الشنقيطيعطاءات العلمكتب - الشنقيطي

شرح مراقي السعود المسمى «نثر الورود»

شرح مراقي السعود المسمى «نثر الورود»

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: شرح مراقي السعود المسمى «نثر الورود»
[آثار الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي (5)]المؤلف: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (1325 – 1393 هـ)
المحقق: علي بن محمد العمران
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الخامسة، 1441 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

آثار الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي (5)

شرح مراقي السعود المسمى «نثر الورود»

تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (1325 – 1393 هـ)

(استملاه وجمعه تلميذه الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد الشنقيطي)

تحقيق
علي بن محمد العمران

إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد

دار عطاءات العلم – دار ابن حزم

(المقدمة/1)


مقدمة التحقيق
الحمد للَّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألَّا إله إلا اللَّه وأن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد؛ فهذا كتاب “شرح مراقي السعود” للشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه اللَّه- نخرجه اليوم ضمن هذه الموسوعة الشاملة لآثار الشيخ، وكان قد طبع سابقًا باسم “نثر الورود على مراقي السعود” وهي تسمية من محقق الكتاب وليست من مؤلفه -كما سيأتي شرحه-.
وسيكون حديثنا عن الكتاب في عِدَّة مباحث:
1 – اسم الكتاب.
2 – تاريخ تأليفه.
3 – سبب تأليفه.
4 – موضوع الكتاب.
5 – النقص الواقع في الشرح.
6 – موارده.
7 – منهجه في الشرح.
8 – وصف النسخ الخطية.
9 – طبعات الكتاب.

(المقدمة/5)


10 – العمل في الكتاب.
11 – نماذج من النسخة الخطية.
وأخيرًا ختمنا الكتاب بفهارس متنوعة نظرية وفهرس موضوعي مفصل لجميع مباحث الكتاب.
وصلى اللَّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه علي بن محمد العمران
20/ 5/ 1426 هـ

(المقدمة/6)


* اسم الكتاب:
هذا الكتاب لم يضع له مؤلفه -رحمه اللَّه- اسمًا خاصًّا، بل تركه غُفلًا من اسم عَلَمي، والسبب في ذلك: أن الشيخ -رحمه اللَّه- لم يقصد إلى تأليفه قصدًا، كما هو الحال في كتبه الأخرى التي كان يقصد إلى تأليفها ويكتب لها مقدمة ويضع لها أسماء مسجوعة، كما في “أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن” أو “دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب” و”منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز” = وإنما كان إملاءً أو تقييدًا لأحد أقارب الشيخ من طلبة العلم -كما سيأتي مشروحًا-.
لذلك فقد وَضَع له تلميذُه المُمْلَى عليه أو المكتوب له هذا الشرح اسمًا عَلَميًّا مسجوعًا وهو: “ورد الخدود على مراقي السعود” (1)، وسمَّاه الدكتور محمد ولد سيدي ولد حبيب “نثر الورود على مراقي السعود” وطبعه بهذا الاسم.
ولذلك رأينا في نشرتنا هذه ألا نطلق عليه اسمًا عَلَميًّا لأن المؤلف لم يسمه، واكتفينا بالاسم الدال على موضوع الكتاب مع الإشارة إلى الاسم الذي طُبع به الكتاب واشتهر به، فسميناه: “شرح مراقي السعود” وأضفنا إليه بخط أصغر: المطبوع باسم “نثر الورود”.

* تاريخ تأليفه:
جاء في آخر المخطوط الأم أنه تم الفراغُ منه في الثاني والعشرين
__________
(1) انظر “ترجمة الشيخ الأمين”: (ص/ 133) للسديس.

(المقدمة/7)


من شهر اللَّه رجب سنة خمس وسبعين وثلاث مئة وألف (1). وعليه فيكون من أوائل ما ألَّفَ الشيخ بعد استقراره في المملكة إذ ألَّف قبله “دفع الإيهام” قبل عام 1375، و”المذكرة” أملاها عام 1374 ولم تطبع إلا بعد ذلك عام 1391. ثم “آداب البحث والمناظرة” عام 1388 و”أضواء البيان” بعد عام 1385 ومات -رحمه اللَّه- ولم يكمله.

* سبب تأليفه:
قال الشيخ عبد الرحمن السديس في “ترجمة الشيخ الأمين” (2) ما نصه: (لم يقصد الشيخ الأمين إلى تأليف هذا الشرح ابتداء، بل كان يشرح لبعض تلاميذه -وهو الشيخ أحمد بن محمد (3) الشنقيطي حفظه اللَّه ووفقه- “مراقي السعود”، فاشترط الشيخ أحمد على الشيخ الشارح أن يدوِّن عنه ما يشرح، فاعتذر الشيخ بضيق الوقت، فامتنع التلميذ عن أخذ الحصة اليومية، وبيَّن له أن سبب امتناعه كونه لم يأخذ إملاء على الحصة السابقة، فقال الشيخ: ألم أقل لك ليس عندي وقت!
قال الشيخ أحمد: “فبيَّنْتُ إصراري على أخذ إملاء وإلا تركت الدرس وسافرت إلى البلاد. فقال لي: على من يكون ضرر تركك الدرس؛ عليَّ أم عليك؟ فقلتُ: عليك؛ لأني من بني عمومتك وابن أختك، أرسلت إليَّ لتعلمني (4)، فإن أنا سافرت دون حصول ذلك
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) (ص/ 131).
(3) في كتاب السديس: “أحمد” وهو خطأ وستأتي ترجمته.
(4) في رسالة كتبها له الشيخ الأمين -بعد طلب منه-: أن توجَّه إليّ حالًا =

(المقدمة/8)


منك كان ضرر ذلك عليك” على سبيل المزاح.
فاقتنع -على الرغم من ضيق وقته- فكان يشرح، ثم يُدَوِّن له ما شرح بخطه -رحمه اللَّه- وأحيانًا يمليه عليه وهو يكتب) اهـ.

* موضوع الكتاب:
الكتاب شرح لمنظومة “مراقي السُّعود لمبتغي الرُّقي والصعود” من تأليف الفقيه الأصولي سيدي عبد اللَّه بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي المتوفى نحو (1230 أو بعدها بقليل).

– التعريف بالنظم:
هي منظومة في علم أصول الفقه على مذهب الإمام مالك -رحمه اللَّه- نَظَم فيها كتاب “جمع الجوامع” لتاج الدين السبكي الشافعي (ت 771) في ألف بيت وبيت، قال في آخرها:
ألفٌ وبيتٌ عدد المراقي … ليس بسافلٍ ولا براقي
اعتمد -بعد “الجمع”- في نظمها على عدد من الكتب ذكرها في آخرها، وقد طبع النظم مفردًا ومع شروحه، ولم يكن هذا النظم معروفًا ولا مشهورًا عند أهل العلم وطلابه في الشرق حتى شَهَره الشيخ محمد الأمين -رحمه اللَّه- بتدريسه له وكثرة الاستشهاد به في دروسه وكتبه، كما هو واضح في “المذكرة” و”الأضواء”.
__________
= فستجدني عند ظنك. انظر “مجالس مع الشيخ الأمين” ص/ 4 – 5.

(المقدمة/9)


– شروحه:
له عدة شروح مطبوعة وهي:
1 – نشر البنود على مراقي السعود، لصاحب النظم، وقد طبع قديمًا وحديثًا، وهو شرح جليل، وعليه اعتماد غالب الشرَّاح للنظم بعده.
2 – مراقي السعود إلى مراقي السعود، للشيخ محمد الأمين بن أحمد المعروف بالمرابط (ت 1325)، وقد طبع شرحه قديمًا، وطبع بتحقيق الشيخ محمد المختار بن محمد الأمين في مجلد واحد.
3 – فتح الودود بسلم الصعود على مراقي السعود، للشيخ محمد يحيى الولاتي الشنقيطي (ت 1330)، وهو مطبوع.
4 – كتابنا هذا.
وهناك شروح أخرى لم تطبع (1).

– التعريف بالناظم (2)
هو سيدي عبد اللَّه بن الحاج إبراهيم بن الإمام مَحَنْضْ أحمد العلوي نسبة إلى قبيلة العلويين (إدْ وعل) إحدى القبائل الموريتانية المشهورة بكثرة الشعراء والأدباء والعلماء.
__________
(1) انظر “جامع الشروح والحواشي”: (3/ 1655 – 1656).
(2) ترجمته في “الوسيط في تراجم أدباء شنقيط”: (ص/ 38 – 41)، و”الأعلام”: (4/ 65)، و”معجم المؤلفين”: (6/ 18)، و”النبوغ المغربي”: (1/ 324).

(المقدمة/10)


ولد -رحمه اللَّه- بعد منتصف القرن الثاني عشر الهجري، بقرية تججكة بمنطقة تكانت بموريتانيا، فاعتنى به والده من صغره حتى حفظ القرآن كعادة أهل تلك البلاد. ولما بلغ مبلغ الرجال تهيأ لطلب العلم وبدأ رحلته فيه بعلماء بلده، فأخذ عن الشيخ المختار بن بونا الجكني، والشيخ سيدي عبد اللَّه الفاضل اليعقوبي، والحاج أحمد خليفة العلوي، وغيرهم من جلة علماء قطره، وبعد تحصيله ما عند هؤلاء توجه إلى فاس ومراكش بالمغرب وأقام بهما تسع سنين يأخذ عن علمائهما ويأخذون عنه، ثم توجه إلى بيت اللَّه الحرام لأداء فريضة الحج، فمر بمصر واجتمع بعلماء القاهرة، واستفاد منهم واستفادوا منه.
ثم توجه إلى مكة المكرمة ضمن الوفد الذي بعثه سلطان المغرب في ذلك الوقت سيدي محمد بن عبد اللَّه، فأتيحت له الفرصة بذلك للقاء أكابر العلماء بمكة والمدينة.
ثم رجع إلى المغرب بعد أداء فريضة الحج، فأكرمه سلطانه وأهداه خزانة كتب نادرة رجع بها إلى وطنه ومسقط رأسه، وجلس برباطه يعلم الناس، ويؤلف الكتب حتى طار ذكره وذاع صيته واشتهر علمه في الآفاق. ومكث في طلب العلم أربعين سنة يأخذ عمن وجد عنده زيادة حتى انتهى إلى الغاية القصوى.
وقد اتفق علماء بلده على أنه أعلم رجل في عصره، وعده بعضهم من المجتهدين، وقد أثنى عليه جلة العلماء الذين اتصلوا به وحلّوه بأرفع الألقاب، مثل الشيخ سيدي المختار الكنتي حيث يقول فيه: ما

(المقدمة/11)


تحت قبة السماء أعلم من هذا العلوي. ويقول فيه صاحب في “الوسيط”: كان رحمه اللَّه أوحد زمانه في جميع العلوم. ويقول فيه الحافظ الشيخ محمد الخضر ابن مايابي الجكني: إنه فريد دهره، وعالم عصره، باديه ومصره، مآثره لا ترام بالحصر، لِمَا نشر اللَّه به من العلم في ذلك القطر.
وقال فيه العلامة بابا بن أحمد بيب العلوي:
قد كاد أن يوصف بالترجيح … لفهمه ونقله الصحيح
وكان في الحديث لا يُبَارَى … كأنما نشأ في بخارى
له عدد من المؤلفات وهذا بعضها:
1 – مراقي السعود لمبتغي الرقي والصعود، وهي ما نتحدث عنه الآن. طبع.
2 – نشر البنود على مراقي السعود. طبع.
3 – نيل النجاح في مصطلح الحديث، حققه محمد الكبير العلوي بالمغرب.
4 – فيض الفتاح على نور الأقاح، في علم البيان طبع بالمغرب عام 1329.
5 – طلعة الأنوار وشرحها هدى الأبرار في مصطلح الحديث، اختصر بها ألفية العراقي، طبع بشرح وتحقيق الشيخ حسن مشاط -رحمه اللَّه-.
6 – طرة الضوال والهمَل، ألفه في الرد على الأعراف المخالفة للشرع

(المقدمة/12)


وردًّا على فتاوى الفقهاء الشاذة.
7 – نوازله، وهي مجموعة فتاوى ورسائل ألفها في شتى الموضوعات، وقد اعتنى بها العلماء فجمعوها ورتبوها، ونظمها الشيخ محمد العاقب بن مايابي الجكني وطبعت بليبيا بتحقيق التواتي.
توفي رحمه اللَّه في حدود 1230 برباطه العلمي الشهير القريب من تججكه.

* النقص الواقع في الشرح:
وقد بيّن سبب هذا النقص تلميذه المملى عليه هذا الشرح بالتفصيل والبيان، ففي كتاب “ترجمة الشيخ الأمين” (1) ما نصه:
(ولكن الأمالي لم تستوعب جميع أبيات “المراقي”، بل ترك منها نحوًا من مئة وأربع وستين بيتًا وهي من قول صاحب “المراقي”:
وإِنْ يَجِي الدَّلِيلُ للخِلافِ … فَقَدِّمَنَّهُ بِلا اخْتِلافِ
من باب المجاز إلى قوله:
خِطابُ واحدٍ لِغيْر الحَنْبَلي … مِنْ غَيْرِ رَعْي النَّصِّ والقَيْس الجَلي
وهو آخر بيت قبل مبحث التخصيص.
وقد سألت الشيخ أحمد عن السبب في ذلك، فأجاب بما حاصله: أن الشيخ كان يشرح له الدرس بعد الفجر قبل أن يذهب إلى الكلية -أي: كلية الشريعة بالرياض-، ثم إذا رجع من الكلية ظُهرًا
__________
(1) (ص/ 131 – 133).

(المقدمة/13)


يملي عليه ما شرحه بالصباح، وكان يهيئ له سبعة مراجع في الأصول للاقتباس منها عند الحاجة، وربما عاق عائق عن كتابته للحصة، فيتولى الشيخ كتابتها بنفسه.
قال الشيخ أحمد: “وعند الوصول إلى هذا الموضع المذكور؛ اشتغلنا بتبييض “دفع إيهام الاضطراب” لتقديمه للمطبعة، فكانت الحصة اليومية في الشرح بعد صلاة الفجر مستمرة، أما الأمالي فقد توقفت للسبب المذكور، ثم لما انتهينا من تبييض “دفع الإيهام”؛ استأنفنا الكتابة من حيث وصلنا في الشرح لا من حيث وقفنا في الكتابة”.
وكذلك الدرس الأول من شرح “المراقي” لم يكتبه الشيخ ولم يمله للسبب الذي تقدم ذكره في قصة مراجعة التلميذ لشيخه في طلبه تدوين ما يشرحه له، ومقداره عشرون بيتًا، أولها قول صاحب “المراقي”:
يَقُولُ عبدُ اللَّهِ وهو ارْتَسَما … سِمًى له والعلويُّ المُنْتَمَى
حيث بدأ الكتاب بالدرس الثاني، وهو البيت الذي يلي هذا مباشرة، وهو قول صاحب “المراقي”:
كلام ربي إن تعلَّقَ بما … يصحُّ فعلًا للمكلَّف اعْلَما) اهـ.

* موارده:
ذكر الشيخ أحمد المُمْلَى عليه هذا الشرح أن الشيخ لم يكن يشرع في الشرح إلا بعد أن يُحضر بين يديه سبعة كتب من أمهات كتب

(المقدمة/14)


الأصول، منها “النشر”، و”التنقيح” للقرافي وشرحه، وشرح ابن حلولو لـ “جمع الجوامع”، و”الآيات البينات”.
لكن بأدنى مقارنة يتضح أن المؤلف -رحمه اللَّه- اتكأ على شرح الناظم المسمّى “نشر البنود على مراقي السعود” في حكاية أقوال العلماء ونسبة المذاهب، وقد صرَّح باسمه في مرات كثيرة -انظر فهرس الكتب- ونقل عنه دون تصريح في غير موضع، وكنا نشير إلى بعض تلك الأماكن بالإحالة على “النشر”؛ لذلك صار من الصعوبة بمكان تمييز المراجع أو الأعلام الذين اعتمد عليهم المؤلف استقلالًا عن “نشر البنود” إلا فيما لا لَبْس فيه، كأن يكون متأخرًا عن طبقة صاحب “النشر”، أو كان المؤلف يُكثر النقلَ عنه عادة في كتبه كـ “الخلاصة” لابن مالك. أما ما عدا ذلك فيحتاج إلى تتبُّع الشرحين ومقارنة النقول.
ومع ذلك لم يتابعه في الشرح من حيث التقرير والاختيارات، بل تميز بأشياء وخالفه في أشياء وفصَّل في أشياء كما سيأتي.

* منهجه في الشرح:
1 – سار الشيخ في شرحه على طريقة الاختصار في عرض المسائل وحكاية الأقوال والخلاف والاستدلال.
2 – التزم الشيغ بذكر المسائل المذكورة في النظم، ولم يزد عليها إلا القليل مما تمس إليه الحاجة.
3 – اختار الشيخ العبارة السهلة الواضحة وابتعد عن كثير من

(المقدمة/15)


البحوث المنطقية والكلامية المنتشرة في كتب الأصول المتأخرة في الشروح والحواشي، وذلك لتقريب هذا الفن للمتلقي، إذا كان قريبه الذي طلب الشرح يطلب شرحًا على هذا النحو.
4 – بعد أن يسوق الشيخ البيت من “المراقي” أو أكثر أو أقل بحسب الوحدة الموضوعية التي يختارها يبدأ بذكر المعنى الإجمالي للبيت منه أو للقطعة على طريقة نثر البيت بقوله: “يعني: . . . ” هذا في الأعم الأغلب، وقد يؤخر ذكر المعنى بعد ذكر معاني بعض المفردات أو شرح بعض المصطلحات. . ونحو ذلك.
5 – بعد المعنى الإجمالي يبدأ بشرح المفردات الغريبة أو المصطلحات أو إعراب بعض الكلمات ويصدِّر الجملة أو الكلمة المراد شرحها بـ “قوله. . . “.
6 – يعزو المذاهب إلى أصحابها، ويهتم بذكر مذهب مالك، وعلماء المالكية تبعًا للناظم في نظمه وشرحه. وكل ذلك باختصار يتناسب مع طبيعة الشرح.
7 – مع أن الشيخ اعتمد على شرح الناظم “نشر البنود” -كما سلف- إلا أنه لم يتابعه في اختياراته وترجيحاته بل خالفه في كثير من المسائل، وهذا سرد لأهم المسائل التي خالفه فيها:
1 – ص 33 في أقسام الشرط.
2 – ص 44 في ضابط العزيمة.
3 – ص 53 في انعقاد سبب الوجوب هل يسمى به الشيء واجبًا ولو

(المقدمة/16)


منع مانع من تأثير سبب الوجوب؟
4 – ص 61 – 62 الرد على السبكي والناظم في قاعدة الأشاعرة: إن العَرَض لا يبقى زمانين.
5 – ص 77 الرد على الأصوليين في المجاز في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}.
6 – ص 132 في عدم جواز وقوع المجاز في القرآن.
7 – ص 137 في تقديم الإضمار على النقل.
8 – ص 140 في حصر اللفظ في الحقيقة والمجاز.
9 – ص 219 ترجيح كلام السبكي على الناظم في مسألة العمل بالعام المخصوص ولو كان المخصّص غير معين.
10 – ص 299 في مسألة النَّسخ إلى غير بدل.
11 – ص 381 في مرتبة قول الصحابي “أمرنا ونهانا” في القوة.
12 – ص 394 في مسألة أن العلم والقدرة. . . لا يمكن إثباتها بدليل نقلي.
13 – ص 411 في أن مذهب مالك تقديم القياس على خبر الواحد.
14 – ص 441 في أن التعبديات لا تخلو من حِكَم.
15 – ص 442 الإشارة لسهو أو تحريف في شرح الناظم “نشر البنود”.
16 – ص 447 التحقيق في تعدد العلة المستنبطة.
17 – ص 479 في أن الخمر لم تكن مباحة في أول الإسلام إلا بأصل

(المقدمة/17)


البراءة.
18 – ص 482 الرد على قولهم: إذا كان الدليل مخالفًا للأصول.
19 – ص 495 سهو للناظم وتصحيحه.
20 – ص 512 متابعة الناظم للسبكي والبيضاوي في تكرار مبحث تنقيح المناط.
21 – ص 671 تعقب على الناظم في عَوْد ضمير في النظم.
22 – ص 686 الرد عليه في وجوب التزام مذهب معين.
23 – ص 687 الرد عليه في وجوب اتباع المذاهب الأربعة فقط.
24 – ص 688 مخالفته في امتناع وجود مجتهد قبل المهدي المنتظر.

(المقدمة/18)


* وصف النسخ الخطية:
للكتاب ثلاث نسخ خطية:
الأولى: النسخة الأم، وقد وصفها الشيخ عبد الرحمن السديس قائلًا: إن هذه النسخة (تم الفراغ من نسخها في الثاني والعشرين من شهر اللَّه رجب سنة خمس وسبعين وثلاث مئة وألف؛ كما هو محرَّر في آخر المخطوط، والنسخة الأصلية منه عند الشيخ أحمد بن محمد الشنقيطي (1) (حفظه اللَّه)، وهي تقع في سبعة دفاتر:
1 – الدفتر الأول يقع في ثلاث وستين صفحة، كلها بخط الشيخ -رحمه اللَّه-.
2 – الدفتر الثاني يقع في إحدى وأربعين صفحة، كلها بخط الشيخ -رحمه اللَّه-.
3 – الدفتر الثالث يقع في ثلاث وستين صفحة، ثمان وثلاثون صفحة منها بخط الشيخ -رحمه اللَّه- وخمس وعشرون بخط تلميذه الشيخ أحمد بن محمد الجكني الشنقيطي.
__________
(1) ترجمة الناسخ، وهو المُمْلَى عليه الشرح: هو أحمد بن محمد الأمين بن أحمد بن المختار المحضري الجكني، ولد بعد 1350، كان والده من رؤساء القبائل، تلقى العلم في بلده، ثم رحل عام 1375 إلى الحجاز ولازم الشيخ محمد الأمين، ثم رجع إلى بلده بعد الاستقلال ثم عاد مجددًا إلى المملكة وعين في عدة وظائف آخرها مدرسًا في الحرم المكي حتى عام 1408 حيث أحيل إلى التقاعد. مختصر من مقدمة “نثر الورود”: (ص/ 23 – 24).

(المقدمة/19)


4 – الدفتر الرابع يقع في ثلاث وستين صفحة، وكلها بخط تلميذه الشيخ أحمد.
5 – الدفتر الخامس يقع في أربع وستين صفحة، منها نحو اثنتين وأربعين صفحة بخط تلميذه الشيخ أحمد، واثنتين وعشرين صفحة بخطه -رحمه اللَّه-.
6 – الدفتر السادس، ويقع في ست وستين صفحة، منها أربعون صفحة بخط الشيخ أحمد، وست وعشرون بخط الشيخ نفسه -رحمه اللَّه-.
7 – الدفتر السابع ويقع في خمس عشرة صفحة، منها صفحتان بخط الشيخ -رحمه اللَّه-، وثلاث عشرة صفحة بخط تلميذه الشيخ أحمد) اهـ (1).
وعليه فهذه النسخة تقع في (378 صفحة)، منها (192 صفحة) بخط الشيخ الأمين و (186 صفحة) بخط تلميذه.
وهذه النسخة لم نتمكن من الحصول عليها مع قربها منا!
الثانية: نسخة بخط الشيخ محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي نقلها من النسخة الأم في عدة دفاتر إلا أنها آلت إلى الضياع قال ناسخها: “أما الدفاتر التي كانت عندي فتداولتها الأيدي حتى ضاعت” (2).
__________
(1) “ترجمة الشيخ الأمين”: (ص/ 133 – 134).
(2) مقدمة طبعته للكتاب: (1/ 12).

(المقدمة/20)


الثالثة: نسخة بخط الشيخ الدكتور أحمد محمود عبد الوهاب -حفظه اللَّه- كتبها بتاريخ يوم الاثنين الثالث عشر من رجب عام تسعين وثلاثمائة وألف، كما جاء في خاتمتها. ولم يذكر من أي نسخة نسخها أمِنَ النسخة الأم أم من غيرها؟
وهذه النسخة تقع في ثلاثة دفاتر، الأول في (115) صفحة، والثاني (187) صفحة، والثالث (189) صفحة، مجموعها (491) صفحة. خطها نسخي واضح، وقد تغير خطها في الأوراق 48 – 50 من الدفتر الأول و 104 – 105 من الدفتر نفسه، والأوراق 134 – 135 من الدفتر الثالث. وهي جيدة نادرة الخطأ، وعلى حواشيها بعض التصحيحات والتعليقات.
تبدأ بلا ورقة عنوان وإنما بالأبيات الأولى من المراقي، ثم شرع في شرح البيت رقم (22).
وهذه النسخة هي التي اعتمدناها في تصحيح النص والمقابلة، ورمزنا لها بـ “الأصل”.

