا”، فإذا عاد هل تَطْلُق؟
الجواب: عليه الكفَّارة إذا حَنِثَ في هذه اليمين، في مذهب الإمام أحمد (1)، وليس عليه طلاقٌ وإن نواه، والله أعلم (2).
* … * … *
* مسألة: في من تزوَّج امرأةً من أبيها، وعَقَد العقد، ثم توفي أبوها قبل الدخول، فمنعه الإخوة، وبقي يحلف بالطلاق كاذبًا وصادقًا، هل يقع عليه شيء؟
الجواب: إن شكَّ هل طلَّق أم لا لم يقع عليه طلاق، ولا يكره له (3) على الصَّحيح (4).
* … * … *
_________
(1) انظر: “الفروع” (9/ 100، 185).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (33/ 58، 74، 117)، و”زاد المعاد” (5/ 279، 284، 285)، و”مختصر الفتاوى المصرية” (546)، و”الاختيارات” للبعلي (378).
(3) أي: استبقاء النكاح. ويحتمل أن تكون محرفة عن “بل يكره له” أي: إيقاع الطلاق لأجل الشك.
(4) انظر: “جامع المسائل” (1/ 48)، و”الاختيارات” للبعلي (375).

(9/356)


* مسألة: في من قال لامرأته: إن خالفتي (1) أمري فأنت طالق، ثم قال: لا تخرجي، فخرجَت، فهل يقع عليه طلاقٌ أم لا؟
الجواب: هذه المسألة فيها قولان للعلماء، أصحُّهما: أنه لا يقعُ به الطلاق (2)، بل تُعَزَّرُ المرأة على مخالفتها له.
* … * … *
* مسألة: في من حلف بالطلاق أنه يجيب (3) دراهم لشخصٍ في ليلةٍ معينة، فأرسلها مع وكيله، فعاقه عائق، هل يحنَث؟
الجواب: لا يقعُ به طلاق، ولا يحنَثُ في يمينه (4).
* … * … *
* مسألة: في من عليه دينٌ عَجَز عنه، فأُكْرِه على اليمين بالطلاق الثلاث أنه لا يسافر، فأرادت زوجتُه السفر، فطلَّقها واحدةً حتى تسافر ولا تقعَ عليه الثلاث، ثم سافر، فما الحكمُ فيه؟
الجواب: لا تقعُ به الثلاث إذا كان مُكْرَهًا بغير حقٍّ على اليمين، أو إذا سافر يعتقدُ أنه لا تقع عليه ثلاثٌ لكونه طلَّقها قبل ذلك، والله أعلم (5).
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) انظر: “الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق”، و”مجموع الفتاوى” (33/ 231, 35/ 247)، و”الاختيارات” للبرهان ابن القيم (9)، وللبعلي (378).
(3) كذا قرأتها، وهي مهملة في الأصل. وتقدم (ص: 354) التعليق على هذا الاستعمال.
(4) انظر: “مختصر الفتاوى المصرية” (548).
(5) انظر: “مجموع الفتاوى” (29/ 196، 33/ 110)، و”الاختيارات” للبعلي (366).

(9/357)


* مسألة: في امرأةٍ توفِّيت ابنتُها، وخلَّفت ميراثًا، فاستحيا زوجُها من الناس أن تطلبَ زوجتُه الميراث، فحلف بالطلاق لا تأخذ منه شيئًا، فهل يجوز له أخذُ حقِّها؟ وهل يحنَث؟
الجواب: لها أن تأخذ حقَّها، وأما الطلاق ففيه نزاع؛ فإنه لم يكن مقصودُ الزوج أن يطلقها، وإنما حلف رياءً للناس، فلا طلاق عليه.
* … * … *

(9/358)


[ما يلحق من النسب]* مسألة: في رجلٍ اشترى جاريةً ومعها ولدٌ صغير، فأقامت مدة، ثم اعترفت أن الولد من البائع، هل يُقْبَل قولها ويكونُ ولدَه أم لا؟
الجواب: لا يُقْبل مجرَّد قولها على البائع، بل القول قوله مع يمينه أنه
لم يطأها وليس هو ولده، وإذا حلف كان للمشتري ليس قافة (1)، والله أعلم (2).
* … * … *

[الرضاع]* مسألة: في صبيٍّ رضع من امرأة (3)، ثم ولدت المرضعةُ بنتًا أخرى، هل يجوزُ له التزوُّج بها؟
الجواب: إذا أرضعته خمسَ رضعاتٍ لم يجز أن يتزوَّج أحدًا من أولاد المرضعة، والله أعلم (4).
* … * … *
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (34/ 11)، و”الفروع” (9/ 222).
(3) الأصل: “صبي وضع”، وبعدها كلمة لم أتبينها، وأثبتُّ ما يلتئم به السياق.
(4) انظر: “مجموع الفتاوى” (34/ 45 – 48، 53، 56).

(9/359)


[النفقات]* مسألة: في امرأة أصابها جنونٌ، فأخذها أهلُها عندهم، هل تسقطُ نفقتُها عن الزوج؟
الجواب: إذا أخذها أهلُها عندهم فلا نفقة عليه، والله أعلم (1).
* … * … *
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (32/ 279 – 281)، و”الاختيارات” للبعلي (356).

(9/360)


[الحدود]* مسألة: في امرأةٍ اتَّهمها أهلُها، فضربوها، وحبسوها، وأرادوا قتلَها، فهل لهم ذلك؟
الجواب: الحمد لله. لا يجوز لهم قتلُها ولو تيقنوا أنها أتت الفاحشة؛ فإن الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبُه، لكن يحفظونها ويحتاطون عليها، والله أعلم (1).
* … * … *
* مسألة: في امرأةٍ أخبرت أنها مُصَابة (2)، وأن الجنَّ يخبرونها بما يجري، وأنها تُكاشَفُ بما في الخاطر، بحيث إن الجنَّ يُعْلِمونها بذلك، والناسُ قد ارتبطوا على قولها.
الجواب: هذه يجبُ أن تُعَزَّر على ذلك تعزيرًا بليغًا يردعُها عن أن تُخْبِر الناسَ بمثل ذلك، سواءٌ كان معها قرينٌ أو لم يكن؛ فإنه إن كان معها قرينٌ فالجنُّ كذَّابون، يَكْذِبون كثيرًا، لا يوثقُ بأخبارهم ولا بأخبار من يُخْبِر عنهم.
وغاية هذه أن تكون من جنس الكهَّان الذين كان لهم من الجنِّ من
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (34/ 178).
(2) أي: أصابها طائفٌ من الجنِّ فذهب بعقلها. وقصَّرت المعاجم إذ فسَّرت المصابَ بالمجنون حسب. انظر: “مسند أحمد” (39/ 490)، و”نوادر الأصول” (1/ 638)، و”حلية الأولياء” (10/ 11، 181)، وشواهده كثيرة.

(9/361)


يُخْبِرهم بخبر السَّماء، والكاهنُ يجب قتلُه عند أكثر العلماء (1)، وهكذا هذه المرأة تستتابُ من ذلك.
ولا يجوز لأحدٍ أن يعتمد على ما تذكره من خبر الضائع؛ لوقوع الكذب في مثل ذلك منها ومن القرين الذي معها إن كان معها قرينٌ.
وقد ثبت في الصَّحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “من أتى عرَّافًا، فسأله عن شيءٍ لم تُقْبل له صلاةٌ أربعين ليلة” (2)، وثبت في الصَّحيح أنه قيل له: إن قومًا منَّا يأتون الكهَّان، قال: “فلا تأتوهم” (3).
فمن سأل مثل هذه عن المغيَّبات، واعتمد على خبرها، فقد عصى الله ورسوله، والله أعلم (4).
* … * … *
* وسئل الشيخ – رضي الله عنه – في السِّحر: هل هو موجود؟ وهل يجوز تعلُّمه أو تعليمُه؟ وماذا يجبُ على فاعله ومعلِّمه ومتعلِّمه؟ وهل يجوز تعليمُه وتعلُّمه بنية العمل به أو للرد على فاعله أو معلِّمه ومتعلِّمه؟
أجاب – رضي الله عنه -: الحمد لله. نعم، السِّحر موجود، ولا يجوز تعلُّمه وتعليمُه والعملُ به.
_________
(1) انظر: “أحكام أهل الملل” من “الجامع” للخلال (533)، و”المغني” (12/ 305)، و”النبوات” (1045)، و”الفروع” (10/ 207).
(2) أخرجه مسلم (2230) من حديث بعض أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم -.
(3) أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه -.
(4) انظر: “مجموع الفتاوى” (19/ 62، 13/ 85).

(9/362)


وإن كان يجوز أو يجبُ ما يُمَيَّز به بين السِّحر وغيره، كما أن المسلم يميِّز بين الخمر والفاحشة وبين ما ليس كذلك من غير احتياجٍ إلى مباشرة ذلك وذَوْقِه.
فالكلام الذي هو محرَّم، والعمل الذي هو محرَّم، يُعْرَف؛ ليميَّز به بينه وبين غيره. وذلك بخلاف معرفته المفصَّلة لمن يعتقده أو يعمل به.
وذلك كما أن المسلم يَعْلَمُ مقالات اليهود والنصارى والمشركين (1) معرفةً مقرونةً بذمِّها، والنهي عنها، وبيان بطلانها. وذلك بخلاف تعلُّم ذلك وتعليمه لمن يعتقده ويعمل به.
ومن دخل في السِّحر أو في غيره من المقالات الكفرية، متعلِّمًا أو معلِّمًا، على وجه الاعتقاد أو العمل بها، فهو كافر؛ قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102].
ويجبُ قتلُ الساحر والكاهن (2)، كما قد نصَّ على ذلك جماهير أئمَّة الإسلام (3)، وذلك ثابتٌ باتفاق الصَّحابة، كعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، وحفصة بنت عمر، وجندب بن عبد الله البجلي (4).
ولم يختلف في ذلك الصَّحابة، بل ثبت أن عمر – رضي الله عنه – كتب إلى نوَّابه
_________
(1) الأصل: “المشركين” بلا حرف عطف، والمثبت أشبه.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (28/ 346، 29/ 384).
(3) انظر: “الإشراف” لابن المنذر (8/ 241)، و”المغني” (12/ 302).
(4) انظر: “المصنف” لعبد الرزاق (10/ 179)، وابن أبي شيبة (14/ 591).

(9/363)


أن يقتلوا كلَّ ساحرٍ وساحرة (1).
وثبت أن حفصة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – قتلت جاريةً لها سحرتها، وأن عثمان لما بلغه ذلك ذكر له عبد الله بن عمر أنها سحرتها، وأنها أقرَّت بذلك؛ فأقرَّ ذلك (2).
والآثار في ذلك متعددة، والله سبحانه أعلم.
صورة خطه: كتبه أحمد بن تيمية.
نقلتها من خط الإمام شمس الدين محمد ابن المحب، وقال: نقلتها من خط شيخ الإسلام. كتبه محمد بن الحبال الحراني سبط سبط الشيخ محمد بن قوام.
* … * … *
* وسئل أيضًا: ما تقول السادة العلماء – رضي الله عنهم – أجمعين، ووفَّقهم للصواب، في رجلٍ زنى بامرأةٍ ــ والعياذ بالله ــ، ثم تاب، لكن ترتَّب على زناه أذًى لأهلها أو زوجها، بحصول العار، وتنكُّس الرأس، أذًى لا يُعَبَّر عنه؛ لعِظَمه، فهل تُسْقِطُ التوبةُ كلَّ ذلك؟ أو يكون الزنا وحده ساقطًا إثمُه بالتوبة، وإيذاءُ أهلها وزوجها من مظالم العباد يحتاجُ في التوبة منه إلى ما يحتاجُ في سائر المظالم أم لا؟ وهل بزناه تعلَّق في ذمته لأهلها أو زوجها حقوقٌ يُطَالَبُ بها في الدنيا والآخرة أم لا؟ أفتونا مأجورين.
أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني رضي الله تعالى عنه:
_________
(1) أخرجه أحمد (1657)، وأبو داود (3043) بسند صحيح.
(2) أخرجه مالك (3247)، وعبد الرزاق (18747)، وغيرهما من طرقٍ يصحُّ بها.

(9/364)


الحمد لله. إن كان الزنا قد خَفِيَ بحيث لم يَلْحَق أحدًا ضررٌ بذلك؛ إذ لم تَحْمِلْ منه، ولا عَيَّر أهلَها بذلك أحد، لأنه لم يَعْلَم بذلك أهلُها ولا غيرُهم، فهذا يتوبُ الزاني منه.
وأما إن كان قد لَحِقَهم ضررٌ، فهو ظالمٌ لهم، فلا بدَّ من أن يُحْسِن إليهم بالدعاء لهم ونحو ذلك بقدر ما ظلَمَهم، وإلا أخذوا من حسناته بقدر مَظْلَمَتِهم، والله أعلم. كتبه أحمد بن تيمية (1).
* … * … *
_________
(1) انظر: “الاستقامة” (2/ 246)، و”جامع الرسائل” (2/ 387 – 391)، و”الفروع” (10/ 93)، و”الآداب الشرعية” (1/ 97 – 98)، وفي الأخير نصٌّ نفيسٌ لابن تيمية في هذه المسألة.

(9/365)


[الصيد]* مسألة: في الصَّيد الذي يفعله التُّركُ مِن صيد الوحش والطير، والصائدُ ليس محتاجًا فقيرًا، بل قادرًا على المؤونة من غيره، هل يُكْره أو يحرم؟
الجواب: الصيد الذي فيه إيذاءُ الخيل، أو إفسادُ الزَّرع، أو غير ذلك من العدوان، يَحْرُم.
وإن لم يكن فيه عدوانٌ، وصاحبُه يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها، ويؤدي الواجبات، لم يكن محرَّمًا، لكن الاشتغال عن مصالح الدين والدنيا مكروه.
وإن كان يُنْتَفَعُ به في رياضة الخيل والرِّكاب للجهاد من غير ضرر، فهو حسن، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والله أعلم (1).
* … * … *
[الذكاة]* مسألة: في بلدٍ يَذْبَحُ فيها اليهودُ والنصارى والمسلمون، فمن هو أولى بالذبيحة؟
الجواب: الحمد لله. بل ذبحُ المسلمين أولى، وقد كره طائفةٌ من أهل العلم أن يُتْرك أهلُ الذمَّة ذبَّاحين للمسلمين (2)، وكرهوا أن يكونوا
_________
(1) انظر: “مختصر الفتاوى المصرية” (520)، و”الاختيارات” للبعلي (470).
(2) نص عليه الإمام مالك وأصحابه. انظر: “النوادر والزيادات” (4/ 365)، و”التبصرة” (4/ 1533)، و”البيان والتحصيل” (3/ 353)، و”مناهج التحصيل” (3/ 218).
وقال عمر بن عبد العزيز: “لا يَجْزُر للمسلمين اليهود”، وقال: “في المسلمين كفاية”. انظر: أحكام أهل الملل من “الجامع للخلال” (2/ 437).

(9/366)


صيارِفَ؛ لأنهم لا يُؤمَنون، بل قد يفعلون ما لا يحلُّ في دين المسلمين، مثل أن يُسَمُّوا غير الله على الذبيحة؛ فتحرم عند جماهير العلماء. وليس أكلُنا لما ذبحوه لأنفسهم مثل أن يُتْرَكوا منتصبين لهذا الأمر. بل تفويضُ ذلك إلى المسلمين هو الأولى، والله أعلم (1).
* … * … *
* مسألة: تجوز ذبيحة المرأة أم لا؟
الجواب: تجوز، كما مضت بذلك سنَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (2)، وهو مذهب الأئمَّة الأربعة (3)، والله أعلم (4).
* … * … *
* مسألة: في بقرةٍ أو شاةٍ يجرحها الذئبُ، ويُخْرِج مُصْرَانها، ويَخْلُص، فيدركها صاحبُها حيَّةً ويذبحها، هل تحلُّ؟ وهل إذا ذُبِحَت البهيمةُ وقامت ومشت مقدار رمية سهمٍ، ثم وقعت، هل تحلُّ؟
_________
(1) انظر: “الاختيارات” للبعلي (313).
(2) أخرجه البخاري (2304) من حديث كعب بن مالك – رضي الله عنه -.
(3) انظر: “الإجماع” (61)، و”الإشراف” (3/ 432)، و”المغني” (13/ 311).
(4) انظر: “مجموع الفتاوى” (35/ 234).

(9/367)


الجواب: إذا كان فيها حياةٌ مستقرَّةٌ وذُكِّيَت (1) أُبِيحَت (2).
وتباحُ (3) الذبيحة وإن كان … (4).
ولو قام وقعد، ثم مات من الذبح، جاز أكلُه.
* … * … *
* مسألة: في دابةٍ أخرج الذئبُ حشوتَها، وفيها حياة، هل تذكَّى وتحلُّ؟
الجواب: إذا خرج منها الدمُ وتحرَّكت جاز أكلُها، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في الحيوان المأكول يَلُزُّه (5) سبعٌ، أو يُضْرَبُ، أو يتردى عن حائط، أو ينطحه حيوانٌ آخر، فيبلغ ما لا يعيشُ معه, هل تنفعُ فيه الذكاة؟
الجواب: إذا تحرَّك منه شيءٌ عند الذبح، كعينه، أو ذنبه (6)، أو رجله، وجرى منه الدم، حلَّ أكلُه في أظهر قولي العلماء، كما نُقِل عن أصحاب
_________
(1) الأصل: “ودامت”. تحريف.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (35/ 236 – 238)، و”جامع المسائل” (7/ 107، 285)، و”الفروع” (10/ 397)، و”الاختيارت” للبعلي (468).
(3) الأصل: “وثباج”. تحريف.
(4) كلمتان في الأصل لم أتبينهما:.
(5) مشتبهةٌ في الأصل، وأثبتُّ ما يحتمله رسمها من الصواب، يلزُّه، أي: يطعنه. والأولى أن تكون: يأكله. وهي أكيلة السبع. انظر: “المغني” (13/ 308)، والمصادر السابقة.
(6) الأصل: “دينه”. تحريف.

(9/368)


رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (1)، وهو داخلٌ في قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3].
فما جرى دمُه، وتحرَّك، فقد ذُكِّي.
وكونُه يُتَيقَّن موتُه (2) أو لا يُتَيقَّن لا أصل له في كلام الشارع؛ فقد تيقَّن الناسُ موت عمر لما جُرِح، وعاش ثلاثًا، وأمر ونهى وأوصى، فإنه كان حيًّا وإن تُيُقِّن أنه يموتُ من جرحه (3)، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في صيادٍ يصيدُ الطير في الماء، ويغوصُ الطيرُ في الماء فلا يمكنه ذبحُه إلا فيه، فهل يؤكل لكونه ذُبِح تحت الماء أم لا؟
الجواب: الحمد لله، متى أعان الماءُ على موته لم يَجُز أكلُه، مثل أن يكون رأسُه غاطسًا في الماء. وأما إن كان الغاطسُ رجليه، أو ذنبُه، ونحو ذلك، لم يضرَّه، والله أعلم (4).
* … * … *
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق (4/ 499)، وابن جرير (8/ 63، 64) عن علي وأبي هريرة وابن عباس – رضي الله عنهم -.
(2) انظر: “المغني” (13/ 315)، وشرح الزركشي على الخرقي (6/ 669).
(3) انظر: مختصر اختلاف العلماء للطحاوي (3/ 204)، و”الحاوي” (15/ 58).
(4) انظر: “مجموع الفتاوى” (35/ 236).

(9/369)


* مسألة: في رجلٍ صال عليه جملٌ، فهرب منه، فأمسكه بفمه ورَبَض (1) عليه، ثم إن الراعي نَحَره، هل يؤكلُ أم لا؟ فإنه لمَّا نَحَره قطع أكثر كل وَدَج (2)، ومشى الجملُ ومات.
الجواب: إذا كان نوى بنحره ذكاتَه جاز أكلُه، ولا ضمان عليه في نحره. وإن كان إنما قتله لمجرَّد دفعه، لا قَصْدَ تذكيته، لم يؤكل (3)، ولا ضمان عليه أيضًا عند جمهور العلماء كمالك والشافعي والإمام أحمد، وهو الأصحُّ، والله أعلم.
* … * … *
* مسألة: في شاةٍ وقعت، فذُبِحَت، فلم تتحرَّك، لكن جرى دمُها، هل تؤكل؟
الجواب: نعم، تؤكل في أصحِّ قولي العلماء، والله أعلم (4).
* … * … *
_________
(1) الأصل: “وربظ”.
(2) رسمت في الأصل: “ودخ”، ولست منها والتي قبلها على ثقة، ولعلهما تحريف كلمة واحدة: الودجين.
(3) انظر: “بيان الدليل على بطلان التحليل” (375).
(4) انظر: “مجموع الفتاوى” (35/ 235)، و”جامع المسائل” (7/ 285).

(9/370)


[القضاء]* مسألة: في رجلٍ مات ولرجلٍ عليه دينٌ بخطِّ يده، فهل يُقْضى عليه بذلك أم لا؟
الجواب: الحمد لله، نعم إذا كان الخطُّ معروفًا أنه خطُّ المُقِرِّ قُضِي له بذلك في أظهر القولين من مذهب الإمام أحمد فيما نصَّ عليه إذا وُجِدت وصيَّتُه مكتوبةً بخطِّه، وفيها إقرارٌ وإنشاء، فإنه يُعْمَل بذلك في المنصوص عنه (1)، وهذا مذهبُ مالكٍ وغيره (2)، والله أعلم (3).
_________
(1) انظر: “مسائل الإمام أحمد” رواية ابن هانئ (2/ 50).
(2) انظر: “عقد الجواهر” (3/ 156)، و”الذخيرة” (10/ 157)، ومختصر “اختلاف العلماء للطحاوي” (3/ 361) , و”شرح البخاري” لابن بطال (8/ 231)، و”الطرق الحكمية” (544).
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (30/ 66، 31/ 326)، و”الاختيارات” للبعلي (504)، و”مختصر الفتاوى المصرية” (601).

(9/371)


قاعدة
في الصبر والشكر

(9/373)


(1) ويسمَّى الليلُ “كافرًا”، كما قال ثعلبة بن [صُعَيْر] (2):
* حتى إذا [ألقت] يدًا (3) في كافرٍ (4) *
كما يسمَّى الزارِعُ (5) “كافرًا”؛ لأنه يغطِّي الزَّرع بالتراب.
فكان الأمرُ بالإخراج من الظلمات إلى النور أمرًا بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان.
قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} إلى قوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}، ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} إلى قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 35 – 40].
_________
(1) أول ما بين أيدينا من هذه القاعدة، وبيض الناسخ قبله بضعة أسطر.
(2) ما بين المعقوفين بياض في الأصل. وهو ثعلبة بن صُعَير المازني، إلا أن البيت ليس له، بل للبيد بن ربيعة من معلقته، في ديوانه (316)، وعجزه:
* وأجنَّ عورات الثغور ظلامُها *
وقيل إنه أخذ معناه من قول ثعلبة:

* ألقت ذكاء يمينها في كافر *
ولولا أن البياض في الأصل بمقدار كلمة واحدة لرجحت احتمال سقوط بيت ثعلبة وذكر لبيد بعده، ولعله وهم من المصنف – رحمه الله -.
(3) الأصل: “سرا”. تحريف.
(4) يعني بدأت الشمس في المغيب. “اللسان” (يدي).
(5) الأصل: “الزراع”، فإن لم يكن للمفرد بصيغة المبالغة فهو من سهو الناسخ وانتقال ذهنه إلى لفظ الآية في سورة الفتح.

(9/375)


فذكر سبحانه مَثَلين (1):
* مثَل الكفر المركَّب بالسَّراب الذي يحسبه الظمآن ماءً وليس كذلك. فهذا مثَلُ الاعتقاد الفاسد.
* والآخر الذي في الظلمات لا يَرى شيئًا. وهذا مثَلُ الجهل البسيط، كالحيرة والشكِّ والرَّيب الذي لا يعتقدُ صاحبُها شيئًا.
فالأول حالُ البدعة والدين الفاسد، كدين أهل الكتاب بعد التبديل والنسخ.
والثاني حالُ الزنادقة والمعطِّلة والمتفلسفة وأمثالهم ممن لم يحصل له علمٌ يعتقدُه، ومثل كثيرٍ من أهل الكلام والنظر الذين لم يحصل لهم إلا الحيرة والشكُّ.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
والكتاب والإيمان نورٌ، وقد سمَّى الله ذلك نورًا في قوله: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157]، وقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} الآية [المائدة: 15]، وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ
_________
(1) انظر: “بيان تلبيس الجهمية” (5/ 267)، و”درء التعارض” (1/ 169، 5/ 376، 7/ 285)، و”الرد على المنطقيين” (435)، و”الجواب الصحيح” (2/ 219)، و”الانتصار لأهل الأثر” (109)، و”جامع الرسائل” (2/ 37)، و”جامع المسائل” (1/ 134)، و”مجموع الفتاوى” (7/ 277، 10/ 101).

(9/376)


مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174]، وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 32].
وقال تعالى في حقِّ المؤمن والكافر: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122].
وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28]، وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الآية [البقرة: 257]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: 9].
وذكر تعالى في سورة الحديد (1) نورَ النبيِّ والذين آمنوا معه، وأن الله يُتِمُّ لهم نورَهم حين يَطْفى (2) نورُ المنافقين.
وذكر أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، فيها (3)، وفي سورة التحريم.
وذكر أن المنافقين انطفى نورُهم في الدنيا؛ فلهذا انطفى نورُهم في الآخرة؛ فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى في حقِّ المنافقين:
_________
(1) الآية (12 – 13).
(2) الضبط وترك الهمز من الأصل، وهي لغة، وكذلك الفعل الآتي “انطفى”. وكلاهما يرد في كتب شيخ الإسلام. انظر: “الجواب الصحيح” (5/ 158)، و”بيان تلبيس الجهمية” (2/ 477).
(3) في سورة الحديد.

