ابن تيميةابن تيمية - كتبعطاءات العلم

جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية

جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحمويةجواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية
[آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (16)]المؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (661 – 728 هـ)
المحقق: محمد عزير شمس
راجعه: سعود بن عبد العزيز العريفي – جديع بن محمد الجديع
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثالثة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 177
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لَحِقَها من أعمال (16)

جَوابُ الاعتراضاتِ المصريَّة على الفُتْيَا الحَمَويَّة (قطعةٌ منهُ تُطْبَعُ لأوَّلِ مَرَّةِ)

تأليف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (661 – 728 هـ)

تحقيق: محمد عزير شمس

إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد

دار عطاءات العلم – دار ابن حزم

(المقدمة/1)


راجَعَ هذا الجزء

سعود بن عبد العزيز العريفي
جديع بن محمد الجديع

(المقدمة/3)


بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فنقدِّم اليوم جزءًا من كتاب من أهم كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، كان في عداد المفقود، فلم يعثر عليه الباحثون والمهتمون بآثار الشيخ من قبل. وقد منَّ الله علينا بالعثور على قطعةٍ منه مصوَّرةٍ عن إحدى مكتباتِ باكستان، ووجدَ أخونا المحقق أبو الفضل القونوي قطعة أخرى منه في إحدى مكتبات تركيا، ولا نعرف عن بقية الكتاب شيئًا في مكتبات العالم، على كثرة البحث والتنقيب عنها في الفهارس، وزيارة مكتبات بلدانٍ عديدة والاطلاع على محتوياتها.
وقد قمنا بتحقيق ما وصل إلينا منه، على المنهج الذي ارتضيناه وسرنا عليه في سائر ما أخرجناه من تراث شيخ الإسلام في هذا المشروع المبارك. ولكثرة الأخطاء والتحريفات الموجودة في القطعتين لم نُشِر إليها جميعًا في الهوامش، واستدركنا بعض السقط بمراجعة كتب الشيخ الأخرى أو بالتأمل في سياق الكلام.
وهذه بعض الفصول التي تتحدث عن أصل الكتاب ومناسبة تأليفه، وتحقيق عنوانه، وبيان محتوياته وأهميته، ووصف النسختين اللتين عثرنا عليهما، أرجو أن تكون نافعةً إن شاء الله.

* الفتيا الحموية وأثرها:
في أوائل سنة 698 ورد على الشيخ سؤال من أهل حماة، يسألونه

(المقدمة/5)


فيه عن الآيات والأحاديث الواردة في الصفات، فكتب جوابًا ذكر فيه مذهب السلف ورجحه على مذهب المتكلمين، وكتب هذا الجواب في جلسةٍ بين الظهر والعصر، كما ذكر ذلك الشيخ نفسه في مقدمة بيان تلبيس الجهمية (1/ 4): “كنتُ سئلتُ من مدة طويلةٍ، بُعيدَ سنة تسعين وستمئة (1) عن الآيات والأحاديث الواردة في صفات الله، في فتيا قدمتْ من حماة، فأحلتُ السائلَ على غيري، فذكر أنهم يريدون الجواب مني لابدَّ، فكتبتُ الجوابَ في قعدةٍ بين الظهر والعصر، وذكرتُ فيه مذهب السلف والأئمة المبني على الكتاب والسنة”.
سُمِّيت هذه الفتيا بالحموية نسبةً إلى حماة، وانتشرت في البلاد، واشتهر أمرها، وأثارت ضجة في أوساط المتكلمين، وامتُحِن الشيخ بسببها محنةً عظيمة في دمشق، وكانت من أوائل المحن التي تعرَّض لها في حياته. وكان الشيخ قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين (2)، واجتمع بسيف الدين جاغان في ذلك في حال نيابته بدمشق وقيامه مقام نائب السلطة، فامتثل أمره وقبِلَ قوله، والتمس منه كثرةَ الاجتماع به، فحصل بسبب ذلك ضيقٌ لجماعة، مع ما كان عندهم قبل ذلك من كراهية الشيخ وتألُّمهم لظهوره وذكرِه الحسن. فانضاف شيء إلى أشياء، ولم يجدوا مساغًا إلى الكلام فيه لزهده وعدمِ إقباله على الدنيا، وترك المزاحمة على المناصب، وكثرة علمه، وحُسْن أجوبته وفتاويه، وما يظهر فيها من
__________
(1) ذكرت المصادر أنه وقع ذلك في أول شهر ربيع الأول من سنة 698. انظر العقود الدرية (ص 198) والبداية والنهاية (4/ 14) والدرر الكامنة (1/ 155) وغيرها.
(2) انظر مجموع الفتاوى (35/ 172)، حيث ناقش زعماءهم وبيَّن فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بصحتها.

(المقدمة/6)


غزارة العلم وجودة الفهم.
فعمدوا إلى الكلام في العقيدة لكونهم يرجّحون مذهب المتكلمين في الصفات والقرآن على مذهب السلف، ويعتقدونه الصواب، فأخذوا الجواب الذي كتبه الشيخ، وعملوا عليه أوراقًا في ردّه، ثم سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء واحدًا واحدًا، وأغروا خواطرهم، وحرَّفوا الكلام، وكذبوا الكذب الفاحش، وجعلوه يقول بالتجسيم – حاشاه من ذلك – وأنه قد أوعزَ ذلك المذهب إلى أصحابه، وأن العوامّ قد فسدت عقائدهم بذلك. ولم يقع من ذلك شيء والعياذ بالله. وسعوا في ذلك سعيًا شديدًا، فوافقهم جلال الدين الحنفي قاضي الحنفية يومئذٍ على ذلك، ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية، وطلب حضورَه، وأرسل إليه فلم يحضر، بل أجابه الشيخ بقوله: إن العقائد ليس أمرُها إليك، وإن السلطان إنما ولّاك لتحكم بين الناس، وإن إنكار المنكرات ليس مما يختصُّ به القاضي.
فلما وصل إلى القاضي هذا الجواب غضب، وأمر بأن ينادى في البلد ببطلان عقيدته، لكن الأمير سيف الدين جاغان أرسل طائفةً إلى المنادي، فضُرِب ومن كان معه، وأمر الأمير بطلب من سعى في ذلك فاختفوا.
ولما هدأت الأمور جلس الشيخ يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول، وكان تفسيره في درسه لقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وذكر الحلم وما ينبغي استعماله، وكان درسًا عظيمًا.
ثم اجتمع الشيخ بعد ذلك بالقاضي الشافعي إمام الدين القزويني، وواعده لقراءة جزئه الذي أجاب فيه، أي “الحموية”، فاجتمعوا يوم

(المقدمة/7)


السبت رابع عشر الشهر – من الصباح إلى الثلث من الليل – ميعادًا طويلًا مستمرًّا، وقُرئت فيه جميع العقيدة، وبيَّن مرادَه من مواضع أشكلت. ولم يحصل إنكار عليه من الحاكم ولا ممن حضر المجلس، بحيث انفصلَ عنهم والقاضي يقول: كلُّ من تكلَّم في الشيخ يُعزَّر. ورجع الشيخ إلى داره في ملأ كثير من الناس، وعندهم استبشار وفرح به. وهو في كل ذلك ثابت الجأش قوي القلب، واثق بالنصر الإلهي، لا يلتفت إلى نصر مخلوق، ولا يُعوِّل عليه.
وكان سعيهم في حقه أتمَّ السعي، لم يبقوا ممكنًا من الاجتماع بمن يرتجون منه أدنى نصر لهم، وتكلموا في حقه بأنواع الأذى وبأمور يستحي الإنسان من الله أن يحكيها فضلًا عن أن يختلقها ويُلفِّقها. فلا حول ولا قوة إلّا بالله (1).
ولما لم ينجح المخالفون للشيخ في هذه المعركة، بل زادت منزلته لدى الخاصة والعامة، لجأوا إلى التأليف في الردَّ عليه وعلى فتياه “الحموية”، فألَّف شهاب الدين أحمد بن يحيى المعروف بابن جَهْبَل الحلبي الشافعي (ت 733) رسالةً (2) في ذلك قصد بها الرد على “الحموية”، وقد كانت رسالته هذه عمدة من جاء بعده، مثل محمد سعيد المدراسي الهندي الشافعي (ت 1314) في كتابه “التنبيه بالتنزيه” الذي أدرج فيه رسالة ابن جَهْبل الحلبي بتمامها. وقد ردَّ عليها الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي (ت 1327) في كتابه “تنبيه النبيه
__________
(1) ذكر هذه المحنة البرزالي في تاريخه، ونقل عنه ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 198 – 202).
(2) ساقها السبكي في طبقات الشافعية (9/ 35 – 91).

(المقدمة/8)


والغبي في الردّ على المدراسي والحلبي”.
وممن ألف في الردِّ على “الحموية”: القاضي شمس الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السَّرُوجي المصري الحنفي (ت 710)، وهو الذي أشار إليه الشيخ في بيان تلبيس الجهمية (1/ 6 – 7) ووصفه بأفضل القضاة المعارضين. ولم يصل إلينا كتابه. وقد ردَّ عليه شيخ الإسلام بالكتاب الذي بين أيدينا قطعة منه، وسماه “جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية”، وقد كان كتابًا كبيرًا في أربعة مجلدات.

* عنوان هذا الكتاب وموضوعه:
ذكره ابن رشيق (1) وابن عبد الهادي (2) بعنوان “جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية”، وبحذف كلمة “جواب” عند الصفدي (3) وابن شاكر الكتبي (4). وذكره ابن رجب (5) بالعنوان المعروف ولكنه قال ” … الفتاوى الحموية”، وتابعه العليمي (6). وحذفُ كلمة “جواب” من العنوان الكامل يوهم أنه مجرد سرد للاعتراضات على الفتيا دون الجواب المفصل عنها، كما أن “الفتاوى” بصيغة الجمع خلاف الواقع، فإن “الحموية” فتوى مفردة وليست فتاوى متعددة. ولذا فالعنوان الكامل
__________
(1) في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام (ص 294 ضمن “الجامع لسيرة شيخ الإسلام”).
(2) في العقود الدرية (ص 29)، ومختصر طبقات علماء الحديث (ضمن “الجامع” ص 256).
(3) انظر: “الجامع” (ص 353، 354، 376).
(4) المصدر السابق (ص 391).
(5) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 403).
(6) في المنهج الأحمد، والدر المنضد. انظر الجامع (ص 618، 609).

(المقدمة/9)


للكتاب هو الذي ذكره ابن رشيق وابن عبد الهادي.
وقد ذكر شيخ الإسلام مناسبة تأليفه وعنوانه وبعض الموضوعات التي تناولها فيه في عدد من مؤلفاته، فقال في “بيان تلبيس الجهمية” (1/ 6 – 7): “اعترض قولم عليَّ في (1) هذه الفتيا [الحموية] بشبهاتٍ مقرونة بشهوات، وأوصل إليَّ بعض الناس مصنَّفًا لأفضل القضاة المعارضين، وفيه أنواع من الأسئلة والمعارضات، فكتبتُ جواب ذلك وبسطتُه في مجلدات”. وسماه (1/ 8) “الجواب عن الاعتراضات المصرية الواردة على الفتيا الحموية”، واعتبر “بيان تلبيس الجهمية” تتمة له في هذا الباب.
ويفيدنا هذا النصّ أن الكتاب جواب لتأليف أحد القضاة الذي يصفه المؤلف بأفضل القضاة المعارضين، وتدلُّنا مخطوطة القطعة الثانية أن المقصود به القاضي السَّروجي، وهو شمس الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السَّرُوجي الحنفي، قاضي القضاة بمصر، المتوفى سنة 710، ويؤكِّد ذلك ابن كثير فيقول (2): “له اعتراضات على الشيخ تقي الدين بن تيمية في علم الكلام أضحك فيها على نفسه، وقد ردَّ الشيخ تقي الدين عليه في مجلدات، وأبطل حججه”. وأشار إليه المقريزي وابن حجر والتميمي وابن تغري بردي في ترجمة السَّروجي (3). فكتاب السَّرُوجي هذا كان في الرد والمناقشة وإيراد
__________
(1) في المطبوعة: “على خفي”، وهو تحريف.
(2) البداية والنهاية (14/ 60).
(3) المقفى (1/ 348) والسلوك (2: 1/ 94) والدرر الكامنة (1/ 92) والنجوم الزاهرة (9/ 213) والطبقات السنية (1/ 261).

(المقدمة/10)


الأسئلة والاعتراضات على الفتيا الحموية، فردَّ عليه شيخ الإسلام في مجلدات. ووصفه ابن رشيق وابن عبد الهادي وغيرهما بأنه في أربع مجلدات، وزاد في العقود الدرية (ص 29): “وبعض النسخ منه في أقلّ، وهو كتاب غزير الفوائد سهل التناول”.
ونظرًا إلى كثرة فوائده وغزارة مادته أحال عليه المؤلف في كتبه الأخرى للبسط والتفصيل، وهذه بعض النصوص التي اطلعت عليها:
قال في كتاب “الاستقامة” (1/ 139) بعد ما ذكر مسألة قرب الربّ من عباده ومسألة علوّه: “هذه المسألة والتي قبلها كبيرتان، ذكرناهما في غير هذا الموضع، مثل “جواب الاعتراضات المصرية” وغير ذلك.
وذكر في “التسعينية” مسألة القرآن وما وقع فيها بين السلف والخلف من الاضطراب والنزاع، وما كتب المؤلف حولها في عددٍ من مؤلفاته، وقال (1/ 230): “وقد كتبتُ جملًا من الكلام في ذلك في جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية”.
وبعد ما ذكر نصوص الكتاب والسنة في موضوع علو الربّ وقربه من داعيه قال في “مجموع الفتاوى” (5/ 240): “وقد بسطنا الكلام على هذه الأحاديث ومقالات الناس في هذا المعنى في جواب الأسئلة المصرية على الفتيا الحموية”.
وقد أحال عليه كثيرًا في بيان تلبيس الجهمية (1)، فبالإضافة إلى مقدمته وبيان مناسبة تأليفه التي سبق نقل عبارته فيها، يذكر أن جميع السلف من القرون الثلاثة والأئمة المتبوعين وغيرهم “كلهم يقولون
__________
(1) لم يذكر المحققون في فهارس الكتاب (ص 249) إلّا موضعين فقط!!

(المقدمة/11)


بإثبات العلو لله على العرش واستوائه عليه دون ما سواه، ويضللون من يفسِّر ذلك بالاستيلاء والقهر ونحوه، كما حكينا بعض أقوالهم في جواب الاستفتاء، وفي جواب هذه المسائل المُورَدة عليه” (1/ 234).
أراد بجواب الاستفتاء “الفتوى الحموية”، وبجواب المسائل الموردَة عليه: “جواب الاعتراضات المصرية .. ” الذي نحن بصدده.
وقال في (5/ 457): “ونحن لا نقصد الكلام في إثبات التأويل في الجملة ولا نفيه، ولا وجوب موافقة الظاهر مطلقًا ولا مخالفته، إذ في هذا تفصيل وكلام على الألفاظ المشتركة، كما قد تكلمنا على ذلك في جواب الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية وفي غير ذلك”.
وأشار إلى هذا الكتاب في بعض المواضع بقوله: “الأجوبة المصرية”، قال (6/ 111): “وهذا الكلام الذي نقله عن أبي حامد، ذكره لما تكلَّم عن مراتب التأويلات واختلاف الناس فيها، وقد تكلمنا على ما ذكره في ذلك في الأجوبة المصرية وغيرها”.
وقال (6/ 119): “وقد تكلمنا على هذا الكلام وما فيه من مردود ومقبول، وما فيه من عزل الرسول – صلى الله عليه وسلم – عزلًا معنويًّا، وإحالة الخلائق على الخيالات والمجهولات، وفتح باب النفاق، وبيَّنَّاه في الأجوبة المصرية”.
وفي أثناء الكلام في مسألة قرب الربّ من عبده قال (6/ 265): “وقد بسطنا الكلام على هذا في الأجوبة المصرية”.
وقال (6/ 480): “وهذا الكلام قد نبهنا عليه غير مرة في هذا وفي الأجوبة المصرية وفي جواب المسألة الصرخدية وغير ذلك، في بيان

(المقدمة/12)


شبهة التركيب والتجسيم، وشبهة التشبيه، والاتفاق والاشتراك بين الموجودين يكون في مراتب الوجود الأربعة … “.
وقال (6/ 487): “وقد بسطنا الكلام على هذا في الأجوبة المصرية، وبينا أن الله ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، فيجب أن ينفى عنه المثل مطلقًا ومقيدًا، وكذلك الندّ والكفو والشريك ونحو ذلك من الأسماء التي جاء القرآن بنفيها … “.
والموضع الأخير الذي أشار إليه عندما تحدث عن التركيب والتجسيم والمعنى الصحيح لهما، فقال (7/ 571): “ولولا أنا قدَّمنا أصل هذا الكلام في الحجج العقلية لبسطناه هنا، وقد بسطناه أيضًا في جواب المعارضات المصرية”.
رأينا في النصوص السابقة أن المؤلف تناول في الكتاب موضوعات عديدة تتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى، وفصَّل فيها كلَّ تفصيل، حتى بلغ الكتاب أربع مجلدات. وهو من الكتب المهمة لشيخ الإسلام، ولذا أكثر من الإحالة عليه كلّما جاءت مناسبة. وذكره بعنوانِه أو وصفَه بما يقاربه ويدلُّ على موضوعه، فتارةً سماه بالعنوان المعروف، وتارةً قال: “جواب الأسئلة المصرية” أو “جواب المعارضات المصرية” أو “الأجوبة المصرية”، وأشار به إلى الكتاب الذي بين أيدينا جزء منه. وهذا منهجه المعروف في تسمية كتبه والإشارة إليها، فلا غرابة في ذلك.

* محتوياته وأهميته:
ذكرنا فيما سبق أن الكتاب كان في أربعة مجلدات، ويُعدّ من المؤلفات الكبار للشيخ، وقد أحال عليه في كتبه الأخرى، ويعتبر “بيان تلبيس الجهمية” تتمة لمباحثه. وكتابٌ هذا شأنه لابدّ أن يكون من أهمّ

(المقدمة/13)


مؤلفاته في باب العقيدة، وبيان مذهب السلف في الصفات، والدفاع عنه. ويُستنبط من الإحالات العديدة عليه تنوعُ مباحثه وتوسُّع الشيخ في تناولها.
ولا يمكن لنا الآن وصفه وبيان جميع محتوياته، لأن أغلب الكتاب لا زال في عداد المفقود، وإنما نستعرض هنا محتويات القطعتين اللتين حصلنا عليهما، ونبين أهمية المباحث التي توجد فيهما.
أما القطعة الأولى فتبدأ بذكر جواب المعترض عن الأحاديث التى يُحتج بها في إثبات الصفات، من أربعة وجوه:
أحدها: أنها أخبار آحادٍ، لا تُفيد العلمَ بل تُفيد الظن.
الثاني: أنها ليست نصوصًا في ذلك، بل هي ظاهرة قابلةٌ للتأويل.
الثالث: أن السلف تأوَّلوا كثيرًا منها، ومنهم ابن عباس الذي روي عنه تأويل عدد من الآيات.
الرابع: أن الأدلة العقلية عارضتْها، فيجب تأويلها.
قام المؤلف بعد ذلك بالردَّ على كل وجه بتفصيل. أما قوله: “أخبار آحاد لا تُفيد العلمَ” فكان جوابه من ثلاثة طرق:
1) بيان موافقة الأحاديث والآثار للقرآن وتفسيرها له.
2) بيان وجوب قبولها.
3) بيان صحة الاعتقاد الراجح بها.
وقد توسع في الجواب عن الشبهة السابقة وبيَّن اتفاق القرآن مع الحديث، وضرورة الاستدلال على معاني القرآن بما رواه الثقات

(المقدمة/14)


الأثبات بدلًا من الأخذ عن أهل البدع أو بعض أهل العربية الذين يتكلمون بنوع من الظن والهوى، وقارنَ بين الاستشهاد على معاني القرآن بألفاظ الرسول – صلى الله عليه وسلم – وألفاظ الصحابة والتابعين وبين الاستشهاد بشعرٍ لم يُروَ بإسناد ولم يُعرف قائله. وتوصَّل إلى بيان استقامة هذه الطريق (طريق الاحتجاج بالآثار) وأنه لا طريق يقوم مقامها. وأطال في بيان ذلك من وجوه متعددة، وبيانِ فساد الطرق الأخرى في فهم معاني القرآن وتفسيره. وذكر أن من عَدَل عن التفسير المأثور فأحد الأمرين لازمٌ له: إما أن يَعدِل إلى تفسيره بما هو دون ذلك، فيكون محرِّفًا للكلم عن مواضعه، وإما أن يبقى أصمَّ أبكم لا يسمع من كلام الله ورسوله إلَّا الصوتَ المجرد، وكل من هذين باطل. ثم بيَّن وجهَ بطلانهما.
ثم انتقل إلى النقطة الثانية، وهي بيان وجوب قبول الأخبار الصحيحة، فقسَّم الأخبار ثلاثة أقسام: متواتر لفظًا ومعنىً، ومستفيض متلقًّى بالقبول، وخبر الواحد العدل الذي يجب قبوله. وتكلَّم عن كل قسم بتفصيل، وبيَّن إفادته العلم.
ثم انتقل إلى بيان صحة الاعتقاد الراجح بها، وأنه لا فرق فيها بين المسائل العلمية والخبرية، ولا يُردُّ الخبر في باب من الأبواب سواءً كانت أصولًا أو فروعًا بكونه خبرَ واحد.
إلى هنا كان الجواب عن السؤال الأول الوارد في أول الكتاب. ثم بدأ (ص 54) في الجواب عن السؤال الثاني، وهو قوله: “ليست الأحاديث نصوصًا في ذلك، بل هي ظاهرة قابلة للتأويل”. وقد أجاب عنه أولًا بجواب مجمل ثم بجواب مفصل. وأنكر أن يكون في القرآن أو الأحاديث الثابتة ما ظاهره ممتنعٌ في العقل، ولا يقدر أحدٌ أن يأتي

(المقدمة/15)


بحديثين صحيحين متعارضين، والذين ردُّوا بعض الأحاديث الثابتة أو أوَّلوها في زمن الصحابة اجتهدوا في طلب الحق وإن أخطأهم، فنوسع لهم الاعتذار والاستغفار. ثم ذكر بعض الأمثلة على ذلك، منها حديث: “إن الميت يُعذَّب ببكاء أهله عليه” (ص 59 – 74)، وحديث عمار في التيمم (ص 74 – 75)، وبعض أحاديث أبي هريرة وفاطمة بنت قيس وبَرْوع بنت واشق وغيرها. وقال في آخره: ما علمنا أحدًا من الصحابة والتابعين ردُّوا حديثًا صحيحًا وتأوَّلوه على خلاف مقتضاه، لمخالفة ظاهر القران في فهمهم أو لمخالفة المعقول أو القياس، إلّا كان الصواب مع الحديث ومن اتبعه، فكيف بمن بعدَهم؟ !
ثم تحدث عن خاصية أبي بكر الصديق، فإنه لم يُعرف له فتوى ولا كلام يخالف شيئًا من الأحاديث، وكان يبيِّن للصحابة معاني النصوص إذا اعتقدوا في ظاهرها ما لا يدلّ عليه، وذكر أمثلة على ذلك. وفي أثنائه تكلم عن علاقة القرآن بالسنة، والتحديث لأهل الأهواء والبدع، ومعنى العبادة وكيف تختلف عن العادة.
ثم عقد فصلًا تكلم فيه عن معنى التأويل عند السلف وعند المتأخرين، وبيان المذموم منه، وذكر أن من اعترض على السنة والجماعة بنوعِ تأويل: قياس أو ذوق أو تأويل منه خالف به سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ففيه شوبٌ من الخوارج.
أما الاعتراض الثالث: “أن السلف تأولوا كثيرًا من الأحاديث والآيات” فذكر الجواب عنه من وجوه، منها: أنه إذا كان المراد بالسلف الصحابة فهذا النقل عنهم باطل، لم يتأوَّل أحدٌ من الصحابة قطّ شيئًا من آيات القرآن التي ظاهرها أنها صفة لله تعالى. وكذلك الأمر في التابعين.

(المقدمة/16)


ولا يصحُّ في ذلك عن ابن عباس أو غيره شيء.
وفي الأخير جاء إلى الأمر الرابع وهو قوله: “عارضتها الأدلة القطعية فيجب تأويلها”، وردَّ عليه من وجوه عديدة، منها: أنه لم يعارضها دليلٌ قطعيٌّ قطُّ، وأن ما هو مدلولها لم ينفِه العقل، والذي نفاه العقلُ ليس مدلولَها. ثم تكلَّم على قولهم: إن إثبات الصفات ظاهرها التجسيم، وبيَّن أن نفي المثل عنه والسميّ والمساوي يقتضي نفيَ ذلك في كل شيء، وذكر ما بين الأسماء من التواطؤ والافتراق، وما بين مدلولها من التباين والاشتباه.
وأما القطعة الثانية: فهي خاصة بالكلام على حديث “خلق آدم على صورته” و”على صورة الرحمن”، فذكر أنه مروي بألفاظ متنوعة، ولم يكن في السلف من تأوله، ولكن بعض علماء أهل السنة تأولوه، أو تركوا روايته لأسباب أخرى، كما يُذكر عن الإمام مالك. ثم ذكر طرق الحديث ومن رواه من الأئمة مثل الليث بن سعد ويحيى بن سعيد القطّان ومعمر وعبد الرحمن بن مهدي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وذكر قول الإمام أحمد والحميدي وغيرهما في تصحيحه، وإنكارهم على أبي ثور وابن خزيمة وأبي الشيخ ممن تأوَّل هذا الحديث، ونقل نصوصًا مهمة من “مناقب الإمام إسماعيل بن محمد التيمي” لأبي موسى المديني و”الفصول من الأصول عن الأئمة الفحول” لأبي الحسن بن الكرجي و”تأويل مختلف الحديث” لابن قتيبة، وردَّ على التأويلات الباطلة للحديث.
هذا عرض موجز لأهمّ الأبحاث التي توجد فيما وصل إلينا من هذا الكتاب، ونظرًا إلى أهميته وما فيه من مناقشات قوية اعتمد عليه تلميذ

(المقدمة/17)


المؤلف الإمام ابن القيم في “الصواعق المرسلة”، فهو ينقل عنه نصوصًا عديدة من القطعة الأولى (1)، وينسبها أحيانًا إلى شيخه ويُغفِل نسبتها أخرى، على طريقة استفادته من كتب شيخ الإسلام.

* وصف النسخة الخطية:
وصلت إلينا قطعتان من الكتاب، وفيما يلي وصفهما:
الأولى: في مكتبة الشيخ محب الله شاه الراشدي في السند بباكستان، وقد كتب على صفحة العنوان: “من كلام الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني في أثناء كتابه المسمى بالأسولة المصرية في الاعتراضات على الفتيا الحموية، فيما يتعلق ببيان الحق الصريح في الاستدلال بأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، حيث أشار المعترض في اعتراضاته إلى القدح في ذلك الموطن بأنها أخبار لا تفيد العلم بل تفيد الظن، وذكر وجوهًا من الاعتراضات بمقتضى علمه واجتهاده في هذا الموضع. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم”.
وهذه القطعة في 45 ورقة، وفي كل صفحة منها 27 سطرًا، وقد كُتبت في القرن الثاني عشر، كما جاء في آخرها بخط الناسخ: “كتب هذه الأحرفَ العبدُ الفقير الراجي الشفاعةَ من سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام عبد الغني بن خليل اللطفي الحسيني المقدسي، غفر الله له ولوالديه ولمن نظر في هذا الكتاب ودعا له ولوالديه وللمسلمين
__________
(1) انظر مختصر الصواعق المرسلة (ص 439 – 441، 441 – 447، 447 – 449، 453 – 455، 464 – 466، 467 – 466) طبعة بيروت 1405.

(المقدمة/18)


بالمغفرة. وذلك في اليوم الثامن عشر من شهر شوال سنة ثمانية (كذا) وعشرين ومائة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والتحية. تمَّ ذلك بعون الله وحسن توفيقه، والله أعلم”.
والنسخة بخط نسخي جيّد، ويبدو أنها مقابلةٌ على الأصل، لوجود التصحيحات في الهوامش، ولكن فيها أخطاء وتحريفات في مواضع كثيرة، وفيها سقط للكلمات في بعض المواضع لا يستقيم الكلام بدونها. والنسخة المصورة التي عندي كانت ضمن مصوَّرات أخي الفاضل المحقق حافظ ثناء الله الزاهدي، وفي بعض صفحاتها طمس واهتزاز عند التصوير، فلم تتضح الكلمات وبعض الأسطر ولم تُقرأ إلّا بصعوبة بالغة.
وكانت هذه النسخة في ملك الإمام المحدث الأثري صالح بن محمد الفُلَّاني (1) (ت 1218)، كما أثبتَ ذلك بخطه على صفحة العنوان، حيث كتب: “ملكَه الفقير صالح بن محمد الفلّاني العمري المسوفي”. وربما تكون بعض التصحيحات على النسخة بقلمه.
وبعد انتهاء الكتاب توجد في آخر النسخة بعض الفوائد والنقول المتعلقة بشيخ الإسلام ابن تيمية، نقلها الناسخ من بعض المصادر أو من الأصل المنقول عنه.
الثانية: في مكتبة قره حصار بتركيا، برقم 17517/ 4 (الورقة 70 – 71)، كتبت سنة 736 (2)، وقد اطلع عليها أخونا البحاثة
__________
(1) انظر ترجمته في فهرس الفهارس والأثبات (2/ 901).
(2) كما في معجم المخطوطات الموجودة في مكتبات إستانبول وأناطولي =

(المقدمة/19)


أبو الفضل القونوي ووصفها بقوله: (وقفتُ عليها في مجموع نُسِخَ بعضُه سنة 736، وهي نسخة مكتبة كديك أحمد باشا في مدينة أفيون رقم 17517، وقد نُقِلت هي وبقية محتوى المكتبة إلى المكتبة الوطنية بأنقرة. وفي هذا المجموع من كتب شيخ الإسلام: الفتيا الحموية، ومسائل عن آيات الصفات وأحاديثها، مثل قول السائل: هل في آيات الصفات ناسخٌ ومنسوخ؟ وفيه شرح حديث النزول، وهو مطبوع، ومسألة القبح والحسن العقليين، ومسألة في الاستواء وغيره، ودعوة ذي النون، ومسألة عصمة الأنبياء … ).
قلت: وقد اطلعتُ على مصورتها، فوجدتها بخط نسخي جيد، وهذه القطعة خمس ورقات (ق 70 ب – 75 أ)، وعدد الأسطر في كل صفحة 27 سطرًا. والنسخة مصححة ومقابلة على الأصل، وقد نُقِلت من خط شيخ الإسلام، كما صرَّح به الناسخ في آخر النسخة، فقال: “نقلتُه من خط شيخ الإسلام مؤلفه – رحمه الله ورضي عنه – وبقي منه قائمة ووجه وقليل من الوجه الآخر، في ثالث شهر جمادى … “.
أما ناسخ هذه القطعة ورسائل أخرى ضمن هذا المجموع فقد وصلت إلينا بخطه رسائل عديدة من مؤلفات الشيخ، يذكر فيها اسمه ونسبه. وقد ذكر أخونا أبو الفضل القونوي أنه تلميذ لشيخ الإسلام وإن لم تذكره المصادر، ثم قال ما يلي:
يبدو أن ناسخ هذا المجموع – وفيه خط ناسخ غيره – كان من تلاميذه الذين اضطروا لضعف جانبهم وفقرهم إلى الانكفاء على
__________
= (ص 131).

(المقدمة/20)


أنفسهم.
واسمه كما كتبه في موضع: (ووافق الفراغ من تعليقه يوم الخميس سادس عشري شهر رجب من شهور سنة اثنتين وثلاثين وسبعمئة، كتبه الفقير إلى رحمة ربه الكبير العبد الضعيف المقصر المخطئ المسيء: أيوب (1) بن أيوب بن صخر بن أيوب بن صخر بن خالد بن وثيق بن أبي الحسن بن بقاء بن مساور العامري .. ) ثُمَّ ذكر تاريخ مقابلتها فقال: (قوبلت على أصلها فصحت على حسب الطاقة في مجالس آخرهن رابع عشر شهر شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمئة). فقد نسخها بعد وفاة شيخ الإسلام سنة 728.
ويفهم من اسمه أنه عربي المحتِدِ، فهو عامري، ومن ذكرِه مكان النسخ حمص أنه من أهلها، ولا يعلم متى توفي، غير أنه كان حيًا سنة 736.
ويبدو أنه كان صديقًا لابن رشيق، الذي ذكره في موضع وقال: (نقل من خط الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية، بحضور ترجمانه ولسان قلمه الشيخ شمس الدين أبي عبد الله بن رشيق، والمقابلة عليه، وهو ممسك بأصل الشيخ – رحمه الله – والشيخ سليمان يقرأ، وذلك في ثالث شهر جمادي الأولى من سنة ست وثلاثين وسبعمئة).
ويفهم من بيتين كتبهما أنه كان فقيرًا مثله، والبيتان قوله:
__________
(1) قلت: بعض المخطوطات التي اطلعتُ عليها وجدتُ فيها اسمه واسم أبيه وجدّ أبيه ما يُشبه “ليون” بدل أيوب، فليحرر.

(المقدمة/21)


أيا قارئًا خطي سألتك دعوة … إلى الله في عبدٍ مقرٍّ بذنبهِ
عساه يسامحني ويغفر زلتي … ويرزقني رزقًا مقيمًا بأهلهِ
ويزيد المتأمل من كونه تلميذًا لأبي العباس بن تيمية ما كتبه في نسخته من (الحموية الكبرى) التي عنون لها بالقول: (المعارج الروحية، القاصدة لمعرفة رب البرية، بالأدلة والنصوص القطعية، والآثار السلفية، المودعة في الفتيا الحموية، إملاء الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية) وتاريخ الفراغ من نسخها السابع والعشرون من رجب 730، وقوله: ( … غفر الله له ولمن أجاب بها، ولمن تأملها، وأنصف فيها، وامتثل منها ما يجب، وأعرض عن الأهواء والريب، ولسائر المسلمين آمين آمين)، وما قاله قبل شرح حديث النزول الإلهي، من تعبيرات المديح التي يغلب على الظن أنها كلمات هذا التلميذ المحب لشيخه، إذ كانت النسخة التي استنسخ منها هي بخط المؤلف، قال: مسألة سئلها الشيخ الإمام شيخ الإسلام بقية السلف الكرام، قدوة الخلف، فريد عصره ووحيد دهره العالم الرباني المقذوف في قلبه النور الإلهي، موضح المشكلات، مزيل الشبهات بما أيده الله من فهم الآيات البينات والبراهين القاطعات، تقي الدين … فأجاب عن أسرار الحديث، وأقوال العلماء، وأزاح كل مشكل، وأبان الحق في ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الجهابذة الأئمة، وبين في ذلك غلط الغالطين، وحذر فيه من زيغ الزائغين، ونفَّر من تشكيك الشاكين، وحث على سلوك طريق السلف الصالح، من الصحابة ومن بعدهم من التابعين، وقوَّى جانب الاتباع، وزيف أقوال أهلى الأهواء والابتداع، في سائر الأزمان والدهور {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور/ 40].

(المقدمة/22)


* وفي الختام:
أحمد الله على أن يسَّر لي إخراجَ هذه القطعة من هذا الأثر النادر من تراث شيخ الإسلام، وأدعوه سبحانه أن يوفقنا للعثور على بقيته، إنّه ولي ذلك والقادر عليه، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه
محمد عزير شمس

(المقدمة/23)


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فصل
قال المعترض: وأما الجواب (1) عن الأحاديث بعد المطالبة بصحتها فمن وجوهٍ:
أحدها: أنها أخبار آحاد، لا تُفيد العلم بل تفيد الظن، لما عُرِف في الأصول.
والثاني: أنها ليست نصوصًا في ذلك، بل هي ظاهرة قابلة للتأويل.
والوجه الثالث: قد تأوَّل السلفُ كثيرًا منها ومن الآيات، وأذِنَ لنا في التأويل ابنُ عباس – وهو حبر هذه الأمة وترجمان القرآن – في غيرِ ما آيةٍ، وقال (2): إذا خَفِيَ عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب. قال في قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم/ 42]: أما سمعتم قول العرب: قامتِ الحربُ [بنا] على ساق (3).
_________
(1) في هامش الأصل: “الجواب عن الجواب بتوفيق الوهاب أنها بمجموع طرقها صحيحة متواترة، تفيد العلم اليقيني لمن اطلع عليها، ونصوصٌ قاطعة في دلالتها على مضامينها، ولم يعارضها شيء من الأدلة العقلية الصحيحة، لأن العقل الصحيح لا يعارض النقل الصريح. وإنما عارضَها خيالاتٌ باطلة وآراءٌ كاسدة وأوهامٌ فاسدة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. والله أعلم”.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 499 والبيهقي في الأسماء والصفات رقم (746)، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي 2/ 295. وصححه الحاكم.
(3) هذا بيت من مشطور السريع بلا نسبة في المصدرين السابقين وفي تفسير الطبري 23/ 187 والعقد الفريد 4/ 418.

(الكتاب/3)


والوجه الرابع: عارضتْها الأدلةُ العقلية فيجب تأويلُها، والله لا يُشبِهه شيء من مخلوقاته، ولا يَحلُّ فيه حادثٌ ولا يَحلُّ هو في حادثٍ، وعند ذلك يستحيلُ وصفُه بالتحيُّز والاتصال بالمحدودات. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر/ 41]، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج/ 65] وفي الطير {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} [النحل/ 79]. فإذا ثبت أن الإمساك الحسّي غير مرادٍ إجماعًا فكذلك الإصبع والإصبعان التي وردت، فإن صَمَّموا وادَّعَوا التعميمَ فقد جَسَّموا.

الجواب
أما قوله: “أخبار آحاد، لا تُفيد العلمَ”، فجوابه من ثلاثة طرق: بيان موافقة الآثار للقرآن وتفسيرها له، وبيان وجوب قبولها، وبيان صحة الاعتقاد الراجح بها.

الطريق الأول
أن نقول: الأحاديث الواردة الصحيحة في هذا الباب توافق القرآن ويطابقها، ويدل على ما دلت عليه، وإنما الحديث مع القرآن بمنزلة الحديث مع الحديث الموافق له، والآية مع الآية الموافقة لها، وبمنزلة موافقة القرآن للتوراة، حتى قال النجاشي لما سمع القرآن قال: إنّ هذا والذي جاء به موسى ليخرجُ من مشكاةٍ واحدةٍ (1). وكذلك قال ورقة بن
_________
(1) قول النجاشي هذا ضمن حديث طويل أخرجه أحمد في مسنده 1/ 201 – 203، 5/ 290 – 292 عن أم سلمة. وانظر سيرة ابن هشام 1/ 334 – 338.

(الكتاب/4)


نوفل لما ذكرتْ له خديجةُ أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا الناموس الذي كان يأتي موسى (1).
فإذا كان في القرآن أن لله علمًا وقدرةً لذكرنا قولَ النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاستخارة الصحيح (2): “اللهمَّ إني أستخيرُك بعلمك وأستقدِرُك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم”، وقوله في حديث السنن (3): “اللهمَّ بعلمِك الغيبَ وقدرتك على الخلق” ونحو ذلك، فهذا موافق. وكذلك إذا ذكرنا قوله الصحيح (4) لأهل الجنة: “ألا أُعطِيكم ما هو أفضل من ذلك؟ أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخَطُ عليكم أبدًا”، وقول الأنبياء في حيث الشفاعة الصحيح (5): “إن ربّي قد غضبَ اليوم غضبًا لم يَغضَب قبلَه مثلَه ولن يغضب بعده مثلَه”، أو ذكرنا قوله: “إن الله يحبُّ العبد التقى الغنِي الخفي” (6) و “إن الله يحبُّ العبد المفتَّن التواب” (7) و “إن الله يَعجب من راعي غنمٍ على رأسِ جبل شَظِيَّة” (8)، و “عَجِبَ ربنا
_________
(1) أخرجه البخاري (3 ومواضع أخرى) ومسلم (160) عن عائشة.
(2) أخرجه البخاري (1162، 6382، 7390) عن جابر بن عبد الله.
(3) أخرجه أحمد 4/ 264 والنسائي 3/ 54، 55 من طريقين عن عمار بن ياسر، وصححه الحاكم (1/ 524).
(4) أخرجه البخاري (7518، 6549) ومسلم (2829) عن أبي سعيد الخدري.
(5) أخرجه البخاري (3340، 4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة.
(6) أخرجه مسلم (2965) عن سعد بن أبي وقاص.
(7) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند 1/ 80، 103 عن علي بن أبي طالب. وإسناده ضعيف جدًّا، انظر تعليق الأرناوط على المسند (605).
(8) أخرجه أحمد 4/ 145، 157، 158 وأبو داود (1203) والنسائي 2/ 20 من حديث عقبة بن عامر. وهو حديث صحيح.

(الكتاب/5)


من قُنوطِ عبادِه وقُرْبِ غيرِه” (1)، أو ذكرنا قوله: “لا تقولوا: ما شاء الله وشاءَ محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد” (2) ونحو ذلك = فإنما نذكر هذه الأحاديث موافقةً لكتاب الله تعالى، من غضبه ورضوانه ومحبته وعَجَبه ومشيئته وغير ذلك.
ولهذا كان أئمة السلف يذكرون الآيات وما يناسبها من الأحاديث في هذا الباب وسائرِ أبواب العلم، مثل ذكر آية الطهارة والصيام والحج والجهاد وما يناسب ذلك من الأحاديث، التي (3) تُقرِّر معناه وتُفسِّر مجملَه، وكذلك إذا ذُكِرت الآيات في محبة العبد لربّه وتوكُّلِه عليه وإخلاصِه له وخوفِه ورجائه ونحو ذلك ذُكِرَ (4) معه الأحاديث الموافقة للقرآن في ذلك، وكذلك إذا ذُكِرَ ما في القرآن من صفة المعاد والجنة والنار [ذُكِرَ] (5) ما في الأحاديث مما يوافق ذلك، أو ذُكِرَ ما في القرآن من قصص الأولين وتذكيرِ الله لسلفنا المؤمنين بآلائِه عليهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيهم وغيرها ذُكِرَ الأحاديث المبيِّنة لقصص المتقدمين والمبيِّنة لصفة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، وكذلك إذا ذُكِرت الآياتُ ذُكِرت الأحاديثُ المبيِّنة لسبب نزولها وما أريد بها.
ومعلوم بالضرورة أن هذا مما اتفق عليه المسلمون، وهو أحسن ما
_________
(1) أخرجه أحمد 4/ 11، 12 وابن ماجه (181) عن لقيط بن عامر، بلفظ “ضحك ربنا … “. وهو حديث حسن، انظر السلسلة الصحيحة (2810).
(2) أخرجه أحمد 5/ 72 والدارمي (2702) وابن ماجه (2118) عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها، وهو حديث حسن.
(3) في الأصل: “الذي”.
(4) في الأصل: “وذكر”.
(5) في الأصل: “و” مكان “ذكر”.

(الكتاب/6)


يكون من بيان اتفاق القرآن والحديث، فهذا نافع في تفسير القرآن الذي هو تأويله الصحيح، ونافعٌ في إثبات ما دلَّ عليه القرآن والحديث من الأحكام الخبرية العلمية الاعتقادية والأحكام العملية الإرادية. ثم الآية قد تكون نصًّا، وقد تكون ظاهرة، وقد يكون فيها إجمال، فالحديث يُقرِّر النصَّ ويَكشِف معناه كشفًا مفصَّلًا، ويُقرِّب المراد بالظاهر ويَدفع عنه الاحتمالاتِ، ويُفسِّر المجملَ ويُبيِّنه ويُوضِّحه، لتقوم حجةُ الله به، ولتبيينِ أن الرسول بيَّن ما أنزِل إليه من ربه، بيَّنَ معناه وحروفَه جميعًا، وأنه لم يترك البيان لا لمجملٍ ولا لظاهرٍ، ولم يُؤخِّره عن وقتِ الحاجة، بل قد بيَّن ذلك أحسنَ البيان وأجملَه.
وبهذا جَرتْ عادةُ أئمة السلف وأتباعهم المصنفين في الأبواب أن يذكروا الآيات والأحاديث المناسبة في هذه الأبواب وغيرها، كما فعلَ البخاري ومَن قبلَه ومَن بعدهم من سائر الأئمة، فإن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما يحتجون على أحاديث النزول وصحة معانيها بما في القرآن من آيات المجيء والإتيان ونحو ذلك. وهل يُنكِر ذلك من له أدنى عقلٍ وإيمان؟
وأيُّما أحسنُ: الاستدلالُ على معاني الكتاب بما رواه الثقات الأثباتُ ورثةُ الأنيباءِ وخلفاءُ الرسلِ عن رسولِ الله المبلِّغِ عن الله المبيِّن لما أنزل الله عليه، وبما قاله الصحابة والتابعون وأئمة الهدى، وتأويلُ القرآن الذي هو تفسيره بهذه الطرق؟ أم يُؤخذ تفسيرُ القرآن وتأويلُه وبيانُ معانيه من أئمةِ الضلال وشيوخِ التجهُّم والاعتزال كالعلَّاف والنظَّام والمَرِيْسي ونحوهم؟ فإن هذه التفسيرات والتأويلات عنهم وعن أمثالهم، أو يُنقَل ذلك عن بعض أهلِ العربية الذي يتكلم فيه بنوعٍ من

(الكتاب/7)


الظن والهوى، وإن كان أئمة العربية وعلماؤها على خلافه.
وأيُّما أحسنُ: الاستشهاد على معاني القرآن بنفس ألفاظِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وألفاظ الصحابة والتابعين التي يُستفاد بها معنى الآيات على الخصوص وهو المطلوب، ويُعلَم بها اللغةُ التي نزل بها القرآنُ، وبها خاطبَ النبي صلى الله عليه وسلم بالنقل الصحيح الثابت؟ أو الاستشهاد على ذلك ببيتٍ من شعرٍ، كقوله (1):
إن الكلامَ لفي الفؤادِ وإنما … جُعِلَ اللسانُ على الفؤاد دليلَا
وكقوله (2):
ثم استوى بِشْرٌ على العراقِ … من غيرِ سيفٍ ودمٍ مُهراقِ
وكقوله (3):
وجوهٌ يومَ بدرٍ ناظراتٌ … إلى الرحمن تنتظرُ الفلاحَا
وأمثال ذلك من الشعر الذي قد يقال فيه: إنه لم يُروَ بإسنادٍ صحيح عن قائله، بل كثيرٌ من أهل صنعة الشعر يُكذِّبه، ولو رُوِي بإسنادٍ فمن المعلوم أن أسانيدَ الحديثِ والآثارِ أكثر وأكبرُ، والعلماء بها أعلمُ
_________
(1) البيت للأخطل في ديوانه 560 من الأبيات المنسوبة له، وهو له في الموشَّى 9 والتمهيد للباقلاني 284 وألف باء 1/ 32 وشرح شذور الذهب 28. وبلا نسبة في البيان والتبيين 1/ 218.
(2) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (سوا) ورصف المباني 372. ونُسب للأخطل في تاج العروس (سوا)، وهو في ديوانه 557 من الأبيات المنسوبة له.
(3) البيت لحسان بن ثابت في التمهيد 312 وتفسير الرازي 30/ 200، 202 ولا يوجد في ديوانه.

(الكتاب/8)


وأصدقُ، وهم أعدادٌ لا يُحصِيهم إلَّا الله.
فإذا لم يَجُزْ تفسيرُ القرآن وتأويلُه بالألفاظ والمعاني التي هي بينَ (1) محفوظةٍ منقولةٍ من إمامٍ إلى إمام ومن عددٍ إلى عددٍ، أفيجوزُ أن يُرجَعَ في معاني القرآن إلى بيتٍ من الشعر أو كلمةٍ من الغريب أحسنُ أحوالِها أن يَرويَها واحدٌ عدلٌ عن بعض الشعراء؟! وإذا كانت الأخبارُ لا تُفيد علمًا فجميعُ ما يذكرونه من اللغة الغربية والشعر المنقولة بمثل ذلك دونه، ولم نعلم أنه قاله عربي، بل يجوز أن يكون كذبًا، فإذا حملنا عليه كلام الله فقد قلنا على الله ما لا نعلم.
وهذا معلومٌ بالضرورة والاتفاق من المثبتةِ والنافيةِ أن اللغة المستفادة من الشعر والغريب الذي يعلمه الآحاد دُونَ ما يُستفاد من نَقْلِ أهلِ الحديث، فإذًا لا يُفيد العلم بأن العربيَّ قالَه، ولو عَلِمْنا أن العربي قالَه لم يكن عِلْمنا بمرادِ العربي منه إلَّا دون عِلْمِنا بمرادِ الرسول والصحابة والتابعين من ألفاظهم. فإذا كان هذا دونَ الحديث في النقل والدلالة لم يكن حملُ معاني القرآنِ عليه بأولى من حَمْلِها على معنى الحديث والآثار، بل تلك أولى من وجوهٍ كثيرة، بل لا يجوز أن يقال: هذا معنى الآية لمجرد إسناد الشعر والغريب ودلالة ذلك، إذ هما لا يُفِيدانِ العلمَ به، فيكون تفسير القرآن بهذه الطريق قولًا على الله بلا علم.
وإذا لم يكن هذا معلومًا، وغيرُه ليسَ معلومًا، بطلتْ دلالةُ الكتابِ والسنة، وسقطَ الاستدلالُ به وفهمُ معانيه، والله أمرَنا بتدبُّرِه وعَقْلِه، فإذا لم يكن لنا طريقٌ إلى العلم بمعناه، لا من جهة نَقْلِ الشعر والغريب، ولا
_________
(1) كذا في الأصل. ولعلها “سننٌ” أو “بَيِّنةٌ”.