* المطبوعات:
للكتاب طبعتان:
الأولى: بتحقيق الدكتور محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي، وقد طبعت بتمويل محمد محمود محمد الخضر القاضي، توزيع دار المنارة للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1415 في مجلدين. وله الفضل في إخراج الكتاب أول مرة، وأهم الملاحظات عليها ما يلي:

(المقدمة/21)


الملاحظة الأولى: وقوع سقط في الكتاب في نحو خمسة عشر موضعًا، وأذكرها هنا للفائدة لمن أراد أن يكمل نسخته من تلك الطبعة:
– ص 46 سطر 4 من أسفل سقط بعد قوله: (بالنقض [وفي المسألة أقوال أُخَر لم نذكرها معروفة] في كتب. .).
– ص 50 سطر 8 سقط بعد قوله: (قوله: [فَعِ ذا خلاف الأوْلى” أي احفظه في حال كونه خلاف الأولى، وإذا كان مع الخصوص فهو الكراهة، وذلك هو معنى قوله: “وكراهة خذ لذاك. . “).
– ص 64 سطر 5 سقط بعد قوله: (لتقدمه [لتقوية العامل على العمل فهي لتقوية التعدية]. .).
– ص 85 سطر 9 سقط بعد قوله: (على أن [فائدة التكليف الابتلاء، أو لا يمكن أن يعلم أنه مكلف إلا بعد التمكن من إيقاع الفعل بناءً على أن]. .).
– ص 98 سطر 10 سقط بعد قوله: (الايماء [هل هو داخل في المنطوق أو المفهوم؟ فعلى أنه داخل في المنطوق يكون قسمين، منطوق صريح وهو ما تقدم، ومنطوق غير صريح وهو ما دل عليه بالاقتضاء أو الإشارة أو الإيماء]. .).
– ص 109 سطر 8 سقط بعد قوله: (يمنع [المسكوت عنه على المنطوق إذا كان بينهما جامع، أي علة يصح بها]. .).
– ص 279 سطر 7 سقط بعد قوله: (مائل [والمجرور قبله متعلق به،

(المقدمة/22)


أي: رُبّ شيخ جانح، أي مائل]. .).
– ص 347 سطر 4 سقط بعد قوله: (الآية [بتعيين الصوم المنصوص في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}]. .).
– ص 399 سطر 8 سقط بعد قوله: (أي [قبلت روايتهم. وقوله: “وإن يكن تحملوا” فيه حذف أي]. . .).
– ص 418 سطر 4 من الآخر سقط قوله: (بها [وعن الشافعي ونُظَّار أصحابه جواز الرواية بها، وقطع بعضُ محققي الشافعية بوجوب العمل بها]. .).
– ص 437 سطر 2 من الآخر سقط قوله: (مسائل [الطهارة ويخطئ نصفها الآخر في مسألة من مسائل]. .).
– ص 446 سطر 7 سقط بعد قوله: (مالك [فمثاله في الشرط: قياس استقصاء الأوصاف في بيع الغائب على الرؤية. ومثاله في المانع: قياس النسيان للماء في الرحل على المانع من استعماله حسًّا كالسَّبُع واللصّ] .. .).
– ص 516 سطر 10 سقط قوله: (محتملًا [له فلا عبرة به، لأنه بمعزل عن القصد في هذا المسلك، وهو مراد المؤلف بقوله: “وإلا فعن القصد اعتزل” أي وإلا يكن مناسبًا أو محتملًا]. .).
الملاحظة الثانية: أن الأبيات التي لم يكتب الشيخ شرحها أكملها المحقق ووضع شرحه في متن الكتاب، وهذا يوهم القارئ أنها من كلام الشيخ ما دامت في المتن، وإن أشار في مقدمة تحقيقه ص/ 13

(المقدمة/23)


أنه سيكملها، فكان الأولى أن توضع في الهامش لا في المتن. وهذا ما صنعناه كما سيأتي.
الطبعة الثانية: طبعة المكتبة العصرية بيروت، عام 1425 في مجلد واحد، وهي مأخوذة عن سابقتها وإن لم يشيروا إلى ذلك، بدليل ما جاء في آخر طبعتهم (ص/ 445) وهو خاتمة التحقيق لطبعة دار المنارة. غير أنهم في الأبيات التي لم يشرحها الشيخ أخذوا شرحها من كتاب “نشر البنود” للناظم نفسه.

* العمل في الكتاب:
اعتمدنا في إثبات النص على النسخة الثالثة التي سبق الحديث عن (ص/ 21)، وسبق أن ذكرنا أنها نسخة جيدة قليلة الخطأ نادرة السقط. ولا غرابة في ذلك فهي بخط الشيخ أحمد محمود عبد الوهاب وهو من طلاب الشيخ الأمين، وأحد علماء الأصول.
وقد استفدنا من طبعة دار المنارة في تصحيح بعض الأخطاء أو سقوط بعض الكلمات، ورمزنا لها بـ “طـ”.
أما الأبيات التي لم يكتب الشيخ شرحها وهي من (1 – 21) و (219 – 381) فأكملناها من شرح الولاتي “فتح الودود” في هامش الكتاب بخط أصغر تمييزًا بينها وبين شرح الشيخ. واخترنا هذا الشرح لقربه من منهج الشيخ، من حيث الاختصار ووضوح العبارة.
بالإضافة إلى ما تستدعيه مهمة التحقيق مما شرحناه مرارًا. . ثم صنعنا للكتاب فهارس متنوعة.

(المقدمة/24)


والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات.

* نماذج من نسخة الكتاب:

(المقدمة/25)


الصفحة الأولى من المخطوط

(المقدمة/26)


الصفحة الثانية من المخطوط

(المقدمة/27)


الصفحة قبل الأخيرة من المخطوط

(المقدمة/28)


الصفحة الأخيرة من المخطوط

(المقدمة/29)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 – يقول عبد اللَّه وهو ارتسما … سمى له والعلويُّ المنْتمى (1)
عبد اللَّه اسم الناظم و”ارتسم” بمعنى ثبت، و”السما” لغة في الاسم و”العَلَوي” نسبة إلى علي بن أبي طالب، و”المنتمى” المنتسَب مصدر ميمي من غير الثلاثي.

2 – الحمد للَّه الذي أفاضا … من الجَدَى الذي دهورًا غاضا
“أفاض” بمعنى أكثر و”الجَدَى” النفع والخير الذي جاء به -صلى اللَّه عليه وسلم-، و”غاض” بمعنى قل وعدم “دهورًا” أي: زمنًا طويلًا قبله -صلى اللَّه عليه وسلم-.

3 – وجعل الفروعَ والأصولا … لمن يرومُ نيلَها محصولا
النيل المراد به التعلم، و”محصولا” بمعنى حاصلة في الكتب والصدور، مفعول بمعنى فاعل.

4 – وشاد ذا الدين بمن ساد الورى … فهو المجلِّي والورى إلى ورا
شاد الحائط طلاه بالشيد، فهو هنا كناية عن تحسين الدين وتحصينه، و”المجلي” السابق في الحلبة، و”ورا” بمعنى خلف قُصِر للوزن.

5 – محمدٍ مُنَوِّر القلوب … وكاشِفِ الكَرْب لدى الكروب
تنويره القلوب بالإيمان ومحبته واتباعه والصلاة عليه، وكشفه للكرب
__________
(1) من هنا إلى البيت رقم (21) ليس في شرح الشيخ، لذا وضعنا شرحها في الحاشية من شرح الولاتي للمراقي المسمَّى “فتح الودود”: (ص/ 5 – 8). وانظر المقدمة.

(1/3)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
لدى الكروب أي: يوم القيامة بشفاعته، والكرب الحزن
6 – صلى عليه ربُّنا وسلَّما … وآله ومن لشرعِه انتما
الشرع: السنة والدين، والانتماء إليه بالعمل به وتدوينه وتعلمه وتعليمه.

7 – (هذا) أي: الأمر هذا وهو فصل الخطاب (وحينَ قد رأيتُ المذهبا) أي: مذهب مالك (رُجحانه) على سائر المذاهب (له الكثير ذهبا) أي ذهب إليه الكثير من العلماء.

8 – (وما سواه) من المذاهب مفقود (مثل عَنْقا مُغْرِب * في كل قطرٍ) أي ناحية (من نواحي المغرب) والعنقا طائر يُذكر ولا يُرَى.

9 – (أردتُ أن أجمعَ من أصوله) أي مذهب مالك (ما فيه بغيةٌ) أي مطلب (لذي فصوله) أي فروعه، حال كونه.

10 – (منتبذًا عن مقصدي ما ذُكِرا * لدى الفنون غيرِه) أي تاركًا في هذا النظم ما ذُكِر في غيره من الفنون، كمعاني الحروف ذُكِرت في النحو، ومسائل الحقيقة والمجاز المذكورة في البيان، وأنواع الدلالة المذكورة في المنطق. وحال كونه أيضا (محرِّرًا) له أي النظم أي مسلمًا له من الحشو والتطويل بلا فائدة.

11 – سميتُه مراقيَ السُّعُود … لمبتغي الرُّقيّ والصُّعُود
أي سماه بـ “مراقي السعود لطالب الرقي والصعود” إلى سماء الفقه وموارد الشرع ومقاصده.

12 – أستوهب اللَّهَ الكريمَ المددا … ونفعَه للقارئين أبدا
المدد الزيادة في العلم والتأييد على إكمال هذا النظم.

(1/4)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
مقدمة
في علم الأصول، وهي -بكسر الدال وفتحها- ما يتوقف عليه الشروع في الفن.

13 – أول من ألَّفَه في الكُتُب … محمد بن شافِعِ المطَّلبي
أي أول من ألَّف علم الأصول في الكتب الإمام محمد بن شافع المطلبي.

14 – (وغيره) من المجتهدين كالصحابة والتابعين (كان) أي علم الأصول (له سليقه) أي طبيعة مركوزة فيه (مثل الذي للعُرْب من خليقه) أي من طبيعة مركوزة فيهم من نحو وتصريف وبيان.

15 – الأحكام والأدلةُ الموضوعُ … وكونه هذي فقط مسموع
يعني أن موضوع علم الأصول الأحكام والأدلة الشرعية “وكونه” أي الموضوع “هذي” أي الأدلة الشرعية فقط مسموع عن بعض الأئمة؛ لأنه يبحث فيه عن عوارضها الذاتية، كقولهم: الأمر للوجوب. وموضوع كل فن ما يبحث في الفن عن عوارضه الذاتية.

أصول الفقه
الأصل لغةً: ما يُبنى عليه الشيء حسًّا كالجدار للسقف، ومعنى كالحقيقة للمجاز، وأصول الفقه لقب لهذا العلم.

16 – أصوله دلائلُ الإجمال … . . . . . . . . .

(1/5)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
يعني أن أصول الفقه أدلته الإجمالية التي لا تُعين مسألةً جزئية كقاعدة: مطلق الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، لا أدلته التفصيلية نحو: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} فإنها لا تسمى أصول الفقه اصطلاحًا؛ لأن كل واحد منها يُعَيِّن مسألة جزئية. والأصل في الاصطلاح الدليل والأمر الراجح.
. . . . . . . . . … وطرق الترجيح قَيْدٌ تالي
يعني أن وجوه الترجيح للأدلة عند تعارضها قَيْد تابع للأدلة الإجمالية في الدخول في مسمى أصول الفقه.

17 – وما للاجتهادِ من شرطٍ وَضَح … . . . . . . . . .
أي والذي للاجتهاد من شرط وضح دخوله في مسمى الأصول، خلافًا لابن أبي شريف في أنها تتمات لأجزاء المسمَّى.
. . . . . . . . . … ويُطْلَق الأصل على ما قد رَجَح
يعني أن الأصل يُطْلَق اصطلاحًا على الأمر الراجح نحو: الأصل براءة الذمة، والأصل عدم المجاز، والأصل بقاء ما كان على ما كان عليه.

(فصل)
18 – والفرعُ حكمُ الشرع قد تعلَّقا … بصفةِ الفِعْل كندب مطلقا
يعني أن الفرعَ هو حكم الشرع المتعلق بصفة فعل المكلف مطلقًا، أي سواء كان قلبيًّا كالنية، أو بدنيًّا كالوضوء، وتلك الصفة ككونه ندبًا أو غيره من الأحكام الخمسة.

(1/6)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
19 – (والفقه) اصطلاحًا (هو العلم بالأحكام)
أي النِّسَب التامة التي هي ثبوتُ أمرٍ لآخر إيجابًا أو سلبًا، احترازًا عن العلم بالذوات والصفات والأفعال عن النِّسَب التقييدية، والمراد جميع الأحكام التي:
. . . . . . . . . … للشرع والفعل نماها النامي
أي التي نسبها الناسب للشرع، و”الفعل” أي الأحكام الشرعية العملية، فالشرعية المأخوذة من الشرع تصريحًا أو استنباطًا احترازًا عن الأحكام العقلية والحسية والعرفية والعملية المتعلقة بكيفية عملٍ قلبي كالعلم بوجوب النية في الوضوء أو بدني كالعلم بسنية الوتر، احترازًا عن الأحكام الشرعية الاعتقادية، كالعلم بأن اللَّه تعالى واحد.

قوله:
20 – أدلة التفصيل منها مكتسب … . . . . . . . . .
يعني أن الفقه مكتسب من الأدلة التفصيلية، وبقيد الاكتساب يخرج علم اللَّه تعالى، وعلم كل نبي وملك، وبقيد التفصيلية يخرج علم المقلِّد لأنه مكتسَب من دليل إجمالي هو فتوى المجتهد؛ لأنها حكم اللَّه في حقه وحق مقلديه.
. . . . . . . . . … والعلم بالصلاح فيما قد ذَهَب
يعني أن المراد بالعلم بجميع الأحكام في تعريف الفقه الصلاحية والتهيء لذلك بأن يكون له مَلَكة يقتدر بها على إدراك جزئيات الأحكام،

(1/7)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
وقد اشتهر عرفًا إطلاق العلم على هذه الملكة. وعلى هذا فلا يقدح قول: لا أدري.

21 – فالكل من أهل المناحي الأربعه … . . . . . . . . . . . .
أي المذاهب الأربعة.
. . . . . . . . . … يقول لا أدري فكُنْ مُتَّبِعه
في ذلك القول فإنه يدل على الورع.

(1/8)


22 – كلام ربّي إن تعلق بما … يَصحُّ فِعْلًا للمكلف اعلما
23 – من حيث إنه به مكلفُ … فذاك بالحكم لديهم يعرفُ
يعني أن الحكم الشرعي في الاصطلاح هو: كلام اللَّه المتعلق بما يصح أن يكون فعلًا للمكلف من حيث إنه مكلف به، فأشار بقوله: “كلام اللَّه” إلى أنه لا حكم ألبتَّة إلَّا للَّه، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام/ 57] والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مبلِّغ عن اللَّه، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل/ 44] وجميع ما في السّنَّة داخل في القرآن لقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [الحشر/ 7]، وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء/ 80]، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} الآية [آل عمران/ 31].
واحترز بقوله: “المتعلق بما يصح فعلًا للمكلف” عن المتعلق بما لا يصح فعلًا له، ككلام اللَّه المتعلق بذاته وصفاته نحو: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام/ 102]، وككلامه المتعلق بذاوت المكلفين نحو قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف/ 11]، وقوله: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم/ 40]، وككلامه المتعلق بالجمادات نحو: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف/ 47] ونحو ذلك.
وإنما عَدَل المؤلِّف عن عبارة الأصوليين بقولهم: “المتعلق بفعل المكلف” إلى قوله: “بما يصح أن يكون فعلًا للمكلف” لِيُدْخِلَ المعدومَ وقت كلام اللَّه بذلك الحكم. واحترز بقوله: “من حيث إنه به مكلف” عن كلامه المتعلق بما يصح فعلًا للمكلف من حيثية أخرى نحو قوله:

(1/9)


{وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)} [المؤمنون] فإنه كلامه المتعلق بأفعال المكلفين، لكن لا من حيث إنهم مكلفون به، بل من حيث إنه إخبار عنهم بصدور تلك الأعمال منهم، والمرادُ بتعلق الخطاب بشيء بيان حاله من كونه مطلوب الفعل، أو الترك، أو مأذونًا فيه.
و”المكلف”: العاقل البالغ الذي ليس بمُكْره ولا مُلجإٍ ولا غافل، وصواب المؤلف لو حذف القيد بالمكلف لأن الصبي عنده تتعلق به أحكام الندب والكراهة والإباحة كما يأتي له. ويمكن أن يجاب عنه بأن الصبي يدخل في اسم المكلف عند المالكية بالنسبة إلى غير الواجب والحرام كما يأتي للمؤلف قريبًا.
واعلم أن هذا التعريف يتناول خطاب التكليف دون خطاب الوضع، وسيأتي الكلام على خطاب الوضع إن شاء اللَّه.
وقول المؤلف: “من حيث إنه” إلخ بكسر الهمزة على اللغة الفصحى، وهي: أن “حيث” لا تضاف إلَّا للجمل، ويجوز فتحها فتكون “حيث” مضافة إلى المصدر المنسبك من أنّ وصلتها، بناءً على جواز إضافة “حيث” للمفرد، وهو رأي الكسائي. قيل: ومنه قول الراجز:
أما ترى حيث سُهَيْلٍ طالعًا … نجمًا يُضيء كالشهاب لامعًا (1)
وقول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . … حيث ليِّ العمائم (2)
__________
(1) هذا الشاهد أنشده الكسائي، ولم يعرف قائله، انظر “خزانة الأدب”: (7/ 3 – 5).
(2) بعض بيت لكثيِّر عزَّة “ديوانه”: (ص/ 218). والبيت بتمامه: =

(1/10)


24 – قد كُلِّفَ الصبي على الذي اعتمي … بغير ما وجب والمحرمِ
يعني أن الصبيَّ عند المالكية مكلَّف بغير الواجب والحرام، وهو الندب والكراهة والإباحة، كما صححه ابن رشد في “البيان” (1)، و”المقدمات”، والقرافي في كتاب “اليواقيت في أحكام المواقيت” (2).
ودليل المالكية على ذلك: حديث الخثعمية التي أخذت بضبعَيْ صبي وقالت: يا رسول اللَّه ألهذا حج؟ قال: “نعم، ولك أجر” (3).
وأما حديث: “مُروهم بالصلاةِ لسبعٍ واضربوهم لعشرٍ وفَرِّقوا بينهم في المضاجع” (4) فالاستدلال به مبني على قاعدة مختَلف فيها
__________
= وَهاجِرَةٍ يا عَزَّ يَلتَفُّ حَرُّها … بِرُكبانِها مِن حَيثُ لَيُّ العَمائِمِ
(1) نحوه “البيان والتحصيل”: (1/ 396) (16/ 143 – 146).
(2) الكتاب لا يزال مخطوطًا، انظر نُسَخه في “الفهرس الشامل”: (11/ 620).
(3) أخرجه مسلم رقم (1336) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-.
تنبيه: قول المؤلف (حديث الخثعمية) سبق قلم، فليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأن هذه المرأة السائلة من خثعم، فلعله اشتبه عليه بحديث المرأة الخثعمية التي سألت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أبيها حيث أدركته فريضة الحج وهو شيخ كبير. .، والحديث مشهور في الصحاح وغيرها.
(4) أخرجه أبو داود رقم (495)، والترمذي رقم (407)، وابن خزيمة رقم (1002)، والدارقطني: (3/ 230)، والحاكم: (1/ 258)، والبيهقي في “الكبرى”: (2/ 14) من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن جده.
قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه ابن خزيمة، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وقال عبد الحق في “الوسطى”: هذا الحديث أصح ما في الباب، وصححه ابن الملقن. لكن عبد الملك ضعفه ابن معين وابن حبان وغيرهما، ووثقه =

(1/11)


وهي: هل من أمر بالأمر آمِرٌ للثالث أو لا؟ وقد بين المؤلف ذلك في مبحث الأمر (1) بقوله:
وليس مَنْ أمَرَ بالأمر أمَرْ … لثالثٍ إلا كما في ابن عمر
والأمر للصبيان ندبُه نُمِي … لِما رَوَوْهُ من حديثِ خثعمِ
وقوله: “اعتُمي” بمعنى اختير.
وقال القرافي في “القواعد” (2) في الفرق (3) بين أنكحة الصبيان تنعقد ويخيَّر الولي وطلاقهم لا يلزم: إن عقد النكاح سبب إباحة الوطء وهم أهل للخطاب بالإباحة والندب والكراهة. والطلاقُ سَببُ تحريم الوطء وليسوا أهلًا للخطاب بالتحريم ولا الوجوب.
والصبيُّ عند جماهير العلماء غيرُ مكلف بشيء مستدلِّين بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “رُفع القلم عن ثلاث -وذكر منهم- الصبيَّ حتى يحتلم” (4).
__________
= العجلي وأخرج له مسلم متابعةً.
والحديث أخرجه أبو داود رقم (496)، والحاكم: (1/ 197) من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده.
انظر “الإمام”: (3/ 535) لابن دقيق العيد، و”البدر المنير”: (3/ 238) لابن الملقن.
(1) البيت رقم (255، 256).
(2) يعني “الفروق”: (3/ 167 – 168) بتصرف.
(3) خ: الفروق.
(4) أخرجه أحمد (41/ 224 رقم 24694)، وأبو داود رقم (3998)، والنسائي: (6/ 156)، وابن ماجه رقم (2041)، وابن حبان “الإحسان” رقم (142)، =

(1/12)


25 – وهو إلزامُ الذي يشقُّ … أو طلب فاهَ بكلٍّ خَلْقُ
26 – لكنه ليس يفيد فرعا … فلا تضق لفقد فَرْعٍ ذرْعا

يعني أنه اختلف في حد التكليف فقيل: هو إلزام ما فيه مشقة وكُلْفة، وعلى هذا القول فلا يدخل في حدِّ التكليف إلا الواجب والحرام فقط، وهذا القول هو معناه اللغوي، ومنه قول علقمة (1):
تكلِّفني ليلى وقد شطَّ وَلْيُها … وعادت عوادٍ بَيننا وخطوبُ
وقول الخنساء (2) في صخر:
يُكلِّفُه القومُ ما نابَهم … وإن كان أصغرَهم مولدا
وقيل: هو طلب ما فيه مشقة وكُلْفة، وعليه يدخل في حدِّ التكليف الواجبُ والمندوبُ والحرام والمكروه، وأما الجائز فلا يدخل على كلا التعريفين، فإدخاله في الأحكام التكليفية لا يخلو من تسامح. وما أجاب به البعض من أنه مكلف به من حيث اعتقاد جوازه فلا ينهض؛ لأن غيره يجب اعتقاده أيضًا.
__________
= والحاكم: (2/ 59)، وغيرهم من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.
قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه، ولم يتعقَّبه الذهبي، وصححه ابن حبان.
وقال ابن الملقن: له طرق أقواها طريق عائشة. وللحديث شواهد من حديث علي وأبي قتادة. انظر “الإمام”: (3/ 524)، و”البدر المنير”: (3/ 225)، و”نصب الراية”: (4/ 162)، و”التلخيص”: (1/ 194)، و”الإرواء” رقم (297).
(1) “ديوانه”: (ص 23).
(2) “الديوان”: (ص/ 146 – مع شرح ثعلب) ولشطره الأول عدة روايات.

(1/13)


وقول المؤلف: “لكنه ليس يفيد فرعًا” إلخ، يعني أن الاختلاف في التكليف هل هو الإلزام أو الطلب لا يفيد فرعًا من الفروع لعدم بناء حكم عليه. قال أبو إسحاق الشاطبي (1) في هذه المسألة: ليس من أصول الفقه ولا عونًا عليه، وما كان كذلك لا ينبغي ذكره في الفن.
وقوله: “ذرعًا” تمييز محوَّل عن الفاعل، أي لا يضق (2) صدرك لعدم وجود فرع، لأن هذه المسألة لا ينبني عليها حكم، وقوله: “فاه” فعل ماض بمعنى نَطَق.