(9/377)


{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} الآية [البقرة: 17].
وذكر لهم مثلًا آخر بالمطر الذي فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرق (1)؛ لأن الله يضرب مثَل الإيمان والقرآن بالنار تارةً، وبالماء أخرى؛ لأن الماء فيه الحياة والرطوبة، والنار فيها الإشراق والحرارة، وبهذا وهذا يحصل الإيمانُ في القلب، كما أنه بذلك ينبتُ الزَّرع في الأرض. والقلبُ مشبَّهٌ بالأرض، قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الآية [الأنعام: 122]، ولهذا ذكر المثَلَين في قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} الآية [الرعد: 17] (2).
فهو سبحانه ذكر أنه أنزل الكتابَ ليخرج الناسَ من الظلمات إلى النور، وأمر موسى بإخراج قومه من الظلمات إلى النور، وأن يذكِّرهم بأيام الله، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]، فإن أيامَ الله الأزمنةُ التي أحدَث فيها ما أحدَث من الآيات (3)، ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} الآية [إبراهيم: 5 – 6].
والبلاء أن يَبْلُوَ الربُّ عز وجلَّ عبدَه بالسرَّاء والضرَّاء، ليختبره ويمتحنه، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف: 168]، وقال:
_________
(1) سورة البقرة، الآية (19).
(2) انظر: “درء التعارض” (3/ 186)، و”جامع المسائل” (6/ 75)، و”مجموع الفتاوى” (19/ 94).
(3) الأصل: “الآية”، وضبب عليها الناسخ استشكالًا لها، والمثبت أشبه.

(9/378)


{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
فهذا البلاء العظيم (1) تضمَّن بلواهم بالضرَّاء أولًا، وبالسرَّاء ثانيًا، وذلك يستوجبُ الصبر والشُّكر، كما قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
وقد قال سليمان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} الآية [النمل: 40]، هذا بعد أن ذكر قوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} الآية [النمل: 19]، فلما رأى عرشَ بلقيس مستقرًّا عنده قال: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} الآية.
وقال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 – 16]، فأخبر أن ذلك ليس إكرامًا ولا إهانة، وإنما ابتلاه ليَعْلَم المؤمنَ الصبورَ والشَّكورَ من غيره.
كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، وقال تعالى: {الَّذِي (2) خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
وذكر تعالى قول موسى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ
_________
(1) المذكور في الآية (6) من سورة إبراهيم.
(2) الأصل: “هو الذي”. وضبب الناسخ على “هو”، إذ ليست في الآية.

(9/379)


لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، فبيَّن أن الكفر ضدُّ الشكر، وأن من لم يشكر نعمته فقد كفر؛ فهو من أهل الظلمات، والشاكرُ من أهل النور، وكذلك قال سليمان: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].
وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، فذكر أن الإنسان ظلومٌ كَفَّار، فلا يشكر نعمَه التي لا تحصى.
فبيَّن أن الشكر من النور والإيمان، وضدُّه من الظلمة والكفر، وذلك لأن الشكر أصلُه هو الاعترافُ بإنعام المُنعِم على وجه الخضوع، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلًا لها فهو في ظلمة الجهل، ومن عرفها ولم يعرف المُنعِم بها كان كذلك، ومن عرف النعمة والمُنعِم بها لكن جَحَدها كما يجحد المتكبِّرُ نعمة المُنعِم عليه فقد كَفَرها، وإن أقرَّ بها واعترف بها فهو أوَّل الشكر.
فلا بدَّ في ذلك من علم القلب وعملٍ يتبعُ العلم، وهو الميلُ إلى المُنعِم ومحبَّته والخضوع له، كما في الحديث الذي رواه البخاريُّ عن شدَّاد بن أوسٍ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرِّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي” (1).
_________
(1) أخرجه البخاري (6306).

(9/380)


فإن قوله: “أبوء لك بنعمتك عليَّ” يتضمَّنُ الإقرار والإنابة إلى الله بالعبودية؛ لأن المَبَاءة هي ما يَبُوء إليها الشخص، أي يرجعُ إليها رجوعَ مستقِرٍّ (1)؛ فإن المَبَاءة هي المُستَقَرُّ، ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم -: “من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعدَه من النار” (2)، أي ليتَّخِذْ مقعدَه مباءةً، فيلزمُه ويستقرُّ فيه، ليس بمنزلة المنزل الذي ينزلُ به ويرحلُ عنه.
فالعبد يبوء إلى الله عزَّ وجلَّ بنعمه عليه، ويبوء بذنبه، فرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوعَ مطمئنٍّ إلى ربه منيبٍ إليه، ليس رجوع من أقبل إليه ثم أعرض عنه، بل رجوع من لا يُعرِض عن ربه، بل لا يزال مقبلًا عليه؛ إذ (3) كان لا بدَّ له منه، فهو معبودُه، وهو مستعانُه، لا صلاح له إلا بعبادته، وإن لم يكن معبودَه هَلَك وفَسَد، ولا يمكنُ أن يعبده إلا بإعانته له، فلا مندوحة له عن هذا وهذا البتة.
وفي الحديث: “مثَل المؤمن مثَل الفَرَس في آخيَّته، يجولُ ثم يرجعُ إلى آخيَّته، كذلك المؤمنُ يجولُ ثم يرجعُ إلى الإيمان” (4).
فقوله: “أبوء” يتضمَّنُ أني وإن جُلْتُ كما يجولُ الفَرَسُ ــ إما بالذنب، وإما بالتقصير في الشكر ــ فإني راجعٌ منيبٌ أوَّابٌ، أبوء لك بنعمتك عليَّ
_________
(1) أصلحها أحدهم في الأصل إلى “رجوعا مستقرا”. وفي “طريق الهجرتين” (204): “رجوع استقرار”.
(2) أخرجه البخاري (110)، ومسلم في المقدمة (3) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -، وأخرجاه من حديث غيره، وهو متواتر.
(3) الأصل: “إذا”، وهو من شائع أخطاء النساخ، وعلى الصواب في “طريق الهجرتين”.
(4) تقدم تخريجه وتفسير الآخيَّة (ص: 67).

(9/381)


وأبوء بذنبي.
وذكَر النعمة والذنبَ لأن العبد دائمًا بين نعمةٍ من ربه، وذنب من نفسه، كما في الحكاية المعروفة عن الرجل الذي كان في زمن الحسن البصري لمَّا ذُكِر للحسن أمرُه، فسأله الحسن، فقال له: إني أجدُني بين نعمةٍ وذنب، فأريد أن أُحْدِثَ للنعمة شكرًا، وللذنب استغفارًا، فقال الحسن: أنت عندي أفقهُ من الحسن (1).
وذلك أن الخير كلَّه من الله، كما قال: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} إلى قوله: {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 7 – 8]، وقال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} الآية [الحجرات: 17].
وقال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 – 7]، والذين أنعَم عليهم هم المذكورون في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} الآية [النساء: 69].
فالخيرُ كلُّه، والنعمُ كلُّها ــ من نعم الدنيا، ونعم الدين من الإيمان والعمل الصالح ــ، وثوابُ ذلك = كلُّه من نعم الله ومنِّه على عبده (2).
_________
(1) أخرجها ابن أبي الدنيا في “الشكر” (196)، و”العزلة والانفراد” (73).
(2) نقل ابن القيم في “طريق الهجرتين” (203 – 206) كثيرًا مما تقدم.

(9/382)


فصل
وأما الشرُّ، فليس هو إلا الذنوبُ وعقوباتها.
ولهذا كان في خطبة الحاجة المشهورة: “الحمد لله، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا” (1).
فاستعاذ من شرِّ النفوس، ومن سيئات الأعمال، وهي عقوباتُ الأعمال، أو السيئاتُ من الأعمال، الأول كقول الملائكة: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر: 9] (2).
والمقصود أن كلَّ ما سوى الذنوب وعقوباتها فهو نعمة؛ فإن المصائب إذا اقترن بها طاعةُ الله كانت من أعظم النعم، كما ثبت في الحديث الصَّحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكَر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبَر فكان خيرًا له” (3).
فإذا كان العبد صبَّارًا شكورًا فجميع ما يصيبه خيرٌ له، والخير هو
_________
(1) أخرجه أحمد (3721)، وأبو داود (2118)، والترمذي (1105) وقال: “حديثٌ حسن”، والنسائي (3277)، وابن ماجه (1892) من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – بسندٍ قوي، وقال ابن عبد الهادي في حاشية “الإلمام” (493): “إسناده على شرط مسلم”. وروي من وجوه أخرى من حديث ابن مسعود وغيره.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (14/ 28، 222، 262، 18/ 289)، و”بدائع الفوائد” (716)، و”الداء والدواء” (268)، و”طريق الهجرتين” (200).
(3) أخرجه مسلم (2999) من حديث صهيب – رضي الله عنه -.

(9/383)


النعمة، فالضرَّاء مع الصبر نعمة، كما أن السرَّاء مع الشكر نعمة، وذلك خيرٌ للعبد.
والذنب إذا حصل منه توبةٌ نصوحٌ كان المجموعُ من أعظم نعم الله على العبد؛ فإن الله يحبُّ التوابين ويحبُّ المتطهِّرين، وهو سبحانه أشدُّ فرحًا بتوبة عبده من الفاقد لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في أرضٍ مهلكةٍ إذا وجدها بعد اليأس (1)، فالله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده من فرح هذا براحلته.
وقد قال طائفةٌ من السَّلف، كسعيد بن جبير: “إن العبد ليفعلُ الحسنة فيدخل بها النار، ويفعلُ الذنبَ فيدخل به الجنة؛ يفعل الحسنة فيُعْجَبُ بها، فلا يزال إعجابُه حتى يُهْلِكَه، ويفعل الذنوبَ فيتوبُ منها ويخشعُ ويخاف، فلا يزال خوفُه وخشوعُه حتى يُدْخِلَه الجنة” (2).
ولهذه الحكمة ابتُلي بالذنب من ابتُلِي من كبار عِبَاد الله، حتى قال بعض الناس: “لو لم تكن التوبةُ أحبَّ الأشياء إليه ما ابتلى بالذنب أكرمَ الخلق عليه” (3).
_________
(1) كما في البخاري (6308)، ومسلم (2744).
(2) روي هذا المعنى من قول أبي موسى وأبي أيوب – رضي الله عنهما -، ومن قول الحسن وأبي حازم. انظر: “الزهد” لهناد (910، 911)، ولابن المبارك (163، 164)، ولأحمد (277)، و”الحلية” (3/ 242، 7/ 288)، و”شعب الإيمان” (12/ 235).
وروي مرفوعًا من مرسل الحسن عند ابن المبارك (162)، وأحمد (397).
ولم أقف عليه من قول سعيد بن جبير، وعزاه إليه شيخ الإسلام كذلك في مواضع أخرى. انظر: “مجموع الفتاوى” (10/ 45، 294، 14/ 474).
(3) تقدم تخريجه (ص: 68).

(9/384)


وحينئذٍ، فالمذنبُ التائبُ الذي يبوء بنعمته، ويبوء بذنبه، يحمدُه حمدًا مطلقًا على كلِّ موجودٍ من ذنوبه وغيرها.
وأيضًا، فمن شَهِد ابتلاءه بالذنب، فحَمِد الله على خلقه، مسلِّمًا لحكمته، مع اعترافه بظلم نفسه، واحتياجه لرحمة ربه عزَّ وجلَّ … (1).
فصل
وأما الطاعات، فهو محمودٌ عليها حَمْدَ مدحٍ وحَمْدَ شكرٍ، وهو ظاهرٌ مستقيمٌ على مذهب أهل السُّنَّة الذين يقولون: إن الله خلقه مسلمًا مصلِّيًا، وهو الذي حبَّب إليه الإيمان وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان.
وأهل السُّنَّة يقولون: الحمد لله كلُّه.
ويقولون: اللام في “الحمد” لاستغراق الجنس (2)؛ فإن الحمد كلَّه لله، وكلُّ محمودٍ غيره فالحمدُ لله على حمده وعلى ما حُمِد به (3).
وأيضًا، فالحمد لله من وجهين:
* من وجهٍ أنه المحمود.
_________
(1) كتب الناسخ في الطرة: موضع بياض في الأصل. وانظر لهذا المعنى: “منهاج السنة” (2/ 430 – 434، 6/ 209 – 210)، و”الفتاوى” (8/ 215، 14/ 318).
(2) الأصل: “للاستغراق الجنس”. ولعل الصواب: “للاستغراق، لا للجنس”. انظر: “جامع المسائل” (3/ 283 – 285)، و”مجموع الفتاوى” (1/ 89).
(3) انظر: “طريق الهجرتين” (244).

(9/385)


* ومن وجهٍ أنه المستحقُّ الحمد، المحمود، فلا محمود إلا من حَمِده. وهو كما قال بعض الأعراب للنبي – صلى الله عليه وسلم -: “إن حمدي زَينٌ وذمِّي شَينٌ”، قال: “ذاك الله” (1)، فالمحمود من حَمِده الله، والمذموم من ذمَّه الله، فهو الذي يستحقُّ أن يَحْمَد ويَذُمَّ.
وبهذا الوجه فله أن يَحْمَد وله أن يَذُمَّ، أي: له حمدُ المحمود وذمُّ المذموم، حمدُ المؤمن وذمُّ الكافر، كما أن له الثوابَ والعقاب.
والواجبُ ما يُذَمُّ تاركُه شرعًا، والمحرَّم ما يُذَمُّ فاعلُه، وهو الذي يَذُمُّ تاركَ الواجب وفاعلَ المحرَّم، كما أنه هو الذي يثيبُ هذا ويعاقبُ هذا.
فصل
وأما ما يُحْدِثُه من المصائب، إما بغير فعل الخلق، كالأمراض، وإما بفعلهم، كإيذاء الإنسان، وظلمه باليد واللسان = فإنه سبحانه محمودٌ عليه مشكورٌ، حَمْدَ المدح وحَمْدَ الشكر (2).
_________
(1) أخرجه الترمذي (3267)، والنسائي في “الكبرى” (11451) وغيرهما من حديث البراء بن عازب – رضي الله عنه – بسندٍ لا بأس به. وقال الترمذي: “حديثٌ حسنٌ غريب”. وقال ابن كثير في “البداية والنهاية” (7/ 244): “إسنادٌ جيدٌ متصل”.
وله شاهدٌ من حديث الأقرع بن حابس، أخرجه أحمد (15991) وغيره، وفي إسناده انقطاع، وروي مرسلًا، وهو أشبه. انظر: “الإصابة” (1/ 206)، و”تعجيل المنفعة” (1/ 318).
وروي من مرسل الحسن وقتادة، ومن حديث أبي هريرة، وجابر، وعبد الله بن شداد – رضي الله عنهم -، ولا يصحُّ منها شيء.
(2) انظر: “طريق الهجرتين” (250 – 251).

(9/386)


* أما حمدُ المدح، فإنه محمودٌ على كلِّ ما خلق، إذ هو ربِّ العالمين، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
* وأما حمدُ الشكر، فلأن هذه نعمةٌ في حقِّ المؤمن إذا وفِّق للصبر عليها، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا يقضي الله للمؤمن من قضاءٍ إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكَر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبَر فكان خيرًا له” (1).
وهي نفسُها تكفِّر خطاياه، ويؤجرُ على الصبر عليها، ففيها له مغفرةٌ من جهة ما تكفِّره من الخطايا، وله فيها رحمةٌ من جهة ما يؤجرُ على الصبر عليها، لا سيَّما إذا اقترن بها توبةٌ وإنابةٌ إلى الله، وتوكُّلٌ عليه، وتوحيدٌ له، وإخلاصُ الدين له؛ فإنها تكون من أعظم النعم.
ومصيبةٌ تُقْبِلُ بك (2) على الله خيرٌ لك من نعمةٍ تُنْسِيك ذكرَ الله.
وقد قال بعض السَّلف: “يا ابن آدم، لقد بورك لك في حاجةٍ أكثرتَ فيها قرعَ باب سيِّدك” (3).
وفي الحديث: “إذا قالوا للمريض: اللهم ارحمه، يقول الله: كيف أرحمُه
_________
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2) “تسلية أهل المصائب” لشمس الدين المنبجي (173): “بها”، وما في الأصل أجود. وقد نقل المنبجي كثيرًا من هذه القاعدة، كما سلف في مقدمة التحقيق.
(3) ذكره كذلك في “مجموع الفتاوى” (10/ 333، 22/ 385)، ونقله عنه ابن مفلح في “الآداب الشرعية” (1/ 140، 2/ 185)، ولم أعثر عليه في مصدر متقدم.

(9/387)


من شيءٍ به أرحمُه؟ ” (1).
وفي الأثر: “يا ابن آدم، البلاء يجمعُ بيني وبينك، والعافية تجمعُ بينك وبين نفسك” (2).
وفي الصَّحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “ما يصيبُ المؤمن من وَصَبٍ ولا نصَب، ولا همٍّ ولا حزَن، ولا غمٍّ ولا أذى، حتى الشوكة يُشاكُها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه” (3).
فصل
وأما ما يُحْدِثُه من الكفر والفسوق والعصيان، فهو أيضًا محمودٌ عليه حَمْدَ المدح وحَمْدَ الشكر.
* أما حمدُ المدح، فعامٌّ.
* وأما حمدُ الشكر، فلأن هذه الحوادث نعمةٌ في حقِّ المؤمن؛ لأنه مأمورٌ بإنكارها إذا وقعت، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”،
_________
(1) يروى عن سلام بن أبي مطيع. انظر: “العلل” للإمام أحمد (2/ 322) رواية عبد الله، و”البصائر والذخائر” (7/ 140).
وفي “قوت القلوب” (2/ 39)، و”الإحياء” (4/ 289) أن موسى عليه السلام نظر إلى عبد عظيم البلاء فقال: ياربِّ ارحمه، فأوحى الله إليه: كيف أرحمه … .
(2) هو من الإسرائيليات كما في “مجموع الفتاوى” (10/ 334)، وذكره كذلك في “شرح الأصبهانية” (557).
(3) أخرجه البخاري (5641) واللفظ له، ومسلم (2573).

(9/388)


رواه مسلمٌ وغيره (1)، ومأمورٌ أن يجاهد فيها بحسب الإمكان.
فإذا حصل له ثوابُ المجاهدين فيحمدُ الله على ما وفَّقه له من إنكارها والجهاد عليها، وعلى أنه خلق ما يكون سببًا للجهاد الذي يثابُ العبد عليه.
فإن كان ذلك الكفر والفسوق والعصيان فيه ضررٌ على الإنسان، إما في دينه أو دنياه:
* أما في دينه، فمثل أن يكون ذلك مما يفتنُه في قلبه، أو يمنعُه أن يقوم بواجب دينه أو مستحبِّه، فيَجْلِبُ له في دينه ذنبًا وتَرْكَ حسنةٍ، فهذا يكون حينئذٍ ما حصل له من باب الذنوب التي يجبُ عليه أن يتوب منها، ويستعينَ الله على فعل ما أمَر وترك ما حَظر.
كما إذا حصلت له الأسبابُ الداعية إلى الفواحش والظُّلم وغير ذلك، فإن عصَمه الله وأعانه ووفَّقه لطاعته في ذلك كان ذلك نعمةً، وإلا كان ما أصابه من نفسه، كما تقدَّم من الذنوب وعقوباتها.
وهذه الحال ــ حال المحنة ــ لا يثبتُ كونُها نعمةً أو ليست (2) بنعمةٍ إلا باعتبار العاقبة، فإن وفِّق فيها لما يحبُّه الله ويرضاه فهي نعمة، وإن عَمِل فيها بمعصيته كان حكمُه حكمُ أمثاله.
* وأما الضرر في دنياه، مثل أن يُجْرَحَ المجاهدُ ويؤخذ مالُه، أو مثل أن يُضْرَبَ أو يُشْتَم، ونحو ذلك، فهذا يكفِّر الله بهذه المصيبة خطاياه، ويؤجَر
_________
(1) أخرجه مسلم (49)، وأحمد (11072)، وابن ماجه (1275)، وأبو داود (1140)، والترمذي (2172)، والنسائي (5008) من حديث أبي سعيد – رضي الله عنه -.
(2) الأصل: “وليست”. والصواب ما أثبت.

(9/389)


على هذه المصائب؛ لأنها حصلت بسبب جهاده، فهي مما تولَّد عن عمله، وما يتولَّد عن عمله الصالح أثيبَ عليه، بخلاف المصائب التي لم تتولَّد عن عمله (1).
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 121]، فأخبر تعالى أنه يُكْتَبُ لهم عملٌ صالحٌ بما يصيبُهم من الظمأ والجوع والتعب الذي يحصُل بسبب الجهاد في سبيل الله عزَّ وجل.
وأما الجوع والعطش والتعب الذي يحصُل بدون ذلك، فلا يثابُ إلا على الصبر عليه؛ فإنه ليس من عمله، ولا تولَّد عن عملٍ صالح، لكن هو من المصائب التي يكفِّر الله بها خطاياه (2).
وهذا هو الفرق بين المصائب التي يثابُ عليها، والمصائب التي لا يثابُ
_________
(1) انظر: “درء التعارض” (9/ 31)، و”الرد على البكري” (432)، و”مجموع الفتاوى” (8/ 522، 10/ 123، 723)، و”جامع المسائل” (4/ 267، 7/ 44، 8/ 62).
(2) في “تسلية أهل المصائب” للمنبجي (174) هنا زيادة: “وأما المصيبة بالولد، فالولدُ تولَّد عن جِمَاعه الذي صان نفسَه به عن الزنا، وقَصَد به النَّسلَ وتكثيرَ الأمَّة، وغضَّ البصر عن المحارم، فإذا حصل له ذلك ثم مات الولدُ فقد أثيبَ عليه من جهة، وكفَّر الله به خطاياه من جهة؛ لأنه تولَّد عن عمله. وأما الأمراض والأسقام فهي تكفِّر الخطايا”. والمنبجي ينقل عن هذه القاعدة، كما سلف، ولم أثبتها في المتن احتياطًا؛ لاحتمال أن تكون مدرجة من كلام المنبجي.

(9/390)


عليها، فإن بعض الناس يظنُّ أنه يثابُ على كلِّ مصيبة، ومن (1) العلماء من يطلقُ القولَ بأن المصائب لا يثابُ عليها، وإنما يثابُ على الصبر عليها؛ لأن الثواب إنما يكون على فعل العبد، لا على فعل الله فيه (2)، وهكذا رُوِي حديثُ أبي عبيدة بن الجرَّاح لما عَادُوه، وقالوا: له أجرٌ، فقال: “ليس لي من الأجر مثل هذه، ولكن المرض حِطَّةٌ يَحُطُّ الله به الخطايا” (3).
وفصل الخطاب أن المصائب إن تولَّدت عن عملٍ صالح، كما تتولَّد عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا يثابُ عليه؛ فإن
_________
(1) الأصل: “فان من”. والمثبت من “تسلية أهل المصائب” (174) أقوم.
(2) ممن أطلق ذلك العز بن عبد السلام في “قواعد الأحكام” (1/ 189).
(3) أخرجه أحمد (1690)، ومن طريقه الضياء في “المختارة” (3/ 317)، وجوَّد إسناده الحافظ في “الفتح” (10/ 109) أنهم دخلوا على أبي عبيدة يعودونه من شكوى أصابته، وامرأته عند رأسه، فقالوا: كيف بات أبو عبيدة؟ قالت: والله لقد بات بأجرٍ، فقال أبو عبيدة: ما بتُّ بأجرٍ، … سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ” … ومن ابتلاه الله ببلاء في جسده فهو له حطَّة”.
واستوفى طرقه وألفاظه ابن عساكر في “تاريخ دمشق” (47/ 258 – 263).

وأورد ابن تيمية الحديث في “مجموع الفتاوى” (30/ 363) كما وقع هنا، كله من قول أبي عبيدة، وروي كذلك من وجهٍ لعله أصح، وأشار إليه النسائي في “السنن”، وانظر: “السلسلة الضعيفة” (13/ 982، 984).
وقد قال علي بن المديني فيما نقله ابن عساكر (47/ 263): “هذا حديثٌ إسناده شامي، وبعضه مصري، وليس هو بالإسناد المعروف”.
وروي هذا المعنى عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – موقوفًا، أخرجه ابن أبي شيبة (10821)، والطحاوي في “شرح مشكل الآثار” (5/ 464)، وصححه الإمام أحمد في “مسائل ابن هانئ” (2/ 237).

(9/391)


الإنسان يثيبه الله على عمله وعلى ما يتولَّد عن عمله إذا أقدَم على احتماله؛ فإن المجاهد قد أقدَم على الجهاد وهو يعلم أنه يؤذى في الله عزَّ وجل.
وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: “لخُلُوفُ فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك” (1)، والخُلُوفُ يتولَّد عن صومه بغير اختياره.
وقال – صلى الله عليه وسلم -: “ما من كَلْمٍ يُكْلَمُ في سبيل الله – والله أعلمُ بمن يُكْلَمُ في
سبيله ــ إلا جاء يوم القيامة وجرحُه يَثْعَبُ دمًا، اللون لونُ الدم، والريح ريحُ المسك” (2).
والدَّم الذي يخرجُ من جرح المريض ليس هكذا، ولا الخُلُوف الذي يحصل بجوع الاضطرار ليس هكذا.
ولهذا رتَّب الله الجزاء على الأذى في سبيله، فقال: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} الآية [آل عمران: 195]، فجعل كونَهم أوذوا في سبيله مقرونًا بكونهم هاجروا، وكذلك كونَهم أُخرِجوا، فالإخراج والأذى فِعلُ الكافرين بهم، فأثابهم الله على ذلك؛ لأن ذلك حصل بسبب إيمانهم الذي كان باختيارهم.
فمن فعل فعلًا صالحًا باختياره، وأوذي عليه، واحتسَب ذلك الأذى، كان ذلك الأذى من عمله الصالح الذي يثابُ عليه، كالصائم إذا احتسَب جوعَه وعطشَه، والقائم بالليل إذا احتسَب تعبَه وسهرَه، فإن الأذى الذي
_________
(1) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(2) أخرجه البخاري (2803)، ومسلم (1876) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.