(الكتاب/9)


من جهة نقل الحديث والآثار، بطلَ العلم بمعناه، فلا يَصِحُّ الأمرُ بتدبُّرِه وعَقْلِه، وهذا خلاف القرآن.
ثم لو ثبتَ النقلُ عن العربي الشاعر أو الناثر، وعُلِمَ أنه أراد معنًى بذلك اللفظ، لكان ذلك لغةً له قد أرادها باللفظ، فلم يكن إثباتُ اللغة بمجردِ هذا الاستعمال أولى من إثباتها بالاستعمال المنقول في الحديث والآثار، ولا أولى من استعمال القرآن الموجود في نظائر ذلك اللفظ، فإن اللفظ في القرآن يكون له نظائر، ولهذا صنَّفَ العلماءُ كتب الوجوه والنظائر (1)، ويُروى ذلك عن السلف. فالوجوه: الألفاظ المشتركة، والنظائر: الألفاظ المتواطئة، الأول فيما اتفق لفظُه واختلفَ معناه، والثاني فيما اتفق لفظُه ومعناه. فحَمْلُ معاني كلام الله على ما يُوجَد من اللغة في كلامه وكلام رسوله وكلام أصحابه الذين كانوا يتخاطبون بلُغتِه، والتابعين الذين أخذوا عنهم تلك اللغة = أولى من حَمْلِ معانيه على ما يُوجَد من اللغة في كلامِ بعض الشعراء والأعراب، فإن كل احتمالٍ يتطرَّق إلى فهم كلامِ هؤلاء يتطرق إلى فهم كلام أولئك لما يقولونه من النظم والنثر، فان المستمع لكلامهم يتطرق إلى فهمه لمعانيهم أكثر مما يتطرق إلى المستمع لكلام الرسول والصحابة والتابعين، فما يُذكر من احتمال مجاز أو اشتراك ونحو ذلك فتطرقه إلى كلامهم أكثر.
وهذا كله بطريق التنزل والتقرب إلى المنازع، وإلّا فالأمر أجلُّ مما ذكر، وذلك من طريقين: أحدهما بيان استقامة هذه الطريق، والثاني بيان أنه لا طريق يقوم مقامها، فيتعين.
_________
(1) من أشهرها: مؤلفات مقاتل بن سليمان والدامغاني وابن الجوزي.

(الكتاب/10)


فأما الأول فمن وجوهٍ:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأصحابه القرآنَ لفظَه ومعناه جميعًا، فإن البيان لا يحصل بدون هذا، وقد قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل/ 4]، وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران/ 138]. ولو خاطبهم بلفظٍ لم يفهموا معناه لم يكن ذلك بيانًا. وقد امتنَّ عليهم في غير موضع بكونه أرسله بلسان عربي وأنه يسَّره (1) عليهم بذلك، فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف/ 2]، فهل يعقلونه إذا لم يعرفوا اللفظ؟ وكذلك: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان/ 58]، فكيف يتذكر من لا يفهم الكلام؟ قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت/ 44] أي أقرآن أعجمي ونبي عربي أو مخاطب عربي! فدلَّ على أنه فصَّل آياتِه، والتفصيل التبيينُ المنافي للإجمال، فلو كانت آياتُه مجملةً لم يُفهم معناها لم تكن آياتُه قد فُصِّلت، والتفصيل إنما يكون للبيان والتمييز الذي يزول معه الاشتباه والاشتراك والإجمال المنافي لفهم المراد بالخطاب، وإن كان المعنى المفهوم قد يحصل بينه وبين معنى آخر مشابهةٌ ومشاركةٌ تمنع إدراك حقيقته التي لا تُفهم بمجرد اللفظ. وقد قال الله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت/ 18]، وإذا كان المخاطبون لم يفهموا معنى كلامه لم يكن قد بلَّغَهم بلاغًا مبينًا، ومن قال ذلك فلم يشهد له بالبلاغ.
وهذا حال هؤلاء الذين يزعمون أنه لم يُعرَف من جهتِه معاني القرآن، فإنهم يقولون: لم يُبيِّن ولم يُبلِّغ، وإن كانوا يقولون ما يستلزم
_________
(1) في الأصل: “انسرح”.

(الكتاب/11)


ذلك ولم يفهموه، ففيهم من يعرف أنه حقيقة قولهم ويقول: إن معاني هذه الألفاظ لم يُبيِّنها، إما لأن المصلحة كانت كتمانها، وإما لأنه هو لا يعرفها. فمن الزنادقة من يقول هذا، ومنهم من يقول هذا.
وأما الذين شاهدوه فقد شهدوا له بالبلاغ، ونحن نشهد بما شهِد به إخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فإنه بلَّغ البلاغَ المبين، وعبدَ الله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله أجمعين. ولهذا قال أبو عبد الرحمن السُّلمي أحد أكابر التابعين: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآنَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما – أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشرَ آياتٍ لم يُجاوِزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل (1).

وإذا عُلِمَ أن الصحابة أخذوا عن الرسول لفظَ القرآن ومعناه، بل كانوا يأخذون عنه المعاني مجردةً عن ألفاظِه بألفاظٍ أُخَر، كما قال جُندب بن عبد الله البَجَلي وعبد الله بن عمر: تعلَّمنا الإيمانَ ثم تعلَّمنا القرآن، فازددنا إيمانًا (2). فكان يُعلِّمهم الإيمانَ، وهو المعاني التي نزل بها القرآن من المأمور به والمخبَر عنه المتلقَّى بالطاعة والتصديق، وهذا حق، فإن حفاظ القرآن كانوا أقلَّ من عموم المؤمنين، فعُلِمَ أن بيانَ معانيه لهم كان أعمَّ من بيان ألفاظه.
ومن هذا الباب صاروا يروون عنه الأحاديث التي ليست ألفاظها
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 5/ 410 وابن سعد في الطبقات 6/ 172 وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 460 والطبري في التفسير 1/ 74 وإسناده صحيح.
(2) أخرجه ابن ماجه (61) والطبراني في المعجم الكبير 2/ 158، 165 عن جندب. قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.

(الكتاب/12)


ألفاظَ القرآن، لأنه قد كان يُبيِّن لهم معانيَ كثيرةً بغير ألفاظِ القرآن، وذلك هو حديثه. فإذا كان الصحابة قد تلقَّوا عن نبيهم لفظَ القرآن ومعناه لم يحتاجوا بعد ذلك إلى لغة أحد، فالمنقول عن الصحابة من معاني القرآن كان في ذلك كالمنقول عنهم من حروفِه سواءً بسواءٍ، وإن تنازعَ بعضُهم في بعض معانيه فذلك كما قد يتنازعون في بعض حروفه، وكما قد تنازعوا في بعض السنة لخفائها عن بعضهم، إذ لم يكن كلٌّ منهم تلقَّى من نفس الرسولِ جميعَ القرآن وجميعَ السنة، بل كان بعضهم يُبلِّغ بعضًا القرآنَ لفظَه ومعناه، والسنةَ، كما قال البراء بن عازب: ليس كلُّ ما نُحدِّثكم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان لا يَكْذِب بعضُنا بعضًا (1). ولهذا ما يذكره ابنُ عباس من الحديث في القرآن والسنة تارةً يَذكُر من سمعه من الصحابة، وتارةً يُرسِلُه، لكثرةِ من سمعه منه، وبعض ذلك قد سمعه منه، فأما ما كان قبل الهجرة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما نزل فيه من القرآن من ذلك فلم يَشهَدْه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وابنُ عباسٍ مُراهق، وكان عند الهجرة صغيرًا جدًّا.
الوجه الثاني: أن الله تعالى أنزل على نبيِّه الحكمةَ كما أنزلَ عليه القرآن، وامتنَّ بذلك على المؤمنين، وأمرَ أزواجَه بذكرِ ذلك، وقد بلغَ ذلك الصحابةَ كما بلغَهم القرآنُ، فلا يحتاجون في ذلك إلى أحدٍ. والحكمة هي السنة كما قال ذلك غيرُ واحدٍ من السلف، وذلك أنه قال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب/ 34]، فما يُتلَى غير القرآن في بيوتهن هو السنة، إذ المراد بالسنة هنا هو ما أُخِذ عن الرسول سوى القرآن، كما قال في غير حديث: “ألا إني أوتيتُ
_________
(1) أخرج نحوه الحاكم في معرفة علوم الحديث 14.

(الكتاب/13)


الكتابَ ومثلَه معه” (1) وفي لفظٍ: “ألا إنه مثلُ القرآن وأكثر”. ولهذا ذمّ المتخلف عن طلب السنة المكتفي بالقرآن فقال: “لا أُلْفِينَّ أحدَكم متكئًا على أريكتِه يأتيه الأمرُ من أمري مما أَمَرْتُ به أو نَهيتُ عنه فيقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا من حلالٍ أحللناه، وما وجدنا من حرامٍ حرَّمناه، ألا وإني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه” (2). وهذا المعنى قد استفاض عنه من وجوهٍ متعددةٍ من حديث المقدام بن معدي كرب وأبي ثعلبة الخُشَني وأبي هريرة وأبي رافع وغيرِهم، وهو من مشاهير أحاديث السنن والمساند المتلقاة بالقبول عند أهل العلم.
الوجه الثالث: أن بعض الناس لو قرأ مصنفات الناس [في] الطبّ والنحو والفقه والأصول، أو لو قرأ بعض قصائد الشعر، لكان من أحرصِ الناسِ على فهم معنى ذلك، ولكان من أثقل الأمور عليه قراءة كلامٍ لا يفهمه. فإذا كان السابقون يعلمون أن هذا كلامُ الله وكتابه الذي أنزل إليهم وهداهم به وأمرَهم باتباعه، أفلا يكونون من أحرص الناس على فهمِه ومعرفةِ معناه، من جهة العادة العامة وعادتهم الخاصة، ومن جهة دينهم وما أمرهم الله به من ذلك؟ ولم يكن للصحابة كتابٌ يدرسونه وكلامٌ محفوظٌ يتفهَّمون فيه يكتبونه إلّا القرآن. لم يكن الأمر عندهم مثل
_________
(1) أخرجه أبو داود (4604) والترمذي (2664) وابن ماجه (12) عن المقدام بن معدي كرب. وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه أحمد 6/ 8 وأبو داود (4605) والترمذي (2663) وابن ماجه (13) عن أبي رافع. وحديث أبي ثعلبة الخشني في النهي عن أكل كل ذي نابٍ من السباع وعن لحوم الحمر الأهلية أخرجه البخاري (5527) ومسلم (1932، 1936). وحديث أبي هريرة في النهي عن كل ذي نابٍ من السباع عند مسلم (1933). ومضى حديث المقدام آنفًا.

(الكتاب/14)


ما هو في المتأخرين أن قومًا يقرأون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفهمون في كلام آخرين، وآخرون يشتغلون بعلوم أُخَر، بل كان القراء عندهم أهل العلم المحفوظ، وذلك اسمٌ معروفٌ لهم. وهذا مما يُوجِب العلمَ بحرصهم على فهم معناه، وإذا كانوا حِرَاصًا والرسولُ بين أظهرهم فمن الممتنع أن يكونوا يرجعون إلى غيره في بيانِ معانيه وتفصيل مجملِه وبيان متشابهه، فعُلِم أنهم أخذوا عن الرسول بيانَ معاني آيات القرآن التي يقال: إنها مشكلةٌ أو مجملةٌ.
الوجه الرابع: أن أصحابه المعروفين هم الذين نزل القرآن بلغتهم، فإن لغاتِ العرب وإن اشتركت في جنس العربية فبينها افتراق في مواضع كثيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما خاطب أهلَ اليمن كتب إليهم بلغةٍ هي غريبة بالنسبة إلى لغة قريش، والقرآن نزل بلغة قريشٍ ونحوِهم من أهل الحاضرة والبادية، وأولئك هم خواصُّ أصحابه، فلا يحتاجون في معرفة لغتهم وعادتهم في خطابهم إلى شعر شاعر غيرهم، فضلًا عمن يكون حدثَ بعدَهم.
الوجه الخامس: أن الصحابة سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث
الكثيرة، ورأوا منه من الأحوال، وعلموا بقلوبهم من الأمور ما يُوجب لهم من فهم ما أراد بكلامه ما يتعذرُ على من بعدهم. فليس من سمع ورأى وعلم حالَ المتكلم كمن كان غائبًا، ولم يرَ ولم يسمع منه، ولكن علم بعض أحواله وسمع بواسطةٍ. وإذا كان الصحابة سمعوا لفظه وفهموا معناه كان الرجوع إليهم في ذلك واجبًا متعينًا، ولم يُحتَجْ مع ذلك إلى غيرهم. ولهذا قال الإمام أحمد (1): أصول السنة عندنا التمسك بما كان
_________
(1) في أصول السنة (رواية عبدوس بن مالك العطار) 25. وانظر طبقات الحنابلة =

(الكتاب/15)


عليه أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا كان اعتقاد الفرقة الناجية هو ما كان عليه وأصحابه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الفرقة الناجية: “هو ما كان على مثلِ ما أنا عليه وأصحابي”، أو قال: “ما أنا عليه اليومَ وأصحابي” (1).
فثبتَ بهذه الوجوه القاطعة أن الرجوع في تفسير القرآن (2) – الذي هو تأويله الصحيح المبيِّن لمراد الله تعالى به – إلى الصحابة هو الطريق الصحيح المستقيم، وأن ما سواه إمّا أن يُخطئ بصاحبه، وإما أن يكون دونَه في الإصابة. ولهذا نصَّ الإمام أحمد على أنه يُرجَع إلى الواحد من الصحابة في تفسير القرآن إذا لم يخالفه منهم أحدٌ (3). ثم من أصحابه من يقول: هذا قول واحد، وإن كان في الرجوع في الفتيا في الأحكام إليه روايتان. ومنهم من يقول: الخلاف في الموضعين واحد (4).
ثم نعلم أن الصحابة إذا كانوا حفظوا فالتابعون لهم بإحسانٍ الذين أخذوا عنهم وتَلقَّوا منهم لا يجوز أن يكونوا عَدَلوا في ذلك عما بلَّغَهم إيَّاه الصحابة، لا يجوز ذلك في العادة العامة، ولا في عادةِ القوم وما عُرِف من عقلهم ودينهم، مع ما علموه من وجوب ذلك عليهم في دينهم. فإذا كان هذا يُوجِب الرجوعَ إلى الصحابة والتابعين فكيف
_________
= 1/ 241 وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/ 156.
(1) أخرجه الترمذي (2641) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: هذا حديث حسن مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. وأخرج الطبراني في الأوسط (5019، 8004) عن أنس نحوه.
(2) في الأصل: “تفسير القرآن إليهم”.
(3) انظر العدَّة 3/ 721.
(4) انظر المسوّدة 336.

(الكتاب/16)


بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وأما الطريق الثاني فمن وجوهٍ:
أحدها: أن نقول: [من] لم يَرجعْ إلى الصحابة والتابعين في نقل معاني القرآن وما [يُراد] بها كما رجع إليهم في نقل حروفه وإلى لغتهم وعادتهم في خطابهم، فلا بدّ أن يرجع في ذلك إلى لغة مأخوذة عن غيرهم، لأن فهم الكلام موقوف على معرفة اللغة، وغايته أن يباشر عربًا غيرهم، فيسمع لغتهم ويَعرِف مقاصدهم، ويقيس معاني ألفاظ القرآن على معاني تلك الألفاظ. وهذا إنما يصح إذا سَلِمَ اللفظُ من كلام العربي هذا ويَسْلَم في القرآن أيضًا من احتمال المعاني المختلفة لمجازٍ واشتراك، وإلّا فمتى كان اللفظ من أحدهما دون الآخر دالًّا على معنى آخر بطريق الاشتراك والمجاز لم يكن المراد من أحد المتكلمين به مثل المراد به من المتكلم الآخر، فغايته فيه القياس، وهو موقوف على اتحاد معنى اللفظين.
ثم من المعلوم أن جنس ما دلَّ على القرآن ليس من جنس ما يتخاطب به الناس في عادتهم، وإن كان بينهما قدرٌ مشترك، فإن الرسول جاءهم بمعانٍ غيبية لم يكونوا يعرفونها، وأمرَهم بأفعالٍ لم يكونوا يعرفونها، فإذا عبّر عنها بلغتهم كان بين ما عناه وبين معاني تلك الألفاظ قدرٌ مشترك، ولم تكن مساويةً لها، بل تلك الزيادة التي هي من خصائص النبوة لا تُعرَف إلّا منه. فعُلِمَ أن عامة من يأخذُ معاني القرآن من اللغة التي سمعها من العرب العرباء وباشرَهم فيها أن يكون قائسًا قياسًا يحتمل الضدَّ، وأن يكون ما فاتَه من الفارق أعظمَ مما أدركَه بالجامع، وهذا برهان واضح، ولهذا كانوا يقولون ما ذكره عبد الرزاق في

(الكتاب/17)


تفسيره (1) عن ابن عباس أنه قال: التفسيرُ على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير تَعْلَمه العلماءُ، وتفسيرٌ لا يُعذَر أحدٌ بجهله، وتفسيرٌ لا يعلمه إلّا الله، ومن ادَّعى عِلْمَه فقد كذب.
الوجه الثاني: أن الدرجة الثانية أن يسمعَ اللغة ممن نقل الألفاظ عن العرب نظمًا ونثرًا، وكل ما تعتري نقلَ الحديث من الآفات فهو هنا أكثر، وهذا أمرٌ معلوم لمن كان خبيرًا بالواقع، فيكون نقل ألفاظ اللغة ثم معرفة مرادِهم من تلك الألفاظ يَرِدُ عليه أكثر مما يَرِدُ على معرفة مراد الرسول، لأن معرفة مراد الرسول توفرت عليها الهِممُ والدواعي، وصانَه الله فهو محفوظٌ بحفظ الله ثم بالعادة العامة والخاصة، أكثر من معرفة مراد شاعرٍ مادحٍ أو رَاثٍ أو هاجٍ أو مُشبِّبٍ أو واصفِ ناقةٍ أو امرأةٍ أو فلاةٍ أو مفتخرٍ.
الوجه الثالث: أن الدرجة الثالثة أن يسمع اللغة ممن سمعَ الألفاظ، وذكر أنه فهم معناها من العرب، كالأصمعي فيما سمعه من الأعراب وذكر أنه فهم معناه. ومن هذا الباب كتب اللغة التي (2) يذكرون فيها معانيَ كلامِ العرب بألفاظ المصنفين، ومعلومٌ أن هذا يَرِدُ عليه (3) أكثر مما يَرِدُ على من سمع الكلام النبوي من صاحبه وقال: إنه فهم معناه، وبيَّنه لنا بعبارته.

الوجه الرابع: أن ينقل له كلام هؤلاء الذين ذكروا أنهم سمعوا كلامَ العرب، ومن المعلوم أنه يَرِدُ على هذا من الأسولة أكثر مما يَرِدُ على نقل
_________
(1) لم أجده في تفسير عبد الرزاق. وقد أخرجه الطبري 1/ 70 وابن المنذر في تفسيره (255). وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 18.
(2) في الأصل: “الذين”.
(3) في الأصل: “على”.

(الكتاب/18)


الحديث.
الوجه الخامس: أن الدرجة الخامسة أن يُعلَّمَ اللغةَ بقياسٍ نحوي أو تصريفيٍّ قد يدخلُه تخصيصٌ لمعارضٍ راجح، وقد يكون فيه فرقٌ لم يتفطَّن له واضع القياس القانوني. ومن المعلوم أن هذا يَرِدُ عليه أكثر مما يَرِدُ على من تعلَّم المعاني الشرعية من القواعد الكلية التي وضعها الفقهاء.
وإذا كان الأمر كذلك فمن لم يأخذ معاني الكتاب والسنة من الصحابة والتابعين ومن أخذ عنهم لم يكن له طريقٌ أصلًا إلّا ما يَرِدُ عليه من الآفاتِ أضعافُ ما يَرِدُ على هذه الطريق، فلا يجوز له ترجيحُ غيرها عليها، فيكون أحد الأمرين لازمًا له:
إما أن يَستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويَعدِلَ عن الطريق التي فيها من العلوم اليقينية والأمور الإيمانية والاعتقادات الراجحة والظنون الغالبة ما لا يوجد في غيرها إلى ما هو دونها في ذلك كلِّه، بل يَستبدل باليقين شكًّا وبالظنّ الراجح وهمًا، ويستبدل بالإيمان كفرًا وبالهدى ضلالة، وبالعلم جهلًا، وبالبيان عِيًّا، وبالعدل ظلمًا، وبالصدق كذبًا، وبالإيمان بكتب الله وبكلماتِه تحريفًا عن مواضعها.

وإما أن يُعرِضَ عن ذلك كلِّه، ولا يجعلَ للقرآن معنًى مفهومًا، وقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف/ 2] فلا يَعقِله، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء/ 82] فلا يتدبره، وقال: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ} [ص/ 29]. فلا يتدبر ولا يتذكر، وقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت/ 43] فلا يكون من العالمين العاقلين لها. وإذا سلكَ هذا

(الكتاب/19)


المسلك استطار شررُه وتعدَّى ضررُه، فيلزمُ تعطيلُ معاني الكتاب والسنة وفتورُ الرسالة، إذ الرسول الذي لم يُبيِّن بمنزلة عدم الرسول، والكلامُ الذي بلَّغَه الرسولُ ولم يُعقَل معناه يَدخُل في حدِّ الأصوات المسموعة التي ليس فيها حروفٌ مُبيِّنةٌ للمعاني.
وقد ذمَّ الله تعالى من كان حالُه في كتابه هكذا، وجعلهم كفَّارًا بمنزلة الأموات، وحَمِدَ من سَمِعَ كلامَه فعَقَلَه ووعاه، وجعل ذلك صفة المؤمن الحيّ، فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة/ 171]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان/ 73] وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد/ 24]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام/ 36]، وقال تعالى: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف/ 40]، وقال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة/ 7]، وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد/ 16]، وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء/ 155].
وإذا كان من عَدَلَ عما فسَّر به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه والتابعون القرآنَ فأحدُ الأمرين لازمٌ له: إمّا أن يَعْدِلَ إلى تفسيره بما هو دون ذلك، فيكون محرِّفًا للكلم عن مواضعه، وإمّا أن يبقَى أصمَّ أبكمَ لا يسمعُ من كلام الله ورسوله إلّا الصوتَ المجرَّد الذي يَشْرَكُه فيه البهائمُ ولا يَعقِلُه. وكلٌّ من هذين الأمرين باطلٌ محرَّمٌ = ثبتَ تعيُّنُ الطريقة النبوية السلفية

(الكتاب/20)


وبطلانُ الطريقة التحريفية والأمِّيَّة، فالتحريفية لها الجهلُ المركّب والكفر المركَّب، والأمية لها الجهلُ البسيط والكفر البسيط.
وقد ذمَّ الله تعالى الطريقين في القرآن، فقال تعالى في الأولى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)} [البقرة/ 75 – 77]. فهذه الطريقة المذمومة التي سلكها علماءُ اليهود وأشباههم في أنهم يُحرِّفون كلام الله أو يكتمونه لئلا يُحتَجَّ به عليهم في خلافِ أهوائهم. فمن عَمَدَ إلى نصوص الكتاب والسنة فحرَّفها أو كتمها ففيه شَبَهٌ من هؤلاء، كما تجدُ ذلك في كثيرٍ من أهل الأهواء، يكتم ما أنزله الله تعالى من الكتاب والسنة عمن يحتج بها على خلافِ هواه، فيَغُلُّ الكتبَ المسطورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، ويمنع تبليغَ الأحاديث النبوية وتفسير القرآن المنقول، ولو قدرَ على منع القرآن لفعلَ، وما ظهرَ من ذلك حرَّفَه عن مواضعِه بتأويلِه على غيرِ تأويلِه، ثمّ يَعمِدُون إلى كتبٍ يضعونَها، إمَّا منقولات موضوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابةِ والأئمة، فكم عند أهل الأهواء من الآثار المكذوبة، ويقولون: هذه منزَّلةٌ من عند الله، إذ ما جاء به النبي فهو من عند الله، أو يضعون كلامًا ابتدعوه أو رأيًا اخترعوه، ويُسمُّونه مع ما وضعوه من المنقولات دينَ الله وأصولَ دينه وشرعَ الله والحقَّ الذي أوجبه الله، وأكثرهم [يأخذُ] على ذلك أعواضًا من مالٍ أو رئاسة. ففيهم شَبَهٌ من الذين قال الله فيهم: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِمَّا

(الكتاب/21)


يَكْسِبُونَ} [البقرة/ 79]. ولا ريبَ أن غالبَهم ليس مثلَ اليهود، إذ لا يكون إلّا من كان كافرًا محضًا، لكن فيهم من الشَّبَه بهم بقدر ما شاركوهم فيما ذمَّهم الله تعالى عليه. وقد يكون في الشخص أو الطائفة بعضُ المذموم من الخصال والأفعال التي هي مما ذمَّ الله تعالى عليه أهلَ الكفر والنفاق، وإن كان فيه أيضًا ما يُحمَد عليه من الإيمان. هذه صفة من حرَّف التنزيلَ أو كتمه أو استدلَّ بما وضعه (1) وابتدعه.
وأما المعرض عن الكلام في معناه بالكلية فقد قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة/ 78]. والأماني التلاوة والقراءة، فهم لا يعلمون إلّا مجردَ تلاوتِه وقراءته بألسنتهم، يُقيمون حروفَه ويُضيِّعون حدودَه علمًا وعملًا، لا يعرفونها ولا يعملون بها.
فهذه أربعة أمورٍ ذمها الله تعالى: تحريف ما أنزله الله، وكتمانه، وكتابة ما ينسب إليه مما يخالفه، والإعراض عن تدبُّر كلامِه. فمن الناس من يجمع الأربعةَ، وهم رؤوس أهل البدع وأئمتهم الذين وضعوا مذاهبَ مخالف الكتاب والسنةَ، وجعلوها من دينِ الله وأصولِ الدين وفروعِه التي أوجب الله قولها واعتقادها، وقالوا عن الله: إنَّ الله أمرَ بهذا القول والاعتقاد وهذا العمل والاعتماد، فإخبارُهم عن الله بإيجابِ ذلك واستحبابِه أعظمُ من مجرَّدِ إخبارِهم عنه بأن ذلك جائزٌ عند الله إذ قد يجيء من عند الله ما لا يجب علينا به عملٌ، لكونه منسوخًا أو لكونه خبرًا لا يجب علينا به عملٌ ونحو ذلك. وتحريفُهم لنصوص الكتاب والسنة ظاهرٌ، وكذلك كتمانُهم ما يَحتجُّ به أهلُ الإيمان عليهم من الآثار
_________
(1) في الأصل: “به ما وضعه”.

(الكتاب/22)


المعروفة والكتب المنقولة نقلًا صحيحًا.
ثم إن هؤلاء لهم حالانِ: تارةً يرون تحريف النصوصِ على وَفْقِ آرائهم، ويُسمُّون ذلك تأويلًا، وتارةً يرون الإعراضَ عن تدبُّرِها وعَقْلها، ويُسمُّونه تفويضًا. فهم بين التحريف والأمِّيَّة، منهم من يُوجِب هذا، ومنهم من يوجب هذا، ومنهم من يستحبُّ هذا، ومنهم من يستحب هذا، ومنهم من يُوجب أو يستحبُّ هذا لطائفةٍ وهذا لطائفةٍ، أو هذا في حالٍ وهذا في حالٍ.
وكثير من الناس لا يجمعُ هذه الصفاتِ الأربعة المذمومة، بل يكون منها خصلة أو خصلتان: إمّا الأمية وإمّا التحريف وإمّا الكتمان أو غير ذلك، ثم من كان مؤمنًا لا يكون هذا حاله في جميع القرآن، لكن في بعضِه أو في كثيرٍ منه، كما عليه طوائفُ من أهلِ الكلام ومن اتبعَهم، وربما فعلَ ذلك في أكثر القرآن، كحالِ الفلاسفة من القرامطة والباطنية ونحوهم.
ثم اعلم أن طريقة التحريف لا تُسلَكُ ابتداءً، لأن تفسير الكلام بخلاف مقتضاه لا يقبله القلبُ إلّا بموجب، بل تُسلَك ابتداءً طريقةُ الكلام والكتاب المضافِ إلى الدين وليس منه، وهو ما يُسمُّونه المعقولات التي هي المجهولات، ويجعلون ذلك هو الاعتقاد وأصول الدين التي أمرَ الله بها، والحكمة الحقيقية والعلوم اليقينية التي ينبغي للفضلاء تحصيلُها، ويَصُدُّون الناسَ عن القرآن بالطريقة الأمية، ويتفاوضون فيما بينهم بطريقة التحريف.
ولهذا يُقرِّرون أن الأدلة اللفظية لا تُفيد اليقينَ، فإن هذا يمنع ما أمر الله به من عَقْلِه وتدبُّرِه وتذكُّرِه والتفكُّرِ فيه، ويجعل الطريقة الأمّيّة حجةً،

(الكتاب/23)


إذ كان ذلك لا يُفيد علمًا ويقينًا. وطريقة التحريف تتقابل فيها الاحتمالات، فإنه إذا لم يكن إلى العلم بالمراد سبيلٌ تَعيَّن الإعراضُ عن مُرادِ القرآن، وهى الطريقة الأمية. قال الله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة/ 78]، {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الجاثية/ 24].
ومما يجب أن يُعلَم أن من أعظم أبواب الصدِّ عن سبيل الله وإطفاءِ نورِ الله والإلحادِ في آياتِ الله وإبطالِ رسالةِ الله دعوى كون القرآن لا يُفهَم معناه، ولا طريق لنا إلى العلم بمعناه، أو لا سبيل إلى ذلك إلّا الطرق الظنية. ولهذا يَسلك هذا الطريق من نافقَ هنا من المتكلمة والمتفلسفة ونحوهم، فإنهم إذا انسدَّ عليهم بابُ الرسالة والأخذ منها رجعَ كلٌّ منهم إلى ما يوحيه الشيطانُ إليه، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام/ 121].
ثم القرآن إما أن يحرفوه، فيكونون في معناه منافقين يُظهرون الإيمان بلفظه وهم بمعناه كافرون، وأما أن يُعرِضوا عن معناه فيكونوا به كافرين، كما قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)} [طه/ 123 – 126]. والنسيان تركُها والإعراض عنها، وكذلك ترك استماعها وترك تدبُّرِها وفَهْمِها، وترك الإيمان بها والعمل بها، كل ذلك من نسيانها. وقراءةُ مجرد حروفها وحفظه أو استماع مجرد صوت القارئ بها لا يمنع النسيان المذموم، فلا بدَّ من الإيمان الذين يتضمن معرفتَها والعملَ بها، وهذا وإن لم يكن واجبًا على كل أحدٍ في كل آيةٍ على سبيل التفصيل، لكن الإيمان بالله

(الكتاب/24)


أوجبَ مجموعَ هذا على مجموعِ الأمة.
فمن كان يرى أن الذي أمر الله به [إما] أن تكون الأمة كلها أميةً لا تَعقِلُ معاني الكتاب، وإما أن يكون فيها من يُحرِّفه بالتأويلات المبتدعة، فهو ممن يدعو إلى الإعراض عن معاني كتاب الله ونسيانها. ولهذا صار هؤلاء يَنْسَون معانيَه حقيقةً كما يُنسَى اللفظُ، فلا يَخطُر بقلوبهم المعنى الذي أراده الله ولا يتفكرونه، وهذا نسيانٌ حقيقي لمعاني كتاب الله، وإن كان فيهم من يحفظ حروفه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي والدارمي (1) وغيرهما: “هذا أوانُ يُقبَضُ العلمُ” فقال زياد بن لبيد: يا رسولَ الله! كيف يُقبَضُ وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنَّه ولنُقرِئنَّه أبناءَنا ونساءنا، فقال: “إن كنتُ لأحسبُكَ من أفقهِ أهلِ المدينة، أوَ ليست التوراةُ والإنجيلُ عند اليهود والنصارى فما أغنَتْ عنهم؟! “. بيَّن صلى الله عليه وسلم أن وجودَ الكتب المسطورة والحروف المسموعة المقروءة بالأصوات المسموعة لا تُغنِي من العلم شيئًا إذا لم يَقترِنْ بها فهمُه وفقهُه ومعرفتُه.
ولهذا قال عبد الله بن مسعود: “إنكم في زمانٍ كثيرٍ فقهاؤه قليلٍ قُرَّاؤه – وفي روايةٍ: كثيرٍ فقهاؤه قليلٍ خطباؤه – كثيرٍ مُعطوه قليلٍ سائلوه، وسيأتي عليكم زمانٌ كثيرٌ قراؤه أو خطباؤه قليلٌ فقهاؤه قليلٌ معطوه كثيرٌ سائلوه” (2). فبيَّن أن الزمان المحمود هو الذي يكون [فيه] فقهاءُ يفقهون معاني القراءةِ والخطاب، أمّا كثرة من يقرأ القول ويتكلم بالخطاب بلا
_________
(1) أخرجه الدارمي (294) والترمذي (2653) عن أبي الدرداء. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(2) أخرجه أبو خيثمة في العلم (109).

(الكتاب/25)


فقهٍ فإن ذلك مذموم، ذكر هذا في نعت أبناء الدين، ثم قال في نعت أبناء الدنيا: إن المحمود كثرة المعطي وقلةُ السائل، لا كثرة السائل وقلة المعطي. فعُلِمَ أن ما أوجبَ تركَ فقه القرآن فهو مذموم، فكيف بما أوجبَ تحريفه وتبديلَه!
واعلم أنه لما حرَّف من حرَّف من المنتسبين إلى العلم كثيرًا من معاني القرآن، وجعلوا ذلك هو فقهه وفهمه ومعرفة معانيه في أصول دينهم وفروعه، ووضعوا من الكلام الذي ابتدعوه، والكتب التي (1) كتبوها بأيديهم، وجعلوها مأمورًا بها من عند الله أو مأثورةً من عند الله، وكثُرَ هؤلاءِ وكبُرَ أمرُهم = صارَ آخرون من المؤمنين الذين علموا بطلانَ ما ابتدعوه وتحريمَ ما قالوه، وكتبوه ينهون عن ذلك كما أمر الله ورسولُه، وينهونهم عما ابتدعوه من التأويل الذي هو تحريف الكلمِ عن مواضعه، ويقولون: هذا بدعة وضلالة، والسلفُ لم يتأوَّلوا هذه التأويلات، ورأى أولئك أن في هذه التأويلات من الفساد، ما لا تقبله العقول والقلوب، [و] من الاختلاق ما يوجب الافتراقَ والشقاقَ. وضعُفَ أولئك المؤمنون عن تحقيق الإيمان بمعاني القرآن، إمّا في بواطنهم لما عارضوهم به من الشبهات، وإما في ظواهرهم لما قاموا به من المجادلات والمجالَدات، أخلَد الفريقانِ إلى الطريقة الأميةِ المتضمنةِ الإعراضَ عن معاني كثيرٍ من القرآن، وصار ممن يرى هذه الفتن والافتراق يَصُدُّ قلبه عن تدبُّر القرآن وفهمِه ومعرفةِ الحديث وعلمِه، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء/ 61] خوفًا من شبهات المنافقين التي يُوحيها شياطين إنسِهم وجنِّهم إلى قلبِه،
_________
(1) في الأصل: “الذي”.

(الكتاب/26)


أو خوفًا منهم في الظاهر.
وهذا الثاني يُعذَر، وأما الأول فلا يُعذَر، إذ يجب على المؤمن الإيمانُ في قلبِه في كلِّ حال، ويكون في المنكر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان” (1). وكيف يُنكِر المنكرَ بقلبِه من لا يعرِف أنه منكرٌ، فالعلمُ قبلَ الحبِّ والبغضِ، والإيمانُ بالقرآن لفظِه ومعناه واجب، ومحبةُ لفظِه ومعناه واجب، وإنكارُ ما خالفَه ولو بالقلبِ واجبٌ، لكن يُعذَرُ المؤمنُ بعجزه. فالقلب كالبدن، فمن عجز عن معرفته فهو كالعاجز عن حفظ حروفه، ويَسقُط عنه خطابُ الإيمان بذلك، ويُخاطَب به القادرون، لكن لا يكاد يَعجِزُ مثلُ هذا أن يعلم أيُّ القولينِ أو القائلين أولى بالإيمان بالله ورسولِه، فعليه أن يكون مع أهل الإيمان بحسب إيمانهم، وإن ابتُلِي بمخالفة الفاجر خالفَه.

وهذا الذي ذكرتُه بيِّنٌ لمن تدبَّره، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله. فإنّ الله تعالى إنما أنزل كتابَه لِيُعقَل ويُتدَبَّر، وتتبُّعُ المعاني أشرفُ من الألفاظ والكمال المقصود بالألفاظ، وهى معها كالأرواح مع الأجساد، فاللفظ بلا معنًى جسمٌ بلا روحٍ، ومن لم يَعلم من الكلام إلا لفظَه فهو مثلُ من لم يعلم من الرسولِ إلّا جسمَه، ومن لم [يعلم] من الصلاة إلّا حركةَ البدن بالقيام والقعود والركوع والسجود. ولهذا قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الآية [البقرة/ 177]، وقد رُوي في حديثٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما هلكَ بنو إسرائيلَ حين شَهِدتْ أجسادُهم وغابتْ
_________
(1) أخرجه مسلم (49) عن أبي سعيد الخدري.

(الكتاب/27)


قلوبُهم” (1). ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق/ 37]، قالوا: شاهدُ القلب غير غائبِه.
ولهذا ذمَّ العلماء، الراسخون والمؤمنون الصادقون من اقتصر في إعجاز القرآن على ما فيه من الإعجاز من جهة لفظه أو تأليفه أو أسلوبه، وقالوا: هذا وإن كان معجزًا فنسبته إلى ما في معانيه من الإعجاز نسبة الجسد إلى الروح، ومحاسن الخَلْق إلى محاسنِ الخُلُق، وهو يُشبِهُ مَن عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم بمحاسنِ خَلْقِه وبدنِه، ولم يعلم ما شرَّف الله به قلبَه الذي هو أشرفُ القلوب ونفسَه التي هي أزكى النفوس، من الأمور التي تَعجزُ القلوبُ والألسنةُ عن كمال معرفتها وصفتها، كما قال ابن مسعود (2): “إنّ الله نظَر في قلوبِ العباد، فوجدَ قلبَ محمدٍ خيرَ القلوب، فاصطفاه لرسالته، ثم نظر في قلوب أصحابِه بعد قلبِه، فوجدَ قلوبهم خيرَ القلوب، فاختارهم لصحبة نبيِّه وإقامةِ دينِه”. وأظنُّه فيه أو في غيره (3): “فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا فهو عند الله سيء”. وقال (4): “من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات،
_________
(1) أخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (157) من حديث عثمان بن أبي دهرش مرسلًا، ولفظه: “خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل … “.
وإسناده ضعيف انظر: السلسلة الضعيفة (5050).
(2) أخرجه أحمد (1/ 379) والطيالسي في مسنده (ص 23) والبزار كما في كشف الأستار (130) والطبراني في الكبير (8582) عنه موقوفًا. وإسناده حسن.
(3) هو ضمن الأثر المذكور، وقد أخرج هذا الجزء فقط الحاكم في المستدرك (3/ 78) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(4) أخرجه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم وفضله” (2/ 97) عن طريق قتادة عن ابن مسعود، وهو منقطع.

(الكتاب/28)


فإن الحيَّ لا تُؤمَن عليه الفتنة، أولئك أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم أبرُّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقُها علمًا وأقلُّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيِّه وإقامةِ دِينه، فاعرِفوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهَدْيِهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم”.
وهذا القدر الذي ذكرناه – من أن المقصود بالقرآن معانيه ومِن ذمِّ المعرضِ عن معناه – هو أجلُّ في نفسه وأظهرُ معرفةً من أن يُحتاج إلى بسطٍ، فإذا كان كذلك فمن أعرضَ عن معناه بالكلية فهو مُعرِضٌ عن البرّ المقصود منه، ومن أعرض عن معاني كثيرٍ منها فهو مُعرِضٌ عن كثيرٍ منه، فإذا كان يأمر بذلك الإعراض ويرغب فيه فهو أمر بالإعراض عن القرآن وأمر بنسيانه وتركه، ومعلومٌ أن هذا كفرٌ صريح. وإذا كان يقول: إنه ليس بمعرِضٍ عن معناه، ويتأوَّله على غير تأويله، ويقول: هذه معانيه، ويأتي بمعانٍ تُضادُّ معانيَه، فهو منافق كاذبٌ، بمنزلة من يقول: أنا أؤمنُ بحروفِه، وأتَى بكلامٍ ليس هو القرآن وقال: هذا هو القرآن، فهو منافق كاذب، ولهذا كان أضرَّ وأخبثَ، فإن الأول بمنزلة الكافر المعرض عن المسلمين، والثاني بمنزلة المنافق الذي أظهرَ الإيمانَ وفعلَ في المسلمين ما ينافي الإيمان.
ولهذا كان مبدأ هذه البدع الكبار – مثل الرفض والتجهُّم ونحو ذلك – من منافقين زنادقةٍ أبطنوا الكفرَ وأظهروا الإسلام، وجاء في الحديث من غير وجهٍ: “إن أخوفَ ما أخاف عليكم زَلَّةَ عالمٍ، وجدالُ منافقٍ بالقرآن، وأئمةٌ مُضِلُّون” (1). وهذه الثلاثة تتفق في الأمور الخبرية
_________
(1) أخرجه الطبراني في الصغير (2/ 85) عن معاذ، وفي إسناده عبد الحكيم بن منصور وهو متروك.

(الكتاب/29)


والعلمية جميعًا، فإن الأمور الخبرية قد يَزِلُّ بعضُ العلماء فيها بالتأويل الذي هو تفسير آيةٍ أو حديث، أو في الحكم على مضمونِ ذلك بإثباتٍ أو نفيٍ يخالف مضمونَ النصِّ، وهذا كثير. وقد كان كثير من أهل البدع منافقين حقيقةً، يجادلون الناسَ بالقرآن ويُفسِدونَه بالتأويلات التي ابتدعوها، ويؤيدون مقاييسَهم الفاسدة بشواهدِ ذلك من غريب اللغة ونادِرها.
والأئمة المُضِلُّون من الأمراء والعلماء والمشايخ والملوك، الآمرون بخلاف ما أمر الله به ورسولُه، والناهون (1) عما أمر الله به ورسولُه، والمخبرون (2) بخلاف ما أخبرَ الله به ورسولُه، ففيهم الكذبُ في خبرِهم والظلمُ في أمرِهم وعلمِهم، ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن (3) أنه قال لكعب بن عُجْرَة: “أُعِيذُك بالله من إمارة السفهاء”، قال: وما ذاك يا رسولَ الله؟ قال: “أمراءُ يكونون من بعدي، مَن دخلَ عليهم فصدَّقَهم بكذبهم وأعانَهم على ظلمهم فليسوا منِّي ولستُ منهم، ولن يَرِدُوا عليَّ الحوضَ، ومن لم يَدخُلْ عليهم ولم يُصَدِّقهم بكَذِبهم ولم يُعِنْهم على ظلمِهم فأولئك مني، ويَرِدُون عليَّ الحوضَ”.
فهذا الكلام قليلٌ من كثيرٍ يتبيَّن به أن مَن عَدَلَ عن تفسير الصحابة
_________
(1) في الأصل: “والناهي”.
(2) في الأصل: “والمخبرين”.
(3) أخرجه الترمذي (614، 615) وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من هذا الوجه إلا من حديث عبيد الله بن موسى. وأيوب بن عائذ الطائي يُضعَّف ويقال: كان يَرى رأي الإرجاء.

(الكتاب/30)


وما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك – إمَّا سالكًا [طريقًا] أخرى إلى فهم القرآن أو مُعرِضًا عن الجميع – فلا بدَّ له من الجهل والضلال والإفك والمحال، وهو على شفا جُرُفٍ هارٍ يؤديه إلى الكفر والنفاق، فإن انهارَ به وقعَ في نارِ جهنم، وصار من أهل الحراب والشقاق، {وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال/ 13]، و {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة/ 33].
ولهذا ما زال كل ذي عقلٍ ودين يردُّون علم معاني الكتاب والسنة إلى العلماء والفقهاء فيه، الذي تَلقَّوه طبقةً بعد طبقةٍ ميراثًا محفوظًا، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في خطبته التي رويناها عنه لكُمَيل بن زياد (1): “احفَظْ ما أقول لك، القلوبُ أوعيةٌ فخيرُها أوعاها، الناسُ ثلاثة: عالم ربَّاني، ومتعلمٌ على سبيل نجاةٍ، وهَمَجٌ رَعَاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ يميلون مع كلِّ صائحٍ، لم يَستَضِيئوا بنورِ العلم، ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيقٍ. يا كُمَيل! العلم خيرٌ من المال، العلمُ يَحْرُسُك وأنتَ تَحرُسُ المال، العلمُ يَزكُو على العملِ والمالُ يَنقُصُه النفقةُ، العلمُ حاكمٌ والمالُ محكومٌ عليه، ماتَ خُزَّانُ المال وهم أحياءٌ، والعلماءُ باقونَ ما بقيَ الدهرُ، أعيانُهم مفقودةٌ وأمثالُهم في القلوب موجودةٌ. آهِ آهِ! إن ههنا – وأشارَ بيده إلى صدرِه – علمًا لو أصبتُ له حَمَلةً، بلى أصَبْتُ لَقِنًا غيرَ مأمون عليه، يستعمل آلةَ الدين في طلب الدنيا، يَستظهرُ بِنعَمِ اللهِ
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 79، 80) وأبو هلال العسكري في ديوان المعاني (1/ 146، 147) والمزي في تهذيب الكمال (24: 220 – 222).

(الكتاب/31)


على عبادِه وبحُججه على كتابه، أو مُنقادًا لأهل الحق لا بصيرةَ له في أحنائِه، ينقدح الشكُّ في قلبِه بأوَّلِ عارضٍ من شبهة، لا ذَا ولا ذاك، فمنهومٌ باللذات سَلِسُ القياد للشهوات، أو مُغْرًى بجمع المال والادخار، أقرب [شيء] شبهًا بهما الأنعامُ السائمة، كذلك يموتُ العلم بموتِ حامليه”. ثم قال: “اللهم بلى! لن تَخلُوَ الأرضُ من قائمٍ لله بحجته”.
هذا لفظ الحديث الذي رواه أهل العلم بذلك، وأما قولهم “إمَّا ظاهر مشهور وإمَّا غائب مستور” فمن أكاذيب الرافضة الذين يزعمون أنه أشار به إلى ما لا حقيقة له. وليست هذه الزيادات في شيء من الروايات إلّا في مثل “نهج البلاغة” (1) الذي أكثره موضوع، وضعه واخترعَه الشاعر المعروف بالرضي. وتمام الحديث: “أولئك الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، هَجَمَ بهم العلمُ على حقيقة الأمر، فاستلانُوا ما استوعَره المُتْرَفون، وأَنِسُوا بما استوحشَ منه الجاهلون، صَحِبُوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها معلَّقةٌ بالمحلِّ الأعلى. آهِ آهِ! شوقًا إلى رؤيتهم”.
ففي هذا الحديث أن أمير المؤمنين قسمَ حملةَ العلمِ المذمومين ثلاثة أصناف:

المبتدع الفاجر الذي ليس عنده أمانةٌ وإيمان، يَبْطَرُ الحقَّ الذي جاء به الكتابُ ويَغْمِطُ الخلقَ، يجادل في آياته بغير سلطانٍ أتاه، إنْ في صدره إلَّا كِبرٌ ما هو ببالغِه. وهؤلاء مثل المتفلسفة والمتكلمة الذين يعارضون القرآنَ ويَعتَدُون على أهلِ الإيمان.
_________
(1) ص 497 بنحوه.