27 – والحكم ما به يجيءُ الشرعُ … وأصل كل ما يضرُّ المنعُ
يعني أن الحكم التنجيزي الذي يترتب عليه الثواب والعقاب هو ما جاء به الشرع عن اللَّه على ألسنة الرسل، فلا حكم تنجيزيًّا يترتب عليه الثواب والعقاب قبل بعث الرُّسُل عليهم الصلاة والسلام؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء] فقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} أي ولا مُثيبين. وقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165] ويبيِّن هذه الحجة المذكورة بقوله في سورة طه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [طه/ 134] الآية. وخالفت المعتزلة فحكَّمَت العقل فجعلته
__________
(1) انظر “الموافقات”: (1/ 37 – 38).
(2) خ: يضيق.

(1/14)


طريقًا إلى العلم بالحكم الشرعي، يمكن إدراكه به من غير سمع، فهو عندهم تابع للمصالح والمفاسد، فإن كان حسنًا عقلًا جوَّزه الشرع، وإن كان قبيحًا عقلًا منعه، وسيأتي ردُّ مذهبهم إن شاء اللَّه عند محله (1).
وقول المؤلف: “وأصل كل ما يضرُّ المنع” يعني أن الأصلَ في الشيء الضارّ بالأبدان كالمَسْمُومات والمؤدِّيات للمرض، أو العقول كالمسكرات = المنعُ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا ضَرَر ولا ضِرار” (2). وتحت مفهوم كلامه صُوَرٌ:
إحداها: أن يكون فيه منفعة ولا ضرر فيه فالأصل فيه -على التحقيق- الإباحة؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة/ 29] ولا يمتنُّ إلا بجائز فلا يمنع إلا ما أخرجه دليل.
وقيل: يُحْمَل على المنع لأن جميع الأشياء ملك للَّه تعالى، ولا
__________
(1) عند البيت رقم (102).
(2) أخرجه الدارقطني: (3/ 77)، والحاكم: (2/ 57)، والبيهقي: (6/ 69) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-.
قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم. ولم يتعقبه الذهبي، وفيه نظر. وروي من حديث ابن عباس وعائشة وعبادة بن الصامت وأبي هريرة، وبمجموع طرقه حسَّنه ابن الصلاح والنووي في “الأربعين” رقم (32)، وابن رجب في “جامع العلوم والحكم”: (2/ 210)، واستدل به الإمام أحمد، وذكر أبو داود أنه من الأحاديث التي يدور عليها الفقه. وذكر ابن عبد البر في “التمهيد”: (20/ 158) أنه لا يستند من وجهٍ صحيح، إلا أنه صحيح من جهة المعنى.
وللمزيد انظر التعليق على “تنبيه الرجل العاقل”: (2/ 507).

(1/15)


يجوز التصرف في ملك المالك إلا بإذنه، ولأن اللَّه قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر/ 7] فيُفْهَم من دليل خطابه أن ما لم يأْتكم لا تأخذوه، استدلَّ بمفهوم هذه الآية على المنع جماعةٌ منهم الأبهري، والذي يظهر لي أن هذا المفهوم تُمكِنُ معارضته بمفهومِ قوله: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر/ 7] أي وما لم ينهكم عنه فلا تنتهوا، فهو نظير الاستدلال الأول.
القول الثالث: الوقف لاحتمال هذا وهذا.
ومن الصور المذكورة: أن تكون فيه مصلحة من جهة ومفسدة من جهة أخرى، وسيأتي في مسالك العلة وفي كتاب الاستدلال أنه ينظر في المصلحة والمفسدة فإن تساوتا أو كانت المفسدة أعظم مُنع، وإن كانت المصلحة أرجحَ جاز. ومن الصور المذكورة: ألا يكون فيه مصلحة ولا مفسدة ولا أعلم فيها نصًّا عن أحد. وسيأتي له إن شاء اللَّه زيادةُ إيضاح في مسلك المناسبة والإخالة والكلام على المصالح المرسلة. ويدخل في قول المؤلف: “وأصلُ كلِّ ما يضرّ المنع” شُرْب الدخان وأكل التراب ونحو ذلك.

28 – ذو فترة بالفرع لا يراعُ … وفي الأصول بينهم نزاعُ
يعني: أن أهل الفترة لا يروَّعون (1) أي يُعذبون بسبب تركهم للفروع كترك الواجبات وانتهاك المحرمات الفعلية، لعدم تكليفهم بها. وأهلُ الفترة: من كانوا بين رسولين لم يُرْسل الأول لهم ولا أدركوا
__________
(1) خ: يراوعون.

(1/16)


الثاني، كما قاله العبَّادي في “الآيات البينات” (1) وأنه اختلف في تعذيبهم بترك الأصول يعني التوحيد. ومَبْنى هذا الخلاف هل يجب التوحيد بمجرد العقل، أو لابُدَّ من انضمام النقل؟ وتعذيبُ أهل الفترة بترك التوحيد اعتمده النوويُّ في “شرح مسلم” (2) لإخبار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الذين مضوا في الجاهلية في النار. وحكى القرافي في “شرح التنقيح” (3) الإجماعَ على تعذيب موتى الجاهلية في النار وعلى كفرهم، ولولا التكليف لما عُذِّبوا.
وذهب الأشاعرةُ من أهل الأصول والكلام إلى أنهم لا يعذبون (4) وأجابوا عن جماعةٍ منهم صحَّ تعذيبهم بأجوبة، منها: أنه يحتمل أن يكون لأمرٍ مختصٍّ به يقتضي ذلك عَلِمَه اللَّه فأعْلَمَ به رسولَه -صلى اللَّه عليه وسلم-، نظير ما جاء في القرآن من كفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه. ومنها: أن ذلك خاص بمن بَدَّل وغيَّر بما لا يُعذر به كعبادة الأوثان. ومنها: أن الأحاديث التي صحَّت بذلك أخبار آحاد، والآياتُ التي تنفي ذلك قواطع فهي مُقَدَّمة.
ويجاب عن هذا بأن الأحاديث أخصُّ ولا تَعارض بين عام وخاص.
__________
(1) (1/ 103).
(2) (3/ 79).
(3) (ص/297) في باب فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
(4) بعده في ط: “لدلالة القرآن على ذلك” وليست في “خ”.

(1/17)


ويُجاب عن الجواب بأن الأحاديث التي نصَّت على تعذيب أشخاص بأعيانهم من أهل الفترة إذا قلنا بتخصيصها عمومَ الآيات فإنها تُبطل علة حكم الآيات؛ لأنَّ اللَّه تمدَّحَ بكمال إنصافه وعدله وأنه لا يعذِّب أحدًا حتى ينذره ويعذر إليه، فلو عذَّب واحدًا من أهل الفترة قبل الإنذار والإعذار لاختلَّت حكمة العدل التي تَمَدَّحَ بها، وإذا كان مُخَصِّصُ النص يقتضي بطلان علته فذلك هو المعروف عند الأصوليين بالنقض، وهو من القوادح في الدليل كما يأتي للمؤلف.
وذهب الأكثرون إلى أن تخصيص العلة كتخصيص النصّ، وعليه فالنقض الذي هو وجود العلة مع فقد الحكم ليس بقادح، وعلى هذا يمكن تخصيص الآيات بالأحاديث المعروفة من غير قدح في دلالة الآيات على ما لم يخرجه المخصِّصُ، ولكنَّ التحقيق: أنَّ العلة إن كان منعُ تأثيرها في الحكم بسبب فَقْد شرط أو وجود مانع فهو تخصيص لا قدح، فكون الأبوَّة من موانع القصاص مثلًا لا يقدح في عِلِّيَّة القتل العمد العدوان للقصاص، لأن العلةَ إنما مَنَع من تأثيرها وجودُ المانع وهو الأبوة، وإن كانت لم تؤثر من غير فَقْد شرط ولا وجود مانع فهو القادح المعروف بالنقض، وفي المسألة أقوال أخر لم نذكرها معروفة في كتب الأصول، وسيأتي للمؤلف بسطها في القوادح (1). ورجَّح الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الحشر (2) أن تخصيص العلة كتخصيص
__________
(1) في الأبيات (762 – وما بعدها).
(2) لم أجد في تفسير ابن كثير ما أشار إليه المؤلف.

(1/18)


النصِّ مطلقًا مستدلًا بقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} [الحشر/ 3 – 4].
فصرح بأن علةَ ما وقع لبني النضير هو مشاقتهم اللَّهَ والرسولَ، وقد فعل ذلك غيرُ بني النضير، فلم يقع لهم مثل ما وقع لهم، والله أعلم.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: الذي يظهر أن عدم الإنذار عُذْرٌ، وأن اللَّه يمتحنهم يوم القيامة، فمن أطاع اللَّه فهو الذي كان يُصَدِّق الرسلَ لو جاءته في دار الدنيا فيرحمه اللَّه، ومن عصى اللَّه فهو الذي كان يكذِّب الرسلَ لو جاءته في دار الدنيا فيعذبه اللَّه وهو أعلم، لأن هذا ورد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (1). والذي يقدح فيه يقول: الآخرة دار جزاء لا دار ابتلاء، والكتاب والسُّنَّة دلَّا على التكليف فيها في الجملة، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم] وكالرجل الذي يأخذ اللَّه عليه العهود والمواثيق ألا يسأله غير ما أعطاه شيئًا ثم سأله بعد ذلك (2)، والعلم عند اللَّه تعالى.

29 – ثم الخطابُ المقتضي للفعلِ … جزمًا فإيجابٌ لدى ذي النّقل
30 – وغيره النَّدب وما التركَ طلَبْ … جزمًا فتحريمٌ له الإثم انتسب
__________
(1) انظر للمسألة والأحاديث الواردة فيها “تفسير ابن كثير”: (5/ 2071 – 2078)، و”طريق الهجرتين”: (ص/ 686 – 710)، و”مجموع الفتاوى”: (4/ 321)، و”فتح الباري”: (3/ 290 – 291).
(2) يعني الرجل الذي يكون آخر أهل الجنة دخولًا، وقصته أخرجها البخاري رقم (806)، ومسلم رقم (182) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/19)


31 – أو لا مع الخصوص أو لا فَعِ ذا … خلافَ الأولى وكراهةً خُذا
32 – لذاك والإباحَة الخطابُ … فيه استوى الفعل والاجتنابُ
قسَّم المؤلف في هذه الأبيات الأحكام الشرعية التكليفية إلى ستة أقسام:
الأول: الوجوب، وهو في اللغة السقوط واللزوم، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج/ 36] الآية. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “فإذا وجَبَ فلا تبكيَنَّ باكية” (1).
وقول قيس بن الخطيم (2):
أطاعت بنو عوفٍ أميرًا نهاهُمُ … عن السِّلم حتى كان أولَ واجب
وفي الاصطلاح عرَّفه المؤلف بأن الإيجاب هو الخطاب المقتضي للفعل، أي إيجاده والإتيان به اقتضاءً جازمًا لا يجوز معه الترك نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة/ 43] وذلك هو المراد بقوله: “ثم الخطاب المقتضي للفعل جزمًا فإيجاب”.
الثاني: الندب، وهو في اللغة مصدر ندبه للأمر إذا دعاه إليه،
__________
(1) أخرجه مالك رقم (629)، وأحمد (39/ 160 رقم 23751)، وأبو داود رقم (3111)، والنسائي رقم (1846)، وابن حبان “الإحسان” رقم (3189)، والحاكم: (1/ 351) من حديث جابر بن عتيك -رضي اللَّه عنه-.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. ولم يتعقبه الذهبي، وصححه ابن حبان، وابن الملقن في “البدر المنير”: (5/ 359).
(2) “ديوانه”: (ص 43).

(1/20)


ومنه قوله:
لا يسألونَ أخاهم حينَ يَنْدُبُهم … في النائباتِ على ما قال بُرْهانا (1)
وفي الاصطلاح عرَّفه المؤلف بأنه الخطاب المقتضي لإيجاد الفعل والإتيان به اقتضاءً غير جازم لجواز تركه وعدم الإثم به، وذلك هو معنى قوله: “وغيره الندب”.
الثالث: التحريم، وهو في اللغة المنع، ومنه قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة/ 26]، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء/ 95] الآية، وقول امرئ القيس (2):
جالت لتصرَعَني فقلت لها اقْصِري … إنِّي امرؤٌ صَرْعي عليكِ حرامِ
وفي الاصطلاح عرَّفه المؤلف بأنه الخطابُ المقتضي لترك الفعل اقتضاءً جازمًا لا يجوز معه ارتكاب الفعل، وإن ارتكبه أَثِمَ، وذلك هو معنى قوله: “وما التركَ طلبْ جَزْمًا فتحريم له الإثم انتسبْ” ومثاله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء/ 32] وقوله: “الترك” مفعولٌ مقدَّم.
الرابع والخامس: خلاف الأوْلَى والمكروه، والفرق بينهما -على القول به- أن خلاف الأَوْلى لم يَرِد فيه نصٌّ خاص بالنهي عنه، وإنما ورد الأمر بضده على سبيل الندب، والأمرُ بالشيء ندبًا نهيٌ عن ضده نَهْيَ خلافِ الأوْلَى، كالأمر بصلاة الضحى يلزمه النهي عن تركها وهو خلاف الأوْلَى، لأنه لم يُنْهَ عنه بنصٍّ خاص وإنما أُمِر بضده.
__________
(1) البيت لقريط بن أُنيف من بلعنبر من أبيات كما في “الحماسة”: (1/ 58).
(2) “ديوانه”: (2/ 481) وفي البيت إقواء.

(1/21)


وأما الكراهة -على هذا القول- فهي ما ورَدَ فيه نص مصرِّح بالنهي عنه نهيًا غير جازم كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إذا دَخَلَ أحدُكم المسجد فلا يجلس حتَّى يصلي ركعتين” (1)، فالجلوس قبل صلاتهما مكروه؛ لورود النهي صريحًا عنه بخصوصه.
وأشار إلى القسمين المذكورَين بقوله:
أو لا مع الخصوص أو لا فَعِ ذا … خلاف الأولى وكراهةً خُذا
لذاك. . . . . . . . . . . . . … . . . . . . . . . . . . . . .
فقوله: “أوْ لا” -الأول- معناه أو لا يكون طلب الترك حتمًا لجواز الفعل مع ذلك النهي. وقوله: “مع الخصوص أو لا”، يعني أن طلبَ الترك إذا كان غير جازم فله حالتان: الأولى: أن يكون بدليل صريح في النهي خاصٍّ به. والثانية: أن يكون للأمر بضده لا لدليل خاص، وذلك هو معنى قوله: “مع الخصوص أو لا”، فإذا لم يكن مع الخصوص فهو خلاف الأَوْلَى، وذلك هو معنى قوله: “فَع ذَا خلافَ الأوْلَى” أي احفَظْه في حال كونه خلاف الأولى، وإذا كان مَع الخصوص فهو الكراهة، وذلك هو معنى قوله: “وكراهةً خذا لذاك. . . “.
السادس: الإباحة: وهي الإذن في الشيء فعلًا وتركًا، وذلك هو معنى قول المؤلف:
“. . . . . والإباحة الخطابُ … فيه استوى الفعلُ والاجْتِنابُ”
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1163)، ومسلم رقم (714) من حديث أبي قَتَادة الأنصاري -رضي اللَّه عنه-.

(1/22)


فإشارة القريب لخلاف الأولى، وإشارة البعيد للكراهة كما تقدم. والمراد بـ “ذي النقل” نَقْل علماء الأصول.

33 – وما من البراءة الأصلية … قد أخذت فليست الشرعية
يعني أنَّ الإباحة المأخوذة من البراءة الأصلية، وهي استصحاب عدم التكليف حتى يَرِدَ الدليل ليست إباحةً شرعية، وإنَّما هي إباحة عقلية، وتسمى البراءة الأصلية واستصحابَ العدم، ولذلك لم يكن رفعُها نسخًا، لأنها لم تكن حكمًا شرعيًّا حتى يكون رفعها نسخًا، فإباحة جَمْع الأختين قبل التحريم، وإباحة موطوءة الأب قبل التحريم، وإباحة الربا قبل التحريم = كلها براءة أصلية، ولذلك لم يكن المنع ناسخًا لها، لأن النسخَ: رفعُ حكم شرعي. . . إلخ.
وسيأتي للمؤلف مثل هذا في مسالك العلة.

34 – وهِيَ والجواز قد ترادفا … في مطلق الإذن لدى من سلفا
يعني أن الإباحةَ والجوازَ ترادفا في مطلق الإذن الصادق بالوجوب والندب والكراهة والجواز، وعلى هذا القول فيدخل فيها كل ما سوى التحريم، ويجري على هذا القول قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أبغضُ الحلال. . ” (1)
__________
(1) أخرجه أَبو داود رقم (2170)، والبيهقي في “الكبرى”: (7/ 322) عن محارب بنُ دثار عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. ورواه أَبو داود رقم (2171)، وابن ماجة رقم (2018)، والحاكم: (2/ 196) بمعناه من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-.
والحديث صححه الحاكم، ووافقه ابن الملقن، انظر: “البدر المنير”: (8/ 67)، والصواب أن هذا الحديث مرسل كما رجحه الحفاظ، انظر “العلل” رقم (1297) =

(1/23)


الحديث، والأول أشهر.

35 – والعلم والوُسع على المعروفِ … شرط يعم كُلَّ ذي تكليفِ
يعني أن كلَّ خطاب تكليف يشترطُ في التكليف به العلمُ والوُسْعُ بمعنى الطاقة، أما اشتراط العلم فقد دل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة/ 115]، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء]. وأما اشتراط الوُسْع فقد دلط عليه قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة/ 286] أي طاقتها، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن/ 16] فغير العالم بالخطاب لا يكلَّف به. واخْتُلِف في الناسي والنائم والمكرَه وأمثالهم هل هم مكلَّفون؟ والتحقيقُ أنهم غيرُ مكلفين.
ومفهوم قوله: “كل ذي تكليف” أن خطابَ الوضع لا يشترط فيه العلم ولا الوُسْعُ غالبًا.

36 – ثم خطابُ الوضعِ هو الواردُ … بأنَّ هذا مانع أو فاسدُ
37 – أو ضده أو أنه قد أوجبا … شرطًا يكون أو يكون سببا
يعني أن خطاب الوضع هو الخطاب الوارد بأن هذا الشيء مانع من هذا، كالحيض المانع من الصلاة والصوم صحة وجوازًا، وبأنَّ هذا الشيء صحيح أو فاسد، أو بأنَّ هذا الشيء موجب لهذا لكونه شرطًا له
__________
= لابن أبي حاتم، و”العلل”: (4/ ق/ 51 ب) للدارقطني، و”مختصر أبي داود”: (3/ 92) للمنذري. وضعفه ابن الجوزي في “العلل المتناهية”: (2/ 638).

(1/24)


أو سببًا، فخطابُ الوضع على هذا منحصر في الأسباب، والشروط، والموانع، والصحة، والفساد. وسيأتي -إن شاء اللَّه- تعريف الكل في المتن. وإنَّما سُمِّي “خطاب الوضع” لأن اللَّه يقول -مثلًا-: إذا وقع هذا في الوجود فاعْلَموا أني حكمت بكذا، نحو: إذا زالت الشمس فقد حكمتُ بوجوب صلاة الظهر، فكونُ الخطاب بوجوبها عند الزوال خطاب وضع لأن الزوال شرط في الوجوب، والشروط من خطاب الوضع كما تقدم.

38 – وهو من ذاك أعمّ مطلقًا … . . . . . . . . . . .
يعني أن خطاب الوضع أعم من خطاب التكليف عمومًا مطلقًا؛ لأنه لم يوجد خطاب تكليف إلَّا مقترنًا بخطاب وضع، إذ لا يخلو التكليف من الشروط والموانع والأسباب، وقد يوجد خطاب الوضع فيما لا تكليف فيه، كتضمين الصبي والمخطئ قيمَ المتلفات، وأَرْشَ الجناية ونحو ذلك، فلا يشترط في خطاب الوضع العلم ولا القدرة غالبًا كما تقدم، وربما عرض له أمْرٌ خارج يوجب اشتراط ذلك فيه نادرًا، ككل سبب هو جناية بالنسبة إلى الإثم دون الغُرْم، وككل سبب في نقل الملك في الأعيان والمنافع فإنه يشترط فيه العلم والرضا. وقيل: النسبةُ بين الخطابَيْن العموم من وجه، واختاره بعضُ المتأخرين (1)، وليس بظاهر واللَّه أعلم.
__________
(1) لعله عنى القرافي، انظر “الفروق”: (1/ 365).

(1/25)


. . … والفرض والواجب قد توافقا
39 – كالحتم واللازمِ مكتوبٍ. . . … . . . . . . . . . . . .
يعني أن الفرض والواجب والحتم واللازم والمكتوب أسماء مترادفة لما يُثاب على فعله ويُعاقب على تركه، وهو ما طلبه الشارع طلبًا جازمًا، وأَبو حنيفة يفرِّق بين الفرض والواجب، فالفرض عنده ما وجب بدليل قطعي، والواجبُ ما وجبَ بدليل ظنِّيّ، ومتأخروا المالكية والحنابلة ربما أطلقوا الواجبَ على المسنون المؤكَّدِ (1).
. . . . . . . . . . . . . . . . وما … فيه اشتباه للكراهة انتمى
يعني أنَّ الأمور المشتبهة المشار إليها بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “وبينهما أمور مشتبهات. . . ” (2) الحديث. تطلق عليها الكراهة عند المالكية، قاله ابن رشد (3).

40 – وليس في الواجب من نوالِ … عند انتفاء قصد الامتثال
41 – فيما له النية لا تشترطُ … وغير ما ذكرتُه فغلطُ
42 – ومثله التَرك لما يُحرَّمُ … من غير قصدِ ذا نعم مُسلَّمُ
يعني أن الواجب باعتبار اشتراط النية في الاعتداد به قسمان:
__________
(1) ومنه قول مالك في العقيقة والعمرة، وقول ابن أبي زيد في “الرسالة”: (ص/ 144): “وصلاة العيد سنة واجبة”.
(2) أخرجه البخاري رقم (2051)، ومسلم رقم (1599) من حديث النعمان بنُ بشير -رضي اللَّه عنه-.
(3) انظر “الفتاوى”: (1/ 634).

(1/26)


قسم لا يُعتد به إلَّا بنية الامتثال كالصلاة والصوم. وقسم يُعْتد به دون نية الامتثال كقضاء الدين وردِّ الودائع والمغصوبات والإنفاق على الزوجات. فالذي يُشترط في الاعتداد به النيةُ أمره ظاهر، والذي لا تشترط فيه يصح دون نية ولكن لا ثواب له إلَّا بالنية، ومراده بالنوال الأجر والثواب، وكذلك كل ترك للحرام لا ثواب فيه إلَّا بنية الامتثال.
وقوله: “من غير قصدِ ذا” بإضافة “قصد” إلى اسم الإشارة الواقع على الامتثال. وقوله: “نعم مُسلَّم” يعني أن تارك الحرام من غير قصد الامتثال مسلَّم من الإثم لأنه لم يرتكب حرامًا، ولكن لا أجر له لأنه لم يقصد وجهَ اللَّه بالترك للحرام.

43 – فضيلة والندب والذي اسْتحِبّ … تَرَادَفَتْ. . . . . . . . .
يعني أن الفضيلة والندب والمستحبَّ أسماء مترادفة لما يُثاب على فِعْله ولا يُعاقَب على تركه. والفضيلةُ في اللغة الزِّيادة، وسُمِّي الندبُ فضيلة لزيادته على الواجب. والمسْتَحبُّ اسم مفعول استحب بمعنى أحب، لأنه محبوب شرعًا يثاب على فعله.
. . . . . . . . . . . … . . . . . . . ثم التطوع انتُخِبْ
يعني أن التطوع عند متأخري المالكية هو ما ينتخبه الإنسان أي يختاره من الأوراد الماثورة، وعند الجمهور يرادف الندب.

44 – رغيبةٌ ما فيه رغَّب النَّبي … بذكر ما فيه من الأجر جُبي
45 – أو دامَ فعلُه بوصفِ النفلِ … . . . . . . . . . . . . .