(9/392)


يحصُل باختيارك في طاعة الله أنت جلبتَه على نفسك باختيارك طاعة الله، فليس هو كمن أوذِي بغير اختياره، فإن ذلك [أذاه] (1) مصيبةٌ محضة، ولكن هي حقٌّ له على الظالم.
وأما الذي حصل له أذًى باختياره، فإن كان من الله، كالجوع والعطش، فهذا أجره فيه على الله.
وإن كان من عدوِّه، كشَتْمِه، وضربه، وإخراجه من داره، وأخذِ ماله، ولعنِه، وسبِّه، وكذبه عليه، ونحو ذلك، فهذا النوع أعظمُ الأذى أجرًا؛ فإن هذا من الله، وفي سبيل الله، وفيه حقُّ الله والآدمي:
أما حقُّ الله، فلكونهم فعلوا ذلك بسبب طاعته؛ فإن هذا فِعلُ من يَصُدُّ عن طاعة الله ويأمر بمعصية الله.
وأما حقُّ الآدمي، فلكونه أوذِي بغير حقٍّ، كما قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39 – 40].
وهذا أعظمُ ما يؤجرُ عليه المؤمن من المصائب.
وهي من أعظم النعم في حقِّه إذا رُزِقَ الصبر والشكر؛ فإنَّ شُكر مثل هذه يتوقفُ على كونه يعرفُ الإيمان، ويعرفُ أنه نعمة، ويعرفُ أن الأمر به وجهاد مخالفه نعمة، ويعرفُ أن أذاه في ذلك نعمة (2).
_________
(1) من “تسلية أهل المصائب” (175).
(2) وشيخ الإسلام – رحمه الله – كثير الاعتراف بأن ما أصابه من الأذى في سبيل الله هو من نعم الله عليه، كما تراه في رسائله التي كتبها إبان حبسه في الاسكندرية وقلعة دمشق وغيرها، وسبق بعضها (ص: 239، 249)، وانظر: “مجموع الفتاوى” (3/ 249، 28/ 30، 47، 57، 656)، و”العقود الدرية” (347، 438، 441).

(9/393)


ومعرفة هذه النعم والعملُ بها إنما هو لخواصِّ العِبَاد؛ فإن كثيرًا من الناس لا يعرفُ النعمة إلا ما يتلذَّذ به من دنياه، كما قال بعض السَّلف: “من لم يعرف نعمة الله إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلَّ علمُه وحضر عذابُه” (1).
وهؤلاء منهم من يرى النعمة في بدنه فقط، كالأكل (2)، والشرب، والنكاح. ومنهم من يرى النعمة في الرياسة، والجاه، ونفاذ الأمر والنهي، وقهر الأعداء. ومنهم من يرى النعمة في جمع الأموال والقناطير المقنطرة.
وهؤلاء من جنس الكفَّار، بل الكفَّار يرون هذه نعمًا، ويعلمون أن الله أنعمَ بها.
وأعلى من هؤلاء من يرى النعمة في الإيمان والعمل الصالح، لكن لا يرى الأمر بذلك والجهادَ عليه نعمةً، بل يرى هذا فيه من المضارِّ ما يوجبُ تركَه.
والذين يرون هذا نعمةً منهم من لا يراه نعمةً إلا مع الغنيمة والسلامة، فمتى كان غالبًا لعدوِّه، غانمًا لماله، عدَّ ذلك نعمةً، وإن جُرِحَ، أو قُتِل بعض أولاده، أو أُخِذَ مالُه، عدَّ ذلك مصيبةً لا نعمة.
_________
(1) أخرجه أحمد في الزهد (712)، وابن أبي الدنيا في “الشكر” (92) وغيرهما عن أبي الدرداء – رضي الله عنه -. وأخرجه ابن المبارك في “الزهد” (397)، وابن جرير في التفسير (17/ 493، 19/ 377) عن الحسن.
(2) “تسلية أهل المصائب” (175): “بالأكل”.

(9/394)


وهكذا في جهاد الكفَّار والمنافقين، فمن الناس من لا يعدُّ جهادَه نعمةً إلا إذا كانت الكلمةُ مطاعةً، والخصمُ مقهورًا، فمن أوذي، أو هُضِمَ حقُّه، أو ضُرِبَ، أو حُبِسَ، أو كُذِبَ عليه عند الأئمَّة أو الأمَّة، وقيل: هذا فاجرٌ أو جاهلٌ، لم يكن هذا نعمةً عند هؤلاء؛ لأن هذا مما يؤلمُ النفس.
وحجَّة هؤلاء كلِّهم أن النعمة ما يتنعَّمُ به العبد، وهذه الأمور مؤلمةٌ للنفوس، فلا تكون من النعم، بل من المصائب.
ولا ريب أنها من المصائب باعتبار ما يحصلُ من الألم (1)، ولهذا أُمِر بالصبر عليها، لكن لا منافاة بين كون الشيء مصيبةً باعتبارٍ ونعمةً باعتبار؛ فباعتبار ما حصل به من الأذى هو مصيبة، وباعتبار ما يحصل به من الرحمة نعمة.
وهذا لأنه إذا قيل: إن هذا يُكَفَّر به الخطايا، ويؤجرُ عليها، ويؤجرُ على الصبر عليها، كانت النعمةُ هذه الأمور التي تحصلُ عن هذه، فيكون هذا بمنزلة شُرب المريض الدواءَ الكَرِيه، فهو مصيبةٌ باعتبار مرارته، وهو نعمةٌ باعتبار إزالته للمرض الذي هو أشدُّ ضررًا فيه، وأدنى الضررين (2) إذا زال أعظمُهما كان نعمةً، لا سيما إذا حصل مع ذلك خيرٌ آخر.
وهذا كما أن النعمة التي تُسْتَعمل في المعصية هي في الحقيقة ليست نعمة، فمن استعمل النعم في المعاصي كانت شرًّا في حقه؛ لأنها جرَّته إلى العذاب الذي هو أعظمُ من تلك اللذَّة، كمن أكل عسلًا فيه سُمٌّ، فإن ضرر
_________
(1) “تسلية أهل المصائب” (176): “يحصل فيها من الألم”.
(2) “تسلية أهل المصائب”: “الشرَّين”.

(9/395)


السُّمِّ أعظمُ من حلاوة العسل (1).
وتحرير (2) هذا يحتاج إلى أصول:
* الأول منها: أن نقول: إن الله تعالى قد مدح الصَّبَّار الشَّكور، فمدَح المتَّصف بالأمرين جميعًا.
والشكر واجبٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع.
وكذلك الصبر على فعل الطاعات، وترك المعاصي، وعلى المصائب، واجبٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع.
وقد ذكر الله تعالى الصبر قريبًا من مئة موضعٍ من القرآن.
وذكر الشكر أيضًا في مواضع كثيرةٍ جدًّا، كقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] في غير موضع (3)، وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
وقال عن الشيطان: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].
وأثنى على نوحٍ بأنه {كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، وعلى إبراهيم بأنه {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 121]، وقال عن موسى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} الآية [إبراهيم: 7]، وقال سليمان ولقمان:
_________
(1) انظر: “جامع الرسائل” (2/ 348 – 357).
(2) في طرة الأصل: “وتقرير”، وفوقها ضبة أو إشارة إلى أنها كذلك في نسخة أخرى.
(3) لم أجد إلا موضع لقمان، ولعله يشير إلى قوله تعالى في سورة الأحقاف: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ}.

(9/396)


{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل: 40، لقمان: 12].
وأمر بذكر نِعَمِه في غير موضعٍ من القرآن، كقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة: 7]، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231]، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 103].
وأمر بني إسرائيل بذكر نعمه، مثل قوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} الآية [البقرة: 40].
وأيضًا، فإنه ذكر أن ضدَّ الشكر الكفر (1)، والكفرُ أكبر الكبائر، وهذا يقتضي أن الشكر … (2) الإيمان، فمن لم يشكر فهو كافر، وهكذا من لم يكن عنده شيءٌ من الشكر فهو كافر (3).

* الأصل الثاني: أن يعرفَ الإنسانُ أن الإيمان والعمل الصالح من نعم الله عليه، بل ذلك أجلُّ نعم الله عليه، وإنما حصل ذلك بسبب إرسال الرُّسل، وإنزال الكتب، ونقل الأمة ذلك، فما كلُّ أحدٍ يعرفُ هذا، وأما من (4) يشهدُ ما في الإيمان من نعمة الدنيا، كجاهه وماله، فهذا لم يَشْكُر على الإيمان، بل
_________
(1) في قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}. وانظر: “درء التعارض” (8/ 496).
(2) بياض في الأصل بمقدار كلمتين.
(3) انظر تحرير هذا في مناظرة شيخ الإسلام لابن المرحِّل في بحث الحمد والشكر، في “العقود الدرية” (145 – 156)، و”مجموع الفتاوى” (11/ 135 – 145).
(4) الأصل: “وانما”. والمثبت أقوم، إلا أن يكون في الكلام سقط.

(9/397)


على دنيا حصلت بالإيمان.
قال الله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} إلى قوله:
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 52 – 53].
فأولئك المستضعفون عرفوا قدرَ النعمة بالإيمان والقرآن، وأما أولئك الملأ فكان ذلك عندهم ضررًا وشرًّا، يُبغِضونه ولا يحبُّونه، فكيف يُتَصَوَّر أن يَشْكُروا على ما هو عندهم من المكروهات المذمومات التي لا يَدْخُل فيها إلا جاهلٌ ضالٌّ؟!
ولهذا قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28]، قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: “هم الأفجَران (1) من قريش: بني عبد مناف (2)، وبني مخزوم” (3).
والآية تتناول هؤلاء وغيرهم من الذين بدَّلوا نعمةَ الله – وهي محمدٌ ــ والقرآنَ كفرًا، فجعلوا هذه النعمة التي هي من أعظم النعم مصيبةً على من دخل فيها أعظمَ المصائب، وكان شرُّ الناس عندهم من تابعَ محمدًا – صلى الله عليه وسلم -، يسعون في قتله وحبسه، أو نفيه وهجره، أو منعه ما يحتاجُ إليه، يمنعون نفعَه بكلِّ طريق، ويوصلون إليه الضرر بكلِّ طريق؛ لظنِّهم أنه دخل فيما يضرُّهم
_________
(1) الأصل: “الأحزاب”. تحريف.
(2) كذا في الأصل، وهو وهمٌ أو سبق قلم. والصواب: بني أمية، كما في المصادر التالية.
(3) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 342، 2/ 242)، وابن جرير (13/ 670، 673، 675)، وغيرهما. انظر: “الدر المنثور” (8/ 547 – 549).

(9/398)


ولا ينفعهم، إما بجهلهم بقدر ما جاء به الرسول، وإما بجحودهم وعنادهم، حسدًا وبغيًا وكِبرًا، فرأوا أن في متابعته (1) زوال رياستهم التي هي أحبُّ الأشياء إليهم، ورأوا أن ترك ذلك المحبوب هو مفارقةُ النعمة لا الدخول فيها، وقد قدَّمنا أن الشاكر هو في النور، وأن كافر النعمة في الظلمة.

* الأصل الثالث: أن تعرفَ أن الثباتَ على العلم والإيمان عند وقوع الفتن والشبهات هو من أعظم النعم؛ فإن من الناس من يؤمنُ في العافية، ثم إذا فُتِنَ ارتدَّ، فينبغي أن يعلم أن ثباته على الإيمان عند الفتنة والشبهة من أعظم النعم.
قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} إلى قوله: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144 – 145]، وهم الذين يثبتون على الإيمان إذا انقلب على عقبه من ينقلبُ عند قتل الرُّسل وموتهم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} إلى قوله:
{الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].
فذكر الشاكرين في هذه الآية والتي قبلها، ثم قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ (2) مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا
_________
(1) كتب ناسخ الأصل: “متابعة الرسول”، ثم ضبب على “الرسول”، وأصلح “متابعة” في الطرة.
(2) هذه قراءة أبي عمرو، وهي قراءة المصنف وأهل الشام لعهده.

(9/399)


وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، فذكر الصابرين.
ثم قال: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 147 – 148].
والرِّبِّيُّون: الألوف الكثيرة.
وفي الآية قولان:
* قيل: وكأيِّن من نبيٍّ قُتِل هو، وكان معه رِبِّيُّون كثير.
* وقيل: وكأيِّن من نبيٍّ قُتِل، وقُتِل (1) مع النبيِّ رِبِّيُّون كثير.
والقول الأول يناسبُ كون النبيِّ مقتولًا؛ لقوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ}. والثاني يدلُّ عليه ظاهر اللفظ؛ فإن المشهور لو أريد الأول لما قيل (2): {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} (3).
فأنكَر على من انقلب على عقبيه عند قتل النبيِّ أو موته.
فالله تعالى ذكر الشاكرين الذين يثبتون على الإيمان عند الفتن العظيمة، مثل قتل النبيِّ وموته؛ فإن هذا من أعظم الفتن، ولهذا لما قيل يوم أحد: “قُتِل
_________
(1) كتب الناسخ في الطرة: “لعله كذا: قاتل وقُتِل”. وليس بشيء. والخلاف الذي يحكيه المصنف هو: هل قُتِل النبيُّ وحده أم قُتِل وقُتِل معه الربيون؟
(2) الأصل: “لقيل”، والأشبه ما أثبت، كما يعلم من المصادر التالية.
(3) انظر: “جامع المسائل” (3/ 59 – 62)، و”مجموع الفتاوى” (1/ 58، 14/ 373)، و”الاختيارات” لابن عبد الهادي (131). ولشيخ الإسلام في هذه الآية رسالةٌ في نحو عشر ورقات ذكرها ابن رشيق في أسماء مؤلفاته (223 – الجامع).

(9/400)


محمد” انهزم أكثرُ الناس، ولما مات النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ارتدَّ أكثرُ الناس.
وفي الحديث: “ثلاثٌ من نجا منهنَّ فقد نجا: موتي، وقتلُ خليفةٍ مضطهدٍ (1) بغير حقٍّ، والدَّجَّال” (2).
فموتُ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – كان من أعظم الفتن للناس؛ فإنه ارتدَّ عامَّة الناس إلا المدينة، ومكة، والطائف.
* أما المدينة، فهي دار المهاجرين والأنصار، وهم وإن لم يرتدُّوا لكن ضَعُفَت قلوبُهم، وتغيَّرت أحوالُهم، وجَبُن أكثرُهم (3) عن قتال المرتدين، وشكُّوا في قتال مانعي الزكاة، حتى قام الصِّدِّيقُ خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -،
_________
(1) كذا في الأصل، والصواب: “مُصْطَبِر”، أي صابر، كما هي الرواية في عامة كتب السنة، ولم أغيِّرها لأني رأيتها وقعت كذلك في مواضع من كتب المصنف، ويبعد أن تكون في جميعها من خطأ النساخ، ولعلها رواية وقف عليها أو هو وهمٌ وتحريف. انظر: “بيان تلبيس الجهمية” (2/ 209)، و”منهاج السنة” (4/ 545، 6/ 364)، و”مجموع الفتاوى” (25/ 303).
(2) أخرجه أحمد (22488) وغيره من حديث عبد الله بن حوالة – رضي الله عنه – بسندٍ جيد. وصححه الحاكم (3/ 101)، وخرجه الضياء في “المختارة” (9/ 280)، وهو خير أسانيده.
وروي من حديث عقبة بن عامر – رضي الله عنه -، عند الروياني في مسنده (170)، والطبراني في “الكبير” (17/ 288)، وفي سنده راوٍ لم يعرفه الهيثمي، وهو قاضٍ معروف. انظر: “مجمع الزوائد” (7/ 335)، و”الفرائد على مجمع الزوائد” لخليل العربي (32). إلا أن الحديث معلول، والمحفوظ روايته من حديث عبد الله بن حوالة – رضي الله عنه -، كما جلَّاه الخطيب في “المتفق والمفترق” (1/ 202).
(3) الأصل: “اكثر”. ولعلها: كثير.

(9/401)


فعلَّمهم ما جهلوا، وذكَّرهم ما نَسُوا، وقوَّى قلوبَهم، وأمرهم بالجهاد،
فثبَّت الله عزَّ وجلَّ به الإيمان، حتى أدخل أهل الردَّة من الباب الذي خرجوا منه (1).
* وأما أهل مكة، فأراد من أراد منهم أن يرتدَّ، فقام فيهم سهيلُ بن عمرو خطيبًا بنحوٍ من خطبة أبي بكر الصِّدِّيق بالمدينة، قال: “من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت”، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (2).
والشاكرون هو وأتباعه الذين ثبتوا على الإيمان، المجاهدون عليه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الآية [المائدة: 54]، وهؤلاء هم الذين قاتلَ بهم الصِّدِّيقُ المرتدِّين من الكفَّار، كأهل اليمن، مثل أبي موسى الأشعري وقومه الأشعريِّين الذين قال فيهم النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “هم مني وأنا منهم” (3).
* وأما أهل الطائف، فأراد من أراد منهم الردَّة، فقام فيهم عثمان بن أبي العاص ــ وهو إمامهم وأميرهم ــ فنهاهم عن ذلك، فقال: “كنتم آخر الناس إسلامًا، وتكونون أوَّلهم ردَّة؟! اثبتوا، فإن أقام الله الإسلام كنتم على دينكم،
_________
(1) انظر: “منهاج السنة” (7/ 478).
(2) أخرجه ابن سعد في “الطبقات” (6/ 122)، والبيهقي في “دلائل النبوة” (6/ 367).
(3) أخرجه البخاري (2486)، ومسلم (2500) من حديث أبي موسى – رضي الله عنه -.

(9/402)


وإلا لم تكونوا من أعداء الإسلام”، أو نحو هذا الكلام (1).
وبهذا ظهر لك بعض ما وصف الله به نوحًا وإبراهيم من الشكر.
قال تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، مع أنه مكث في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا، يدعوهم إلى التوحيد، ويصبر منهم على الأذى، فكان من أعظم الناس شكرًا على نعمة الله، لا سيما نعمة الإيمان.
وكذلك الخليل قال تعالى فيه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} الآية [120 – 121].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26].

* الأصل الرابع: أن تعلم أن المصائب نعمة، وذلك لأنها مكفِّراتٌ للذنوب، ولأنها تدعوه إلى الصبر، فيثابُ عليها، ولأنها تقتضي الإنابة إلى الله، والذُّلَّ له، والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة.
ولكنَّ الخير بها نوعان:
أحدهما: يحصل بها نفسها.
والثاني: يحصل بما يفعله المؤمنُ معها من العمل الصالح.
* أما الأول، ففي الصَّحيحين عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “ما يصيبُ المؤمن
_________
(1) انظر: “الاستيعاب” (3/ 1036)، و”الإصابة” (7/ 96).

(9/403)


من وَصَبٍ ولا نصَب، ولا همٍّ ولا حزَن، ولا غمٍّ ولا أذى، حتى الشوكة يُشاكُها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه” (1).
وفي المسند وغيره أنه لما نزلت هذه الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، قال أبو بكرٍ: يا رسول الله، قد جاءت قاصمة الظَّهر، وأيُّنا لم يعمل سوءًا؟! قال: “يا أبا بكر، ألستَ تَنْصَب؟ ألستَ تحزن؟ ألستَ يصيبك اللأواء (2)؟ فذلك مما تُجْزَون به” (3).
وفي الصَّحيحين عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “مثلُ المؤمن مثلُ الخامة من الزَّرع تُفِيئها الرياح، تُقِيمها (4) تارة، وتُمِيلها أخرى. ومثلُ المنافق مثلُ شجرة الأرز، لا تزال قائمَّة على أصلها، حتى يكون انجعافُها مرةً واحدة” (5).
وفي المسند (6) والترمذي وغيرهما أنه قيل: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: “الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبْتَلى الرجلُ على
_________
(1) تقدم تخريجه (ص: 388).
(2) الشدة وضيق المعيشة. وتحرفت في الأصل إلى “البلاء”، وهي على الصواب في سائر كتب المصنف.
(3) أخرجه أحمد (68)، وصححه ابن حبان (2910)، وفي إسناده ضعف، لكن له طرقًا وشواهد يصحُّ بها. وانظر بسط تخريجه في التعليق على التفسير من سنن سعيد بن منصور (4/ 1381 – 1392).
(4) في طرة الأصل: “تقومها”، وفوقها “ن” إشارة إلى نسخة أخرى، وليس أحد منهما في رواية الصحيح، والحديث مروي بألفاظ كثيرة من تصرف الرواة.
(5) أخرجه البخاري (5643)، ومسلم (2810) من حديث كعب بن مالك – رضي الله عنه -.
(6) الأصل: “مسند”.

(9/404)


حسب دينه، فإن كان في دينه صلابةٌ زيد في بلائه، وإن كان في دينه رخاوةٌ خُفِّفَ عنه، ولا يزال البلاءُ بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة” (1).
وفي الحديث: “من يرد الله به خيرًا يُصِبْ منه” (2).
وفي الحديث أن ابن مسعودٍ قال للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: إنك لتُوعَكُ وعكًا شديدًا، قال: “أجل، أوعَك كما يوعَك رجلان منكم، لأن لي الأجر مرتين” (3).
فهذه النصوص وأمثالُها تبيِّن أن نفس البلاء يكفِّر الله به الخطايا، ومعلومٌ أن هذا من أعظم النعم.
ولو كان الرجلُ من أفجَر الناس فإنه لا بدَّ أن يخفِّف الله عذابه بمصائبه، ولو قُدِّر كافرًا، فإذا كان الكافران سواءً في الكفر، وابتُلِي أحدُهما في الدنيا بمصائب، كان عقابُه في الآخرة دون عقوبة الذي لم يُعاقَب في الدنيا، مثل فرعون، فإنه من أشدِّ الناس عذابًا في الآخرة، إذ كان لم يُبْتَل في الدنيا.
فالمصائبُ رحمةٌ ونعمةٌ في حقِّ عموم الخلق، اللهم إلا أن يَدْخُل صاحبُها بسببها في معاصي أعظمَ مما كان قبل ذلك، فتكون شرًّا عليه من جهة ما أصابه في دينه.
فإن من الناس من إذا ابتُلِي بفقرٍ، أو مرضٍ، أو جوع، حصل له من الجزع، والسَّخط، والنفاق، ومرض القلب، أو الكفر الظاهر، أو ترك بعض
_________
(1) أخرجه أحمد (1481)، وابن ماجه (4023) وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه -، وصححه الترمذي (2398)، وابن حبان (2900).
(2) أخرجه البخاري (5645) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) أخرجه البخاري (5648)، ومسلم (2571) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -.

(9/405)


الواجبات، وفعل بعض المحرمات = ما يوجبُ له ضررًا في دينه بحسب ذلك. فهذا كانت العافية خيرًا له، من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة نفس المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبةُ صبرًا وطاعةً كانت في حقه نعمةً دينية.
فهي بعينها فعلُ الربِّ عزَّ وجلَّ رحمةً للخلق، والله محمودٌ عليها، فإن اقترن بها طاعةٌ كان ذلك نعمةً ثانيةً على صاحبها، وإن اقترن بها معصيةٌ كان ذلك من نفس صاحبها، وكان ذلك تحقيقًا لما قدَّمناه أنَّ ما ثَمَّ شرٌّ إلا الذنوبُ وعقوباتها.
* وأما الخير الذي يحصل للمؤمن بالمصيبة، فهذا مما تتنوَّع فيه أحوالُ الناس، كما تتنوَّع أحوالُهم في العافية.
وقد قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} الآية [البقرة: 214]، وقال: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} الآيتين [البقرة: 155 – 156].
فقد أنكر سبحانه على من حسب أنهم يدخلون الجنة بدون الابتلاء بالبأساء وهي الفقر في الأموال، والضرَّاء وهي المرض في الأبدان، وحين البأس والزلزال وهو الخوف من الأعداء (1).
قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ}، فجعل الصبر في
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (10/ 41، 28/ 460).

(9/406)


هذه المواطن الثلاثة من تمام البر والتقوى الذي به يتمُّ الإيمان، كقوله (1) تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الآية [البقرة: 177]، وكذلك قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، فالبشرى وقعت للصابرين.
فمن ابتُلِي، فرُزِق الصبر، كان الصبرُ نعمةً عليه في دينه، وحصل له بعد ما كُفِّر من خطاياه رحمةٌ، وحصل له بثنائه على ربه صلاةُ ربه عليه، حيث قال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، فحصل له غفرانُ السيئات، ورفعُ الدرجات، وهذا من أعظم النعم.
فالصبر واجبٌ على كلِّ مصاب، فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك.
وأما الرضا، فمستحبٌّ في أصحِّ القولين (2)، فمن قام به كان ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه، وقد قال عبد الواحد بن زيد: “الرضا جنَّة الدنيا، وباب الله الأعظم” (3).
* ومن الواجبات التي قد تحصل بالمصيبة: التوبة؛ فإن الله يبتلي العباد
_________
(1) الأصل: “لقوله”. تحريف.
(2) انظر: “الاستقامة” (2/ 74)، و”منهاج السنة” (3/ 204)، و”الفتاوى” (8/ 191، 10/ 40، 682، 11/ 260)، و”جامع الرسائل” (2/ 380)، و”جامع المسائل” (8/ 267)، و”الفروع” (3/ 398).
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا في “الرضا عن الله بقضائه” (13)، ومن طريقه أبو نعيم في “حلية الأولياء” (6/ 156)، والقشيري في “الرسالة” (2/ 342).