(الكتاب/32)


والصنف الثاني: المقلِّد المنقاد بلا بصيرة ويقين، مثل ما يوجد في كثير من العلماء والفقهاء الذين لهم ذَكاءٌ وصحةُ إيمان. وإنما ذكر الثالث لأن النفس يكون ذنبها تارةً بالجهل، وتارةً بالظلم، إما بالقوة الشهوانية، وإما بالقوة الغضبية، فهؤلاء أهلُ الاعتداءِ في القوةِ الغضبية بالكبرِ والطعنِ هم القسم الأول، والجهال هم المقلدون وهم القسم الثاني، وأهل الشهوة هم القسم الثالث.
ثم ذكر خلفاءَ الرسل القائمين بحجج الله وبيِّناتِه، فقال: “لن تخلو الأرضُ من قائمٍ لله بحجته، لكيلا تَبطُل حُجَجُ الله وبيناتُه”. ومعلومٌ أن الله تعالى إنما أقامَ الحجةَ على خلقِه برسُلِه، فقال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165]، فلم يَبقَ لهم بعد الرسلِ حجةٌ، وإنما تقوم الحجةُ في مغيبهم ومماتهم بمن يُبلِّغ عنهم، كما قال: “لكيلا تَبطُل حججُ الله وبيناتُه”، ولا تقوم الحجةُ حتى يُبلِّغ اللفظَ والمعنى جميعًا، إذ تبليغُ اللفظ المجرد الذي لا يدلُّ على المعنى المقصود لا تقوم به حجةٌ، بل وجودُه كعدمِه. فالقائمون بحجة الله هم المبلِّغون لما جاءت به الرسلُ لفظًا ومعنًى، ولهذا قال: “وبيناتُه” وهي ما يبين الحق.
ثم وصفَهم فقال: “هم الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، هَجمَ بهم العلمُ على حقيقةِ الأمرِ، فاستلانُوا ما استوعَرَه المُتْرَفُون، وأَنِسُوا بما استوحشَ منه الجاهلونَ”. فإنه قد ذكر أن مَن سِوى هؤلاءِ جاهلٌ أو مُتْرَفٌ، والمرءُ عدوُّ ما جَهِلَ، فيستوحشُ مما عداه ويَنفِر عنه، كما يُصيبُ المكذبين ببعض ما جاءتْ به الرسلُ من استيحاشِهم لكثيرٍ منه لجهلِهم به، وكما يُصيبُ المؤمنَ بلفظ الجاهل بمعناه، وأما العلماء فكما قال الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ

(الكتاب/33)


الْحَقَّ} [سبأ/ 6]. والمترف هو الذي ترك العملَ بعلمه واستحسن ذلك، كما تقدم في وصفِ صاحبِ الاعتداء في كِبْره وشهوتِه. فأخبرَ أن هؤلاء علموا ما جاءت به الرسلُ، فأَنِسُوا به وعَمِلُوا بذلك واستلانوه، فقال: “فاستلانوا ما استوعَره [المُترفون]، وأَنِسُوا بما استوحشَ منه الجاهلون”.
وهذه صفه أئمة الهدى من الصحابة والتابعين، كسعيد بن المسيَّب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز، ومن بعدهم مثل الثوري ومالك وإبراهيم بن أدهم وعبد الله بن المبارك وفُضيل بن عياض ونحوهم، وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد وعبد الله بن وهب وأبى سليمان الداراني ومعروف الكرخي والشافعي ونحو هؤلاء. ثم كان من أقوم هؤلاء بهذه المنزلة في وقته أحمد بن حنبل ومن يقاربُه في ذلك، كإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وبشر بن الحارث الحافي وغير هؤلاء. فإن الإمام أحمد كما قال فيه أبو عمر النحاس الرملي (1) رحمه الله: “عن الدنيا ما كان أصبَره! وبالماضين ما كان أشبَهَه! أتتْه الدنيا فأباها، والبدع فنَفاها”، فهو من أعظم من أَنِسَ بما استوحشَ منه الجاهلون، واستلانَ ما استوعَره المترفون.
وهؤلاء وأمثالُهم من الأئمة كما قال الله تعالى فيهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة/ 24]. فأيُّهم كان أعظمَ يقينًا بآيات الله وصبرًا (2) على الحقّ فيها كان أعظمَ إمامةً عند الله من غيرِه، ومن مثلِ هؤلاء يُؤخَذ تفسير القرآن والحديث، كما
_________
(1) انظر سير أعلام النبلاء 11/ 198 وفيه: أبو عمير بن النحاس.
(2) في الأصل: “صبروا”.

(الكتاب/34)


قال أبو عبيد – وعلمه باللغة في الطبقة العليا، مع ما له من البراعةِ في بقية العلوم – لمّا ذكرَ تنازعَ بعض أهلِ اللغة وعلماء الفقه والحديث في تفسير نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اشتمالِ الصمَّاءِ، وأن بعض أهلِ الغريب فَسَّره بالتجليل، وأن علماء الدين فسَّروه بإبداءِ المنكب، قال أبو عبيد (1): “والفقهاءُ أعلمُ بالتأويل”، والتأويل هو التفسير، وهو حقيقة المراد. يعني أن الفقهاء يعلمون ما عُنِي بالأمر والنهي، لأن ذلك مطلوبُهم، وأهل الغريب يتكلمون فيه من جهة اللفظ فقط وما تريده به العربُ كما قدمناه.
وكذلك ذكر هلال بن العلاء الرقّي – فيما أظنُّ – أنهم لمّا سمعوا نهْيَ النبي صلى الله عليه وسلم عن العَقْر قال: سألنا فلانًا وفلانًا من أهل العلم باللغة فلم يَعرِفوا معناه، وأظنُّه ذكر أبا عمرو الشيباني وطبقتَه، قال: فقلنا: ارجعوا بنا إلى أهلِه، فجاؤوا به إلى أحمد بن حنبل، فسألوه فقال: كانوا في الجاهلية إذا ماتَ فيهم كبيرٌ ذبحوا عند قبرِه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لما فيه من تعظيم الميت الذي يُشبِه النياحةَ ويُشبِه الذبحَ لغير الله. ولهذا كرِه أحمد الأكلَ مما يُذبَح على القبور. قال هلال: فقلنا: هذا والله العلمُ، ثم أنشدَ لبعضِ عربِ الجاهلية (2):
وإذا مَررتَ بقبرِه فاعْقِرْ بِه … كُومَ الرِّكابِ وكلَّ طِرْفٍ سَابحِ
فهذا بعض ما يتعلق بكون الأحاديث والآثار موافقةً للقرآن ومفسِّرةً له.
_________
(1) في غريب الحديث (2/ 118).
(2) البيت لزياد الأعجم أو الصلتان العبدي من قصيدة في أمالي اليزيدي 2 وذيل أمالي القالي 9.

(الكتاب/35)


وأما الطريق الثاني
وهو بيان وجوب قبول الأخبار الصحيحة، فنقول:
أما قوله: “هذه الأخبار آحادٌ لا تُفيد العلمَ بل تُفيد الظنَّ، كما عُرِف في الأصول”، فنقول: الأخبارُ في هذا الباب – وهو باب الأمور الخبرية والعلمية – ثلاثة أقسام:

أحدها: متواترٌ لفظًا ومعنًى.
والثاني: مستفيضٌ متلقًّى بالقبول.
والثالث: خبرُ الواحدِ العدلِ الذي يجب قبولُه.
أما الأول فمثلُ الأحاديثِ الواردة في عذاب القبر وفِتنتِه، وفي الشفاعة، وفي الحوض، ونحو ذلك. فإن هذه متواترةٌ في باب الأمور الخبرية كتواتُر الأحاديث الواردةِ في فرائضِ الزكاةِ والصوم والصلاة والحج والمناسك، وفى رجم الزاني ونصابِ السرقة ونحو ذلك. وأبلغُ منها الأحاديثُ الواردةُ في رؤية الله تعالى في الآخرة، وعلوِّه على العرش، واثبات الصفاتِ له، فإنه ما من بابٍ من هذه الأبواب إلّا وقد تواتَر فيها المعنى المقصود عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترًا معنويًّا، لنَقْلِ ذلك عنه بعباراتٍ متنوعةٍ من وجوهٍ كثيرةٍ يمتنع بمثلِها في العادةِ التواطؤُ على الكذب أو وقوعُ الغلظ، والخبرُ لا تأتيه الآفةُ إلّا من كَذِبِ المخبر عمدًا أو من جهةِ خطئِه، فإذا كانت [العادة] العامة البشرية والعادة الخاصة المعروفة من حالِ سلفِ هذه الأمة وخَلَفِها تَمنَع التواطُؤَ والتشاعر (1)
_________
(1) كذا في الأصل. ولعلها “التساعد”.

(الكتاب/36)


على الاتفاق على الكذب في هذه الأخبار، وتمنع في العادةِ وقوعَ الغلطِ فيها، أفادت (1) العلمَ اليقيني بمُخْبَرِها.
وللناس بمخبر التواتر طريقان:
منهم من يقول: هو ضروري، فنحن نستدلُّ بحصولِ العلم الضروري على حصولِ التواتر الموجِبِ له، والأمر هنا كذلك، فإنه ما من عالمٍ بهذه الأحاديث وبطُرُقِها ونَقَلَتِها سَمِعَها كلَّها إلّا أفادَتْه علمًا ضروريًّا لا يُمكِنُه دفعُه عن نفسِه، أعظمَ من علمِ عمومِ الناسِ بِسخاء حاتم وشجاعةِ عنتر وعَدْلِ كِسرى وحَرْبِ البَسُوس ونحو ذلك من الأمور المتواترة عندهم من جهة المعنى. بل هذا عند أهلِ الحديث أبلغُ من العلمِ بمشهورِ مذاهبِ الأئمةِ عند أتباعِهم، كما يعلمُ أصحابُ أبي حنيفة أن مذهبه أن اللمس لا يَنقُض الوضوءَ، وأن المسلم يُقتَل بالذمّي، وأنه لا يُحلِّف المدَّعِين، وأنه يقول بالاستحسان في مواضع. ويعلم أصحابُ مالك أن مذهبه سدُّ الذرائع واتباعُ مذهب أهل المدينة ونحو ذلك. ويعلم أصحاب الشافعي أن مذهبه اتباعُ الخبر الصحيح وتقديمُه على القياسِ والعملِ، وأنه لا يُقتَل المسلمُ بالذمّي، وأنه أخذَ عن مالكٍ ونحوه. ويعلم أصحابُ أحمد أنه كان معظِّمًا لسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وللحديث في أصولِه وفروعِه، وأنه كان يقول بفقهِ أهلِ الحديث، ويُقدِّمه على القياس والعمل ونحو ذلك.
فتواتُر العملِ بما ذكرناه عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بحديثِه أعظمُ من تواترِ ما ذكرناه من أقوالِ المتبوعين عند أتباعهم، ومن سمعَ ما
_________
(1) في الأصل: “افادة”.

(الكتاب/37)


سمعوه وتدبَّر ما تدبَّروه حصل له من العلم ما يَحصُل لهم. ولكن أكثر أهلِ الكلام وأتباعهم في غايةِ قلةِ المعرفةِ بالحديث، وتجدُ أفضلَهم لا يَعتقد أنه رُويَ في البابِ الذي يتكلم فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيءٌ، أو يَظُنُّ المرويَّ فيه حديثًا أو حديثين، كما تجدُه لأكابر شيوخ المعتزلةِ، مثل أبي الحسين البصري يعتقد أنه ليس في الرؤية (1) إلّا حديثٌ واحدٌ، وهو حديث جرير (2)، ولا يَعلم أنّ فيها ما شاءَ الله من الأحاديث الثابتةِ المتلقَّاةِ بالقبول (3)، حتى إن البخاري ومسلمًا مع كونهما مختصرين قد رويا فيه عددًا جيدًا من ذلك، والبخاريُّ هو أكبرُ من مسلم، ومع هذا فقد سماه “الجامع المسند المختصر من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه”. فإنكارُ هؤلاء لما عَلِمه أهل الوراثةِ النبوية مثلُ حكايةِ كثيرٍ من الفقهاء لمذاهب الأئمة المشهورين بخلافِ المتواترِ عند أصحابهم، وقد رأيتُ من ذلك عجائبَ حينَ رأيتُ في الكتب المشهورة عند الحنفية أن مالكًا يُبِيحُ نكاحَ المتعة، وقد عُلِمَ أن مذهبَ مالكٍ يمنع توقيتَ الطلاقِ لئلَّا يُشبِه المتعةَ.
وكثير من الناس قد يَطْرُقُ سَمْعَه هذه الأحاديثُ، ولا يجمعُها وطُرُقَها في قلبه، وإن كان من سامعي الحديث وكُتَّابِه، ومعلومٌ أن حصولَ العلم في القلب بموجب التواتر مثلُ حصولِ الشِّبَع والرّيِّ، وكلُّ واحدٍ من الأنباءِ يُفيد قدرًا من الاعتقاد، فإذا تعددت الأخبارُ وقوِيتْ أفادت العلمَ، إمّا للكثرة وإمّا للقوة وإمّا لمجموعهما.
_________
(1) في الأصل: “رؤية”.
(2) أخرجه البخاري (529، 547، 4570، 6997) ومسلم (633).
(3) ذكر ابن القيم في حادي الأرواح (ص 593 – 685) ثمانية وعشرين حديثًا مع بيان طرقها والكلام عليها.

(الكتاب/38)


والعلم بموجب الخبر لا يكون بمجردِ سماعِ حروفِه، بل بفهمِ معناه مع سماع لفظِه، فإذا اجتمع في القلب المستمع للأخبار المروية [العلمُ] بطرقها والعلمُ بحالِ رُواتِها حصلَ له العلمُ الضروريُّ الذي لا يُمكِنُه دفعُه. ويَدُلُّ على ذلك أن جميع أئمة الحديث المعروفين المشهورين قاطعون (1) بمضمون هذه الأحاديث، شاهدون (2) على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، جازمون بأنَّ من كذَّبَ بمضمونِها فهو ضالٌّ أو كافرٌ، مع علمِ كلِّ أحدٍ بفرطِ علمِ القومِ ودينهم، وأنهم أعلم أهلِ الأرض علمًا بما يصدق ويكذب بأحوالِ المخبرين، وأنهم يجرّدون الروايةَ والخبر تجريدًا لا يفعله أحدٌ لا من المسلمين ولا من غير المسلمين فيما يأخذه بالنقل عن الأنبياء ولا عن غيرهم، والمرجع في العلم بخبر هذه الأخبار إلى ما يجده الإنسان في نفسه من العلم الضروري، ليس له إلّا ذلك، كما يرجع إلى ما يجده من العلوم الوجودية كاللذة والألم وما يحس، وكل من كان من العلماء بالحديث من الأولين والآخرين يجدُ ذلك ويَحلفُ عليه ويُباهِل عليه، ومن … (3) يباهلنا باهلناه، فإن أتباع الأنبياء تباهل على ما جاءوا به، كما دعا الأنبياء إلى المباهلة على ما أتاهم من عند الله.
وقول القادح في النبوة: يجوز أن يكون الذي جاءه شيطان، ويجوز أن يكون [كاذبًا] عليه، مثلُ قول هؤلاء القادحين فيما أتاهم به ورثة الأنبياء: يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين أو غالطين، وكلُّ أحدٍ يعلم أن المتدينين بالحديث أصدق الطوائف وأعدلُها وأقلُّها كذبًا
_________
(1) في الأصل: “قاطعة”.
(2) في الأصل: “شاهدين”.
(3) هنا في الأصل كلمة غير واضحة.

(الكتاب/39)


وظلمًا، كما قال عبد الله بن المبارك: وجدتُ الدينَ لأهل الحديث والكلام للمعتزلة والكذبَ للرافضة والحِيَلَ لأهل الرأي، وذكر كلمة أخرى (1).
ثم لو ساوَينا بين أهل الحديث وبين أقلِّ الطوائف فمن المعلوم أن المناظرة إذا انتهتْ إلى العلم بالضرورة لم يكن لأحد الخصمين ردُّ ذلك على خَصْمِه، فإنه أعلمُ بنفسِه، إلّا أن يعلم كذبُ الخبر الذي يستدل به على انتفاء العلم به، مثل عِلْمِنا بكذب الرافضة في دعوى النصّ وكذبِ النصارى في دعوى صلب المسيح.
فإن كان المناظر لنا يقول: إنى أعلم كَذِبَ من قال إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أثبتَ هذه المعاني، أو إني أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبتَ ذلك، سواء ادَّعى ذلك ضرورةً أو نظرًا، ونحن نقول: إنا عالمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبتَ ذلك = كان بيننا وبينه ما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل نجران من المباهلة. قال الله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران/ 61]، فإنا قد جاءنا من جهة نبينا صلى الله عليه وسلم ما نقول لمن حاجَّنا فيه من بعد ما جاءنا من العلم: تَعالَوا، فإن المحاجَّة التي هي المناظرة إذا انتهت إلى دعوى كل واحدٍ من المناظرين علمًا ما هو عليه، بدليل اختصَّ به أوعجزَ عنه أو ترك الاستدلال وأعرضَ عنه أو عجز عنه، أو علمًا ضروريًّا = لم يَفصِلْ بينهما إلا المباهلةُ أو انقيادُ من لم يُباهِلْ لمن بَاهَلَ، كما انقادَ النجرانيون إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فإن
_________
(1) أخرجه الهروي في ذم الكلام 5/ 210 – 212. وذكره المؤلف في منهاج السنة 7/ 413.

(الكتاب/40)


المخاطِبَ لنا المكذِّب بما (1) جاءنا عن نبينا إمّا أن يُناظَرَ بالعلم والعدل، وإما أن يُباهَل، إن ادَّعى أن عنده من العلم ما لا يُمكِنه المناظرةُ به، فإن امتنعَ منهما فإما أن ينقاد، وإلّا فقد بانَ ظلمُه وكذبُه، واستحقَّ ما يستحقُّه الكاذبُ الظالمُ في هذا الباب.
وأما القسم الثاني – وهو طريق يقررُ إفادةَ التواتر للعلم بالنظر والاستدلال – فنقول: التواتر يُفيد العلم بكثرة العدد تارةً وبصفاتِ المخبرين أخرى، فإن الواحد والاثنين ممن عُلِمَ كمالُ عدلِه وضبطِه – كأبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عمر – يُفيد أخبارُهم من العلم ما لا يفيده خبرُ عددٍ ليسوا مثلَهم، وليعتبر كل واحدٍ ذلك بما يعلم منه ذلك، ولكن هذا إنما يوجد كثيرًا في أهل السنة والعدل، وأما أهل الأهواء فالكذب فيهم كثيرٌ (2). وتارةً بحال المخبر عنه، وتارةً بقوة إدْراكِ المخبر وفطنتِه، فإن الذكاء وقوة الإدراك يحصل بهما من العلم ما لا يحصل لمن ليس له ذلك.
وإذا كان كذلك فالمخبرون بهذه الأخبار يتعين معرفةُ أحوالهم، ولهذا تجد حالَ من علمَ حالَ مالك بن أنس وابن عمر يعلمون من صدقِ روايتهم ما لا يحصل لهم من رواية شعبة وقتادة والثوري. وأما أهلُ الحديث فيعلمون أن الثوري كان أحفظ وأبعدَ عن الغلط من مالك، وأن مالكًا أكثر تنقيةً للشيوخ من الثوري، فالثوري يَروي عمن لا يروي عنه مالك، فشيوخ مالكٍ ثقاتٌ عنده بخلاف محدِّثي الثوري، فليس كلهم ثقةً عنده، وكان يسمع من الكلبي وينهى عن السماع منه ويقول: أنا أعلم
_________
(1) في الأصل: “لنا”.
(2) في الأصل: “كثيرا”.

(الكتاب/41)


صدقه من كذبه. ويعلمون أن الزهري وقتادة ما كانا يَغلَطانِ، ويعلمون أن ابنَ مسعودٍ وابن عمر لا يُتَصوَّر أن يتعمدا الكذبَ على النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك أكثر أئمة أهل الحديث – مثل مالك وشعبة والثوري وأحمد بن حنبل – مَن عَلِمَ حالَهم يعلَمُ علمًا ضروريًّا أنهم لم يعتقدوا الكذبَ قطُّ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أن هؤلاء لم يَغلَطُوا إن غَلِطُوا إلّا في لفظةٍ أو لفظتينِ، ومنهم من يعلمون أنه لم يَغلَطْ في الحديث النبوي، فإن أحمد بن حنبل ما عُرِفَ أنه غَلِطَ فيه قطُّ، ولا الثوري ولا الزهري، وكذلك خلقٌ كثير غيرهم. والذين يعلمون أنهم قد يغلطون (1) – مثل حماد بن سلمة وجعفر بن محمد – يعلمون أن غلطهم إنما هو شيء يسيرٌ وفي مواضعَ يَعرِفونها.
وبالجملة يجب أن يُعلَم أن حِفظَ اللهِ تعالى لسنة نبيّه من جنس حفظِه لكتابة الذي لا يَرُوجُ فيه الغلطُ على صبيانِ المسلمين، وكذلك الحديث لا يروج فيه الباطلُ على علماء الحديث، مع أنا لا ندَّعي هذا في هذا المقام، فإن ذلك من خواصِّ أهل الحديث وخصائص الأمة، وإنما يكفينا هنا الاكتفاء بالعادة المشتركة بين بني آدم، فإن العلم بمخبر الأخبار يكون من الأسباب الأربعة التي تقدمت: الكثرة وحال المُخْبِر وحال المُخْبَر عنه وحال الأخبار أيضًا. ومن قال من المتكلمين ومن اتبعهم من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم أنْ لا اعتبارَ إلا بالعدد، وأنه إذا حصل [العلمُ] بخبر أربعةٍ لقوم عن أمرٍ وجبَ أن يَحصُل بخبرِ كلِّ أربعةٍ لكلِّ قومٍ في كلِّ قضيةٍ = فهذا قد عُرِفَ غلطُه، [و] قُرِّرَ غلطُه في مواضع.
_________
(1) في الأصل: “يغلطوا”.

(الكتاب/42)


فبهذين الطريقين الضروري والنظري يحصُلُ العلمُ لأهل الحديث بمخبر هذه الأخبار المتواترة تواترًا لفظيًّا أو معنويًّا في الأمور العلمية في باب الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر.
والقسم الثاني من الأخبار ما لم يَروِه إلّا الواحد العدلُ ونحوُه، ولم يتواتر لا لفظُه ولا معناهُ، ولكن تلقَّتْه الأمةُ بالقبول عملًا به أو تصديقًا له، كخبر أبي هريرة: “لا تُنكَحُ المرأةُ على عمتها ولا على خالتها” (1). فهذا يُفيد العلم اليقيني أيضًا عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الأولين والآخرين. أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاعٌ، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة، والمسألة منقولةٌ في كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، مثل السرخسي (2)، ومثل الشيخ أبي حامد وأبي الطيب وأبي إسحاق (3) وغيرهم، ومثل القاضي أبي يعلى (4) وأبي الخطاب (5) وابن الزاغوني وغيرهم، ومثل القاضي عبد الوهاب وغيره. وكذلك أكثر المتكلمين من المعتزلة والأشعرية مثل أبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك وغيرهما. وإنما نازعَ في ذلك طائفةٌ كابن الباقلَّاني، وتبعَه مثلُ أبي المعالي والغزالي وابن عقيل وابن الجوزي ونحوهم (6).
_________
(1) أخرجه البخاري (5109، 5110) ومسلم (1408).
(2) في أصوله 1/ 321.
(3) انظر شرح اللمع 2/ 303.
(4) في العدة 3/ 889.
(5) في التمهيد 3/ 36.
(6) انظر فتح المغيث 1/ 59 وتدريب الراوي 1/ 143.

(الكتاب/43)


وقد ذكر أبو عمرو بن الصلاح (1) القولَ الأول وصححه، ولكنه لم يعرف مذاهبَ الناس فيه ليتقوى بها، وإنما قاله بموجب الحجة. وظنَّ من اعترضَ عليه من المشايخ (2) الذين فيهم علمٌ ودين وليس لهم بهذا الباب خبرةٌ تامةٌ، لكنهم يرجعون إلى ما يجدونه في مختصر أبي عمرو بن الحاجب ونحوه من مختصر أبي الحسن الآمدي والمحصَّل ونحوهِ من كلام أبي عبد الله الرازي وأمثالِه، ظنُّوا أن الذي قاله الشيخ أبو عمرو في جمهور أحاديث الصحيحين قولٌ انفردَ به عن الجمهور، وليس كذلك، بل عامَّةُ أئمة الفقهاء وكثيرٌ من المتكلمين أو أكثرُهم وجميعُ علماء أهلِ الحديث على ما ذكره الشيخ أبو عمرو. وليس كلُّ من وجدَ العلم قدرَ على التعبير عنه والاحتجاج له، فالعلمُ شيءٌ، وبيانه شيء آخر، والمناظرةُ عنه وإقامةُ دليله شيء ثالث، والجواب عن حجة مخالفِه شيء رابعٌ.
والحجة على قول الجمهور أن تلقي الأمة للخبر تصديقًا وعملًا إجماعٌ منهم، والأمة لا تجتمع على ضلالة (3)، كما لو اجتمعتْ على عمومٍ أو أمرٍ أو مطلقٍ أو اسم حقيقةٍ أو على موجب قياس، بل كما لو اجتمعتْ على تركِ ظاهرٍ من القول، فإنها لا تجتمع على خطأ، وإن كان ذلك لو جرَّدَ الواحدُ إليه نظره لم يأمن على الخطأ، فإن العصمة ثبتتْ بالهيئة الاجتماعية، كما أن خبر التواتر كلٌّ من المخبرين يُجوِّز العقلُ
_________
(1) في علوم الحديث 24.
(2) منهم النووي في الإرشاد 1/ 133، والعز بن عبد السلام كما في التقييد والإيضاح 28 والنكت لابن حجر 1/ 371.
(3) كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي (2167) عن ابن عمر، وله شواهد يرتقي بها إلى الصحة.

(الكتاب/44)


عليه أن يكون كاذبًا أو مخطئًا، ولا يجوز ذلك إذا تواتر، فالأمة في روايتها ورأيها ورؤياها أيضًا. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إني أرى رؤياكم قد تواطأتْ على أنها في العشر الأواخر، فمن كان منكم متحرِّيَهَا فليتحرَّها في السبع الأواخر” (1). فجعل تواطؤَ (2) الرؤيا دليلًا على صحتها.
والواحد في الرواة قد يجوز عليه الغلط، وكذلك الواحد في رأيه وفي رؤياه وكشفه، فإن المفردات في هذا الباب تكون ظنونًا بشروطها، فإذا قويتْ تكون علومًا، وإذا ضَعُفتْ تكون أوهامًا وخيالاتٍ فاسدة.
وأيضًا فلا يجوز أن تكون في نفس الأمر كذبًا على الله ورسولِه، وليس في الأمة من يُنكِره، إذ هو خلاف ما وصفه الله.
فإن قيل: أما الجزم بصدقه فلا يمكن منهم إلا مجازفةً، وأما العمل به فهو الواجب عليهمُ [و] إن لم يكن صحيحًا في الباطن. وهذا سؤال ابن الباقلاني.
قلنا: أما الجزم بصدقه فلِجَزْمِهم بالأحكام التي يستندون فيها إلى ظاهرٍ أو قياسٍ، كجزمهم بمعاني الآيات والأخبار، وذلك أنه قد يَحتفُّ به عندهم من القرائن ما يُوجب العلمَ، إذ القرائن المجردة قد تُفيد العلم بمضمونها، فكيف إذا احتفَّ بالخبر. والمنازعُ بنى هذا على أصلِه الواهي أن العلم بمخبر الأخبار لا يحصل إلّا من جهة العدد، فلزِمَه أن يقول: ما دونَ العددِ لا يُفيد أصلًا. وهذا غلطٌ خالفَه فيه حُذَّاقُ أتباعِه.
وأما العمل به فنقول: لو جاز أن يكون في الباطن كذبًا، وقد وجبَ
_________
(1) أخرجه البخاري (1158، 2015، 6991) ومسلم (1165) عن عبد الله بن عمر.
(2) في الأصل: “تواطي”.

(الكتاب/45)


عليهم العمل بما هو كذب، فهذا هو الخطأ، ولا معنى لإجماع الأمة على خطأ إلا ذلك، فإن المجوِّز لذلك لا يقول: إنهم عاصون أو فُسَّاقٌ بالخطأ.
وإن بنى ذلك على أصلِه الفاسد من أن الإثم والخطأ متلازمانِ فقد سَدَّ على نفسِه بابَ كونِ الإجماع حجةً، فإن المنازع يقول: أنا أجوِّزُ عليهم الخطأ بلا إثمٍ، فإن كنتَ تقول: إن ما لا إثمَ فيه لا خطأ فيه، كان قولُ أهلِ الإجماع عندك مثلَ قولِ الواحد من المجتهدين، إذ ليس عندك لا خطأً ولا إثمًا، وليس مثلُ هذا القول حجةً على منازعِه بلا ريب، فيلزم أن لا يكون قولُ أهل الإجماع حجةً، بل هو كقولِ الواحد من المجتهدين، وليس هذا مذهبه، وإن لزمَ تناقضُه. والمقصود هنا الاحتجاج بالقواعد المقررة، وإلّا قررنا كون الإجماع حجة.
وأيضًا فالإجماع … (1) وإذا كان [تلقِّي] الأمةِ له بالقبول يدلُّ على أنه صدق، لأنه إجماع منهم على أنه صدقٌ مقبولٌ، فإجماع السلف والصحابة على ذلك كانَ كإجماعهم على الأحكام أو معاني الآيات، بل لا يُمكن أحدًا أن يدَّعي إجماع الأمة إلّا فيما أجمع عليه سلفُها، وأما بعد ذلك فقد انتشرتْ انتشارًا لا يضبط معه أقوال جميعها.

واعلم أن جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب، كما ذكر أبو عمرو بن الصلاح ومن قبله من العلماء، كالحافظ أبي طاهر السِّلَفي وغيره.
وأما إن تلقَّاهُ أهلُ الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق دون من لا
_________
(1) في الهامش: “هنا بياض في الأصل الذي نُقل منه هذا”.

(الكتاب/46)


يَعرِفُ الحديثَ من المتكلمة ونحوهم، فهو كذلك يكون إجماعُهم على ذلك حجةً قطعية، لأن الاعتبار في الإجماع على كل أمرٍ من أمورِ الدين بأهل العلم به دونَ غيرهم. فكما لا يُعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلّا العلماءُ بها وبطُرقها، وهم الفقهاء في الأحكام دون النحاة والأطباء، فكذلك لا يُعتدُّ في الإجماع على صدقِ الحديث وعدم صدقه إلّا بأهل العلم بطُرقِ ذلك، وهم علماء الحديث العالمون بأحوال رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، الضابطون لأقوالِه وأفعالِه، العالمون بأحوال حَمَلة (1) الأخبار، فإن علمهم بحالِ المُخبِر والمُخبَر عنه مما يعلمون به صدق الأخبار، كما أن العَلَم المتفقَ على صدقه والفقيه والمتكلم والصوفي بالنسبة إلى علماء الحديث كالمحدث والمتكلم بالنسبة إلى الفقيه، والجمهور على أن هؤلاء لا يُعتدُّ بخلافهم، وقد قيل: إنه يُعتدُّ بخلافهم. فهكذا إذا خالف أهلَ الحديث متكلمٌ أو فقيه.
وهذا في خبر الواحد المختص بالذي لم يتواتر لا لفظُه ولا معناه، وقد علمتَ أن التواتر لا يشترط فيه عددٌ معيَّنٌ على القول الصحيح، فيتصل بعض هذا القسم بالقسم الأول إذا كان ما رواه الواحد والاثنان قد يحصل به العلم، فيكون متواترًا باعتبار صفاتهم وغيرها من القرائن والضمائر، وكثير من الناس لا يسميه متواترًا، بل يجعل ما رواه الأربعة من أخبار الآحاد مطلقًا، ويتوقف فيما رواه الخمسة، كما يقوله القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلى في بعض كتبه. وللناس في العدد أقوال كثيرة: سبعة، واثنا عشر، وأربعون، وثلاثمئة وبضعة عشر، وغير ذلك مما حكيت، ولا أعلم بها قائلًا معينًا ولا حجةً تُذكَر.
_________
(1) في الأصل: “جملة” تصحيف.

(الكتاب/47)


والقسم الثالث: خبر الواحد العدل الضابط الذي يجب قبوله والعمل به على المسلمين، ليس كل خبر من كلِّ عدلٍ ضابطٍ، بل الخبر الذي أوجبتِ الشريعةُ تصديقَ مثلِه والعمل به، فهذا في إفادة العلم به قولانِ هما روايتان [عن أحمد]:
إحداهما: أنه يُفيد العلم أيضًا، وهو إحدى الروايتين عن مالك، وقولُ الحارث المحاسبي وغيره، وقول محمد بن خويز منداد، وقول طوائف من أهل الحديث وأهل الظاهر، وطائفة من أصحاب أحمد.
والثانية: لا يُوجب العلم ولا يُحلَف على مضمونه، وهذا قول جمهور أهل الكلام وأكثر متأخري الفقهاء وطوائف من أهل الحديث، لأن ذلك العدل يجوز عليه الكذبُ عمدًا أو خطأً، والعمد قد يُعلم انتفاؤه، لكن الخطأ لا يُعلم انتفاؤه، فإن الإنسانَ قد يُخطئ سمعُه، وقد يُخطئ فهمُه لما سمعه، وقد يُخطِئُ ضبطُه له وحفظُه، وقد يُخطئ لسانُه في تبليغه. فمع هذه التجويزات لا يُقطَع بعدمها.
وللأولين حججٌ ليس هذا موضعَ استقصائها، إذ هم لا يجعلون حصول العلم بهذا من جهة العادة المطردة في حق الكفار وغيرهم، كما يقوله المتكلمون في التواتر الذي يحصل العلم فيه بخبر الكفار والفساق، وإنما يقولون: هذا من باب حِفْظِ الله تعالى للذكر الذي بَعَثَ به رسولَه وعصمته لحجته أن يُوجب على الأمة اتباع ما يكون باطلًا، إذ لو جاز ذلك ولم يبقَ بعد محمدٍ نبيٌّ يُبيِّن الخطأ لم تَقُمْ حجةُ الله على أهل الأرض في ذلك، ولكان قد أوجب الله على الناس أن يقولوا على ما هو في نفس الأمر كذبًا، ويقولون: متى كان المحدث قد كذب أو غلط فلا بدَّ أن يَنْصِبَ الله حجةً يبيِّن بها ذلك، كما قال بعض

(الكتاب/48)


السلف (1): لو هَمَّ رجلٌ في السَّحَر أن يكذبَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأصبحَ [و] الناس يقولون: هذا كذّاب.
وفي ذلك من البسط ما لا يختص بهذا المكان، ولا يقف غرضُنا عليه، فإن عامة الأحاديث التي يُحتجُّ بها في موارد النزاع لا يخرج عن القسم الأول أو الثاني. وأحاديث الأصول الكبار التي بها يميز أهل السنة والجماعة هي من القسم الأول المتواتر لفظًا ومعنًى، وفي لفظها يخالف الخوارج والروافض والجهمية والقدرية من المعتزلة ونحوهم.

فصل

الطريق الثالث: أن يتكلم في الحديث الذي انتفَتْ أسباب العلم بصدقِه من كل وجه، وهذا قد يكون عند شخصٍ وطائفةٍ دونَ شخصٍ وطائفةٍ، فكثير من الأحاديث المعلوم صدقُها عند علماءِ الحديث هي عند غيرِهم غير معلومة الصدق، بل يُظَنُّ بها الصدقُ، كما ذكره المعترض وذووه (2).
فنقول على هذا التقدير: علينا أن نَقدِر الحديث قدرَه، فإذا غلبَ على الظنّ صدقُه اعتقدنا اعتقادًا راجحًا مضمونه، ولم نَجزِمْ به جَزْمَنا بالمتيقِّنِ صدقُه، كما نقول في أدلة الأحكام الظواهر والأقيسة. وخبر الواحد المجرد إذا لم يُفِدْنا إلّا غلبةَ الظنِّ اعتقدنا غلبةَ الظنِّ بها، وهذا هو الواجب، بل هذا في الأمور الخبرية أجود، لأنه لا يترتب على ذلك فسادٌ ولا مضرَّةٌ، إذ كنا لا نُوجب به عملًا ولا نُحرِّمُه، وإنما نظنُّ
_________
(1) هو عبد الله بن المبارك كما أخرج عنه ابن الجوزي في الموضوعات 1/ 39.
(2) في الأصل: “وذويه”.

(الكتاب/49)


مضمونها.
ولهذا جوَّز العلماءُ أن تُروى الأحاديثُ في الوعد والوعيد إذا كانت ضعيفة، ولم يُعلَم صدقُها ولا كذبُها، ولا يثبتُ بها استحبابٌ، لكن يثبتُ بها ظنٌّ يُحرِّك القلبَ على فعلِ الخيراتِ أو تركِ المنكرات. فإن كان هذا فيما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر، فكذلك فيما يتعلق بالإيمان بالله، إذا رُوِيَ خبرٌ في عظمةِ الله وبعض شؤونِه التي لم يُعلَم بهذا الخبر انتفاؤها ولا ثبوتُها، والخبر مما يَغلب على الظنّ صدقُه، اعتقدنا بموجبه، وظننَّا ذلك ظنًّا غالبًا، فإن كان صادقًا في نفسِ الأمر وإلّا فعظمةُ الله أكبرُ. كما أن حديث الوعد والوعيد الذي لم يُعلَم انتفاءُ مضمونِه، إن كان صادقًا وإلّا فثواب الله أعمُّ مما علمناه مفصَّلًا، إذ فيه ما لم يَخطُرْ على قلبِ بشر، فهذا هذا.
وهذا مما اتفق عليه سلفُ الأمة وأئمةُ الإسلام أن الخبر الصحيح مقبولٌ مصدَّقٌ به في جميع أبواب العلم، لا يُفرَّق بين المسائل العلمية والخبرية، ولا يُردُّ الخبرُ في بابٍ من الأبواب سواءً كانت أصولًا أو فروعًا بكونِه خبرَ واحدٍ، فإن هذا من محدثات أهل البدع المخالفة للسنة والجماعة.
فإن قيل: هذا بشرط أن لا يُعلَم بالعقل ولا بالشرع انتفاءُ مضمونِه.
قلنا: نعم، لا بدَّ من هذا الشرط، وإلّا فما قطَعْنا باستحالة مضمونه يستحيل أن يغلب على ظننا صدقُه، فإن هذا جمعٌ بين النقيضين. لكن دعوى المعترض قيامَ الأدلة العقلية القطعية على انتفاء مضمون الآيات والأخبار هو السؤال الآخر، فلهذا أخَّرنا الجواب إلى هناك. والواقع أنه ليس في الأخبار الصحيحة التي لا مُعارِضَ لها من جنسها ما يخالف

(الكتاب/50)


القرآنَ ولا العقلَ كما سنبيِّنُ ذلك.
فإن قيل: من الناس من يقول: هذه المسائل العلمية التي أُمِرنا أن نقول فيها بالعلم متى لم يكن الدليل عليها علميًّا قطعنا ببطلانِه، فلهذا يجب ردُّ كلِّ خبرٍ أو دليلٍ لا يُفيد علمًا في باب الخبر عن صفات الله، ومنهم من يطردُ ذلك في صفات المخلوقات كالأرضين والسماوات.
قلنا: لا ريبَ أن هذا الكلام قد يُطلِقُه كثيرٌ من أهل النظر، كالقاضي أبي بكر وابن عقيل والمازري ونحوهم، وقد أطلقه قبلهم كثيرٌ من متكلمة المعتزلة وغيرِهم، وقد أنكر ذلك عليهم كثيرٌ من أرباب النظر وقالوا: العلمُ بالعدم غيرُ عدمِ العلم، وعدمُ الدليل غيرُ دليل العدم، وهذا قول أكثر الفقهاء وأهل الحديث وأهل الكلام.
وفصلُ الخطاب أن نقول: لا يخلو إما أن يكون الموضع ممَّا أوجبَ الله علينا فيه العلمَ، أو أوجبتْ مشيئتُه وسنّتُه فيه العلمَ، وإما أن لا يكون مما يجب فيه العلمُ لا شرعًا ولا كونًا.
فإن كان الأول مثل ما أوجبَ الله علينا أن نعلم أن لا إله إلا هو، وأن الله شديد العقاب، وأن الله غفور رحيم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علمًا، فلا بُدَّ أن يَنصِبَ سببًا يُفيد هذا العلم، لئلا يكون موجبًا علينا ما لا نقدِرُ على تحصيله، وأن لا يكلِّفنا ما لا نُطيقه له إذا أردنا تحصيلَه. ففي مثل هذا إذا لم يكن الدليل موجبًا للعلم لم يكن صحيحًا. وكذلك ما اقتضَتْ مشيئتُه وسنتُه العلمَ به، مثل الأمور التي جرتْ سنتُه بتوفّر الهِمَم والدواعي على نَقْلها نقلًا شائعًا، فإذا لم يُنقَل فيُعلم انتفاؤها وكذِبُ الواحد المنفردِ بها.
وأما ما لم يجب فيه العلمُ لا وجوبًا دينيًّا ولا وجوبًا كونيًّا فلا يُعلَم

(الكتاب/51)


بطلانُ ما أفادَ فيه غلبة الظن، فإن اليقيَن له أسبابٌ، وللظن الغالب أسبابٌ، والتكذيبُ بما لم يُعلَم أنه كذبٌ مثل التصديق بما لا يُعلم أنه صدق، والنفيُ بلا علم بالنفي مثلُ الإثباتِ بلا علمٍ بالإثبات، وكلٌّ من هذين قولٌ بلا علمٍ. ومن نَفَى مضمونَ خبرٍ لم يُعلَم أنه كذبٌ فهو مثلُ من أثبتَ مضمونَ خبرٍ لم يُعلم أنه صدقٌ، والواجب على الإنسان فيما لم يقم فيه دليلُ أحدِ الطرفين أن يُسَرِّحَه إلى بقعة الإمكان الذهني، إلى أن يحصل فيه مرجِّحٌ أو مُوجِب، وإلّا يكون قد سكتَ عما لم يعلم، فهو نصف العلم. فرحمَ الله امرأً تكلَّم فغَنِمَ أو سكتَ فسَلِمَ (1)، ومن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمُتْ (2)، وإذا أخطأ العالم لا أدري أُصِيبتْ مقاتلُه (3).
وإذا كان كذلك فنحن لم يجب علينا قطُّ أن نعلم جميع ما لله من معاني أسمائه، ولا أن نعلم جميع صفاتِه، ولا أن نعلم صفاتِ مخلوقاتِه، ولا مقاديرَ وعدِه ووعيدِه وصفات ذلك، ولا إحدى سُنَنِه، فإن سبب العلم بذلك [قد لا] يكون مشهورًا، ولا قام دليلٌ على نفي ما نعلمه من ذلك، فإذا جاءنا خبرٌ يغلِبُ على الظنّ صدقُه صدَّقناه في غالب الظن، وإن غلبَ على الظنّ كذِبُه كذَّبناه، وإن لم يُعلم واحدٌ منهما توقَّفنا فيه.
ويجوز لنا أن نرويه إذا لم نعلم أنه كذبٌ، لكن متى علمنا أنه كذِبٌ
_________
(1) كما في الحديث الذي أخرجه البيهقي في “شعب الإيمان” (4938) عن أنس بن مالك.
(2) أخرجه البخاري (6136، 6138) ومسلم (47) عن أبي هريرة.
(3) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 2/ 54 من قول ابن عباس وابن عجلان.

(الكتاب/52)


لم يَجُزْ روايتُه إلّا مع البيان، لقوله صلى الله عليه وسلم: “من حدَّثَ عنّي بحديثٍ وهو يعلم أنه كذِبٌ فهو أحدُ الكاذبين”، وهو في صحيح مسلم (1).
وأما من قال من ظاهري أهل العلم: إنّ ما لم يَقُم على ثبوتِه من الصفاتِ دليلٌ فإنه يجب نفيُه = فإنه مبنيٌّ على هذا الأصل المتقدم، وقد بيّنا حكمَه.
وأما قولهم: هذا من المسائل العلمية، فلا نتكلم فيها بالظن = فهذا لفظٌ مشتركٌ، قد يُراد بالعلمية ما ليس تحتَها عملٌ، كما يقول بعضهم: العلوم النظرية والمسائل الخبرية والاعتقادية، وإذا كان المراد بها ذلك لم يجب أن يكون مقطوعًا بها. وقد يُرادُ بالعلمية ما العلمُ فيها واجبٌ أو واقعٌ، وهو ما يُرَدُّ فيها ما لم يُفِد العلم، ولهذا فصَّلنا ذلك إلى نوعين، والله أعلم.
_________
(1) أول حديث في مقدمته عن سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة مرفوعًا.

(الكتاب/53)


فصل
وأما السؤال الثاني – وهو قوله: ليست الأحاديث نصوصًا في ذلك، بل هي ظاهرةٌ قابلةٌ للتأويل – فهذا كلامٌ مجملٌ نُقابِلُه بجوابٍ مجملٍ، وهو أن نقول: كلُّ موضعٍ قطعنا بمضمونِه فالنصوص فيه قطعية، وما [لم] نَقطَعْ بمضمونه فقد تكون الدلالة فيه ظاهرةً وقد تكون قطعية، وما لم يتبيَّن لنا كونُها قطعيةً يكون الدليلُ في نفسِه موجبًا للقطع والاعتقادِ الراجح غير حصولِ العلم، وذلك أن الأدلة هي في نفسها على صفاتٍ تُفيدُ العلمَ باتفاقِ الناس، وأما إفادتُها فهل هو لصفاتٍ هي عليها أم بحسب الاتفاق؟ الجمهورُ على القول الآخر، وأما المؤثِّمةُ للمخطئ والمعتقدون أنّ من لا إثمَ عليه لم يُخطئْ – كابن الباقلاني ونحوه – فيقولون: ليس في الظنون تفاوتٌ ولا عليها أماراتٌ تقتضيها. وهذا غلطٌ عند جمهور الناس، بل للظنِّ أسبابٌ كما للعلم أسبابٌ.
وإذا كانت الأدلةُ هي في نفسها على صفاتٍ تقتضي ذلك فإن ذلك يختلف أيضًا باختلافِ قُوى الإدراك وباختلاف كمالِ النظر، فالحادُّ الذهنِ الصبورُ على استيفاءِ النظرِ يَحصُلُ له من العلم والظنّ بأنواع من الأدلة والأمارات ما لا يحصلُ لمن [لم] يَقْوَ قُوَّتَه ولم يَصبِرْ صَبْرَهُ. وما لم يكن قطعيًّا بل دلالتُه ظاهرة، ليس للإنسان أن يصرفَه عن ظاهرِه إلّا مع وجود المقتضِي لذلك، السالم عن المعارضِ المقاوِم، فالمقتضي مُثل قيامِ دليلٍ يبيِّن لنا مرادَ المتكلم من الأدلة الشرعية ونحوها، كالعامّ الذي بَيَّنَ معناه الخاص.
وكذلك لو فرضنا وجودَ دليل عقليّ قطعيّ يُعارِض ظاهر الأدلة الشرعية التي ليست قطعية لوجبَ تقديم القطعي على الظنّي، ولجزمْنا

(الكتاب/54)


بأن الرسول لم يُرِد بكلامه ما يَعلَمُ مثلُنا وأمثالُنا انتفاءَه، وعقولُنا أقلُّ من أن يقال: هي دون عقلِه.
بل لو حكى أحدٌ مسألةً في الطب أو النحو مما يُعلَم أن أبقراط وسيبويه لا يقولانها لبادرنا إلى التكذيب، مثل أن يحكي حاكٍ عن أبقراط أنه قال: طبائع الأجسام الأرضية خمسة، والبلغم أحسن من المِرَّة الصفراء، أو الدم أيبَسُ منها، أو هي أبردُ من المرة السوداء، فإنا نعلم أن أبقراط ونحوه لا يقولون هذا، فإما أن الناقلَ قد كذبَ عمدًا أو خطأً، أو يكون للعبارة معنًى غير الظاهر الباطل الذي لا يقوله ذلك الفاضل.
وكذلك لو نقل عن سيبويه أن الفاعل منصوبٌ، والمصدر مجرور، وخبر كان مرفوع، وخبر المبتدأ مجرور، ونحو هذا، لعلمنا أن هذا كذِبٌ على سيبويه عمدًا أو خطأً، أو يكون للعبارة معنًى يليق به أن يقوله. وكذلك لو نقلَ عن الأئمة أمورًا تنافي ما علمناه من أحوالهم علمنا أنه مكذوبٌ أو مصروفٌ.
فمن نقلَ عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ربه: “إنه خلَق نفسَه من عَرقِ الخيل” (1)، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان موجودًا بعينه نبيًّا قبلَ أن يُنبِّئَه الله، أو أن يُعطى من دعا بهذا الدعاء مِثلَ ثواب الأنبياء ونحو ذلك = علمنا أنه يكذِبُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. والكذبُ عليه كثير، قد صنَّف العلماء في بيان الأحاديث الموضوعة مصنَّفاتٍ، وميَّزوا الصدقَ من الكذب تمييزًا معلومًا عن أهلِه.
_________
(1) وضعه محمد بن شجاع الثلجي بإسناده إلى أبي هريرة مرفوعًا، كما ذكره ابن عدي في الكامل 6/ 291 والبيهقي في الأسماء والصفات 372.