يعني أن الرغيبة في اصطلاح المالكية تطلق على أمرين، الأول:

(1/27)


ما رَغَّب فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بذكر ما فيه من الثواب كقوله: من فعل كذا فله كذا. والثاني: ما داوم -صلى اللَّه عليه وسلم- على فعله بصفة النفل لا بصفة المسنون. وستأتي صفة المسنون. وقوله: “جُبي” بالجيم فعل ماض مبني للمجهول (1)، وأصل الجباية الجمع، والمراد به في البيت ذكر ما يُجبى للفاعل أي يُعطى له من الثواب.

. . . . . . . . . . . . . . . . … والنفلَ من تلك القيودِ أخْلِ
46 – والأمْرِ بلْ أَعلمَ بالثواب … فيه نبيُّ الرشد والصوابِ
يعني أن النفل هو ما خلا عن ما قُيَّدت به الرغيبة، فالرغيبةُ قُيدت بترغيب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها بذِكْر ما فيها من الثواب محدَّدًا أو مداومته عليها، والنفل خالٍ من تحديد الثواب ومن المواظبة عليه ومن الأمر به، بل هو ما ذكر -صلى اللَّه عليه وسلم- أن فاعله يثاب فقط، فقوله: “والنفلَ” مفعول قوله: “أخلِ” مقدم عليه، وقوله: “والأمْرِ” بالجر عطف على “القيود”.

47 – وسُنَّة ما أحمد قد واظبا … عليه والظهور فيه وجبا
يعني أن السنة في اصطلاح المالكية هي: ما واظب عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمر به من غير إيجاب وأظهره في جماعة، فقول المؤلف: “والظهور [فيه] وجبا” معناه: أن التقييد بكونه أظهره في جماعة لا بُدَّ من ذكره في حدِّ السنة على هذا الاصطلاح.

48 – وبعضهم سمَّى الذي قدْ أُكِّدا … منها بواجب فخذْ ما قُيِّدا
__________
(1) ط: للمفعول.

(1/28)


يعني أن بعض المالكية يُسَمِّي السنةَ المؤكدة واجبة وهو اصطلاح صاحب “الرسالة” (1) حيث يقول: سنة واجبة.

49 – والنَّفْلُ ليس بالشروع يجبُ … في غير ما نَظَمَهُ مُقرَّبُ
يعني أن النفل لا يلزم بالشروع فيه إلا المسائل المستثناة المذكورة في نظم الحطّاب وهو مراد المؤلف بقوله: “مقرب” خلافًا لأبي حنيفة القائل بوجوبه مطلقًا بالشروع لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} [محمد]. وأُجيْب عنه من جهة الجمهور بأن معناه: لا تبطلوا أعمالكم بالكفر المُحْبِط للحسنات، والمراد بالنَّفْل هنا ما قابل الواجب.

50 – قف واستمع مسائلًا قد حكموا … بأنها بالابتداء تلزمُ
51 – صلاتنا وصومنا وحجُّنا … وعمرةٌ لنا كذا اعتكافنا
52 – طوافنا مع ائتمام المقتدِي … فيلزمُ القضا بقطْعِ عامدِ
وكلها مختَلَف في وجوب إتمامه بين العلماء إلَّا الحج والعمرة فبالإجماع لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة/ 196]. وقول المؤلف: “فيلزم القضا بقطع عامد” يُسْتَثنى منه عند المالكية المسألة الأخيرة المشار إليها بقوله: “ائتمام المقتدي” فإنه لا يلزم فيها القضاء للائتمام وإن لزم عندهم أصل قضاء الصلاة.

53 – ما من وجوده يجيء العدمُ … ولا لزوم في انعدام يعلمُ
54 – بمانع يمنع للدوامِ … والابتدا أو آخر الأقسام
__________
(1) في عدة مسائل، انظر “الرسالة”: (ص/ 144، 183، 259).

(1/29)


55 – أو أوّلٍ فقط على نزاعِ … كالطَّوْل الاستبراءِ والرضاعِ

اعلم أولًا أن كل حكم يتوقف على ثلاثة أشياء هي: وجود الشرط، والسبب، وانتفاء المانع، فاحتيج إلى تعريف كلٍّ منها، فعرَّف المؤلف المانع بأنه هو الذي يلزمُ من وجوده عدم الحكم، ولا يلزم من عدمِه وجود ولا عدمٌ لذاته. كالحيض يلزم من وجوده عدم الصوم والصلاة، ولا يلزم من عدمه وجودهما ولا عدمهما.
ثم بيَّن أن المانع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: مانع الابتداء والدوام معًا، كالرضاع فإنه يمنع من ابتداء العقد كما يمنع من الدوام عليه إذا طرأ عليه، كأن يتزوّج رضيعة أجنبية ثم بعد العقد الصحيح عليها أرضعتها أمه فيمنع الدوام على العقد الذي كان صحيحًا.
الثاني: مانع الابتداء فقط، وهو مراده بقوله: “أو آخر الأقسام”. ومثل له بالاستبراء فإنه مانع من ابتداء النكاح، ولو تجدَّد موجب الاستبراء على الزوجة لم يمنع من الدوام على نكاحها.
الثالث: مانع الدوام فقط، وهو مراده بقوله: “أو أول” ومثاله الطلاق فإنه مانع من الداوم على الاستمتاع بالعقد الأول، ولا يمنع من ابتداء الاستمتاع بعقد جديد، ومثَّل له المؤلف بالطَّوْل إذا طرأ على الدوام هل يمنعه، كأن يتزوج أمَةً وهو فقير، ثم يطرأ له اليسار فهل يمنع الدوام على العقد الأول أو لا؛ ونظيره من صاد صيدًا في الحِلِّ، ثم أحرم والصيد تحت يده. ووجود الماء بعد التيمم هل يبطله أم لا؟

(1/30)


56 – ولازم من انتفاء الشرطِ … عَدَمُ مشروطٍ لدى ذي الضبطِ
57 – كسبب وذا الوجود لازمُ … منه وما في ذاك شيء قائمُ
يعني أن الشرط في الاصطلاح هو: ما يلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده وجود، ولا عدمٌ لذاته، كالطهارة للصلاة. والسبب هو: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم. فقوله: “كسبب”، يعني أن السبب يلزم من عدمه العدم كالشرط، وقوله: “وذا الوجود لازم منه” يعني أن السبب يلزم من وجوده الوجود أيضًا، وقوله: “وما في ذاك شيء قائم” يعني أن الشرط لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم. والشَّرْطُ في اللغة العلامة (1) ومنه قوله تعالى: {. . . فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا. . .} [محمد/ 18]. وقول أبي الأسود الدؤلي (2):
لئن كنتِ قد أزمعتِ بالصَّرْم بيننا … فقد جعلَتْ أشراطُ أوله تبدو
وسُمِّي الشرط في الاصطلاح لأن فقده علامة عدم الحكم ووجوده علامة إمكانه.
والسببُ لغةً ما يوصَل به إلى الشيء كالحبل لنزع الماء من البئر،
__________
(1) الشَّرَط -بالتحريك- العلامة، ويجمع على أشراط، ومنه الآية الكريمة التي ذكرها المصنِّف. والشَّرْط -بسكون الراء- هو العلامة في لغة، أشار إليها في “تاج العروس”: (10/ 459). والشرط يجمع على شروط وشرائط، ومنه شرطة الحجَّام، لأنها تترك أثرًا وعلامه، انظر “مقاييس اللغة”: (3/ 260)، و”إكمال الإعلام”: (2/ 332) لابن مالك.
(2) “ديوانه”: (ص/ 85)، و”الأغاني”: (12/ 328).

(1/31)


وسُمِّي السبب في الاصطلاح لأن وجوده يوصل لوجود الحكم.

58 – واجتمع الجميع في النكاحِ … وما هو الجالب للنجاحِ
قوله: “وما هو الجالب للنجاح” يعني به الإيمان، والمعنى: أن كلًّا من الشرط والسبب والمانع مجتمع في النكاح والإيمان، فالنكاحُ سبب في وجوب الصَّدَاق، شَرْط في ثبوت الطلاق، مانع من نكاح بنت المنكوحة، والإيمان سبب للثواب، شرط لصحة الطاعة، مانع من القصاص إذ قَتَل المؤمنُ كافرًا.

59 – والركن جزء الذات والشرط خرج … وصيغة (1) دليلها في المنتهج

يعني أن الفرق بين الركن والشرط: أن الركن جزء الماهية الداخل في حقيقتها كالركوع والسجود بالنسبة إلى الصلاة، والشرط هو ما خرج عن الماهية كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، وربما أُطْلِق كلٌّ منهما على الآخر مجازًا علاقته المشابهة في توقف الحكم على كل منهما.
60 – ومع علة ترادف السبب … والفرق بعضهم إليه قد ذهب

يعني أن الجمهور على ترادف العلة الشرعية والسبب الشرعِيّ، وفرَّق بينهما السمعاني (2) تبعًا للنحاة واللغويين فقال: السبب هو: الموصل إلى الشيء مع جواز المفارقة بينهما، ولا أثر له فيه ولا في تَحْصيله كالحبل للماء. والعلة: ما يتأثر عنه الشيء دون واسطة كالإسكار.
__________
(1) في الهامش تعليق في شرح “وصيغة” من “فتح الودود”.
(2) في “قواطع الأدلة”: (4/ 523 – 525).

(1/32)


61 – شرط الوجوب ما به مكلّفُ … وعدم الطلب فيه يعرفُ
62 – مثل دخول الوقت والنَّقاءِ … وكبلوغِ بَعْث الأنبياءِ
اعلم أولًا أن المؤلف -رحمه اللَّه- يرى أن الشرط ينقسم ثلاثة أقسام: شرط جوب، وشرط أداء، وشرط صحة، وعدُّه شرطَ الأداء تبع فيه القاضي بَرْدَلَة، والشيرازيَّ، وزكريا الأنصاري، وهو اختيار المؤلف (1). والأظهر عندي اندارج شرط الأداء في شرط الصحة وشرط الوجوب. وعرَّف شرط الوجوب بأنه ما يكون الإنسان مكلَّفًا به، كدخول الوقت، والنقاء من الحيض، وبلوغ دعوة الأنبياء، فالتكليف لا يقع دون الأشياء المذكورة مع أن المكلف لا يُطلب (2) بتحصيلها كانت في طوقه أم لا، وتقريبه للذهن أن شرط الوجوب هو ما يتوقف التكليف عليه ولم يُطلب من المكلف كان في طَوْقه أم لا؟

63 – ومع تمكُّن من الفعل الأدا … وعدمُ الغفلة والنوم بدا
يعني أن شرط الأداء هو ما يكون به التمكن من الفعل مع حصول ما به يكون الإنسان من أهل التكليف لأداء العبادة أي فعلها، وعلى هذا فالنائم والغافل غيرُ مكلفين بأداء الصلاة لعدم تمكنهما من الفعل. مع وجوبها عليهما، فالتمكن شرط في الأداء فقط، ومن لا يعد شرط الأداء -كمَيَّارَة (3) – يجيب عن هذا بأن النائم مرفوع عنه القلم، فالصلاة وقت
__________
(1) انظر “نشر البنود”: (1/ 37).
(2) ط: يطالب.
(3) مَيَّارة هو: أَبو عبد اللَّه بنُ محمد بنُ أحمد الفاسي المالكي، الفقيه الأصولي، له =

(1/33)


النوم والغفلة غير واجبة لعدم الإثم بتركها، وتارك الواجب آثمٌ ضرورة، وقوله: “بدا” أي بدا كون عدم الغفلة والنوم شرطًا في الأداء للصلاة مثلًا.

64 – وشرط صحة به اعتدادُ … بالفعل منه الطهْرُ يُسْتَفَادُ
يعني أن شرط الصحة هو ما اعتبر للاعتداد بفعل الشيء طاعة كان أو غيرها كالطهارة للصلاة وعلم الثمن والمثمن للبيع.

65 – والشرط في الوجوب شرط في الأدا … وعزوه للاتفاق وُجدا
يعني أن كل ما هو شرط في الوجوب فهو شرط في الأداء. [وقوله]: “وعزوه للاتفاق” إلخ يشير به إلى ما نقله اللقاني (1) في حاشيته على المحلي عن السَّعْد من حكاية الاتفاق على ذلك، والذين لا يعدُّون شرط الأداء يقولون: كل ما هو شرط للوجوب فهو شرط للصحة.

66 – وصحة وفاق ذي الوجْهينِ … للشرع مطلقًا بدون مَيْنِ
يعني أن الصحة عند المتكلمين هي: موافقة الفعل ذي الوجهين لإذن الشرع، وقوله: “مطلقًا” أي سواء كان ذو الوجهين عبادة أو معاملة، ومعنى كونه ذا وجهين أنَّه يقع تارة موافقًا للشرع لجمعه للشروط وانتفاء الموانع، وتارة مخالفًا للشرع لانتفاء شرط أو وجود
__________
= تصانيف (ت: 1072 هـ). ترجمته في “شجرة النور”: (ص/ 309)، و”الفكر السامي”: (2/ 279)، و”الأعلام”: (6/ 11 – 12).
(1) هو: ناصر الدين أَبو عبد اللَّه محمد بن الحسن اللقاني المالكي المتوفى سنة (954) انظر: “كشف الظنون”: (1/ 595)، وحاشيته لها عدة نسخ خطية، انظر: “الفهرس الشامل”: (3/ 468 – 470)، و”جامع الشروح والحواشي”: (2/ 762).

(1/34)


مانع، وقوله: “ذي الوجهين” احترز به عمالا يقع إلَّا موافقًا للشرع، كرد الودائع، ومعرفة اللَّه تعالى، فإنها إن لم تكن موافقة كانت جهلًا لا معرفة.

67 – وفي العبادة لدى الجمهورِ … أن يسقط القضا مدى الدهورِ
يعني أن صحة العبادة عند جمهور الفقهاء هي: سقوط القضاء بأن لا يحتاج إلى فعلها مرة أخرى.

68 – يُبْنى على القضاء بالجديدِ … أو أولِ الأمر لدى المُجيدِ
يعني أن الخلاف في تعريف الصحة بين الفقهاء والمتكلمين مبني على الخلاف في القضاء هل هو بأمر جديد أو بالأمر الأول؛ فعلى كونه بأمر جديد بنى المتكلمون مذهبَهم في العبادة التي لم تُفعل حتى خرج وقتها من أنَّها موافقة للأمر فلا يوجبون القضاء لما لم يَرِد نص جديد بقضائه، وعلى أنَّها بالأمر بنى الفقهاء فلا يخرج من عهدة الأمر الأول إلَّا بفعل مستوْفٍ للشروط الشرعية، وستأتي هذه المسألة للمؤلف في الأمر (1)، وقوله: “المُجيد” هو بضم الميم اسم فاعل من أجاد يعني به الممعن للنظر في علم الأصول.

69 – وهي وفاقه لنفس الأمر … أو ظنَّ مأمور لدى ذي خُبر
قوله: “ذي خُبر” يعني به تقي الدين علي بنُ عبدِ الكافي السبكيَّ (2)،
__________
(1) انظر البيت رقم (254) وهو من القسم الذي لم يشرحه المؤلف.
(2) انظر “الإبهاج شرح المنهاج”: (1/ 67) للسبكي، ونقل نصه من هنا صاحب “نشر البنود”: (1/ 45).

(1/35)


يعني أن الصحة عنده هي موافقة ذي الوجهين لأمر الشرع، لكن عند الفقهاء لابد من الموافقة في نفس الأمر، وعند المتكلمين تكفي الموافقة في ظنّ المكلف.

70 – بصحة العقد يكون الأثرُ … وفي الفساد عكس هذا يظهر
يعني أن ترتُّب الآثار المقصودة من العقد على العقد كالتصرف والانتفاع بالمبيع والتمتع بالمنكوحة إذا وُجد فهو ناشئ عن الصحة لا عن غيرها، وليس المراد أنَّه كلما وجدت الصحة وجدت ثمرة العقد لأن بيعَ الخيار صحيح ولا ينشأ عنه قبل تمام عقدِه أثر.
فإن قيل: الخلع والكتابة الفاسدان مثلًا يترتب عليهما أثرهما من البينونة في الأول والعتق في الثاني.
فالجواب: أن ترتب أثرهما ليس للعقد بل للتعليق وهو صحيح لا خلل فيه.
وقوله: “وفي الفساد عكس هذا” يعني أن فساد العقد عكس صحته في أنَّه لا يترتب عليه أثر العقد؛ لأن النهي يقتضي الفساد، لأن المنهيَّ عنه ليس من أمرنا، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “من أحْدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ” (1) فالمنهيُّ عنه مردود بنصه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلافًا لأبي حنيفة.

71 – إن لم تكن حوالة أو تلفُ … تعلق الحق ونقص يؤلف
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.

(1/36)


يعني أن المالكية خالفوا أصلهم في هذه المسألة وراعوا فيها الخلاف فقالوا: إن البيعَ الفاسدَ يفيد شبهة الملك فيما يقبل الملك، فإذا لحقه أحدُ أربعة أشياء تقرر الملك بالقيمة أو الثمن، وهي حوالة الأسواق، وتلف العين، ونقصانها، وتعلق حق الغير بها بنحو بيع أو رهن (1).

72 – كفاية العبادة الإِجزاء … وهي أن يسقط الاقتضاء
73 – أو السقوط للقضاء. . . … . . . . . . . . . . . .
يعني أن الإجزاء هو “كفاية العبادة” أي كونها كافية في سقوط الطلب والخروج من عهدته. فقوله: “وهي أن يسقط الاقتضاء” أي: الطلب بالفعل شرعًا. وقوله: “أو السُّقُوط للقضا” يعني أن الإجزاء قيل فيه: إنه هو السقوط للقضاء وهو قول ابن الحاجب (2)، وعليه يكون هو عين الصحة. وعلى ما مشى عليه المؤلف من الفرق بينهما يكون الشيء مجزئًا ولا يسقط القضاء كالذي لم يجد ماءً ولا صعيدًا على القول بأنه يصلي ويعيد، وكالمتيمِّم إذا وجد الماء عند الشَّافعي، وعلى قولٍ ضعيف عند المالكية فإنه يتيمم ويجزئه تيممه وصلاته ويعيد.
. . . . . . . . . . وَذَا أخصّ … من صحة إذ بالعبادة يُخَصْ
قوله: “ذا” إشارة إلى الإجزاء، والمعنى أن الإجزاء أخص مطلقًا
__________
(1) هذا القول هو نص كلام القرافي في “شرح التنقيح”: (ص/ 175)، ونقله صاحب “النشر”: (1/ 41). لكن ليس فيه ذكر “الثمن”.
(2) حكاه عنه الأصفهاني في “بيان المختصر”: (2/ 68).

(1/37)


من الصحة، وهي أعم منه مطلقًا، لأن الإجزاء يختص بالعبادات، والصحة تكون في العبادات والمعاملات، فتقول: عبادة صحيحة وعقد صحيح، ولا تقول: عقد مجزئ.

74 – والصحة القبول فيها يدخلُ … وبعضهم للاستواء ينقلُ
يعني أن القبول يندرج في الصحة، فمن الصحيح مقبول ومنه غير مقبول، كقول خليل (1): “وعَصى وصحَّت إن لبس حريرًا” إلخ، وبعضهم نقل استواء الصحة والقبول أي تَرادُفَهُما وهو غير ظاهر، واللام في قوله: “للاستواء” دخلت على المفعول لتقدُّمه لتقوية العامل على العمل فهي لتقوية التعدية كقوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)} [يوسف].

75 – وخصِّص الإجزاء بالمطلوبِ … وقيل بل يختصّ بالمكتوب
يعني أن الأجزاء الذي قدمنا أنَّه يختص بالعبادات قيل: يدخل في المندوب والواجب معًا،، وقيل: لا يدخل إلَّا في الواجب فقط.
حجةُ من قال يدخل في المندوب: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي بردة في الأُضحية بالعناق: “اذبحها ولن تُجزئ عن أحدٍ بَعْدَك” (2). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أربع لا تُجزئ في الأضاحي. . . ” (3). قالوا: فالأُضحية غير واجبة، والنبي
__________
(1) في “المختصر”: (ص/ 25).
(2) أخرجه البخاري رقم (968)، ومسلم رقم (1961) من حديث البراء -رضي اللَّه عنه-.
(3) أخرجه مالك رقم (1387)، وأحمد: (30/ 369 رقم 18510)، وأَبو داود رقم (2802)، والترمذي رقم (1497)، والنسائي: (7/ 244)، وابن ماجة رقم (3144)، وابن خزيمة رقم (2912)، وابن حبان “الإحسان” رقم (5922)، =

(1/38)


-صلى اللَّه عليه وسلم- عبر فيها بالإجزاء.
وحجة أهل القول الآخر أن الأضحية واجبة ولم يَرِد الإجزاءُ في مندوب.

76 – وقابل الصحة بالبطلان … وهو الفساد عند أهل الشأن
يعني أن الصحة يقابلها البطلان، فالشيء إما صحيح وإما باطل، وعليه فالبطلان عند المتكلمين هو: مخالفة ذي الوجهين الأمر الشرعي، وعند الفقهاء في العبادات هوة ما لم يُجْزِئ ولم يُسقِطِ القضاء، وفي المعاملات: ما لم يترتَّب عليه أثره المقصود منه. وقوله: “وهو الفساد” يعني أن البطلان هو الفساد عند الجمهور.

77 – وخالفَ النعمان فالفساد … ما نهيه للوصف يُستفاد
“النعمان” هو ابن ثابت، وهو أَبو حنيفة رحمه اللَّه، والمعنى: أنَّه خالف الجمهور فجعل الفاسد غير الباطل، فالباطل عنده: ما مُنِعَ بأصله ووصفه، كبيع الخنزير بالدم، والفاسد: ما شُرِع بأصله ومُنِع بوصفه،
__________
= والحاكم: (1/ 467 – 468)، وغيرهم. من حديث عبيد بن فيروز عن البراء بن عازب -رضي اللَّه عنه-.
قال الإمام أحمد: ما أحسنه من حديث. وقال الترمذي: “هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلَّا من حديث عبيد بن فيروز عن البراء والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم”. وقال الحاكم: “هذا حديث صحيح ولم يخرجاه” ولم يتعقبه الذهبي، وصححه النووي في “شرح مسلم”: (13/ 120)، وابن الملقن في “البدر المنير”: (9/ 386).

(1/39)


كبيع درهم بدرهمين، فأصل بيع الدرهم بالدرهم جائز، وإنَّما مُنِع من أجل الوصف الذي هو زيادة الدرهم الرِّبويّ. فقوله: “ما نهيه للوصف” يعني أن الفسادَ ما نُهِي عنه لا لأصله بل لوصفه.

78 – فعل العبادة بوقت عيِّنا … شرعًا لها باسم الأداءِ قُرِنا
الأداء في اللغة: دفع الحق المطالَب به، وفي الاصطلاح هو: إيقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعًا لمصلحة اشتمل عليها الوقت.

79 – وكونه بفعلِ بعضٍ يَحْصُلُ … لعاضِدِ النَّصِّ هو المُعوَّلُ
يعني: أن الأداء يحصل بفعل البعض في الوقت ولو فُعِل البعضُ الآخر خارجَ الوقت، كمن أدرك ركعة من الصلاة فكلها أداء.
وقوله: “لعاضد النص” أي للنصّ العاضد المقوِّي لهذا وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة” (1). وقيل: البعض قضاء والبعض أداء. وقيل: كلها قضاء، وهما مقابلان للصحيح.

80 – وقيل ما في وقتِهِ أداءُ … وما يكون خارجًا قضاءُ
تصوُّره ظاهر.

81 – والوقت ما قدَّرهُ مَنْ شرَعا … من زمنٍ مضيِّقًا مُوَسَّعا
يعني: أن وقت العبادة هو زمنها المقدَّر لها شرعًا سواء كان وقتًا مُوَسَّعًا أو مُضيَّقًا، وضابط الموسَّع هو: ما يسعُ أكثرَ من فعل العبادة
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (580)، ومسلم رقم (607) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/40)


كأوقات الصلاة، والمضيَّق هو: ما لا يزيد على قدر ما تُفْعَل فيه العبادة كرمضان. والتحقيق أن الوقت الموسَّع جائز عقلًا وواقع شرعًا.
فإن قيل: وجوب الصلاة في أول الوقت لا يُعقل مع جواز تأخيرها لآخر الوقت، فما جاز تركه في وقت لا يعقل كونه واجبًا فيه.
فالجواب: أنَّ الصلاة واجبة في حِصَّة من حِصَص الوقت غير معينة، كما أن الواجب في خصال الكفارة واحد من ثلاثة أشياء غير معين.