(9/407)


بعذاب الدنيا ليتوبوا من ذنوبهم.
قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، وقال تعالى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 – 148].
فمن رزقه الله التوبة بسبب المصيبة كان ذلك من أعظم نعم الله عليه.
* وأيضًا، فمن الخير الذي يحصل بها: دعاء الله والتضرُّع إليه.
كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} إلى قوله: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42 – 43]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76].
ودعاء الله والتضرُّع إليه من أعظم النعم.
فهذه النعمة والتي قبلها من أعظم صلاح الدين؛ فإن صلاح الدين في أن يُعبد الله، ويُتَوكَّل عليه، ولا يُدْعَ مع الله إلهٌ آخر، لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة.
فإذا حصلت لك التوبة التي مضمونها أن تعبد الله وحده، وتطيع رسله، بفعل المأمور وترك المحظور، كنتَ ممن يعبد الله.

(9/408)


وإذا حصل لك الدعاء الذي هو سؤال الله حاجاتك، فتسأله ما تنتفع به، وتستعيذ به مما تستضرُّ به، كان هذا من أعظم نعم الله عليك.
[وهذا] كثيرًا ما يحصُل بالمصائب؛ [لأمرين] (1):
* أما الأول، فإن المصيبة يَرِقُّ معها القلبُ ويخشع، وتَذِلُّ النفسُ، فتنقاد لفعل المأمور وترك المحظور.
وأما مع حصول الرياسة، والمال، والعافية في النفس والأهل، فإن
{الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَأَىهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 – 7]، والنفس حينئذٍ لا تستجيبُ لفعل المأمور وترك المحظور، بل تتعدَّى الحدود، وتنتهك المحارم، وتضيِّع الواجبات الباطنة والظاهرة، من الإخلاص، والتوكُّل، والصبر، والشكر، وحقوق الرب عز وجل (2) وحقوق عباده، ويحصل لها من الاستكبار، والخيلاء، والإعجاب، والرياء، ما هو من أضرِّ الأمور بها.
* وأما الثاني، فلأن المصيبة توجبُ قطعَ تعلُّق قلبه بالمخلوق إذا أيِسَ [من] زوالها بالمخلوق، كالمرض الذي أعيا الأطبَّاء، والفقر الذي لم يرجُ (3) معه أحدًا يزيله، والخوف الذي ليس فيه نصرٌ لمخلوق (4).
والنفسُ تطلبُ جلبَ المنفعة ودفعَ المضرَّة من حيث ترجو ذلك، ولو
_________
(1) ما بين المعقوفات زيادات تقديرية لالتئام السياق.
(2) سقطت الجملة من الأصل، واستدركتها من نسخة المحمودية (ق 30/أ).
(3) الأصل: “يرجوا”.
(4) كذا في الأصل، أي: نصرٌ من مخلوق.

(9/409)


كان بتوهُّمٍ (1) وخيال، فبهذا (2) يَغْلِبُ عليها الشركُ أولًا بتعلُّقها بمن (3) ترجوه لجلب المنفعة كتحصيل (4) الرِّزق، أو لدفع المضرَّة كقهر العدو، بمثل الإخوان والأصدقاء، ومثل الأقارب (5) والجيران، ومثل الملوك والولاة والقضاة، ومثل المشايخ والعلماء، ومثل قبور الصالحين والأنبياء. فإذا أيِسَت من الخلق أقبلت على الله، فدَعَت الله مخلصةً له الدين، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} الآية [يونس: 12] (6).
* ومن الخير الذي قد يحصل بالمصائب: [أنه] إذا حصلت له التوبة، والإنابة إلى الله، والاستكانة له، والتضرُّع = ذاق طعمَ الإيمان، ووَجَد حلاوة حبِّ الله ورسوله، فعَظُمَ إيمانُه علمًا وعملًا، وذاق من حلاوة ذلك ولذَّته ما لم يكن ذاقه قبل ذلك؛ لأن هوى النفس وعاداتها (7) الفاسدة كانت حجابًا له عن ذَوْقِ طعم الإيمان وَوَجْدِ (8) حلاوته، فلمَّا حصل البلاءُ أزال هوى النفس، فارتفع الحجاب، وذاق العبد حلاوة الإيمان.
_________
(1) الأصل: “توهم”. والمثبت أشبه.
(2) الأصل: “فهذا”. وما أثبت أظهر.
(3) الأصل: “بتعلق من”. ولا يستقيم.
(4) الأصل: “وتحصيل”. تحريف.
(5) الأصل: “الارقاب”. من سهو الناسخ.
(6) انظر: “الرد على الشاذلي” (11)، و”مجموع الفتاوى” (10/ 650).
(7) الأصل: “عادتها”. والمثبت من نسخة المحمودية.
(8) المراد بالوجد هنا الوجود والوجدان، كما فسَّره ابن القيم في “مدارج السالكين” (2952)، لا الوجد الذي هو لهيب القلب. وهو استعمال مولد يقع في كلام ابن تيمية وغيره. انظر: “مجموع الفتاوى” (10/ 327)، و”جامع المسائل” (1/ 128).

(9/410)


مثل رجلٍ كان يُدْعى إلى أنواعٍ من المآكل الطيبة، والصور الجميلة، فلا يجيبُ إلى ذلك؛ اشتغالًا بما اعتاده في بلده من المآكل الرديَّة، والمناكح الرديَّة، فأسَرَه عدوُّه أو حَبَسه، وجعل يُطْعِمه في سجنه من تلك المآكل الطيبة، وأنكَحه من تلك المناكح التي كانت في بلده، وكان يُنْكِرها أولًا، فذاق ما لم يكن ذاقه، فلما أخرجوه من السجن، وأطلقوه من الأسر، أقام عندهم في بلدهم ولم يرجع إلى بلده؛ لما وجده من الطِّيب الذي لم يكن ذاقه، لا سيَّما إذا كان دينُهم خيرًا من دينه، فيذوق حلاوة الدين والدنيا، كما يحصلُ لكثيرٍ من التَّتر إذا أسَرَهم المسلمون أو استرقُّوهم، ثم نقلوهم إلى عسكر المسلمين، فيذوقون في الرقِّ والأسر من حلاوة الدين والدنيا ما لم يكونوا يذوقونه في أوطانهم وهم أحرارٌ طلقاء.
والمرض سِجنُ الله، وكذلك سائر المصائب إذا رُزِق العبد فيها الإنابة حصل له من ذَوْقِ طعم الإيمان ووجود (1) حلاوته ما لم يكن ذاقه، لا سيَّما إن حصل له مع ذلك نعيمٌ في بدنه ومسكنه، فيكون قد جمع نعيمَ الدين والدنيا هذا في نعمةٍ حاضرةٍ محسوسة.
فعليه أن يشكر الله سبحانه وإن كان مأمورًا بالصبر؛ فإن العبد في الحال الواحدة مأمورٌ بالصبر والشكر، فيصبر لما يجدُه من المرض، ويشكر لما يراه من النعمة الظاهرة.
فعليه أن يصبر فيها على أداء الواجبات، وترك المحرمات؛ فإن النعمَ
_________
(1) كذا في الأصل، وهو الجادة، ويقع كذلك في مواضع من كتب ابن تيمية، وأخشى أن يكون من إصلاح النساخ أو الناشرين. انظر: “اقتضاء الصراط” (2/ 220)، و”جامع الرسائل” (2/ 363)، و”جامع المسائل” (8/ 253)، وغيرها.

(9/411)


الظاهرة من المال والعافية والانتصار على العدوِّ تَبْسُط (1) هوى النفس، فيحصُل لها [من] العدوان والطغيان، والظلم والفواحش، والإعراض عما يجب عليها لله من حقيقة العبودية، والإخلاص له، والتوكُّل عليه، والخوف منه، والإنابة إليه = ما هو من أعظم الضرر في حقِّها.
فإن لم يصبر في السَّرَّاء وإلا هَلَك.
والصبر في السَّرَّاء أعظمُ الصَّبْرَين، كما قال عبد الرحمن بن عوف: “ابتُلِينا بالضرَّاء فصبرنا، وابتُلِينا بالسرَّاء فلم نصبر” (2).
وقال بعض العارفين: “البلاء يصبر عليه المؤمن، ولا يصبر على العافية إلا كلُّ صدِّيق” (3).
وإذا ابتُلِي بمصيبةٍ ظاهرةٍ فعليه الشكر، كما قد بسطنا الكلام فيه، وهو أعظمُ الشُّكريْن.
والشكر في الضرَّاء واجب، وأما الشكر في السرَّاء والصبر في الضرَّاء فوجوبُه ظاهرٌ لعموم الناس.
وإنما المقصود أنه لا بدَّ من الشكر والصبر في كلِّ حال، وهذا يكون على وجهين:
* أحدهما: أنه في الحال الواحدة يُبتلى بنعمةٍ توجبُ شكرًا، ومحنةٍ
_________
(1) مهملة مشتبهة في الأصل.
(2) أخرجه هناد في “الزهد” (2/ 397)، والترمذي (2464) وقال: “هذا حديثٌ حسن”، وخرجه الضياء في “المختارة” (3/ 123).
(3) انظر: “قوت القلوب” (1/ 331)، و”الإحياء” (4/ 69).

(9/412)


توجبُ صبرًا.
والعبد في كلِّ حالٍ هو في نعم الله التي توجبُ الشكر، وهو محتاجٌ إلى الصبر على فعل المأمور مع مخالفة هواه، وترك المحظور مع مخالفة هواه، والصبر على المقدور مع جزَع النفس.
وليس للعبد حالٌ إلا وهو مأمورٌ فيها بفعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور.
وهذه الثلاثة فرضٌ على كلِّ أحد، محتاجٌ إليها في كلِّ وقت، ولا يكون العبد من المؤمنين المتقين إلا بها، والناس يتفاضلون في هذا بحسب تفاضلهم فيها، وبها يصير العبد من أولياء الله المتقين، وجنده المفلحين، وحزبه الغالبين.
* والثاني: أن نفس الأمر الواجب يتضمَّن نعمةً توجبُ شكرًا، أو يتضمَّن ألمًا يوجبُ صبرًا، فعليه أن يكون في ذلك الأمر الواحد صابرًا شاكرًا، كالذي يشرب الدواء الكَرِيه، فعليه أن يصبر على مرارته، ويشكر الله إذ يسَّر له ما يزيلُ عنه مرضه.
والله تعالى محمودٌ على كلِّ حال، وفي الحديث: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أتاه الأمرُ الذي يُسَرُّ به قال: الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وإذا أصابه الأمرُ الذي يكرهُه قال: الحمد لله على كلِّ حال” (1).
_________
(1) أخرجه ابن ماجه (3803)، والطبراني في “الأوسط” (6663) وغيرهما من حديث عائشة – رضي الله عنها -، وصححه الحاكم (1/ 499)، والبوصيري في “مصباح الزجاجة” (3/ 192)، وجوَّد إسناده النووي في “الأذكار” (320)، وليس كذلك، فإنه من رواية زهير بن محمد التميمي، وفي حديث أهل الشام عنه مناكير، وهذا منها.
وروي مرسلًا من وجه آخر. أخرجه أبو داود في “المراسيل” (532)، وقال: “روي متصلًا، وفيه أحاديث ضعاف، ولا يصح”.
وله شواهد من حديث علي وابن عباس وأبي هريرة – رضي الله عنهم -، لا يصحُّ منها شيء، والقول فيه ما قال أبو داود – رحمه الله -.

(9/413)


والجمع بين الصبر والشكر يحتاجُ إلى كلامٍ أبسط من هذا، والمقصود هنا التنبيه على نعم الله التي تحصل بالمصائب، وبيان ما على العبد من الشكر في مصائبه.

* الأصل الخامس: أن المصيبة التي تحصلُ بسبب العمل الصالح هي أعظمُ قدرًا؛ فإنها من العمل الصالح الذي يثابُ عليه، كجُوعِ الصائم وعطَشِه، وكتعب المسافر في حجٍّ، أو جهادٍ، أو طلب علمٍ، أو هجرةٍ في سبيل الله، أو تجارةٍ يستعينُ بها على طاعة الله، فإنه ما يحصلُ له من تعبٍ، وجوعٍ، وعطشٍ، وسهرٍ، وخوفٍ، وذهاب مالٍ، ونحو ذلك، حاصلٌ بفعله الاختياري الذي يفعله لله، مبتغيًا به وجهَ الله، فهذا مع ما يحصلُ له من تكفير السيئات، يُكْتَبُ له به عملٌ صالح، بخلاف المصيبة التي لم تحصل عن طاعة الله، كما تقدم التنبيه على ذلك.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، ثم قال: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 120 – 121]، فالإنفاق وقطعُ المسافة هي عملُهم القائم بذاتهم، فقال فيه:

(9/414)


{إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ}، ولم يقل: “به عملٌ صالح”؛ فإنه نفسه عملٌ صالح، وأما ما تَقَدَّمه فإنه ليس هو عملهم القائم بذاتهم، ولكن تولَّد بسببه وسبب غيره.
ولهذا تنازع النُّظَّار في هذه الأعمال الحادثة بسبب فعلٍ اختياري من العبد، كالجوع، والعطش، والتعب، وخروج السَّهم من كبد القوس، وقطع العنق وزهوق الرُّوح عند تحريك اليد بالسِّلاح، كالسَّيف والسِّكِّين، ونحو ذلك (1).
فقال من قال من القدريَّة والمعتزلة وغيرهم: إن هذا فعلٌ للعبد. وجعلوا أفعال العباد قسمين: مباشر، ومتولِّد. واحتجُّوا بأنه يثابُ على ذلك، ويعاقبُ عليه.
فقال لهم الجمهور: قد يحصل الثوابُ والعقابُ بما يحصلُ عن فعله، وإن لم يكن من فعله بالاتفاق، مثل من دعا إلى هدى، فإن له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا (2)، مع أن هدى هؤلاء وضلال هؤلاء هو باختيارهم، وهم يثابون عليه، ويعاقبون عليه (3).
_________
(1) انظر: “منهاج السنة” (1/ 284، 3/ 338)، و”الصفدية” (1/ 150)، و”الرد على البكري” (431)، و”مجموع الفتاوى” (8/ 522، 17/ 531)، و”جامع المسائل” (7/ 43، 8/ 62).
(2) أخرجه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) انظر: “درء التعارض” (9/ 31)، و”جامع المسائل” (4/ 267).

(9/415)


وفي الصَّحيحين عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “لا تُقْتَلُ نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها؛ لأنه أول من سَنَّ القتل” (1)، مع أن قابيل عليه إثمُ قتل نفسٍ (2).
وقال نفاة الأسباب والحكمة من مُثْبِتة القدر: بل هذه من أفعال الله تعالى التي ليس لقدرة العبد فيها تعلُّقٌ بوجهٍ من الوجوه.
قالوا: لأن قدرة العبد إنما تؤثِّر في محلِّها، ومحلُّ القدرة هو نفسُه وبدنُه، فأما ما خرج عن ذلك فليس محلًّا لقدرته، فلا يكون محلًّا لتأثيرها.
ولهؤلاء كلامٌ وتنازعٌ في تأثير قدرة العبد ليس هذا موضعه.
وهذا قول أبي الحسن ومن وافقه من المتكلمين والفقهاء، كالقاضي أبي بكرٍ ونحوه، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي الجويني، وأتباعهما.
وحُكِي عن بعض أهل الكلام أنه قال: هذا حادثٌ لا فاعل له (3).
والصواب ــ مع قولنا: إن الله خالقُ كلِّ شيء، خلافًا للقدريَّة ــ أن هذه الحوادث حاصلةٌ عن فعل العبد، وعن الأسباب الأُخَر التي بها حصل ذلك، ففعلُ العبد مشاركٌ في حصولها، ليس مستقلًّا بحصولها؛ فإن الشِّبَع إنما يحصُل مع بَلْعِ الأكل ومَضْغِه، مع ما في الطعام من قوَّة التغذية، وما في المعدة والبدن من القبول لذلك، وهذا لا قدرة له عليه، فأكلُه مشارِكٌ في حصول
_________
(1) أخرجه البخاري (3335)، ومسلم (1677) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -.
(2) الأصل: “نفسه”، وهو تحريف، أي: إثم قتل نفس واحدة.
(3) حكي هذا عن ثمامة بن أشرس، من رؤوس المعتزلة. انظر: “الفرق بين الفرق” (95، 319، 328)، و”درء التعارض” (9/ 104).

(9/416)


الشِّبَع لا فاعلٌ للشِّبَع، ولم يحصُل الشِّبَعُ بدون أكله.
وكذلك هدى المهتدين، وضلال الضالين، حصل بسبب الدُّعاة، وبسبب استجابة المدعوِّين (1)، وكلاهما أثَّر في حصول الهدى والضلال.
وهذا بناءً على ثبوت الأسباب في المخلوقات، وأن الله سبحانه يخلقُ الأشياء بالأسباب. وهذا مذهبُ السَّلف والأئمَّة، وسائر أنواع أهل العلم من الفقهاء وغيرهم، والعامة.
ولهذا قال تعالى في هذا النوع المتولِّد بسبب فعلهم وغير فعلهم:
{كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}، فلم يجعله نفسَ (2) عملهم كما قالت القدريَّة، ولم يجعله أجنبيًّا عن عملهم كما قالت نفاة الأسباب المُثْبِتة، بل أخبر أنه يُكْتَبُ لهم به عملٌ صالح؛ لمعاونتهم عليه.
كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “من جهَّز غازيًا فقد غزا، ومن خَلَفَه في أهله بخيرٍ فقد غزا” (3)، ونظيره قوله – صلى الله عليه وسلم -: “من فطَّر صائمًا فله مثلُ أجره” (4)؛ لأنه أعان على ذلك، فحصل الصومُ بمال هذا وعمل هذا.
فإذا عُرِفَ هذا، فالأنبياء الذين بلَّغوا الرسالة، فحصَل (5) لهم بذلك
ظمأٌ ونَصَبٌ وأذى الخلق، يُكْتَبُ لهم بذلك عملٌ صالح، لا يكونُ أذى
_________
(1) الأصل: “المدعوابه”. تحريف.
(2) الأصل: “نفسه”. تحريف.
(3) تقدم تخريجه (ص: 329).
(4) تقدم تخريجه (ص: 329).
(5) الأصل: “يحصل”. والمثبت أظهر.

(9/417)


الخلق مجرَّد مصيبةٍ لهم، كمن أوذي بغير عملٍ صالح عَمِلَه (1).
وكذلك من أمَر بمعروفٍ ونهى عن منكر، فضُرِبَ أو شُتِمَ أو مُنِعَ حقَّه، فإنه يُكْتَبُ له من عمله الصالح الذي يؤجرُ عليه.
وكذلك المجاهد الذي جُرِحَ أو قُتِل، يُكْتَبُ له جرحُه وقتلُه من عمله الصالح، وإن لم يكن ذلك مِن فعلِه، بل بفعل العدوِّ الكافر.
وليس هذا كمن قُتِل مظلومًا غير مجاهد؛ فإن ذلك قُتِل بغير عملٍ صالح.
ولهذا كان الأولُ أعظمَ الشهداء، فلا يُغَسَّل باتفاق الأئمَّة، كما في الصَّحيح عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه لما أُتِيَ بشهداء أحدٍ قال: “زَمِّلُوهم بكُلُومِهم ودمائهم؛ فإن أحدهم يأتي يوم القيامة وجرحُه يَثْعَبُ دمًا، اللونُ لونُ الدم، والريحُ ريحُ المسك” (2).
وليس هذا لكلِّ مقتولٍ ظلمًا؛ فإن هؤلاء قُتِلوا لمَّا اختاروا الجهاد في سبيل الله.
قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا
_________
(1) استدركها الناسخ في الطرة إلا أنه رسمها: “علمه”، وهو تحريف.
(2) أخرجه أحمد (23657)، والنسائي (2002)، وغيرهما من حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير – رضي الله عنه -، وخرجه الضياء في “المختارة” (9/ 115). وأصله في البخاري (1343)، وهو أصح. وفي إسناده اختلاف. انظر: “العلل” لابن أبي حاتم (1105)، و”العلل” للدارقطني (13/ 373)، و”التتبع” (368)، و”هدى الساري” (356).

(9/418)


وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} الآية [آل عمران: 195]، فأخبر أنه يكفِّر عنهم السيئات، وأنه يُدخِلهم الجنَّات، ثوابًا من عنده، والثوابُ على العمل.
وأطلَقَ الثوابَ، ولم يقل: على بعض ما ذُكِر، بل الثوابُ مطلق، مع أنه ذَكَر مع هجرتهم التي هي حركةٌ اختياريةٌ كونَهم أُخرِجوا من ديارهم؛ فإن ذلك إكراهٌ لهم على الخروج، فهم اختاروا مفارقة الكفَّار ليُقِيموا دينَهم، ولكنَّ الكفَّار بعداوتهم أكرهوهم على هذه المهاجَرة، وإن لم يقصدوا هم إخراجَهم، لكنَّ عداوتَهم ألجأتهم إليها.
ثم قال تعالى: {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي}، وهذا مِن فعلِ غيرهم. ثم قال:
{وَقَاتَلُوا} وهذا فعلُهم، {وَقُتِلُوا} وهذا مِن فعلِ غيرهم.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74]، فوعَدَه بالأجر العظيم على كلا التقديرَين.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4]، وفيها قراءتان مشهورتان: {قُتِلُوا} و {قاتَلوا} (1).
وأيضًا، فالشهيدُ يُثْنَى عليه بالشهادة، ومعظمُ الشهادة إنما حصَل بفعل الكافر، وهو قتلُه للشهيد، فلو لم يكن للشهيد في كونه قُتِلَ عملٌ يثابُ عليه لكان قتلُه مصيبةً من المصائب التي تُكَفَّر بها الخطايا ولا يثابُ عليها، لكن [يثابُ] على الصبر عليها، مع أنه بعد الموت لا يؤمرُ بصبرٍ.
_________
(1) قرأ بالأولى أبو عمرو وحفص عن عاصم، وبالثانية الباقون. انظر: “السبعة” لابن مجاهد (600)، و”الحجة” لأبي علي (6/ 190).

(9/419)


وليس الأمرُ كذلك؛ لأن الشهيد أقدَم باختياره على القتال، صابرًا على الأهوال، محتسبًا ذلك عند الله، لتكون كلمة الله هي العليا، ولهذا قيل: يا رسول الله، أيُفْتَنُ الشهيدُ في قبره؟ فقال: “كفى ببريق السيف فتنة” (1).
ولا بدَّ أن يكون ممن يختارُ القتلَ إذا وقعَ به، لا يَسْخَط ذلك.
ففعلُه لسببه الذي أُمِرَ به حصَل له به عملٌ صالح، وكذلك كلُّ ما يحصُل من أنواع المصائب بسبب طاعة الله ورسوله، في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد باللسان واليد في سبيل الله عزَّ وجلَّ؛ فالمصيبة الحاصلةُ بسبب ذلك في ذلك من نعم الله في سائر المصائب (2)، وتمتازُ هذه بأنها من أفضل أعماله الصالحة التي يثابُ عليها، كما يثابُ الشهيدُ على كونه يُقْتَل.
وهذا الأصلُ يتناول كلَّ ما يؤذى به العبد في سبيل الله، سواءٌ كان جهادًا أو لم يكن، وسواءٌ كان الأذى بأفعال العباد أو لم يكن، كالجوع والنَّصَب الحاصل في سفر الجهاد والحجِّ وصوم الصَّائم؛ فإن هذا الأذى من الله عزَّ وجلَّ يشاركُ المصائبَ في كونه مصيبةً، ويمتازُ عنها بكونه له به عملٌ صالح.

* [الأصل] السادس: أن الأعمال الصالحة كلَّها من أعظم نعم الله على عبده المؤمن، وهي مستوجبةٌ لأعظم الشُّكر؛ إذ هي من الله، كما قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17].
_________
(1) أخرجه النسائي (2053) من حديث راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإسناده صحيح، ولفظه: “كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة”.
(2) أي كنعم الله في سائر المصائب.

(9/420)


وشهودُ هذا للقلب يدفعُ عنه العُجْبَ بها، والفخر، ونحو ذلك مما يحصلُ بإضافة ذلك إلى النفس.
وفي الحديث الصَّحيح عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “أوحِيَ إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد” (1).
وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
والناسُ في هذا المقام أربعُ طبقات (2):
* فخيرُ الناس: أهلُ الإيمان المحض، الذين يشهدون نعمة الله في الطاعة، ويشهدون ذنوبهم في المعصية، كما في الحديث الصَّحيح الإلهيَّ: “يا عبادي، إنما هي أعمالُكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه” (3).
* وشرُّ الناس: الذين يشهدون أنفسَهم فاعلةً للطاعات، ويشهدون المعاصي أنها من القَدَر، فيضيفونها إلى الله، كما قال بعض العلماء: “أنت عند الطاعة قَدَرِيٌّ، وعند المعصية جَبْرِيٌّ، أيُّ مذهبٍ وافق هواك تمذهبتَ به” (4).
والأولون إذا عملوا طاعةً لله عزَّ وجلَّ، أو أحسنوا إلى أحدٍ من خلقه،
_________
(1) أخرجه مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار – رضي الله عنه -.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (8/ 107، 332).
(3) أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر – رضي الله عنه -.
(4) القول لابن الجوزي في “المدهش” (264)، ولفظه: “أنت في طلب الدنيا قدريٌّ، وفي طلب الدين جبريٌّ، أي مذهب وافق غرضك تمذهبت به”. ونسبه إليه شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (8/ 446، 16/ 248).