(الكتاب/55)


ولكن هل في القرآن أو الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ظاهره ممتنع في العقل، ولم يتبيَّنْ ذلك بالأدلة الشرعية = هذا لا يُعلَم أنه واقعٌ أصلًا. فمن قال: إن هذا واقعٌ فليذكُرْه، فإنّا رأينا الذي يُدَّعّى فيه ذلك: إمّا أن يكون الحديث فيه موضوعًا، أو الدلالة فيه ليست ظاهرةً، أو أن ظاهرها الذي لم يُرَدْ قد بُيِّنَ بأدلة الشرع انتفاؤه. فإذا كان النصُّ ثابتًا والدلالةُ ظاهرةً وليس في بيانِ الله ورسولِه ودلالِته ما يُبيِّنُ انتفاءها ومرادَه بها، فإنا وجدنا ما يذكرونه من المعقول له هو في نفسه معارَضٌ بمعقولٍ أقوى منه، ووجدناه من المجهول لا من المعقول، بل وجدنا المعقول الصريح يدلُّ على بطلان المعارض للمنقول الصحيح. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب/ 4].
وهذه جملة يُبيِّنها التفصيلُ، إذ السؤال أيضًا مجملٌ، وقد فصَّلنا الجوابَ أكثر من تفصيل السؤال، وهذا يظهر بذكرِ فصلٍ جليلِ القدر عظيمٍ في تصديقِ المرسلين ورعاية حق المؤمنين.
وذلك أنه ما زال في الأمة قديمًا وحديثًا من يَظهرُ له من آيةٍ أو حديثٍ معنًى، ويَعتقد أن ذلك المعنى باطلٌ، إما لمعارضته لما يرى أنه علمه، أو لمجرد عقله للأمور الموجودة، أو لما يرى أنه علمه لما عقله من كتاب الله، فيحتاج عند ذلك إمّا إلى ردّ الخبر، وإما إلى تأويله وردّه بأن يقول: غلِطَ سمْعُ الراوي، أو لم يَفهم معناه، أو لم يحفظْ ما فهمه، أو أنه تعمد الكذب، فإن الخبر لا يأتيه البطلان إلّا من تعمد المخبر أو خطئه، وخطؤه إما في نفس ما سمعه من اللفظ، فقد يَغلَطُ السمعُ، وقد يسمع البعضَ دون البعض، وإما أنه لم يفهم المعنى ورواه بالمعنى الذي فهمه بلفظٍ آخر، أو باللفظ الأول مع قرائن تفيد غير المعنى الأول، أو

(الكتاب/56)


كان مع اللفظ الأول قرائن تركها، بحيث يكون اللفظ مشتركًا، والمتكلم أرادَ به معنى مع قرائنَ، والراوي فهمَ معنى آخر، وأخبرَ به مع قرائن تفيد ذلك المعنى، فالجمع بين المتفرق في الدلالة والفرق بين المجتمع فيها قد يُحيل المعنى.
ولهذا قال العلماء كأحمد وغيره في حديث الطويل إذا أراد الرجلُ أن يُفرّقَه ويروي بعضه، قالوا: لا يفعل ذلك فيما يرتبط المذكور منه بالمتروك ارتباطًا يُحِيل المعنى تفريقُه، وذلك أن المستمع للكلام لا يروي مجرَّد صوتٍ غير معلوم المعنى، بل يروي لفظًا له معنى، فإذا ضبط اللفظ الدالَّ على المعنى فقد يحفظ ذلك وقد ينساه، فلا تأتيه الآفةُ إلا من الغلط في العلم أولًا، أو من زوالِ العلم بعد حصولِه بالنسيان، وإلّا فمتى عَلِمَ ما سمع وحفِظَه لم يبقَ فيه إلّا أن يتعمد الكذب، فالذين يَروُون الخبر على اشتمال أمرٍ باطل تارةً يردُّونه ولا يقبلون أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وتارةً يُفسِّرونه ويتأوَّلونه بأمورٍ أخرى وإن خالف الظاهر.
فهذا القدر قد وقع من بعض الصحابة في مواضع، ومن التابعين أكثر، وكلَّما تأخر الزَّمانُ كان وقوعُه أكثر، لكن إذا تأمل العالم ما وقع من الصحابة والتابعين وجدَ الصواب والحق كان في الخبر الصحيح، وأن الذي غلَّط راويَه برأيه كان هو الغالط، وإن كان عظيمَ القدر مغفورًا غلطُه مثابًا على اجتهاده. فإذا كان هذا حال أكابر الصحابة والتابعين فكيف بمن يردُّ الأخبار بالتكذيب والتحريف من المتأخرين، أحسنُ أحوالِ المؤمن العالم منهم أن يكون هو الغالط في تغليطه لما رواه الثقات الأثباتُ عن ربّ السموات، ويكون هذا الغلطُ مغفورًا له لاجتهادِه، ويكون مُثابًا على ما فعله من حسن نيته وقصدِه وعلمه

(الكتاب/57)


وسعيه، أما أن يُرجَّح رأيه وتأويله على مقتضى النصوص فهذا ظلمٌ محرمٌ، وفيه ردُّ ما جاء به الرسولُ لأجل رأي غيره وتأويله.
ولهذا قال الإمام أحمد: أكثر ما يُخطئ الناس من جهة التأويل والقياس (1). ولقد أحسنَ رضي الله عنه بهذه الكلمة الجامعة النافعة، فإني تدبَّرتُ عامَّةَ من ردَّ حديثًا صحيحًا بغير حديثٍ صحيحٍ يكون ناسخًا له برفع أو تفسيرًا أو مبينًا غلطَ راويهِ، فلم أجد الغلط إلّا من الرادِّ وإن كان قد تأوَّلَ لردِّه ظاهرَ القرآن، ويكون غلطُه من أحدِ وجهين: إما لأنه اعتقد ظاهرَ الحديث ما ليس ظاهره ثم ردَّه، ولا يكون ظاهر الحديث هو المعنى المردود. أو لأن ظاهره الذي اعتقده الظاهرَ حقٌّ، والدليل الذي يُعارِضُه ليست معارضتُه له حقًّا.
وهذا – والله أعلمُ – من حفظِ الله لما بعثَ به نبيَّه من الحكمة التي هي سنته، فإنها من الذكر الذي أمر الله بذكره، حيث قال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب/ 34]، وقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر/ 9]. وسنته التي هي الحكمة منزَّلةٌ بنصّ القرآن، فإن كانت داخلةً في نفس الذكر كما تقدم، وإلّا كانت في معناه، فيكون حفظُها بما حفظ به الذكر. ولهذا يوجد من الآيات الخارقة للعادة في حفظ السنة ما يؤكِّد ذلك، كما أن الله تعالى حفظ القرآنَ حفظًا خرقَ به عادةَ حفظِ الكتب السالفة، وكما أن الله تعالى جعلَ إجماعَ هذه الأمة حجةً معصومةً، وذلك أنه لا نبيَّ بعد محمدٍ حتى يبيّن ما غُيِّر من دينه، وإنما العلماء الذين هم ورثةُ الأنبياء
_________
(1) ذكره المؤلف في قاعدة في الاستحسان 74 ومجموع الفتاوى 7/ 392 وبيَّن المراد منه.

(الكتاب/58)


الذين يحفظ الله بهم حُجَجه وبيناته.
ولهذا كان طائفة من علماء الأمة وفقهائها الكبار يتحدثون دائمًا أنه مَن قَدَر أن يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديثين صحيحين متعارضينِ فليأتِنا (1)، ولن يجد أحد إلى ذلك سبيلًا. وهذا القدر عامٌّ في الأحاديث الخبرية المتعلقة بالعقائد والأصول الخبرية، وفي الأحاديث العملية المتعلقة بالأعمال أصولها وفروعها، لا يُستثنَى من ذلك نوعٌ واحدٌ كما يفعلُ طوائف من أهل الكلام الذين سلك المعترضُ سبيلهم.
وأنا أذكر أمثلةً وقعتْ في زمن الصحابة لتكون عبرةً لما سواها، ويستفيد الإنسانُ بها إقرارَ الأحاديث الثابتة عند علماء الحديث، ويُوسع الاعتذارَ والاستغفارَ لمن تأوَّل واجتهدَ في طلب الحق وإن أخطأَه، بل يُعطِي حقَّه من المحبة والموالاة والتعظيم بحسب حسناتِه وإيمانِه.
فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الميتَ يُعذَّب ببكاءِ أهلِه عليه، ومن نِيْحَ عليه يُعذَّبُ بما نِيْحَ عليه”. وهذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عمر وابن عمر والمغيرة بن شعبة وخلق غير ذلك (2)، فطائفةٌ من السلف والخلف ردَّتْه، وطائفةٌ تأوَّلَتْه على غيرِ تأويلِه، وطائفةٌ أقرَّتْه على المعنى الذي أحالَهُ أولئك الذي هو ظاهره. وأسعدُ الناسِ به من فهمَ ظاهره وأقرَّهُ، ثم سكتَ عن الأمرين. وأكثر ما دخل الأمر من جهةِ اعتقادِ فهمِ ظاهرِه، فإنهم اعتقدوا أن الله تعالى يُعاقِب الميتَ على ذنب الحيّ، وظنُّوا أن العذاب لا يكون إلّا عقابًا، ثم رأوا أن الله لا يُعاقِب الإنسانَ بعملِ غيرِه، لأن ذلك
_________
(1) من ذلك ما أخرجه الخطيب البغدادي في الكفاية ص 432 عن الإمام ابن خزيمة.
(2) سيأتي سياق أحاديثهم وتخريجها.

(الكتاب/59)


مع منافاتِه العدلَ عندهم فهو مخالفٌ لقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام/ 164، فاطر/ 18]. ثم تنوَّعوا ما بين ردّ وتأويلٍ، فردَّتْه طائفة منهم عائشة وابن عباس والشافعي في “مختلف الحديث” (1) وغيرهم، وقالت عائشة: إنكم لتُحدِّثونا عن غير كاذبين، ولكنّ السمع قد يُخطئ. وأقسمتْ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك، ثم روت حديثين وأحدهما معناه يوافق معنَى ذلك الحديث. ولهذا قال الشافعي في “مختلف الحديث” لما قال: ما قالتْه عائشةُ أشبهُ بكتابِ الله، لكن روايتها الأخرى هي الصحيحة.
قلت: فأما الحديث الأول ففي الصحيحين (2) عن ابن أبي مليكة قال: توفّيتْ لعثمانَ ابنةٌ بمكةَ، وجئنا لنشهدَها، وحضَرها ابن عمر وابن عباس، وإني لجالسٌ بينهما، أو قال: جلستُ إلى أحدهما، ثم جاءَ الآخر فجلسَ إلى جنبي، فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الميت يُعذَّب ببكاء أهلِه”. فقال ابن عباس: كان عمر يقول بعضَ ذلك، ثم حدَّثَ قال: صَدرتُ مع عمر من مكة حتى إذا كنّا بالبيداءِ إذا هو برَكْبٍ تحت ظلِّ سَمُرةٍ، فقال: اذهبْ فانظر من هؤلاء الركبُ، قال: فنظرتُ فإذا صُهيبٌ، فأخبرتُه، فقال: ادْعُه لي، فرجعتُ إلى صهيبٍ فقلت: ارْتحِلْ فالْحَقْ أميرَ المؤمنين. فلما أصيبَ عمرُ دخل صُهَيبٌ يبكي يقول: وا أخاه وا صاحباه! فقال عمر: يا صهيبُ أتبكي عليَّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الميت يُعذَّب ببعضِ بكاءِ أهلِه عليه”؟! قال ابن عباس: فلما مات عمرُ ذكرتُ ذلك لعائشة،
_________
(1) ص 649.
(2) البخاري (1286 – 1288) ومسلم (928، 927، 929).

(الكتاب/60)


فقالت: رحِمَ الله عمرَ، والله ما حدَّثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم “إن الله ليعذِّبُ المؤمنَ ببعض بكاءِ أهلِه عليه”، وقالت: حَسْبُكم القرآن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. قال ابن عباس عند ذلكَ: والله هو أضحكَ وأبكى. قال ابن أبي مليكة: والله ما قال ابن عمر شيئًا.
والحديث الآخر الذي روتْه عائشةُ في الصحيحين (1): عن عَمرةَ أنها سمعتْ عائشةَ زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم قالتْ: إنما مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على يهوديةٍ يبكي عليها أهلُها فقال: “إنهم يبكون (2) عليها وإنها لتُعذَّب في قبرِها”.
ورواه أيضًا البخاري (3) عن أبي موسى الأشعري قال: لما أُصِيب عمرُ جعلَ صهيبٌ يقول: وا أخاه! فقال عمر: أما علمتَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الميت ليُعذَّب ببكاء الحيِّ”؟
ورواه أيضًا البخاري (4) عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الميت يُعذَّب في قبرِه بما نِيْحَ عليه”.
وقد ذكره ابن عمر في حديث آخر، إما أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الواقعة، وإما أن يكون قد قاله لعلمِه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. ففي البخاري (5) عن سعيد بن الحارث عن عبد الله بن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه
_________
(1) البخاري (1289) ومسلم (932).
(2) في الأصل: “إنكم تبكون”.
(3) رقم (1290).
(4) رقم (1292).
(5) رقم (1304).

(الكتاب/61)


فوجده في غاشيةِ أهلِه قال: “قد قَضى؟ ” قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بُكَى النبي صلى الله عليه وسلم بَكَوْه، فقال: “ألا تسمعون؟ إن الله لا يُعذِّب بدَمْع العين ولا بحُزْنِ القلب، ولكن يُعذِّب بهذا – وأشار إلى لسانه – أو يَرحَمُ، وإن الميتَ يُعذَّبُ ببكاءِ أهلِه عليه”. وكان عمر يَضرِبُ فيه بالعصا ويَرمي بالحجارة ويَحثِيْ أو يَرمي بالتراب.
وقد أخبره به أيضًا المغيرةُ سماعًا من النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين (1) عن المغيرة قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إنّ كذبًا عليَّ ليس ككذِبٍ على أحدٍ، مَن كذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار”، وسمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “مَن نِيْحَ عليه يُعذَّب بما نِيْحَ عليه”.
فهذا الحديث قَبِلَه أكابر الصحابة مثل عمر، وهو يُحدِّث به حين طُعِنَ، وقد دخل عليه المهاجرون والأنصار، وينهى صُهيبًا عن النياحة، ولا يُنكِرُ ذلك أحدٌ، وكذلك في حال إمرتِه يُعاقِبُ الحيَّ الذي يعذّب الميت بفعله. وتلقَّاه أكابرُ التابعين مثل سعيد بن المسيب وغيره، ولم يردُّوا لفظَه ولا معناه.
وأما الذين ردُّوه تغليطًا للراوي فهم الذين غَلِطُوا، يغفر الله لهم.
كيف وقد سمعه مع الفاروق المغيرةُ وغيره؟ كيف والسابقون الأولون لم يُنكِروه؟ ثم لو رواه بعض أكابر الصحابة لم يكن مردودًا لما ذكر، فإن أحد الحديثين اللذين روتْهما عائشةُ يُوافق معناه، وهو قوله: “إن الله ليزيد الكافرَ عذابًا ببكاءِ أهلِه عليه”. وأم المؤمنين هي الثقة المأمونة على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، الصديقةُ بنت الصديق، وهي من أعلم الصحابة
_________
(1) البخاري (1291) ومسلم (933).

(الكتاب/62)


وأحفظهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهي حجةٌ في ذلك. والحديث الذي رَوتْه “إن الله يزيد الكافرَ عذابًا ببكاءِ أهلِه” يدلُّ على أن الكافر الميتَ يُعذَّب ببكاءِ أهلِه عليه، فلو كان ذلك من باب حَمْلِ الوِزر أو الظلم لم يَصحَّ في حقّ كافرٍ ولا مؤمنٍ. وأما إذا رأتْ رأيًا ورأى غيرُها رأيًا فالمردُّ إلى الله ورسولِه.
وهي لم تحتجَّ إلّا بقولِه تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وهذه الآية لا تُخالف الحديثَ، فإن الميتَ لا يَحمِلُ من ذنب الحيِّ شيئًا، وهذا هو حملُ الوِزر وأن يُوضَع من ذنبِ المرء على غيرِه ليخفّف عنه، بل النائحُ يُعذَّبُ على نياحتِه، كما في الحديث الصحيح (1): “إنّ النائحة إذا لم تَتُبْ قبلَ موتِها فإنها تُلبسُ يوم القيامةِ وتُقامُ وعليها سِرْبالٌ من قَطِرَانٍ ودِرْعٌ من جَرَبٍ”.
وكذلك الاحتجاج بقوله: {هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم/ 43]، وجهُه أن الله خالقُ الضحكِ والبكاءِ، وهو كائنٌ بغير اختيار المرءِ، فلا يُعذَّبُ على فعلِ الله الذي ليس من فعلِه، كما لا يُعذَّب على تمريضِه وتمويتِه. وهذه الحجة لا تُخالف الحديثَ أيضًا، فإنّ من الضحكِ والبكاءِ ما يأمر الله به ويَنهى عنه، ولهذا قال الله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)} [النجم/ 59 – 60]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين/ 29]، فذمَّهم على ذلك. وقال: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم/ 58]، وقال: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء/ 109]، فجعل ذلك من أعمالهم الصالحة. بل الفرح والحزن قد يدخل تحت الأمر والنهي استحبابًا أو إيجابًا، كقوله:
_________
(1) مسلم (934) عن أبي مالك الأشعري.

(الكتاب/63)


{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد/ 23]. وقد ذمَّ الله الفرحَ بغير الحق، وأمرَ بالفرح بالإيمان، ونهى عن الحزن الذي يضرُّ، وذلك أصلُ الضحك والبكاء، فقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس/ 58]، وقال: {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر/ 75]، وقال: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص/ 76]، وقال: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آل عمران/ 139]، وقال: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النمل/ 70]، وقال: {وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} [يونس/ 65]. فنهى عن الحزن الذي يضر، كالحزن على الكفار المكذِّبين، والحزن إذا غُلِبَ المسلمون أو خافوا من عدوّهم والحزن من قولهم، فإنّ هذا الموطن يُؤْمَر فيه بالثبات والقوة والقيام بالواجب من التبليغ والجهاد، والحزنُ يُضعِف عن هذا الواجب، وما أفضَى إلى تركِ واجبٍ نُهِيَ عنه، وكذلك ما يَشغَلُ عن المستحبّ لم يكن حسنًا.
وأما الحزن على الميت ونحوه فيُرخَّص منه في الحزن الذي لا معصيةَ فيه وفي الدمع، كما يُستحبُّ فيه رحمةُ الميت، إذ ليس في ذلك تركُ واجبٍ ولا تعدِّي حدٍّ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا يُؤاخِذ على دَمْع العينِ ولا حُزْنِ القلب” (1)، وهذا هو الذي لا يملِكُه العبدُ، بل يكون بغير اختياره على سببٍ غيرِ محرَّم، فلهذا لم يؤاخِذ الله عليه، كما قال: “ما كان من العين والقلب فمن الله، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان” (2). فالذي يخلقه الله وليس من مقدور العبدِ عفَا عنه، وهو
_________
(1) أخرجه البخاري (1304) ومسلم (924) عن ابن عمر.
(2) أخرجه أحمد في مسنده (1/ 238، 335) عن ابن عباس.

(الكتاب/64)


الذي يجب القول به من احتجاج ابن عباس، وهو قوله: “إن الله أضحك وأبكى”، فهذا هو من الله، وأما ما كان من اليد واللسان فذلك مما يأمر به الشيطانُ فيدخل تحتَ العقاب، وإن كان الله هو خالق كلِّ شيء. ولولا هذا لم تُعذّب نائحة، والنصوص كلُّها تخالف ذلك، كما تقدم في الحديث، وكقوله صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من لَطَمَ الخدود وشقَّ الجيوبَ ودَعا بدعوى الجاهلية” (1). وقال أبو موسى: أنا بريءٌ ممن بَرِئ منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بَرِئَ من الصَّالقةِ والحالقةِ والشَّاقَّةِ (2). وكلاهما في الصحيحين.
وقال الله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة/ 12]، وهي النياحة، كما جاءت مفسَّرةً، وهي ممّا أخذه النبي صلى الله عليه وسلم على النساء في البيعة، كما في الصحيح (3) عن أم عطيةَ قالت: أخذَ علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في البيعة أن لا ننوحَ، فما وَفَتْ منا امرأةٌ غير خمسِ نسوةٍ.
ولهذا كانت النياحةُ محرمةً على القولِ الصحيح الذي عليه جماهيرُ العلماء، وهو المنصوصُ عن أحمد وغيرِه، وإن كان بعض أصحابه وبعض الناس جعلَ فيه تفصيلًا كالغناء عنده، فليس كذلك، بل جنس النياحة أعظم من جنس الغناء للنساء، ولهذا كان الضربُ بالدفّ في الجنازة منكرًا بلا ريبٍ، حتَّى نصَّ أحمد على وجوبِ إزالتِه في ذلك بتخريقٍ أو غيرِه، وإن كان النساء يُرخَّصُ لهنَّ في الضرب بالدفِّ في الأفراح، والنساء قد رُخِّصَ لهنَّ في الغناء في مواضع، ولم يُرخَّصْ في
_________
(1) أخرجه البخاري (1294، 1297) ومسلم (103) عن ابن مسعود.
(2) أخرجه البخاري (1296) ومسلم (104).
(3) البخاري (1306) ومسلم (936).

(الكتاب/65)


النياحة قطُّ، بل السنن الصحيحة تنهى عن النياحة مطلقًا، والسلف فما كان ينوح في عهدهم النساءُ.
ولم يأمر الله تعالى بالجزع قطُّ ولا أثنى عليه، كما أمرَ بالفرح في مواطنَ وأثنى عليه، فالصوتان المنكران الأحمقانِ اللذان نهى عنهما النبي صلى الله عليه وسلم: صوتُ لهوٍ ولعبٍ ومزامير الشيطان، وصوتُ لَطْمِ خُدودٍ وشَقِّ جيوبٍ ودُعاءٍ بدعوى الجاهلية (1)، أحدهما أنكر من الآخر.
نعم إذا كان البكاء رحمةً للمَبْكِيِّ عليه فهذا حسنٌ مستحبٌّ، كما في الصحيحين (2) عن أسامة بن زيد قال: أرسلتْ ابنةُ النبي صلى الله عليه وسلم إليه أن ابنًا لي قُبِض فأْتِنا، فأرسلَ يُقرِئ السلامَ ويقول: “إنّ لله ما أخذَ وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجلٍ مسمًّى، فلْتَصْبرْ ولْتحتسِبْ”. فأرسلتْ إليه تُقسِم عليه لَيأتينَّها، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجالٌ، فرُفِعَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصبيُّ ونفسُه تتقَعْقَع كأنّها شَنٌّ، ففاضتْ عيناه، فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: “هذه رحمةٌ جعلها الله في قلوبِ عبادِه، وإنما يَرحم الله من عبادِه الرُّحماءَ”. وهذا يقتضي أن من لم يكن عنده رحمةٌ للمتوجِّعِ بنَزْعٍ أو مرضٍ أو فَقرٍ أو ظُلمٍ أو معصيةٍ أُصِيبَ بها ونحو ذلك، فإنه لا يرحم.
ولهذا جمعَ الله تعالى بين الصبر والرحمة في قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد/ 17]، فذكر التواصي بالصبر وبالرحمة جميعًا، إذ المرحمة بلا صبرٍ يكون معها الجزعُ،
_________
(1) أخرجه الترمذي (1005) عن عبد الرحمن بن عوف. وقال: هذا حديث حسن.
(2) البخاري (1284) ومسلم (923).

(الكتاب/66)


والصبر بلا مرحمة يكون معه القسوةُ. فهذه الرحمة حسنةٌ مأمورٌ بها، وإذا كان معها حزنٌ لم يكن به بأسٌ، وإن لم يُؤمرْ به، فقد قال يعقوب: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف/ 84].
وفي البخاري (1) عن ثابت عن أنس قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سَيْفٍ القَيْنِ، وكان ظِئْرًا لإبراهيم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيمَ فقبَّلَه وشَمَّه، ثم دخلنا بعد ذلك وإبراهيمُ يَجُودُ بنفسِه، فجعلَتْ عينا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تَذْرِفانِ، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنتَ يا رسول الله؟ ! فقال: “يا ابن عَوفٍ، إنها رحمةٌ”. ثمَّ أتْبَعَها بأخرى، فقال: “إن العينَ تَدمَعُ والقلبَ يَحزَنُ، ولا نقول إلا ما يُرضي الربَّ، وإنا بفراقِك يا إبراهيمُ لمحزونون”.
وفي هذا الحديث رُوي: يا رسولَ الله، أوَ لم تنهَ عن البكاء؟ فقال: “إنّما نَهَيْتُ عن صوتين أحمقينِ فاجرينِ” كما تقدم. ميَّز صلى الله عليه وسلم ما لا إثمَ فيه أو ما يُستحبُّ من الرحمة والحزن والدمع، وما يُنهَى عنه من النياحة برفع الصوتِ والنَّدبِ وما يتبَع ذلك مما ليس هذا موضعه، إذ الغرض بيان معنى الحديث، وأن ما في حجة ابن عباس من رَفْع (2) التكليف عما ليس مقدورًا للعبد لا هو ولا سببُه يخالف الحديث.
بل قد بيَّن صلى الله عليه وسلم الفرقَ بين النوعين، وما يُؤاخِذ الله عليه وما لم يؤاخذ، ولفظُ حديثِه: “إنه يُعذَّب ببكاء أهله” بالمدّ، أو “مَن نِيْحَ عليه
_________
(1) رقم (1303).
(2) في الأصل: “ترفع”.

(الكتاب/67)


يُعذَّب بما نِيْحَ عليه”، والمُعْوَلُ عليه يعذَّب، والنياحة والعويل والبكاء بالمدّ لا يكون إلّا مع الصوتِ الذي هو الصَّلق، فأما الدمع (1) فهو بُكًى بالقصر لا يمدّ، كما قال الشاعر (2):
بَكَتْ عَيْني وحُقَّ لها بُكَاها … وما يُغنِي البكاءُ ولا العويلُ
فإن زيادة اللفظ لزيادة المعنى، والفُعَالُ من أمثلةِ الأصوات، كالرُّغاء والثُّغاء والدعاء والخُوار والجُؤار والنُّباح والصُّراخ، وكذلك الفَعِيْل كالضَّجيج والعَجِيج والهَرِيْر.
وأما القسم الثاني الذين تأوَّلوا الحديثَ، فهؤلاء من المتأخرين لا من الصحابة، فإن الصحابة عرفوا المقصودَ برواية بعضهم لبعضٍ، فلم يَستقمْ لهم التأويل، وهؤلاء جعلوا التعذيب على ذنبٍ يفعله الميّتُ، فبعضُهم جعله هو أمره بالنياحة، وقَصَر الحديثَ على هذا، كما يُذكَر عن المزني. وبعضُهم جعلَ ذلك إذا كانت النياحةُ عادتَهم ولم يَنْهَ عنها، فيُعذَّب على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا أمثلُ التأويلات، وهو (3) تأويل البخاري صاحب الصحيح (4) وجدِّي أبي البركات (5) وغيرهما.
_________
(1) في الأصل: “الدفع”.
(2) البيت لحسان بن ثابت في جمهرة اللغة 1027 وليس في ديوانه، ولعبد لله بن رواحة في ديوانه 98 وتاج العروس (بكى)، ولكعب بن مالك في ديوانه 252 ولسان العرب (بكى). وانظر شرح شواهد شرح الشافية 66.
(3) في الأصل: “هي”.
(4) قال في كتاب الجنائز: باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه” إذا كان النوح من سنته …
(5) في الأصل: “أبو البركات”.

(الكتاب/68)


وهذا أيضًا ضعيف، لأنه خلافُ مُقتضَى الحديث ومفهومِه، وخلافُ ما فهمَه الصحابة الذين رووه، وقَصْرٌ لهذا اللفظ العام على صُوَرٍ قليلةٍ، فإن النياحة لم تكن من عادة المسلمين بعد نهي النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت قليلةً.
وأيضًا فالأحياء الموجودون أحقُّ بالتعذيب على إنكارِ المنكر من الميت العاجز، ولا اختصاصَ لتعذيبه على ما لم يَنْهَ من النياحة، بل ما يتركونه من الواجبات ويفعلونه من المحرَّمات التي لم يأمر ولم يَنْهَ عنها أعظمُ من النياحة، فتخصيصها لهذا السبب بعيدٌ.
وأيضًا فإن الناهي يَنهى فلا يُسمَع منه، وحَسْبُك بنهي النبي صلى الله عليه وسلم ومبايعتِه للنساء، ونَهْيه نسوةَ جعفر، كما في الصحيحين (1) عن عائشة قالت: لما جاءَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَعْيُ ابن حارثةَ وجعفرٍ وابنِ رواحة جلسَ يُعرَفُ فيه الحزنُ، وأنا أنظُر من صائرِ الباب، فأتاه رجلٌ فقال: إنَّ نساءَ جعفرٍ، وذكر بكاءهنّ، فأمرَه أن ينهاهنَّ، فذهبَ ثمَّ أتاه الثانية، فذكر أنهنّ لم يُطِعْنَه، فقال: “انهَضْ”. فأتاه الثالثةَ فقال: والله لقد غَلَبنَنا يا رسول الله، فزعَمتْ أنه قال: “فَاحْثُ في أفواههنَّ الترابَ”، فقلتُ: أرغمَ الله أنفَك، لم تَفعَلْ ما أمرَك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم تَتْركْ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العَنَاءِ.
ولهذا كان عمر بن الخطاب يَحثُو فِيْه الترابَ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. هذا مع قوله: دَعْهنَّ يبكينَ على [أبي] سليمانَ خالد بن الوليد ما لم يكن نَقعٌ أو لَقْلَقَةٌ (2).
_________
(1) البخاري (1299، 1305، 4263) ومسلم (935).
(2) علَّقه البخاري عن عمر في كتاب الجنائز: باب ما يُكره من النياحة على الميت. والنقع: التراب على الرأس، واللقلقة: الصوت.

(الكتاب/69)


وأيضًا فإن المُحْوِجَ لهم إلى هذا التأويل ظنُّهم ظاهرَ هذا الحديثِ عقوبةَ هذا بذنبِ هذا، وليس كذلك.
وأما الطائفة الثانية التي (1) اعتقدتْ هذا ظاهرَه فجوَّزتْ أنّ الله يُعاقِب الإنسانَ بعمل غيرِه، وهؤلاء يقولون: إنّ أطفالَ المشركين يدخلون النارَ مع آبائهم، وهذا قول طائفة من أهل الحديث والفقه والكلام من أصحاب أحمد وغيرِه، ويقولون: إنَّ الله يَفعلُ ما يشاء ويحكم ما يريد، وإنه لا يُتصوَّر منه ظلمٌ أصلًا، فلا إشكالَ في الحديث أصلًا. ومن العجب أنه يَستشكلُه كثير ممن يقول بهذا الأصل، وإنما المخالف للقرآن أن تُحَطَّ سيئاتُ غيرِه بلا معاوضةٍ، وهذا ليس في الحديث.
والذي عليه أكابرُ الصحابة والتابعين هو الصواب، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يُعذَّب”، ولم يقل: “يُعاقَب”. والعذاب أعمُّ من العقاب، قال صلى الله عليه وسلم: “السفرُ قطعةٌ من العذاب، يَمنَعُ أحدَكم طعامَه وشرابَه ونومَه، فإذا قضَى أحدُكم نَهْمتَه من سفرِه فليعجِّلْ بالرجوع إلى أهله” (2). وقد قال أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص/ 41]، فالعذاب هو الآلام التي يُحدِثُها الله تعالى، تارةً يكون جزاءً على عملٍ فيكون عقابًا، وتارةً يكونُ تكفيرًا للسيئات، فإنه “ما يُصِيبُ المؤمنَ من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ ولا غمٍّ ولا أذًى إلّا كفَّر الله به من خطاياه”. أخرجاهُ في الصحيحين (3) عن النبي صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) في الأصل: “الذين”.
(2) أخرجه البخاري (1804، 3001، 5429) ومسلم (1927) عن أبي هريرة.
(3) البخاري (5641، 5642) ومسلم (2573) عن أبي سعيد وأبي هريرة.

(الكتاب/70)


فالعذاب الذي يُعذَّب به الميتُ في قبرِه من جنس الآلام التي تحصُلُ له في الدنيا، وقد يكون غيرَ ذلك، ولهذا رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن (1) أنه قال لنسوة في جنازةٍ: “ارْجِعْنَ مأزوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ، فإنكن تَفتِنَّ الحيَّ وتُؤْذِينَ الميتَ”. ولهذا في سنن أبي داود (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تُتبعَ الجنازةُ بصوتٍ أو نارٍ. وضربَ عمرُ بن الخطاب نائحةً، فقيل له: قد بَدا شَعرُها، فقال: إنه لا حُرمةَ لها، إنها تَنهَى عن الصبرِ وقد أمر الله به، وتأمرُ بالجزع وقد نهى الله عنه، وتَفتَنُ الحيَّ وتُؤذي الميتَ، وتبيعُ عَبرتَها وتبكي بشجو غيرها، إنها لا تبكي على ميتكم، ولكن تبكي على أخذِ دراهمِكم.
وهذا الألم والعذاب الذي يحصل للميت بالنياحة موجودٌ كما دلت عليه أحاديث، مثل حديث عبد الله بن رواحة الذي رواه البخاري في صحيحه (3) عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: أُغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلتْ أختُه تبكي وا جَبَلاهُ وا كذا! تُعدِّد عليه، فقال حين أفاق: ما قُلتِ لي شيئًا إلا قيل لي: “أنت كذاك”؟ فلما مات لم تَبكِ عليه.
ومثلُ هذا عُرِف عن غير عبد الله بن رواحة، فإنه يُوجَدُ الميتُ يَشتكي من تألُّمِه ببكاء الحيّ عليه، ويُكشَف في المنام وغيرِه في ذلك للمؤمن أمور متعددة. وقد يحصلُ التأذي والألم للميت، وقد يتعذب الحيُّ بما يسمعه ويراه ويشمُّه من أحول غيرِه. فهذا أمرٌ موجود في الدنيا
_________
(1) أخرجه ابن ماجه (1578) عن علي بن أبي طالب، وفي إسناده إسماعيل بن سلمان، وهو ضعيف.
(2) رقم (3171) عن أبي هريرة. وإسناده ضعيف، انظر إرواء الغليل (742).
(3) رقم (4267).

(الكتاب/71)


والآخرة.
ثم ذلك الألم الذي يحصل للميت في البرزخ إذا لم يكن له فيه ذنبٌ، من جنس الضَغْطة وانتهارِ منكرٍ ونكيرٍ ومن جنس أهوالِ القيامة، يُكفِّر الله به خطايا المؤمن ويكون من عقوبة الكافر، ولا ينقطع التكليف والعذاب إلّا بدخول دار الجزاء وهي الجنة، فأما البرزخ وعرصةُ القيامة فيكون فيها هذا كلُّه.
وأيضًا فمن عقوباتِ الذنوب ما يُصيب غيرَ المعاقبِ ويكون مصيبةً في حقّه، كما في الصحيحين (1) عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أنزلَ الله بقومٍ عذابًا أصابَ العذابُ من كان فيهم، وبُعِثوا على نيَّاتهم”. وفي الحديث الصحيح (2): “يَغزُو هذا البيتَ جيشٌ، فبينما هم ببَيْداء من الأرض إذْ خُسِف بهم”، فقيل: يا رسولَ الله، فيهم المُكرَه، قال: “يُبعَثون على نياتهم”. وكذلك الجدب ونحوه مما يُصيب غيرَ المذنبين.
وكذلك ما ثبت في الصحيح (3) من مناداة أهل القليب وقولِه عليه السلام لهم: “هل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقًّا؟ ” وقول بعض الصحابة: يا رسولَ الله، أتدعو أقوامًا – أو قال: قومًا – قد جيفوا؟ فقال: “ما أنتم بأسمعَ لما أقولُ منهم”. وما ثبت في الصحيح (4) من قول عائشة: “إنهم ليعلمون الآن أن ما كنتُ أقول لهم حقٌّ”، وقد قال الله تعالى: {إِنَّكَ لَا
_________
(1) البخاري (7108) ومسلم (2879).
(2) أخرجه البخاري (2118) ومسلم (2884) عن عائشة.
(3) البخاري (1370) ومسلم (932) عن ابن عمر.
(4) البخاري (1371) ومسلم (932).

(الكتاب/72)


تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل/ 80].
وفى الصحيحين (1) عن عروة بن الزبير قال: ذُكِر عند عائشة أن ابن عمر يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم “إن الميت يُعذَّب في قبرِه ببكاء أهلِه عليه”، فقالت: وهلَ، إنما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “إن السر ليُعذَّبُ بخطيئتِه أو بذنبِه وإن أهلَه ليبكون عليه الآن”، وذلك مثل قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على القليب يومَ بدرٍ وفيه قتلَى بدرٍ من المشركين، فقال لهم ما قال: “إنهم ليسمعون ما أقول”، وقد وهلَ، إنما قال: “إنهم ليعلمون الآن أن ما كنتُ أقول لهم حق”، ثم قرأت: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل/ 80]، {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} [فاطر/ 22]، يقول: حين تبوَّأوا مقاعدهم من النار.
وفي لفظ البخاري (2) عن نافع أن ابن عمر أخبرهم اطَّلعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال: “وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا؟ “، فقيل له: تدعو أمواتًا! فقال: “ما أنتم بأسمعَ منهم، ولكن لا يُجيبون”.
ومن المعلوم أن سَمْع الموتى قد ثبت بنصوص متواترة من حديث أنس وغيرِه، مثل قوله في الحديث المتفق عليه (3): “إنه يسمعُ قَرْعَ نِعالهم حينَ يُولُّون عنه مُدبِرين”، وقوله في حديث ثابت: “ما من رجلٍ يَمرُّ بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيُسلِّم عليه، إلّا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلام” (4)، وقوله: “ما من رجلٍ يُسلِّم عليَّ إلَّا ردَّ الله
_________
(1) البخاري (3979) ومسلم (932).
(2) رقم (1370).
(3) البخاري (1338، 1374) ومسلم (2870) عن أنس.
(4) أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار 1/ 234 عن ابن عباس. وصححه عبد الحق =

(الكتاب/73)


عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلامَ” (1). ومثل الأحاديث المتواترة في السلام على الموتى، وهذا باب واسع.
والحديث الذي روتْه يُؤيِّد ذلك، وهو “أنهم يعلمون”، فالذي يجوِّز أن يعلم يجوِّز أن يسمع كائنًا ما كان، فإن الموت ينافي العلمَ كما ينافي السمعَ والبصر، فلو كان مانعًا لكان مانعًا للجميع. ولهذا كان جماهير المسلمين على مقتضى الحديث.
فهذا ونحوه من المسائل الخبرية العلمية التي هي من جنس مسائل الاعتقاد والأصول العلمية، وأما في المسائل العملية فكثيرٌ أيضًا، مثل ما في الصحيحين (2) لما سُئِل ابنُ مسعودٍ عن تيمُّم الجنب فنَهى عنه، فذكَر له أبو موسى حديثَ عمّار، فقال: ألم تَرَ عمرَ لم يَقنَعْ به؟ وذكر له آية التيمم، فلم يجب بشيء غيرَ أنه قال: لو رخَّصنا لهم في هذا لأوشكَ أحدهم إذا وجدَ ألمَ البَرْدِ أن يتيمم.
ومعلومٌ أن حديث عمار مما لا يمكن ردُّه، وعمر رضي الله عنه لم يردَّه على عمار، ولكن نَسِيَه وقال لعمار: أُوَلِّيك من ذلك ما تولَّيتَ. يَعني حدِّثْ به أنتَ. والآية لا يمكن تركُها بهذا القياس، وهو أن تيمم الجنبِ مستلزم للتيمم عند البرد، بل مثل هذا الذي يسميه الفقهاء مصلحةً مُهدَرةً.
ثم يقال: إن كان هذا القياس صحيحًا لزِمَ جوازُ التيمم عند خوف
_________
= الإشبيلي في الأحكام الصغرى 1/ 345.
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 527 وأبو داود (2041) عن أبي هريرة. وهو حديث حسن.
(2) البخاري (346) ومسلم (368).

(الكتاب/74)


التضرر بالبرد، وهذا اللازم حقٌّ، وقد سلك هذا طوائفُ من المفتين والمشايخ والأمراء وغيرهم. لكن من المعلوم أن الصواب الذي أُمِرْنا به اتباعُ النصوص، وأن لا نردَّها بما نراه من مصلحةٍ أو مفسدةٍ. ولهذا اتفقَ أئمة العلماء على تيمم الجنب لدلالة الكتاب والسنة على ذلك في عدة أحاديث، كحديث عمار وعمران بن حصين، وهما في الصحيحين (1)، وعمرو بن العاصي (2) وصاحب الشجَّة (3)، وهي أحاديث جيدة، ولم يَرَوا أن يتركوا ذلك لما يُخاف (4) من المفسدة، بل يُميَّز بين المأمور به والمنهي عنه.
ثم التيمم مشروع عند عدم الماء وعند خشية الضرر باستعماله كما في القرآن، فحديث عمار ونحوه للعادم، وحديث صاحب الشجَّة وعمرو للمتضرر بمرضٍ أو خوفِ مرض. فتأخير الصلاةِ مع الجنابة حتى يجد الماءَ قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديثٍ، وكذلك اغتسال المريض، وقد قال في صاحب الشجَّة: “قَتَلوه قتَلَهم الله، هلَّا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شِفاء العِيِّ السُّؤال”.
ومع هذا فقد تأوَّل خلافَ ذلك من كان من أعيان الصحابة في حياةِ النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وأن الجنب لا يصلِّي، وأنه يغتسل مع ضرورة.
وكذلك كان أبو هريرة يُحدِّثُ بأحاديثَ فيُنكِرها بعضُهم، ثم
_________
(1) حديث عمار أخرجه البخاري (338) ومسلم (368)، وحديث عمران بن حصين أخرجه البخاري (344، 348) ومسلم (682).
(2) أخرجه أبو داود (334، 335)، وهو حديث حسن.
(3) أخرجه أبو داود (336) عن جابر بن عبد الله، وهو حديث حسن بشواهده.
(4) في الأصل: “يخالف”.

(الكتاب/75)


يَرجعون إلى الحق، مثل توقُّف ابن عمر عن قوله: إن المصلّي على الجنازة له قيراط، حتى سألوا عائشةَ فروَتْ ذلك أيضًا (1). وكذلك حديث فاطمة بنت قيس (2) وحديث بَرْوَع بنت واشق (3) وأمثال ذلك كثيرة. ما علمنا أحدًا من الصحابة والتابعين مع فضلِ عقلهم وعلمهم وإيمانهم ردُّوا حديثًا صحيحًا وتأوَّلوه على خلاف مقتضاه، لمخالفة ظاهر القرآن في فهمهم أو لمخالفة المعقول أو القياس، إلّا كان الصوابُ مع الحديث ومَن اتبعَه، فكيف بمن بعدَهم؟! وهذا من معجزات الرسولِ وآياتِ حفظِ دينِه وشرعِه وسننِه.
وهذا خاصّة الصدّيق مع سائر الصحابة، فإنه لم يُعرَفْ له فتوى ولا كلامٌ يخالف شيئًا من الأحاديث، بل كمل فيه التصديق حيًّا وميّتًا. ولغيِره من التأويل والاجتهاد ما هو مُثابٌ فيه على حُسْنِه، ومغفورٌ له فيه خطؤه. بل كان الصديق يُبَيِّنُ لهم من معاني النصوص إذا اعتقدوا في ظاهرها ما لا يدلُّ عليه ورأى عدمَه، كما قال له عمر عامَ الحديبية (4): ألم يُحدِّثْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّا نأتي هذا البيت ونطوفُ به؟ قال: أقالَ لك إنك تأتيه هذا العامَ؟ قال: لا، قال: فإنك آتيهِ ومُطَّوِّفٌ به. وكان عمر لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أجابَه بهذا الجواب. وهو جوابٌ حقٌّ، فإن اللفظ مطلقٌ لم يُوقِّتْ زمنًا، فتخصيصُه بذلك العام كان في ظنّ المستمع، لما
_________
(1) أخرجه مسلم (945/ 55 و 56).
(2) أخرجه مسلم (1480/ 41).
(3) أخرجه أحمد (3/ 480، 4/ 280) وأبو داود (2115) والترمذي (1145) والنسائي (6/ 121، 122، 198) وابن ماجه (1891) من حديث معقل بن سنان الأشجعي. وهو حديث صحيح.
(4) أخرجه البخاري (2731، 2732) ضمن الحديث الطويل في غزوة الحديبية.

(الكتاب/76)


رأى حركة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى البيت ظنّ أن الوعد ينجز بهم في ذلك العام، ولم يكن ذلك في ظاهر لفظ الوعد.
وكذلك لما قال له عمر (1): كيف تُقاتلُ الناسَ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أُمِرْت أن أقاتلَ الناسَ حتى يَقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالَهم إلّا بحقّها، وحسابُهم على الله تعالى”؟ فقال له أبو بكر: ألم يقلْ “إلا بحقّها؟ ” فإن الزكاة من حقِّها، والله لو منعوني عَناقًا كانوا يُؤدُّونها إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعها. قال عمر: فما هو إلا أن رأيتُ أن الله قد شرحَ صدرَ أبي بكرٍ للقتال، فعلمتُ أنه الحق.
وهذا المعنى الذي ذكره أبو بكر هو مصرَّحٌ به في الحديث الآخر الذي في الصحيحين (2) من رواية ابن عمر: “حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله وأن محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاةَ ويُؤتوا الزكاة”. فذاك الحديث إن جُعِل معارضًا لهذا فقد بيَّن به أبو بكر عدمَ المعارضة، وبيَّن أن الحجة فيه أيضًا بقوله “إلا بحقّها”، أي لا تَحِلُّ دماؤهم وأموالُهم إلّا بحقّها، أي لا تُباح لي بالباطلِ بل بحقِّها، والزكاة هي من الحق الذي أوجبه الله عليهم، فأنا أقاتلُهم على هذا الحق. ثمَّ بيَّن بأنهم لو تركوا من الحقّ شيئًا قليلًا لقاتلَهم عنه، فقال: والله لو منعوني عَناقًا كانوا يؤدونها إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعها.
وكلا الحديثين حقٌّ، فإن الكافر المحارب إذا نطقَ بالشهادتين حَرُمَ
_________
(1) أخرجه البخاري (1399، 1400) ومسلم (20) عن أبي هريرة.
(2) البخاري (25) ومسلم (22).

(الكتاب/77)


حينئذٍ قتالُه، ثم بعد ذلك إن أقامَ الصلاةَ وآتَى الزكاةَ وإلّا قُوتِلَ عليها، كما بيَّنه في الحديث الآخر. ثم بعد ذلك إن تركوا شيئًا من حقّها مثلَ أن يَستحلُّوا الربا أو يمتنعوا من تركِه أو نحو ذلك، كانوا قد حاربوا الله ورسولَه، وقُوتلوا أيضًا على ذلك. وإنما هي مراتب، فالكلمتان رأسُ الإسلام من الكلام، والصلاة والزكاة هما رأسُ العمل، فتارةً يُذكَر الأصل الذي هو الاعتقاد والكلام، وتارةً يُقْرَن به الأصل الآخر من العمل والاقتصاد، ثم يدرج سائر الدين الذي أمر الله تعالى بالقتال عليه في قوله “إلّا بحقّها”، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال/ 39]. فقوله: “عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلّا بحقّها” كقولِه تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء/ 33]، وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة/ 188].
ونظائرُ هذه المقامات للصدّيق كثيرة، يُفقِّهُهم فيما خفي عليهم أو ذَهِلوا عنه من معاني الكتاب والسنة، كتلاوة قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران/ 144] حين قُبِض النبي صلى الله عليه وسلم، وفي روايته لهم أحاديثَ لم يعرفوها، كحديث دفن النبي صلى الله عليه وسلم (1) وغيره، وكجوابه لهم فيما يُشكل عليهم من معاني القرآن والحديث، وبيان أن ظاهره حق، وأن من ظنّ أن ظاهره ليس بحقّ فهو المخطئ في ذلك، وأنه لم يُوجَد له فتوى ولا أمرٌ ولا كلام يخالف شيئًا من النصوص كما
_________
(1) أخرجه الترمذي (1018) وأبو يعلى (45) من حديث عائشة، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وله طرق وشواهد يرتقي بها إلى الصحة، منها ما أخرجه ابن ماجه (1628) وأبو يعلى (22) من حديث ابن عباس عن أبي بكر.

(الكتاب/78)


وُجِد لغيره. ولهذا حكى غيرُ واحدٍ من العلماء إجماعَ أهل السنة والجماعة على أنه أعلم الصحابة، فهو أعلمهم وأشجعهم وأجودهم وأدْيَنهم باتفاق أهل المعرفة من المسلمين، وأعظمُ علمِه وإيمانِه التصديقُ بالنصوص النبوية خبرًا وأمرًا واتباعُها، وأنه لا يُعارضها بشيء من تأويلاتِه وأرائه.
وهذا وأكثر منه يُبيِّن لك أن المتبعين للحديث هم صدِّيقو هذه الأمة، والصِّديقون هم أفضلُ الخلق بعد الأنبياء، ومن كان منهم أعظمَ اتباعًا له كانَ أعظمهم تصديقًا. وأما الخارجون (1) عن السنة والجماعة فإمّا أن يكونوا (2) من جنس ذي الخُويْصِرة وأمثالِه من الخوارج، وإمّا أن يكونوا من جنس عبد الله بن أُبيّ وأمثالِه من المنافقين، وإمّا أن يكونوا من جنس مُسيلمة الكذاب وأتباعه المرتدّين الذين جعلوا مع الرسول نظيرًا له، وإمّا أن يكونوا من جنس مانعي الزكاة وأمثالهم ممن أقرَّ ببعض واجبات الدين وبعض ما جاء به الرسول دون بعضٍ. وهذا أمرٌ مطَّرِد لا يُخرَم، لا يخرج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وسنتِه وجماعةِ المسلمين المقرين بالشهادتين إلّا وهو إمّا منافق، وإمّا مبتدع مارقٌ كالذين كانوا على عهده، وإمّا مرتدٌّ عن بعضِ دينِه، وإمّا جاعلٌ (3) معه نظيرًا له، وهما متلازمان، فإنّ من جعلَ معه نظيرًا له لا بدَّ أن يرتدَّ عن بعض دينِه، ومن ارتدَّ عن بعض دينِه فلا بدَّ وأن يُطيع في تركِ ذلك البعض لغيرِه.
وهؤلاء من المرتدين الذين قاتلهم الصدّيقُ والصحابةُ أجمعون،
_________
(1) في الأصل: “الخوارجون”.
(2) في الأصل: “كان”.
(3) في الأصل: “جاعلا”.