82 – وضدُّه القضا تداركًا لِما … سَبْقُ الذي أوجبَه قد عُلِما
“القضاء” لغةً: إتمام الشيء والفراغ منه ولو في وقته كقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء/ 103]، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة/ 200]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة/ 10].
وفي الاصطلاح هو: فعل العبادة كلّها خارج الوقت المقدَّر لها -على الصحيح الأداء- في حال كون ذلك الفعل تدارُكًا لشيءٍ عُلِمَ
تقدُّمُ ما أوجب فعله في خصوص وقته، وتدارك الشيء الوصول إليه، وسيأتي لهذا زيادة إيضاح.

83 – من الأداء واجبٌ وما مُنِعْ … ومنه ما فيه الجواز قد سُمِعْ

يعني أن الأداء له ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون واجبًا كأداء الصلاة في وقتها ممن لم يقم به مانع، وتدارك مثل هذا بعد الوقت لا إشكال في كونه قضاءً.
الثانية: أن يكون ممنوعًا كصوم الحائض، وتسمية تداركه قضاء قيل: مجاز؛ لأنه لم يتقدم له وجوب، وقيل: قضاء حقيقةً بناءً على أن

(1/41)


القضاء يكفي فيه انعقاد سبب الوجوب وإن منع منه مانع كما يأتي إيضاحه إن شاء اللَّه.
الثالثة: أن يكون جائزًا كأداء المسافر للصوم، فتسميةُ تدارك هذا قضاءً قيل: مجاز نظرًا إلى التخيير في وقت الوجوب، وقيل: قضاء أيضًا حقيقة نظرًا لانعقاد سبب الوجوب بدخول رمضان وإن منع منه مانع السفر في رمضان.

84 – واجتمع الأداء والقضاءُ … وربَّما ينفردُ الأداء
85 – وانتفيا في النفل. . . . … . . . . . . . . . . .
يعني أن من العبادات ما يُوصَفُ بالأداء والقضاء معًا كالصلوات الخمس، ومنها ما يختص بالأداء ولا يُقْضَى كالجمعة فإنها لا تقضى إلَّا ظهرًا، ومنها ما لا يوصف بقضاء ولا أداء كمطلق النفل.

. . . . . . . . . . . والعبادَه … تكريرها لو خارجًا إعاده
86 – للعذر. . . . . . . . . … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن فعل العبادة مرة أخرى هو الإعادة في الاصطلاح سواء أعيدت في الوقت أم لا، وسواء أعيدت لخلل أو لطلب فضل الجماعة.
وقوله: “للعذر” يعني أن التكرار لابد أن يكون لعذر من خلل فيها أو تحصيل مندوب. والإعادة لغة هي: فعل الشيء ثانيًا، ومنه قول توبة (1):
__________
(1) نُسِب البيت لغير واحد منهم كثيِّر والعوام بن عقبة، وهو بلا نسبة في “الكامل”: =

(1/42)


من الخَفِرات البيض وَدَّ جليسُها … إذا ما انقضت أُحدوثة لو تعيدها
يعني تحدِّث بها مرة أخرى.

86 – . . . . . . والرُّخصَّةِ حكمٌ غُيِّرا … إلى سهولة لعذر قُرِّرا
87 – مع بقاء (1) علَّةِ الأصليّ … وغيرُها عزيمةُ النَّبيّ
يعني أن الرخصة في الاصطلاح هي حكم غُيِّر من صعوبة إلى سهولة لعذرٍ مع قيام سبب الحكم الأصليّ، فخرج بقَيْد التغيير ما كان باقيًا على أصله كالصلوات الخمس وهي عزيمة. وخرج بقيد السهولة ما غُيِّر إلى أصعب أو إلى مساوٍ، وهما النسخ. فمثال ما غُيِّر إلى صعوبة: تغيير حكم التخيير بين صوم رمضان وبين الإطعام المنصوص عليه بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} الآية [البقرة/ 184]. فالتخيير الذي هو أسهل غُيِّر إلى ما هو أصعب منه، وهو تعيين الصوم المنصوص في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة/ 185]. ومثال ما غُيِّر إلى مساو: اسْتقبال بيت المقدس غُيِّر إلى اسْتقبال البيت الحرام، وهما في الصعوبة وعدمها سواء.
وخرج بقيد “لِعُذْرٍ” ما تغير إلى سهولة لكن لا لعذر، كتغيير الوضوء لكل صلاة بما هو أسهل منه وهو أن يصلي بوضوئه ما شاء حتى ينتقض، لكنَّ هذا لا لعذرٍ طرأ بل حالة التغيير كحالة ما قبل التغيير فلا يُسمَّى رخصة.
__________
= (2/ 804)، و”الأشباه والنظائر”: (1/ 198) للخالديين، و”الأمالي”: (1/ 84) للقالي.
(1) كذا في الأصل وط: قيام.

(1/43)


وخرج بقيد قيام السبب الأصلي تغييرُ وجوب مصابرة الواحد من المسلمين عشرة من الكفار إلى مصابرته اثنين؛ لأن سبب الحكم الأول قلة المسلمين وقد زالت بعد ذلك بكثرتهم، وعذرها مشقة المصابرة (1) وهذا نسخ.
وقوله: “وغيرها عزيمة النَّبِيِّ”، يعني أن ما سوى الرخصة فهو عزيمة ما لم يتغير أصلًا، أو تغيَّر إلى صعوبة، أو إلى سهولة لا لعذر أو لعذر لا مع قيام السبب للحكم الأصلي، هذا مراده، ولا يصح على إطلاقه لما علمتَ من أن التغيير إلى أصعب أو إلى مساو أو إلى أسهل مع [عدم] قيام سبب الأصلي كلها قد يكون نسخًا، فالتحقيق وجود الواسطة بين الرخصة والعزيمة. والرخصة لغة: من الرَّخْص، وهو الليِّن الناعم، والعزيمة لغة: القصد المصمِّم.

88 – وتلك في المأذون جزمًا توجدُ … وغيره فيه لهم تردُّدُ
يعني أن الرخصة تكون في المأذون بلا نزاع، ومراده بالمأذون ما لم يُنْهَ عنه مطلقًا، وذلك هو الواجب والمندوب والجائز، ومراد المؤلف أن فعل الرخصة يكون واجبًا، ومندوبًا، وجائزًا بلا نزاع، ومثال الرخصة الواجبة: أَكْلُ المضطر الميتة إذا خاف الهلاك، فهو واجب لوجوب حفظ النفس من الموت. ومثال المندوب: قَصْر الصلاة في السفر، فهي رخصة مسنونة، والإفطار في السفر عند من يرى الندبية. ومثال الجائزة: السَّلَم الذي هو بيعُ موصوفٍ في الذمة.
__________
(1) ط: زيادة المذكورة.

(1/44)


وقوله: “وغيره فيه لهم تردُّدُ” يعني أن غير المأذون وهو المكروه بقسميه والحرام هل يكون متعلق الرخصة أم لا؟ ومن هنا اختلف العلماء في العاصي بسفره هل يرخَّص له في قصر الصلاة وأكل الميتة وفي جواز التيمم في السفر المكروه؟ والصحيح عند المالكية هو ما رجَّحه سَنَدٌ (1) والقرطبي وابن عبدِ السلام وابن مرزوق من الجواز مطلقًا (2).

89 – وربما تجي لما أُخرج مِنْ … أصلٍ بمطلقِ امتناعه قَمِنْ
يعني أن الرخصة ربما أُطْلِقت على ما اسْتُثني من أصل كُلِّيّ يقتضي المنع، كضرب الدِّية على العاقلة، فإنه مُسْتَثنى من أصلٍ هو: {وَلَا تَزِرُ وَازِزُةٌ وزْرَ أُخرَى} [الأنعام/ 164] فهو أصل كُلِّيّ يقتضي منع تغريم العاقلة جناية غيرها، لكنه اسْتُثني من هذا الأصل، فمثله قد تطلق عليه الرخصة، وكبيع العرية ونحو ذلك.
وقول المؤلف: “قمن” نعت لقوله: “أصل”. وقوله: “بمطلق امتناعه” متعلِّق بـ “قمن” بمعنى جدير، وتقريره: ما أخرج من أصل جدير بامتناع ذلك المُخْرج لو لم يُخرجه الشرع، ومراده بالإطلاق سواء كان الإخراج لعذر شاق أم لا، فالعذر الشاق كخوف الموت إن لم يأكل الميتة، والعذر الغير الشاق كالسَّلَم وضرب الدية على العاقلة ونحو ذلك.
__________
(1) هو سند بن عنان بن إبراهيم بن حريز بن الحسين بن خلف أَبو علي الأزدي من فقهاء المالكية، له شرح المدونة سماه الطراز (ت 541 هـ). انظر، “الديباج المذهب”: (ص/ 126 – 127).
(2) انظر “النشر”: (1/ 52).

(1/45)


90 – وما به للخبر الوصولُ … بنظرٍ صحَّ هو الدليلُ
يعني أن الدليل في اصطلاح الأصوليين هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبريّ. فقولهم: يمكن، يُفْهم منه أنَّه يسمَّى دليلًا ولو لم يُنظر فيه فالعبرة بالإمكان لا بالإطلاق، والمراد بالخبريّ، ما يتضمَّن نسبة خبرية كجملة فعلية أو اسمية، واحتُرِز به من غير الخبريّ، فإن الموصل إلى غير الخبريّ هو المعروف بالمُعَرِّفات وهي الحدود والرسوم. والنظر يأتي له تعريفه.
واحترز بقوله: “صحَّ” من الفاسد إذ لا يمكن التوصل به إلى المطلوب. والدليل في اللغة: فعيل بمعنى فاعل من الدلالة وهي الإرشاد، واصطلاحًا: فهم أمرٍ من أمرٍ، أو كون أمر بحيث يفهم منه أمرٌ فُهم أو لم يفهم، ولا يكون الدليل عند الأصوليين إلَّا مركبًا.

91 – والنَّظرُ الموصلُ من فكرٍ إلى … ظنٍّ بحكمٍ أو لعلمٍ مُسْجلا
يعني أن النظر في الاصطلاح (1) هو الفكر المؤدِّي إلى علم أو ظن، فإن كانت المقدمات يقينية أيد العلم، وإن كانت ظنية أفاد الظنّ.
والفكر حركة النفس في المعقولات، أما حركتها في المحسوسات فتخييل، فَـ “مِنْ” من قوله: “مِنْ فكرٍ” بيانية بيَّنت الموصِل وهو الفكر، كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج/ 30] والأوثان هي الرجس. وقوله: “أو لعلم” أي أو الموصل لعلم. وقوله:
__________
(1) ط: الأحكام.

(1/46)


“مُسْجَلًا” أي مطلقًا، ومراده بالإطلاق: سواء كان العلم بذات أو نسبة.

92 – الإدراك من غير قضًا تصَوُّرُ … ومَعْه تصديقٌ وذا مُشتَهِرُ
اعلم أولًا أن الإدراك في الاصطلاح هو: وصول النفس إلى المعنى بتمامه، فإن وصلت إليه لا بتمامه فهو الشعور، ومعنى كلام المؤلف أن النفس إذا وصلت إلى المعنى من غير قضاء عليه أي حكم عليه بإثبات شيء له أو نفيه عنه، كوصولها إلى معنى الحلاوة والمرارة والبياض والسواد، فهذا يمسى تصورًا، وهو تفعُّل من الصورة، لأن المدْرِك لحقائق الماهيات تنطبع صورها في مرآة ذهنه.
وقوله: “ومعه تصديق” يعني أن الإدراك مع القضاء على الموضوع بالمحمول يُسمى تصديقًا، ومراده أن النفس إذا وصلت إلى إدراك المحكوم عليه والمحكوم به، والنسبة الحكمية التي هي مَوْرِدُ الإيجاب والسلب، وكونها واقعة بالفعل، أو غيرُ واقعة، فهذه الإدراكات الأربعة هي التصديق، وعليه فالتصديق مركب من أربعة تصورات، ومذهب الحكماء أن التصديق هو التصور الرابع والثلاثة قبله شروط فيه، وعليه فهو بسيط، فالكل متفق على أن التصديق لا يمكن إلَّا بعد أربعة تصورات وهي: تصور الموضوع والمحمول، والنسبة الحكمية من غير إثبات لها ولا نفي كما يقع من الشاكِّ، وتصور وقوعها، بالفعل أو عدم وقوعها، إلَّا أن من يقول: التصور مركب يقول: إن توقفه على التصورات الثلاثة الأُول من توقف الماهية على أركانها، ومن يقول: هو بسيط يقول: هو من توقف الماهية على شرطها.

(1/47)


واعلم أنهم اختلفوا في الحكم هل هو سلب النسبة أو إيجابها فيكون فعلًا، أو اعتقاد سلبها أو إيجابها فيكون انفعالًا، ولا طائل تحت هذا الخلاف.
وقول المؤلف: “وذا مشتهر” يعني أن المشهور هو كون التصديق مركبًا من التصورات (1) الأربعة المتقدمة، ومذهب قدماء المناطقة خلافه، وإنما سُمِّي إثبات المحمول للموضوع أو نفيه عنه تصديقًا، لأنه خبر والخبر لذاته يحتمل التصديق والتكذيب فسمَّوه تصديقًا من التسمية بأشرف الاحتمالين.

93 – جازمُه دون تغيُّرٍ عُلِمْ … علمًا وغيره اعتقادٌ ينقسم
94 – إلى صحيحٍ إن يكن يُطابقُه … أو فاسدٍ إن هو لا يوافقه (2)
الضمير في قوله: “جَازِمُهُ” للقضاء بمعنى الحكم، يعني أن الحكم بنسبة المحمول إلى الموضوع إذا كان جازمًا لا يمكن تغييره ولا التشكيك فيه بحال، كالحكم بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكُلَّ أكبر من الجزء يسمى في الاصطلاح علمًا. وإن كان جازِمُه يحتمل التشكيك فهو اعتقاد مطابق إن طابق الحق، وفاسد إن خالف الحق، كاعتقاد الفلاسفة قدم العالم وإن كانوا لا يشكون فيه؛ لأنه في الواقع قابل للتشكيك.

95 – والوهْمُ والظنُّ وشكٌ ما احْتَملْ … لراجحٍ أو ضدِّه أو ما اعتدلْ
__________
(1) ط: التصديقات.
(2) المطبوعات: يطابق، يوافق.

(1/48)


يعني أن الحكم إذا كان غير جازم بأن كان معه احتمالُ نقيض المحكوم به من وقوع النسبة أو عدمه ينقسم إلى وهْمٍ، وظنٍّ، وشكّ، فالوهم هو: الحكم بالشيء مع احتمال نقيضه احتمالًا راجحًا، كالحكم بكذب العدل في خبره؛ لأن الراجح من الاحتمالين صدق العدل لا كذبه. والظن ضد الوهم بأن احتمل النقيض احتمالًا مرجوحًا كالحكم بصدق العدل في خبره. والشك: ما احتمل النقيض مع تساوي الاحتمالات كالحكم بصدق مجهول الحال في خبره.
وقيل في الوهم والشك: إنهما ليسا من التصديق إذ الوهم ملاحظة المرجوح، والشك التردد في الوقوع وعدمه، والتحقيق: أن الواهم حاكم بالطرف المرجوح حكمًا مرجوحًا، وأن الشاكَّ إن كان شكه لتعارض الأدلة فهو حاكم بالتردد، وإن كان لعدم النظر فهو غير حاكم، ومن هنا اختلف في الوقف هل يُعد قولًا أو لا؟
فإذا عرفتَ حدَّ الوهم والظن والشك فاعلم أن اتباع الوهم حرام، واتباع الظن في العقائد حرام أيضًا، واتباعه في الفروع العمليَّة جائز إن لم يمنع منه مانع شرعيّ، كالقضاء بشهادة عدل واحد، وإن غلب على الظنِّ صدقه فهو مما قدم فيه النادر على الغالب، والشك ساقط الاعتبار إلَّا في النادر كالنضح من الشكِّ في إصابة النجاسة.

96 – والعلم عند الأكثرين يختلف … جزمًا. . . . . . . . . . .
يعني أن عِلم المخلوقات يتفاوت في جزئياته، فالعلم مثلًا بأن الواحد نصف الاثنين أقوى من العلم الحاصل بالتواتر، وعلمه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا

(1/49)


يساوي علمنا، وحق اليقين أقوى من عين اليقين، وعين اليقين أقوى من علم اليقين (1).

. . . . . . . . . . . . . . … . . . .وبعضهم بنفْيهِ عُرِفْ
97 – وإنما له لدى المُحقِّقِ … تفاوتٌ بحسب التعلُّق
98 – لما لَه من اتّحادٍ مُنْحتِمْ … معَ تعدُّدٍ لمعلومٍ عُلِمْ
يعني أن بعض المتكلمين نفى تفاوت العلم في جزئياته قائلًا: إن العلم الحادث انكشاف واحد فضرورِيُّه ونظرِيُّه بالنسبة إلى الجزم وعدم إمكان التشكيك سواء، وإنَّما يتفاوت عندهم بكثرة المتعلَّقات، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام علموا من صفات اللَّه ما لم يعلمه غيرُهم، لأن العلم عندهم (2) صفة واحدة متعلقاتها متعددة، وذلك هو معنى قوله: “لماله من اتحاد منحتم مع تعدد لمعلوم”، والتحقيق أن العلم يتفاوت في نفسه وهو مذهب أهل السنة والجماعة، ولا شك أن علم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمسألة يعلمها عوام المؤمنين أقوى من علم العوام في نفس القدر الذي علمه العوام وهو واضح.

99 – يُبنى عليه الزَّيْدُ والنقصانُ …. هل ينتمي إليهما الإيمانُ
يعني أن الخلاف في العلم هل يتفاوت في نفسه بالقوة في الجزم يُبْنَى عليه الخلاف في نقص الإيمان -بمعنى التصديق- وزيادته.
__________
(1) انظر “النشر”: (1/ 57).
(2) أي بعض المتكلمين.

(1/50)


والتحقيق أنَّه يزيد وينقص كما صرحت به الآيات القرآنية بالنظر إلى نفس التصديق، وبالنظر إلى زيادة الأعمال أيضًا ونقصانها.

100 – والجهلُ جافي المذهَب المحمود … هو انتفاءُ العلمِ بالمقصود
يعني أن الجهل -في المذهب الصحيح- هو انتفاء العلم بما شأنه أن يقصد ليعلم بأن لم يُدْرك أصلًا وهو الجهل البسيط، أو أُدْرِك على خلاف هيْئته في الواقع وهو الجهل المركب، كاعتقاد الفلاسفة قِدَم العالم.
وخرج بقوله: “المقصودِ”، عدم العلم بما تحت الأرضين مثلًا فلا يسمى جهلًا اصطلاحًا. وقيل: الجهل إدراك المعلوم على خلاف هيْئته في الواقع، وهذا الحدُّ لا يتناول إلَّا المركب.

101 – زوالُ ما عُلِمَ قُل نِسيانُ … والعلمُ في السَّهْوِ لَهُ اكتنانُ
يعني أن النسيان هو: زوال المعلوم من القوة الحافظة والقوة المدركة، فيُسْتأْنف تحصيله لأنه غير حاصل لزواله. والسهو هو: اكتنان المعلوم أي غيبته عن القوة الحافظة مع أنَّه غير غائب عن القوة المدركة، فهو الذهول عن المعلوم الحاصل فينتبه له بأدنى تنبيه، وقيل: النسيان غفلة عن المذكور، والسهو غفلة عن المذكور وغيره، وقيل: هما مترادفان (1).

102 – ما رَبُّنا لم يَنْهَ عنه حسنُ … وغيرُه القبيحُ والمُسْتهجَنُ
يعني أن الحسن شرعًا ما لم ينه اللَّه عنه، فيدخل فيه الواجب
__________
(1) انظر “النشر”: (1/ 60).

(1/51)


والمندوب والجائز. والقبيحُ المُسْتهجَن هو: ما نهى اللَّه عنه من حرام أو مكروه أو خلاف الأولى، وقيل المكروه واسطة بين الحسن والقبيح فلا يسمى قبيحًا لأنه لا يذم عليه، ولا حسنًا لأنه لا يسوغ الثناء عليه وهو قول إمام الحرمين (1).
والخلاف في أفعال غير المكلفين كالبهائم والنائم ونحو ذلك هل هو من الحسن أو لا، لا فائدةَ فيه ولا طائلَ تحته. والحسن عند المعتزلة ما حسَّنه العقل والقبيح ما قبَّحه.

103 – هل يجب الصومُ على ذي العُذْرِ … كحائضٍ ومُمْرَضٍ وسَفْرِ
يعني أنَّه اختلف في الحائض في رمضان والمريض والمسافر فيه ونحوهم هل يَصْدق عليهم أن الصوم واجب عليهم في وقت العذر أم لا؟ حجة من يقول: هو غير واجب عليهم ظاهرة، لأنه حرام على الحائض وحرمته تنافي وجوبه عليها، ولأنه جائز الترك للمريض والمسافر وجواز تركه ينافي وجوبه أيضًا.
وحجَّة من يقول بصدق الوجوب عليهم أنَّه يجب عليهم القضاء بقدر ما فاتهم، فكأن الآتي به بدلًا من الفائت والبدل واجب، فدل (2) على أن الفائت واجب وإلَّا لم يكن بدلًا منه. ومما يوضح ذلك أنَّه لو صام قدر الأيام الفائتة من غير نيةِ تداركِ ما فات من رمضان فإنه لا
__________
(1) نقله عنه في “النشر”، وهو بمعناه في “البرهان”: (1/ 216)، وانظر “الإحكام”: (1/ 72 – 73) للآمدي.
(2) الأصل: يدل.

(1/52)


يُجزئ ذلك الصوم، فدل على أنَّه قضاءٌ واجبٌ.
وتقريب هذا للذهن: أن العلماء اختلفوا في انعقاد سبب الوجوب هَلْ يسمَّى به الشيء واجبًا يجب قضاؤه تداركًا، لوجوبه بانعقاد سببه ولو منع من تأثير سبب الوجوب مانع الوجوب كالحيض أو تخلَّف شرطُ الوجوب (1) كالمرض والسفر لأن شرط وجوب الصوم بالفعل في رمضان الإقامة فيه وعدم المرض، وهذا القول هو الصواب وهو مذهب الجمهور، خلافًا لما درج عليه المؤلف تبعًا لابن رشد من الفرق بين الحيض وبين المرض والسفر، أو لا يُسمّى واجبًا إلَّا إذا صاحب انعقاد سبب وُجوبه انتفاءُ كل الموانع ووجودُ كل الشروط. وتظهر فائدة هذا الخلاف في نية صيام الأيام الفائتة من رمضان، فعلى صِدْقِ الوجوب عليه وقت العذر ينوي القضاء تداركًا لذلك الواجب الفائت وهذا قول الجمهور، وعلى عدم صِدْقِ الوجوب ينوي الأداء، لأن تدارك صيام ما فات واجب مؤتنف بدليل جديد كقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة/ 184] وأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- الحائض بصوم ما فاتها في الحيض (2) على هذا القول، وهذا هو معنى قول المؤلف: “وهو في وجوبِ قصدٍ” البيت.

104 – وجوبُه في غير الأوَّلِ رجَحْ … وضعفُهُ فيه لديهمُ وضَحْ
105 – وهو في وجوبِ قصدٍ لِلأَدا … أو ضدِّه لقائلٍ به بدا
__________
(1) بعده في الأصل: لما، ولعله سبق قلم.
(2) فيما أخرجه البخاري رقم (321)، ومسلم رقم (335) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.

(1/53)


مراد المؤلف بالبيت الأول هو ما قدمنا من الفرق بين المرض والسفر فلا يمنعان صِدْقَ الوجوب، وبين الحيض فإنه يمنع صِدْقَ الوجوب على ما قاله ابن رشد. ومراده بالبيت الثاني هو ما قدمنا من أنَّه على القول بالوجوب ينوي في البدل القضاء، وعلى ضده ينوي فيه الأداء، والضمير في قوله: “وهو” راجعٌ إلى الخلاف بمعنى ثمرته.