(9/421)


شكروا الله الذي أعانهم على ذلك ويسَّرهم لليسرى، فلم يروا لهم أمرًا يَمُنُّون به على الخلق، ولا يُدِلُّون به على الخالق؛ إذ كان ذلك من نعمة الله عليهم وعلى الناس.
وأما الآخرون، فهم إن فعلوا مع أحدٍ خيرًا مَنُّوا به عليه، وآذوه، وربما اعتدوا عليه وظلموه. وإن فعلوا فاحشةً قالوا:
ألقاه في البحر مكتوفًا وقال له: … إيَّاكَ إيَّاكَ أن تبتلَّ (1) بالماء (2)
يحتجُّون على ربهم بحجةٍ داحضةٍ عند ربهم، تُغَلِّظُ ذنوبهم، وتزيدُهم شرًّا، من جنس احتجاج المشركين الذي قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148].
وإن عمل أحدٌ معهم ما يكرهونه لم يضيفوا ذلك إلا إليه، وقد يكون عادلًا عاملًا (3) بحقٍّ، ولا يشهدون القَدَر في هذا الموضع، مع أن ذلك المؤذي إن كان ظالمًا فالذي سلَّطه عليهم ليس بظالم، فكيف إذا كان هو عادلًا فيهم، مطيعًا للشرع؟!
والربُّ عادلٌ في خلقه وأمره، منزَّهٌ عن الظلم، كما في الحديث الصَّحيح الإلهيَّ: “يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا
_________
(1) الأصل: “تقبل”. تحريف.
(2) ثاني بيتين للحلاج في ديوانه (179)، و”وفيات الأعيان” (2/ 143).
(3) مهملة في الأصل رسمها قريبٌ من “قالا”، والمثبت أشبه بسياق الكلام، ويحتمل أن تكون: قائما، من القيام بالحق.

(9/422)


تظالَموا” (1).
فهذا الضربُ لا هم مع قَدَرٍ ولا شرع، بل هم مع هواهم، يَمْدَحون من القَدَر والشرع ما وافق هواهَم، ويَذُمُّون ما خالف هواهم، وهؤلاء شرارُ الخلق، ومن سلَكَ طريقتَهم فطَرَدَها قادته إلى الانسلاخ من دين الإسلام، بل إلى ما هو شرٌّ من حال اليهود والنصارى.
* وأما الطبقة الثالثة (2): فهم الذين ينظرون إلى الشرع لهم وعليهم، ولا ينظرون إلى القَدَر، يتحرَّون فعلَ الحسنات وتركَ السيئات، لكن يُضِيفون هذا وهذا إلى أنفسهم، ومن آذاهم انتَصَفُوا منه، ولم يجعلوا ذلك مما ابتلاهم الله به.
وهذا مذهبُ القدريَّة، وكثيرٌ من الناس حالُه حالُهم، وإن لم يكن اعتقادُه اعتقادَهم.
وهؤلاء مطيعون لله عزَّ وجلَّ في امتثال أمره، لكنهم عاصون لله في ترك الإيمان بقَدَرِه، والصبر على ما ابتلاهم به، فيفوتُهم من طاعة الله التي أمرهم بها، من الإيمان بالقَدَر، والصبر على أذى الخلق، ما لا يعلمُه إلا الله تعالى، ويقعون في أنواعٍ من الذنوب والمعاصي بهذا السبب.
* وأما الطبقة الرابعة (3): من (4) ينظر إلى القدر فيما يفعله هو ويفعله
_________
(1) أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر – رضي الله عنه -.
(2) رسمت كلمة “الثالثة” في الأصل رقمًا، هكذا: “الطبقة 3”. ولعله من الناسخ.
(3) رسمت كلمة “الرابعة” كذلك في الأصل رقمًا.
(4) جواب “أما”.

(9/423)


غيرُه.
وهذا لو أمكن طردُه لكان مذهبًا يقال، وهو دون مذهب القدريَّة، لكنه لا يمكنُ طردُه، ولم يذهب إليه طائفةٌ من بني آدم، وإنما هو في الإرادات والأعمال من جنس السفسطة في الاعتقادات والأقوال، وهو أمرٌ يَعْرِض لكثيرٍ من الناس، بل للإنسان (1) في كثيرٍ من أحواله، وليس هو مذهبًا يصيرُ إليه (2) طائفةٌ من بني آدم.
وذلك أن الإنسان مجبولٌ على حبِّ ما ينفعُه وبغض ما يضرُّه، فما يمكن أن يستوي عنده جميعُ الحوادث المقدَّرة، حتى يكون الخبزُ والترابُ عنده سواء، والبولُ والماء عنده سواء، ومن يعطيه ما يحتاجُ إليه و [من] يمنعه ما يحتاجه عنده سواء؛ فإن هذا ممتنعٌ عقلًا وطبعًا، كما هو مذمومٌ عُرفًا وشرعًا (3).
وإذا كانت الأعمال الصالحة من أعظم نعم الله، فكلما كان العملُ أفضلَ كانت النعمةُ به أتمَّ.
والجهادُ سنامُ العمل، كما في حديث معاذٍ المعروف عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة، وذروةُ سنامه الجهادُ في سبيل الله” (4).
_________
(1) الأصل: “الإنسان”.
(2) الأصل: “عليه”. والمثبت أقوم.
(3) انظر: “الرد على البكري” (747)، و”مجموع الفتاوى” (8/ 106، 14/ 356).
(4) أخرجه أحمد (22016)، وابن ماجه (3973)، والترمذي (2616) من حديث أبي وائل عن معاذ – رضي الله عنه -، وقال الترمذي: “حديثٌ حسنٌ صحيح”، وأعله ابن رجب في “جامع العلوم والحكم” (2/ 135) من وجهين.

وروي من وجوه أخرى عن معاذ – رضي الله عنه -. انظر: “العلل” للدارقطني (6/ 73)، و”إرواء الغليل” (2/ 138).

(9/424)


(1) فيظن أن الجهاد هو الثلاثة، وهذا إن كان محفوظًا فالمراد به أن الجهاد يتضمَّن الثلاثة؛ فإن المجاهد لا بدَّ أن يكون مسلمًا مقيمًا للصلاة، فمع الجهاد تحصُل له الثلاثة، وإلا فحقيقة الأمر ما في الرواية المفصَّلة: “رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة، وذروةُ سنامه الجهاد”.
قال الإمام أحمد: “لا يَعْدِلُ الجهادَ عندي شيء” (2).
ونصوص الكتاب والسُّنَّة تدلُّ على أنه أفضلُ من غيره، ولهذا قال الفقهاء (3): إنه أفضلُ ما تُطُوِّعَ به.
والتحقيق أنه أفضل من جميع الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله؛ فإنه مكمِّلٌ لمقصود الإيمان بالله ورسوله.
فإذا كان فرض عينٍ قُدِّم على كلِّ ما يزاحمه من فروض الأعيان، يُقَدَّم على إيتاء الزكاة، وعلى الصيام، وعلى الحجِّ، وعلى برِّ الوالدين، وعلى طاعة السيِّد والأب، وعلى قضاء الدَّين.
_________
(1) بياض في الأصل بمقدار سطرين. ولا ريب أنه ذكر فيه اللفظ الآخر الذي يروى به الحديث: “رأس الأمر وعموده وذروة سنامه الجهاد”، وهو عند ابن ماجه (3973)، وانظر: “جامع المسائل” (8/ 164).
(2) انظر: “المغني” (4/ 481، 13/ 18)، و”شرح العمدة” لابن تيمية (3/ 714).
(3) متأخرو فقهاء الحنابلة. انظر: “الهداية” (207)، و”المحرر” (2/ 170)، و”الفروع” (2/ 343).

(9/425)


ولهذا قال الفقهاء: إذا حَضَر (1) العدوُّ بلدًا وجب الجهادُ على كلِّ أحدٍ، حتى يغزو العبد بدون إذن سيده، والولدُ بدون إذن والده، والمرأة بدون إذن زوجها، والغريمُ بدون إذن غريمه.
وأما الصلواتُ الخمس، فإن أمكن الجمعُ بينها وبين الجهاد، كما في صلاة الخوف في غير وقت القتال، فلا مزاحمة بينهما، فيجبُ فعلُهما جميعًا؛ فإن الصلاة عمود الدين، وهذا ذروة سنامه، فلا يقوم أحدُهما إلا بالآخر.
وإن ازدحما، كما في وقت المُسَايَفَة، ففيه ثلاثة أقوالٍ للفقهاء (2):
أحدها: أنه يجمع بينهما، فيصلي صلاةً خفيفةً مع قتاله. وهذا قولُ أكثرهم، كمالك، والشافعي، وأحمد في أشهر الروايتين عنه.
والثاني: أنه يُخَيَّر بين تقديم الصلاة وتأخيرها بحسب المصلحة. وهذا هو الرواية الثانية عن أحمد، وقول طائفةٍ من الفقهاء.
واحتجَّ هؤلاء بما ثبت في الصَّحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال لأصحابه: “لا يصلِّينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة” (3)، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا: لم يُرِد منا تفويتَ الصلاة، وبعضهم قال: لا نصلي إلا في بني قريظة، فأخَّروها حتى غربت الشمس، فبلغ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، فلم
_________
(1) مهملة في الأصل. وانظر لترجيح إعجامها: شرح الزركشي على الخرقي (6/ 428)، و”الإنصاف” (4/ 118).
(2) انظر: “المغني” (3/ 316)، و”جامع المسائل” (3/ 328، 5/ 353، 6/ 317).
(3) أخرجه البخاري (946)، ومسلم (1770) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.

(9/426)


يُعَنِّف (1) واحدةً من الطائفتين.
فقال هؤلاء: هذا دليلٌ على جواز تقديمها في الوقت، وتأخيرها عنه، عند الضرورة.
والقول الثالث: أنه يؤخِّرها عند المُسَايَفَة إلى أن تنقضي المُسَايَفَة، ثم يصلِّيها ولو بعد الوقت، كما هو مذهب أبي حنيفة.
واحتجُّوا بتأخير النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة يوم الأحزاب، فصلَّى العصر بعد ما غربت الشمس، وقال: “ملأ الله قبورَهم وبيوتَهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس” (2).
ومن نصَر القول الأول قال: هذا منسوخٌ بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} الآية [البقرة: 238]، وأن هذه الآية نزلت بعد ذلك لمَّا أخَّر صلاة العصر، ولهذا قال عقيبها: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}.
وبهذا يجيبون عن تأخير من أخَّرها إلى بني قريظة، يقولون: هذا كان قبل الفتح والأمر بالمحافظة [على الصلاة] وقت الخوف.
وطائفةٌ من الفقهاء أجابوا عن هذا بجوابٍ آخر، وقالوا: إن التأخير كان باجتهادهم، فلم يُعَنِّفهم؛ لأن المجتهد المخطئ لا إثم عليه.
وكذلك يقول من قال: كان فرضُهم تأخيرَها، يقول: لم يَذُمَّ المتقدِّمين، لأنهم كانوا مجتهدين.
_________
(1) في طرة الأصل: “يَعِب”. وفوقها خـ، إشارة إلى أنها كذلك في نسخة أخرى.
(2) أخرجه البخاري (2931)، ومسلم (627) من حديث عليٍّ – رضي الله عنه -.

(9/427)


فحديثُ بني قريظة يجيبُ عنه أهلُ القول الأول بجوابين، وأهلُ الثالث بجوابٍ واحد.
وأهل القول الثاني يجيبون عن حديث الخندق بأنه يدلُّ على الجواز، ونحن نقول به.
وأما أهل القول الثالث، فيحتجُّون في جواز التأخير بخبر بني قريظة، يقولون: إنما لم يَذُمَّ المتقدِّمين، لأنهم كانوا مجتهدين مخطئين.
وأهل القول الأول يقولون: جواز التأخير منسوخ، كما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّة، ولهذا كان أكثر الفقهاء عليه.
وعلى كلِّ قول، فمصلحة الجهاد الواجب مأمورٌ به (1)، لا يجوز أن يُفَوَّتَ الجهادُ المتعيِّنُ لا لصلاةٍ ولا غيرها، بل إما أن تُخَفَّف الصلاة، وإما أن تؤخَّر.
ولهذا قال عمر: “إني لأجهِّز جيشي وأنا في الصلاة” (2)؛ لأن ذلك كان من باب الجهاد الواجب عليه، فلم يكن ليدَعَه لأجل الاشتغال بالصلاة، كحال المصلِّي وقت المُسَايَفَة والخوف، فإنه لا يكونُ كحاله عند الأمن (3)، ولهذا قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239].
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) علَّقه البخاري في صحيحه (2/ 67)، ووصله ابن أبي شيبة (8034) بسند صحيح. وانظر: “فتح الباري” (3/ 90)، و”تغليق التعليق” (2/ 448).
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (22/ 609)، ومختصر الفتاوى المصرية (66).

(9/428)


وقال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الآية [النساء: 103]، فدلَّ على أن الصلاة وقت الخوف لم تكن مقامةً على الوجه التامِّ؛ لأنه زاحَمَها في هذه الحال ما هو أوجبُ من إقامتها الكاملة، فكان تركُ إقامتها الكاملة في هذا الوقت للجهاد الذي هو أوجب، فهو المأمور به في هذه الحال.
وقد قال تعالى في فضل الجهاد: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إلى قوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19 – 22].
وفي صحيح مسلمٍ وغيره عن النعمان بن بشيرٍ قال: كنت عند منبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الجمعة، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أسقيَ الحاجَّ، وقال الآخر: لا أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أعمُرَ المسجد الحرام، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمرُ بن الخطاب، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صلَّيتُ الجمعة دخلتُ فاستفتيتُه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية (1).
وفي الصَّحيحين عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قيل له: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: “إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيل الله” (2).
_________
(1) أخرجه مسلم (1879).
(2) أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (84) من حديث أبي ذر – رضي الله عنه -.

(9/429)


وفيهما عن أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال: دُلَّني على عملٍ يَعْدِلُ الجهاد، قال: “لا أجده”، قال: “هل تستطيعُ إذا خرج المجاهدُ أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تَفْتُر، وتصوم ولا تفطِر؟ “، فقال: من يستطيع ذلك؟ فقال أبو هريرة: إن فَرَس المجاهد يَسْتَنُّ في طِوَلِه، فتُكْتَبُ له حسنات (1).
وفي الصَّحيحين عن أبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم الذي لا يَفْتُر من صلاةٍ ولا قيام حتى يُرْجِعَه الله إلى أهله بما يُرْجِعه من غنيمةٍ أو أجر، أو يتوفَّاه ليُدْخِلَه (2) الجنة” (3).
وإذا كان الجهادُ أفضلَ الأعمال بعد الفرائض المتعيِّنة، وهو أفضلُ الفرائض المتعيِّنة بعد الإيمان، كان نعمةُ الله عزَّ وجلَّ به أعظم، فيستحقُّ من الشكر ما لا يستحقُّه ما هو دونه من الأعمال.
ثم الجهاد هو في (4) نفسه أنواع (5)؛ فإنه يتناول الجهاد بالمال والنفس.
والجهادُ بالنفس:
* قد يكون بالقتال بالبدن.
_________
(1) أخرجه البخاري (2785).
(2) كذا في الأصل، ورواية الصحيحين وعامة كتب السنة: “فيدخله”.
(3) أخرجه البخاري (2787)، ومسلم (1878).
(4) الأصل: “الجهاد وفي”. من سهو الناسخ.
(5) انظر: “الفصل” لابن حزم (4/ 107)، و”منهاج السنة” (8/ 86)، و”الاختيارات” للبعلي (447)، و”الفروع” (10/ 226).

(9/430)


* وقد يكون بتدبير الحرب والرأي، وهو أعظمُ نفعًا.
* وقد يكون بتبليغ رسالة الله تعالى، وإظهار حُجَجه ودفع ما يعارضها، وهو أفضل الأنواع الثلاثة.
* وقد يكون بالدعاء لله والتوجُّه إليه، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “وهل تُنْصَرون وتُرْزَقون إلا بضعفائكم؟ بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم” (1)، هذا يقوى تارةً، ويَضْعُف أخرى، كالجهاد بالبدن.
ولهذا كان أبو بكرٍ – رضي الله عنه – أفضلَ المجاهدين؛ لأنه قام بهذا قيامًا لم يَشْرَكه فيه غيرُه بعد النبي – صلى الله عليه وسلم -، وكان مشاركًا للنبي – صلى الله عليه وسلم – في النوع الأوسط (2) مشاركةً لم يشاركه فيها أحدٌ غيره، بخلاف الثالث (3) فإنه كان يقوم به مِن شُبَّان الصَّحابة – رضي الله عنهم – عددٌ كثير، وكذلك كان مقدَّمًا في الجهاد بالقلب، والدعاء، واليد، مقدَّمًا بالمال على كل الصَّحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين (4).
وإذا كان الجهادُ أنواعًا، فمن قام بأفضل أنواعه، أو بكثيرٍ من أنواعه، كان نعمةُ الله عليه أعظمَ من نعمته على من لم يُعْطَ ما أُعْطِي، كما أن نعمة الله على أبي بكرٍ في الجهاد أعظمُ من نعمته على عمر وعثمان وعليٍّ وغيرهم من الصَّحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
_________
(1) أخرجه البخاري (2896)، والنسائي (3178) والزيادة التي بعد الاستفهام له، من حديث سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه -.
(2) يعني تدبير الحرب والرأي.
(3) يعني القتال بالبدن، وهو الأول في الذكر.
(4) انظر: “منهاج السنة” (5/ 20، 7/ 156، 8/ 87).

(9/431)


* الأصل السابع: أن الأذى على الجهاد هو أفضلُ من الأذى على غيره من الأعمال، وهو معدودٌ من أفضل أعمال الصَّحابة الصالحة – رضي الله عنهم -.
فإذا كان الجهاد أعظمَ قدرًا كان الأذى الحاصلُ به أفضل قدرًا من الأذى بما دونه، وكلما كان الجهادُ أكثر كان أفضل، والأذى فيه كلما كان أشدَّ وأكبر كان ذلك أفضل، وكان نعمةُ الله به أعظم وأكبر.
ولهذا كان حالُ نبينا – صلى الله عليه وسلم – أفضلَ الأحوال، ونعمةُ الله عليه أكملَ من نعمته على غيره، كان جهادُه من حين أُمِر بتبليغ الرسالة إلى أن مات – صلى الله عليه وسلم – أفضلَ الجهاد؛ فإنه كان من قبل أن يُفْرَض القتالُ أُمِر بالجهاد باللسان، كما قال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]، والآية في سورة الفرقان، وهي مكيةٌ باتفاق العلماء.
وفي صحيح مسلمٍ عن عياض بن حِمَارٍ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إن ربي قال لي: قُم في قريشٍ فأنذِرْهم، فقلت: يا ربِّ، إذًا يَثْلَغُوا رأسي حتى يَدَعُوه خُبْزَةً (1)، فقال: إني مبتليكَ ومُبْتَلٍ بك، ومُنْزِلٌ عليك كتابًا لا يَغْسِلُه الماء، تقرؤه نائمًا ويقظانًا، فابعَث جندًا أبعَث مِثْلَيْهم، وقاتِلْ بمن أطاعك من عصاك، وأَنفِقْ أُنفِقْ عليك” (2).
_________
(1) أي: يشدخوا رأسي ويشجُّوه كما يُشْدَخُ الخبزُ ويُكْسَر.
(2) أخرجه مسلم (2865) باختلافٍ في سياقه وألفاظه. وكذلك يورده شيخ الإسلام في كتبه. انظر: “منهاج السنة” (1/ 305)، و”الجواب الصحيح” (2/ 311)، و”مجموع الفتاوى” (13/ 400، 16/ 493)، و”جامع المسائل” (2/ 85). وبعض ألفاظه في مسند أحمد (17484).

(9/432)


وهو – صلى الله عليه وسلم – بلَّغ الرسالة، وكان يؤذى هو وأصحابُه، وهو أذًى على تبليغ الرسالة والإيمان بالله ورسوله، وهذا أفضلُ أنواع الأذى على الإطلاق؛ فإن الجهاد باليد تبعٌ لهذا.
وكان أذاه أنواعًا متنوعة، وكان ذلك أفضلَ في حقِّه، وكان نعمةُ الله عليه بذلك أعظم.
ولكن هذه النعمة لا يذوقُ المُنْعَمُ عليه طعمَها إلا بعد أن يصبر، وهكذا كلُّ نعمةٍ بمصيبةٍ لا يوجدُ فيها لذَّة يؤمر صاحبُها بالصبر، والنعمةُ قد تُعْلَمُ ولا تُذاق، وقد تُذاق مع ذلك، والحمد لله على كلِّ حال.

(9/433)


جزءٌ فيه جوابُ سائلٍ سأل عن حرف “لو”

(9/435)


جزءٌ فيه جوابُ سائلٍ سأل عن حرف “لو”
لشيخنا وسيدنا الإمام، العلامة، الأوحد، الحافظ، المجتهد، الزاهد، العابد، القدوة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام (1)، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعين،
ذي العلوم الرفيعة، والفنون البديعة، محيي السُّنَّة، ومن عَظُمَت به لله علينا المنة، وقامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجَّة، تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني، أعلا الله مناره، وشيَّد من الدين أركانه.
ماذا يقولُ الواصفون له … وصفاتُه جلَّت عن الحصرِ
هو حجةٌ لله قاهرةٌ … هو بيننا أعجوبةُ الدهرِ
هو آيةٌ في الخلقِ ظاهرةٌ … أنوارُها أربَت على الفجر
هذا صورة ما نُقِل من خطِّ شيخ الإسلام، قاضي القضاة، أوحد علماء الدين، ابن الزَّمْلَكاني الشافعي (2)، أدام الله تعالى من بركته، ومدَّ في عمره، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
_________
(1) في طرة الأصل: “لعله: الأنام”.
(2) تأخر اسمه في الأصل إلى بعد الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم -. وفي “الأشباه والنظائر في النحو” للسيوطي (3/ 682 – طبعة مجمع دمشق): “نقلت هذه الترجمة من خط العلامة فريد دهره ووحيد عصره الشيخ كمال الدين الزملكاني – رحمه الله – “.
وقد كتب ابن الزملكاني هذا التقريظ أيضًا على كتابي “إبطال التحليل”، و”رفع الملام عن الأئمَّة الأعلام”. انظر: “الرد الوافر” (56، 57).

(9/437)


اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني ــ أمتع الله المسلمين بطول بقائه ــ:
الحمد لله الذي علَّم القرآن، خلق الإنسان، علَّمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له باهر البرهان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى الإنس والجانّ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا يرضى به الرحمن.
سألتَ ــ وفقنا الله وإياك ــ عن معنى حرف “لو”، وكيف يتخرَّجُ قولُ عمر – رضي الله عنه -: “نِعْمَ العبد صهيب، لو لم يَخَفِ الله لم يَعْصِه” (1)
على
_________
(1) أثر مشهور عند النحاة والأصوليين وأصحاب المعاني موقوفًا ومرفوعًا, ولم يُعْثَر له على إسناد. انظر: “عروس الأفراح” للبهاء السبكي (2/ 79)، و”اللآلئ المنثورة” للزركشي (169)، و”المقاصد الحسنة” (526)، و”تدريب الراوي” (2/ 162).
ولعل الإمام أبا عبيد أول من أورده دون إسنادٍ في “غريب الحديث” (4/ 284).
قال ابن كثير في “مسند الفاروق” (2/ 681): “لم أره إلى الآن بإسنادٍ عنه، … وقد ذكره أبو عبيد في كتاب الغريب، ولم أره أسنده”.
وقال السيوطي في “جمع الجوامع” (16/ 163): “أورده أبو عبيد في الغريب ولم يسق إسناده، وقد ذكر المتأخرون من الحفاظ أنهم لم يقفوا له على إسناد، وإنما ذكرته هنا وإن كان ليس من شرط الكتاب لشهرته، ولأنبه على أن أبا عبيد أورده، وأبو عبيد من الصَّدر الأول، قريب العهد، أدرك أتباع التابعين، فالظاهر أنه وصل إليه بإسناد”.
قلت: لا ريب في أن الظاهر وصوله إليه مسندًا، لكن الشأن في صحة الإسناد.
وورد مرفوعًا بمعناه في سالم مولى أبي حذيفة – رضي الله عنهما -. أخرجه أبو نعيم في “الحلية” (1/ 177) من حديث عمر – رضي الله عنه – بإسنادٍ مسلسل بالعلل. انظر: “السلسلة الضعيفة” (3179).

وانظر لمعنى الأثر والكلام عليه: “مجموع الفتاوى” (10/ 64) , و”جامع المسائل” (3/ 315) , و”طريق الهجرتين” (409) , و”بدائع الفوائد” (92)، و”أسئلة وأجوبة في إعراب القرآن” لابن هشام (42 – 44)، و”الوافي بالوفيات” (16/ 337)، و”بصائر ذوي التمييز” (4/ 449)، و”عقود الزبرجد” (3/ 281).

(9/438)


معناها المعروف؟ وذكرتَ أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضيتَ الجواب اقتضاءً أوجبَ أن أكتب في ذلك ما حضرني الساعة، مع بُعْدِ عهدي بما بلغني ما قاله الناس في ذلك، وأن ليس يحضرني ما أراجعه (1) في ذلك.
فأقول، والله الهادي النصير:

الجواب مرتَّبٌ على مقدمات:
إحداها (2): أن حرف “لو” المسؤول عنها من أدوات الشَّرط، وأن الشَّرط يقتضي جملتين: إحداهما (3) شرط، والأخرى جزاءٌ وجواب، وربما سُمِّي المجموع شرطًا، وسُمِّي أيضًا جزاءً. ويقال لهذه الأدوات: أدوات الشَّرط، وأدوات الجزاء.
والعلمُ بهذا كلِّه ضروريٌّ لمن كان له عقلٌ وعلمٌ بلغة العرب، والاستعمالُ على ذلك أكثرُ من أن يُحْصَر، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} [النساء: 46]، {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ
_________
(1) الأصل: “إلا ما أراجعه”. والمثبت من “الأشباه والنظائر” أقوم.
(2) الأصل: احدهما.
(3) الأصل: احدهما.