(الكتاب/79)


والخوارج هم الحروريَّةُ الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبى طالب وأصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ونصوصِه، لا بالاجتهادِ والرأي والتأويل. وأما المنافقون فإنهم وإن لم يُقاتَلُوا إذْ لم يُظهِروا إلّا الطاعةَ لله ورسولِه فهم في الآخرة في الدَّرْكِ الأسفلِ من النار.
فهذا حالُ المحارب والمسالم من الخارجين عن شريعةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعةِ المسلمين من المقرين بالشهادتين، فأما من لم يُقِرَّ بالشهادتين من المشركين وأهل الكتاب فأمرُه ظاهر، وإنما الغرضُ مَنْ قد يَشْمَله لفظ “مسلم”، لظهور إسلامِه بالشهادتين وإن كان الإيمان لم يدخل قلْبَه، أو كان في قلبه مرض، أو قد ارتَدَّ عن بعضه. فهذا هذا، والله أعلم.
وقد تبيَّن بذلك أن الأحاديث النبويّة من الصحاح مَن ردَّ منها شيئًا، وفهمَ من ظاهرِه معنًى يعتقد أنه مخالفٌ للقرآن أو للعقل، فمن نفسِه أُتِيَ وأن المقرِّرين للنصوص هم أرفعُ الخلق وأعلاهم طبقةً، إذ جمعوا المعرفةَ والفهمَ، فإن الصِّديق رضي الله عنه كان أعلمهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفهمهم لمعانٍ زائدةٍ من الخطاب، لا تُستفاد بمجرد اللغة والعلم باللسان، بل هي من الفهم الذي يُؤتيه الله عبدَه. كما في الصحيحين (1) عن أبي سعيد قال: خطبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: “إنَّ عبدًا خيَّرَه الله بين الدنيا وبينَ ما عندَه، فاختار ذلك العبدُ ما عند الله”، فبكَى أبو بكر وقال: بل نَفديك بأنفسِنا، فقلتُ في نفسي: ما يُبكِي هذا الشيخَ أن يكون الله خيَّرَ عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختارَ ذلك العبدُ ما عند الله؟ فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك العبد، وكان أبو بكر أعلَمنا به، فقال: “يا أبا بكر، لا
_________
(1) البخاري (466) ومسلم (2382).

(الكتاب/80)


تَبكِ (1)، إن أمنَّ الناس عليَّ في صحبتِه ومالِه أبو بكر، ولو كنتُ متخذًا خليلًا لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكن أخوة الإسلام ومودَّته. لا يَبقَينَّ في المسجد خَوخَة باب إلَّا سُدَّ إلّا باب أبي بكر”.
وكذلك رواه البخاري (2) عن عكرمة عن ابن عباس قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مرضِه الذي ماتَ فيه عاصِبًا رأسَه بخِرقةٍ، فقعَد على المنبر، فحمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: “إنه ليس أحدٌ من الناس أمنَّ عليَّ في نفسِه ومالِه من أبي بكر بن أبي قُحافة، ولو كنتُ متخذًا من الناس خليلًا لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكن خُلَّةُ الإسلام أفضلُ. سُدُّوا عني كلَّ خوخةٍ في هذا المسجد غير خَوخَة أبي بكر”.
وقد كان هذا الجنس من الاستشكال والمعارضة يُورَد على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فبيَّنَ عدمَ ورودِه، مثل ما في الصحيحين (3) عن عائشةَ قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن نُوقِشَ الحسابَ عُذِّبَ”، قلتُ: يا رسولَ الله، أوَليسَ يقولُ الله تعالى في كتابه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق/ 7 – 8]. فقال: “ذلك العرضُ”.
ولا ريبَ أن حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم لا يُعارِضُ هذه الآية، فإنما قال: “من نُوقِش الحسابَ عُذِّب”، والآيةُ إنما (4) فيها ذكر الحساب اليسير ليس فيها المناقشة، لكن لما أثبتَ القرآنُ حسابًا للسعيد ظنَّ المستمعُ أن ذلك من المناقشة في الحساب، وليس كذلك. فزادَه النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا أن ذلك
_________
(1) في الأصل: “لا تبكن”.
(2) رقم (467).
(3) البخاري (6536) ومسلم (2876).
(4) في الأصل: “انها”.

(الكتاب/81)


الحساب اليسير هو العرضُ، وهو أن تُعْرَض عليه أعمالُه ليَعلَمها ويَعلمَ رحمةَ الله له بالعفو عنه، كما في الصحيحين (1) عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله يُلقِي كنَفَه على عبدِه المؤمن، ثمَّ يُقرِّره بذنوبه: فعلتَ يومَ كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم يا ربِّ، فيقول: إني سَترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفِرُها لك اليومَ. وأما الكفّار والمنافقون فيُنادَى على رؤوس الخلائق: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود/ 18].
فحساب العرض والتعريف ليس هو المناقشة، وإنما المناقشة تكون عند الموازنة والمقابلة إذا وُزِنَتْ حسناتُه بسيئاتِه من غيرِ عفوٍ ولا مغفرةٍ.
ومثل هذا حديث حفصة (2) لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل النارَ أحدٌ بايعَ تحتَ الشجرة”، فقالت: أليس الله تعالى يقول: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم/ 72]. فبيَّنَ أن هذا الورود ليس هو من الدخول المنفيّ، إذ هو المرور على الصراط، فهو إما أن لا يُسمَّى دخولًا، وإما أن لا يدخل في مطلق دخول النار.
فإذا كانت الأحاديث الصحيحة الخبرية والطلبية في الأصول والفروع لا يُعلَم منها حديثٌ أصابَ من عارضه أو خالف ظاهره بغير حديثٍ آخر، فكيف يكون القرآن؟
وهذا هو سِرُّ المسألة (3) التي يستشكلها كثير من الناس من كلام
_________
(1) البخاري (2441) ومسلم (2768).
(2) أخرجه مسلم (2496) عن أم مبشر الأنصارية.
(3) في الأصل: “الملة”.

(الكتاب/82)


الشافعي، وهو أن القرآن لا ينسخ السنة، وقد وافقه على ذلك أصحابُ أحمد في أحد القولين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأظهرهما في قوله، وإن كان كثير من أصحابه على الأخرى، حتى قال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: إن القرآن لا يخصُّ عمومَ السنة، ولا يُبيِّن القرآنُ السنة. وهذا معنى ما يُروى عن غير واحدٍ من السلف أنهم قالوا: السنةُ تَقضِي على القرآن (1)، والقرآنُ لا يقضي على السنة. وسئل الإمام أحمد عن ذلك فقال: لا أجترئ هذا اللفظ، ولكن السنة تُفسِّر القرآنَ وتُبيِّنُه وتدلُّ عليه وتُعبِّر عنه (2). فعَدَل عن لفظ “تقضي عليه” لأنها تُشعِر المخاطبين في زمنه بأنها أعلى منه، إلى لفظ البيان والتفسير، وهذا هو الذي قصدَه أولئك.
وقولهم: “تقضي على” بمنزلة قول الفقهاء: تُرجِّح الخاصَّ على العامّ، وإن كان الخاصُّ دون العامّ في الحرمة. وكثيرٌ من أهل الكلام والفقهِ يُنكِرون هذا ويقولون: كيف لا يكون الدليل الأقوى ناسخًا ومخصِّصًا لما دونَه؟ ولم يفهموا مرادَ من قال ذلك من الأئمة، فإنهم قالوا: إذا سنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سنةً وجاء القرآن بنسخها، فلا بدَّ أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم من طاعةِ كتاب الله ما يخالف السنة الأولى، فلا تكون السنةُ منسوخةً بالقرآن إلّا ومع القرآن سنةٌ توافقُه، وهذا حقٌّ.
وكذلك قال من قال: السنة هي المفسرة للقرآن المبيِّنة له، فكيف يكون القرآنُ مفسرًا لها مبينًا لها؟ ومقصودهم بهذا: الردّ على من يُعارض سنةَ النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة بما يظنُّه هو ناسخًا لها من آياتٍ في
_________
(1) انظر الكفاية للخطيب (ص 14) ومفتاح الجنة للسيوطي (ص 43).
(2) الكفاية (ص 15).

(الكتاب/83)


القرآن. فقيل له: لو كانت منسوخةً لكان في السنة ما (1) يُبيِّن ذلك، كما قال يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير: حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ينسخُ بعضُه بعضًا كما ينسخ القرآن بعضُه بعضًا (2). ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد وهو مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخُه إلَّا قرآنٌ، لا ينسخه مجرَّدُ السنة أيضًا، وإن كانت السنة مفسِّرةً له مبيِّنةً له بلا نزاع. وقد خالفهم في ذلك أكثر أهل الكلام وطوائفُ من الفقهاء، وهو الرواية الأخرى عن أحمد التي يختارها أكثر أصحابه.
وهذا النزاع في جواز ذلك، وأما الوقوع [فـ] لا أعلم إلى ساعتي هذه حديثًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم يجبُ تركُه إلّا لحديثٍ صحيح يعارضه ناسخًا ومفسِّرًا، لا أعلم ما يجبُ تركُه من الحديث الصحيح لمخالفة ظاهر القرآن أو العقل أو نصٍّ للقرآن إلّا أن يكون قد جاءَ حديثٌ آخر يخالفُه، كما قاله الشافعي رضي الله عنه، فإنه كان من أبصر الناس بأصولِ الفقه وأعلمهم بالجمع بين النصوص المتعارضة، وناسخِها ومنسوخها، ومجملها ومفسَّرِها، ولهذا تكلَّم على مختلف الحديث، وكان يُدعَى ببغداد ناصر الحديث، وصرَّح بما ذكرتُه.
فروى شيخُ الإسلام في كتاب ذم الكلام (3) عن الربيع قال: سُئل الشافعي بأيِّ شيء يَثبتُ الخبر؟ قال: إذا حدَّثَ الثقةُ عن الثقةِ حتى ينتهي إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُترك له حديث إلّا حديث واحدٌ يخالفه حديث،
_________
(1) في الأصل: “بما”.
(2) أخرجه الحازمي في الاعتبار (ص 16).
(3) (2/ 175).

(الكتاب/84)


فيُذهَب (1) إلى أثبت الروايتين، أو يكون أحدهما منسوخًا، فيُعمَل بالناسخ. وإن تكافآ ذُهِبَ إلى أشبههما بكتاب الله وسنة نبيه فيما سواهما، وحديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مستغنٍ بنفسِه، وإذا كان يُروى عمن دونه حديثٌ (2) يخالفُه لم ألتفت إليه، وحديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أولى، ولو علم من روي عنه خلاف سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم اتَّبعَها إن شاء الله.
وله وللإمام أحمد وغيرِهما من الأئمة من الكلام ما لا يَفهم غَورَه كثيرٌ من الناس، كما لأئمة السلف قبلَهم، فتجدُ من يُفتي بظاهرٍ من القولِ ممن أَلِفَ طريقةَ بعض المتأخرين واصطلاحهم، لا يَعرِف اصطلاحَهم ولا يَعرِفُ مقصدَهم ومغزاهم، بل فيه عجمةٌ عن اللفظ والمعنى جميعًا. ولهذا كان هؤلاء الأئمة الذين اشتهروا بالإمامة في الحديث – مثل الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرِهم من أئمة الآثار – طريقتُهم أنهم لا يردُّون شيئًا من الحديث الصحيح، لا في المسائل الخبرية ولا الشرعية، لا في الأصول ولا في الفروع، لا يردُّونه لمخالفة ما يُظَنُّ في قياسٍ أو معقولٍ أو مجردِ ظاهرٍ من القرآن، كما بيَّنا (3) أنه لا يوجد حديث صحيح مستحقّ الردِّ بلا حديثٍ يُعارِضُه، لكن قد يُفارِق الرجلُ أصلَه أحيانًا على وجه الغلط.
وكذلك أصول سائر الأئمة وجميع السلف على أن الأخبار الصحيحة مقبولة في جميع أبواب العلم الخبرية والعملية الأصول والفروع، لم يكن في السلف ولا في الأئمة مَن يردُّ الخبر في بابٍ من
_________
(1) في الأصل: “فذهب”.
(2) في الأصل: “حديثا”.
(3) في الأصل: “بيناه”.

(الكتاب/85)


أبواب العلم بأنه خبر واحد، ولم ينشأ ذلك إلّا من أهل البدع.
ولهذا ما زال علماء السنة يقبلون الخبر الصحيح، ويبينون اتفاقَ الأخبار المتعارضة عند بعض الناس، ووضعَ كلِّ حديثٍ موضعَه، وأن الأحاديث كما جاءت لا تُردُّ بتكذيب ولا بتحريف. ولم يكن في أئمة المسلمين من يقول: هذا خبر واحد في المسائل العلمية فلا يُقبَل، أو هذا خبر واحد مخالف للعقل فلا يُقبَل، ومن قال شيئًا من هذا عدُّوه من أهل البدع، لكونِه يعارض السنة الصحيحة بما لم يجئ عن الرسول، وكلامُ الرسول لا يُعارضُه إلّا كلامُ الرسول.
لكن قد كان بعضهم يُعارِض الخبرَ المنفردَ إما بظاهرٍ من القرآن وإمّا بما يعتقده من الإجماع ونحو ذلك من الأدلة الشرعية، فهذا قد كان يقع من بعض السلف، كقولِ عمر: لا نَدَعُ كتابَ ربِّنا وسنةَ نبينا لقولِ امرأةٍ لا ندري هل حفظتْ أو نسيتْ (1). وقولِ مروان: فنأخذُ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس (2). وما ذُكِر عن عائشة في مواضعَ من ردِّ بعضِ الحديث بظاهرٍ من القرآن. وكذلك ما يُوجد في مذهب أهل المدينة من تقديم العمل الذي يجعلونه إجماعًا على الخبر، ويستدلون بذلك على نسخِه.
فهذا ونحوه قد كان يقع من بعضهم، وما علمتُ أنه وقع من ذلك شيء إلّا والصواب خلافُه، كما تقدم التنبيهُ عليه. ولهذا قال الإمام أحمد: إذا ورد الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو سنةٌ يجب اتباعُها، ولا
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (12027).
(2) أخرجه مسلم (1480/ 41).

(الكتاب/86)


يُلتَفت إلى غيِره من قياسٍ أو عملٍ. وكان هو وغيره من الأئمة يجعلون من أكابر أهل البدع من يردُّ الأخبار الصحاح في الأمور الخبرية أو العملية في أصول أو فروع. ولهذا كان الشافعي يقول دائمًا: إذا صحَّ الحديثُ فاضربوا بقولي الحائط (1). وكان يُقدِّم الخبر الصحيح على كلِّ ما يُدَّعَى من هذه المعارضات.
وهذا القدر إنما استقام لأئمة الحديث لأنهم أعرفُ به وبصحيحه، فعندهم من اليقين بصحتِه ما ليس عند غيرهم ممن لم يَعلَم منه ما علموه، وقد علموا من ضعف المعارض ما لم يعلمه غيرهم. ولهذا تجد غيرَهم يذكر أحاديث مستفيضةً متلقاةً بالقبول وأحاديثَ ضعيفةً أو موضوعةً، والجميع عنده من جنس واحدٍ، وهو خبر واحد، فيقبل هذا الجنس الذي فيه الحقُّ والباطل مطلقًا إذا وافق بعض أصولِه، ويخالفه إذا خالفَ بعض أصولِه، وهؤلاء لا يُدْعَون من أهلِ الحديث، بل هذا (2) من فعل أهل الأهواء والبدع، كما قال وكيع بن الجراح: مَن طلبَ الحديثَ كما جاءَ فهو صاحبُ سنةٍ، ومن طلبه ليُقوِّيَ به رأيَه فهو صاحبُ بدعةٍ (3). ويُروى عن وكيع وعبد الرحمن بن مهدي أو أحدهما قال: أهلُ العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهلُ الأهواء لا يكتبون إلّا ما لهم (4).
وهذا حقٌّ، فإن الذي يقبل من الحديث ما وافقَ رأيه وهواه بمنزلة
_________
(1) انظر نحوه عنه في صحيح ابن حبان (5/ 497) والمجموع للنووي (1/ 63) وإعلام الموقعين (2/ 361).
(2) في الأصل: “بل المردد على هذا”.
(3) أخرجه البخاري في جزء رفع اليدين (ص 125 – 121).
(4) أخرجه الهروي في ذم الكلام (2/ 270، 4/ 249) عن وكيع.

(الكتاب/87)


الذين {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور/ 47 – 52]، وبمنزلة {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} الآية [المائدة/ 41 – 42].
ولهذا كان طائفة من أهل الحديث لا يُحدِّثون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الأهواء، لأنهم لا يقبلونه على وجهه، بل يقبلون منه ما وافق آراءهم وأهواءهم، لموافقته لآرائهم وأهوائهم لا لكونه في نفسه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيصيرون بمنزلة أهل الكتاب والمنافقين الذين يقولون: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا}. وهؤلاء قد خيَّر الشارع عليه السلام بين الحكم بينهم وتركه، وقد يكون الترك أصلح، كما قد يكون الحكم أصلح.
وهذا حال جميع أهل الأهواء في الحديث، وهو حال كثير منهم في القرآن في المواضع التي يزعمون أنها لا تُقبل إلا بعقلهم، مثل مسائل

(الكتاب/88)


التوحيد والصفات والقدر ونحو ذلك مما يقع فيه خلائقُ من المتكلمة والمتصوفة، لا يرون أن يحتجوا بالقرآن للاعتماد بل للاعتضاد، ولهذا يقبلون الآيات الموافقة لظنونهم وأهوائهم التي يسمونها معقولات، ويجعلون الآيات المخالفة لهم من المتشابهات التي لا يجوز اتباعُها، ولهذا كان السلف يسمونهم أهلَ الأهواء.
وهو موجود أيضًا في غالب الخلق من العلماء والأمراء ومن دخل فيهم من المشايخ والملوك ونحوهم في كثير من أمور الدين القولية والعملية، وإن كانت مما يَسُوغ فيه الاجتهادُ. فإن من اعتقد قولًا أو عملًا وصار لا يُحِبُّ من نصوص الكتاب والسنة وأدلة الحق إلّا ما وافق هواه في ذلك القول والعمل، ويُبغِض الحقَّ الذي يخالفه، فهو صاحبُ هوى. وكذلك لو علم أن قوله وعمله أصحُّ، ولم يُعطِ منازِعَه ما يَستحقُّ من الحق، بل زادَ في ذمِّه على ما شرعَه الله ورسوله، كان صاحبَ هوى. وهذا هو أصل التفرق بن أهل الأرض قديمًا وحديثًا، فإن اتباع الهوى بعد ظهور الحق بَغْيٌ، قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة/ 4 – 5]. وهذه آية عظيمة في سورة عظيمة أمر الله رسوله أن يخص أبيًّا بتبليغها له وقراءتها عليه، ليستمعها ويتلقَّنها [و] هو مختص من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: “إن الله أمرني أن أقرأ عليك هذه السورة”، قال: أَوَ سُمِّيتُ؟ قال: نعم، فبكى أبيٌّ (1). فأخبر بتفرقهم وبما أُمِروا به بعد قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة/ 1 – 3].
_________
(1) أخرجه البخاري (3809) ومسلم (799) عن أنس.

(الكتاب/89)


وينبغي أن يتدبر المؤمن قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}، فإن الله أخبر أنه لم يأمر إلّا بهذا، وأن هذا هو دين القيمة، وهكذا في جميع الرسل، حتى إن خاتم الرسل أخبر أنه أُمِرَ بقتال الناس على هذا، فقال في الحديث المتفق عليه في الصحيحين (1): “أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة”، وفي رواية: “حتى يعبدوا الله وحدَه”. هذا تحقيق قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة/ 193]. ولهذا قال سبحانه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف/ 45]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء/ 25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل/ 36]. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات/ 56]. فأخبر سبحانه أنه خلق الخلق لعبادته، وأرسل جميع الرسل تأمرُ بعبادته وحده، وبذلك وُصِفَ المؤمنون الذين ظُلِمُوا، كقول مؤمن آل فرعون: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر/ 28]، وقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج/ 40].
وأمرَ خاتم الرسل مع دعوتِه جميعَ الناس إلى ذلك أن يُقاتلَ جميعَ الناس على ذلك، وأباحَ له ممن امتنع عن عبادة الله وحده أن يَسترِقَّه ويَستعبدَه ويَستَفيءَ ماله، فإن الله إنما خلقه لعبادته، وجعل المال عونًا
_________
(1) البخاري (25) ومسلم (22) عن ابن عمر.

(الكتاب/90)


على عبادته وطاعته، فإذا امتنع من عبادة ربه أباحَ أن يَفِيءَ المال إلى عباده المؤمنين الذين يعبدونه وحدَه، فإنهم (1) المستحقون لذلك في دينه الذي هو عبادته وحده، وأن يسترقُّوا تلك الأنفس، فإنَّ خدمتها لمن يعبد الله خيرٌ من معاندتها لهم.
فسبب الرقِّ الكفرُ (2)، وهو من العقوبات، والعقوبات لا تسقُطُ بمجرد التوبة بعد القدرة. ولهذا كان المحارب إذا أسلم قبل القدرة عليه (3) عُصِمَ دَمُه وما هو في سلطانه من ولدِه الصغار وماله، [و] كان حرًّا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأسير العقيلي لما قال: إني مسلم: “أما إنك لو قُلتها وأنت تملكُ أمرك أفلحتَ كلَّ الفلاح” (4). وإذا أسلم بعد القدرة عليه عُصِمَ دمُه فقط، لأن الإسلام هو المطلوب بالقتال، ولهذا من كانت ردَّتُه مجردةً فأسلم بعد القدرة عليه عُصِمَ أيضًا دمُه، لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله من عقوبة الكفر.
ولهذا لما كان الله تعالى إنما خلق [الخلقَ] لعبادته وحدَهُ لا شريك له، وبذلك بَعَث رُسُلَه وأنزل كُتُبَه، كان الخروج عن ذلك بالكلية – وهو الشرك – غيرَ مغفورٍ، كما قد بُيِّن في غير هذا الموضع، و [من] كان معه مثقال ذرَّةٍ من إيمان يخرجُ من النار.
والعبادة أصلُها عبادة القلب، وهي غاية الذلِّ بغاية الحبِّ، وذلك إنما يكون بشعورٍ في القلب وعلمٍ وإحساس وبإرادةٍ وقصدٍ واختيار،
_________
(1) في الأصل: “فانتم”.
(2) في الأصل: “فسبب الرق سببه الكفر”.
(3) في الأصل: “على”.
(4) أخرجه مسلم (1641) عن عمران بن حصين.

(الكتاب/91)


فالمستكبر عن عبادة الله تعالى ليس بمسلم، والمشرك الذي يعبده ويعبد غيرَه ليس بمسلم، والإسلام يُضادُّ الاستكبارَ والإشراك جميعًا. ومن المعلوم أن كلَّ من أعرض عن عبادة الله وحدَه فلا بُدَّ أن يهوَى قلبُه ويُحِبَّ شيئًا آخر، فإن العبد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أصدقُ الأسماءِ الحارثُ وهمَّام” (1) هو همَّامٌ، لا بدَّ له من نيَّةٍ، والهمَّةُ أولُ النية، فالهمَّةُ من “هَمَّ” مثل النية من “نَوَى”، وهي الفِعلة يُراد بها نوعٌ من الإرادة، ويُراد بها نفسُ الشيء المراد، إذ المصدرُ يُطلق على المفعول، فنفسُ المَنْوِيّ المقصود يقال له: نَوًى وقَصْد، كما يقال: هذه النَّوَى، للجهة التي يقصدُها المسافر. وكلُّ من لم يعبد الله وحده فإنما يعبدُ هواه أي ما يهواه، فإنه إذا كان همَّامًا مريدًا ولم يُرِد الله فلا بدَّ أن يريد غيره، وذلك هو هواهُ، والهوى يقال له المَهْوِيُّ المحبوب، كما يقال النوى والنية [و] القصدُ للمَنْوِيِّ المقصود، كما تقدم.

فلما كان كلُّ من لم يعبد الله فإنما يعبد هواه وما يهواه ويُحبُّه بنفسه قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان/ 43 – 44]، وقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية/ 23]. فأخبر أنه جعل إلهه الذي يعبده هو ما يهواه ويُحبُّه. ولهذا قال الفقهاء في صفة المشركين: يعبدون ما يستحسنون. وقد أشرنا إلى هذا المعنى في قولِ إبراهيم: {لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام/ 76].
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 345) وأبو داود (4950) عن أبي وهب الجشمي. وهو حديث صحيح.

(الكتاب/92)


ومن المعلوم أن الحيّ متى اتبعَ ما يهواه بلا علمٍ كان ضالًّا بمنزلة الذي يتحرَّك ويسيرُ لا يدري إلى أين، ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام/ 119]، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص/ 50]. فمن يُرِد الله بعلمه وقولِه فهو صاحبُ هُدًى، ومن أراده ولم يسلك الطريق التي شرعها فهو صاحب هوًى، ولهذا كانت سِيْما أهل البدع أنهم أهلُ الأهواء.

ولهذا كان الواجب أن يكون العملُ لله وأن يكون على السنة، وهذا مقصود الشهادتين: شهادةِ أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله، فإن عبادة الله وحدَه لا شريك له هو إخلاصُ الدينِ له، واتباعُ رسوله فيما بلَّغه عنه من الشريعة هو العمل بالسنة، وذلك هو العمل الصالح. ولهذا كان عمر بن الخطاب يدعو فيقول: اللهمَّ اجعلْ عملي كُلَّه صالحًا ولا تجعلْ لأحدٍ فيه شيئًا (1). وهذا تأويل قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف/ 110]. وقال الفضيل بن عياض في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود/ 7]، قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصُه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَلْ، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة (2). معنى أن يكون مما شرعَه الله، وهو
_________
(1) أخرجه أحمد في الزهد (ص 118).
(2) انظر حلية الأولياء (8/ 95) وتفسير البغوي (4/ 369). وذكره المؤلف في منهاج السنة (6/ 217) ومجموع الفتاوى (1/ 333، 7/ 495) وجامع الرسائل =

(الكتاب/93)


ما أمر به أمرَ إيجابٍ أو استحبابٍ، فإن أراد غيرَ الله لم يكن عابدًا لله، سواءٌ عبدَهما جميعًا أو عبدَ ما دونه فقط، كما ثبت في الصحيح (1) أن الله تعالى يقول: “أنا أغنى الشركاء، فمن عمل عملًا فأشْرَك فيه غيري فأنا منه بريءٌ، وهو كلُّه للذي أشرك”.
ومن عبدَه بما ليس من الواجب والمستحب الذي يُحبُّه لم يكن عملُه حسنًا ولا صالحًا ولا خيرًا، فإن كلَّ حسنٍ وكلَّ صالحٍ وكلَّ خيرٍ فالله يُحِبُّه ويأمرُ به ويشرعُه، وهو من شِرعتِه وسنتِه وسبيله ومنهاجِه، فما لم يكن من المشروع لم يكن من المحبوب ولا من الحسن، وإن كان قد يكون من المشروع ما يعتقد قومٌ أنه ليس منه، كما قد يكون في غيرِ المحبوب ما يعتقد قومٌ أنه منه. وإذا كان كذلك فما جعله الله سبحانَه في الإنسان من المحبة والبغضة لما يستعين به على المحبة المقصودة لنفسها، وهي عبادة الله وحده، مثل محبة الأكل والشرب والنكاح وبُغض المُؤذِيات = إن فعلَه بنية الاستعانة على ما خُلِقَ له كان داخلًا في عبادته، وكان له عليه الأجر، كما قال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: “إنك لن تُنفِقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلّا ازْددتَ بها درجةً ورفعةً، حتى اللقمة تَضعُها في فيّ امرأتك” (2). وقال: “نفقةُ المسلم على أهله يَحتسِبُها صدقةٌ” (3). بل نفقة المرء على نفسه وعيالِه أفضلُ من نفقتِه على من لا تلزمُه نفقتُه، لأن ذلك واجبٌ، وما تقرب العبادُ إلى الله بمثلِ أداءِ ما
_________
= (1/ 257، 2/ 226) وغيرها.
(1) أخرجه مسلم (2985) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري (56) ومسلم (1628) عن سعد.
(3) أخرجه البخاري (55) ومسلم (1002) عن أبي مسعود البدري.

(الكتاب/94)


افترض عليهم. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع من يَقُوتُ” (1). وقال: “خيرُ الصدقةِ ما كان عن ظهرِ غِنًى، وابدأْ بمن تَعُول” (2). وقال أيضًا: “يا ابنَ آدمَ، إنك إن تُنفِقِ الفضلَ خيرٌ لك، وإن تُمسِكِ الفضلَ شرٌّ لك، ولا تُلامُ على كَفافٍ” (3). و “اليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى، وابدأْ بمن تَعُول” (4). وكلُّ هذه الأحاديث في الصحاح. وقال: “دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينارٌ أعطيتَه لمسكينٍ، ودينارٌ أنفقتَه على أهلِك، أعظمها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلك” (5). وهذا حديث ثابتٌ أيضًا.
ولكن أكثر الناس يفعلون ذلك طبعًا وعادةً لا يبتغون به وجهَ الله تعالى، كما يفعلون في قضاء الديون من أثمان المبيعاتِ والقروضِ وغيرِ ذلك من المعاوضات والحقوق، وهذه كلها واجبات، فمن فعلها ابتغاءَ وجهِ الله كان له عليها من الأجر أعظمُ من أجرِ المتصدِّق نافلةً. لكن يتصدَّقُ أحدُهم بالشيء اليسير على المسكينِ وابنِ السبيل ونحوِ ذلك لوجهِ الله تعالى، فيجدُ طعمَ الإيمانِ والعبادةِ لله، ويُعطِي في هذه ألوفًا فلا يجِدُ في ذلك طعمَ الإيمانِ والعبادة، لأنه لم يُنفِقه ابتغاءَ وجهِ الله.
فمن هذا الوجه صار في عُرْفِهم أن هذه النفقات التي لا بُدَّ منها ليستْ عبادةً، وقد لا يَستشعرون إيجابَ الشارع لها، وإنما يَستشعر
_________
(1) أخرجه أحمد (2/ 161، 193، 195) وأبو داود (1692) عن عبد الله بن عمرو. وإسناده حسن.
(2) أخرجه البخاري (1426) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه مسلم (1036) عن أبي أمامة.
(4) أخرجه البخاري (1427) ومسلم (1034) عن حكيم بن حزام.
(5) أخرجه مسلم (995) عن أبي هريرة.

(الكتاب/95)


أحدُهم ما في تركِه من المضرة العاجلة، إما في نفسه وإما من جهة الخلق، فإنهم لا يتركون حقوقَهم، فهو يَفعلُها لرغبتهم ورَهْبتهم وللعادةِ التي هو عليها، وقد يفعلها محبةً للحقّ ورغبةً فيه من غيرِ أن يرجوَ أحدًا ولا يخافه، ومن غير أن يفعلها تعبُّدًا. وهذا حسنٌ لا بأس به، فإن مَن فعلَ الحسناتِ لأنها حسناتٌ نفعه ذلك، كما ينفعُ الحيوان أكلُه وشربُه، لكن لا يكون عبادةً لله. بخلاف من لا يفعله إلّا خوفًا من الخلق، فإن هذا مذموم.
ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجلُ يقاتِلُ شجاعةً ويُقاتِلُ حَمِيّةً ويُقاتِل ليُرِي مكانَه، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: “من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العُليا فهو في سبيل الله” (1). وهذا يكون في القتال باليد واللسان وإنفاقِ المال، وذلك كلُّه يكون جهادًا، لكن ما ليس في سبيل الله: منه ما لا يُعاقَب عليه المرءُ، ومنه ما يُعاقَبُ عليه.
والمقصود هنا أن هذه الأمور العادية المباحة تُفعَل لمحبة وهوًى وإرادةٍ، فإن كان ذلك يُستعان بها على عبادةِ الله كانت طاعةً وعبادةً، وإن كان ذلك لمجرد العادةِ والطبع على الوجهِ الحقِّ لم يكن ذلك معصيةً ولا إثمًا، وإن لم يَقصِدْ بها صاحبُها العبادةَ لله. فقولنا: “كل من لم يعبد الله ويُرِدْه (2) بعمله فلا بدَّ أن يعبد غيرَه ويعبدَ هواه”، ليس هو في هذه الأمور التي تُراد لمصلحة الجسد، وهي مشتركة بين المؤمن والكافر، وكلاهما يستعين بها على دينه، وقد يقال لها الأمور الدنيوية ومصالح الدنيا، وهي
_________
(1) أخرجه البخاري (7458) ومسلم (1904) عن أبي موسى الأشعري.
(2) في الأصل: “يريده”.

(الكتاب/96)


الدماء والأموال والأعراض التي خصَّها (1) النبي صلى الله عليه وسلم يومَ الحج الأكبر وقال: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا”، وقال: “لِيُبلِّغِ الشاهدُ الغائبَ”. وهذا الحديث من أشهر الأحاديث التي في الصحاح من حديث أبي بكرة وابن عباس وابن عمر (2). ويتبع ذلك الأبضاع ومنافع الأموال والأبشار، فإن هذه لا تخرج عن النفوس والأموال.
وإنما هو فيما يكون مرادَ القلب ومقصوده الذي ينتهي إليه قصدُه وإرادتُه، إذ هذه الأمور تُراد لغيرها، وهي تابعةٌ لمريدِها وخادمةٌ له، فذلك هو الدين، وقد أمر الله تعالى أن يكون الدين كله لله، وأمرَ بقتال الخلق حتى يكون الدين كلُّه لله، وهو نوعان: أقوالٌ من جنس الاعتقادات العلمية، وأفعالٌ تتضمن الإرادات العملية (3)، فهذانِ الصنفانِ يجب أن يكونا لله وحده، وأن يكونا مأخوذين عن رسولِ الله.
فإن الدين هو شهادة أن لا إله إلّا الله وشهادة أن محمدًا رسولُ الله، فمن قَصَدَ بالاعتقادات الدينية والأعمال الدينية غيرَ الله فهو مشرك في ذلك. والشركُ في هذه الأمة أخفَى من دبيب النمل، والناس كما قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف/ 106]، وإن كان شِركٌ دونَ شركٍ وكفرٌ دون كفرٍ، لكن نعلم من كان هكذا أنه ليس
_________
(1) في الأصل: “جعل”.
(2) حديث أبي بكرة أخرجه البخاري (1741) ومسلم (1679)، وحديث ابن عباس أخرجه البخاري (1739)، وحديث ابن عمر أخرجه البخاري (1742) ومسلم (66).
(3) في الأصل: “العلمية”.

(الكتاب/97)


دينُه كلُّه لله، بل بعضُه لغيرِ الله وإن زعَم (1) أن يكون دينه كلُّه لله، وأنّ ما لم يكن من دينِه لله فهو فيه متبعٌ هواه.

ولهذا كان أمر التوحيد وإخلاص الدين لله هو مقصود القرآن، وهو الذي يعظم أمره ويكثر ذكره، فإن العبد محتاجٌ إليه في كلّ وقتٍ وفي كلِّ شيء. والرياءُ والسُّمعة وإن كان فيه شركٌ كما جاء في الحديث: “من صلَّى يُرائي فقد أشرك، ومن صام يُرائي فقد أشرك” (2). وجاء أيضًا في الصحيح (3): “من سَمَّع سَمَّع الله به، ومن رَاآى رَاآى الله به”. فلا ريبَ أن المُرائي يكون عملُه حابطًا، فلا يُثابُ عليه، وشِركُه دونَ شِركِ الذي يَعتقدُ دينًا ويَقصِده لغير الله، فإن المرائي والمُسمِّع يَعلم من نفسه أنه إنما فعلَ وتقوَّلَ ليراه الناسُ ويسمعوا ذلك، فهو يفعل ذلك للرغبة إليهم والرهبة، وليس ذلك عنده دينًا ثابتًا وإلهًا يطمئن إليه، إلّا أن يكون ممن يَتألَّه بعضَ البشر، كعُبَّادِ فرعونَ والدجَّالِ وعُبَّادِ بعض المشايخ والملوكِ وغيرِهم، فهذا شركٌ عظيم، لكن لا يكون في مسلمٍ صحيح الإسلام، وإن كان قد وقع منه شيء كثيرٌ من المنتسبين إلى الإسلام. ولا ريب أن ذلك إذا وقع كان من أعظم الشرك، وهذا لا يفعله إلّا لمعبودِه لا يُرائي به غيرَه. وأما الرياء الذي يقع من منافقي هذه الأمة وذوى المرض في قلوبهم، فهو الذي قصدنا أنه لا يتخذ دينًا في الباطن وإن كان شركًا، وإنما الذي يتخذ دينًا ما يُحبُّه المرء وما يهواه ويَدِيُن به سِرًّا وعلانيةً،
_________
(1) في الأصل: “وعلى”.
(2) أخرجه أحمد (4/ 126) عن شداد بن أوس. وإسناده ضعيف.
(3) أخرجه البخاري (6499) ومسلم (2987) عن جندب بن عبد الله. وأخرجه مسلم (2986) عن ابن عباس.

(الكتاب/98)


فهذا إذا لم يقصد به وجه الله وطاعة رسوله كان ذلك اتباعًا لهواه، وكان خارجًا عن موجب الإسلام في هذا الموضع، وإن كان في موضعٍ آخر داخلًا فيه.
وبهذا يتبيَّن أن كثيرًا من الأحبار والرهبان والعلماء والعُبَّاد يأكلون أموالَ الناسِ بالباطل، ويَصدُّون عن سبيل الله، وأن العالم الذي يعتقد الاعتقادَ في المسائل الخبرية والعلمية والعابد الذي يتعبَّدُ لنفسه = إن لم يَسلُكا السبيلَ المشروعة وإلّا كان كلٌّ منهما متبعًا لهواه، فإن العالم يأمر وينهى ويُخبِر، والأمر والنهي يتضمن الحبَّ والإرادةَ والبغضَ والكراهةَ في نفسِ الدين، فإن لم يكن الحبُّ لله والبغضُ لله في الدين وإلّا كان هوًى وشركًا. والإخبار يتضمن الأمر باعتقاد الخبر.
ولهذا لمّا تنازع الناس: هل يُسمَّى الفقهاءُ ونحوُهم من أهل الأهواء؟ فجعلهم منهم طائفةٌ كأبي حامد الإسفراييني والقاضي أبي يعلى، وأبَتْ ذلك طائفةٌ كابن عقيل = كان التحقيق أن غالبهم لهم هوًى، لكن ليسوا من أهل الأهواءِ المطلقة المفارقة للسنة والجماعة.
فلهذا على المسلم أن يَتلقَّى ما جاءتْ به الرسلُ على وجهِه، فيُرِيد اللهَ بجميع ذلك، وإلّا وقعَ في بدعةٍ وشركٍ واتباع هوًى بلا ريب، وإن كان مخالفوه (1) أعظمَ منه في ذلك، فإنهم يكونون مفرّقين، والله تعالى إنما أمرهم أن يعبدوه مخلصين لله الدين، فكل ما دخل في الدين يجب أن يُخلَص لله لا لغيره، فيكون دينُ المرء كلُّه لله.
كما أن الدين في نفسه كاملٌ لا نقصَ فيه ولا تناقضَ كما بيناه، وأن
_________
(1) في الأصل: “مخالفه”.

(الكتاب/99)


نصوص الكتاب والسنة لا تحتاجُ إلى غيرها أصلًا كما ذكرناه أولًا، فإن ذكر أحدٌ قوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل/ 23] وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف/ 25] ونحو ذلك من العمومات والظواهر التي يُعلَم انتفاءُ المعنى الذي لم يُردْ منها بالحس والعقل، فنقول: هذا فيه طريقان:
من الناس من يقول: هي على ظاهرها، وظاهرُها عنده المعنى الصحيح المتفق عليه، ولهؤلاء مأخذان:
أحدهما: أن القرينة المتصلة باللفظ إذا كانت لفظيةً بيَّنتْ معناه، وكان ظاهرُه ما دلَّت عليه، قالوا: فكذلك القرينة المتصلة وإن لم تكن لفظية، فالحسُّ والظاهر والعقل الذي يُعلَم به أن المخاطب لم يُرِدْ بكلامه ما يخالفه عندهم قرينةٌ متصلة، إذ لا يَظُنُّ المستمعُ بالمخاطب أنه أراد ذلك. ومن المعلوم أن فهم الخطاب لا بدَّ فيه من علم المخاطَب والمخاطِب جميعًا، فكما أن عِلْمَ المخاطَب المستمع أنّ المخاطِب المتكلم لا يُريد بلفظه إلّا مفهومَه ومعناه يُوجِبُ (1) أن لا يحمله على غيرِه، فكذلك عِلْمُ المخاطِب المتكلم أن المخاطَب المستمعَ لا يفهم أنه أراد ما يخالف حِسَّه وعقلَه قرينةٌ وضميمةٌ يضمُّها إلى كلامه.
والمأخذ الثاني: أن لفظ “كلّ شيء” هو للعموم في كلّ موضع بحسبِ سياقِه، وهذه قرينة متصلة، ولهذا قالوا: هذا اللفظ ليس على عمومه المطلق إلّا في قوله: {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة/ 231] مما يَصلُح أن يعلم، و {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام/ 102] مما يصلح أن يُخلق، و {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف/ 25] مما يَصلُح أن تدمّر، {وَأُوتِيَتْ
_________
(1) في الأصل: “فوجب”.

(الكتاب/100)


مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل/ 23] مما يَصلُح أن يؤتاه مثلها. فهذه القيود عندهم معلومة في هذا اللفظ بالسياق، وهذه (1) حقيقة عرفية في هذا اللفظ لم تُستعمل إلّا فيه. قالوا: ولم نجدْه (2) مستعملًا لمطلقٍ قطُّ إلّا أن السياق اقتضى ذلك.
وأما الطريق الثاني: أن يُسلَّم أن ظاهر هذه الألفاظ هو المعنى الذي يمتنع إرادتُه، لكن يقال: قد بيَّنَ الله بخطابٍ آخر أنه لم يُرِد المعنى الممتنع، فقد بيَّن بما ذكره من قصة سليمان أنها لم تُؤتَ ملكَ سليمان ونحو ذلك، وبيَّن في القصة أنها كانت ملكة سبأ، وللملوك حدٌّ لا يتجاوزونه، فيُعلَم بهذا الخطاب أنها لم تملك السماوات ونحوها. وكذلك {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} مع ما أخبر به. وإذا كان في القرآن ما يبيِّن عدَم إرادةِ الظاهر كان هذا من بيان الله ورسوله، ولم يكن الله ورسولُه تركَ بيانَ كلامه، فأما إذا كان الظاهر ممتنعًا ولم يُبيِّن الله ورسوله عدمَ إرادتِه، فهذا الذي (3) من ادعاه فليُظهِرْه ليُنظَر فيه.

فصل
وأما قوله: “قابلةٌ للتأويل”، فيجب أن يُعلَم معنى التأويل الذي ليس فيه نزاعٌ بين أحدٍ من عُقلاءِ الآدميين، لا من المسلمين ولا من غيرهم، وهو أن تأويل كلام المتكلم الذي هو تفسيره وبيان المراد به، سواء كان مصروفًا عن ظاهره أو لم يكن، إنما هو بيانُ مرادِه ومقصودِه وإظهارُ معناه ومغزاه، فإذا قيل: نتأوَّل هذه الآيةَ أو هذا الحديثَ أو غير ذلك من
_________
(1) في الأصل: “هذا”.
(2) في الأصل: “يجده”.
(3) في الأصل: “الذين”.

(الكتاب/101)


كلام سائر المتكلمين، فمعناه أنا نُبيِّن مُراده بهذا الكلام وإن كان مخالفًا للظاهر، لكن لا خلاف أنه بيان مرادِ المتكلم. فإذا عُلِمَ أن المتكلم لم يُرِدْ هذا المعنى، وأنه يمتنع أن يريد هذا المعنى، أو أنّ في صفاته ما علمنا معه أنّ هذا المعنى لا يليق به، ويستحيلُ عليه في العادة أو في غيرها أن يُريده = لم يَصلُح أن يكون ذلك تأويلَ كلامه، وإن كان لنا أدلَّةٌ نعلم بها أن بعض المعاني الفاسدة التي تظهر لبعض (1) الناس غيرُ مرادةٍ حتى نقول: ما ظهر لهذا المخطئ غيرُ مرادٍ، فلأن يكون لنا أدلة نعلم بها أنَّ ما تأوَّله عليه المتأوِّل المخطئ غيرُ مرادٍ أولى وأَحْرى. فليس للرجل كلُّ ما ساغ في اللغة لبعض الشعراء والأعراب أو العامة أن يحمل عليه كلام الله وكلام رسوله، إلّا إذا كان ذلك غير مخالفٍ لما عُلِمَ من نَعْتِ الله ورسوله، وكانت إرادة ذلك المعنى بذلك اللفظ مما يَصلُح أن يُنسَب إلى الله ورسوله.
فهذا أصل عظيم تجبُ معرفتُه، ومن اعتنَى به علمَ أن أكثرَ أو كثيرًا مما يدَّعيه المحرِّفون في التأويلات هو مما يُعلم به أن الرسول لا يَصلُح أن يُريدَه بذلك الكلام، وإن كان ذلك مما يسُوغُ في اللغة لبعض العوامِّ، وفيما يدَّعَى من التأويل مواضعُ كثيرة لا تسوغُ في اللغة. فلا بدَّ أن يكون المعنى الذي يَصرِفُ إليه المتأوِّلُ الخطابَ مما يسُوغ في اللغة ويَسُوغ إضافتُه إلى الشارع صاحب الخطاب عند أهل العلم وأولي الألباب.
ولهذا كان المصنِّفون في إبطال التأويلات إذا كشفوها تبيَّنَ بطلانُها بأدنى نظرٍ، وقد فصلنا بطلانَ التأويل الذي ذكره مثل علو العظمة، وذكرنا أيضًا الاستيلاء. ومن نظر باقي التأويلات المخالفة للدلالة
_________
(1) في الأصل: “لبعد”.

(الكتاب/102)


الظاهرة رأى من العجائب ما يُضحِك عجبًا ويُبكِي خشيةً وهربًا، فانظر تأويلات القرامطة والفلاسفة والمعتزلة والرافضة ومن اتبعهم ومن اتبعَ بعض هؤلاء المتكلمين من متكلمة الجماعة وأهل الحديث ومتصوِّفتهم يرى ملحًا أُجاجًا أقبحَ من الأحاديث الموضوعة والمغازي المصنوعة، مثل ما يَحكيه السُّؤَّالُ في سيرة عنترةَ والبطّالِ من أنواع الكذب والمحال، وما يُدخِلونه في مغازي علي رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من أنوع الأحاديث التي هي عند من يَعلم صفةَ الحال من الأعاجيب، فهؤلاء في الرواية.
وكذلك المتأولون إذا رأيتَ ما يَصرِفون إليه الكلامَ من المعاني، وما يُقدِّرونه لذلك من المباني، وما يَحمِلون عليه أحسنَ الكلام المتشابهِ المثاني = تجدُ من أنواع الهُراء التي هي فوق مطلق الكذب والافتراء، ما يليقُ أن يُقْرَن بحكايات السُّؤَّال، ولو ذكره المَساخِرُ لمن يضحك منه لأخذوا به الأموال، لكن هو عند المؤمن بالله ورسوله مما يُعَدُّ صاحبُه من أهل الافتراء على الله ورسوله. وقد يكون العيبُ لهم والهجاءُ لهم من نوع الجهاد في سبيله، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت أن يهجو المشركين، وقال: “هو أَنْكأُ فيهم من وَخْزِ الإبَر” (1)، وقال: “اهْجُهم وهَاجِهمْ وجبريلُ معك” (2)، وقال: “اللهم أيِّدْهُ بروحِ القُدُسِ” (3)، وقال: “إنّ روحَ القُدُس معك ما دُمتَ تُنافِحُ عن رسول الله” (4). وفي
_________
(1) أخرج مسلم (2490) عن عائشة مرفوعًا بلفظ: “اهجوا قريشًا، فإنه أشدُّ عليها من رشقٍ بالنبل”.
(2) أخرجه البخاري (3213) ومسلم (2486) عن البراء بن عازب.
(3) أخرجه البخاري (453) ومسلم (2485) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه مسلم (2490) عن عائشة.