106 – ولا يكلِّفُ بغير الفعلِ … باعثُ الأنْبِيَا ورَبُّ الفَضْلِ
يعني أن اللَّه تعالى لا يكلِّف إلَّا بفعل؛ لأن غير الفعل غير مقدور للمكلف، واللَّه تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة/ 286]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن/ 16]. وأما التكليف بإذعان النفس وانقيادها وتصديقها بالعقائد، والتكليف بالندم على الذنب فهو -في الحقيقة- تكليف بالأسباب المؤدية إلى ذلك لا بمجرد الانفعال من إذعان في الأول وندم في الثاني. والفعل في كلام المؤلف يشمل أربعة أشياء وهي: الفعل، والقول، والعزم المُصَمِّم لأنه فعل القلب، والترك.
أما الفعل الظاهر كالسرقة والزنا مثلًا فلا إشكال في تسميته فعلًا.
وأما القول فقد سماه اللَّه فعلًا لأنه فعل اللسان وذلك في قوله: {. . . زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام/ 112] الآية.
وأما القصد المُصَمِّم فالدليل على كونه فعلًا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار” قالو: يا رسول اللَّه قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ قال: “إنه كان حريصًا على قتل

(1/54)


صاحبه” (1) فبيَّن -صلى اللَّه عليه وسلم- أن عزمه المُصمِّمَ على قتل صاحبه فِعْل قبيح دخل بسببه النار، واحْتُرِز بالعزم المصمم عن الهَمِّ فلا يؤاخذ به لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كُتِبَت له حسنة كاملة. . . ” (2)، وقوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران/ 122].
وأما الترك فالدليل على أنَّه فعلٌ قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة/ 63] فسمَّى تركهم للأمْرِ بالمعروف والنهي عن المنكر صنعًا، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده” (3) فسمَّى كفَّ الأذى إسلامًا، فدلَّ على أن الكفَّ فعلٌ. ويدُلُّ لأن الترك عَمَل قولُ الراجز:
لئن قعدنا والنبيُّ يعملُ … لَذاكَ مِنَّا العمل المضلَّلُ (4)

وكون الترك فعلًا هو مراد المؤلف بقوله:
107 – فكفُّنا بالنَّهي مطلوبُ النَّبي … والتَّركُ (5) فعلٌ في صحيح المذهب
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (31)، ومسلم رقم (2888) من حديث أبي بكرة -رضي اللَّه عنه-.
(2) أخرجه البخاري رقم (6491)، ومسلم رقم (131) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-.
(3) أخرجه البخاري رقم (10)، ومسلم رقم (40) من حديث عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما-. وأخرجاه أيضا من حديث أبي موسى -رضي اللَّه عنه-.
(4) ذكر الحافظ في “فتح الباري”: (7/ 291) أن الزبير بن بكار أخرجه. ولعله في “الموفقيات” ولم أجده في المطبوع منه.
(5) في المطبوعات: والكف.

(1/55)


يعني أن الذي كلفنا به الشارع هو الكف بمعنى الترك والانتهاء، أي صَرْف النفس عن المنهي عنه، وذلك فعل يحصل بفعل الضد للمنهي عنه [فـ]ـالمقصود بالذات هو الانتهاء، وأما فعل الضد فقد يُقْصَد بالالتزام وقد لا يُقصد أصلًا إذا كان المتكلم غافلًا عنه، وذلك لا يتأتَّى في كلام اللَّه تعالى.

108 – له فروعٌ ذُكِرَتْ في المنْهَجِ … وسرْدُها من بعدِ ذا البيت يجي
109 – من شُرْبٍ أو خيطٍ ذكاةٍ فضلِ ما … وعَمَدٍ رَسْمٍ شهادةٍ ومَا
110 – عطَّلَ ناظرٌ وذو الرَّهْن كذا … مُفرِّط في العلفِ فادْرِ المأخذا
111 – وكالتي رُدَّتْ بعيبٍ وعَدِمْ … وليُّها وشبْهِها مِمَّا عُلِمْ
فقوله: “من شرب” متعلق بالبيت قبله وهو قول صاحب “المنهج” (1):
وهل كَمَن فعل تاركٌ كَمَن … له بنفعٍ قدرةٌ لكن كَمَنْ
أي له قدرة بنفع كامن من شرب، يعني أن من عنده فضل شراب فلم يعطه مضطرًّا حتى مات يضمن ديته؟ على أن الترك فعل وهو الحق، لا على مقابله فلا ضمان.
وقوله: “أو خيط” يشير إلى مَنْ مَنَع خيطًا من ذي جائفة يخيطها به حتى مات يضمن ديته على أن الترك فعل أيضًا.
__________
(1) (ص/ 69 – مع شرحه إعداد المهج)، والمنهج منظومةٌ في قواعد الفقه المالكي، اسمها “المنهج المنتخب في قواعد المذهب” لأبي الحسن الزقاق (ت 912 هـ) طبعت قديمًا. انظر “جامع الشروح والحواشي”: (3/ 1501، 1947).

(1/56)


وقوله: “ذكاة”، يشير إلى من مرَّ بصَيْدٍ لم تنفذ مقاتله وأمكنته تذكيته فلم يفعل حتى مات هل يضمن بناءً عَلى أن الترك فعل أم لا؟
وقوله: “فضل ما”، يشير إلى من منع فضل مائِهِ عن زرع جاره حتى هلك، هل يضمنه بناء على أن الترك فعل أيضًا؟
وقوله: “وعمدٍ” يُشيرُ إلى من عنده عَمْد فطلبها منه صاحب جدار خائفٍ سقوطه فلم يفعل حتى سقط، فعلى أن الترك فعل يضمن لا على مقابله.
وقوله: “رسمِ شهادةٍ” على إضافة الأول إلى الثاني معناه أن من أمْسَك رسم شهادة أي وثيقة حق حتى تلف الحق فإنه يضمنه على أن الترك فعل، وعلى عدم الإضافةِ وتنوينِ قوله: “رسمٍ” وعطفِ “شهادةٍ” بحذف العاطف، فهما مسألتان؛ قوله: “رسمٍ” يشير إلى وثيقة الحق المتقدمة، وقوله: “شهادةٍ” يعني أن من كتم الشهادة حتى ضاع الحق هَلْ يغرم لأن الترك فعل أو لا؟
وقوله: “وما عطَّل ناظر”، يشير إلى ما عطله الناظر على اليتيم ونحوه من عقاره، فلم يُكْرِهِ حتى فاتت غلته لعدم الكراء مع إمكانه، وترك الأرض حتى تبوَّرَت، هل يضمن لأن الترك فعل أم لا لأنه غير فعل؟
وقوله: “وذو الرهن” يعني صاحب الرهن الحائز للرهن وهو المُرتَهَنُ إذا عطله ولم يُكْرِه حتى فاتت غلَّته بعدم الكراء، هل يضمن بناء على أن الترك فعل أم لا؟
وقوله: “كذا مفرط في العلف” يشير إلى من دُفِعَت له دابة مع علفها وقيل له: اعلفها ثم لم يقدِّم لها العلف حتى ماتت، فهل يضمن

(1/57)


أوْ لا بناءً على الاختلاف في الترك هل هو فعل؟
وقوله: “وكالتي رُدَّت بعيب وعَدِمْ وليُّها” بالبناء للفاعل بمعنى أفلس، يشير إلى أن ذات العيب يُزوجها وَليُّها القريب فيفلس هل يرجع عليها الزوج بالصداق؟ لأن سكوتها فعل للغرور أم لا؟ لأن ترك الإخبار بالعيب ليس بفعل. وشِبْه هذه المسائل فيه الخلاف المذكور.

112 – والأمرُ قبلَ الوقتِ قد تعلَّقا … بالفعل للإعلام قد تحقَّقا
يعني أن الأمر وسائرَ أقسام التكليف يتعلق عند الجمهور بالفعل قبل دخول وقته إعلامًا به، ومعنى الإعلام: اعتقاد وجوب إيجاد الفعل الواجب مثلًا لا نفس الإيجاد، وقِسْ عليه باقي الأحكام.

113 – وبعدِ للإلزامِ يستمرُّ … حال التَّلبُّسِ وقومٌ فَرُّوا
يعني أن الفعل إذا دخل وقته تعلق به التكليف إلزامًا قبل المباشرة فهو مكلف وملزم بأن يباشره بالامتثال، وذلك هو معنى قوله: “وبعد للإلزام”.
وقوله: “يستمر” حال من الإلزام، أي: وبعد دخول الوقت يتعلق به التكليف للإلزام حال كون ذلك الإلزام مستمرًّا حال مباشرة الفعل والتلبس إلى الانتهاء منه، فمن أحرم في الصلاة مثلًا لم يزل التكليف بها مستمرًا عليه حتى يفرغ منها لانتفاء كلها بانتفاء جزءٍ منها، وهذا هو الحق.
وقوله: “وقوم فروا” يعني أن قومًا من الأصوليين وهم إمام الحرمين والغزالي والمعتزلة فرّوا من استمرار الإلزام بعد المباشرة، وزعموا أنَّه ينقطع بابتداء المباشرة خوف تحصيل الحاصل، وهو عبثٌ لا فائدة فيه. وردُّ هذا المذهب ضاهر وهو ما ذكرنا آنفًا من أن العبادة المركبة من

(1/58)


أجزاء كالصلاة إذا ضاع جزء منها ضاعت كلها وهو ظاهر، وسيأتي (1) أن ثمرة الخلاف تظهر في فرض الكفاية إذا شرع فيه.

114 – فليس يُجري من له يُقدِّمُ … ولا عليه دونَ حظرٍ يُقْدِمُ
115 – وذا التعبُّدُ. . . . . . . … . . . . . . . . . . . .
يعني أن التكليف لما كان لا يتعلق بالفعل قبل وقته إلزامًا وإنَّما يتعلق به على سبيل الإعلام به فقط = كانَ تقديمُه غيرَ مُجْزٍ ولا جائز، فكونه قبل وقته لا يلزم يدل على أن تقديمه لا يجوز ولا يُجزئ، وكونُه لا يُجزئ هو مراد المؤلف بقوله: “فليس يُجزئ”، وكونه لا يجوز هو مراده بقوله: “ولا عليه دون حظر يُقدم” أي لا يقدم عليه إقدامًا خاليًا من الحظر وهو المنع، وإنما لم يُجْزِ ولم يَجُزْ لأنه آتٍ بغير ما أمر به لأنه لم يؤمر به إلَّا في وقته، ومن أتى بغير ما أُمِر به فعدم براءة ذمته ظاهر، ولا يجوز الإقدام على العبادة إلَّا على وجهها الشرعي، لأن اللَّه يقول: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} [يونس].
وقول المؤلف: “وذا التعبد” يعني أن هذا الذي لا يُجزئ قبل وقته ولا يجوز الإقدام عليه هو ما تمحَّض للتعبد كالصلاة والصوم.
وقوله: “يُقْدم” الأخير مضارع أقدم على الأمر إذا تقدم إليه، والأول مضارع قدَّم مضعّفًا أيْ فعل الفعل قبل وقته.
. . . . . . . . . . . . وما تَمَحَّضا … للفعل فالتقديمُ فيه مُرْتَضى
__________
(1) انظر البيت رقم (119).

(1/59)


يعني أن الفعل إذا تمحَّض للفعل يعني المفعولية يرتضَى تقديمه قبل وقته لأنه جائز مُجْزٍ، وتقريبه للذهن: أن يكون المقصود من الفعل ثمرة ظاهرة معقولة تحصل بمجرد إيقاع الفعل كقضاء الدين، ورد الوديعة والمغصوب، فتقديمه قبل وقت اللزوم جائز مجزٍ ما لم يشتمل التقديم على أمر محرم نحو: “ضَعْ وتعجَّل” فيمنع لذلك العارض (1).

116 – وما إلى هذا وهذا ينتسبْ … ففيه خُلْفٌ دون نصٍّ قد جُلِبْ
يعني أن المنتسب “إلى هذا وهذا” أي ما فيه شائبة التعبد وشائبة المفعولية كالزكاة، فإنه يختلف في تقديمه هل يجوز ويجزئ أم لا؟ فالقول بالتقديم نظرًا لما فيه من شائبة المفعولية، والقول بعدمه نظرًا لما فيه من شائبة التعبد، فالزكاة مثلًا من حيث قصدُ سَدِّ خلّة الفقير كقضاء الدين ونحوه من حيث حصولُ (2) الثمرة بمجرد الفعل، ومن حيث التنصيص على القدر المخرَّج والقدر المُخْرَج منه فهي أمر تعبُّدِي غير معقول المعنى، وكيف يعقل الإنسان وحده أن زكاة مئة وعشرين من الغنم كزكاة الأربعين!
وقوله: “دون نص قد جُلِب”، يعني أن محل الخلاف في المترَدِّد بين التعبد والمفعولية هل يقدم قبل وقته أم لا؟ فيما إذا لم يَرِد نصٌّ بجواز التقديم والإجاز بلا خلاف. ومثال ما ورد النصُّ بجواز تقديمه الوضوء فإن متردد بين التعبد والمفعولية، لأن خصوص هذه الأعضاء
__________
(1) انظر “النشر”: (1/ 67).
(2) رسمها في الأصل: وصول.

(1/60)


دون غيرها ولزوم غسلها للمحْدِث ولو نظيفة أمرٌ تعبُّدي لا تظهر فيه حقيقة نتيجة الفعل كظهورها في غير التعبدي.
وكون الوضوء ينظِّف هذه الأعضاء معقول المعنى؛ لأن التنظيف تحصل ثمرته بمجرَّد الفعل، ولذا كان أَبو حنيفة لا يشترط النية في طهارة الحدث قائلًا: إنها كطهارة الخبث، وأن المقصود بالكل النظافة، إلَّا أن الوضوء أجمع المسلمون على جواز تقديمه قبل دخول وقت الصلاة (1)، فهو خارج بالنص، وذلك هو معنى قول المؤلف: “دون نص”.

117 – وقال إن الأمر لا يوجَّه … إلَّا لدى تلَبُّس مُنْتَبِهُ
يعني أن قومًا من الأصوليين لهم انتباه في الفنِّ زعموا أن الأمر لا يتوجَّه إلَّا عند مباشرة الفعل، وكذلك كل الأحكام التكليفية عندهم زاعمين أن القوة المستجمعة لشرائط التأثير لا توجد إلَّا عند المباشرة، لأن المؤثِّر التَّامَّ لا يتخلف عنه أثره، فدلَّ عدم وجودِ الفعل قبل المباشرة على عدم تمام المؤثِّر، والتكليف عندهم لا يتوجَّه إلَّا عند القدرة التامة على التأثير. وإذا قيل لهم: يلزم على هذا أن يترك الإنسان المباشرة فلا يتوجَّه إليه خطابٌ بتكليف أبدًا، أجابوا بأن اللوم المتوجه من عدم مباشرة الفعل قبل التلبس مرتب على التلبس بضده، وهو الكفّ عن الفعل، وهو معنى قول المؤلف:

118 – فاللوم قبله على التلبُّسِ … بالكفِّ وهْيَ من أدقِّ الأسسُ
__________
(1) انظر “الإجماع “: (ص/ 34) لابن المنذر، و”الإقناع”: (1/ 196) لابن القطان.

(1/61)


وزعم ابن السبكي أن هذا هو التحقيق (1)، والذي يظهر أنَّه خلاف التحقيق، وأن الإنسان مكلف بالفعل قبل الشروع فيه، مأمورٌ بأن يباشره، وهذا مبنيٌّ على قاعدة قررها المتكلمون من الأشاعرة وغيرهم، وهي قاعدة باطلة بالعيان لا دليل عليها يجب الرجوع إليه من عقل ولا سمع، وهي قولهم: إن العرض لا يبقى زمانين لاستحالة ذلك، فالقدرةُ على الفعل عندهم عَرَض وبقاءُ العَرَض عندهم زمانين محال، فلو تقدمت على وجود الفعل لعدمت عند وجوده فلا يكون متعلقًا لها لانْعِدَامها. فليزم على هذا الأصل الباطل أن الأمر إنما يتعلق بالفعل تعلق إلزام حال حدوثه لا قبله.

119 – وهِيَ في فرضِ الكفايةِ فهلْ … يسقطُ الاثم بشروعٍ قد حَصَلْ

قوله: “وهي” يعني به ثمرة الخلاف في الأمر هل ينقطع بالمباشرة أو لا ينقطع إلَّا بتمام الفعل؟ والمعنى أنَّه على القول بانقطاعه بالمباشرة يسقط الإثم في فرض الكفاية عن الجميع بمباشرة البعض له، وعلى القول الآخر لا يسقط ذلك إلَّا بإتمام فرض الكفاية.
120 – للامتثال كلَّفَ الرَّقيبُ … فموجِبٌ تمكُّنًا مصيبُ
121 – أو بينَهُ والابتلا تردَّدا … شرطُ تمكِّنٍ عليه انفقدا

يعني أنَّه اختلف في فائدة التكليف فقيل: هي الامتثال فقط، وقيل: هي تارة تكون الامتثال وتارة تكون الابتلاء أعني الاختبار، هل يعزم ويهتم بالفعل فيثاب، أو يعزم على الترك فيعاقب؟ فعلى الأول
__________
(1) انظر: “جمع الجوامع – مع حاشية البناني”: (1/ 217).

(1/62)


فالتمكن من إيقاع الفعل شرط في توجُّه التكليف، وعلى الثاني فالتمكن منه ليس بشرط، وضمير فاعل “تردّد” عائد إلى التكليف المفهوم من كلَّف بمعنى الحكمة والفائدة.

122 – عليه تكليفٌ يجوزُ ويقعْ … مع عِلْمِ مَنْ أمِرَ بالذي امتنع
123 – في عِلْمِ مَنْ أمَرَ كالمأمور … في المذهبِ المحقَّقِ المنصورِ
يعني أنَّه ينبني على الخلاف في فائدة التكليف هل هي الامتثال فقط، أو هي تارة الامتثال وتارة الابتلاء؟ مسألتان:
الأولى هي: هل يمكن أن يعلم المأمور أنَّه مكلف بالأمر قبل التمكن من إيقاع الفعل، بناءً على أن فائدة التكليف الابتلاء، أو لا يمكن أن يعلم أنَّه مكلف إلَّا بعد التمكن من إيقاع الفعل بناءً على أن فائدته الامتثال فقط، بأنه قبل ذلك لا يدري أيتمكن منه فيتوجَّه عليه الخطاب، أو لا يتمكن منه فلا يتوجَّه إليه الخطاب؟ وهذه المسألة هي مراد المؤلف بقوله: “مع علم من أُمر”، أي علم من أُمِر -بالبناء للمفعول- بأنه مكلف قبل التمكن، وإنَّما ربط هذه المسألة بالأخرى بلفظة “مع” لأن المقصود الأكبر هو المسألة الأخرى، فهذه كأنها تابعة لها.
والحق في هذه المسألة أن الابتلاء من فوائد التكليف، وأنه لا يشترط في التكليف التمكن من الفعل بشهادة القرآن العظيم، فإنه في قصة أَمْرِ إبراهيم بذبح ولده علم أنَّه مكلَّف بذبحه قبل التمكن من ذلك، وحكمته اختباره وابتلاؤه هل يتهيّؤ لذبح ولده؟ ففعَلَ كما قال تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} [الصافات] ثم إن اللَّه بين أن حِكْمة هذا التكليف الابتلاء

(1/63)


بقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات].
المسألة الثانية هي: هل يجوز ويقع التكليف بما عَلِمَ الآمرُ وحدَه أو الآمرُ والمأكورُ معًا أن المكلَّف لا يتمكَّن من فعله؟ والتحقيق الجواز، أما في علم الآمر وحده دون المأمور أنَّه لا يتمكن من فعله، فالتكليف به لحكمة الابتلاء واضح لا إشكال فيه، فاللَّه كلف إبراهيم بذبح ولده مع علمه أن إبراهيم لا يتمكن من ذبح ولده لحكمة الابتلاء، كما نصَّ عليه بقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)}.
ومن فروع هذا الأصل المختلف فيه: من أفطرتْ عمدًا في نهار رمضان ثم حاضت في ذلك اليوم بعينه تلزمها الكفارة بناءً على التكليف بما عَلِم الآمرُ أن المكلف لا يتمكن من فعله لحكمة الابتلاء، ولا كفارة عليها على القول الآخر. وأما مع عِلْم الآمر والمأمور معًا أنَّه لا يتمكن من الفعل، كما لو فرضنا أن نبيًّا أخبر امرأة بأنها تحيض في اليوم الفلاني من رمضان، فهل عليها افتتاح صومه بناءً على جواز التكليف بما عَلِمَ الآمرُ والمأمورُ معًا أنَّه لا يتمكن من فعله، أوْ لا بناءً على القول الآخر؟
فإن قيل: إذا عَلِم المأمورُ انتفاء شرط الوقوع انتفت الفائدة التي هي العزم على الامتثال.
فالجواب: أنَّها موجودة على تقدير وجود الشرط، ويدل لهذا الحديثُ الصحيح: “إنَّ بالمدينةِ أقوامًا ما قطعتم واديًا إلَّا وهم معكم. . . ” (1)؛
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2839) من حديث أنس، ومسلم رقم (1911) من حديث جابر -رضي اللَّه عنهما-.

(1/64)


لأن هؤلاء العاجزين عن الغزو وُجِد منهم العزم عليه على تقدير شرط الإمكان فحصل لهم بذلك ثواب الغازي. وقال الشاعر (1):
يا ظاعنين إلى البيت العتيق لقد … سِرتم جسومًا وسرنا نحن أرواحا
إنَّا أقمنا على عَجْز وعن قَدَرٍ … ومن أقامَ على عجزٍ فقد راحا
وقال الآمدي (2): لا يصح التكليف بما عَلِم المأمور أنَّه لا يتمكن من فعله. فقول المؤلف: “بالذي امتنع” يتعلق بقوله: “تكليف”، وقوله: “في علم من أمَر” يتعلق بقوله: “امتنع”. و”أَمَر” الأخير بالبناء للفاعل، وتقرير المعنى عليه: يجوز ويقع التكليف بالذي امتنع في علم الآمر، وأما إذا علم المأمورُ بعدم التمكن أو جَهِل الأمر فلا خلاف في جواز التكليف، فيجوز للسيد أن يكلف عبده بخياطة ثوبٍ مثلًا في يوم الخميس، ولو فرض أن العبد عالم بأنه يموت قبل يوم الخميس بإخبار نبيٍّ مثلًا.
* * *
__________
(1) البيتان بنحوهم الابن العريف الصنهاجي (ت 536 هـ)، ذكرهما له ابن خلكان في “الوفيات”: (1/ 169)، ونصهما:
يا واصلين إلى المختار من مضرٍ … زرتم جسومًا وزرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذرٍ وعن قدر … ومن أقام على عذرٍ كمن راحا
وهما أيضًا في ديوان محمد بن حمير الهمداني (ت 651 هـ).
(2) لم أجده بنصه، وهو بمعناه في “الإحكام”: (1/ 116). وقال في “النشر”: (1/ 71) بعد ما رجّح جواز التكليف في المسألة: “وهو التحقيق، وهو الذي نصره السبكي وإن حكى الآمدي وغيره الاتفاق فيها على عدم صحة التكليف”.

(1/65)


كتاب القرآن ومَباحث الألفاظ
القرآن لغةً مصدر “قرأ” زيدت فيه الألف والنون كما زيدت في الغفران والرجحان، وهذا المصدر بمعنى اسم المفعول، فمعنى القرآن المقروء أي: المتلوّ أو المُظْهَر المُبْرَز، ومن الأخير: “ما قرأت الناقة سَلًا” أي: ما أبرزتْ وأظهرتْ جنينًا من بطنها، ومنه قول ابن كلثوم (1):
ذراعَي عيطل أدماء بكر … هجان اللون لم تقرأ جنينا
وعلى القول بأن القرآن مشتق من قرأ بمعنى جمع؛ لأن العرب تقول: “قرأت الماء في الحوض” أي جمعته فيه = فهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، فالقرآن بمعنى قارئ أي جامع ثمرات علوم الكتب السماوية التي أنزلت قبله مع زيادته عليها.
واعلم أن التحقيق أن أصله مهموز، فما ذهب إليه الشافعيُّ وغيره من أنَّه غير مَهموز، وأن النون أصلية، وأنه مشتق من القرينة أو الاقتران، لأن آياته بعضها قرائن على صدق بعض أو بعضها مقترن ببعض = فهو خلاف التحقيق، والشافعيُّ -رحمه اللَّه- يقرأ بحرف ابن كثير وهو يقرأ القرآن في جميع المواضع بلا همز، والتحقيق أنَّه من تخفيف الهمزة بنقل حركتها إلى الساكن قبلها، نحوُ قوله: “سَلْهُم” لا أنَّه غير مهموز أصلًا، فوزن القرآن على التحقيق “فُعْلان” وعلى قول الشافعي فوزنه:
__________
(1) في معلقته انظر “شرح ابن الأنباري” (ص/ 379).