(9/439)


تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا} [الأنفال: 23]، {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47]، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81].

المقدمة الثانية: أن هذا [الذي] تسمِّيه النحاةُ شرطًا هو في المعنى سببٌ لوجود الجزاء، وهو الذي تسمِّيه الفقهاءُ علةً ومقتضيًا وموجِبًا ونحو ذلك؛ فالشَّرط اللفظيُّ سببٌ معنوي.
فتفطَّن لهذا؛ فإنه موضعٌ غلط فيه كثيرٌ ممن يتكلَّمُ في الأصول والفقه، وذلك أن الشَّرط في عُرف الفقهاء ومن يجري مجراهم مثل (1) أهل الكلام والأصول وغيرهم هو: ما يتوقفُ تأثيرُ الشَّرط عليه بعد وجود السَّبب (2)، وعلامتُه أنه يلزم من عدمه عدمُ المشروط، ولا يلزم من وجوده [وجودُ] المشروط (3).
ثم هو منقسمٌ إلى:
1 – ما عُرِف كونُه شرطًا بالشرع، كقولهم: الطهارة والاستقبال واللباس شرطٌ لصحة الصلاة، والعقل والبلوغ [شرطٌ لوجوب الصلاة؛ فإن وجوب الصلاة على العبد يتوقفُ على العقل والبلوغ] (4)، كما تتوقفُ صحةُ الصلاة
_________
(1) “الأشباه والنظائر”: “من”، وهي أجود، وما في الأصل محتمل.
(2) “الأشباه والنظائر”: “تأثير السبب عليه بعد وجود المسبب”.
(3) انظر: “البحر المحيط” (3/ 327).
(4) سقط من الأصل لانتقال نظر الناسخ، واستدركته من “الأشباه والنظائر”.

(9/440)


على الطهارة والسِّتارة واستقبال القبلة، وإن كانت الطهارةُ والسِّتارةُ أمورًا خارجةً عن حقيقة الصلاة.
ولهذا يفرِّقون بين الشَّرط والركن بأن الركن جزءٌ من حقيقة العبادة أو العَقد، كالركوع والسجود، وكالإيجاب والقبول، وبأن الشَّرط خارجٌ عنه؛ فإن الطهارة يلزم من عدمها عدمُ صحة الصلاة، ولا يلزم من وجودها وجودُ الصلاة.
وتختلفُ الشُّروط في الأحكام باختلافها، كما يقولون في باب الجمعة: منها ما هو شرطٌ للوجوب بنفسه، ومنها ما هو شرطٌ للوجوب بغيره، ومنها ما هو شرطٌ للإجزاء دون الصحة، ومنها ما هو شرطٌ للصحة.
وكلام الفقهاء في الشُّروط كثيرٌ جدًّا، لكن الفرق بين السَّبب والشَّرط وعدم المانع إنما يتمُّ على قول من يجوِّز تخصيصَ العلَّة منهم، وأما من لا يسمِّي علةً إلا ما استلزم الحكمَ (1)، ولزِم من وجودها وجودُه على كلِّ حالٍ، فهؤلاء يجعلون الشَّرط وعدم (2) المانع من جملة أجزاء العلَّة.
2 – وإلى ما يُعْرَفُ كونُه شرطًا بالعقل, وإن دلَّ عليه دلائلُ أخرى، كقولهم: الحياة شرطٌ في العلم والإرادة والسمع والبصر والكلام، والعلمُ شرطٌ في الإرادة، ونحو ذلك.
وكذلك جميعُ صفات الأجسام وطباعُها لها شروطٌ تُعْرَفُ بالعقل أو بالتجارب أو بغير ذلك.
_________
(1) “الأشباه والنظائر”: “من الحكم”. وهو خطأ.
(2) الأصل: “وضد”، تحريف، وعلى الصواب في “الأشباه والنظائر”.

(9/441)


وقد تسمَّى هذه شروطًا عقلية، والأُولى شروطًا شرعية.
وقد يكون من هذه الشُّروط ما يُعْرَفُ اشتراطُه بالعُرف.
ومنه ما يُعْلَمُ باللغة، كما يُعْرَفُ أن شرط المفعول وجودُ فاعل، وإن لم يكن شرطُ الفاعل وجودَ مفعول، فيلزم من وجود المفعول المنصوب وجودُ فاعلٍ، ولا ينعكس، بل يلزم من وجود اسمٍ منصوب أو مخفوض وجودُ مرفوع، ولا يلزم من وجود المرفوع لا منصوبٌ ولا مخفوض؛ إذ الاسمُ المرفوع مُظْهَرًا أو مضمرًا لا بدَّ منه في كلِّ كلامٍ عربي، سواءٌ كانت الجملة اسميةً أو فعلية.
فقد تبيَّن أن لفظ “الشَّرط” في هذا الاصطلاح يدلُّ عدمُه على عدم المشروط ما لم يَخْلُفْه شرطٌ آخر، ولا يدلُّ ثبوتُه من حيث هو شرطٌ على ثبوت المشروط.
وأما الشَّرط في الاصطلاح الذي يُتَكلَّمُ به في باب أدوات الشُّروط اللفظية، سواءٌ كان المتكلم نحويًّا أو فقيهًا، وما يتبعه من متكلِّمٍ وأصوليٍّ ونحو ذلك = فإن وجود الشَّرط يقتضي وجود المشروط الذي هو الجزاء والجواب، وعدم الشَّرط هل يدلُّ على عدم المشروط؟ مبنيٌّ على أن عدم العلَّة هل يقتضي عدم المعلول؟ فيه خلافٌ وتفصيلٌ قد أومئ إليه (1) إن شاء الله تعالى.
فإذا قال الفقهاء: بابُ تعليق الطلاق بالشُّروط, وذكروا فيه ما إذا قال الرجل لامرأته: إن دخلتِ الدارَ فأنت طالق، أو: إذا، أو: متى، فالشَّرط هنا
_________
(1) من هنا يبدأ السقط في المطبوع من “الأشباه والنظائر”.

(9/442)


ليس معنى الشَّرط في قولهم: الطهارة شرطٌ في صحة الصلاة، بل معناه في الطلاق وبابه: أنه إذا وُجِد الشَّرطُ الذي قد تسمِّيه الفقهاءُ “صفة”, وهو الدخول مثلًا، وُجِد المشروطُ الذي هو الجزاء, وهو وقوع الطلاق.
وهذا التعليقُ يدخل فيه ألفاظ الوعد والوعيد، وألفاظ الجَعَالة، وألفاظ الأدلَّة المسمَّاة بالتلازم أو بالشَّرطيِّ المتصل ونحو ذلك.
فمدلول هذه العبارات أن وجود الشَّرط سببٌ لوجود الجزاء، ولستُ أعني أنه مؤثِّرٌ في وجوده في الخارج، ولكن أعني أن وجود الشَّرط مستلزمٌ لوجود الجزاء، سواءٌ كان علَّةً له، أو معلولًا لعلَّته، أو دليلًا على وجوده، أو مُضايِفًا له، أو ملازمًا غير مُضايِف، أو غير ذلك.
فالأول كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] , و {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] , و {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] , و {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} [يونس: 84].
والثاني أقلُّ منه، كما يقال: إن كان هذا من أهل الجنة فهو مؤمنٌ بالله، وإن كان هنا دخانٌ فهنا نارٌ، وفي هذا بحثٌ ليس هذا موضعه.
والثالث كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في امرأة هلال بن أمية المُلاعِنة: “إن جاءت به على نعت كذا فهو لهلال، وإن جاءت [به] على نعت كذا فهو للذي رُمِيَت به” (1)؛ فإن مشابهة الولد للرجل معلولٌ لكونه هو أحبَل
_________
(1) أخرجه أحمد (2131)، وأبو داود (2256) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما -، وأصله في البخاري (4747).

(9/443)


أمَّه، وإحبالُ الأمِّ علَّةٌ لكونه ابنه، فيُسْتَدلُّ بالشَّبه الذي هو أحدُ معلولي الوطء على النَّسب الذي هو المعلولُ الآخر. والقِيافةُ والفِراسةُ عامتُها من (1) هذا الباب.
وأما الرابع فكما يقال: إن زُكِّيت البيِّنةُ حُكِم بها، وإن كان هذا الخبر قد رواه البخاريُّ فهو صحيح، وإن كانت الملامسةُ في لغة العرب تعمُّ ما دون الوطء فهو حجةٌ في نقض الوضوء بمسِّ النساء، ونحو ذلك. وهذا بابٌ واسع.
والغرض أن يُتَفَطَّن لكون لفظ الشَّرط قد صار بتعدُّد الاصطلاحات فيه اشتراك، وأنا إذا قلنا: “لو” من أدوات الشَّرط أردنا به الشَّرط اللفظيَّ الذي هو سببٌ في المعنى ومستلزِم، لا الشَّرط المعنويَّ الذي يقفُ تأثير السببُ عليه. فبين المعنيين فرق.
ولولا أني رأيتُ قومًا من الفضلاء قد زلُّوا في هذا لكان (2) أوضحَ من أن ننبِّه عليه؛ فإن منهم من يقسمُ الشُّروط إلى: لغوية، وعقلية، وشرعية، ويذكُر باب “إنْ وأخواتها” في القسم اللغوي.
ومَوْرِدُ التقسيم يجبُ أن يكون مشتركًا بين الأقسام، فيُشْعِر أن كلَّ واحدٍ من هذه الشُّروط [ينتفي] بانتفائه، ولا يلزم (3) أن يوجد بوجوده، وربما أفصح بذلك. وليس هذا بصحيح.
_________
(1) الأصل: “في”، وهو محتمل، والمثبت أشبه.
(2) الأصل: “المكان”. وهو تحريف. ولا حاجة لما قدَّره أحدهم في الطرة بقوله: “لعله فإنه”، يعني: فإنه أوضح.
(3) الأصل: “يلوم”. تحريف.

(9/444)


والتحقيق أن التقسيم إن كان عائدًا إلى اللفظ، كما يقال: “العين” تنقسمُ إلى مبصِرةٍ ومضيئةٍ ونابعة، فقريبٌ، لكن هو خلاف المعروف.
وإن كان عائدًا إلى المعنى فهو غلطٌ واضح.
ومنهم من يحتجُّ في كون مفهوم الشَّرط حجةً بكون النحويين قد سمَّوا هذه الأدوات: “أدوات الشَّرط”، والشَّرط ما ينتفي المشروطُ بانتفائه، فيلزم من ذلك عدمُ الجزاء عند عدم الشَّرط.
وهذا غلط؛ فإن لفظ الشَّرط في المقدمة الأولى معناه مغايرٌ لمعنى لفظ الشَّرط في المقدمة الثانية، وإنما اشتركا في اللفظ، فالشَّرط الذي يجب انتفاء المشروط بانتفائه هو الشَّرط المعنوي، وأما الذي يسمِّيه النحويون شرطًا في باب “إنْ” و”لو” ونحوهما فهو سببٌ مستلزِم.

وحكمُه هو المقدمة الثالثة: وذلك أن العلَّة (1) والسببَ قد يراد بها (2):
1 – العلَّة التامة التي لا ينفكُّ عنها المعلول، كمشيئة الله سبحانه؛ فإنها مستلزمةٌ لوجود المراد (3)، فإنه ما يشاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ولا ينتقض هذا أبدًا.
والعلَّة بهذا التفسير لا تتخصَّص، ولا يتخلَّفُ عنها معلولها، لا لفوات شرطٍ ولا لوجود مانع (4).
_________
(1) الأصل: “العله العله”. من سهو الناسخ.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (20/ 167)، و”جامع المسائل” (2/ 185).
(3) الأصل: “المواد”. تحريف.
(4) الأصل: “تابع”. تحريف.

(9/445)


2 – وقد يراد بها: العلَّة المقتضِية، وإن توقَّفت على شروطٍ واندفعت بالمُعارِض، كما يقال: الأكل والشرب علةٌ للشِّبع، وإصابة النار علةٌ للاحتراق، ويقال: ملكُ النصاب علةٌ لوجوب الزكاة، والزنا علةٌ لوجوب الرجم.
وإذا صِيغت هذه الأسباب بصيغ الشَّرط والجزاء، كقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء: 30] = فإنه يُعْلَمُ من ذلك أن هذا العمل سببٌ مقتضٍ للجزاء، ثم يجوز أن يتخلَّف الحكمُ عن سببه، لفوات شرطٍ أو لوجود مانع.
ويجوز للمتكلِّم أن يبيِّن مراده بهذا اللفظ المطلق تقييدًا وتخصيصًا إذا سوَّغه اللسانُ الذي يتكلَّم به، ولذلك جاز أن ينتفي الجزاءُ لمُعارِضٍ، من توبةٍ، أو حسناتٍ ماحية، ونحو ذلك، وانتفاؤه بالتوبة مجمعٌ عليه بين المسلمين، وفي البواقي خلافٌ بين أهل السُّنَّة وبين الوعيديَّة من الخوارج والقدريَّة.
ومن فَهِم هذا انتفت عنه شُبَه الوعيديَّة، وعرف سرَّ مسألة إخلاف الوعيد، ومسألة الخصوص والعموم؛ فإن الله قد بيَّن مراده بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وبقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25]، إلى أمثال ذلك.
إذا عُرِف ذلك فنقول: أما العلَّة التامة فإن ثبوتها دليلٌ يقينيٌّ على وجود

(9/446)


المعلول، وأما العلَّة المُقتضِية فهي دليلٌ ظاهرٌ على وجود المعلول، وقد يصير يقينيًّا إذا عُلِم انتفاءُ المُعارِض بطريقه (1)، فإن ذلك ممكنٌ في الجملة.
وأما عدم العلَّة فهو المتعلِّق بباب “لو” كما سنذكره.
فإن عُدِمت العلَّة مطلقًا فهو دليلٌ على عدم المعلول؛ فإن وجود المعلول بدون العلَّة محال.
فإن عُدِمت العلَّة المعيَّنة، سواء كانت تامةً أو مُقتضِية، فإنه يدلُّ على عدم المعلول إذا لم تَخْلُفْها علةٌ أخرى.
ثم عَدَمُ الخُلْف قد يُعْلَم يقينًا، ويُعْلَم ظاهرًا بدليلٍ خاصٍّ من سائر دلائل النفي. وقد يُنفى؛ فإن الأصل عدم علةٍ أخرى.
وقد يستقرُّ في النفس أن لا علة إلا هذا الحكم، ثم تستشعرُ النفس انتفاء العلَّة، فيحكم بانتفاء المعلول. مثل: أن يقال مثلًا في بعض الأشربة المتنازع فيها: هذا ليس بحرام؛ لأنه ليس بمُسْكِر، أو لأنه ليس بخمر، فإنه قد عُلِم أن لا مُوجِبَ لتحريمه إلا كونه خمرًا أو مسكرًا.
وهذا يكثر في الأنواع، مثل أن يقال في بيع الفُضولي: لا يصحُّ؛ لأنه ليس من مالكٍ ولا وليٍّ ولا وكيل. فكأنه قال: من جملة العلَّة في صحة البيع الملكُ أو الولايةُ أو الوكالة، والثلاثة منتفية. والنزاع في المقدمة الأولى.
ويقال لمن يعطي الفقراء أو الفقهاء: لم لا تعطي هذا؟ فيقول: لأنه ليس بفقيرٍ وليس بفقيه. وهذا مضمومٌ إلى مقدمةٍ مستقرَّة، وهو أن العلَّة هي الفقر
_________
(1) كذا في الأصل.

(9/447)


مثلًا أو الفقه، لا علَّة غيرها، وهي منتفية.
ويقول الفقهاء: إذا قال لامرأته: إن كلَّمتِ أسودًا فأنت طالق، فكلَّمت أبيض = لم تَطْلُق؛ أي: لانتفاء العلَّة، وهي مقتضيةٌ لعدم المعلول، فإنَّا ما تكلَّمنا إلا في انتفاء الطلاق الواقع بهذه العلَّة.
ثم هنا مسألة مفهوم الشَّرط، إذا قيل: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، هل يُشْعِر عدمُ هذا الشَّرط اللفظيِّ الذي هو سببٌ معنويٌّ بعدم المشروط؟ وفيه الخلاف المشهور, والجمهور على أنه يدل على عدمه (1). ولا ريب أن عدم هذا الحكم المعلق بالشَّرط ينتفي؛ لأن بقاء عين الحكم بدون علةٍ محال.
لكن هل ينتفي النوع؟ فالذي يجبُ القطعُ به أن نوع الحكم لا يكون حالُه بعد انتفاء السبب المعيَّن وقبل انتفائه سواءً، ومتى فُرِض استواء الأمرين على مذهبٍ عُلِم بطلانه، لكن يدلُّ على نفي النوع دلالةً ظاهرة، بشرط أن لا يَخْلُفَه (2) سببٌ آخر.
ثم إن كان السببُ الخالِف جزءًا من المخلوف كان ضعيفًا؛ فإن الأعمَّ إذا كان مستقلًّا بالحكم كان الأخصُّ عديمَ التأثير، كما في قوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}، فإن كونه واحدًا جزءٌ من كونه فاسقًا، فلو كان التبيُّن واجبًا عند مجيء الواحد سواء كان عدلًا أو فاسقًا لم يعلَّق التبيُّنُ بكونه فاسقًا الذي هو الأخصُّ من كونه واحدًا.
_________
(1) انظر: “المسوَّدة” (693)، و”مجموع الفتاوى” (16/ 159).
(2) الأصل: “يتخلفه”. تحريف.

(9/448)


فهذا الاستدلال بعدم العلَّة لفظًا أو معنًى على عدم المعلول.
وقد يُجْعَل عدمُ العلَّة المعيَّنة دليلًا على ثبوت المعلول بعلةٍ أخرى أكملَ منها أو مثلها، وذلك إذا كانت العلَّتان متعاقبتين على محلٍّ، فعدمُ إحداهما مستلزمٌ لثبوت الأخرى، وثبوتُها مستلزمٌ للمعلول، فيصيرُ عدمُ العلَّة المعيَّنة مقتضيًا للمعلول، لكن بهذه الواسطة، وهي واسطةُ ثبوت العلَّة الأخرى.
ومن هنا يزول الإشكالُ في باب “لو” و”لولا”، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وكذلك إذا كانت العلَّتان مجتمعتين في المحلِّ.
فالأول كما لو وصَّى الميت لوارثه، فإنه يقال: لو لم يُوصِ له لمَلَكَه بالإرث. وكما لو ألقى رجلًا من شاهقٍ في بحرٍ، فتلقَّاه آخرُ بسيفٍ فقَدَّه،
فإنه يقال: لو لم يَقُدَّه لمات. فيضافُ الموتُ إلى عدم القَدِّ، لا مستلزمًا للغَرَق (1).
ومَثَل الثاني: إذا سُئلتَ عن لحم خنزيرٍ ميِّتٍ، فتقول: لو لم يكن خنزيرًا لحَرُم. فتجعل عدم كونه خنزيرًا مستلزمًا للتحريم، لأنه ميِّت.
فهذا الكلام في دلالة ثبوت العلَّة وانتفائها.
وأما دلالة المعلول، فإنَّ عدم المعلول مستلزمٌ لعدم العلَّة التامة قطعًا، ويدلُّ على عدم العلَّة المقتضية إذا عُلِم أن الانتفاء لم يكن لوجود مانعٍ ولا
_________
(1) الأصل: “مستلزم للعرف”. والمثبت أشبه.

(9/449)


لفوات [شرط].
فيُعْلَمُ حينئذٍ أن الانتفاء إنما هو لانتفائها، وإلا فلو كانت موجودة، والموانع زائلة، والشُّروط حاصلة، لوجب وجودُ المعلول. فانتفاءُ اللازم دليلٌ على انتفاء الملزوم، ووجودُ المعلول يدلُّ على وجود العلَّة التامة، فتدخل فيه الشُّروط وضد (1) الموانع.
لكن إذا لم يكن للحكم إلا علةٌ واحدةٌ عُلِم وجودُها بعينها، وإن كان له علَّتان فصاعدًا دلَّ على وجود إحداهنَّ أو جميعهنَّ.
وإن عُلِم أن له علَّة (2)، وجاز أن يكون له علَّةٌ أخرى، لم نقطع بوجود تلك العلَّة المعدومة، لكن هل يُحْكَمُ بوجودها ظاهرًا؟
وكذلك لو عُلِم وجودُ العلَّة الواحدة، ووُجِد الحكم، وجاز أن يكون قد وُجِد بغيرها، فهل يضيفُه إلى ما عُلِم وجودُه أو يتوقَّف فيه؟ قولان للفقهاء، وأصحُّهما أنا نضيفه إلى تلك العلَّة. ويُسْتَدلُّ بوجود المعلول على وجودها؛ عملًا بالأصل الباقي الذي لم يعارضه ما يضعفه.
وعلى هذا ينبني: لو جَرَحَ صيدًا غاب عنه ثم وجده ميتًا، فهل يحالُ موتُه على جرحه، فيباحُ إن كان حلالًا ويجبُ الضمانُ إن كان محرَّمًا، أو يتوقفُ فيه؟ على خلافٍ مشهور بين الفقهاء، وهي مسألة الإصماء والإنماء (3).
_________
(1) كذا في الأصل. ولعل الصواب: وتنفى.
(2) الأصل: “انه عله”. والمثبت أشبه.
(3) الأصل: “والايماء”. تحريف.
وفي المسألة حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رجلًا قال له: إني أرمي الصيد فأُصْمِي وأُنْمِي، فقال: “ما أصميتَ فكُل، وما أنميتَ فلا تأكل”. والإصماء ما رأيته، والإنماء ما توارى عنك. أخرجه عبد الرزاق (8455)، وابن أبي شيبة (20037) بسند صحيح، ويروى عنه من وجوه أخرى.
وروي مرفوعًا، ولا يصحُّ. انظر: “البدر المنير” (9/ 261).

وانظر لخلاف الفقهاء: مختصر “اختلاف العلماء للطحاوي” (3/ 195)، و”تفسير القرطبي” (6/ 71)، و”المغني” (13/ 276).

(9/450)


فهذه بحوثٌ عقليةٌ معنويةٌ نافعة.

المقدمة الرابعة: أن أدوات الشَّرط وغيره من معاني الكلام قسمان:
منها: ما يسمِّيه النحويون: “أمَّ الباب”، وهو ما دلَّ على الشَّرط أو الاستفهام ونحوهما دلالةً مجرَّدةً من غير أن يدلَّ [على] شيءٍ آخر.
ومنها: ما يدلُّ على الاستفهام أو الشَّرط ومعنًى آخر.
فالأول في الشَّرط “إنْ”، فإنها تقتضي ربط الجزاء بالشَّرط، من غير أن تدلَّ على ثبوت الشَّرط وانتفائه، ولا على حالٍ من أحوال الشَّرط، من مكانٍ أو زمانٍ أو فاعلٍ أو غير ذلك. فإذا قلت: إن قام زيدٌ قام عمرو، لم (1) يدلَّ على أكثر من ارتباط هذا بهذا.
والثاني: سائر أدوات الشَّرط، فإن “متى” مثلًا تدلُّ على الاشتراط في الزمان، و”أينما” في المكان، و”مَن” في أعيان من يَعْلَم، و”ما” في ما لا يَعْلَم وفي صفات ما يَعْلَم (2)، ونحو ذلك ممَّا (3) هو معروفٌ عند العالِمين
_________
(1) الأصل: “ولم”. خطأ.
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (16/ 228، 596).
(3) الأصل: “فيما”. والمثبت أقوم.

(9/451)


بتفاصيل لسان العرب.
فهذه الأدوات تدلُّ على شيئين: على الشَّرط، وعلى حالٍ في المشروط. وحرف “لو” من هذا الباب، لكن من وجهٍ آخر، وهو الجوابُ الحاصل بعد تلك المقدمات.
فنقول: حرف “لو” المسؤول عنه، إذا قلتَ مثلًا: “لو رُدُّوا لعادوا”، يدلُّ على شيئين:
أحدهما: أن الردَّ سببٌ مستلزمٌ للعَوْد.
وقولنا: “سبب”، و”ملزوم”، و”علة”، و”مقتضى”، عباراتٌ متقاربة في هذا الموضع.
كما لو قيل: “إن رُدُّوا عادوا”؛ فإن الاشتراط بـ “إنْ” يدلُّ على أن الأول مستلزمٌ للثاني.
المدلول الثاني: عدم الردِّ الذي هو السببُ المستلزِم.
وهذه خاصَّة “لو” التي انفردت بها عن “إنْ”؛ فإن “لو” تدلُّ على تعلُّق الجزاء بالشَّرط، وعلى انتفاء الشَّرط، و”إنْ” تدلُّ على التعلُّق فقط، من غير أن تدلَّ على الشَّرط بنفيٍ أو إثبات.
وهذا أمرٌ مستقرٌّ في جميع مواردها، كما في قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47]، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156]، {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} [النساء: 46]، لو جاء زيدٌ

(9/452)


لجاء عمرو، لو زرتنا لأكرمناك، قول الشاعر (1):
لو كنتُ من مازنٍ لم تَسْتَبِحْ إبلي … بنو اللَّقِيطة من ذُهْلِ بن شيبانا
فإن “لو” مع ما رُكِّبت معه تدلُّ على الشَّرط والجزاء، وعلى انتفاء الشَّرط أيضًا.
وهذا هو الذي قصده بعض النحويين حيث قال في حدِّها: “إنها حرفٌ يدلُّ على امتناع ما (2) يلزم من وجوده وجودُ غيره”، وصَدَق في أن هذا من معناها؛ فإنها تدلُّ على عدم الشَّرط الملزوم الذي يلزم من ثبوته ثبوتُ الجزاء الذي هو الجواب (3).
لكن قد يقال: معناها [ليس] هو مجرَّد الامتناع، بل هو التعليق والامتناع جميعًا، وإنما هي دالةٌ على الامتناع بالتضمُّن لا بالمطابقة.
وقد يقال: هي لا تدلُّ على امتناع الشَّرط، وإنما تدلُّ على عدمه، وليس كلُّ معدومٍ ممتنع الوجود.
فهذه مناقشاتٌ لفظية، وإذا ظهر المعنى فلا عليك في ترك المناقشة اللفظية.
وإذا قيل: هي حرفُ شرطٍ يدلُّ على عدم الشَّرط، كان هذا منطبقًا عليها في جميع مواردها.
_________
(1) قريط بن أنيف العنبري، من كلمةٍ في صدر “الحماسة” (1/ 57). وفي “خزانة الأدب” (7/ 442 – 443) القول في صواب رواية البيت.
(2) الأصل: “مما”. خطأ.
(3) انظر: “الرد على السبكي في مسألة الطلاق” (1/ 29).