(الكتاب/103)


ذلك حيث يقول:
فإنَّ أبي ووالدَه وعِرْضِي … لِعِرْضِ محمدٍ منكم وِقاءُ (1)
وأكثرُ هذه التأويلات المخالفة لمذهب السلف وأهل الحديث تتضمن من عيب كلام الله ورسوله والطعن فيه ما هو من جنس الذين يَلمِزُون النبيَّ من المنافقين، لما فيها من دعوى أن ظاهرَ كلامه إفكٌ ومحالٌ وكفرٌ وضلالٌ، ثم صرفها إلى معانٍ يُعلم أن إرادتها بتلك الألفاظ من الفهاهة والعِيِّ وسبيل أهل الضلال والغَيِّ. فالمدافعةُ عن الله ورسوله من سبيل المؤمنين والمجاهدين، كما قال: “جاهدوا المشركين بألسنتكم وأيديكم وأموالكم” (2).
ومن ذلك بيانُ سخافةِ عقول هؤلاء المحرِّفين وكونهم من أهل الضلال المبين، كالذين ذمَّهم الله من الذين يحرِّفون الكلم عن مواضعه (3)، والذين لا يفقهون (4) ولا يتدبرون القول (5)، وشبَّههم بالأنعام (6) والحُمُر المستنفرة (7) والحمار الذي يحملُ الأسفار (8).
ولهذا كان المسلمون يعيبون ويطعنون على أصحاب مسيلمة
_________
(1) صحيح مسلم (2490) وسيرة ابن هشام (2/ 424).
(2) أخرجه أحمد (3/ 124، 153، 251) وأبو داود (2504) والنسائي (6/ 7) عن أنس. وهو حديث صحيح.
(3) في سورة النساء: 46 وسورة المائدة: 13.
(4) سورة المنافقين: 3، 7 وغيرها.
(5) سورة المؤمنين: 68 وسورة النساء: 82 وسورة محمد: 24.
(6) سورة الأعراف: 179 وسورة الفرقان: 44.
(7) سورة المدثر: 50.
(8) سورة الجمعة: 5.

(الكتاب/104)


الكذَّاب بما قَبِلوه من قرآنِه المفترى من دونِ الله، وإن كان قد زعم أنه شريكٌ لرسولِ الله في الرسالة. وما من أحدٍ خرج عن الكتاب والسنة إلّا وقد جَعَل مع الرسول كبيرًا له يُشرِكه معه في التصديق والطاعة، لا سيَّما الغالية من الجهمية والاتحادية والباطنية ونحوهم عند [هم] كلامُ سادتهم وكُبرائهم مُضاهٍ لكلام الله ورسوله، وكثيرًا ما يُقدِّمونه عليه ذوقًا ووجْدًا وحالًا واعتقادًا ومقالًا. ومنهم من يُفضِّلُه على كلام الله، حتى يقول: كلامُ الله يُوصِلُ إلى الجنة، وكلامُنا يُوصِل إلى الله تعالى. والقرآنُ للعوامِّ وكلامُنا للخواصّ. ويقول أحدهم: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي: هؤلاء غلمانٌ وأنت خُشْداش (1). وهذا بعينه قول مسيلمة الكذَّاب، إذ ادَّعى أنه أُوحي إليه وأنه نظيرٌ لمحمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء. وأما المقتصد منهم فلا يعتقدون ذلك، لكنه لازم لهم في مواضع كثيرة.
فليتدبّر المؤمن هذا الموضعَ، فإنه عظيم الفائدة، وذلك أن الذين كانوا مقرِّين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وفيهم نوع إيمانٍ به كان فيهم من يجعل له شريكًا في الطاعة، مثل ما كانوا يطيعون عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين وكبيرهم، وكان أهلُ المدينة قد عزَمُوا على عقْدِ الملك له قبل مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فلما ردَّ الله ذلك بالحقّ الذي بعث به رسوله شَرِقَ بذلك. ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم معسكرًا إلى أحد رجع ابنُ أُبيّ ورجع معه ثلثُ الناس. وكان يقوم في المسجد ويحُضُّ على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخباره معروفة.
وكان من المسلمين مَن يُطيعه في كثيرٍ من الأمور ويَقبل منه وإن لم
_________
(1) أصله “خواجه تاش” بمعنى خادم السيد، انظر سواء السبيل (ف. عبد الرحيم) ص 69.

(الكتاب/105)


يكن منافقًا محضًا، كما قال تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة/ 47]. ولهذا غضب له سعد بن عبادة في نوبة الإفك، وكان أيضًا في المؤمنين به مثلُ ذي الخُوَيصِرة التميمي رأس الخوارج والمبتدعين المفارقين للسنة والجماعة. ثم إنه في آخر عمره ادَّعى مسيلمةُ الكذاب أنه أُشرِك معه في الأمر، وأن كلاهما (1) رسول الله، وكان يُقيم الصلوات ويُقْرَأ عنده قرآنُه والقرآنُ الذي جاء به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وسيرتُه في الرِّدّة معروفة.
فمُسيلمة وأمثالُه نظيرٌ لكل من ادعى أنَّ له في الدين حكمًا مع الرسالة، إما في أصول الدين وإما في فروعِه، بحيث يُطاعُ كما يُطاعُ الرسولُ، سواء كان ذلك دعوى قياسٍ ونظرٍ أو ذوقٍ أو بَصَرٍ أو غير ذلك، وإن كان الواحد من هؤلاء يُشبِه مسيلمة من وجهٍ دون وجهٍ، ففيهم من هو أكذبُ منه، وفيهم من هو خيرٌ منه.
ومن قَرَنَ بالرسالةِ وآثارها طريقةً عقليةً أو ذوقيةً يناظرها بها فهو شبيهٌ بالذين قرَنوا ما جاءَ به مسيلمة بما جاء به محمد، فإن كلاهما في الحقيقة كذب، وإن اشتبه بالحق على خلق كثير، فقد اتبعَ مسليمةَ ألوفٌ مؤلفة، وما حاربَ المسلمين أحدٌ أعظم من (2) أصحابه، وكان قتالُه من أعظم فضائل الصدّيق الذي صدَّق الرسالةَ، للكذَّاب الذي قرنَها بما يقولُه.
ومن قرن بالرسالة رئاسةً دنيويةً بحيث يجعل طاعتها كطاعتِها، كما يفعل أتباعُ الملوك والرؤساءِ والأغنياء، ففيهم شَوْبٌ من المطيعين لابن
_________
(1) كذا في الأصل بالألف، وهو أسلوب المؤلف.
(2) في الأصل: “من أعظم”.

(الكتاب/106)


أبيّ، فإنه كان بمنزلة الملوك الرؤساء المُطاعين في أتباعِهم.
ومن اعترض على السنة والجماعة بنوع تأويلٍ: قياسٍ أو ذوقٍ أو تأويلٍ منه خالفَ به سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ففيه شَوْبٌ من الخوارج أتباعِ ذي الخُويصرة.
وإنما الحق أن يكون الدينُ كلُّه لله، وتكون كلمة الله هي العليا، والمبلِّغُ لكلمة الله الآمرُ بطاعةِ الله هم رُسُلُ الله الذين خُتِمُوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، ختمَ الله به النبوةَ والرسالةَ، فليس بعده نبي ولا رسولٌ. ومن أُطِيعَ من الأمراء والملوك والمشايخ فلأنهم يأمرون بما أمر الله به ورسولُه طاعةَ متابعةٍ واتباعٍ، لا طاعةَ مشاركةٍ وابتداع. فهذا هذا، والله أعلم.

فصل
وأما الوجهُ الثالث: فقوله: “قد تأوَّل السلفُ كثيرًا منها ومن الآياتِ، وأذِن لنا في التأويل ابنُ عباسٍ، وهو حَبْر هذه الأمةِ وترجمانُ القرآنِ في غير ما آيةٍ في هذا الباب، قال: إذا خفيَ عليكم شيء من القرآن فابتغُوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، وقال في قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم/ 42]: أما سمعتم قولَ العرب: قامتِ الحربُ على ساق” (1).

فالجواب من وجوهٍ:
أحدها: إن كان المرادُ بالسلف الصحابةَ فهذا النقلُ عنهم باطلٌ، لم يتأوَّلْ أحدٌ قَطُّ من الصحابة شيئًا من آيات القرآن التي ظاهرُها أنها صفةٌ لله
_________
(1) سبق التعليق عليه في أول الكتاب.

(الكتاب/107)


تعالى. ولقد بحثتُ عن هذا الباب وكشفتُه، وطالعتُ التفاسير المنقولة عن الصحابة نقلًا صحيحًا، فلم أجدْ عن أحدٍ من الصحابةِ أنه تأوَّلَ آيةً واحدةً من الآيات التي ظاهرُها صفةٌ على نفْيِ الصفة، بل وجدتُ عنهم من الآثار التي تُقَرِّرُ النصوصَ وتُثبِتُ الصفاتِ وتُصرِّحُ بمنافاةِ قولِ المتأوِّلين والمعطِّلين ما لا يتسع هذا الموضع لكتابته، ولا يَحضُرني تفاصيلُ ذلك، وليست الكتبُ عندي، وكتابةُ مثل هذا من الحفظ متعذر.
فهذا السؤال الذي أوردَه قد انقلبَ عليه، وهو من أعظم الحجج القطعية على صحة مذهب المثبتةِ للصفات المانعين عما يُضادُّها من التأويلات، إذ جميع الصحابة قد ثبتَ عنهم بأنواع الثابت من المنقولات إثباتُ صفة العُلُوِّ وغيرِها من الصفاتِ، بالنصوص الصريحة التي لا تحتمل خلافَ ذلك، ولم يُنقَل عن أحدٍ منهم تأويلٌ يخالف ذلك بما يخالف الظاهرَ. فالمتأوِّل بما يخالف الظاهرَ مع أنه مبتدعٌ لهذه التأويلات، فهي بدعةٌ مخالِفةٌ لإجماع السلف، لا بدعةٌ مسكوتٌ عنها.
ومع أنهم لم يتأوَّلوا ما ظاهرُه الصفةُ فلم أعلم عن الصحابة نزاعًا فيما يُقال: إنه من الصفات، إلّا في قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ}، فإن هذا مُتنازَعٌ فيها زمنَ الصحابة، فعن ابن عباس وطائفةٍ ما ذكره المعترض أن المراد به الكشفُ عن شدَّةٍ. وقد بَعُدَ عَهْدِي بالإسناد عن ابن عباسٍ هل هو متصلٌ أو منقطعٌ (1). وعن أبي سعيد الخدري وغيرِه جعله من الصفات، وفي الصحيحين (2) حديث أبي سعيد (3) وغيره.
_________
(1) في هامش الأصل: “صحح إسنادَه البيهقي، كذا في الدر”.
(2) البخاري (4919، 7439) ومسلم (183).
(3) في هامش الأصل: “أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد: =

(الكتاب/108)


وسببُ النزاع أنه ليس في ظاهر الآية ما يدلُّ على أنها من الصفات، لأنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ}، ولم يُضِفْ ذلك إلى الله بل نكَّرَه، ومعلومٌ أن هذا لا يدلُّ بنفسِه على أنه صفةٌ لله، بخلاف ما أضيفَ إليه، ولهذا تنازعَ فيه الصحابةُ، فمن أثبته احتجَّ بحديثِ أبي سعيد المتفق عليه في الصحيحين، وقال أيضًا: فرقٌ بين أن يُقال: كُشِفَ الشيءُ وأن يقال: كَشَفتُ عنه، فإن الشدَّة يقال فيها: كشَفَها الله أي أزالها، كما قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} إلى قوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ} [الأعراف/ 134 – 135]، وقال تعالى في حق أيوب: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ}، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس/ 23]، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام/ 40 – 41]، وقال تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون/ 75].
قالوا: فالشدَّة يقال فيها كشفَها، ولا يقال: كشفَ عنه. وأما الكشف عن الشيء فهو إظهاره وإبرازه، كما يُكشَف العذاب عن الناس، فالعذاب نفسه مكشوف، وأما الناس فهم مكشوفٌ عنهم لظهورهم وبروزهم بعد زوال العذاب عنهم.
وإن كان المراد بقوله “السلف” التابعين فلا أعلم أحدًا من التابعين
_________
= سمعتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: يكشف ربُّنا عن ساقِه … الحديث”. وهذا من أحد القراء نقلًا عن الدر المنثور (14/ 642).

(الكتاب/109)


تأوَّل شيئًا من النصوص التي ظاهرها الصفة، بل القول فيهم كالقول في الصحابة، إلّا أن دعوى الإحاطة بكلامهم أصعب، وعامة الأئمة والمفسرين على إثبات الصفات كما تقدَّم عن الصحابة، والنقول بذلك عنهم كثيرة لا تنحصر، وبينهم نزاعٌ في الساق كما تقدم. وقد نُقِلَ عن مجاهد (1) في قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة/ 115] أي فثّمَّ قبلة الله، ومن قال ذلك منع أن يكون لفظ الوجه هنا ظاهرًا في الصفة، بل الوجه كالوجهة، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة/ 148]، ومن أثبت الصفة مع ذلك سلك طريقةً أخرى.
والمقصود هنا بيان أنه لا نسلِّم أن ظاهر الخطاب إذا كان صفةً لله تأوَّلها السلف.
وإن كان المراد بالسلف من كان في زمن الأئمة من أهل البدع مثل الجهم والجعد، أو من بعد هؤلاء مثل أبي الهذيل العلاف وطبقته وبِشر المريسي ونحوه، فهؤلاء الذين ابتدعوا هذه التأويلات، والكلام فيها معهم ومع أتباعهم.
الوجه الثاني: أنه لو ثبت عن بعض الصحابة أو التابعين تأويلٌ فهو مثل تنازعهم في تفسير الآيات وبعض الأحكام، فمن المعلوم أن الآية التي ذكر تأويلها عن ابن عباس قد نازعه فيها غيرُه، وقد قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء/ 59]. وليس قول بعض الصحابة حجةً على بعض.
_________
(1) أخرجه عنه الترمذي (2958). والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 13).

(الكتاب/110)


الوجه الثالث: أن المنقول عن الصحابة والتابعين من إثبات الصفات وتقرير النصوص الدالة عليها لا يُحصِيه إلّا الله، فكيف يُترك المنقولُ بالتواتر ويُدَّعَى ما لا حقيقةَ له أو يُحتجُّ بموردِ النزاع؟

الوجه الرابع: أن نقله عن ابن عباسٍ أنه تأوَّل غيرَ ما آيةٍ لا أصل له، بل المحفوظ عن ابن عباس في تقرير النصوص الدالة على الصفات وإثبات الصفات أكثرُ من المحفوظ عن غيرِه (1) من الصحابة، ولستَ تجد في هذا الباب شيئًا أكثر من المنقول عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ وأصحابهما، وهم أعلم الناس بالتفسير وتأويل القرآن.
الوجه الخامس: أن نقله عن السلف أنهم تأولوا الأحاديث فهذا أغرب، هل يَقدِرُ أحدٌ قطُّ أن ينقل عن أحدٍ من الصحابة والتابعين أنه تأول شيئًا من أحاديث الصفات؟ بل هم الذين كانوا يروونها ويُحدِّثون بها من غير تحريفٍ لمعناها ولا ذكرٍ لتأويلٍ فيها، وعنهم أخذها تابعو التابعين، ولما صار الناس في زمن تابعي التابعين يسألون عنها علماءَ ذلك الزمن من صغارِ التابعين مثل الزهري ومكحول، وتابعيهم مثل الأوزاعي ومالك وغيرهما، أمرُّوها كما جاءتْ، ولم ينقلوا عن أحدٍ من التابعين تأويلًا لها أصلًا، بل المنقول عنهم كما قال الأوزاعي: “كنّا والتابعون متوافرون نقول: إن الله فوقَ عرشِه، ونؤمن بما وردتْ به السنةُ من صفاته” (2). فهذا نَقْله لِما كان زمنَ التابعين، وهو الإيمان بالصفات، ولم يُرِدْ بذلك الإيمانَ بمجرد حروفها، فإن هذا لم يتغير، وقد سماها صفاتٍ، ولو كانت متأولةً لم تكن صفاتٍ. ولهذا لا يُسمِّيها محققو أهل
_________
(1) في الأصل: “غيرهم”.
(2) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (ص 408).

(الكتاب/111)


التأويل أحاديثَ صفات، بل يقولون: أحاديث الإضافات، كما يقول ابن عقيل وطائفة معه، أو يقولون: مشكل الحديث أو متشابهه. وأما قول الأوزاعي: كنّا نؤمن ما وردت به السنة من صفاته (1).

الوجه السابع (2): أن نقله عن ابن عباس “إذا خفي عليكم شيءٌ من القرآن فابْتغُوه في الشعر” لا يدلُّ على مورد النزاع، فإن هذه الآياتِ والأحاديثَ المفهومَ معناها الظاهرَ مدلولُها لم يَخْفَ علينا حتى نطلبه من الشعر، وإنما قال ذلك في الألفاظ الغريبة المتداولة، مثل قَسْورة وضِيْزَى ونحو ذلك من الألفاظ الغريبة. ولهذا رُوي أن نافع بن الأزرق كان يسأل ابنَ عباسٍ عن شيء من غريب القرآن، فيُجيبه عنه ويستدلُّ لمعناه بما يرويه من الشعر (3)، فأين الاستدلالُ بالشعر على اللفظ الذي لا ظاهرَ له ولا يُفهم له معنًى من الاستدلالِ به على صرفِ النصوص عن مدلولها ومعناها؟ ينبغي لمن تكلم أن يَعقِل ما يقول ثمَّ يتكلم، فبمثل هذه الاستدلالات وقع التحريفُ في الكتاب والسنة، فلا حول ولا قوةَ إلّا بالله.
الوجه الثامن: أن هذه المسألة فيها نزاعٌ، وهو التمثُّلُ للقرآن ببيتٍ من الشعر وتفسيرُه بمجردِ اللغة، وفيه روايتان عن أحمد، إحداهما جواز ذلك لما تقدم، والثانية المنع من ذلك، لما تقدم من أن الصحابة
_________
(1) لعلَّ هنا سقطًا ذهب بتتمة الكلام والوجه السادس.
(2) في هامش الأصل: “كذا في الأصل، لم يذكر الوجه السادس”.
(3) تُعرف بمسائل نافع بن الأزرق عن ابن عباس، وقد أخرجها الطبراني في المعجم الكبير (10/ 248 – 256) وغيره. وأوردها السيوطي في الإتقان (2/ 55 – 88) نقلًا عن الطستي، وفرَّقها في الدر المنثور بروايته. ولا يصح إسنادها.

(الكتاب/112)


والتابعين نقلوا معاني القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا حاجةَ إلى أخذ معانيه من أحدٍ، ومن قال هذا طالبَ بصحة النقل عن ابن عباسٍ، أو حملَ هذا على الصورة التي يتعذَّرُ فيها النقلُ عن الصحابة. وهذا قريب، ولهذا قال: “إذا خفي عليكم”، وإنما يخفى عليهم إذا لم يكن منقولًا عن الصحابة والتابعين.
الوجه التاسع: أن نقول لهم: إن كان قول الصحابي في التفسير حجةً فعن الصحابة من التفسير المُثبِت للصفات المُبطِل لتأويلات الجهمية ما لا يعلمه إلا الله، وإن لم يكن مقبولًا فلا حجةَ لكم في قولكم عن ابن عباس هذا، فعلى التقديرين حجتكم باطلة، والتفسير المنقول عنهم في إثبات الصفات منصوص في موارد النزاع.

فصل

وأما الوجه الرابع – وهو قوله: “عارضتْها الأدلةُ القطعية” – فجوابُه من وجوه:
أحدها: أن المثبتة لا تُسلِّم أن موجب النصوص عارضَها دليلٌ قطعيٌّ قطُّ، وكل ما يقال إنه قطعي تبيَّنَ أنه ليس بدليل أصلًا، فضلًا عن أن يقال: إنه قطعي، وكان الواجب عليه بيان هذا الدليل القطعي. بل المثبتةُ تقول: الأدلة العقلية القطعية تُبطِل مذاهبَ المعطِّلةِ النفاة، فهم يمنعون صحة الأدلة العقلية التي احتج بها النفاة، ويعارضون بأدلتهم العقلية التي هي أثبت وأقوى، بل يُثبِتون فسادَ حجةِ النفاة بالعقل الصريح وصحةَ قولهم بالعقل الصريح.
الوجه الثاني أن يقال: من المعلوم أن الدليل القطعي مبنيٌّ على مقدمتين، إحداهما أن موجب الصفات مستلزم للتجسيم والتشبيه،

(الكتاب/113)


والتجسيمُ والتشبيه منتفٍ، فيجب نفيُ موجبِها ويتعيَّن تأويلُها. وإذا كان هذا أُجِيبَ عنه بالاستفسار المتضمن لمنع إحدى المقدمتين، وهو أن يقال: إن كان التجسيم الذي تَعنيه قد دلَّتْ عليه النصوصُ فلا نُسلِّم انتفاءَه، وإن لم تكن دلَّتْ على منع المقدمة الأولى.
وحقيقة الجواب أن ما هو مدلولُها لم يَنفِه العقلُ، والذي نفاه العقلُ ليس مدلولها، وإنما وقعت الشبهةُ في الاشتراك والإجمالِ الواقع في لفظ التجسيم، واشتباهِ ما لا ينفيه العقلُ بما يَنفِيه، وذلك أن في لفظ التجسيم تنازعًا كثيرًا بين الناس قد بسطنا القول فيه في “قاعدة التعطيل والتجسيم”، ورُبَّما نذكرها إن شاء الله تعالى.
ولكن نذكر هنا التنبيهَ على النكتة، فإن المُثبِتَ لمدلول النصوص والصفات لله تعالى يقول للنافي: قولك “ظاهرها التجسيمُ” أتريدُ به أن الله جسمٌ من جنس الأجسام المخلوقة، بحيث يكون من جنس البشر لحمًا ودمًا وعصبًا وعظمًا، كما يُذكر هذا عن بعض المشبِّهة، أو من غير جنس البشر من السماوات أو الأرض أو الملائكة أو الجن أو غير ذلك من المخلوقات؟ إن أردتَ به أن هذا ظاهرها – وهذا منتفٍ – أصبتَ في قولِك: “هذا منتفٍ”، وهو المقدمة الثانية، وقولِك: “التجسيم منتفٍ، والله منزَّهٌ عن التجسيم”، وأخطأتَ في قولك: “إن هذا ظاهرها”.
أما الأول فقد روي من وجوهٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قومًا من المشركين من أهل الكتاب سألوه عن ربه ومعبوده الذي يدعو إليه ممّا هو؟ من ذهبٍ أو فضةٍ أو كذا أو كذا، وسَمَّوا ما سَمَّوا من أجناس الأجسام، فأنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص/ 1]، وأنزلَ: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ

(الكتاب/114)


الْمِحَالِ} [الرعد/ 13]، وأصابتْه صاعقةٌ فأذهبتْ بقِحْفِ رأسِه (1). فأهلك الله تعالى من سأل عن مجانسته المخلوقات. وهو من جنس سؤال فرعون {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء/ 23]، فإنه لا يمكن أن يذكر أن الله تعالى أو شيئًا من المخلوقات يشتركان في الحقيقة الجنسية، كاشتراك الإنسان وسائر الحيوان في الحيوانية، أو كاشتراك الحيوان والنبات في النموّ والاغتذاء، ولا كاشتراك الأجسام النامية والجامدة فيما تتجانس فيه. ومن سأل عن ذلك فهو كمن سأل عن نسبِه وقال: مَن أبوه ومَن ابنُه؟
ولهذا أنزل الله تعالى سورة الإخلاص التي هي نسبتُه وصفتُه، فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، فنزَّهه وقدَّسه عن الأصول والفروع والنُّظَراء والأمثالِ. وليس في المخلوقات شيءٌ إلا ولا بدَّ أن يُنسَب إلى بعض هذه من الأعيان والمعاني، فالحيوان من الآدمي وغيرِه لا بدَّ أن يكون له إما والدٌ وإما مولودٌ وإما نظيرٌ هو كفؤه، وكذلك الجن والملائكة، ولهذا قال سبحانه: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات/ 49]، قال بعض السلف: لعلكم تذكَّرون فتعلمون أن خالق الأزواج واحدٌ.
وقال تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالوَتْرِ} [الفجر/ 3]، قال مجاهد: كل شيء خلقه فهو شفع، السماءُ شفعٌ والأرض شفع، والوتر الله تعالى. وهذا هو
_________
(1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (11259) والبزار كما في كشف الأستار (2221) وأبو يعلى (3341، 3342، 3468) والطبري في تفسيره (13/ 480) وغيرهم عن أنس بن مالك.

(الكتاب/115)


الذي ذكره البخاري في صحيحه (1)، فإنهم يعتمدون على تفسير مجاهد لأنه أصح التفسير، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسْبُك به (2). وهذا القول اختيار جدِّي أبي البركات رحمه الله في هذه الآية.
ولهذا قال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)} [الأعلى/ 1 – 2]، والتسوية: التعديل، والتعديل لا يكون إلّا بين شيئين متناظرين متشابهينِ. فالمخلوقات لا بد فيها من التشابه والتماثل المقتضي التسوية والتعديل. والله تعالى لا عِدْلَ له، {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام/ 1]، ولا يستوي هو وغيرُه. ولكن كما قال الله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء/ 94 – 98]. ولا سَمِيَّ له، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم/ 65]. ولا نِدَّ له، كما قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة/ 22]. ولا شريك له، لا في ربوبيته، بل هو خالق كل شيء وربُّه، ولا في ألوهيته، بل لا إله إلا هو وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ولا كفؤَ له، كما قال: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. ولا مثلَ له، كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى/ 11].
ومما يجب أن يُعلَم ويُضَمَّ إلى ما ذكرناه قبلُ: أن نفيَ المِثْلِ عنه والسَّمِيِّ والمساوي يقتضي نفي ذلك في كل شيء، فلا يماثلُه شيء من المخلوقات في شيء من الأشياء قطُّ، لا في شيء من معاني أسمائهِ
_________
(1) في تفسير سورة الفجر.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 85)، وذكره المؤلف في مجموع الفتاوى (13/ 332، 369، 15/ 201).

(الكتاب/116)


وصفاته، ولا في شيء من أفعاله ومخلوقاته، ولهذا قال تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء/ 91 – 98]. فأخبر سبحانه أنه يُكبكَبُ في جهنم المعبودون من دون الله هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون، وأنهم يقولون لما دعوه من دون الله: لقد كنا في ضلالٍ مبين إذ نسويكم برب العالمين. ومعلومٌ أنهم لم يجعلوهم مساوينَ له في كل شيء، فإن أحدًا من الخلق لم يقل: إن العالم صدَرَ عن خالقينِ متكافئينِ في الصفات والأفعال، وإنما تسويتُهم إياهم بالله أنهم عبدوهم كما عبدوهُ، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة/ 165]، فجعلوهم مثله في العبادة، وهذه تسوية.
وفي الصحيحين (1) عن عبد الله بن مسعود قلت: يا رسول الله، أيُّ الذنب أعظمُ؟ قال: “أن تجعلَ لله نِدًّا وهو خلقك”، قلت: ثمَّ أيٌّ؟ قال: “أن تزني بحليلةِ جارِك”.
فعُلِم أن الله تعالى لا يجوز أن يُساوَى بغيرِه في شيء من الأشياء. ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام/ 1] أي يجعلون له عِدْلًا، والعدل: المثل. وقد قدَّمنا أن المعادلة في كل شيء لم يفعلها أحدٌ، فعُلِمَ أن من جَعل له عِدْلًا في شيء من الأشياء فقد عدل بربه.
_________
(1) البخاري (4477) ومسلم (86).

(الكتاب/117)


وكذلك قوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة/ 22]، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} [البقرة/ 165]. والندُّ: المُنادُّ المُناوِئ، ومن المعلوم أن أحدًا لم يجعل لله من يُكافئه في كل شيء، ولكن في بعض الأشياء دون بعضٍ، فعُلِمَ أن الله لا يكون له نِدٌّ في شيء من الأشياء.
ولهذا لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يقول: ما شاءَ الله وشِئتَ، فقال: “أجعلتَني لله ندًّا؟ قُلْ: ما شاءَ الله وحدَه” (1). وفى السنن (2) أن رجلًا رأى يهوديًّا يُعيِّرُ المسلمين يقول: نِعْمَ القومُ أنتم لولا أنكم تُندِّدون! تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: “قولوا: ما شاء الله ثمَّ شاء محمد”.
فمن جعل لشيء من صفاتِه من علمِه أو قدرتِه أو حياتِه أو سمعِه أو بصرِه أو رضاه أو غضبِه أو رحمتِه أو خَلْقِه بيديْه أو إتيانِه أو مجيئِه أو استوائه أو نزوله أو غير ذلك عِدْلًا أو مِثْلًا مما يُوجد في المخلوقين فقد سَوَّاه بربِّ العالمين في ذلك، وجعلَ له عِدْلًا في ذلك، كما أن المشركين إنما جعلوا له عِدْلًا ونِدًّا ومساويًا في بعض الأمور.
ولهذا قال الإمام أحمد في رواية حنبل: المشبِّه الذي يقول: بصرٌ كبصري ويدٌ كيدي وقدمٌ كقدمي، ومن قال ذلك فقد شبَّهَ الله بخلقِه، ومن قال هذا فهو ممثِّلٌ بربِّه عادلٌ به مُسوٍّ به، ولو جعل أحدهما أكبر من
_________
(1) أخرجه أحمد (1/ 214، 224، 283، 347) والبخاري في الأدب المفرد (783) وابن ماجه (2117) عن ابن عباس. وهو حديث صحيح.
(2) أخرجه أحمد (5/ 393) وابن ماجه (2118) عن حذيفة بن اليمان. وهو حديث صحيح.

(الكتاب/118)


الآخر. فلو جعل صفاته مثل صفاتِ خلقه في الجنس وجعلها أعظم في القدر، مثل أن يجعل بصره من جنس بصر العبد لكنه أعظم منه، كما يُحكى عمن قال من المشبِّهة: إنه على صورة الإنسان لحمٌ ودمٌ، ولكنه عظيم القدر كبير الجُثَّةِ، فهؤلاء قد سَوَّوا برب العالمين في حقيقته وعدَلوا به.
كما قدمنا أن المنفيَّ بالنصوص والذي ذمَّ الله به العالمين هو التسوية والعدلُ به ولو في بعض الأمور، وذكرنا أن الذين سألوا عن جنسه من المخلوقات بيَّن الله لهم أنه لا كفؤَ له، فبيَّن انتفاء المكافأة في شيء من الأشياء، لأن الاشتراك في الجنس والحقيقة تكافؤٌ (1) في ذلك، وهو نفَى الكفؤَ مطلقًا. فالماء القليل من جنس الماء الكثير كفؤٌ له في ذلك، وكذلك سائر الأجسام المتجانسة المتماثلة في الحقيقة، وإن تفاوتت في المقدار.
وانتفاء هذا كما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنة [ووردتْ] (2) أخبارٌ بذلك، فقد بيَّن الله تعالى أن انتفاءَ ذلك معلومٌ بالعقل أيضًا في مثل قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم/ 65] وغير ذلك، فإنا نعلم بعقلنا أنه لا سَمِيَّ له ولا عِدْلَ ولا كُفُؤَ ولا نِدَّ في شيء من الأشياء، وذلك أن المتماثلينِ في الحقيقةِ وإن تفاوتا في المقدار كالماءين والترابين والعظمين واللحمين [و] (3) غيرِ ذلك من الأجسام لا بدَّ أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما
_________
(1) في الأصل: “تكافى”.
(2) زيادة ليستقيم السياق.
(3) في الأصل: “عن”.

(الكتاب/119)


يمتنع عليه. وهذا حدُّ المِثلين عند أهل النظر، وهو أنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع على الآخر، ويجب له ما يجب له.
وقد يُعبِّرون عنه بعبارة أخرى: هو ما سَدَّ أحدُهما مَسَدَّ الآخرِ وقامَ مقامَه. والعبارتان تؤديان إلى حقيقةٍ واحدةٍ، فإن الماء يَسُدُّ مَسَدَّ الماء في الحقيقة، وكذلك التراب، وكذلك العظم واللحم ونحو ذلك، ويشتركان في الواجب والجائز والممتنع في الحقيقة. فلو كان في المخلوقات ما هو عِدْلٌ أو مِثْلٌ للبارئ في الحقيقة والصفات – وإن كان أصغَر منه في القدر- لجازَ على البارئ، ما يجوز عليه من العدم والفقر إلى الصانع والحدوثِ، وأنه بنفسِه ممكنٌ مفتقرٌ إلى من يُوجِدُه ويُوجِب له ما يجب للبارئ من القدم والقيام بنفسه والاستغناءِ عن خالقٍ والصمديةِ، ولجاز عليه ما يجوز على من خلق الخلقَ وأبدعَ العالم، وامتنعَ على العبد من العدم والموتِ والحاجةِ ما يمتنع عليه. فيلزمُ أن يُوصفَ كلٌّ منهما بالصفات التي لحقيقة الآخر. وهذا مع أنه محالٌ في حقِّ الرب أن يكون موصوفًا بالصفات التي لحقيقة العبد، ومحالٌ في حقّ العبد أن يكون موصوفًا بصفات حقيقة الرب، فإنه متناقض إذا فُرِض تماثلُهما وتساويْهما في الصفات مع كون أحدهما خالقَ الآخر، فيجب أن يكون كلٌّ منهما خالقًا مخلوقًا، فيجب أن يكون الخالقُ قد خلق [خالقَ] نفسه إذ كان مثله، وخَلْقُه لنفسه محالٌ، فكيف بخالق نفسه؟ ويجب أن يكون الخالقُ مخلوقًا لمخلوقِه، وهو ممتنع عليه أن يكون مخلوقًا لنفسه، فكيف لمخلوقِهِ؟
وهذا هو السؤال الذي يُقال: إن بعض ملوك الهند أورده على بعض

(الكتاب/120)


متكلمة المسلمين في إمارة هارون، فقال: هل يستطيعُ ربُّك أن يخلُق مثل نفسِه؟ إن قلتَ: نعم فقد جعلتَ له مثلًا، وإن قلتَ: لا فقد عجَّزتَه، فقال له: هذه المسألة ممتنعة مستحيلة في نفسها، وإذا كانت في نفسها ممتنعةً لم يكن جوابها إلا كذلك، لأنك إذا قلتَ: خلقَ مثلَ نفسه فقد فرضتَ مِثلين أحدهما خالقُ الآخر، ولو كان مثله لم يكن مخلوقًا له ولا كان الآخر خالقًا له، فإن التماثلَ يمنعُ هذا الاختلاف ويُوجب التساوي في القدم والحدوث. فبُهِتَ الذي كفر.
وهذا جوابٌ سديد، فإن السائل إذا فرضَ اجتماع ما يمنع اجتماعهما فقال: ماذا يكون على هذا التقدير؟
قيل له: لا يكون على هذا التقدير الممتنع المحالِ إلّا ما هو ممتنعٌ محالٌ، واجتماعُ متماثلين أحدهما خالقُ الآخرِ محالٌ في نفسه. كما يقال: لو فُرِضَ أن صانعَ (1) العالمِ موجودٌ معدومٌ أكان يصنعه أم لا؟ ولو فُرِض أنه خلق العالم ولم يُرِدْ أن يخلُقَه، أو خلقَه ولم يكن قادرًا على خلقه، أو خلقه ولم يعلمْ كيف يخلقُه، أو لو فُرِض أن الذي خلق العالم كان عدمًا أو مواتًا، أو غير ذلك من التقديرات الممتنعة في نفسها.
ومثل هذه الأغلوطات من المسائل يَسلكها أهل اللَّدّ في الجدل في أمر الدنيا والدين في الأصول والفروع، من جنس الأغلوطات الذي ابتدعهُ العَمِيْدي السمرقندي (2) في مثل نُكتِه التي يُسمِّيها البرهان ويَدَّعي أنها قطعية وغير ذلك بفرض أمور ممتنعة، ويستنتج نتائجها على ذلك
_________
(1) في الأصل: “مانع” تحريف.
(2) انظر التعريف به وبطريقته في الجدل في مقدمتنا على “تنبيه الرجل العاقل” (للمؤلف) 1/ 19 – 23.

(الكتاب/121)


التقدير الذي يمتنع وجودُه، فإن هذه المقدَّرات التي لم تُوجَدْ: منها ما هو ممتنعٌ في نفسه، فيكون لازمُه ممتنعًا، ومنها ما قد علمنا أنه لا يكون، وإن كان في نفسه غير ممتنعٍ، فيكون لازمه ما لا يكون، ويسمَّى هذا ممتنعًا لغيره، لمشيئة الله ولعلمِه وإخباره بأن ذلك لا يكون. مثل قولهم: لو لم يُقتَل المقتول هل كان يعيش؟ فهذا التقدير معلوم العدم ممتنعٌ لغيره، فإن الله شاء ذلك وعَلمَه وكتبَه، فلم يكن يمكن لمشيئة الله وعلمِه أن يقع إلا ذلك. فإذا قُدِّر عدم المشيئة لقتله وعدمُ تعلق العلم كان هذا تقدير عدم الوجود، فيلزم عدمُ الموجود وهو قتلُه، فإذا لم يُقتل أمكن أن يعيش وأن يموتَ بسببٍ آخر، فلو لم يُقتل لزمَ أحدُ الأمرين، لكن قتلَه لا بدَّ من وجودِه.
وقد يُقدَّر الممتنع لذاتِه، كما يقال: لو لم يكن خالقٌ لم يكن مخلوقٌ (1)، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة حيث يقولون وهم يرتجزون:
لاهُمَّ لولا أنتَ ما اهتدينا … ولا تصدَّقْنا ولا صلَّينا (2)
وربما قالوا:
والله لولا أنتَ ما اهتدينا … ولا تصدَّقْنا ولا صلَّينا
وكذلك قوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور/ 21]، و {لَوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال/ 68]، ونظائره متعددة.
فقد يُقدَّر عدمُ الموجود ليُعلَم كيف الأمورُ مع عدمِه، ويُقدَّر وجودُ
_________
(1) في الأصل: “خالقًا” و”مخلوقًا” بالنصب، والوجه ما أثبته، وكان هنا تامة.
(2) أخرجه البخاري (4104، 4106) ومسلم (1803) عن البراء بن عازب.

(الكتاب/122)


المعدوم ليُعلم كيفَ الأمرُ مع وجودِه، كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء/ 22]. ومن الأول قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور/ 35]، يقول تعالى: أيُتصوَّر أن يكونوا مخلوقين من غير خالقٍ خلقهم؟ أم هم الخالقون؟ أيُتصوَّر أن يكون الشيء خلقَ نفسَه؟ فإذا قُدِّر عدمُ الخالق لزِمَ أن يكونوا خُلِقوا من غير خالقٍ أو يكونوا هم خلقوا أنفسَهم، وكل ذلك ممتنع، فتعيَّن أن يكون لهم خالقٌ خلقهم. ولهذا قال جبير بن مطعم: لما سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية في الصلاة أحسَسْتُ بفؤادي قد انْصدَع (1). وكان جبير قد قدِمَ في فداء الأسرى عام بدرٍ، وكان ذلك أول ما دخلَ الإسلامُ في قلبه.
فهذه التقديرات التي تكون في العلم والكلام هي طرقٌ وأدلة وبراهين قد تُبيَّن بها حقيقةُ الأمور، حتى في الأمور العملية دون الخبرية، فإن الإنسان قد يكون في حالٍ موجودة محمودةٍ، لا يعرف ما يكون إذا عُدِمتْ من الضرر، فيتركها، فيحصل له من الضرر ما لم يكن يظنه. وربّما يطلب وجودَ أمرٍ لا يُقدِّرُ إذ وُجِدَ ما يكون معه من الضرر، فإذا وُجِدَ كان من الضرر ما لا يعلمه. وصاحب النظر والقياس والتدبير يُقدِّر وجودَ ذلك المعدوم وعدم هذا الموجود ليبين له بذلك الحال كيف يكون، فيعلم ما يأتي وما يَذَر.
فهذه التقديرات إذا كانت لطلب معرفة الحق الذي ينبغي معرفتُه، والعمل الذي ينبغي فعلُه كانت حسنةً، وإن كانت لردِّ الحقِّ الذي يجب قبولُه والعملِ الذي نُهِي عنه كانت من السيئات المذمومة. مثل تقدير فيلسوف قريش ورئيسها الوليد بن المغيرة لما سمع القرآن، وأراد أن
_________
(1) أخرجه البخاري (4854).

(الكتاب/123)


يجمع قومه المشركين على قولٍ يُلقونه إلى الناس يَصُدُّونهم عن اتباع الرسول، فعرضوا على آلاتهم (1)، هذا يقول: ساحر، وهذا يقول: كاهن، وهذا يقول: مجنون، وهو يَرُدُّ ذلك، ويُبيِّن أن مثل هذا القول لا يَنفُق على الناس ولا يقبلونه لظهور بطلانه، ثمَّ {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر/ 18 – 25].
ووجهُ قولِه: إنه سحر أي إنه يسحر قلوب المتبعين له، حتى يُفرِّق بين المرء ووالده، والمرءِ وولدِه، والمرءِ وأخيه. فيجعل هذا القدر المشترك الذي يفعل الساحرُ مثله هو وجه كونه سحرًا.
وأما وجهُ كونِه قول البشر فهو يُشبِه من بعض الوجوه ما يقول البشر، فهو نظير قولِ الفلاسفة الذين قالوا: إنه فيضٌ يَفِيضُ عليهم من العقل الفعَّال، كما يفيض سائر كلام المتكلمين على قلوبهم. وشاركهم في بعض قولهم من يقول: القرآن مخلوق، أو يقول: إن حروف القرآن مخلوقة.
فهذا التفكير والتقدير الذي يطلب به معارضة القدر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله، كما يفعله فضلاءُ المتفلسفة والمتكلمة من جميع الطوائف في دفع ما جاء به الكتاب والسنة، هو التفكير والتقدير الذي ذمَّه الله تعالى، وقال في مثله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر/ 4]، وقال: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد/ 13]، {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي
_________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: “فعرضوه على آرائهم”.

(الكتاب/124)


صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر/ 56] إلى أمثال ذلك.
وأما التفكير والتقدير والقياس والتنظير الذي يحبه الله ورسوله فهو الأمثال المضروبة التي ضربها الله في كتابه، فقال: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} [الروم/ 58]. فإن ضرب المثل هو تقديرُه وجمعه، فإن لفظ الضرب يُشعِر بذلك، ومنه ضرب الدرهم، والضرب في الأرض، والضريبة: الطبيعة، وكذلك الضرب بالعصا، كل ذلك من أصل واحد في اللفظ.
والمقصود هنا أنه قد عُلِمَ من المعدوم الممتنع في نفس الأمر أن يكون لله مِثْلٌ، لكن إذا قُدِّر ذلك في النفس تبيَّن بتقديره ما يلزمه من الأمور الممتنعة التي يُعلم بها أنه ممتنع. وقد تبيَّن أنه إذا قُدِّر مِثْلانِ أحدهما خالقٌ والآخر مخلوق، كان هذا ممتنعًا متناقضًا من وجوهٍ كثيرة لا تنحصر، فإن المثل الذي يجوز عليه ويجب عليه ويمتنع عليه ما يجب ويجوز ويمتنع على الآخر، فحينئذٍ يجوز أن يكون هذا خالقًا لخالق نفسه، ويكون هذا مخلوقًا لمخلوقِ نفسه فيكون مخلوقًا لنفسه، والشيء لا يكون خالقًا لنفسه ولا يكون مخلوقًا لنفسه.
ويكون هذا مستغنيًا بنفسه واجبًا بنفسِه فلا يكون مخلوقًا، ويكون أيضًا مفتقرًا إلى صانِعه ممكنًا بنفسه فيكون مخلوقًا، فيكون كلٌّ منهما خالقًا مخلوقًا، وهذا محال كما تقدم.
ويكون هذا قديمًا فلا يحتاج إلى مُحدِث، ويكون هذا مُحدَثًا فيحتاج في وجودِه إلى قديم، فيكون كلٌّ منهما قديمًا بنفسه لا يحتاجُ ومُحدَثًا محتاجًا، وهذا محال.
ويكون هذا واجبًا بنفسه له العلمُ بكلِّ شيء والقدرةُ على كلِّ شيء،

(الكتاب/125)


وهذا جائزٌ عليه الجهلُ بكل شيء والعجزُ عن كلِّ شيء، فيكون كلٌّ منهما واجبًا له بنفسه وجائزًا عليه العلم بكل شيء والقدرةُ على كلِّ شيء، وهذا ممتنع.
ويكون هذا واجبًا له أن يكون سميعًا لكل مسموع وبصيرًا بكل مرئيٍّ، وهذا جائزٌ عليه أن لا يسمع ولا يُبصر شيئًا، فيجتمع هذان الوصفان، وهو محال.
ويكون هذا يمتنعُ عليه الآفات المذكورة، [وهذا يجوز عليه الآفات المذكورة]، فيكون كلٌّ منهما يجوز عليه الآفاتُ ويمتنع، وهو ممتنعٌ.
ويكون هذا معدومًا بنفسه لا يُوجَد إلّا بخالقِه، [وهذا] واجب الوجود بنفسِه لا تقبلُ ذاتُه العدم، وهذا محال.
فقد تبيَّن أنه يلزم اجتماع النقيضين من وجوهٍ كثيرةٍ على تقديرِ إثباتِ المثل. وهذا بابٌ واسع تبين فيه بهذه التقديراتِ المحالاتُ اللازمةُ من فرضِ تماثلِ الخالق والمخلوق، ليُعلَم أن هذا ممتنعٌ في نفسه متناقض لا يُتصوَّر، وإن كان يلزم من التمثيل أيضًا ما هو ممتنعٌ، من وصفِ الخالق سبحانه وتعالى بصفات المخلوق الناقصة، ووصفِ المخلوق بصفات الخالق التي هي من خصائصه، فإن ذلك يُبيِّن استحالة تماثلِ الخالق والمخلوق من غير تعيين، وهذا بيان الاستحالة في الخالق الحق المعيّن الموجود وفي المخلوق الموجود المعلوم، وكل هذه طرق صحيحة.
ولهذا قال سبحانه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم/ 65]، وهذا من الأمثال المضروبة، كما سمَّى الله بذلك قول القائلين: {مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس/ 78] لما قال سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ

(الكتاب/126)


قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}، فإن هذه الجمل الاستفهامية هي استفهامُ إنكارٍ، إنكار نفيٍ وسلبٍ ونهي ومنْعٍ، فهي متضمنةٌ لشيئين: أحدهما نفي أن يُعلم له سمِيٌّ، وهو أنك لا تعلم له سميًّا. والثاني: الإنكار على من يقول: إن ذلك يُعلم، إذْ لو أراد سبحانه النفيَ البحتَ لقال: ما تعلَمُ له سميًّا. فهذا يكون فيه نفيُ علمِه لا إنكارُ وجودِه، فلما قال: “هل تعلم” كان إنكارًا لوجود ذلك ونفيًا لأن يكون، ولهذا قال: “هل تعلم”، ولم يقل: “هل علمتَ”، ليبيِّن الإنكار والنفي لوجود العلم مطلقًا، فإن الفعل المضارع مطلق بَنَوه لما هو كائنٌ لم ينقطع، هذا لفظ سيبويه (1). كما بَنَوا الماضي لما مضى، وبنَوا الأمرَ لما لم يكن بعدُ.
ونظيرُه أن تقول: هل يأتي نبيٌّ بعد محمد؟ هل تقوم الساعة الآن؟ هل يتخذ الله ولدًا؟ هل يَعلم أحدٌ أو يقول عاقل: إن الواحد مثل الاثنين؟ ونحو ذلك مما تبيَّن فيه امتناعُ ذلك وإنكارُ وجودِه، وتبيَّن أن وجودَه ممتنع، وأنه مما يجب إنكارُه ويُنكَر على من ادَّعاه.
ثم دَلّ ذلك على نفي متعلقه أيضًا، فإن الحق لا يُنكَر العلمُ به، وإنما يُنكَر العلمُ بما لا حقيقة له، لقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس/ 18]، فدلَّ هذا المثل (2) على أنه لا سميَّ له، وعلى أن لا يعلم أحد له سميًّا، وعلى أنه لا يمكن أن يكون له سميٌّ، وعلى أنه لا يمكن أن يُعلَم له سميٌّ، دلَّ على نفيه ونفي إمكانِه، ونفيِ العلم به وبإمكانه، في هذا اللفظ الوجيز المختصر.
_________
(1) الكتاب 1/ 12.
(2) في الأصل: “على هذا المثل”.