(1/66)


“فُعَال”. وهو عَلَمٌ لكتاب اللَّه تعالى، وما استشكله كثير من العلماء من اجتماع معرفين وهما: العَلَمِية والألف واللام فحلُّه واضح، وإليه الإشارة بقول ابن مالك في “الخلاصة”:
وبعض الاعلام عليه دخلا … لِلَمْح ما قد كان عنه نُقلا
كالفضل والحارث والنعمان … فذِكرُ ذا وحذفه سيّان
وقول المؤلف: “ومباحث الألفاظ” المباحث جمع مَبْحث وهو مكان البحث، والبحث في اللغة الفحص والتفتيش، وفي الاصطلاح: إثبات المحمول للموضوع أو نفيه عنه، والمقصود مباحث الألفاظ المشتمل هو عليها، كالأمر والنهي، والعام والخاص، والمقيد والمطلق، والمجمل والمبيّن، والناسخ والمنسوخ، والمفهوم والمنطوق، وغير ذلك، فإثبات المحمولات لهذه الموضوعات كإثبات الإطلاق والتقييد والنسخ مثلًا للفظ أو نفيها عنه هو المراد بالبحث في قول المؤلف: “ومباحث الألفاظ”.

124 – لفظٌ منزَّلٌ على محمدِ … لأجل الاعجاز وللتَّعبُّدِ
يعني أن القرآن هو اللفظ المشتمل على المعاني الباهرة، المنزل على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لأجل إظهار عجز الخلائق عن الإتيان بسورة مثله، ولأجل التعبُّد بقراءته، وإنَّما اقتصر على هذا من حِكَمِهِ مع أن له حِكَمًا أخرى كالتدبر لآياته والعمل بها؛ لأن تمييزه عن غيره حاصل بالقيدين الأولين، فخرج بقوله: “منزلٌ” ما ليس بمنزل = الأحاديث النبوية لأن ألفاظها لم تنزل عليه. وخرج بقوله: “على محمد” غير القرآن من

(1/67)


الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل. وخرج بقوله: “لأجل الإعجاز” الأحاديث الربانية، كقوله جل [وعلا]: “أنا عند ظنِّ عَبْدي بي. . . ” (1) الحديث، لأنه لم ينزل لإعجازٍ. وخرج بقوله: “للتعبُّد” الآيات المنسوخة تلاوتها كسورة الخَلْع والخنع (2)، وآية “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما” (3).
والتحقيق هو ما مشى عليه المؤلف، وهو مذهب أهل السنة
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (7405)، ومسلم رقم (2675) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.
(2) كذا في الأصل هنا، وما سيأتي (ص/ 293، 310) والظاهر أنَّه اجتهاد في التسمية استنادًا إلى ما جاء في بعض روايات الدعاء بهاتين السورتين في القنوت في كتب المالكية، ففي “تهذيب المدونة”: (1/ 272): (نؤمن بك، ونخنع لك. .) ومئله في “الاستذكار” و”بداية المجتهد”، إلَّا أن المؤلف في “أضواء البيان”: (3/ 334) وفي “المذكرة”: (ص/ 150) قد ذكرهما بالاسم المعروف: سورتي الخَلْع والحَفَد. ولفظهما: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق) وكانتا في مصحف أبي بن كعب، وكان عمر يقنت بهما في وتر رمضان. أخرجه ابن أبي شيبة: (2/ 95)، وعبد الرزاق: (3/ 110)، والبيهقي: (2/ 210). وانظر “المغني”: (2/ 583 – 584)، و”الدر المنثور”: (6/ 722 – 724)، و”الإتقان”: (1/ 184 – 185).
(3) أصل الحديث أخرجه البخاري رقم (6830)، ومسلم رقم (1691) من حديث عمر -رضي اللَّه عنه-. دون لفظ: الشيخ والشيخة. . .، وبهذا اللفظ أخرجه ابن ماجة رقم (2553) من طريق الزهري، وأخرجه مالك في “الموطأ” رقم (2383) من طريق ابن المسيب، وله شاهد من حديث أبي بن كعب. انظر “فتح الباري”: (12/ 147)، و”البدر المنير”: (8/ 583 – 585).

(1/68)


والجماعة لا ما يزعمه كثير من أهل الكلام: أن القرآن هو المعاني القائمة بالنفس دون الألفاظ، لأنه يلزم عليه أن تكون ألفاظ القرآن لغير اللَّه، وهو منكرٌ من القول.
ووجه إعجازه أنَّه تحدى العرب وهم البلغاء الفصحاء بسورةٍ منه فعجزوا، فدل على أنَّه من اللَّه، إذ لو كان من مخلوق لقدر الخلقُ على الإتيان بمثله، والتحقيق أن إعجازه بالعجز لا بالصَّرْفة.

125 – وليس للقرآن تُعْزَى البسلمة … وكونها منه الخلافي نقلَه
126 – وبعضُهم إلى القراءةِ نظرْ … وذاك للوفاق رأيٌ مُعْتَبَرْ
يعني أن العلماء اختلفوا في البسملة هل هي آية من الفاتحة أو من كل سورة أو ليست آية أصلًا؟ إلَّا التي في النمل فهي من القرآن إجماعًا، وأنَّ بعض العلماء جمع بين الأقوال فقال (1): من قرأ بالحرف الذي هي آية فيه [فهي آية] بالنسبة إليه، كالشافعي الذي يقرأ بحرف ابن كثير، وهي آية في حرف ابن كثير، ومن قرأ بالحرف الذي ليست آية فيه فليست آية بالنسبة إليه، وحاصل هذا أنَّها في بعض الحروف آية وفي بعضها غير آية.
ونظير هذا: الواو من قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة/ 116] فإنها [غير] (2) ثابتة في حَرف ابن عامر والمصحف الشامي. وكالفاء من
__________
(1) ورجَّحه في “المذكرة”: (ص/ 103)، ونسبه في “نشر البنود”: (1/ 76) إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني.
(2) زيادة لازمة. انظر “المبسوط”: (ص/ 121) لابن مهران.

(1/69)


قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى/ 30] فإنها حرف [عند] بعض القراء كعاصم، مع أن المصاحف التي بقيت في المدينة فيها: (بما كسبت أيديكم) بلا فاء، ونحو ذلك.

127 – وليس منه ما بالآحادِ رُوي … فللقراءةِ بهِ نَفْيٌ قَوِي
128 – كالاحتجاج. . . . . … . . . . . . . . . . . . . .
يعني أن المروي بالآحاد على أنَّه قرآن لم يثبت كونه قرآنًا كلفظ (أيمانهما) في قراءة بعض الصحابة: (فاقطعوا أيمانهما)، وكلفظ (متتابعات) في قراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، وكقراءة أُبيّ وابن عباس: (النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو لهم أبٌ) فمثل هذا لا تجوز القراءة به على القول القويّ ولا يجوز الاحتجاج به، ولذا لم يقل مالك والشافعي بوجوب التتابع في صوم كفارة اليمين، وقيل: تجوز القراءة به والاحتجاج، وصحَّح ابنُ السبكي جواز الاحتجاج به دون القراءة (1).

. . . . . . . . . غير ما تحصَّلا … فيه ثلاثةٌ فَجَوِّز مُسْجَلا
129 – صِحَّةُ الاسناد ووجهٌ عَرَبي … وَوَفْقُ خطِّ الأمِّ شرطٌ ما أُبي
يعني أن الشاذ تجوز القراءة به بثلاثة شروط (2):
__________
(1) في “جمع الجوامع”: (1/ 231 – مع حاشية البناني).
(2) توهم عبارة الناظم والشارح أن ما توفرت فيه الشروط الثلاثة فإنه من قبيل الشاذ، وتجوز القراءة به، وأن القراءة الصحيحة ما توفر فيها شرط التواتر، والصحيح أن الشروط الثلاثة كافية لإثبات القراءة الصحيحة دون اشتراط التواتر، وهذا هو =

(1/70)


الأول: صحة إسناده إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لاتصال سنده وثقة نقلته دون شذوذ ولا علة تقدح.
الثاني: أن يوافق وجهًا جائزًا في العربية التي نزل القرآن بها.
الثالث: موافقة خط المصحف العثماني ويحصل ذلك بموافقة واحدة من جملة نسخ المصحف العثماني.
قال ابنُ الجزري (1):
وكلُّ ما وافقَ وجهًا نحوي … وكان للرَّسم احتمالًا يحوي
وصحَّ إسنادًا هو القرآن … فهذه الثلاثة الأركان
وحيثما يختل شرط أثبتِ … شذوذَه لو أنَّه في السبعةِ
والأصوليون وكثير من الفقهاء يقولون بأن القرآن لا يثبت إلَّا
__________
= اختيار المحققين، قال ابن الجزري في “النشر”: (1/ 13): “وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلَّا بالتواتر، وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن. وهذا مما لا يخفى ما فيه، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وجب قبوله وقطع بكونه قرآنًا، سواء وافق الرسم أم خالفه. . . ” اهـ الغرض منه. وهذا اختيار أبي شامة في “المرشد الوجيز” (ص/ 171 فما بعدها)، وابن تيمية كما في “جامع المسائل”: (1/ 113 – 114)، وتقي الدين السبكي كما نقله عنه ابن الجزري في “منجد المقرئين – بتحقيقي”: (ص/ 170)، والحافظ ابن حجر كما في فتوى مفردة (ملحقة في آخر منجد المقرئين) و”فتح الباري”: (8/ 649).
(1) “طيبة النشر”: (ص/ 3).

(1/71)


بالتواتر، واعْتُرِض بإثبات قرآنية البسملة مع أنها لم تتواتر، وأجيب بأن هذا الاحتجاج إنما هو على من أثبت قرآنيتها.

130 – مثلُ الثلاثة ورجِّحِ النَّظرْ … تواترًا لها لدى من قدْ غَبَرْ
يعني أن مثال المستوفي للشروط الثلاثة المارة قراءة القراء الثلاثة: خَلَف، وأبو جعفر، ويعقوب. أما أبو جعفر يزيد بن القعقاع، وهو من شيوخ نافع ومن كبار قراء أهل المدينة. وأما يعقوب فقال فيه ابن عَرَفة: قراءته داخلة في السبعة لأنه أخذها عن أبي عمرو. وأما خَلَف فقال فيه السبكي: قراءةُ خَلَف ملَفَّقة من السبعة إذْ له في كل حرفٍ موافقٌ منهم (1). وقال أبو حيان: لا نعلم أحدًا من المسلمين منع القراءة بالثلاثة، بل قُرئ بها في سائر الأمصار (2).
وقول المؤلف: “ورجِّح النظر تواترًا لها” يعني أن قراءة الثلاثة المذكورة رجَّح النظر عند بعض العلماء أنها متواترة، قال السبكي في “منع الموانع” (3): إن القول بعدم تواترها في غاية السقوط.

131 – تواتر السَّبعِ عليهِ أجمعوا … . . . . . . . . . .
__________
(1) في “منع الموانع”: (ص/ 353).
(2) نقله عنه ابن الجزري في “المنجد”: (ص/ 109) من فتوى مطولة في القراءات.
(3) (ص/ 350).
وقد عقد ابن الجزري فصولًا في كتابه “المنجد”: (ص/ 101 – فما بعدها) في الدفاع عن القراءات الثلاث، وأنها مشهورة لم ينكر أحد من العلماء المتقدمين ولا المتأخرين القراءة بها، قال: ولا ينازع في ذلك إلا جاهل.

(1/72)


يعني أن قراءة القراء السبعة مجمع على تواترها وهم: ابن عامر ونافع وعاصم وابن كثير وأبو عَمرو وحمزة والكسائي. فالقراءات عند القراء وبعض الفقهاء ثلاثة أقسام: متواترٌ وهو السبع، ومُخْتَلَفٌ فيه بين التواتر والصحة كالثلاث، وشاذٌّ وهو ما اختل (1) فيه شرط صحة. وعند الأصوليين وبعض الفقهاء: متواتر وهو السبع، وشاذٌّ وهو ما سوى ذلك، فلا تجوز عندهم القراءة بما زاد على السبع، والتحقيقُ جوازها بالثلاثة كما تقدم.

. . . . . . . . . . . . . … ولم يكُنْ في الوَحْي حَشْوٌ يَقَعُ
يعني أنه لا يكون في الوحي شيء لا معنى له خلافًا للحشوية، وأما المتشابه فله معنى يعلمه الراسخون في العلم بناءً على أن الواو في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران/ 7] عاطفة، أو يعلمه اللَّه وحده بناءً على أنها استئنافية، والحكمة -على هذا الأخير- اختبار الخلق بالإيمان والإذعان مع عدم الفهم كما مدح تعالى الراسخين في العلم بذلك بقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران/ 7].

132 – وما به يُعنى بلا دليلِ … غيرُ الذي ظهَرَ للعقولِ
لفظة “ما” عطف على قوله: “حشوٌ” يعني أنه لا يجوز عقلًا أن يقع في الوحي حشو ولا ما -أي لفظ- يُعنى به غير ظاهره المتبادر منه إلا بدليل يدلُّ على المحتمل المرجوح، كما يأتي إن شاء اللَّه تحريره في
__________
(1) الأصل: خل!

(1/73)


مبحث التأويل، فقوله: “غيرُ” نائب فاعل “يُعْنى” بمعنى يُراد، أي ليس فيه ما يراد به غير ظاهره إلا بدليل على ذلك.

133 – والنقلُ بالمنضمِّ قد يُفيدُ … للقطْعِ والعكسُ له بعيدٌ
يعني أن النقل يفيد القطع بصحة الخبر، فالدليل القاطع يجوز أن يكون نقليًّا، وقيل: لا يمكن أن يكون نقليًّا، وحكاه الفخر الرازي في “المعالم” (1) واحتجَّ له بأن القطع بالخبر يتوقف على أمور لا سبيلَ إلى القطع بها وهي: عدم المجاز، والنقل، والتقديم، والتأخير، والتخصيص، والنسخ، والإضمار، والاشتراك، والمعارض العقلي (2).
وأجاب الجمهور عن هذا بأن النقل قد يفيد اليقين بواسطة المنضمِّ إليه من تواتر لفظي أو معنوي أو من قرائن حالية، فلا شك في أن هيئات الصلوات مثلًا قطعية لِمَا انضم إلى الإخبار بها من التواتر ونحو ذلك مما عُلِم من الدين بالضرورة من النقليات، وهذا هو مراد المؤلف بقوله: “بالمنضم”.
وقول المؤلف: “والعكس له بعيدُ” يعني أن القول بأن الخبر لا يفيد اليقين مطلقًا بعيدٌ، وهو كذلك لبطلانه، واللام في قوله: “للقطع” زائدة داخلة على المفعول به، والأصل: قد يفيد القطع.
__________
(1) (ص/ 24). وهو قانون كلي عند الرازي وغيره من المتكلمين كرره في كثير من كتبه، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه “درء تعارض العقل والنقل” في تفنيد (2) هذا القانون وبيان بطلانه عقلًا ونقلًا. انظر مقدمته (1/ 10 – 14).
(2) الأصل: في العقلي.

(1/74)


المنطوق والمفهوم
اعلم أن المفهوم يسمَّى منطوقًا إليه.
134 – معنًى له في القصدِ قُلْ تأصُّلُ … وهُوَ الذي اللفظ به يُسْتعملُ
يعني أن المنطوق هو المعنى الذي قصدَه المتكلم باللفظ أصالة أي بالذات من اللفظ، وإيضاح كونه مقصودًا بالأصالة من اللفظ أنه لا يتوقف فهمه من اللفظ إلَّا على مجرد النطق باللفظ، سواء كان اللفظ حقيقة أو مجازًا، فالتحقيق أن المجاز من المنطوق؛ لأن نفس المعنى المجازي هو مقصود المتكلم باللفظ، وقرينة المجاز تبيِّنُ ذلك، وهذا الذي فسرنا به المنطوق هو معنى قولهم: المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق.

135 – نصٌّ إذا أفادَ ما لا يحتملْ … غيرًا وظاهرٌ إِنِ الغيرُ احتُمِلْ
يعني أن اللفظ الدال في محل النطق يسمى نصًّا إذا أفاد معنى لا يحتمل غيره كأسماء العدد كقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة/ 196]. ويُسَمَّى ظاهرًا إن احْتُمِل معنى آخر احتمالًا مرجوحًا كقولك: “رأيت الأسد” فهو ظاهر في الحيوان المفترس، ويحتمل الرجل الشجاع. وسيأتي أنه إن تساوى الاحتمالان أو الاحتمالات أن اللفظ يسمَّى مجملًا، فصارت القسمةُ رباعية: نص وظاهر، ومجمل ومحتمل. وقوله: “احْتُمِل” بالبناء للمفعول. وقوله: “الغيرُ” نائب فاعل “احتمل” محذوفة لأن الشرط لا يتولاه إلا الجمل الفعلية.

(1/75)


136 – والكلُّ من ذَيْن له تجلَّى … ويُطلق النصُّ على ما دَلّا
137 – وفي كلام الوحي. . . . . … . . . . . . . . . . . .
يعني أن النص له أربعة اصطلاحات: أحدها: معناه المتقدم، الثاني: الظاهر، الثالث: اللفظ الدال على أي معنى كان، سواء كان كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو قياسًا. الرابع: الوحي من كتاب أو سنة.

. . . . . . . والمنطوقُ هلْ … ما ليسَ بالصريح فيه قد دَخَلْ
يعني أنهم اختلفوا فيما دُلّ عليه بالاقتضاء أو الإشارة أو الإيماء هل هو داخل في المنطوق أو المفهوم؟ فعلى أنه داخل في المنطوق يكون قسمين: منطوق صريح وهو ما تقدم، ومنطوق غير صريح وهو ما دل عليه بالاقتضاء أو الإشارة أو الإيماء. وعلى أنه مفهوم فالمنطوق هو ما تقدم في قوله: “معنى له في القصد” إلخ فقط.

138 – وهْوَ دلالةُ اقتضاءٍ أن يَدُلْ … لفظٌ على ما دونَه لا يستَقِلْ
139 – دَلاَلَةُ اللّزوم. . . . . . . … . . . . . . . . . . . . . . .
يعني أن دلالة الاقتضاء هي أن يدل لفظ دلالة التزام على محذوف لا يستقل الكلام دونه؛ لتوقف صدقه عليه أو توقفه عليه عقلًا أو شرعًا، فمثال ما دلَّ عليه بالاقتضاء لتوقف الصدق عليه: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لذي اليدين لما قال له: أُقصرت الصلاة أم نسيت؟: “كلُّ ذلك لم يكن” (1) يعني في
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (714)، ومسلم رقم (553/ 99) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/76)


ظني، ولولا تقدير هذا المدلول عليه بالاقتضاء لكان الكلام كذبًا لأنه سلَّم من ركعتين، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- يستحيل في حقه الكذب.
ومن أمثلته أيضًا حديث: “رُفِعَ عن أُمتي الخطأ والنسيان وما اسْتكرِهوا عليه” (1). فالمدلول عليه بالاقتضاء هو المؤاخذة لأنها هي المرفوعة، أما نفس الخطأ والنسيان والاستكراه فليس شيءٌ منها مرفوعًا لوقوعها كُلِّها في الأمة، فلولا تقدير المقتضي لكان الكلام كذبًا.
ومثال التوقف عقلًا: سؤال القرية والعير في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف/ 82]، هكذا مَثَّل بهذا كثير من الأصوليين، والظاهر أن العقل لا يمنع ذلك، وإنما مَثَّلوا به جريًا على العادة.
ومثال التوقف على المقتضي شرعًا: الأمر بالصلاة فإنه يدل بالاقتضاء على الأمر بالطهارة، لأنها لا تصح شرعًا دونها. وقوله: {حُرِّمَتْ
__________
(1) الحديث بهذا اللفظ يكثر دورانه في كتب الفقهاء والأصوليين، وقد نفى جماعة من الحفاظ وجود هذا اللفظ، لكن ذكر ابن عبد الهادي وابن حجر أنهما وجداه بلفظه في “فوائد أبي القاسم التيمي”. انظر “نصب الراية”: (2/ 64)، و”التلخيص”: (1/ 301 – 302).
وقد جاء الحديث بألفاظ أخرى عن جماعة من الصحابة، أحسنها من حديث ابن عباس بلفظ: “إن اللَّه تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان. . “. أخرجه ابن حبان “الإحسان”: (16/ 202)، والدارقطني: (4/ 170)، والبيهقي: (7/ 356) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان وحسَّنه النووي في “الروضة”: (8/ 193). وانظر حاشية “تنبيه الرجل العاقل”: (2/ 488 – 489).

(1/77)


عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء/ 23] لأن نفس الأمهات لا يتعلق بها التحريم شرعًا، لأن الأحكام الشرعية لا تتعلق إلا بالأفعال كما تقدم في قوله: “ولا يكلف بغير الفعل” إلخ فدلَّ الكلام بالاقتضاء على محذوفٍ تقديره: نكاح أمَّهاتكم.

. . . . . . مثل ذاتِ … إشارةٍ كذاكَ الايما آتِ
قوله: “مثل” خبر مبتدأ تقديره: هي، أي دلالة الاقتضاء مثلُ ذات الإشارة، أي مثل دلالة الإشارة والإيماء في أن كلًّا منها دلالة التزام وأنها منطوق غير صريح، فقوله: “الإيما” بالقصر لضرورة الوزن مبتدأ خبره “آتِ”، وقوله: “آتِ” اسم فاعل أتى. وقوله: “كذاك” حال من الضمير المستتر في الخبر. وتقرير المعنى: والإيما آتٍ هو في حالِ كونِه كذاكَ المذكور الذي هو الاقتضاء في أن كلًّا منهما دلالة التزام ومن المنطوق الغير الصريح.

140 – فأولٌ إشارةُ اللفظِ لِما … لم يَكُنِ القصدُ له قد عُلِما
يعني أن الأول من القسمين المذكورين في البيت قبله -وهو دلالة الإشارة- هو إشارة اللفظ إلى معنى ليس مقصودًا منه بالأصالة بل بالتبع، مع أنه لم تَدْعُ إليه ضرورة لصحة الاقتصار على المذكور دون تقديره كدلالة قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة/ 187] على صحة صوم من أصبح جنبًا من الوطء، فإن الآية لم يُقصد بها بالأصل صحة صومِ من أصبح جنبًا من الوطء ولكن قُصد بها جواز الجماع في جميع أجزاء ليلة الصوم، وذلك يَصْدُق بآخر جزء من

(1/78)


الليل، بحيث لم يبق ما يسع الاغتسال قبل النهار، فدَلَّ بالإشارة على صحة صوم من أصبح جنبًا.
ومن أمثلته: أَخْذ علي -رضي اللَّه عنه- أن أقل أمد الحمل ستة أشهر من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف/ 15] مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان/ 14] لأن العامين إن أسقطتها من الثلاثين بقي منها ستة، فالآيتان لم تُسَقْ واحدةٌ منهما لقصد بيان أقل أمد الحمل، ولكن إحداهما لبيان أمد الحمل والفصال، والأخرى لبيان أمد الفصال، إلا أنهما دلتا بالإشارة على أقل أمد الحمل.
وقوله: “فأول” مبتدأ خبره “إشارة اللفظ”، والظاهر أن مسوِّغ الابتداء به كونه في معرض التفصيل، كقول امرئ القيس (1):
فلما دنوتُ تَسَدَّيْتُها … فثوبًا نسيتُ وثوبًا أجُرْ
وقوله: “عُلم” بالبناء للمفعول، وألِفُه للإطلاق.

141 – دلالةُ الإيماءِ والتنبيهِ … في الفنِّ تُقْصَدُ لدى ذويهِ
يعني أن الدلالة التي تسمى دلالة الإيماء والتنبيه مقصودة عند المتكلم بالأصالة لا بالتبع، و”الفن” فن الأصول، وقوله: “ذويه” بمعنى أصحابه، وجملة “تُقْصد” خبر المبتدأ الذي هو “دلالة” وأشار إلى تعريفها بقوله:

142 – أن يُقرَنَ الوصفُ بحكمٍ إن يكنْ … لغيرِ علَّةٍ يَعِبْهُ من فَطِنْ
__________
(1) “ديوانه”: (2/ 623). ووقع في الأصل: فثوبٌ. . . وثوبٌ.