(9/453)


ثم مِن هذا ينحلُّ الإشكال المشهور، وذلك أن الشَّرط اللفظيَّ الذي هو سببٌ معنويٌّ إذا انتفى فإنه ينتفي ذلك المعلول المعيَّن قطعًا، وينتفي أيضًا نوع المعلول إذا لم تَخْلُفْه علةٌ أخرى، فإن خَلَفَتْه علةٌ أخرى لم ينتفِ النوع، بل قد يوجد منه غيرُ ما انتفى، وقد يكون عدمُ إحدى العلتين دليلًا على ثبوت المعلول؛ لدلالة عدمها على ثبوت العلَّة الأخرى، كما تقدَّم؛ لأن الحكم الواحد بالنوع قد تكون له علَّتان باتفاق العقلاء من الفقهاء وغيرهم.
فإذا كان أهل اللسان يفهمون من قولهم: “لو زرتنا لأكرمناك” أن الزيارة علةٌ للإكرام، وأنها معدومة، فقد ينضمُّ إلى هذه المقدِّمة السَّمعيَّة مقدِّمةٌ أخرى عقليَّة، وهو أن عدم العلَّة يدل على عدم المعلول، كما فصَّلناه.
فيعقلون من ذلك انتفاء ذاك الإكرام المعيَّن، وقد يفهمون انتفاء الإكرام مطلقًا إذا غلب على ظنِّهم أن لا سببَ للإكرام إلا الزيارة، بالأصل النافي أو بالقرائن ونحوها من الدَّلائل.
ثم لما كان الغالبُ أن العلَّة إذا انتفت انتفى معلولها؛ إذ غالبُ الكلام يكون في نوع حكمٍ ليس له إلا علَّةٌ واحدة، وغيرُه من الأنواع قد عُلِم أنه منتفٍ في ذلك المقام = صار هذا الغالبُ كأنه من جملة معناها، وليس هو من معناها في أصل وضعها، ولا في جميع موارد استعمالها، وإنما هي دالةٌ عليه بالالتزام العقلي [الذي] أبديتُه لك.
ولهذا يُسْتَعْمَلُ كثيرًا مع عدم الدَّلالة على انتفاء المعلول الذي هو الجزاء، كما سيأتي، ومحالٌ أن يوضعَ لنفي المعلول وثبوته معًا.

(9/454)


وكذلك على سبيل البدل على قول بعضهم (1) قد كثر استعمالها دالةً على هذا المعنى في عرف المتأخرين، حتى ظُنَّ أن انتفاء المعلول الذي هو الجزاء جزءٌ من معناها، وهذه حقيقةٌ عرفيةٌ طارئة، إن لم يُسَمَّ لحنًا وتحريفًا للَّغة! وإنما معناها اللغويُّ هو ما أبديتُه.
ولكون انتفاء المعلول قد صار يُفْهَم منها غالبًا، إما باللُّزوم العقلي، أو بالغلبة العُرفية، قال من قال من النحاة: إن “لو” حرفٌ يمتنعُ به الشيءُ لامتناع غيره، وأرادوا بذلك أنه يمتنع بها الجزاء لامتناع الشَّرط، فجعلوا عدم الجزاء من معناها التي هي دالةٌ عليه بالوضع.
وينبغي لمن أحسَن الظنَّ بمن قال هذا أن يقال: هي دالةٌ على هذا غالبًا، كما بينَّا، أو هي دالةٌ عليه في العُرف والحادث (2) العامِّي، مع أن هذا فيه نظر، وكونُ دلالتها على هذا المعنى وضعيًّا (3) أو عقليًّا لا تتعرَّض له النحاة غالبًا. فأما أن يقال: إن هذا هو معناها أبدًا، فهذا غلطٌ ممن يقوله أو ينصرُه:
أما أولًا: فلعدم (4) الدليل عليه.
وأما ثانيًا: فلورود (5) الدليل على خلافه.
_________
(1) رسمت في الأصل: “تعم”، دون إعجام، ويحتمل أن يكون أراد بها العموم على سبيل البدل وهو العموم المطلق، إلا أن المثبت أدنى إلى الصواب.
(2) كذا في الأصل. ولعلها: العرف الحادث.
(3) الأصل: “وضيعا”. من سهو الناسخ.
(4) الأصل: “فلعل”. تحريف.
(5) الأصل: “فلورد”.

(9/455)


فإن قيل: هذا قد قاله بعض فضلاء النحاة.
فيقال: مفهومُ تراكيب الكلام ونحو ذلك نِسْبَتُه إلى لغة العرب نسبةُ طائفةٍ (1) من علم الفقه إلى كلام الشارع، وهو أمرٌ يوجَدُ بالاستدلال، تارةً بالاستعمال، وتارةً بالقرائن، وغير ذلك.
ولهذا تختلفُ النحاة في مفهوم حروفٍ ومقتضى تراكيب، كما يختلفُ الفقهاء في مفهوم بعض كلام الشارع، ثم الدليلُ يقضي بين المختلفين.
وكما أن علمَ الشريعة نوعان:
* نوعٌ يُتَلقَّى من المحدِّثين، وهو الرواية، فإذا كان الراوي ثقة ضابطًا لم تُرَدَّ روايتُه إلا بحجَّةٍ تدلُّ على غلطه، وهو نادر.
* ونوعٌ يُتَلقَّى من الفقهاء، وهو فهمُ كلام الشارع، وبناءُ بعضه على بعض، والنظر في لوازم تلك المعاني وموجَباتها.
كذلك علم العربية:
* منه المسموع، وهو ما يرويه الثقةُ كما سمعه من العرب، منظومًا ومنثورًا، وما يرويه أيضًا أنهم أفهموه ذلك المعنى عندما تكلَّموا بذلك اللفظ. وهذا هو نقلُ اللغة، وهذا نقلٌ لأشياء معينة.
* ومنه المعقول، وهو الحكمُ الكليُّ على لفظٍ مفردٍ أو مركَّب. وهو علمُ النحو والتصريف والمعاني والبيان؛ فإن العرب وغيرهم من الأمم لم يُسْمَع منهم حكمٌ كليٌّ للفظٍ أو لدلالة لفظ، وإنما استقراء كلام الأمم يوجبُ
_________
(1) أي: كنسبة طائفة. وضُبِط في الأصل: “نَسَبه طائفةٌ”. وهو غلط.

(9/456)


للعقل حكمًا كليًّا، كما إذا استقرينا كلَّ اسمٍ بعد فعلٍ على صيغة “فَعَلَ”، فوجدناه مرفوعًا، علمنا أن الفاعل مرفوع، وأن رفع الاسم على هذه الصفة دليلٌ على أنه فاعل.
كذلك “لو” مثلًا إذا سَمِع الناقلُ العربَ تقول: “لو زرتنا لأكرمناك”، وأفهموه أن كل واحدٍ من الأمرين ممتنعٌ في هذا المعنى، أوجب ذلك الحكمَ على هذا المثال بهذا الحكم، ثم رأينا هذا المعنى يُفْهَمُ من سائر الأمثلة، حكمنا حكمًا عامًّا بما حكموا به.
وإن وجدنا الأمر ينتقض أحيانًا من غير قرينةٍ طارئةٍ علمنا أن الموجب المفهم (1) هناك معنًى انفرد به.
وقد وجدناهم يقولون: “لو زرتنا لأكرمناك”، وكلاهما منتفٍ، ونظائره كثيرة, ووجدناهم يقولون مثلًا: “هذا محسنٌ إلى زيدٍ ولو أساء إليه”، “ولو أسأتَ إليَّ أحسنتُ إليك”، “ولو قلتَ لي ألف كلمةٍ ما قلتُ لك كلمة”، “ولو عصيتَ الله تعالى فيَّ لأطعتُ الله فيك”, “ولو شتمتني لما شتمتُك”، كما يقال: إن رجلًا من العرب قال لآخر منهم: لو قلتَ لي كلمةً لقلتُ لك ألف كلمة، فقال له الآخر: لكن لو قلتَ لي ألف كلمةٍ لما قلتُ لك كلمة.
ونحو هذا كثير، يقصدون بذلك إثباتَ الملازمة بين هذين الأمرين، ونفيَ الملزوم لا نفيَ اللازم، أي: إن إساءتك مستلزمةٌ لإحسانك، وسببٌ فيها، بمعنى أنها مستلزمةٌ لما هو علةٌ للإحسان، لأنك إذا أسأتَ قارن إساءتَك ما في خُلُقي من الإحسان، فصارت هذه المقارنةُ سببًا لوجود
_________
(1) كذا في الأصل.

(9/457)


إحساني أو دليلًا على وجود إحساني، كما قدَّمناه في مقدِّمة الشَّرط, وأنه ليس يجبُ أن يكون هو المؤثِّر في الجزاء خارجًا، وإنما المعتبر هو الملازمة والارتباط والتعليق.
ثم مثل هذا الكلام لا يقصدون به عدم إحساني إليك، ولا عدم طاعة الله فيك (1)، ونحو ذلك، بل إما أن يكون الجزاء مسكوتًا، أو يكون مُخْبَرًا بوجوده (2)، أي: أنا أُحْسِنُ إليك ولو أسأتَ، فكيف إذا لم تُسِئ؟! فالمقصود أن الإحسان (3) موجودٌ على التقديرين.
فصار جواب “لو” له ثلاثة أحوال:
* تارةً يدلُّ الكلام على انتفائه بانتفاء الشَّرط، كما في قوله: “لو زرتني لأكرمتك”.
* وتارةً يدلُّ لا على ثبوته ولا على انتفائه، كما في قوله: “لو أسأتَ إليَّ لأحسنتُ إليك”؛ إذ كان (4) عدم الإساءة قد يكون معه الإحسان في العادة، وقد لا يكون إذا كان المحرِّك على الإحسان الإساءة.
* وتارةً يدل على وجود الجواب مع انتفاء الشَّرط، وذلك إذا كان عدم العلَّة أولى باقتضاء الجواب من حال ثبوتها، كما في قوله: “لو شتمتني لما شتمتك”؛ فإن اقتضاء عدم الشَّتم لعدم الشَّتم أقوى من اقتضاء الثبوت
_________
(1) الأصل: “منك”. تحريف.
(2) الأصل: “بوجود”.
(3) الأصل: “الانسان”. تحريف.
(4) الأصل: “إذا كان”. والمثبت أقوم.

(9/458)


للعدم، فإذا كانت الشتيمةُ تنتفي مع وجود الشَّتم فمع العدم أولى.
فإذا كانت “لو” تستعملُ على هذه الوجوه الثلاثة، فإن جعلناها حقيقةً في البعض فقط، أو في كلِّ معنًى بخصوصه، لزم الاشتراكُ اللفظيُّ أو المجازي، وهما على خلاف الأصل، فالواجب أن تُجْعَل حقيقةً في المعنى المشترك بين مواردها، وهو تعليقُ أمرٍ بأمر، مع الدلالة على انتفاء الشَّرط، ثم ثبوتُ الجزاء أو انتفاؤه يُعْلَمُ من خصوص الموارد (1)، ولا يدلُّ اللفظ عليها، مع أن الغالب عليها في الاستعمال انتفاء الجواب؛ لما قدَّمته من أن انتفاء العلَّة (2) يُشْعِرُ بعدم المعلول كثيرًا أو غالبًا.
إذا تحرَّر هذا، فنقول: “لولا” و”لو لم” هي “لو” مع حرف النفي، فلهذا قالوا: المثبت بـ “لو” منتفٍ بـ”لولا” و”لو لم”، والمنتفي بـ”لو” منتفٍ بـ”لولا” و”لو لم”.
وهذا أجودُ من قول من قال: المثبت بعد “لو” منتفٍ، والمنتفي بعدها مثبت، والمثبت بعد “لولا” منتفٍ، والمنتفي بعدها مثبت؛ فإن “لولا” كما قدَّمتُه تنفي الشَّرط، ولا تنفي الجزاء إلا بتوسُّط الاستدلال على عدم العلَّة بعدم المعلول، وهذه دلالةٌ عقليةٌ لا لفظية، ولها شروط، كما قدَّمتُه، و”لولا” و”لو لم” تقتضي ثبوت الشَّرط بعدها، وإنما ينتفي الجزاء بتوسُّط ثبوت علَّته التي هي المانع، كما سنبيِّنه.
فإذا قيل: “لولا جاء زيدٌ لجاء عمرو” أفاد تعلُّق الثاني بعدم الأول،
_________
(1) الأصل: “المواد”. تحريف.
(2) الأصل: “اللغة”. تحريف.

(9/459)


وثبوت الأول. فلو قيل: “لولا زيد لجاء عمرو” أفاد تعلُّق عدم الثاني بعدم الأول، وثبوت الأول. فأفاد شيئين:
أحدهما: أن عدم الأول سببٌ لوجود الثاني أو عدمه.
وثانيهما: أن ذلك العدم غيرُ حاصل، فهو معنى “لو” بعينه، إلا أنك تجعل المثبت هناك منتفيًا هنا.
ومعلومٌ أن عدم الأول إذا كان سببًا لوجود الثاني أو انتفائه، فانتفاء العدم هو انتفاء العلَّة، وانتفاء العلَّة ينتفي معها المعلول إلا أن تَخْلُفَه علةٌ أخرى.
فقول عمر – رضي الله عنه -: “لو لم يخف الله لم يعصه” موضوعُ هذا اللفظِ أن عدم الخوف في حقه لو فُرِض كان مستلزمًا لعدم المعصية، وأن هذا العدم منتفٍ لوجود ضدِّه، وهو الخوف.
فيفيد الكلام فائدتين:
أحدهما (1): أنه خائفٌ لله؛ لأن ما انتفى بـ”لو” ثبت بحرف النفي معها.
والثاني: أن هذا الثابت في حقِّه، وهو (2) الخوف، لو فُرِض عدمُه لكان مع هذا العدم لا يعصي الله؛ لأن تركَ المعصية (3) قد يكونُ لخوف الله، وقد يكون لأمرٍ آخر؛ إما لنزاهة الطبع، أو إجلال الله، أو الحياء منه، أو لعدم المقتضي إليها، كما كان يقال عن سليمان التَّيميِّ: “إنه كان لا يُحْسِنُ أن
_________
(1) كذا في الأصل، من باب الحمل على معنى شيئين.
(2) هذا آخر السقط من كتاب “الأشباه والنظائر”.
(3) الأصل: “المعصية له” وضبَّب الناسخ على “له”.

(9/460)


يعصيَ الله عز وجل” (1).
فقد أخبَرنا عنه (2) أن عدم خوفه لو فُرِض موجودًا لكان مستلزمًا لعدم معصية الله، لأن هذا العدم يضافُ إلى أمورٍ أخرى؛ إما عدمُ مقتضٍ أو وجودُ مانع، مع أن هذا الخوفَ حاصل.
وهذا المعنى يفهمُه من الكلام كلُّ أحدٍ صحيح الفطرة، لكن لمَّا وقع في بعض القواعد اللفظية والعقلية نوعُ توسُّعٍ إما في التعبير (3) وإما في الفهم، اقتضى ذلك خللًا إذا بُنِي على تلك القواعد المحتاجة إلى تتميم.
فإذا كان للإنسان فهمٌ صحيح ردَّ الأشياء إلى أصولها، وقرَّر الفِطَر (4) على معقولها، وبيَّن حكم تلك القواعد وما وقع فيها من تجوُّزٍ أو توسُّع، فإن الإحاطة في الحدود والضوابط عسيرٌ عزيز (5).
ومنشأ الإشكال أخذُ كلام بعض النحاة مسلَّمًا أن المنفيَّ بعد “لو” مثبت، والمثبتَ بعدها منفيٌّ، وأن جواب “لو” منتفٍ (6) أبدًا، [وجواب
_________
(1) قاله حماد بن سلمة. أخرجه أبو القاسم البغوي في “الجعديات” (1310)، وأبو الفضل الزهري في حديثه (202)، وأبو نعيم في “الحلية” (3/ 28).
وقاله كذلك سفيان بن عيينة في محمد بن سُوْقَة. أخرجه الدينوري في “المجالسة” (324)، ومن طريقه ابن جماعة في مشيخته (594).
(2) أخبرنا عمر عن صهيب – رضي الله عنهما -.
(3) الأصل: “التعيين”. والمثبت من “الأشباه والنظائر” أشبه بالصواب.
(4) “الأشباه والنظائر”: “النظر”. تحريف.
(5) “الأشباه والنظائر”: “غير تحرير”. وهو تحريف.
(6) الأصل: “ثابت”. وهو من سهو الناسخ أو أصله.

(9/461)


“لولا” ثابتٌ أبدًا] (1)، وأن “لو” حرفٌ يمتنع به الشيءُ لامتناع غيره، و”لولا” حرفٌ يدلُّ على امتناع الشيء لوجود غيره مطلقًا.
فإن هذه العبارات إذا قُرِن بها “غالبًا” كان الأمر قريبًا، وأما أن يُدَّعى أن هذا مقتضى الحرف دائمًا فليس كذلك، بل الأمرُ كما ذكرناه من أن “لو” حرفُ شرطٍ يدلُّ على انتفاء الشَّرط.
فإن كان الشَّرط ثبوتيًّا فهي “لو” محضة، وإن كان الشَّرط عدميًّا مثل “لولا” و”لو لم” دلَّت على انتفاء هذا العدم بثبوت نقيضه، فيقتضي أن هذا الشَّرط العدميَّ مستلزمٌ لجزائه، إنْ وجودًا وإنْ عدمًا، وأن هذا العدم منتفٍ.
وإذا كان عَدَمُ شيءٍ سببًا في أمرٍ فقد يكون وجودُه سببًا في عدمه، وقد يكون وجودُه أيضًا سببًا في وجوده، بأن يكون الشيءُ لازمًا لوجود الملزوم ولعدمه، والحكمُ ثابتًا مع العلَّة المعيَّنة ومع انتفائها لوجود علةٍ أخرى.
وإذا عرفتَ أن مفهومها اللازم لها إنما هو انتفاء الشَّرط، وأن فهم نفي الجزاء منها ليس أمرًا لازمًا، وإنما يُفْهَمُ باللزوم العقليِّ أو العادة الغالبة، وعطفتَ على ما ذكرته من المقدمات = زال الإشكالُ بالكلية.
وقد كان يمكننا أن نقول: إن حرف “لو” دالةٌ على انتفاء الجزاء، وقد تدلُّ أحيانًا على ثبوته، إما بالمجاز المقرون بقرينةٍ أو بالاشتراك، لكنَّ جعلَ اللفظ [حقيقةً] في القدر المشترك أقربُ إلى القياس. مع أن هذا إن قاله قائلٌ كان سائغًا (2) في الجملة؛ فإن الناس ما زالوا يختلفون في كثير من معاني
_________
(1) ساقط من الأصل، واستدركته من “الأشباه والنظائر”.
(2) الأصل: “سابقا”. تحريف.

(9/462)


الحروف هل هي مقولةٌ بالتواطؤ أو بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز؟
وإنما (1) الذي يجبُ أن يُعْتَقَد بطلانُه ظنُّ ظانٍّ إن ظنَّ (2) أن لا معنى
لـ “لو” إلا عدم الجزاء والشَّرط؛ فإن هذا ليس بمستقيمٍ البتة.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
_________
(1) الأصل: “واما”. تحريف.
(2) كذا في الأصل. وفي “الأشباه والنظائر”: “ظنُّ ظانٍّ ظنَّ”، وفي بعض نسخه الخطية: “ظن ظان أن الظن”، وفي بعضها: “ظان إن ظن”.

(9/463)


مسألة
في الانتماء إلى الشيوخ

(9/465)


مسألة: في من قال: من انتمى إلى شيخٍ رآه أو لم يره، ولم (1) يَرِثْ عنه علمًا يصلُ به إلى طاعة الله وطاعة رسوله، كان كاذبَ الانتماء، متَّبعَ الهوى. وأن هذا الانتماء المعتاد في هذه الأعصار، على ما جرت به العادة من أرباب الحِرَف، مُحْدَثٌ مردود. فهل هو كذلك أم لا؟
أجاب شيخ الإسلام – رضي الله عنه -:
الحمد لله. الانتماء إلى شيخٍ لم يَسْتَفِد منه ولا من اتِّباعه فائدةً (2) دينيَّة، ليس مما أمر الله به ولا رسولُه، بل هو من جنس أهواء الجاهلية، كقيسٍ ويَمَن (3).
فإن المراد من الشيوخ إنما هو الدعوة إلى الله، كما دعت إليه الرسل، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 52 – 53].
_________
(1) الأصل: ” أو لم”. والوجه ما أثبت.
(2) سها الناسخ فكتب عبارة “ولا من اتباعه فائدة” مرتين.
(3) انظر: “الجواب الصحيح” (3/ 176)، و”السياسة الشرعية” (91، 122)، و”مجموع الفتاوى” (28/ 18, 422، 487)، و”جامع المسائل” (5/ 378).
وهاجت بينهم في الشام فتنٌ عظيمة أعادت ما كانوا عليه في الجاهلية. انظر: “مجموع الفتاوى” (34/ 146، 147)، و”البداية والنهاية” (13/ 582، 651، 18/ 95)، و”السلوك” (4/ 1040)، و”خطط الشام” (1/ 21، 152 – 158).

(9/467)


فأما إن كان قد انتَفَع به في دينه، إما بما بلغه عنه من الأقوال التي انتَفَع بها في دينه، أو بما بلغه من الأعمال الصالحة التي اقتدى به فيها = فهو قدوةٌ له وإمامٌ في ذلك القدر الذي انتفع به فيه.
وقد يكون غيرُه قدوةً له وإمامًا من غير ذلك.
وقد يكون ذلك القدوةُ ــ فيما اتَّبع فيه ــ جماعةً، كمن يقرأ القرآن على جماعة، أو يقرأ بعضه على شيخٍ وبعضه على شيخٍ آخر، ويصلي خلف إمامٍ صلاةً وخلف غيره صلاةً أخرى، ويستفيد من عالمٍ (1) علمًا ومن آخر علمًا، فهؤلاء كلُّهم أشياخٌ له فيما انتَفَع به منهم، لا يختصُّ بذلك واحدٌ دون واحد.
وهكذا كان السَّلف يجتمعون بأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، ويستفيدون منهم ما بلَّغوهم عن النبي – صلى الله عليه وسلم -. وأهلُ العلم والدين إذا اجتمعوا على شيءٍ فاجتماعهم حجةٌ قاطعة؛ فإن المؤمنين لا يجتمعون على ضلالة.
وقد يكون انتفاع الرجل ببعض شيوخه أكثر.
وأما تشيُّع الأمة وتفرُّقهم، بحيث يوالي الرجلُ من وافقه على نِسْبَتِه حتى فيما يخالفُ الشريعة، ويُعْرِض عن غيرهم حتى فيما يوافقُ الشريعة = فهذا مما ينهى الله عنه ورسولُه؛ فإن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف (2).
_________
(1) الأصل: “علما”. والمثبت أشبه.
(2) من عبارات ابن تيمية وأصوله المشهورة. انظر: “منهاج السنة” (1/ 115, 3/ 467)، و”الرد على المنطقيين” (334)، و”مجموع الفتاوى” (3/ 181، 205، 285، 368, 9/ 230, 11/ 92, 12/ 431، 19/ 116، 22/ 251, 28/ 51, 485, 35/ 74)، و”جامع المسائل” (5/ 273, 8/ 209).

(9/468)


وفي الصَّحيح عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تناصِحوا من ولَّاه الله أمركم” (1).
ولا ريب أن قصَّ رؤوس التائبين (2)، وقول القائل لأحدهم: “أنت الشيخ فلان في الدنيا والآخرة”، أو “شيخك الشيخ فلان في الدنيا والآخرة”، فهو من البدع المحدثة، ومن العقود (3) الفاسدة؛ لأنه التزامُ اتباعِ شخصٍ في الدين مطلقًا، مع أنه ممن يجوز عليه الخطأ. وقد لا يوثق بالنقل عنه؛ فإن كثيرًا من النقل عن الشيوخ يكون كذبًا، والصَّحيح منه قد يكون صوابًا وقد يكون خطأً.
والأحاديث الصَّحيحة الثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – يجبُ على كل مسلم اتباعها؛ لأن الناقلَ لها مُصَدَّق، والقائلَ لها معصوم.
فمن عدل عن نقلٍ مُصَدَّقٍ عن قائلٍ معصومٍ إلى نقلٍ غير مُصَدَّقٍ عن
_________
(1) أخرجه مسلم (1715)، وأحمد (8799) واللفظ له، من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(2) أي: قصَّ شعر رؤوسهم. كما يفعل بعض المنتسبين إلى المشيخة إذا توَّب أحدًا قصَّ بعض شعره. وهو من البدع التي لم يأمر بها الله ورسوله ولا استحبها أحدٌ من الأئمَّة. انظر: “مجموع الفتاوى” (21/ 115 – 119)، و”منهاج السنة” (8/ 47).
(3) الأصل: “العقوبه”. والمثبت أشبه بالصواب. والعقود هي الاعتقادات أو العهود، وكلاهما يحتمله السياق. انظر: “جامع المسائل” (3/ 41)، و”الفتاوى” (14/ 448، 29/ 138، 35/ 344).