(الكتاب/127)


فالعقل الشريف عَقَلَ هذه الأمثال، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت/ 43]، فالعالمون يعقلون هذا المثل كما قال تعالى، وعَقْلُهم له معرفتُهم بما فيه من الحق وبدلالته على الحق المطلوب، حتى يَبقَوا عالمين بعقلهم للحق المطلوب، لا على وجه التقليد لمجرد صدق المخبر، لكن كما قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ/ 6]. فإذا أوتوا العلم عقلوا أن الذي أُنزِل إليه من ربه من الأحكام الخبرية والأمرية والأدلة الدالة عليها – كالأمثال المضروبة في القرآن – أنه هو الحق، فإن العاقل إنما يعقل ما لم يكن عنده من العلم بما هو عنده، وبالعلم بالمقدمات تُعلَم نتائجُها. ولهذا قال تعالى: إن الأمثال المضروبة {مَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت/ 43]، وأخبر أن الذين أوتوا العلم يرون الذي {أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ/ 6].
وإذا تبين بالقرآن وبعَقْلِ (1) الأمثال المضروبة فيه امتناعُ السَّمِيِّ لله، وأنه يمتنع أن يكون سميًّا في شيء من الأشياء حصل المقصودُ. والسميُّ هو المِثْل والشَّبهُ، كما نُقِل عن ابن عباسٍ (2)، وهو إما أن يكون مأخوذًا من المساماةِ وهي المرافعةُ والمعالاةُ، كما قالت عائشةُ عن زينب: “وهي التي كانت تُسامِيني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم” (3). فيكون “فعيل” بمعنى الفاعل، كالأكيل والقعيد والنظير.
_________
(1) في الأصل: “بالعقل”.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 585) والبيهقي في شعب الإيمان (122).
(3) أخرجه مسلم (2422).

(الكتاب/128)


وإما أن يكون بمعنى المسمَّى باسمِه، كما قال في قصة يحيى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم/ 7]، فمن سمِّيَ باسم غيره فهو سميٌّ له، إذ الاسمُ هو مشتق في الاشتقاق التامّ من سَما يَسمُو، وإن كان في الاشتقاق الأوسط من وسَمَ يَسِمُ، كما قال ذلك من قاله من نُحاةِ الكوفةِ، كما بيَّنا أنواع الاشتقاق في غير هذا الموضع.
فسواءٌ كان السمِيُّ من التسمية أو المساماة فإن مرجعهما إلى شيء واحد، فإن المسمَّى باسم الشيء هو مُسامٍ له وإن لم يقصد ذلك، والمُسَامِي للشيء لا بدَّ أن يُسمَّى بأسمائه، إذ المراد بالاسم في هذه المواضع ليس هو مجرد اللفظ الذي يكون عَلَمًا كأسماء الأعلام، وإنما المراد بالأسماء ما يدلُّ على نُعوتِ المسمَّى وصفاتِه، فإن الاسم يرفعُ المسمَّى ويُعلِيه، وإذا ارتفع وعلا ظهر وتجلَّى، وذلك هو وصفُه وإظهارُ ما فيه. وهذا هو الذي عابَه الله تعالى على من سَمَّى الأوثانَ بأسماءٍ {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [النجم/ 23].
ولهذا كان أسماء الله الحسنى صفاتٍ له قولية، وهي دالةٌ على صفاته المعنوية، فيكون الله تعالى قد نفَى الإمكانَ أن يكون للهِ من يُسمَّى بأسمائه أو يُسامِيه، وهذا لا يُنافي ما ذكرناه أولًا مما في كتاب الله تعالى أن الله تعالى سمَّى نفسه بأسماءٍ وسمَّى بعضَ مخلوقاتِه بتلك الأسماء، لأنا قد بينّا فيما تقدم ما في الأسماء من الدلالة على المشترك والمميز، ونحنُ نُلخِّص في هذا المكان مقصوده:
وهو أن أسماء الله – مثل العليم والقدير والرحمن والرحيم – دالة على نفسه المقدَّسةِ بما لها من نفسِ علمِه وقدرته ورحمته، وهذا الاسم الذي دلَّ على هذا المعنى لا يجوز أن يُسمَّى به سِواه أصلًا، وإذا أطلقناه

(الكتاب/129)


على المخلوق وقلنا في الإنسان: سميع بصير، فهذا الاسم الذي دلَّ على حقيقة سَمْع المخلوق وبَصرِه لا يُسمَّى الله به قطُّ، وأما الاسم المطلق الذي لا يُضاف فهو دالٌّ على القدر المشترك. فالاسم وإن كان لفظه قبلَ الإضافة والتعريف واحدًا، فهو بالإضافة والتعريف يصير دالًّا على أكثر مما كان دالًّا عليه حينَ التجرُّد.
ولهذا قال الفقهاءُ في باب الأيمان: إن أسماءَ الله ثلاثةُ أصنافٍ:
منها: ما هو نصٌّ، كقوله: الله، ورب العالمين، وأرحم الراحمين، ونحو ذلك. فهذه تكون يمينًا لا تحتمل غيرَ ذلك.
ومنها: ما هو ظاهر، وهو ما يكون بإطلاقِه لله، وقد يُسمَّى به غيرُه بالقرينة، كقوله: العزيز والحكيم والرؤوف والرحيم، ونحو ذلك.
ومنها: ما هو مجمل، لا ينصرف إطلاقُه إلى الخالق والمخلوق إلا بالقرينة، كقوله: الموجود ونحوه، فهذا لا يكون يمينًا إلا إذا نَوَى به الله، وهل يكون يمينًا بالنية على قولين بناءً على أن اليمين بالله تعالى هل تنعقد بالكناية: أحدهما يكون يمينًا، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما. والثاني: لا يكون يمينًا، وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول القاضي أبي يعلى في بعض كتبه.
وهذا ثابت في جميع الأسماء التي تتغيَّرُ دلالتُها بالتقييد والإضافة في أسماء المخلوقين، فكيف بالاسم الدالّ على الخالق والمخلوق؟ فلفظ “الرسول” واحد، ومع هذا فلما قال: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل/ 16] وقال لنا: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} [النور/ 63] لم تكن صفةُ الرسالة وقَدْرُها المدلولُ عليها باسم الرسول في أحد الموضعين هي الصفة والقدر المدلول عليها به في الموضع الآخر.

(الكتاب/130)


ويقال: هذا رسولُ هذه الأمة، ويقال في ذلك: رسولُ بني إسرائيل، فلا يُسمَّى أحدُهما باسم الآخر مطلقًا، وإن اشتركا في بعض مدلول الاسمين.
ولهذا كان من أسماء هذا الرسول: محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب والمقفّي ونبي الرحمة ونبي الملحمة والضَّحوك والقتَّال (1)، ونحو ذلك من الأسماء التي يختصُّ هو بمعاني بعضها، ويختصُّ بكمال معاني باقيها، فليس في الرسل من يُسمَّى بأسمائه مطلقًا، وإن كان يَشرَكه في بعض إطلاق بعض أسمائه عليه لمشاركته له في بعض معانيها.
وهذا لما قدَّمناه من أن الأسماء المتواطئة تَدُلُّ بمجرَّدِها على القدر المطلق المشترك الذي لا يُوجد مطلقًا مشتركًا إلّا في الذهن، وتدلُّ عند تعيينها بالتعريف على خصوص المعنى المعيَّن الموجود في الخارج الذي لا شركةَ فيه، فمدلولُها عند التعيين ليس فيه اشتراك أصلًا، كما أنه ليس فيها اشتراك ولا إطلاق، ولكن الذهن يأخذ القدر المشترك بين المعنيين، كما ينطق اللسانُ باللفظ المشترك المتواطئ الموجود في المحلَّين، وإن كان حالُ المطلق المشترك المتواطئ كالمعنى المطلق المشترك، وليس هذا بشرط الإطلاق إلّا في الذهن، كما أن اللفظ المطلق بشرط الإطلاق لا يكون في كلام الناس واستعمالهم، واللفظ المقيّد بتعريف الإضافة وغيرها يطابق المعنى الذهني المقيد بفهم تلك
_________
(1) أخرج البخاري (3532، 4896) ومسلم (2354) من حديث جبير بن مطعم بعض هذه الأسماء، وأخرج مسلم (2355) من حديث أبي موسى الأشعري بعضها.

(الكتاب/131)


الحقيقة المعينة، والحقيقة الخارجة المعينة مطابقة لذلك المعنى المفهوم من هذا اللفظ المعين، واللفظان في حال تعيينهما والمعنيان الذهنيان (1) والحقيقتان الخارجتان كل منهما متميز بنفسه، ليس فيه شركة مع غيره، ولكن معنى قولنا: “إنه يشاركه” أن الذهن يُدرِك أن هذا يُشبِه هذا من تلك الجهة، وكلٌّ منهما لا يكون في نفسه مطلقًا بشرط الإطلاق ولا مشتركًا بشرط الاشتراك، ولكن المعنى المطلق يوجد فيه لا بشرط الإطلاق، والمشترك يوجد فيه لا بشرط الاشتراك، بل مع تقييد وتخصيص.
ومن هنا قيل: كما أن بين اللفظين اشتراكًا واشتباهًا فكذلك بين المعنيين اشتراكًا واشتباهًا (2)، لكن هذا القدر المشترك المشتبه ليس داخلًا في حقيقة أحدهما الخارجة الموجودة أصلًا مشتركًا، إذ الذي فيها لا يكون مطلقًا بشرط الإطلاق، وإنما هو مطلق لا بشرط الإطلاق، بل هو مقيد بالتعيين، ولا مشتركًا بشرط الاشتراك، وإنما يقال: هو مشترك للمشابهة، بل هو مختصٌّ متميز.
ثم إذا عُرِف هذا [في] جميع الأسماء المتواطئة وأنها إذا دلَّت على معنيينِ لم يكن في المدلولين الخارجين اشتراك، بل كلٌّ منهما متميز بنفسه، فلا يكون اسمُ هذا اسمًا لهذا ولا اسمُ هذا اسمًا لهذا قطُّ من جهة التعيين، فإن اسم المعيَّن لا يكون اسمًا لغيره، لكن إن كان المسمَّيانِ متماثلين في بعض الأمور صحَّ أن يُسمَّى أحدهما باسم الآخر، ويقال: هو سَمِيُّه، فإن التَّماثل في الحقيقة يُوجب التماثل في أسمائها، فيقال:
_________
(1) في الأصل: “المعنيان والذهنان”.
(2) كذا في الأصل بالنصب.

(الكتاب/132)


هذا الإنسانُ سَمِيُّ هذا، وهذا السواد سميُّ هذا، وهذا العالم سميُّ هذا، لتماثلهما في العلم وإن تفاوتَا في غيره.
وأما إن كان المسمَّيان غير متماثلين في شيء من الأشياء لم يكن أحدُهما سميًّا للآخر بحالٍ، فإذا قيل لجبريل: الروح، وقيل: الذبابةُ فيها روحٌ، لم تكن روحُ الذبابة سميًّا لجبريل الذي اسمُه الروح، وإذا [قيل] عن جبريل: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير/ 21]، وقيل عن بعض أهل الكتاب: {إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران/ 75] لم يكن هذا الأمين سميًّا لذلك الأمين، وذلك لأن اللفظ دلَّ على أن بينهما تشابهًا من بعض الوجوه، وهو أصل الأمانة، وأما حقيقتها وصفتها وقدرُها فلم يشتبها فيه، فلم يكن اسمُ أحدهما دالًّا على مثل مدلول اسم الآخر، فلم يكن سميًّا له.
فالله تعالى هو السميع البصير، فإذا سُمِّي بعضُ مخلوقاته بالسميع البصير لم يكن مدلولُ اسمِه تعالى مِثْلًا لمدلولِ اسم ذلك المخلوق بوجهٍ من الوجوه، فإذا لم يكن مُسمَّى السميع البصير الذي هو الذات والصفة مِثْلًا لذلك، لا الذات مثل الذات ولا الصفة مثل الصفة، امتنع أن يكون اسمُ هذا يُقال على هذا، وأن يكون سميًّا له، وإن كان من مدلولِ الاسمين تشابهٌ من بعض الوجوه. والتشابه ليس هو التماثل بوجهٍ من الوجوه، فإن الشيء قد يُشبِه ما يكون مخالفًا له، إذ ما من شيئين إلّا وقد يَشتبهانِ ولو في أدنى شيء، ولو أن في أحدهما غير الآخر وخلافه وضدّه، ومثلُ هذه المشابهة لا توجب تماثلًا بوجهٍ من الوجوه، بل رفعُ الاشتباه من كلِّ وجهٍ يقتضي عدم أحدهما. وقد قدّمنا كلام العلماء في ذلك، وامتناعَ محققيهم أن يَنْفُوا المشابهةَ من كل وجهٍ، وإن نفَوا

(الكتاب/133)


المماثلة من كل وجه.
فهو سبحانه ليس له شِبْهٌ ولا له مِثلٌ بوجهٍ من الوجوه، إذ التماثل بوجهٍ من الوجوه منفيٌّ عن الله تعالى بالنصوص المتقدمة، وبالأمثال العقلية المضروبة التي أرشد إليها النصُّ، إذ لو حصلَ له مثلٌ في بعض الأمور لزِمَ الجوازُ والوجوب والامتناع من كل الوجه، فيلزم التناقُض والمحالات المتقدمة، وأما الاشتباه في بعض الأمور فلا يستلزم الاشتراك في الوجوب والجواز والامتناع، بل لا بدَّ منه بين كلِّ موجودين.
فمن فَهِمَ هذه المعاني الشريفة فهمَ ما بين الأسماء من التواطئ والافتراق، وما بين مدلولها من التباين والاشتباه، وعلمَ أن الله ليس له مِثلٌ ولا سَميٌّ، لا في نفسه ولا في شيء من صفاته ولا من أفعاله، ولا يُسمَّى أحدٌ بشيء من أسمائه أصلًا، وعلمَ أن المخلوق إذا سُمِّي بالأسماء التي تصير اسمًا لله إذا أضيفتْ إليه، فلم يُسَمَّ بأسماء الله ولا بمثل أسماء الله، ولا صار شيء من الأسماء سميًّا لله، ولكن الاسم الذي يكون اسمًا لله إذا سُمِّي الخلق به يصير اسمًا لهذا إذا سُمِّيَ به، وكونُه يصير اسمًا له إذا سُمِّي به لا يُوجب كونه سميًّا له، وإنما لأجل ما في اللفظين من التواطئ دلَّا على معنًى مشترك، وهو ما بين الحقيقة من تشابه في معنى الاسم، وأنه بثبوت ذلك المعنى الذي يأخذه الذهن مشتركًا يكون الموجود موجودًا، وإلّا كان معدومًا، كما قد بيناه لما تكلمنا على الوجود الواجب والممكن.
وبهذا تبيَّن لك أن المشبِّهة أخذوا هذا المعنى وزادوا فيه على الحقِّ فضلُّوا، والمعطِّلة أخذوا نفي المماثلة بوجهٍ من الوجوه، وزادوا فيه على

(الكتاب/134)


الحق حتى ضلُّوا، وأن كتاب الله دلَّ على الحقّ المحض الذي تَعْقِله العقولُ السليمةُ الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه. فالنُّفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه أو التمثيل بشيء من خلقه بوجهٍ من الوجوه، فإن المماثلة بوجهٍ من الوجوه تقتضي التناقض والمحال، فإنه لو فُرِض أن الله تعالى يُماثِلُ شيئًا من خلقه في علمه أو إرادته أو غضبه أو حِلْمِه بوجهٍ من الوجوه، كان ذلك الوجه الذي تماثلا فيه يقتضي أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر.
ولهذا جاءت هذه الشريعةُ بكمال التوحيد والتحميد والتنزيه، فقال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: “أجعلتَني لله نِدًّا؟ قل: ما شاء الله وحدَه”. فجعله بمماثلتِه له في المشيئة جاعلًا له نِدًّا، مع أنه لا بدَّ بين المشيئتين من قدرٍ مشتركٍ واشتباهٍ، ولكن ليس بينهما تماثلٌ وتَنَادٍ.
ولهذا قال تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} [الرعد/ 16]، وقال تعالى: “ومن أظلمُ ممن ذهبَ يخلقُ كخلقي؟ فليخلقوا ذرَّة وليخلقوا بعوضةً! ” (1). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن أشدَّ الناس عذابًا يوم القيامة الذين يُضاهُون بخلق الله” (2)، حيث فعلوا مثلَ ما فعلَ، ولو أنه في الصورة فقط، ولهذا يقال: “أحْيُوا ما خلقتم” (3). وقال: “من صوَّر صورةً كُلِّف أن يَنفُخَ فيها الروح وليس بنافخ” (4). لأنه لما فعلَ مثلَ الصورة في الجسم صار مضاهيًا ذاهبًا يَخلُق كخلقِ الله، فقيل له: حَقِّقِ التماثلَ فانفُخْ
_________
(1) أخرجه البخاري (5953)، ومسلم (2111) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري (5954) عن عائشة.
(3) أخرجه البخاري (5957) عن عائشة.
(4) أخرجه البخاري (2225) ومسلم (2110) عن ابن عباس.

(الكتاب/135)


فيها الروحَ، ولستَ بفاعل. فكان التماثلُ من كل وجه معجوزًا عنه، فنُهي عن المماثلة من بعض الوجوه، لأنه همٌّ بإظهار التماثل من غير تحقيق.
ومع هذا فالإنسان له أفعالٌ لها أسماءٌ، ولله تعالى [أفعالٌ لها] أسماءٌ تُسمَّى هي بتلك الأسماء، مثل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات/ 47]، ومثل قوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل/ 88]، ومثل قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف/ 145]. ولم يكن العبد ظالمًا بهذه الأفعال، لأنه لم يُماثل الربَّ فيها بوجهٍ من الوجوه، وإنما [فيها] اشتباهٌ من بعض الوجوه التي لا تُوجب محذورًا، بل تُحقِّق الثابتة في الموضعين.
فتدبَّرْ ارتفاعَ التماثُل بين الخالق والمخلوق من كل وجه، ولم تكن المماثلة ثابتةً من كل وجه، وتدبَّر ثبوتَ الحقائق التي لا بدَّ أن يكون بينها قدرٌ مشترك واشتباهٌ سُمِّيَ أحدهما من تلك الجهة بالاسم الذي تسمَّى به الآخر، وإن لم يكن أحدهما اسم الآخر، إذ الاسم هو مجموع المجرَّد والمقرونِ به من الإضافة أو لام التعريف، وإنما وجود الاسم المجرد في الموضعين مثل وجودِ المضافين في موضعي الإضافة، وأحدِ جُزئَي المركَّب في موضعَي التركيب، فإذا قلتَ: غلامُ زيدٍ وغلامُ عمرو لم يكن أحد الاسمين هو الآخر، ولم يكن أحدهما سمِيَّ الآخر، وأينَ عبد الله وعبد الرحمن من عبد شمس وعبد اللات؟ ولهذا غيَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أسماء من كان متعبَّدًا لغير الله من المسلمين، مثل من كان سُمِّيَ عبد شمس وعبد اللات، فسمَّاهم عبد الله وعبد الرحمن، لم يكن أحدُ الاسمين مثلَ الآخر. وإذا كان شخصان أحدهما اسمه عبد الله والآخر عبد شمس لم

(الكتاب/136)


يكن أحدهما سَمِيَّ الآخر ولا مُسمًّى باسمه، وإن كان لفظ الاسمين متفقًا في النصف، وهو لفظ المضاف، لأن الإضافة الاختصاصية قَطعتْ ذلك الاشتراك الذي كان موجودًا قبلها.
فإذا قلتَ: سميع وسميع، فهو كقولك: عبد وعبد، وإذا قلت: الله السميع البصير والإنسان السميع البصير كان هذا التباين أعظم من قولك: عبد الله وعبد شمس، إذ التعريف باللام كالتعريف بالإضافة.
فتدبَّرْ هذا، فإن هذه المعاني الشريفة نافعة في هذه المسائل التي كثر الاضطراب فيها، فالمنزِّهُ أحسنَ في نفي المماثلة من كل وجهٍ وإثباتِ المباينة والمخالفة كما تقدم، ولكن إذا زاد بنفي المعاني الثابتة لله في نفس الأمر ونفي حقيقة أسمائه لما في ذلك من نوع اشتراكٍ في الاسم واشتباهٍ في المعنى = كان مبطلًا معطِّلًا، لأن الذي كذَّب به من الحق ونفاه قد يكون أعظم مما كذَّب به من الباطل ونفاه. والمُثبِتةُ أحسنوا في إثباتِ حقيقة الله بما له من الصفات التي (1) لا يكون هو هو إلّا بها، وفي إثباتِ أسمائه الحسنى المبيِّنة لحقائق صفاته، فإنه لولا ثبوتُ هذه الصفات التي هي العلم والقدرة والكلام ونحوها، لم يكن ربًّا ولا خالقًا، بل لولا ثبوت أصل الصفات لم يكن موجودًا أصلًا. وإثباتُ ما لا صفةَ له إثباتُ ما لا وجودَ له، وهو إثباتُ معدوم.
ولهذا كانت النفاة معطلةً متناقضةً ممثّلةً له بالمعدوم، أما تناقضُها فمن حيث أقرتْ بوجوده واستحقاقه الكمالَ المطلقَ والوجود الأتم، ثم وصفتْه بما يستلزم أنه لا يكون شيئًا أصلًا، فضلًا عن أن يكون قائمًا حيًّا.
_________
(1) في الأصل: “الذي”.

(الكتاب/137)


ومثَّلتْه بالمعدوم، فكانت أضلَّ ممن مثَّله بالموجود الشيء، وكانوا مع ذلك معطلة عطَّلوا صفاته بإقرارهم واعترافهم، وعطَّلُوا حقيقتَه بما هو لازمٌ لهم. كما قد (1) بيَّنا أن إثباتَ المثلِ له بوجهٍ من الوجوه يُوجِب التناقض في نفسه، فرفعُ الصفات بالكلية ونفيُ وجود معنى مشترك ومشابهةٍ بوجهٍ من الوجوه متناقض أيضًا في نفسه. ثم هذا يقتضي عدمه، وذلك يقتضي نقصه، فلهذا كان التعطيلُ شرًّا من التمثيل.
وإنما تناقض لأن من (2) أثبته موجودًا عالمًا قادرًا، وقد علم أن في خلقه موجودًا عالمًا قادرًا، إن لم يُثبِتْ لوجودِه خصائص الوجود، ولعلمِه خصائص العلم، ولقدرتِه خصائص القدرة، وهو أن يكون وجودُه ثابتًا متميزًا بنفسه عن غيرِه من الموجودات ذي حقيقة ثابتةٍ بحقيقة الإثبات، ويثبت لعلمه خصيصة الإدراك والتمييز والمعرفة والإحاطة بالأشياء، ولقدرتِه خصائص القدرة التي بها يفعل الأفعال = وإلّا لم يُثْبِت موجودًا ولا عالمًا ولا قادرًا، ومتى أثبت هذه الخصائص فمن المعلوم بالضرورة أن لأحدنا منها نصيبًا، فإن لنا وجودًا وعلمًا وقدرة، [و] لنا ثبوتٌ (3) محقق، وتمييز وقدرة بها نفعل، فإن رفعت هذا المطلق المشترك فقد عطَّلتَ الذات بالكلية وجعلتَها معدومةً بعد إقرارك بوجودها، وهذا تناقض، وهذا المعنى قد أوضحناهُ فيما تقدم.
فإذا زاد (4) المثبِتُ وجعل بينه وبينَ غيرِه مماثلةً من بعض الوجوه،
_________
(1) في الأصل: “وإذا كما قد”.
(2) في الأصل: “ما”.
(3) في الأصل: “لنا ثبوتًا”.
(4) في الأصل: “اراد”.

(الكتاب/138)


مثل أن يجعل علمه أو قدرتَه أو رحمته أو غضبَه مثلَ شيء من صفاتِ خلقه، أو يجعل ذاتَه مثل ذاتِ شيء من خلقِه من ذهبٍ أو فضَّةٍ أو بِلَّورٍ أو لحم، كما يُحكَى عن بعض المشبِّهة أنه قال: هو سَبِيكةٌ من فضَّةٍ، وعن بعضهم أنه قال: هو لحمٌ ودم ونحو ذلك = فهذا غلوٌّ في إثبات الحقيقة أدَّى (1) إلى التماثل الموجب لنقصِه وعدمه.
فقد تبيَّن أن الغُلوَّ في تحقيقه حتى يُمثَّل ببعض المخلوقات يُوجِب الحكمَ بالعدم، وأن الغُلوَّ في تنزيهه حتى يُرفَع ما يُعلَم من القدر المشترك المشتبه يُوجِب العدم، فكلٌّ من فريقي الغُلاة في النفي والإثبات يَستلزمُ قولُه عدمَه، لكن النفاة يلزمهم الحكمُ بالعدم ابتداءً من أولِ أمرِهم، إذ لم يُثبوا شيئًا محقَّقًا أصلًا، وإنما ظنُّوا أنهم أثبتوا، والمثبتة يلزمهم الحكمُ بالعدم انتهاءً في آخر أمرهم، لأنهم أثبتوا شيئًا محققًا، واعتقدوا اعتقادًا صحيحًا، ثم زادوا في تمثيله ما يُوجِب أن يكون في صفة المعدوم. فلهذا كان الأولون أضلَّ، ولكن ليس في المسلمين ولا من مُثبِتي الصانع من يبتدئ بالنفي، بل لا بدَّ أن يُثبِتَ أولًا الصانعَ ويُقِرّ به، ثم يبالغ إما بالنفي وإما في الإثبات، فلهذا لم يُصرِّح أحدٌ من مثبتة الصانع بعدمِه، وإن كان قولُه يستلزم ذلك، وهو للنفاة ألزمُ وأبلغُ لزومًا وأسبقُ لزومًا وأوضحُ لزومًا. فهذا هذا، والله أعلم.
فإن قلتَ: إن الفقهاء الأصليين (2) وغيرهم تنازعوا في نفي المساواة هل يقتضي نفيَها من كل وجهٍ أو يقتضى نفيَ كمال المساواة؟ على قولين، ومَيلُ أصحاب أبي حنيفة وكثيرٍ من أهل الأصول إلى عدم
_________
(1) في الأصل: “أدته”.
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: “فقهاء الأصلين” أو “الفقهاء والأصوليين”.

(الكتاب/139)


العموم، ومَيلُ كثيرٍ من أصحابي الشافعي وأحمد إلى أن هذا يوجب دفع جميع المساواة، فلا يكون الكافر كُفؤًا للمسلم ومساويًا له في باب الدماء، فلا يكون دمه كدمه، ولا يكون كفؤًا له. وإذا انتفت المساواة والمكافأة لم يُقتَل المسلم بالكافر الذمي. ويقول طوائف: إن هذا يوجب انتفاء المساواة المطلقة، والاشتراك في بعض الأحكام لا يمنع انتفاءَ المساواة، بدليل أنهما يستويانِ في كثير من الأحكام. وأنتم قد ذكرتم أن ما نفاه الله عن نفسه من الكفؤ والسَّمِيِّ والمِثْل يقتضي نفي ذلك من جميع الوجوه، وهذا الأصل اللفظي متنازَعٌ فيه، ولا بُدَّ من تقريرِ ذلك بالدليل.
قلت: هذه المسألة تُشبِه دخولَ حروف النفي والنهي على ألفاظ العموم، مثل أن يقول: لا كلَّمتُ القومَ ولا أكلتُ هذا الرغيفَ، ففعلَ بعضَ المحلوفِ، أو مثل قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر/ 20] هل تُوجِب اللغةُ عمومَ النفي أو نفيَ العموم؟ وفي هذا الأصل قولان في مذهب أحمد وغيره. ومسألة اليمين مشهورةٌ عند الفقهاء، فالمشهور في مذهب أحمد – وهو مذهب مالك – أنه يَحنَث بفعلِ بعضِ المحلوف عليه، والرواية الأخرى عنه – وهى ظاهر مذهب أبي حنيفة والشافعي – أنه لا يَحنَث بفعل بعض المحلوف عليه عندهم كلهم مع الإطلاق، فأما مع قرينة العموم أو الخصوص فلا يبقى نزاعٌ، مثل إذا قال: لا أكلتُ الخبز أو اللحم، أو قال لامرأته: لا كلَّمتُ الرجال، فهنا يَحنَث بفعلِه البعضَ، إذ لا يُراد هنا عمومُ النفي بل مطلق النفي. ولو قال: واللهِ لا بَينتُ هذا الحائطَ وحدي، ولا نقلتُ هذا الترابَ وحدي، مما تُبيِّن القرينة أنه امتنع من فعل الجميع، لم يَحنَث بفعل البعض، أما في الأصول فيذكرون القولين مطلقًا في مذهب أحمد

(الكتاب/140)


وغيره، ولا يَثبتُ لأحدٍ في ذلك قولٌ مطّردٌ، فإنّ ما في القرآن من ذلك قد يُراد به عمومُ النفي، كقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة/ 7]، وقوله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر/ 20]، وغير ذلك.
وإنما قلنا: إنها مثلها، لأن إثبات المساواة المطلقة يعمُّ المساواة في كل شيء عند الإطلاق، فإن عموم الكلِّ لأجزائه لعموم الجمع لأفرادِه، إذ لا فرق بين أن يكون المشمول الذي تناوله اللفظُ أفرادًا متباينةً أو أجزاءً متصلةً أو صفاتٍ قائمةً، كعموم قوله تعالى: {وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة/ 6] لجميع أجزاء اليد والوجه.
إذا عُرِف ذلك فنقول: المساواة المثبتة تكون مطلقةً وتكون مقيَّدةً، فإذا كانت مقيَّدةً ببعض الأشياء لم يكن النفي إلّا لتلك فقط، [و] إن كانت مقيدة بمساواةٍ في شيء معين يقيد النفي به، وإن كانت مطلقةً في المساواة في أيّ شيء كان النفي لذلك، وإن كانت عامة المساواة في كلّ شيء فالعام المنفي نفيًا مطلقًا هو مورد النزاع. وأشهر القولين عند أصحابنا وعليه أكثرُ العلماء أنه لعموم النفي، فتنتفي المساواة من كلِّ وجهٍ، كما أن النفي الداخل على صيغ العموم يعمُّ ما يَعمُّه الإثبات، وذلك أن النفي يُناقض الإثبات، فيرفعُ ما أوجبَه الإثباتُ.

ولهذا كانت النكرة في سياق النفي تَعُمُّ، لأن مسمَّى اللفظ النكرة مثل وجهٍ وفرسٍ هو الحقيقة المطلقة، فإذا نُفِيَتْ فقيل: لا رجلَ في الدار، ولا يُقتَل مسلمٌ بكافرٍ، ولا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ في الحج، ولا نبيَّ بعدي، ولا إله إلّا الله = اقتضى نفي الحقيقة، والحقيقة المطلقة لا تنتفي إلا بانتفاء جميع أفرادِها، وإلّا فأيُّ فردٍ ثبتَ كانت الحقيقةُ

(الكتاب/141)


المطلقةُ ثابتةً بثبوتِه.
فلهذا كانت النكرة في سياقِ العموم تَعُمُّ إما عمومًا قطعيًّا إذا تُيقِّن أن اللفظ لنفي الجنس، مثل أن يُقْرَن بمِن النافية للجنس مظهرةً أو مقدَّرةً، كقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة/ 73]، وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد/ 19]. وإمّا عمومًا ظاهرًا إذا كان اللفظ ظاهرًا في نفي الجنس. ويجوز أن يُراد به نفيُ الواحدِ منه، كقولك: ما كلَّمتُ رجلًا ولا أكلتُ رغيفًا؛ إذ يجوز أن يقال: بل رجلين وبل رغيفين. وإن كان اللفظ لنفي الواحد من الجنس، كقولك: ما كلَّمتُ رجلًا بل رجلينِ، ولا أكلتُ رغيفًا بل رغيفينِ، انتفى العمومُ؛ لأن المنفيَّ واحدٌ من الجنس لا نفس الجنس.

وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن إثبات اللفظ العام لأفرادِه لا يُشترط فيه التلازم، فلا يكون إثباتُ بعضِ الأفراد مشروطًا بإثباتِه لبعضها، بل قالوا: أدواتُ التثنية والجمع في المؤتلفات كحروف النسق في المختلفات، فإذا قال: جاء الرجالُ، فقال النافي: ما جاء الرجالُ، فقد نفَى ما أثبتَه، وهو إنما أثبتَ الحكمَ مجرَّدًا، والعمومُ جاء من الصيغة، فالنفيُ ينفي الحكمَ مجردًا، لا ينفي مجرَّد العموم. بخلاف ما لو قال القائل: جاء كلُّ القوم، أو ما جاء كلُّ واحدٍ منهم، ولو قال: أطعمتُهم كلَّهم، أو غسلتُ وجهي كلَّه، فقال: ما أطعمتَهم كُلَّهم، وما غسلتَ وجهك كلَّه، فهنا لما كان المقصود الأول إثبات نفسِ العموم، لا الحكم الذي عرضَ له العمومُ، كان مقصودُ النافي العموم، لا نفي الحكم الذي عرضَ له العمومُ، إذ النفي يطابق الإثبات.

(الكتاب/142)


وكذلك الحقائق المركبة التي (1) ينتفي مجموعُها بانتفاء جزءٍ من أجزائها، إذا نفيتَها لم يلزمْ نفيُ جميع أجزائها، بل يكفي انتفاءُ جزءٍ من أجزائها، وإن بَقي بعض أجزائها.
ولهذا صحَّ عند السلف ومن اتبعهم أن يقال عن الفاسق الملّي: ليس بمؤمنٍ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يَسرِق السارقُ حين يَسرِق وهو مؤمن، ولا يشربُ الخمرَ حين يشربُها وهو مؤمن” (2)، ولا يكون ذلك نفيًا لجميع أجزاء إيمانِه، فإن الإيمان عندهم وإن كان مؤلَّفًا من أمورٍ واجبةٍ، فإذا انتفَى بعضُها انتفَى الإيمانُ الواجبُ الذي به يَستحقُّ الجنَّةَ وينجو من النار، ولم يَنتفِ جميعُ أجزاء الإيمان، بل قد يبقى معه بعض أجزائه التي (3) ينجو بها من النار بعد دخولها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه “يَخرجُ من النار من كان في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان” (4).
فإن الإيمان عندهم يَنقُص ولا يزولُ بالكلية، كما أنه قد يزيد على أداء الواجبات بالطاعات، فلهذا قالوا: يزيد بالطاعة ويَنقُص بالمعصية. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الإيمان بضعٌ وستون أو وسبعون شعبةً، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبةٌ من الإيمان” (5). ومن خالفهم من الخوارج والمعتزلة والمرجئة
_________
(1) في الأصل: “الذي”.
(2) أخرجه البخاري (2475) ومسلم (57) عن أبي هريرة.
(3) في الأصل: “الذي”.
(4) أخرجه البخاري (7439) ومسلم (183) عن أبي سعيد الخدري.
(5) أخرجه البخاري (9) ومسلم (35) عن أبي هريرة.

(الكتاب/143)


والجهمية فإنه عندهم لا يَنقُص إلّا أن يزول بالكلية، ظنًّا منهم أن المركب متى زال بعضُ أجزائه زال جميعُه. ولم يعلموا أن الصلاة والحج وغيرهما من المركبات التي يتناول اسمها لأركانها وواجباتها ومستحباتها، قد يزول بعض واجباتِها ولا يزول أصلُ الاسم، وهي عبادة واحدة، فكيف الإيمان الذي يدخل فيه كلُّ طاعةٍ؟ فإذا قلنا: ليس بمؤمنٍ دَلَّ على زوالِ بعض ما يجب من الإيمان، لا على زوالِ كلِّه كما يقوله هؤلاء.
وكذلك إذا قال الشارع: مَن فعلَ ذلك فليس منَّا، اقتضى خروجَه عن هذه الحقيقة، وهي الإيمان الواجب الذي (1) يستحق به الثوابَ دون العقاب، لا يقتضي خروجَه عن جميع أجزاءِ الإيمان كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يقتضي نفيَ التطوعاتِ حتى يقال: معناه ليس مثلَنا أو ليس من خيارنا، كما يقوله المرجئة والجهمية.
فإذا كان النفي مقابلًا للإثبات: إن أثبتَ المثبتُ نفسَ العموم رفعه النفيُ، كما في قوله: أكلتُ هذا كلَّه فقال النَّافي: ما أكلتَ هذا كُلَّه. وإن أثبتَ الحكم للمذكور بصيغة العموم كان النفيُ نفيًا لذلك الحكم المذكور بصيغة العموم، فإذا قال: جاء القوم، قال النافي: ما جاء القوم. ثم هنا ثلاث احتمالات:
إما أن يقال: النافي نفَى إثباتَ الحكم للمذكورين، ولم يتعرضْ لنفيه عن بعضهم لا بإثباتٍ ولا نفي، بل نفى عينَ ما أثبتَه المثبت، فيُعلَم أنه حكم أنه لم يجئ المذكورون جميعهم، ويكون مجيءُ بعضِهم
_________
(1) في الأصل: “التي”.

(الكتاب/144)


مسكوتًا عن نفيه وإثباته.
وإما أن يقال: بل نفى العمومَ، وأفاد بطريق المفهوم ثبوتَ البعض، فهذا إنما يكون إذا كان النافي أثبتَ العمومَ كما تقدم.
وإما أن يقال: نفَى الحكم من كل عينٍ أثبتَه له، وناقضَ الإثبات العام بالسلب العام.
فهذا الاحتمال والأول هما القولان المذكوران في المسألة، وأما أن يقال: هو لسلب العموم فقط فهذا لا يكون إلّا في موادَّ معينة ومع القرينة، بل يقال: سَلَب الحكم سلبًا عامًّا، أو سلبَ الحكم العام الذي أثبته المثبت، لا أنه سلبَ عمومَه فقط. لكن يقال: ليس في نفس الأمر إلّا السلب العامُّ أو سلبُ العموم، إذ سلبُ الحكم العام إما أن يكون مع العموم في السلب أو لا معه، فإن كان مع العموم في السلب فهو القسم الأول، وإن كان بلا عمومٍ في السلب فقد سلب عموم السلب.

وهذه المسألة تُشبِه الاستثناءَ من الإثبات والنفي، هل هو لإثبات النقيضِ أو لرفع الحكم؟ والأقوى في عامة الكلام إذا لم يكن فيه قرينة تَقتضي أن المراد رفع العموم وهو سلب العموم، فإن المراد عمومُ السلب والنفي، وذلك لأن إعراض المتكلم عن ذلك لا يكاد يقع، فلا بدَّ أن يقصد المتكلم أحدَ الأمرين، وسلبُ العموم فقط لا بدَّ له من قرينة في النفي، كما أنه لا بدَّ له من قرينةٍ في الإثبات، فيبقى النوع الآخر، وهو أنه لنفي ما أثبته اللفظ الأول، والأول أثبت الكلَّ، والثاني نفَى الكلَّ، وهذا أيضًا يوجب التعادلَ بين الإثبات والنفي، فإنه إذا كان الإثباتُ يُثبت الحكمَ لكلِّ واحدٍ فالنفيُ ينفيه عن كلِّ واحدٍ، وإلّا لم يكن النفي قد نفى ما أثبته الإثباتُ، وهذا واضح، فإن الإثبات أثبتَ حكمًا حاصلًا

(الكتاب/145)


للجميع، فلا بدَّ من رفع هذا الحكم، ولا يرتفع إلا برفعِه عن الجميع، كما قيل في نفي الجنس. فإن الحكم الذي أثبته الإثبات هو جنسٌ، فإذا قلتَ: قام القومُ، أثبتَّ جنسَ القيام للقوم، فإنهم لما قالوا: النكرةُ في سياق النفي تعمُّ، دخلَ في ذلك نكراتُ الأسماء والأفعال. فإذا قال: لا يُقتَل مسلمٌ بكافرٍ، عمَّ كلَّ نوع من أنواع القتل، كما عمَّ كل مسلم وكلَّ كافر، والفعل نكرة مطلقًا، سواء كان فاعله ومفعوله نكرةً أو معرفة. فإذا قيل: جاء القوم أو أسلموا، فقيل: ما جاءوا ولا أسلموا، كان المنفي هو الفعل الذي هو نكرة، والنكرة في النفي تعمُّ.
وهذه حجه جيدة بينة، والمفهوم في الاستعمال في الكتاب والسنة وكلام العرب يوافق ذلك الموالاة في جميعهم (1)، ولذلك لما حرَّم الله الدمَ والخمر والربا وغير ذلك كان تحريمًا لأفرادِه، وكذلك الرجل إذا قال لابنه: لا تُكلِّمْ هؤلاء، أو لا تُخاصِمْهم، أو لا تأكلْ هذا الطعام، أو لا تأخذْ هذه الدراهم = فَهمَ جميعُ الناس من ذلك العمومَ. وكذلك الحالف (2) إذا قال: واللهِ لا آكلُ هذا الرغيف أو هذا الطعام، أو لا أضرِبُ هؤلاء أو لا أعتدي عليهم، فَهِمَ جميعُ الناس من ذلك العمومَ.
وسببُه – والله أعلم – ما ذكرناه من نفي النكرة التي لا تنتفي إلّا بانتفاء جميع أفرادِها، فأما إذا عُلِمَ سببُ النهي وعمومه فذاك يكون عمومًا من جهة فهم العلة، وهو عمومٌ معنوي، وهذا يقتضى في قوله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر/ 20] رفعَ المساواة من هؤلاء وكلِّ واحدٍ من هؤلاء، هذا في نفي العام المطلق، وأما النفي المبيَّن فيه
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) في الأصل: “لذلك الحالفون”.

(الكتاب/146)


العموم مثل أن يقال: ما جاء منهم أحد، أو ما جاءني من أحدٍ من هؤلاء، أو ما جاء لا هذا ولا هذا = فهذا لا ريب [فيه]، كما أن الذي قصد به نفي العموم فقط لا ريبَ فيه، ومثلُ: هذا يُساوي هذا في كلِّ شيء، فيقال: ما يُساويه في شيء.
إذا تبيَّن هذا قلنا: من المعلوم أن أحدًا لم يُثبِت لله مثلًا مطلقًا ولا كفوًا مطلقًا ولا سميًّا مطلقًا، فلم يقل أحدٌ من بني آدم: إن للبارئ سبحانه من يساويه في جميع صفاته وأفعالِه. فهذا أصلٌ.
والأصل الثاني أنا قد قدمنا أنّ الندَّ والمساويَ والعِدْل إذا أُطلق في جانب الله فإنما يُراد به من جعل لله نِدًّا في بعض الأشياء، أو جعل له عِدْلًا في بعض الأشياء، كقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام/ 1]، وقوله: {إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء/ 97 – 98]، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة/ 165]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أجعلتَني لله نِدًّا؟ ” (1). وهذا كالذين جعلوا لله شركاء، إنما أشركوهم معه في بعض الأمور. وأما أن يُجعل له شريك يَشرَكُه في جميع خلقِه وأمرِه فهذا لم يقله أحد، ولهذا قال: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُمْ مِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [الروم/ 28] أي كخيفة بعضِكم بعضًا، فأخبرَ أنكم لا تجعلون مماليككم شركاءكم، فكيف تجعلون مملوكي شريكي؟ وكانوا في تلبيتهم يقولون: لبيك لا شريك لك إلّا شريكًا هو لك، تَملِكُه
_________
(1) سبق تخريجه.

(الكتاب/147)


وما ملك (1).
ولهذا نفَى سبحانه قليل الشرك فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} [سبأ/ 22]، فنفى نفيًا عامًّا لمسمَّى شركٍ، نكرة في سياق النفي، ليبيِّن أن الشريك المنفيَّ عنه من جُعِلَ شريكًا له في أدنى شيء من ملكِه. فنفيُ الشريك كنفي الندِّ والعِدْلِ.
فإذا كان الشريك والندّ والعِدل ونحو ذلك في حق الله إنما هو اسمٌ لما أثبتَه الكفّار، وهم لم يُثبِتوا ذلك إلّا في بعض الأمور لا في جميعها، وثبت إطلاقُ هذه الأسماء في الكتاب والسنة وغير ذلك لمن أثبتَ لغيرِه معه معادلةً في شيء أو مساواةً في شيء أو مشاركةً في شيء، عُلِمَ أن مسمَّى العِدل والندّ والشريك في حق الله مطلق، ولا يُوجب المساواة في كلِّ شيء، بل يتناول ما ادعيتْ له المساواةُ في أيِّ شيء كان.
وسبب ذلك أن هذه المسمَّيات ليس لها حقائق خارجية، فإن الله تعالى ليس له في نفس الأمر من يَصلُح أن يكون عِدلًا أو شريكًا أو كفوًا أو نِدًّا، ولكن لما صار في بني آدمَ من يَعدِل به بعضَ خلقِه في بعض الأشياء نفَى ذلك، فالنفيُ هو لما في نفوسِ بني آدم، ويلزمُ مِن نفي ذلك نفيُ الندّ العام، لكن ذلك لم يحج إلى نفيه ابتداءً، لأن أحدًا لم يُثبِته، وليس له مسمًّى خارجي. والأسماء إنما توضع للصور الذهنية أو للحقائق الخارجية، فإذا كان المماثلُ لله من كلّ وجهٍ ليس له وجود خارجي، ولا أثبتَه أحدٌ في ذهنِه واعتقادِه، لم يحتج أن يجعل له لفظٌ
_________
(1) انظر: الأزمنة لقطرب 39، والأصنام لابن الكلبي 7، والمحبر 211.

(الكتاب/148)


يخصُّه، ولكن هو ينتفي عن الله بطريق اندراجِه في العموم، أو بطريق دلالة الفحوى والتنبيه.
فتدبَّرْ هذا فإنه موضع شريف، فلهذا قلنا: إن نفي السمِيّ والمثل والندّ والكفو والشريك عن الله يقتضي نفيَ ذلك في كل الأمور، فليس له سميٌّ في شيء من الأشياء.
وأما قولنا: “بين الوجودين قدر مشترك”، وهذا يقتضي أن يكون وجوده مشاركًا لوجود غيرِه، فهذا لفظي اصطلاحي، ليس هو الشرك المذكور في القرآن، فإن القرآن نفَى أن يكون في الموجودات من يكون شريكًا لله فيما يستحقه من خلقِه وأمرهِ وعبادته وحدَه لا شريك له، ولم يَنفِ أن يخلقَ هو سبحانه مخلوقاتٍ ويجعل لها صفاتٍ، وأنها تُسمَّى بأسماء توافِقُ أسماءه، فيَعقِل الذهنُ أن بين المسمَّيينِ قدرًا مشتركًا، وذلك القدر المشترك ليس له مشاركةٌ في شيء موجودٍ أصلًا، في خلقٍ ولا أمرٍ ولا عبادةٍ، وإنما هو في اعتبارٍ ذهني، كما يشارك اسمُه اسمَ بعضِ عباده في بعض حروفه، فالاشتراك بينه وبين عبادِه في بعض حروف الأسماء التي تُعقَل بالجَنان، وليس هذا بشركٍ في حقيقة موجودة أصلًا. ثم هذا من نعمه وفضله، فإنه الذي خلقَ الإنسان علَّمه البيان، وهو الذي بالقلم علَّم الإنسانَ ما لم يعلم.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: ما شاء الله وشئتَ: “أجعلتَني لله ندًّا؟ ” وقال: “قل: ما شاء الله ثم شاء محمد”. وأثبتَ المشيئة في مرتبة العبودية (1)
_________
(1) في الأصل: “العبودة”.

(الكتاب/149)


لا في مرتبة المنادَّة لتلك (1) المخلوقات، لما أعطاها من فضله الوجودَ العيني، كما قال: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق/ 2]، علَّم أيضًا من فضله العلمَ بها والتعبيرَ عنها، كما علَّم العلمَ به والتعبيرَ عنه بأسمائه. فكما أن وجودنا وحقائقنا من فضله، كذلك عِلْمنا بأنفسِنا وتعبيرُنا عن علومنا تابعٌ للعلم به والتعبير عن علمنا به، وأسماؤنا من أسمائه، كما روى الربيع بن أنس عن المسيح عليه السلام قال: يتكلمون بأسمائه ويتقلبون في نَعمائه ويكفرون بآلائه.
فقد تبين أن الله تعالى ليس له مثل ولا كفؤ ولا سميٌّ بوجهٍ من الوجوه، وتبين أن من أثبتَ لله ما يُماثِله في بعض الأمور، مثل من يقول من المجسِّمة: هو فضة أو كالفضة أو لحم أو دم، ومثل من طلب من المعطِّلة أن يكون له جنسٌ من المخلوقات، فهؤلاء مُبطِلون كلُّهم، وليس في ظاهر آياتِ الله ما يُوافِقُ قولَ أحدٍ من هؤلاء. ومن ادَّعى أن في الكتاب والسنة ما يدلُّ ظاهرُه على التجسيم والتشبيه فقد افترى على كتاب الله، وإن وصفَ الله بذلك فقد افترى على الله. فالمشبِّه المثبت لذلك مفترٍ على الله أو على كتابه، والمعطِّل المتأول لكتاب الله ظانًّا أن ظاهره كذلك مفترٍ على كتاب الله. بل يجب أن يبيَّن أن هذا ليس هو ظاهره، بل فيه نصوصٌ كثيرة دلَّت بالمعقول أيضًا كما دلَّت بالسمع على تنزيه الله عن مماثله المخلوقات بوجه من الوجوه.
فإن قيل: قد تقدم تضعيفكم لاستدلالِ طائفة بمثل قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى/ 11] على ما يدَّعونه من نفي. فهذا الجواب بعد الاستفسار هو بمنعِ المقدمة الأولى إذا فُسِّر الجسم بما ذكرناه من
_________
(1) في الأصل: “لذلك”.

(الكتاب/150)


المعنى المنفيّ بالنص والعقل، وادُّعي أنه ظاهر الكتاب والسنة، فإن هذا لم يدلَّ [عليه] ظاهر الكتاب والسنة.
وهو إن قال: ظاهر النصوص أن صانع العالم متميزٌ عن المخلوقات بائنٌ عنها، وأن ذاته وحقيقته فوقَ حقيقة المخلوقات وذواتها، بحيث يرفع الناس أبصارَهم وأيديَهم إليه، تَعرُج الملائكة والروحُ إليه، وعُرِج بالرسولِ إليه، وتَصعَد أرواحُ العباد، وأن الناس يمكن أن يروه يومَ القيامة بأبصارهم فوقَ رؤوسهم ويشيرون إليه بأبصارهم وأيديهم، وأنه فوقَ الأمكنة كلِّها، وأنه خلقَ آدم بيديه اللتين هما اليدان، وأنه استوى فوقَ العرش فارتفع عليه وعلا عليه، وذاته فوقَ ذاتِ العرش، ونحو ذلك، وأن له ذاتًا حقيقةً ليس عدمًا ولا شَبَحًا ولا خيالًا، بل حقيقتُه أعظمُ الحقائق، وإن كان لا يعلم ما هو إلّا هو، ولا يَبلُغ قدرتَه غيُره، ونحو ذلك.
فإن قال: هذه المعاني وما أشبهها هي ظاهر النصوص.
قلنا: هذا مسلَّمٌ، لكن بمنع المقدمة الثانية، وهو قولك: هذا منتفٍ، وإذا سمَّاه من سمَّاه تشبيهًا وتجسيمًا، لكن مجرد تسميتهم له بهذا الاسم لم يكن موجبًا لتركِ ما دل عليه (1) الكتاب والسنة، أو لتركِ ما عُلِمَ بالفطرة والعقلِ وإجماع السلفِ وأتباعِهم من الخلفِ أهل العلم والإيمانِ، فإن هذا الاسم إن لم يكن مطابقًا للمسمَّى كان كذبًا، كتسمية قريشٍ للنبي صلى الله عليه وسلم مذمَّمًا، وتسميتهم له شاعرًا وساحرًا ومجنونًا، ونحو ذلك مما يجدون بينه وبين المسمَّى به من اشتراكٍ في أمرٍ من عوارضِ
_________
(1) في الأصل: “على”.

(الكتاب/151)


الرسالة. جعلوه شاعرًا للمطابقة التي بين رؤوس الآي، ومجنونًا لخروجه عن عقلهم وعادتهم، وساحرًا لقوةِ تأثير كلامه في نفوس المستمعين، فكذلك هؤلاء إذا سمَّوا هذا تشبيهًا وتجسيمًا، لما فيه من إثبات حقيقة الربِّ وحقائقِ أسمائه وصفاتِه التي يُوافِق لفظُها لفظَ ما يُوصَف به العبادُ = لم يَضُرَّ ذلك، إذا كان الله في نفسه ليس هو من جنس المخلوقاتِ ولا مماثلًا لها في شيء من الأشياء، وان كان هذا الاسم مطابقًا لمسماه فإنه يكون مذمومًا إذا عُلِمَ ذَمُّه بالشرع أو بطلانُ المسمَّى بالعقل.
وليس في كتاب الله ولا سنة رسولِه ولا قولِ أحد من سلفِ الأمة ذمُّ التجسيم، حتى يكون الاسم مذمومًا في الشرع، وثبت معناه في حقّ الخصم، ولا أيضًا في الكتاب والسنةِ ولا لفظِ أحدٍ من الأئمة ذمُّ التشبيه بهذا التفسير، بل الذين ذَمُّوا المشبِّهة من سلفِ الأمة كانوا مثبتةً للصفات، وكانوا لنُفاتِها أشدَّ ذمًّا. والتشبيه المذموم عندهم هو المعنى الأول الذي أبطله المثبتة، ومنعوا دلالةَ النصوص عليه في أصله. [ثم] إن لفظ التشبيه فيه إجمال، فهو مذموم لما ذمَّه السلف من ذلك، وليس هو مذمومًا بالمعنى الذي ينفيه نُفاةُ الصفاتِ. وكذلك لفظ التجسيم في كلام المتأخرين، لكن معه زيادة أنه ليس [له] ذكرٌ في كلام السلف لا بنفي ولا بإثبات، بخلاف ذلك اللفظ، فإنه ذُكِر بالأمرين في كلامهم.
فإن أخذَ المنازعُ المعترضُ يَنفي هذا المعنى بما يذكره من الحجج العقلية تُكُلِّم معه في ذلك، وبُيِّن له أن ما ينفيه النُّفاة من هذه المعاني التي أثبتتْها النصوصُ النبوية وفُطِرَت عليها العقولُ الإيمانية، لا تَنتفي بما يذكرونه من الشُّبَه القياسية بألفاظٍ مجملةٍ تَظهر حقائقُها عند الاستفسار.

(الكتاب/152)


كما يُقال لمثل هؤلاء النُّظَّار (1):
سَوفَ تَرَى إذا انْجلَى الغُبارُ … أفَرَسٌ تحتَكَ أم حِمارُ
وسنعود إن شاء الله إلى تكميل هذا المقام، فإن المعترض لما أجملَ ما ذكر من الحجج العقلية التي بها يَدفَع موجبَ الكتاب والسنة، نَهَجْنَا الطريقَ إلى وجهِ بيانِ فسادِها بالممانعة بعدَ الاستفسار، وبمعارضتها بما هو أقوى في العقل منها عند النُّظّار، لنظر سلامة القرآن والحديث عن تحريف الغالين وانتحالِ المبطلين وتأويل الجاهلين، وبُيِّن أنه ليس ظاهره الكفر ولا الضلال كما يلزم حزبَ المعترض الجهّال، ولا أن الرسول أهملَ أصولَ الدين وبيانَ معرفةِ ربّ العالمين كما يقوله طوائف من المعطِّلين، ولا أنّ الربَّ مُشبه بالعدم والموات كما يصفه به النُّفاة، ولا أن السلف الذين هم خيار القرون كانوا أمِّيين كما يُلزِمُ به طوائف من المتكلمين، ولا حول ولا قوةَ إلا بالله. ونحن نتكلم على التفصيل في مواضعِه إن شاء الله تعالى، آمين.
_________
(1) الرجز بلا نسبة في التمثيل والمحاضرة 345.

(الكتاب/153)


فصل في الكلام على حديث “خلق آدم على صورته”

(الكتاب/155)


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(من الأسوِلَةِ المصرية على الفُتْيا الحمويَّة، والرَّدِّ على صاحب الأسْوِلةِ، وهو القاضي السَّرُوْجِيُّ) قال في الأسولة: وأمَّا كيف يُعمَل بقوله: خلق آدم على صُورتِه، وعلى صُورةِ الرحمن؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالجوابُ أنه يُعمَل فيه ما عَمِلَه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وتابعو التابعين، وأئمة المسلمين، فإن هذا الحديث هو في الصحاح من غير وجهٍ، أَعني (على صورته)، واللفظة الثانية مرويةٌ عن ابن عمر موقوفًا ومرفوعًا (1)، ومثله عن ابن عباس (2) وغيره من السلف، وهو مرويٌّ بألفاظٍ متنوعةٍ، ومثله موجود
_________
(1) الحديث بلفظ (على صورة الرحمن) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/ 229) وعبد الله بن أحمد في السنة (1/ 268) وابن خزيمة في التوحيد (1/ 85) والآجري في الشريعة (725) والدارقطني في الصفات ص 64 والحاكم في المستدرك (2/ 319) من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر مرفوعًا. وأعله ابن خزيمة بثلاث علل، وناقشه شيخ الإسلام ونقل صحة الحديث عن إسحاق بن راهويه وأحمد وغيرهما، وقال: أدنى أحوال هذا اللفظ أن يكون حسنًا. انظر: بيان تلبيس الجهمية (6/ 398 وما بعدها). وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 86، 87) من طريق سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء مرسلًا، وإسناده صحيح. وانظر فتح الباري (5/ 183).
(2) أورده أبو يعلى في إبطال التأويلات (1/ 97) نقلًا عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد الختلي في كتاب العظمة بإسناده عن ابن عباس – فيما يذكره عن الله تعالى -: “تعمد إلى عبيد من عبيدي خلقتُهم على مثل صورتي. فتقول: اشربوا يا حمير”. وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (349) وذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص 150، وليس عندهما لفظ الصورة. وانظر بيان=

(الكتاب/157)


فيما عند أهل الكتب من الكُتُب المأثورة عندهم عن الأنبياء في التوراة وغيرها.
فأما السلف فلم يكن فيهم من تأوَّله، لكن في علماء السنة أهل الحديث الأكابِرِ من تأوَّلَه، كما سنذكره، ولكن كان في السلف من يترك روايته؛ فإن مالكًا رحمةُ الله عليه رُوي عنه أنه لما بلغه أن محمد بن عجلان حدَّث به كره ذلك، وقال: إنَّما هو صاحبُ أُمراءَ (1). والمقتصدون يقولون (2): إنما كره مالكٌ ذلك لأنَّ العلم الذي قد يكون فتنةً للمستمع لا ينبغي للعالم أن يُحدِّثَه به؛ لأنَّهُ مَضرةٌ بل فتنة، وأن يكون بلَّغه لمن لا يفتتن به؛ لوجوب تبليغ العلم، ولئلا يُكْتَم ما أنزل الله من البينات والهدى.
وهذا كما قال عبد الله بن مسعود: ما من رجلٍ يُحدِّث قومًا حديثًا لا تَبلُغه عقولهم، إلا كان فتنةً لبعضهم (3).
وقال صلى الله عليه وسلم (4): “حدِّثوا الناسَ بما يعرفون، ودَعُوا ما يُنكرون؛
_________
= تلبيس الجهمية (6/ 448).
(1) في ترتيب المدارك (2/ 44) قال مالك في ابن عجلان: لم يكن من الفقهاء.
وفي رواية ابن القاسم وابن وهب عنه: إنه كان لا يعرف هذه الأشياء، وكره مالك أن يحدث بها عوام الناس الذين لا يعرفون وجهه ولا تبلغه عقولهم، فينكروه أو يضعوه في غير موضعه. وانظر سير أعلام النبلاء (6/ 320) وميزان الاعتدال (3/ 644، 645).
(2) في الأصل: “يقول”.
(3) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 11) بنحوه.
(4) كذا في الأصل “صلى الله عليه وسلم” ولعله سبق قلم من الناسخ. وهو موقوف على علي بن أبي طالب، أخرجه البخاري (127). وقد عزاه المؤلف إلى علي =

(الكتاب/158)


أتُحِبُّون أن يُكذَّب اللهُ ورسولُه؟ ! “.
ولذلك كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة إذا خَشُوا فتنةَ بعض المستمعين بسماع الحديث لم يُحدِّثُوه به، وهذا الأدب مما لا يتنازع فيه العلماء؛ فإن كثيرًا من العلم يَضُرُّ أكثرَ الخلق، ولا ينتفعون به، فمُخاطبتُهُم به مَضرَّةٌ بلا منفعةٍ.
وقد سأل رجلٌ ابنَ عباس عن تفسير قوله [تعالى]: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق/ 12] فلم يُجبهُ، وقال: ما يمنعك أنِّيْ لو أخبرتُك بتفسيرِها لكفرتَ؟ وكفرُك بها تكذِيبُك بها (1).
وسأله رجل عن قوله [تعالى]: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج/ 4]، فقال: يوم من أيَّام الرب، أخبر الله به، الله أعلمُ به (2).
وسأل بعضهم زرَّ بن حُبيشٍ عن حديث عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل، وله سِتُّمئة جناحٍ، فلم يُحدِّثْهُ (3).
ومن المعلوم أنَّ فيما (4) رُوِيَ [في] هذا الحديث ما قد يَفْتِنُ بعضَ الناس؛ إمَّا بتكذيبٍ لحق، وإما بتصديقٍ بباطل فيعتقد اعتقادًا فاسدًا،
_________
= في بيان تلبيس الجهمية (1/ 362، 6/ 374، 8/ 329).
(1) انظر تفسير الطبري (23/ 78) والدر المنثور (14/ 563، 565).
(2) انظر الدر المنثور (14/ 695).
(3) أخرجه البخاري (3232، 4856، 4857) ومسلم (174). وليس فيهما أنّ زِرًّا لم يُحدِّثه. وقد ذكر المؤلف نحو ما هنا في بيان تلبيس الجهمية (1/ 363).
(4) في الأصل: “إنما”.

(الكتاب/159)


أو يرُدُّ اعتقادًا صحيحًا، أو يُوقعُ تباغُضًا وتعاديًا، وغير ذلك من الأمور المُحرَّمة المتعلقة بالأمور الخبريَّة، وبالأفعال الأمريَّة.
وقولُ مالكٍ رحمه الله في ابن عجلان: هو صاحبُ أُمراءَ؛ كأنَّه – والله أعْلمُ – يُريدُ بذلك أن [جُلَساءَ] (1) الملوك لا يضعون العلم مواضعه، وإنما يقولون ما عنده مُطلقًا؛ لطلب التقرب إلى الملوك أو لغير ذلك، من غير تمييزٍ بين ما ينتفع به الملوك وما لا ينتفعون به.
وهذا الحديث فيه ما يجب تبليغُه للملوك؛ من نهي النبي صلى الله عليه وسلم [عنْ] ضَرْبِ الوجهِ، ولذلك روى مالكٌ هذا المعنى عن ابن عجلان نفسه، كما سنذْكُرُهُ إنْ شاء الله، ورواهُ البُخارِيُّ في صحيحه (2)، لكنَّه كَنى عنهُ في هذا الموضع؛ لئلا يُعابَ عليه صُورةُ التناقُض في كونه يَكره له روايتَه، ثُمَّ يرويه هو عنه.
وأنكر بعضُ الناس على مالكٍ إنكارَه لروايته، وقال: كيف يُنكِرُ
_________
(1) زيادة ليستقيم المعنى.
(2) برقم (2559)، وإسناده: “حدثني محمد بن عبيد الله، حدثنا ابن وهب، قال: حدثني مالك بن أنس، قال: وأخبرني ابن فلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة … “. يقصد المؤلف أن مالكًا روى الحديث عن ابن عجلان المذكور، ولكن البخاري كنى عن اسمه بقوله “ابن فلان”. وهذا يستقيم إذا كان قائل “وأخبرني ابن فلان” هو مالك بن أنس، وكان المراد بابن فلان هو ابن عجلان. والذي جزم به المزي وابن حجر وغيرهما أن القائل هو عبد الله بن وهب، والمراد بابن فلان: ابن سمعان، يعني عبد الله بن زياد بن سمعان المدني. وابن وهب سمع الحديث من لفظ مالك وبالقراءة على ابن سمعان، وكان ابن وهب حريصًا على تمييز ذلك. انظر تحفة الأشراف والنكت الظراف (10/ 306) وفتح الباري (5/ 182).

(الكتاب/160)


تبليغَ حديثٍ صحيحٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُنكر الكلام بالرأي المخالف لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقَرَنوا هذا بما يُذكَرُ عن رَبيعَةَ وأبي … (1) ونحوهما من أهل رأي المدينة؛ أنهم كانوا ينكرون على ابن شهابٍ وأبي الزِّناد الأحاديثَ الصحيحةَ، وهما أوَّلُ من أحدثَ [في مدينة] (2) النبيِّ صلى الله عليه وسلم الحدَثَ بالقول بالرأي في الدين، وقد عُلِمَ ما قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيمن أحدثَ في مدينته صلى الله عليه وسلم حدثًا (3).
وضمُّوه إلى ما قاله ابنُ أبي ذِئْبٍ في ذلك لحديث “البَيِّعَين بالخَيارِ” (4)، وذكروا أشياء لا أُحِبُّ ذكرها؛ لأن المتكلِّم بها عظيمٌ، والمتكلَّم به عظيم، وهم أئمة مجتهدون، فالكلام في ذلك يُشبِه الكلام فيما وقع بين الصحابة؛ إذ المعنى المقتضي لذلك يَعمُّ الصحابةَ وسائرَ طبقات الأمة (5)؛ إذْ كُلُّ طبقةٍ مُتأخِّرة ينبغي أن تستعمل من الطبقة المتقدمة معنى هذه الآية: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر/ 10].
_________
(1) هنا كلمة غير واضحة في الأصل.
(2) زيادة على الأصل.
(3) أخرج البخاري (6755 ومواضع أخرى) ومسلم (1370) عن علي بن أبي طالب مرفوعًا: “من أحدثَ فيها حدثًا أو آوى مُحدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين”.
(4) أخرجه البخاري (2111) ومسلم (1531) عن عبد الله بن عمر، وفي الباب عن غيره من الصحابة. وكان ابن أبي ذئب يُنكر على مالكٍ اختياره ترك العمل به، حتى جرى منه لذلك في مالكٍ قولٌ خشنٌ حمله عليه الغضب. انظر التمهيد (17/ 197 ضمن موسوعة شروح الموطأ).
(5) في الأصل: “الأئمة”.

(الكتاب/161)


ومعلومٌ أن كلام العلماء بعضهم في بعضٍ – بالاجتهاد تارةً، وبنوع من غيره أخرى – يُشبِه ما وقع بين بعض الصحابة وبعضٍ من القال والفعال.
فالمؤمن يجمع بين القيام بحق الله، بمعرفة دينه والعمل به، وحقوق المؤمنين متقدميهم ومتأخِّريهم؛ بالاستغفار وسلامة القلوب، فإنه من كان له في الأمة لسانُ صدقٍ – بل ومن هو دونه – إذا صدر منه ما يكون مُنكرًا في الشرع (1)، فإما أن يكون مجتهدًا فيه، يَغفِر الله له خطأه، وإما أن يكون مغمورًا بحسناته، وإما أن يكون قد تاب منه. بل من هو من دون هؤلاء إذا فعل سيئةً عظيمةً فالله يَغفرِها له؛ إما بتوبةٍ، وإما باستغفاره، وإما بحسناته الماحية، وإما بالدُّعاء له، والشفاعة فيه، والعمل الصالح المُهدَى إليه، وإما أن يُكفِّر عنه بمصائب الدنيا، أو البرزخ، أو عَرَصات القيامة، أو برحمة الله تعالى، فلهذا ينبغي للمؤمن أن يتوقَّى القولَ السيئَ في أعيان المؤمنين المتقين، ويُؤَدِّي الواجبَ في دين الله، والقولَ الصدق، واتباع ما أمَر الله به، واجْتنابَ ما نَهى الله عنهُ.
وكما أنَّ هذا الواجبُ في المسائل العملية، فكذلك في هذه المسائل الخبرية، لا سيما فيما يَغمُض معناهُ، ويَشتبه على عموم الناس الحقُّ فيه بالباطل، فهذا المسلك يجب اتِّباعه، إذْ قلَّ عظيمٌ في الأمة إلا وله زلَّةٌ، وقد جاء في الحديث التحذيرُ من زلَّةِ العلماء (2).
_________
(1) في الأصل: “ما يكونون منكرين للشرع”.
(2) أخرج البيهقي في السنن الكبرى (10/ 211) عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده مرفوعًا: “اتقوا زلَّة العالم وانتظروا فيئتَه”. وكثير هذا ضعيف جدًّا، قال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة. لكن جاءت آثار كثيرة عن =

(الكتاب/162)


وهذه المسألة التي نحن فيها لا بدَّ فيها [من ذلك]، إمَّا من جانب النفي والنهي، وإما من جانب الإثبات؛ فالمُثْبِتَةُ تجدُ في النُّفاة من هو عظيمٌ عندها، والنُّفاةُ تجدُ في المُثْبِتَةِ من هو عظيمٌ عندها، فلا بُدَّ من رعاية حق الله بالواجب في الإثبات أو النفي، والأمر والنهي، وحقِّ عبادِهِ المؤمنين، بما لهم من إيصال حقوقهم إليهم، من المحبَّة والموالاة وتوابع ذلك، واجتناب البغي والعُدوان عليهم.
وقد حَملتْ طائفةٌ ثالثةٌ نهيَ مالك لرواية هذا الحديث على العموم، وقد رُوِي عنهم أنَّه كَرِه رواية أحاديثَ في هذا الباب، فجعلوا هذا قُدوةً في المنع من رواية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة (1) عنه، ثمَّ يُنزِلون ذلك على رأيهم، فمنهم من يجعل ذلك عامًّا في رواية جميع أحاديث الصفات، كما يقوله من يقوله من المعتزلة ونحوهم من الجهميَّة، من النهي عن رواية هذه الأحاديث والتكذيب بها، كما يفعلون ذلك في مُكْنتِهم، كما فعلوه في إمارة أبي إسحاق (2) ونحوه، ومنهم من يَخُصُّ ذلك ببعضها.
وفي الجملة فالكلام في حق رواية الأحاديث وقُبح ذلك فيه تفصيلٌ ليس هذا موضعه، والذين قَبِلوا (3) هذا قد يوافقونهم على أنَّ هذا كان مقصودَ مالك؛ لكون ذلك سببًا للقدح فيه، ولنظرائه وأصحابه من أئمة الفقهاء فيه من الكلام، فلا أُحبُّ ذكره هنا.
_________
= السلف في التحذير من زلّات العلماء تُراجع في مواضعها.
(1) في الأصل: “إنما عنه”!
(2) يعني المعتصم العباسي.
(3) في الأصل: “قبل”.

(الكتاب/163)


وأمَّا أهل الاقتصاد العارفون بقدر مالكٍ، فيقولون: هو كان أعلمَ وأبينَ من أن ينهى عن رواية الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيًا عامًّا، فإنَّ هذا أمرٌ بكتمان ما أمر الله بتبليغه، ومخالفةٌ لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من التَّبليغ، حيثُ دعا لصاحبه بالنَّضْرَة في مقالتها وتأديتها عنه (1).
قالوا: والنهي إنما يكون لسببٍ خاصٍّ كضعف حفظ المحدِّث، أو لدينه، أو اشتغال المحدِّث به عمّا أُوجِب عليه، ونحو ذلك، كما كان عمرُ ينهى عن الحديث الذي لم يَضبِطه صاحبه، وينهى أن يشتغل الناس عما يؤمرون به في القرآن بما لم يجب عليهم من الحديث، ونحو ذلك.
فهذا الكلام فيما نُقِل عن مالك في هذا، وأما بقية السلف الذين كانوا قبله وبعده ونظراءه فقد رووه كلَّه وبلَّغوه، وحملهُ أكابر العلماء بعضُهم عن بعضٍ.
منهم: اللَّيثُ بنُ سَعْدٍ نَظيرُ مالك، قال الشافعيُّ: كان أفقه منه، رواهُ عن محمد بن عجلان، عن المَقْبُريِّ، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا يقولنَّ أحدكم لأحدٍ: قبَّح الله وجهَك، ووجهًا أشبهَ وجهَك، فإنَّ الله خلق آدم على صورته”. وقال: “إذا ضرب أحدُكم فليجتنبِ الوجهَ، فإن الله خلقَ آدمَ على صورته”. ورواهُ عن الليث ابنهُ شعيبٌ المشهور، وعن شعيبٍ الرَّبيعُ بن سليمان صاحب الشافعيِّ، وعن
_________
(1) في الحديث المشهور: “نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلَّغها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه .. “. أخرجه أحمد (1/ 436) والترمذي (2657، 2658) وابن ماجة (232) من حديث ابن مسعود. وفي الباب عن زيد بن ثابت وأبي الدرداء وأنس بن مالك وغيرهم. وقد جمع طرقها وتكلم عليها الشيخ عبد المحسن العباد في كتاب مفرد وهو مطبوع.

(الكتاب/164)


الربيعِ الإمام محمد بن إسحاق بن خُزيمة (1).
ورواه أيضًا عن ابن عجلان: يحيى بنُ سعيد القَطَّانُ (2)، إمامُ أهل الحديث مُطْلقًا في المعرفة والإتقان، ورواهُ عنهُ العلماءُ المشاهير. وكان ابنُ عجلان يرويه عن أبيه [وسعيد] (3) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا ضربَ أحدُكم فليجتنبِ الوجهَ” (4)، لم يزد على ذلك، لم يُفرِّق بين روايته عن المقبري وعن أبيه. وقد أخرج أصله البخاري في صحيحه (5) من حديث مالك عن ابن عجلان، ولم يُسمِّه.
ورواه معمرٌ نظيرُ مالك عن همام عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خلق الله آدمَ على صورته؛ طوله سُتُّون ذراعًا، فلما خلقه قال: اذهبْ فَسَلِّمْ على أولئك النفر، وهم نفرٌ من الملائكة جلوسٌ، فاستمِعْ ما يُحيُّونك؛ فإنها تحيتُك وتحيَّةُ ذُرِّيتك. قال: فذهب، فقال: السلام عليكم، فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله، قال: فزادُوهُ (ورحمة الله). قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم؛ طوله ستون ذراعًا، فلم يَزلِ الخلقُ ينقصُ حتى الآن”. أخرجاهُ في الصحيحين من هذا الوجه (6).
_________
(1) أخرجه في كتاب التوحيد (1/ 81، 82) بهذا الطريق.
(2) ومن طريقه أخرجه أحمد (2/ 251، 434).
(3) زيادة لما سيأتي من الكلام. وسعيد هو المقبري.
(4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (174) بهذا الطريق.
(5) برقم (2559). وقد سبق الكلام فيما يتعلق بإسناده، وهل فيه رواية مالك عن ابن عجلان أم لا.
(6) البخاري (6227) ومسلم (2841).

(الكتاب/165)


ورواه مسلمٌ (1) من حديث قتادة عن أبي أيوب عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا قاتلَ أحدُكم أخاه فليجتنب الوجهَ؛ فإن الله خلق آدم على صورته”.
ورواه عبد الرحمن بن مهديٍّ الإمام المشهور، عن سفيان الثوري الإمامِ الكبيرِ عن حبيبِ بنِ أبي ثابتٍ عن عطاءِ بن أبي رباح (2).
ورواه الأعمش عن حبيبٍ، وأسنده عن [عطاء عن] (3) ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تُقبِّحِ الوجهَ؛ فإن ابنَ آدم خُلِق على صورة الرحمن” (4).
وحدث به أيضًا سفيانُ بنُ عيينة الإمام (5)، وذكر الإمام أحمد (6) لما حدث به جعل عبد الله بن الزبير الحميدي الإمام صاحبُ الشافعي يقول: هذا الحقُّ، وهذا، وهذا، وابن عُيينة ساكتٌ لا يرُدُّ عليه.
ورواه الخلَّال في كتاب السنة (7) عن المرُّوْذيِّ، قلتُ لأبي عبد الله: كيف تقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “خلق الله آدم على صورته”؟ قال:
_________
(1) برقم (2612/ 115).
(2) مرسلًا، أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/ 86، 87). وإسناده صحيح.
(3) زيادة من مصادر التخريج.
(4) سبق تخريجه في أول الفصل.
(5) أخرجه الحميدي في مسنده (1120) والبخاري في الأدب المفرد (172) من طريق ابن عيينة عن ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة.
(6) كما رواه الخلال عن المروذي عنه، وسيأتي.
(7) لا يوجد في المطبوع منه. ونقله المؤلف في بيان تلبيس الجهمية (6/ 415) وذكره أبو يعلى في إبطال التأويلات (1/ 90، 94) مختصرًا.

(الكتاب/166)


الأعمش يقول عن حبيب بن أبي ثابتٍ، [عن عطاء] (1) عن ابن عمر: “إن الله خلق آدم على صورة الرحمن”. وأما الثوري فأوقفه، يعني حديث ابن عمر. قال: وقد روى أبو الزّنادِ عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: “على صورته” (2)، فنقول كما جاء في الحديث.
قال (3): وسمعتُ أبا عبد الله يقول: لقد حضرتُ الحميديَّ بحضرة سُفيان بن عيينة، فذكر هذا الحديث: “خلق آدم على صورته”، فقال: من لا يقولُ بهذا فهو كذا وكذا، يعني من الشَّتم، وسفيانُ ساكتٌ، لا يرُدُّ عليه شيئًا.
وقدْ ذكر هذه القصةَ صالحٌ عن أبيه في (كتاب السُّنة) أيضًا، وذكر حديث الحميدي وابن عيينة.
قال المرُّوذي (4): سمعت أبا عبد الله – قيل له: أيُّ شيء أُنكِرَ على بِشْر بن السَّرِيّ؟ وأيُّ شيءٍ كانتْ قصتُه بمكة؟ قال: تكلم بشيء من كلام الجهميَّة، فقال: إنَّ قومًا يَحُدُّون. قيل: التشبيه؟ فأومأ برأسه: نعم، قال: فقام به مؤمل حتى خَنَسَ، فتكلم ابن عيينة في أمره حتى أُخرج، قال: إنه صاحب كلام.
وليس الغرض تعديدَ طرقه، وإنما الغرض الأصلي أن الأئمة المتفق
_________
(1) زيادة من المصادر السابقة.
(2) أخرجه مسلم (2612) وأحمد (2/ 244، 449) والحميدي في مسنده (1121) بهذا الطريق.
(3) أي المرُّوذي. ونقل المؤلف هذا النص في بيان تلبيس الجهمية (6/ 415 – 416).
(4) نقل عنه المؤلف في المصدر السابق (6/ 417).

(الكتاب/167)


على إمامتهم في الأمة (1) ما زالوا يروونه ولا ينكرونه، ولا يتأولونه، على المحفوظِ عنهم في (2) ذلك، وأول من بلغنا أنه تأوَّله ممن هو من العلماء المعروفين: أبو ثور، فلما تأوله أنكر ذلك عليه الإمام أحمد وغيره، وقصته في ذلك معروفة، ذكرها المرُّوذي في (كتاب القصص)، وذكرها الخلَّالُ وغيره، وذكرها أبو طالب المكيُّ في كتابه المسمى بـ (قُوْتِ القلوب) (3) وقد ذكر [ها] غير واحدٍ؛ كالقاضي أبي يعلى في كتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات) (4).
وكذلك تأوله الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خُزيمة، وجعل الضمير عائدًا على المضروب، وعلَّلَ رواية (الرحمن) وتأوَّلها – بتقدير صحَّتها – على أن الإضافة إلى الله إضافة خلق؛ لأنَّ الله خلقه تشريفًا وتكريمًا (5). وقد قيل: إن أبا الشيخ الأصفهاني أيضًا ممَّنْ تأوَّله (6). فهؤلاء الثلاثة من المشهورين بالسُّنة، لكن جماهيرهم أنكروا ذلك.
قال المحافظ أبو موسى المدينيُّ في (مناقب الإمام إسماعيل بن محمد التيمي قِوامِ السنة) (7): سمعتُه يقول: أخطأ محمد بن إسحاق بن
_________
(1) في الأصل: “الإمامة”.
(2) في الأصل: “ضد” تحريف.
(3) (1/ 168). وانظر إحياء علوم الدين (2/ 168) وطبقات الحنابلة (1/ 212) وسير أعلام النبلاء (11/ 289).
(4) (1/ 90).
(5) انظر كتاب التوحيد لابن خزيمة (1/ 81) وما بعدها.
(6) ذكره المؤلف ممن تأوَّل هذا الحديث في بيان تلبيس الجهمية (6/ 377)، ولذلك أنكر عليهم أئمة السنة.
(7) نقل المؤلف هذا النصَّ عنه في بيان تلبيس الجهمية (6/ 409 – 411).

(الكتاب/168)


خزيمة في حديث الصورة، ولا نطعن عليه بذلك، بل لا يُؤخذُ عنه هذا فحسبُ.
وقال الشيخ أبو الحسن بن الكَرَجي، أحدُ الأئمة الكبار من أصحاب الشافعي، في كتاب (الفصول من الأصول عن الأئمة الفُحول) (1): فإن قيل: قد منعتم التأويل، وعددتموه من الأباطيل، فما قولكم في تأويل السلف؟ وما وجهُ نحوٍ مما يُروى عن ابن عباس في معنى {اسْتَوَى}: استقر؟ (2) وما رويتم عن سفيان في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد/ 4]، قال: بعلمه (3).
فقال في الجواب: إن كان السلف صحابيًّا، فتأويله مقبول. وقَرَّرَ ذلك.
قال: فإن صح عن ابن عباس هذا وضعنا له الحدَّ، وعرفنا من الاستقرار ما عرفناه من الاستواء، وقلنا: إنه ليس باستقرار يتعقَّبُ (4) تبعًا واضطرابًا، بل كيف شاء وكما شاء.
فأما إذا لم يكن السلف صحابيًّا، فإن تابعه عليه الأئمة المشهورون من نقلة الحديث والسنة، ووافقهُ الثقاتُ الأثباتُ، تابعناهُ ووافقناهُ، فإنه إن لم يكن إجماعًا حقيقةً، ففيه مُشابِه الإجماع؛ إذْ هو سبيلُ المؤمنين،
_________
(1) نقل المؤلف النصَّ الآتي عنه في بيان تلبيس الجهمية (6/ 401) وما بعدها، ومجموع الفتاوى (4/ 181 – 182).
(2) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 401) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 72) وغيرهما.
(3) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 155).
(4) في الأصل: “يتصف”. والتصويب من بيان تلبيس الجهمية (6/ 403).

(الكتاب/169)


وتوافقُ المتقين، الذين لا يجتمعون على ضلالة، ولأنَّ الأئمة (1) لو [لم] يعلموا (2) أنّ ذلك عن الرسول والصحابة [لم] يتابعوه.
فأمَّا تأويلُ من لم يتابعه عليه الأئمة فغيرُ مقبولٍ، وإن صدر ذلك التأويل من إمامٍ معروفٍ غير مجهول؛ نحو ما يُنسَب إلى أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة تأويلُ حديث “خلق آدم على صورته”، فإنه تفرَّد بذلك التأويل، ولم يُتابعه عليه من قبله من أئمة الحديث، كما روينا عن أحمد رضي الله عنه، ولم يُتابعه أيضًا من بعده، حتى رأيتُ في كتاب (الفقهاء) للعبادي الفقيه أنه ذكر الفقهاء، وذكر عن كُلِّ واحدٍ منهم مسألةً تفرَّد بها، فذكر الإمام ابن خزيمة، وأنه تفرَّد بتأويل هذا الحديث: “خلق آدم على صورته” (3). على أنِّي سمعتُ عدَّةً من المشايخ رووا: أن ذلك التأويل مزوَّرٌ مرفوضٌ (4) على [ابن] خُزيمة، وإفكٌ افتُري عليه (5)، فهذا وأمثال ذلك من التأويل لا نقبله، ولا نلتفت إليه، بل نوافقُ ونتابع ما اتفق الجمهور عليه (6).
وجماعُ ذلك أنَّ منهم من جعل الضمير عائدًا إلى المضروب، ومنهم من جعله عائدًا إلى آدم، وهذا الذي يُذكر عن أبي ثور، وهو الذي أنكره أحمد وغيره.
_________
(1) في الأصل: “الأمة”. والتصويب من المصدر السابق.
(2) في الأصل: “تعلموا”. والزيادتان من المصدر السابق.
(3) انظر طبقات الفقهاء الشافعية للعبادي ص 44.
(4) في الأصل: “مردود مرفوض”. والتصويب من بيان تلبيس الجهمية (6/ 405).
(5) ولكنه ثابت من كلام ابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/ 87 – 92).
(6) إلى هنا انتهى النقل من كتاب أبي موسى المديني، ثم يبدأ كلام المؤلف.

(الكتاب/170)


والذين قالُوا: الضميرُ عائدٌ إلى الله، كما يدلُّ عليه سياقُ الحديث وألفاظُه المنقولة، ويوافقُ حديث ابن عمر وابن عباس وغيرَ ذلك، فقد قيل: إنَّه أضافه إليه إضافة تشريفٍ وتكريم، كما قال ابنُ خزيمةُ. قال (1): هو من إضافة الخلق إليه، كقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان/ 11]، و {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} [الأعراف/ 73]، وقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ} [النساء/ 97]، وقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم/ 30].
وسلك آخرون مسلكًا آخر؛ فجعلوا الصورة هي الصورة المعنوية، وبهذا قال ابنُ عقيل والغزاليُّ وغيرُهما.
ثُمَّ منهم من قال: هي صورةُ المُلْكِ والتدبير، فإن الآدمي أُعطِيَ من الملك في جميع أجناس الحيوان ما فيه نوعٌ من صورة الرُّبوبية، وهذا اختيارُ ابنِ عقيلٍ.
ومنهم من قال: صورةُ الصفات، وهو أنه حيٌّ عليمٌ قديرٌ سميعٌ بصيرٌ متكلمٌ مريد، والذين أبطلوا هذا التأويل ردُّوا ذلك (2) بأنَّ صورة الصفات مشتركة بين الملائكة والجن، وصورة المُلْك لا تختص بآدم، وقد قالوا: سياق الأحاديث وألفاظها يردُّ ذلك.
وقد تكلم أبو محمد بنُ قتيبة في (مختلف الحديث) (3) عليه، وقرَّره
_________
(1) في كتاب التوحيد (1/ 87) وما بعدها.
(2) في الأصل: “بذلك”.
(3) تأويل مختلف الحديث ص 147 – 150. قال في آخره: والذي عندي – والله تعالى أعلم – أن الصورة ليست بأعجبَ من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلفُ لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأتِ في =

(الكتاب/171)


على مذهب السلف وأهل السنة، وقال: هذه صفة من الصفات، كالصفات الواردة في القرآن. وتكلم بكلام قد بَعُدَ عهدي به.
وهؤلاء لا يدفعون ما استنبطَ أولئك من المعاني الصحيحة التي أثبتُوها، وإنما يُنازعونهم في معنى ما نَفَوه من الحق في أحاديث الصورة الأخرى وإثبات التأويلات، كما ينازعون الممثِّلةَ في إثبات الباطل. وطائفة من متأخِّري العلماء والصوفية سلكوا هذا المسلك؛ كأبي الفرج بن الجوزي وغيره.
ورأى (1) آخرون أنه أراد الصورة الفعلية، وهو أن الإنسان هو العالم الصغير، الذي اجتمع فيه ما تفرَّق في العالم الكبير، فهو على صورة العالم. وزاد الاتحادية على هؤلاء؛ إذ هم يقولون: إنه هو العالم، والإنسان مخلوقٌ على صورة العالم.
وبالجملة فهذا الحديث بعينه قد ثبت عن أئمة السنة وعلماء الأمة إنكارُ تأويله، وليس هؤلاء ممن بان جهلُهم، وسقطتْ مكانتُهم، بل من تأمَّل كتبَ المناظرة التي بين المناظرين وبين منازيعهم علم أيُّ الفريقين أهدى وأقومُ حجةً. ولكن العالم يعرفُ الجاهل لأنه كان جاهلًا، والجاهلُ لا يعرف العالم لأنه ما كان عالمًا. فما عند المنازعين شُبَهٌ عقلية ونقلية (2) ما لم تخطر ببالهم، ولكن قد يُمسِكُ العالمُ عن الكلام؛ لقصور المخاطب أو لهواه، فأما عند قوَّة عقله وقوة دينه فإنه يخاطب بقدر عقله ودينه، فإن مخاطبة الناس إنما تكون بقدر عقولهم.
_________
= القرآن. ونحن نؤمن بالجميع، ولا يقول في شيء منه بكيفية ولا حدّ.
(1) في الأصل: “روى”.
(2) في الأصل: “لعقلية”.

(الكتاب/172)


ثم ليعلم أن ليس في السلف من أنكره أو دَفَعه، بل اتفق العلماء والفقهاء على رواية أصله في الجملة؛ إذْ كان فيه أمرٌ ونهيٌ لا يُمكِنُ الفقهاءَ تركُه، وهو نهيُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه وتقبيحه، فاحتاجوا إلى ذلك ليُبيِّنوا أنه لا يجوز ضرب الوجه في الحدود والتعزير، ولا في المقاتلة، حتى إن مالكًا رحمه الله احتاج إلى روايته، فرواه عن ابن عجلان أيضًا، وكنى عنه (1) لكن تركَ روايةَ الجملة الثانية. ورواه البخاري في صحيحه (2) من طريقه هكذا. وقرن معه رواية همامٍ، لكن ذكر البخاري رواية همام في خلق آدم (3) بتمامها.
فقال البخاري (4): (باب: إذا ضرب العبدَ فليجتنبِ الوجهَ) ثنا محمد بن عُبيد الله، ثنا ابن وهب، حدثني مالك بن أنس قال: وأخبرني ابنُ فلان عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثني عبد الله، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه”.
وهذا شطر الحديث، ومعلومٌ أن هذا الشطر الذي رواه الناس كُلُّهم، [و] اتفق العلماءُ على تلقيه بالقبول والعمل به، يُبطِلُ جميعَ التأويلات الفاسدة التي نُقلت في الشطر الآخر، وهذا من حكمة الله [و] حِفْظِ الله للذكر الذي أنزله على رسوله، فإن قوله: “خلق آدم على صورته” لم يُنازِعْ أحدٌ من العلماء في صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل رواه
_________
(1) سبق ما فيه.
(2) برقم (2559).
(3) برقم (3326).
(4) في صحيحه مع الفتح (5/ 182).

(الكتاب/173)


الخلقُ كلُّهم من أهل الحديث والفقه، والكلام والتصوف، والخاصة والعامة، وتلقَّوه بالقبول كما تلقَّوا حروفَ القرآن، وإن تُرِكتْ روايتُه في بعض المواضع لمصلحة راجحةٍ. وإنما تنازعوا في صحة قوله: “على صورة الرحمن”، وتنازعوا في الضمير في قوله: “على صورته” إلى من يعود؟ فقيل: يعود على مضروب قيل له: “قبح الله وجهَك، ووجهَ من أشبهَ وجهَك”، فقال: “إن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب”، كما يذكر ذلك طائفةٌ من أهل الكلام، ويروون فيه حديثًا باطلًا عند أهل الحديث، لا أصل له (1).
وفيمن جعلَ الضميرَ عائدًا على المضروب ابنُ خزيمة، لكنه لم يَحتجَّ في ذلك بحديث؛ لأنه كان إمامًا في الحديث والفقه، يعلم أن ليس في هذا حديثٌ، لكنه لما روى الحديث الصحيح: “لا يقولن أحدُكم لأحد: قبح الله وجهك، ووجهًا أشبه وجهك؛ فإن الله خلق آدم على صورته” (2)، وقوله: “إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته” (3)، قال: الهاءُ في هذا الموضع كنايةٌ عن اسم المضروب والمشتوم، أراد صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب، الذي أمرَ الضاربَ باجتناب وجهه بالضرب، والذي قبَّح وجهه. فزجرَ صلى الله عليه وسلم أن يقول: “ووجهَ من أشبهَ وجهَك”؛ لأن وجه آدم شبيهُ وجوهِ بنيه، فإذا قال الشاتم لبعض بني آدم: قبَّح الله وجهَك ووجهَ من
_________
(1) انظر مشكل الحديث لابن فورك ص 7. قال المؤلف في بيان تلبيس الجهمية (6/ 424): هذا لا أصل له، ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث.
(2) انظر كتاب التوحيد لابن خزيمة (1/ 81، 82).
(3) المصدر السابق (1/ 83).

(الكتاب/174)


أشبه وجهك، كان مُقبِّحًا وجهَ آدم. فتفهَّموا رحمكم الله معنى الخبر، لا تَغلَطوا ولا تُغالِطُوا، فتصُدُّوا عن سيبل الله، وتَحمِلوه على القول بالتشبيه الذي هو ضلال (1).
وقيل: يعود على آدم، كما يُذكرُ عن أبي ثورٍ وطائفةٍ أخرى.
والذين أعادوا الضمير إلى الله لهم فيه أيضًا أقوال.
فتبليغُ جميع العلماء والفقهاء للفظِ بعض الحديث وحُكمِهِ، يُبيِّنُ لهم ما نازع فيه بعضهم من معنى باقيه، وهو نهيهُ عن ضرب الوجه مطلقًا. فقوله: “إذا قاتل أحدُكُم فليجتنب الوجهَ، فإن الله خلقَ آدم على صورته”، أو “إذا ضرب أحدكم”، فنهى عن ضرب الوجه نهيًا عامًّا، وعلَّلَهُ بأنَّ الله خلق آدم على صورته، وكونُ آدم خُلِقَ على صورةِ هذا المضروب لا يُناسبُ النهيَ عن ضربه؛ فإنَّ آدم خُلِقَ على صورةِ سائرِ جسده، ومع هذا فيُضرَب أكثرُ جسده ولم يَنهَ عن تقبيح شيءٍ غيرِ الوجه، ولأنَّ مشابهة الإنسان للإنسان في الصورة لا تقتضي اشتراكهما في ثوابٍ ولا عقابٍ، ولا مدح ولا ذمٍّ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الدجال، فقال: “رأيتُ أشبهَ الناس به عبد العُزَّى بن قَطَن”، فقال: [يا] رسول الله صلى الله عليه وسلم! أيضرُّني شَبَهُهُ؟ فقال: “لا؛ أنت مؤمنٌ، وهو كافرٌ” (2).
وأيضًا، فكان ينبغي أن يُقال: خُلِقَ على صورة آدم، لو أراد ذلك المعنى فإنه هو المخلوقُ على مثال آدم، لم يُخلَقْ آدمُ على مثالِهِ.
_________
(1) المصدر السابق (1/ 84، 85).
(2) أخرجه البخاري (3440، 3441) ومسلم (169) من حديث ابن عمر.

(الكتاب/175)


وأيضًا فإن هذا من المعلوم الذي يعلمه الجميع (1) أنَّ بعض بني آدم مخلوقون على صورة سائرهم، من آدم وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم، فلو أُريد بتعليل التَّقبيح هذا لقيل: هذا التقبيح يتناولُ آدم، ويشملُ الأنبياءَ والصالحين، أمَّا نفسُ الإخبار بأنه (2) الخَلْق المعلومُ فلا يَصلُح ولا يَحسُنُ. كما لو شتم رجلٌ رجلًا، بأن قال: قبَّح الله بدنًا أشبهَ بدنَك، أو أعضاءً أشبهتْ أعضاءك أو رأسًا أشبهَ رأسك، لكان يُقال: هذا شتمٌ لجميع البشر من النبيين والصديقين، ولا يقال: بأن الله خلق آدم على بدن هذا، ولهذا لا يحسن: لا تُقبِّحوا أو لا تضرِبوا، البدن ولا الرأس ولا الأعضاء؛ فإن الله خلق آدم على رأسه أو بدنه أو أعضائه.
وأيضًا فلو نهى عن ذلك لما فيه من شتم الأنبياء لذكر جميع الانبياء؛ إذْ فيهم من هو أفضلُ من آدم، لا يخُصُّ آدم بذلك، وإنْ كان هو الأبُ؛ لأنَّ المقصود بيان (3) ما في اللفظ من شتم الأنبياء والصالحين على ما ذكروه، لا نفسُ الإخبار بالأمر المعلوم لكلِّ أحدٍ.
وكذلك كونُ آدم خُلِقَ على صورة آدم، هذا لا يناسبُ النهيَ عن ضربه أو تقبيحه، سواءٌ قيل: على الصورة التي كانت في علم الله وكتابه، أو على صورة الطين، أو صورتِه ابتداءً، لم يُنقَل من صغر إلى كبر، كما خُلِق أولادُه، أو نحو ذلك من الأمور التي تُذْكَرُ في معنى قول القائل: خلق آدم على صورة آدم، ليس شيءٌ [من] ذلك مما يصلحُ أن يكون علَّةً للنهي عن ضرب الوجه وتقبيحه، فإن ظهره وبطنه وسائر أعضائه التي
_________
(1) في الأصل: “جميع”.
(2) في الأصل: “بأن”.
(3) في الأصل: “بان”.

(الكتاب/176)


تُضربُ ضربًا، والتي قد [يكون] (1) تقبيحها بمنزلة الوجه في ذلك، بل مذاكيرُ الآدميِّ كوجهه في ذلك، فلمَّا كان الحكمُ المذكور ليس مشتركًا بالنصِّ وإجماع المسلمين، لم يَصلُحْ أن تكون العلةُ مشتركة، مثل من يقول: لا نقبل هذا، فإنه آدميٌّ، أو من ذرية آدم، هذا لو كانت العلةُ مشتركة، فكيف وهي منتفيةٌ عن هذا المحل؟
وهنا (2) أيضًا وجهٌ آخرُ قاطعٌ بفساد ما زعموهُ، وذلك أن النهي عن الضرب والتقبيح إنّما (3) هو لوجوه بنيه التي لم تُخلَقْ كما خُلِقَ آدمُ من الطين ابتداءً، بل خُلِقَتْ من نطفةٍ، ثم من علقةٍ، ثم من مضغةٍ، فإذا نهى عن ضرب هذه وتقبيحها لمعنًى لا يُوجَد فيها، كان هذا من فاسد الكلام، فعلةُ الحكم لا تتناول هذا المحل، وقيل: هذا بمنزلة أن يقال: لا تَضرِبْ هذا أو لا تشتُمْهُ؛ لأن آدم كان نبيًّا، أو لأن الله علَّم آدمَ الأسماء كلها، أو لأنَّ الله أسجد له ملائكتهُ، ونحو هذه الصفات التي خصَّ الله بها آدمَ في الفضل.
(نقلته من خطِّ شيخ الإسلام مؤلِّفه – رحمه الله ورضي عنه – وبقي منه قائمة ووجه وقليل من الوجه الآخر، في ثالث شهر جمادى .. ).
_________
(1) هنا في الأصل كلمات غير واضحة.
(2) في الأصل: “هذا”.
(3) في الأصل: “مما”.

(الكتاب/177)