(9/469)


قائلٍ غير معصومٍ كان من الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذابَ بالمغفرة، والله أعلم (1).
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (28/ 7 – 25)، و”منهاج السنة” (5/ 133).

(9/470)


رسالة
إلى ابن ابن عمِّه عزِّ الدين عبد العزيز بن عبد اللطيف
بسبب فتح جبل كسروان

(9/471)


رسالة أخرى (1) بسبب جبل كِسْروان (2) أيضًا
إلى ابن ابن عمِّه عزِّ الدين عبد العزيز بن عبد اللطيف ابن تيمية (3)، وهو بدمشق
في أول سنة خمسٍ وسبعمئة
قال – رحمه الله -:
الرَّحِيمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ بِسْمِ
من أحمد ابن تيمية إلى الشيخ الإمام عزِّ الدين وسائر من يصلُ إليه هذا الكتابُ من الإخوان والأصحاب، جعلهم الله من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، وعباده الصالحين.
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته.
فإنا نحمدُ إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهلٌ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين، وسيِّد ولد آدم ورسول الله
_________
(1) سبقها في الأصل رسالة شيخ الإسلام إلى الملك الناصر في هذه الواقعة، وأورد تلك الرسالة بتمامها ابن عبد الهادي في “العقود الدرية” (235 – 247)، وعنه في “مجموع الفتاوى” (28/ 398 – 409).
(2) تقدمت الإشارة إلى خبر هذا الفتح (ص: 258).
(3) هو عز الدين عبد العزيز بن عبد اللطيف بن عبد العزيز بن مجد الدين عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي، أبو محمد، حلَّاه الذهبي في معجم شيوخه الكبير (1/ 398) بالتاجر العدل الصدوق، وقال: “كان خيِّرًا سعيدًا متصدِّقًا”. وذكر ابن الجزري في تاريخه (3/ 914) أنه “كان هو الذي يقوم بطعام الشيخ تقي الدين ابن تيمية من ماله إلى أن مات”. ولد سنة 664، وتوفي – رحمه الله – سنة 736. ومصادر ترجمته في حاشية “ذيل طبقات الحنابلة” (5/ 65).

(9/473)


إلى جميع الثقلين، محمدٍ عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا.
أما بعد، فقد صَدَق الله وعدَه، ونَصَر عبدَه، وأعَزَّ جندَه، وهَزَم الأحزابَ وحده، وحَقَّق من قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] ما أقرَّ به عيونَ المؤمنين، وأعَزَّ به دينَه الذي هو خيرُ دين، وأذلَّ به الكفَّار والمنافقين، ونصَرَ به عباده المعتصمين بحبله المتين على المارقين من دينه، الخارجين عن شريعته وسبيله، المُنْسَلِخين من سنَّة رسوله، المفارقين للسنة والجماعة، المُعتاضِين بشَتَات الجاهلية عن عصمة الطاعة، المستبدِلين قتالَ أهل الإسلام بقتال الكفَّار، المُوَالِين على معاداة أهل الإسلام للفَرَنْج والتَّتار، المُقَدِّمين للذين كفروا وأهل الكتاب، على خواصِّ أمة محمدٍ المتَّبعين لما جاء به من السُّنَّة والكتاب، المكفِّرين لجمهور المسلمين كفرًا أغلظَ من كفر سائر الكفَّار (1)، المُنَجِّسين لهم ولما عندهم من المائعات التي لامَسَتْها الأبشار، المرجِّحين لشِعْر أهل الإفك والبهتان، على أحاديث الرسول التي اتفق على قبولها أهلُ العِرفان، المستحلِّين لدماء المسلمين وأموالهم (2)،
المتعبِّدين بقتلهم وقتالهم، المكذِّبين بحقائق أسماء الله وصفاتِه، المنكِرين أن يراه المؤمنون بأبصارهم في جنَّاتِه، المكذِّبين بحقيقة كلماته وآياتِه، المشبِّهين له بالمعدوم والمَوَات، في أنه لم يتكلَّم بكلامٍ قائمٍ به وإنما خَلَقَه في المصنوعات، الجاحدِين لأن يكون الله فوق السماوات، المنكرِين لقضائه وقدَره في بلادِه،
_________
(1) انظر: “العقود الدرية” (237، 238).
(2) انظر: “العقود الدرية” (232، 237، 238) ..

(9/474)


الزاعمين أنه لا يَقْدِرُ أن يهديَ ضالًّا ولا يُضِلَّ مهتديًا ولا يُقَلِّبَ قلوبَ عبادِه، بل يزعمون أنه يكونُ في ملكه ما لا يشاؤه ويشاءُ ما لا يكون، وهو عاجزٌ عمَّا عليه العبادُ قادرون، المعادِين لأهل بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحابتِه، الطاعنين في أزواجه وأهل قرابتِه، السَّافِكين لدماء عِتْرَتِه وأمَّتِه في القديم والحديث، المُعَاوِنين عليهم لكلِّ عدوٍّ خبيث، الذين تعجزُ القلوبُ والألسنةُ عن الإدراك والصِّفة لمَخَازِيهم، وما أحدثوا في هذه الأمة من مَسَاوِيهم.
لا سيَّما هؤلاء المعتَصِمين بالجبال، التي اتفق على صعوبتها أصنافُ الرجال؛ لاشتمالها من القِلاع والأوعَار (1)، والأودية والأنهار، وأصناف المُلْتَفِّ من الأشجار، والأماكن المُعْطِشَة (2) الوَعِرة العالية، وما لم تَسْلُكه الخيلُ في العُصُر الخالية، وما لا تضبطُ الصفاتُ من مَباعِث الطرقات، ما رجَّح أهلُ الخبرة صعوبتَه على ما رأوه من الجبال الشامخات (3).
وكانوا كما قال الله تعالى في من ضاهَوْه في كثيرٍ من الوجوه: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] (4).
وكانت قلوبهم قويةً بهذه الأماكن المُضِرَّة (5)، لا سيَّما وقد غزاهم
_________
(1) الأماكن الصلبة. جمع: وَعِر ووَعِير.
(2) كذا في الأصل بالمهملة، والأرض المَعْطَشة هي التي لا ماء فيها. ويحتمل أن تكون بالمعجمة “المُغْطِشة” وهي المظلمة.
(3) انظر: “العقود الدرية” (240).
(4) انظر: “العقود الدرية” (244).
(5) كذا في الأصل، وهو موافق للسجع.

(9/475)


الناسُ كما ذكر أهلُ الخبرة أكثر من عشرين مرَّة، ولا يرجعون عنهم إلا بالخيبة والخَسَار (1)، حتى قصَدَهم المسلمون والإفْرَنج جميعًا في سالف الأعصار، فقتلوا من الفريقين من بقيت عظامُهم عندهم في الديار.
وقد سفكوا من دماء الأمَّة المحمَّديَّة من لا يحصي عددَه إلا الله، وفعلوا فيهم ما لم يفعله أعظمُ الناس معاداة، وأخذوا من الأموال ما لا يقوم ببعضه أثمنُ (2) ما في الجبال، واستحلُّوا من الفروج وقتلِ الأطفال، وفرطِ الانتقام والاستحلال، ما يتبيَّنُ به أنهم شرٌّ من التَّتار بطبقاتٍ وأطوار (3).
فأعَزَّ الله دينَه وجندَه بفتح بلادهم، وإجلائهم منها بالذُّلِّ والصَّغَار، {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 3 – 4].
وذلك بعد أن قتل الله منهم من لم يُحْصَ عددُه إلى الآن، وذَلَّ جماهيرُهم وطلبوا الدخول في الأمان، فأُومِنُوا (4) على أن ينزلوا إلى بلاد الإسلام، ويقوموا بالواجبات التي تجبُ على الأنام، ويلتزموا حكمَ الله ورسولِه، الشاهد به كتابُه وسُنَّةُ رسولِه، ويكونوا من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، ومن خرج عن ذلك أو عن شيءٍ منه فقد برئت منه الذِّمَّةُ
_________
(1) انظر: “العقود الدرية” (231).
(2) ذهب البلى بموضع الكلمة من الأصل، ولم يبق من رسمها إلا الحرفان الأخيران.
(3) انظر: “العقود الدرية” (243).
(4) أي أُعْطُوا الأمان، وكذلك وقعت في “الصارم المسلول” (182). وآمَنَه أفصحُ من أمَّنَه، بل عدَّ بعضهم الثانية لحنًا. انظر: “تصحيح التصحيف” (127).

(9/476)


التي حصلت من أهل السُّنَّة إليهم.
وفُرِّقوا في البلاد بين أهل السُّنَّة والجماعة، بحيث لا يكون لأهل البدعة اجتماعٌ على خلاف الطاعة، وخُرِّبَت وحُرِّقَت مساكنُهم والديار، وقُطِّعَت زروعُهم والأشجار، من العنب الكثير، والتُّوت الغزير، والجَوز واللَّوز، وغير ذلك، وكان ذلك بإذن الله من أبلغ المسالك؛ آيَسَهم من سُكنى الجبال، وأوجبَ استئمانَ من كان تخلَّف منهم راجيًا لحسن الحال (1)، وأخزى الله بذلك الفاسقين، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
واتُّبِعَ في ذلك ما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ببني النَّضِير؛ إذ كان بين هؤلاء وبينهم شبهٌ كثير، حيث يقول الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5]، ولهذا ذكر الله في هذه السُّورة ما يبيِّنُ ما هم به (2) من المارقين.
وقد ثبت في الصِّحاح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قَطَع نخلَ بني النضير، وحَرَّق (3).
وفي ذلك يقول حسانُ بن ثابت (4):
وهان على سَرَاةِ بني لُؤيٍّ … حَرِيقٌ بالبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
وسُطِّر هذا الكتابُ ليلة الاثنين، سَلْخَ المحرَّم وغرَّة صفر، وعامَّةُ بلدهم
_________
(1) انظر: “العقود الدرية” (244).
(2) كذا في الأصل. أي: ما كانوا بسببه.
(3) أخرجه البخاري (2326)، ومسلم (1746)، وأحمد (4532) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
(4) البيت في مصادر رواية الحديث السابق، وفي ديوان حسان – رضي الله عنه – (1/ 210).

(9/477)


قد دَثَر، واستأمن عامَّةُ من فيه من البَشَر، وخَرِب الجُرْدُ والكِسْرَوَان (1)، ودخَل في خبر كان، وأظهر الله من أعلام الإسلام ما كان مستورًا، وطوى من ألوية الضلال ما كان منشورًا، وأورث الله المؤمنين أرضَهم وديارَهم وأموالَهم وأرضًا لم يطؤوها، وكان الله على كلِّ شيء قديرًا.
وكان هذا فتحًا أقام الله به عمودَ الدين، وقمَع به طوائف أهل البدع المنافقين، من جميع الأجناس والأصناف، في جميع النواحي والأطراف، سِيْرَ فيه بسيرة الخلفاء الراشدين (2)، الثابتة بالكتاب وسنَّة سيِّد المرسلين.
والحمد لله الذي {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]، والله تعالى يُوزِعُنا وسائر المؤمنين شُكرَ هذه النعمة التي لم تبلغها الظنون، ولم يطمع بها الطامعون، بل ظنَّ المنافقون أن لن ينقلب المؤمنون إلى أهليهم أبدًا، وزُيِّن ذلك في قلوبهم، وظنُّوا ظنَّ السَّوء، وكانوا قومًا بورًا.
ففَتَح الله فتحًا مبينًا، ونَصَر نصرًا عزيزًا، ويسَّر من الأمور ما كان عسيرًا، وفَتَح من أبواب هدايته ونصره ورزقه ما يجلُّ أن يقال: كان كثيرًا.
والله هو المسؤول أن يُتِمَّ النعمة على عباده المؤمنين، ويُصْلِح لهم أمر الدنيا والدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى جميع الإخوان والأصحاب
_________
(1) تقع جبال الجرد والكسروان غرب وسط لبنان، بين بعلبك وساحل البحر المتوسط.
(2) سيرة الخليفة الراشد عليٍّ – رضي الله عنه -. انظر: “العقود الدرية” (240 – 243).

(9/478)


واحدًا واحدًا خصوصًا، ووفدَ الله القادمين من بيت الله (1) فالسلام عليهم جميعهم واحدًا واحدًا ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا.
كتبتُ هذا الكتابَ عجلانَ بالليل؛ لكون حامله أراد السَّفر بليلٍ.
_________
(1) القادمين من حج بيت الله الحرام.

(9/479)


مسائل متفرقة

(9/481)


مسألة: هل يجوز لوليِّ الأمر أن يُستفتَى؟
فأجاب – رضي الله عنه -: لا يجوز أن يُستفتَى إلا من هو أهلٌ للفتيا، وهو يفتي بعلمٍ وعدل (1). وأما من يفتي بلا علم، أو يفتي بما يَعْلَمُ الحقَّ بخلافه، فلا يجوز استفتاؤه، كما لا يجوز استقضاؤه.
بل الحاكم قد تنازع الناسُ فيه: هل يجوز أن يولَّى العدلُ الذي لا يعلم، ثم يستفتي العلماء، ويحكم بما يفتونه فيه؟ على قولين (2).

والعلماء لهم في شروط القاضي ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يشترط فيه أن يكون من أهل الشهادة فقط. وهذا قول أبي حنيفة (3).
والثاني: أنه يشترط فيه الاجتهاد. وهذا قول الشافعي وكثيرٍ من أصحاب الإمام أحمد (4).
وقد جوَّز كثيرٌ من المتأخرين من أهل هذا القول أن يولَّى غيرُ المجتهد للضرورة (5).
والقول الثالث، وعليه يدلُّ كلام الإمام أحمد وغيره: أنه يولَّى الأمثلُ
_________
(1) انظر: “الفروع” (11/ 113)، و”الاختيارات” للبعلي (481).
(2) انظر: “روضة القضاة” للسمناني (1/ 59)، و”الأحكام السلطانية” للماوردي (90).
(3) انظر: “بدائع الصنائع” (7/ 3)، و”فتح القدير” (7/ 256).
(4) انظر: “أدب القضاء” للماوردي (1/ 637)، ولابن أبي الدم (277)، و”الإشراف” للقاضي عبد الوهاب (2/ 955)، و”المغني” (14/ 14، 15).
(5) انظر: “الوسيط” للغزالي (7/ 291)، و”الذخيرة” (10/ 16).

(9/483)


فالأمثل بحسب الإمكان، وليس لذلك حدٌّ، حتى لو قُدِّر أنه لم يوجد إلا فاسقان، وُلِّي أقلُّهما شرًّا وأكثرهما نفعًا، وكذلك لو لم يوجد (1) إلا مقلِّدان، وُلِّي أعدلُهما وأعرفُهما بالتقليد (2).
ولو وُجِد مجتهدان وُلِّي أفضلُهما، إن لم يكن الأفضل مشغولًا بما هو أفضل من القضاء.
ولهذا لما أرسَل الخليفة إلى الإمام أحمد وزيرَه يسأله عن قضاة الأمصار، لمن يولِّي منهم ولمن يعزل، وكتب له أسماءهم، أمره بتولية ناسٍ، وعَزْل ناسٍ، وأمسك عن آخرين وقال: لا أعرفهم (3).
وكان في من أمَر بتوليته من فيه نقصٌ في علمه، وقال: إن لم يولُّوا هذا ولَّوا مكانه فلانًا، وهذا خيرٌ منه (4).
وأما الإفتاء، فعامة الفقهاء يشترطون فيه العلم، لا يقتصرون فيه على مجرَّد أهلية الشهادة، فكيف يجوز استفتاء من لا يَعْلَم ما يفتي به؟!
* … * … *
_________
(1) الأصل: “يجد”. ولعله من سهو الناسخ.
(2) انظر: “الفروع” (11/ 107)، و”الاختيارات” للبعلي (481).
(3) انظر: “تاريخ بغداد” (3/ 596، 7/ 97، 16/ 410)، و”مناقب الإمام أحمد” لابن الجوزي (252، 253).
(4) انظر: “المسودة” (926).

(9/484)


وسئل – رضي الله عنه -: أيُّما أفضل: العالم العامل، أو المجاهد المخلص؟
فأجاب – رضي الله عنه -: إن الله تعالى قال في كتابه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وثبت في الصَّحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه سئل: أيُّ الناس أكرم؟ فقال: “أتقاهم” (1).
فأيُّ الرجلين كان أتقى لله فهو أكرمُ على الله.
والله جعل عباده المنعَم عليهم أربعة أصناف، فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69].
فالصِّدِّيق أفضلُ من الشَّهيد الذي ليس بصِدِّيق، والشَّهيد أفضل من الصَّالح الذي ليس بشهيد.
_________
(1) أخرجه البخاري (3353)، ومسلم (2378) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
وقد كتب الناسخ بعد جواب شيخ الإسلام حاشيةً لعلها كانت على طرة أصل ابن المحب في هذا الموضع، وهي:

“حاشية: في مسند الإمام أحمد: لابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه -، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: إن أنسابكم هذه ليست بسِبَابٍ على أحد، وإنما أنتم ولد آدم، طَفُّ الصَّاعِ لم تملؤوه، ليس لأحدٍ على أحدٍ فضلٌ إلا بالدين أو عملٍ صالح، حسبُ الرجل أن يكون فاحشًا بذيًّا، بخيلًا جبانًا”. والحديث في “المسند” (17313)، ولا بأس بإسناده.

(9/485)


وقد يكون الرجل صِدِّيقًا وشهيدًا وصالحًا، كما يكون نبيًّا وصِدِّيقًا وشهيدًا وصالحًا، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41]، وقال إبراهيم – صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83]، وقال يوسف الصِّدِّيق – صلى الله عليه وسلم -: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
فإن كان العالمُ صِدِّيقًا، والمجاهدُ ليس بصِدِّيق، فالصِّدِّيقُ أفضل. وكذلك بالعكس، إن كان المجاهدُ صِدِّيقًا، وذاك ليس بصِدِّيق، فالصِّدِّيق أفضل.
ولا يكون الرجل عالمًا عاملًا بعلمه حتى يكون مجاهدًا مخلصًا، ولا يكون الرجل مجاهدًا مخلصًا حتى يكون معه علمٌ بما أمر الله به وعملٌ بما أمر الله به.
والجهاد يكون باللسان، والدعوة إلى الله، واليد. والجهاد فيه علمٌ وعمل.
فلا يتميَّز (1) شخصان ليس في أحدهما جهادٌ وإخلاص، ولا في الآخر علمٌ وعمل، حتى يُفصل (2) بينهما.
لكن قد يكون جهادُ هذا بالقتال وعملُه في ذلك أظهر، وقد يكون علمُ هذا الظاهرُ النافعُ للناس أكبر، وحينئذٍ فقد يكون هذا أفضل، وقد يكون هذا
_________
(1) كذا رسمت في الأصل.
(2) مهملة في الأصل. وكلاهما محتمل: التفضيل والتفصيل.

(9/486)


أفضل، أيُّهما كان أتقى لله فهو أفضل.
ومن جمَع الجهاد باللسان، والدعوة، والسياسة، كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفاؤه الراشدون، مع العلم والعمل به، فهو أفضلُ من هذا وهذا، ومن كان أشبَه بهم فهو أفضلُ من غيره، والله أعلم (1).
* … * … *
* مسألة: في رجل قال: إن العلم أفضل من القرآن.
الجواب: خيرُ الكلام كلامُ الله، وأفضلُ العلوم العلمُ الذي في القرآن، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إن لله أهْلِينَ من الناس”، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: “أهل القرآن، هم أهل الله وخاصَّتُه” (2).
لكن العلمَ الذي يجبُ طلبُه على كل مسلمٍ هو ما يحتاجُ إليه في دينه، فيجب على الرجل أن يتعلَّم ما أمر الله به وما نهى عنه، وهذا العلمُ تعلُّمُه أوجبُ عليه من قراءة القرآن الذي لا يجبُ عليه، ويجبُ عليه أن يحفظ من
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (28/ 577)، و”منهاج السنة” (8/ 539)، و”مفتاح دار السعادة” (220 – 223).
ولشيخ الإسلام قاعدة مفردة في المفاضلة بين مداد العالم ودم الشهيد، ذكرها ابن رشيِّق في أسماء مؤلفاته (308 – الجامع لسيرة شيخ الإسلام)، وابن عبد الهادي في “العقود الدرية” (80).
(2) أخرجه أحمد (12292)، وابن ماجه (215) وغيرهما من حديث أنس – رضي الله عنه – بسند حسن، وصححه المنذري في “الترغيب والترهيب” (2/ 231)، والبوصيري في “مصباح الزجاجة” (1/ 29).

(9/487)


القرآن ما يصلِّي به، والله أعلم (1).
* … * … *
* مسألة: في رجلين تنازعا في الجهل، فقال أحدهما للآخر: أنت جاهلٌ في الأحكام الشرعية، فقال هو: أنا جاهل (2).
الجواب: إن كان هذا الرجل عالمًا بما أمر الله به ونهى عنه (3) فهو عالمٌ بالشريعة، وإن لم يكن عالمًا بهذا فهو جاهلٌ بذلك. وإن لم يكن عالمًا بما أمره الله به وما نهاه عنه فهو من أجهل الناس، والله تعالى أعلم (4).
* … * … *
* مسألة: في جنديٍّ يريد أن يصير فقيرًا (5) يشتغلُ بالعبادة.
الجواب: الجنديُّ إذا اتقى الله، وقَصَد أن يَنْصُر الله ورسولَه، ويُعِين
_________
(1) انظر: “مجموع الفتاوى” (15/ 93، 23/ 54 – 56).
(2) كذا في الأصل. ولعله تقريرٌ منه على جهة العناد والاستخفاف، أو يكون استفهامًا للاستنكار والتعجب.
(3) الأصل: “بما أمره الله به ونهاه عنه”. ولعله من سهو الناسخ وانتقال بصره. والمراد: العلم بمطلق أوامر الله ونواهيه، دون تقييدها بما يجب على الإنسان في خاصة أمره، فهما مقامان مختلفان، وصنيع الناسخ يوهم التسوية بينهما.
(4) انظر: “مختصر الفتاوى المصرية” (586).
(5) أي: صوفيًّا. وأهل الشام يسمُّون التصوف “فقرًا” والصوفية “فقراء”. انظر: “اللمع” لأبي نصر السراج (26) , و”مجموع الفتاوى” (11/ 21، 118، 195)، و”مدارج السالكين” (2/ 349)، و”عدة الصابرين” (348).

(9/488)


على طاعة الله، فهو أفضلُ من أن يصير فقيرًا يأكل الفُتوحَ (1)، ويترك الجهاد، بلا منفعةٍ للمسلمين، والله أعلم (2).
* … * … *
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني – رضي الله عنه – في كلامه على الكيمياء:
الكيمياء غِشٌّ، وهي تشبيهُ المصنوع من ذهبٍ أو فضةٍ أو غيره بالمخلوق، باطلةٌ في العقل، محرَّمةٌ بلا نزاعٍ بين علماء المسلمين (3)، ثبتت على الرُّوباص (4) أم لا.
ويقترنُ بها كثيرًا السِّيمياء التي هي من السحر.
والزجاج مصنوعٌ لا مخلوق.
ومن طلب زيادة المال بما حرَّمه الله عُوقِبَ بنقيضه، كالمُرابي. وهي أشدُّ تحريمًا منه.
_________
(1) جمع “فتح”، وهي ما تُعطاه المتصوفة من الصدقات. انظر: “المحرر الوجيز” لابن عطية (12/ 215)، و”تلبيس إبليس” (166)، و”تكملة المعاجم” (8/ 11، 13)، و”معجم اصطلاحات الصوفية” للكاشاني (152).
(2) انظر: “مجموع الفتاوى” (28/ 26).
(3) انظر: “مجموع الفتاوى” (29/ 368 – 388).
(4) الروباص: إناءٌ تُصْهَر فيه المعادن، لتخلص من الشوائب، وبه يُكْشَف الزغل. انظر: “نهاية الرتبة” للشيزري (77)، و”معالم القربة” لابن الإخوة (146)، و”التعريف بمصطلحات صبح الأعشى” (102)، و”تكملة المعاجم” (5/ 231).

(9/489)


ولو كانت حقًّا مباحةً لوجبَ فيها خُمُسٌ أو زكاة، ولم يُوجِبْ عالمٌ فيها شيئًا.
والقول بأن قارون عَمِلها باطل.
ولم يذكرها ويعملها إلا:
* فيلسوف، كمحمد بن زكريا الرازي.
* أو اتحاديٌّ، كابن عربيّ، وصاحبه المتكلِّم في الحروف (1)، وابن سبعين.
* أو ملكٌ ظالم، كبني عُبيد (2).
_________
(1) سعد الدين ابن حمُّويه (ت: 650)، متصوفٌ على طريقة أهل الوحدة، وله تصنيفٌ في حقائق الحروف، ولشيخ الإسلام رسالةٌ في الرد على بعض أتباعه. انظر: “مجموع الفتاوى” (2/ 228)، و”جامع المسائل” (4/ 387، 396)، و”تاريخ الإسلام” (14/ 644)، و”كشف الظنون” (1/ 672).
(2) نقل هذا النصَّ بتمامه كما وقع في الأصل ابن مفلح في “الفروع” (6/ 314 – 315)، وعنه كتب متأخري الحنابلة، وأسقط اختصارًا أسماء المذكورين في الفقرة الأخيرة، فاستدركهم ابن قندس في حاشيته، وتحرَّف في المطبوعة “الرازي” إلى “الشيرازي”.

(9/490)