(1/79)


المصدر المنسبك من أنْ وصلتها خبر مبتدأ محذوف والتقدير هي -أي دلالة الإيماء والتَّنبيه- أن يقرن -أي اقتران- الوصف بحكم لو لم يكن الوصف علة لذلك الحكم لعابه الفَطِن بمقاصد الكلام لأنه لا يليق بالفصاحة، وكلام الشارع لا يكون فيه ما يُخل بالفصاحة، ومثاله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة/ 38]، لأنه لو لم يكن القطع لعلة السرقة لما كان في قول “السارق والسارقة” فائدة.
ومن أمثلته: قصة الأعرابي الذي جاء يضرب صدره وينتف شعره ويقول: هلكتُ وأهلكتُ، واقَعْت أهلي في نهار رمضان، فقال له -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اعتق رقبة” (1)، فلو لم يكن عتق الرقبة لِعِلَّة المواقعة لكان الكلام بلا فائدة. وسيأتي للمؤلف الكلام على أنواع الإيماء في مسالك العلة لأنه هو المسلك الثالث منها.
وعلى القول بأن المنطوق صريح فقط فلا إشكال، وعلى أن منه صريحًا وغير صريح، فإنه يشكل الفرق بين المنطوق الغير الصريح وبين المفهوم (2)، فيحتاج إلى الفرق بين المفهوم مع الاقتضاء والإشارة والإيماء، والفرق بين المفهوم ودلالة الإشارة مصاحبة القصد الأصليّ له دونها. والفرق بينه وبين دلالة الاقتضاء ظاهر، وهو توقف الصدق أو
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (6087)، ومسلم رقم (1111) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.
(2) قال المؤلف في “المذكرة”: (ص/ 418) بعد ذكر الدلالات الثلاث: وكل هذه الثلاث من دلالة الالتزام، والحق أنها من المفهوم.

(1/80)


الصحة على إضمار فيها دونه، والفرق بينه مع دلالة الإيماء هو أدقها، وتقريبه للذهن أن تعلم أولًا أن المفهوم مقصود للمتكلم إلا أنه مقصود من النطق لا في محلِّ النطق كما تقدم، فقوله تعالى مثلًا: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا} [الطلاق/ 6] يقصد منه أيضًا أنهن إن كن غير أولات حمل لا يجب الإنفاق عليهن، إلا أن هذا المقصود لم يتناوله اللفظ، فهو مقصود باللفظ ولم يتناوله اللفظ، وإنما فُهِم من تخصيصه الإنفاق بالحوامل أن المسكوت عنهن وهن غيرُ الحوامل لسْنَ كذلك، إذ لو كُنّ كذلك لما كان في تخصيص الحوامل بالذكر فائدة.
ودلالة الإيماء مقصودة في محل النطق، فقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)} [المائدة/ 38] يُقصد من منطوقه أن القطع من أجل السرقة، فإذا عرفت هذا فالفرق بين المفهوم مع دلالة الإيماء كونها مفهومة في محّلٍّ تناوله اللفظ نُطقًا (1) دونه. فتحصَّل أن دلالةَ الإشارة لم تُقصد بالأصل ولكن دخلت بالتبع، وأن دلالة الاقتضاء مقصودة ولكن توقف الصدق أو الصحة على المضمر المقصود المدلول عليه بالاقتضاء، وأن دلالة الإيماء والتنبيه مقصودة في محلٍّ تناوله اللفظ نطقًا، وأن المفهوم مقصود في محل تناوله اللفظ غير نطق.

143 – وغيرُ منطوقٍ هو المفهومُ … منهُ الموافقة قلْ معلومٌ
يعني أن غير المنطوق هو المفهوم، فهو ما دل عليه اللفظ لا في
__________
(1) الأصل: قطعًا.

(1/81)


محل النطق، وهو ينقسم إلى قسمين وهما: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة. وعَرَّف المؤلف مفهوم الموافقة بقوله: “إعطاء ما للّفظة المسكوتا” إلخ. وعَرَّف مفهوم المخالفة بقوله: “وغير ما مر هو المخالفة”.
وقوله: “الموافقة” مبتدأ خبره “معلوم”. وقوله: “منه” يتعلَّق بـ “معلوم” وضميره للمفهوم، وجملة فعل الأمر الذي هو “قل” اعتراضية.

144 – يُسْمَى بتنبيه الخطاب وَوَرَدْ … فحوى الخطابِ اسمًا له في المعتمد
يعني أن مفهوم الموافقة يُسمى: تنبيه الخطاب، وفحوى الخطاب، ويقال له أيضًا: مفهوم الخطاب، ومقابل المعتمد عنده مذهب الحنفية فإنهم يسمونه دلالة النص.

145 – إعطاءُ ما للّفظة المَسْكُوتا … من باب أولى نفيًا أو ثُبوتا
يعني أن مفهوم الموافقة هو إعطاء ما ثبت للفظ من الحكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى والأحرى، سواء كان الحكم المنطوق به منفيًّا أو منهيًّا عنه أو موجبًا، فالمنفي نحو: {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء/ 40] يدلُّ بالأحرى أنه لا يظلم مثال جبل. والمنهي نحو: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء/ 23] فإنه يدلُّ بالأحرى على النهي عن الضَّرْب، وهَذَانِ القسمان يشملهما قول المؤلف: “نفيًا” لأن المنهي عنه مطلوب نفيه.
وقولنا: أو موجبًا، نعني به المثبت، فالإيجاب اصطلاحًا هو الإثبات كما أن السلب اصطلاحًا هو النفي، ومثاله قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران/ 75] فإن ثبوت الأمانة في القنطار يدل بالأحرى على ثبوتها في الدرهم. وعلى هذا التعريف الذي

(1/82)


عَرَّف به المؤلف مفهومَ الموافقة فالمساوي لا يدخل في اسْمِه وإن كان مثله في الاحتجاج.
وقول المؤلف: “إعطاء” خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو، أي مفهوم الموافقة، والمصدر الذي هو المبتدأ يعمل عمل فعله وفعلُه يطلب مفعولين، فأضيف المصدر إلى مفعوله الأول وهو “ما” ومفعوله الثاني: المسكوت عنه. وقوله: “المسكوت” يعني المسكوت عنه. وقوله: “من باب أولى” يتعلَّق بقوله: “إعطاء”. وقوله: “نفيًا أو ثبوتًا” مصدران منكَّران حالان من “ما” أي إعطاء ما للفظ في حال كونه منفيًّا أو ثابتًا للمسكوت عنه، وإلى مثل هذا الإشارة بقول صاحب “الخلاصة”:
ومصدر مُنكَّرٌ حالًا يقعْ … بكثرة كبغتةٍ زيدٌ طلعْ

146 – وقِيل ذَا فَحوى الخِطَاب والذي … سَاوَى بِلَحْنِهِ دعاه المُحْتَذي
يعني أن بعضهم جعل مفهوم الموافقة قسْمَين:
أحدهما: فحوى الخطاب، وهو ما كان المسكوت عنه فيه أولى بالحكم من المنطوق به.

والثاني: لحن الخطاب، وهو ما كان المسكوت عنه فيه مساويًا للمنطوق في الحكم، وهذا هو الحق. وكلُّ واحدٍ من القسمين يكون قطعيًّا وظنّيًّا، فتكون أقسام مفهوم الموافقة أربعة من ضرب اثنين في اثنين:
الأول: مفهوم موافقة أَحْروي قطعي، كفهم المجازاة على مثقال الجبل من المجازاة على مثقال الذرة المنصوص في قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة/ 7] الآية. وكفهم الاكتفاء بأربعة عدول من

(1/83)


الاكتفاء باثنين المنصوص في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق/ 2].
الثاني: مفهوم موافقة أحْروي ظَنِّي، كفهم النهي عن التضحية بالعمياء من نهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن التضحية بالعوراء (1). ولم يكن هذا قطعيًّا، لأنَّ العوراء تُوْكَل في المرعى إلى (2) نفسها وهي ناقصة البصر فلا ترى كل المرعى، ونقصان بصرها مظنة لنقصان أكلها وذلك مظنة لهزالها، والعمياء يُقَدَّم لها الأكل فيختار لها مثلُ ما تختاره البصيرة لنفسها، فلم يكن عماها مظنة لهزالها كالعوراء، إلا أن هذا الاحتمال بعيد ولكن مَنَعَ القطعَ مع بُعْدِه.
الثالث: مفهوم موافقةٍ مساوٍ قطعي، كفهم حُرمة إحراق مال اليتيم وإغراقه من النهي عن أكله المنصوص في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء/ 10] الآية. وكفهم النهي عن البول في إناءٍ وصَبِّه في الماء الراكد من نهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن البول فيه (3).
الرابع: مفهوم موافقة مساوٍ ظنيّ، كفهم سراية العتق في الأَمَة المُعْتَق بعضها من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من أعتق شِرْكًا له في عبد. . . ” (4)
__________
(1) تقدم تخريجه (ص/ 38 – 39).
(2) الأصل: على.
(3) أخرجه البخاري رقم (239)، ومسلم رقم (282) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.
(4) أخرجه البخاري رقم (2503)، ومسلم رفم (1501) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-.

(1/84)


الحديث، ولم يكن هذا قطعيًا لاحتمال أن الشارع له في عِتْق الذكر غرض لم يكن في عتق الأنثى، ككونه يقف في صف القتال، ويولَّى القضاء والإمامة وغير ذلك من الولايات، إلا أن هذا الاحتمال بعيد؛ لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا يُناط بهما حُكْم وإن كانا غير طرديين في بعض الأحكام غير العتق كالميراث والشهادة.
ولحنُ الخطاب مفهومُه، ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد/ 30]، وفحوى الخطاب ما يُفهم من (1) اللفظ أيضًا.

147 – دَلالة الوِفاقِ للقياسِ … وهو الجلي تُعْزى لدى أُناسِ
يعني أن جماعةً من الأصوليين منهم الإمام الشافعي جعلوا دلالة مفهوم الموافقة غير لفظية، بل هي عندهم قياس جلي، فالضرب -مثلًا- للوالدين ممنوع بالقياس على التأفيف قياسًا جليًّا. وقس على ذلك (2).
وقول المؤلف: “دلالة” مبتدأ خبره جملة “تُعْزَى”. وقوله: “وهو الجلي” جملة اعتراضية، والمراد بـ “الوفاق” مفهوم الموافقة.

148 – وقيل لِلّفظِ مع المَجازِ … وعَزْوُها للنقل ذو جوازِ
يعني أنه قيل: إن دلالة مفهوم الموافقة أي مدلوله تُعْزَى للّفظ والمجاز، فيقال فيها: لفظية مجازية، وعلى هذا فهي مجاز مرسل أطلق فيه الأخصر وأريد الأعم، فعلى هذا فالمراد بالنهي عن التأفيف النهي
__________
(1) الأصل: منه.
(2) انظر “الرسالة”: (ص/ 513)، و”قواطع الأدلة”: (2/ 8).

(1/85)


عن جميع الأذى، فالتأفيف خاص أُرِيْد به عام وهو جميع الأذى، وقِسْ على ذلك.
وقوله: “وعَزْوُها للنقل ذو جواز” يعني أن عزوَ مدلول مفهوم الموافقة للنقل جائز، ومراده بالنقل أن العرفَ اللغويَّ نقل اللفظ من وضعه بثبوت الحكم للخاص إلى وضعه لثبوته للعام، كما نُقِل اسم الغائط عن المكان المنخفض إلى الخارج من الإنسان، وعلى هذا فلفظ التأفيف نقله العرفُ اللغوي إلى النهي عن كل أذى.

149 – وغيرُ ما مرَّ هو المخالفه … ثُمَّتَ تنبيهُ الخطابِ خَالفَه
150 – كذا دليلٌ للخطاب انضافا … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن غير ما مر هو مفهوم المخالفة، وما مَرَّ هو مفهوم الموافقة فغيره هو مفهوم المخالفة، ومعنى مفهوم المخالفة: أن المسكوت عنه يخالف حكم المنطوق به، ويُسمى مفهوم المخالفة: تنبيه الخطاب ودليل الخطاب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . … ودَعْ إذا الساكتُ عنه خافا
151 – أو جَهِلَ الحُكمَ أو النطقُ انجَلَبْ … للسُّؤْلِ أو جَرْيٍ على الذي غَلَبْ
152 – أو امتنانٍ أو وفاقِ الواقِعِ … والجهلِ والتأكيدِ عند السَّامعِ
يعني أن لمفهوم المخالفة موانع تمنع اعتباره:
الأول: الخوف كما لو قال قريبُ عهدٍ بالإسلام لعبده بحضور المسلمين: تصدَّق بهذا على المسلمين، فلا مفهوم لقوله: “على المسلمين” لأنه سكت عن غير المسلمين خوفًا من تهمة النفاق، وهذا

(1/86)


هو معنى قول المؤلف: “ودَعْ إذا السَّاكت” إلخ.
الثاني: جهل المتكلم لحكم المسكوت عنه كما لو قال مفتٍ يجهل حكم زكاة المعلوفة: في السّائمة زكاة، فلا مفهوم له؛ لأنه إنما سكت عن المعلوفة لجهله حكمها، وهذا معنى قوله: “أو جَهِلَ الحكمَ”، وهو فعلٌ ماض.
الثالث: كونه جوابًا لسؤال كما لو سئل أحد عن السائمة فقال: فيها زكاة، فلا مفهوم له، لأن تخصيص السائمة بالذكر إنما هو لأجل مطابقة السؤال، وهو معنى قوله: “أو النُّطِق انجلْب للسؤل”.
الرابع: كونه جاريًا مجرى الغالب، كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء/ 23] فلا يدل على أنها إن لم تكن في الحجر لا تحرم، لأنه خَرَجَ مخرجَ الغالب، لأن الغالب في الربيبة أن تكون في حجر زوج أمها، وعلى هذا جمهور العلماء، وهو معنى قوله: “أو جَرْيٍ على الذي غلب” بخفض “جَرْيٍ” عَطْفًا على “السؤْل” أي: والنطق انجلب لسؤالٍ أو جريٍ على الغالب.
الخامس: الامتنان، كقوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل/ 14] فلا يدل على منع القديد، لأن تخصيص الطَّريّ بالذكر لأنه أنسب إلى الامتنان، وهذا معنى قوله: “أو امتنانِ” بالجر أيضًا عطف على قوله: “للسُّؤْلِ”.
السادس: موافقة الواقع، كقوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران/ 28] لأنه نزل في قوم والَوا اليهودَ دون

(1/87)


المؤمنين، فنزلت الآية ناهية عن نفس الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها، بل موالاة الكفار حرام مطلقًا، وهذا هو معنى قوله: “أو وفاق الواقع”.
السابع: جهل السامع للمنطوق دون المفهوم، كما لو قلت لإنسانٍ يعلم أن جمعَ الأختين بنكاح حرام، ويجهلُ حرمةَ جمعهما في الوطء بملك اليمين: جَمْعُ الأختين بملك اليمين حرام، فلا يُفْهم منه أن جمعهما بالنكاح غير حرام؛ لأن التخصيص بالذكر لجهل السامع حكم المنطوق دون المفهوم، وهذا معنى قوله: “والجهل” ويتعلق بقوله: “والجهل” قوله: “عند السامع” ولا تكرار بين هذا وبين قوله: “أو جهِلَ الحكم” لأن الجهل في الأول جهل المتكلم وفي الثاني جهل السامع.
الثامن: التأكيد للسامع كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تحد على ميت. . . ” (1) الحديث؛ لأن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “تؤمن باللَّه واليوم الآخر” لتأكيد النهي والتغليظ فيه، فلا يُفْهم منه أن المرأة التي لا تؤمن باللَّه يحل لها ذلك، وقول المؤلف “عند السامع” راجع للجهل والتأكيد معًا كما تقدم.

153 – ومقتضى التخصيص ليس يَحظُلُ … قَيْسًا وما عُرِضَ ليس يَشمُلُ
مراده بـ “مقتضي التخصيص” الأمور الثمانية التي ذكرنا أنها تمنع اعتبار مفهوم المخالفة، فالخوف -مثلًا- اقتضى تخصيص المسلمين دون
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1280)، ومسلم رقم (1486) من حديث أم حبيبة -رضي اللَّه عنها-.

(1/88)


غيرهم، والجهل اقتضى تخصيص المتكلم ما يعلمه دون ما يجهله، والسؤال اقتضى تخصيص المسؤول عنه لمطابقة الجواب له، وقس على ذلك.
فإذا عرفتَ ذلك فمعنى البيت: أن مقتضى التخصيص وإن مَنَع اعتبارَ مفهوم المخالفة فإنه لا يمنع المسكوت عنه على المنطوق إذا كان بينهما جامع، أي علة يصح بها القياس، فقوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر/ 12] مثلًا لما كان الطرِيّ أنسب للامتنان، واقتضى ذلك تخصيصه بالذكر، فلا يمنع من قياس القدِيد على الطري لعدم الفارق المؤثِّر بينهما. وهذا المثال مبنيٌّ على القول بأن الإلحاق بنَفْي الفارق قياس، ويسمى: القياس في معنى الأصل.
وقوله -مثلًا-: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران/ 28] الآية كونها نزلت في واقعةٍ اقتضى تخصيصها بتلك الواقعة، فمنع اعتبار مفهوم المخالفة، ولكن لا يمنع قياس المسكوت عنه وهو موالاة الكفار والمؤمنين معًا على المنطوق وهو موالاة الكافرين من دون المؤمنين؛ لأن العلة في مَنْع الموالاة الكفر وهي موجودة في الفرع كوجودها في الأصل، وقس على ذلك.
وقول المؤلف: “وما عُرِض” بالبناء للمفعول، ومراده به لفظ المنطوق، فعبَّر عن اللفظ بما عُرِض؛ لأنه معروض أي موصوف بالعوارض العارضة له، كالتقييد بصفة أو نحوها، ومعناه: أن لفظ المنطوق لا يشمل المسكوت عنه حتى يستغني بشموله له عن القياس، وهذا هو الحق. والقولُ بأنه يشمله بعيد، إذ لا يخفى أن الغنم السائمة لا تشمل

(1/89)


المعلوفة، والطري لا يشمل القديدَ، واتخاذ الكفار من دون المؤمنين لا يشمل اتخاذهم مع المؤمنين وهكذا.

154 – وهْوَ ظرفٌ عِلَّةٌ وَعَدَدُ … ومنه شرطٌ غايةٌ تُعتمدُ
يعني أن مفهوم المخالفة أقسام:
الأول: مفهوم الظرف زمانيًّا أو مكانيًّا، فالزمانيُّ نحو قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة/ 197] فيفهم منه أنه لا حج في غيرها، والمكانيُّ نحو قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة/ 187] يُفهم منه أن الاعتكاف لا يصح في غير المساجد، وبه قال بعض العلماء.
الثاني: مفهوم العلة نحو: “أَعْط السَّائل لحاجته” يفهم منه أن غير المحتاج لا يُعطى، ومفهوم العلة نوع من مفهوم الصفة، والصفة أعم لأنها قد تكون مكمِّلة للعلة لا علة مستقلة كالسَّوْم عند من يقول بأن لا زكاة في المعلوفة؛ لأن السَّوْم ليس عِلَّة الزكاة، ولو كان علة تامة لوجبت الزكاة في الوحوش لأنها سائمة، ولكن العلة نعمة الملك وهي مع السوم أتم.
الثالث: مفهوم العدد، نحو قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور/ 4] أي لا أكثر.
الرابع: مفهوم الشرط، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق/ 6] يُفهم منه أنهنَّ إن كنَّ غير أولات حمل لا يجب الإنفاقُ عليهن.
الخامس: مفهوم الغاية، كقوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة/ 230] يُفْهم منه أنها إن نكحت زوجًا غير الأول

(1/90)


حلَّت له أي الأول. وقول المؤلف: “تُعْتَمَد” بالبناء للمفعول، ونائبه ضمير الغاية أي يُعْتمد عليها في الاحتجاج، وجملةُ الفعل نعت لغاية.

155 – والحصرُ والصفةُ مثلُ ما عُلِمْ … من غَنَمٍ سامَتْ وسائمِ الغنمْ
يعني أن النوع السادس من أنواع مفهوم المخالفة: مفهوم الحصر، نحوُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة/ 5] فإن الحصر المدلول عليه بتقديم المعمول يُفهم منه عدم عبادة سواه جل وعلا.
وأن السابع من أنواع مفهوم المخالفة: مفهوم الصفة، والمراد بها عند الأصوليين: لفظٌ مُقَيِّد لآخر ليس شرطًا ولا غاية ولا استثناء، ويدخل فيها الحال لأنها وَصْفٌ لصاحبِها قَيْدٌ لعامِلِها، نحو: “أحْسِن إلى العبد مطيعًا واضربه مُسيئًا” فإنه يُفهم من الأول عدمُ الإحسان إن لم يطع، ومن الثاني عدم الضرب إن لم يعص، وسواء تقدمت نحو: “في سائمة الغنم الزكاة” أو تأخرت نحوُ: “في الغنم السائمة زكاة” (1) وإليه الإشارةُ بقوله: “من غنمٍ سامَت وسائمِ الغنم”. وقوله: “عُلِم” بالبناء للمفعول.
فإن قيل: النعت لمجرد المدح أو الذم صفة لا مفهومَ لها. فالجواب: أن الاحتراز عنها وقع بأن المراد بالصفة لفظ مخصّصٌ. . . إلخ، وما كان لمجرد المدح أو الذم لا تخصيصَ فيه.

156 – معلوفةُ الغَنَمِ أو ما يُعلَفُ … الخلْفُ في النَّفْي لأيٍّ يُصرَفُ
__________
(1) جاء في كتاب أبي بكر لأنس لما وجَّهَه عاملًا على البحرين: “وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة. . ” أخرجه البخاري رقم (1454).

(1/91)


يعني أنهم اختلفوا في المقيد بقيد، هل يرجع النفي والإثبات إليهما معًا -أعني القيد والمقيد- أو يرجعان للقيد فقط؟ فالغنم السائمة في قول المؤلف: “من غنم سامت وسائم الغنم” قُيِّدت بالسَّوْم، فعلى أن النفيَ والإثبات يرجعان لهما معًا فمفهوم قولك: “في الغنم السائمة زكاة” أن الغنم المعلوفة لا زكاة فيها لمراعاة القيد والمقيد معًا في المفهوم. وعلى أنهما راجعان للقيد فقط فمفهوم: “في الغنم السائمة زكاة” أن غير السائمة مطلقًا لا زكاة فيه، غنمًا كان أو إبلًا أو بقرًا لأن النظر على هذا القول إلى خصوص القيد الذي هو السَّوْم دون المقيَّد الذي هو الغنم في المثال.
وقول المؤلف: “معلوفةُ الغنم” مبتدأ والموصول عطف عليه. وقوله: “يُعلَف” بالبناء للمفعول. وقوله: “الخُلْف” مبتدأ آخر والمجرور بعده خبره، والمبتدأ الآخر وخبره خبر الأول، والضمير الرابط في الجملة الخبرية بينها وبين المبتدأ محذوف لدلالة المقام عليه؛ لأن التنوين في قوله: “أيٍّ” عِوَض عنه، وتقرير المعنى: الخُلْف في النفي لأيهما يصرف؛ هل هو معلوفة خصوص الغنم نظرًا إلى القيد والمقيَّد، أو هو المعلوفة مطلقًا ولو كانت إبلًا وبقرًا نظرًا إلى القيد دون المقيَّد.

157 – أضعفها اللَّقَبُ وهو ما أُبي … من دونِه نظمُ الكلامِ العربي
يعني أن أضعف أنواع [مفهوم] المخالفة هو مفهوم اللَّقب، وضابط اللقب: هو الاسم الجامد كأسماء الأجناس، والعَلَم بأنواعه الثلاثة، وأسماء الجموع. وجمهور العلماء على أن اللقب لا مفهوم له، وهو الحق، وربَّما كان اعتباره كفرًا، فقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}

(1/92)


[الفتح/ 29] الآية -مثلًا- لو قال أحد فيه بمفهوم اللقب فقال: يُفهم منه أن غير رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن رسولًا، فإنه يكفر بالإجماع. وقيل باعتباره، وهو قول الصيرفي، والدقَّاق، وابن خويز منداد، وبعض الحنابلة (1).
وقول المؤلف: “وهو ما أُبي من دونه” إلخ، كأنه يشير إلى جواب عن سؤال، وإيضاحُه أن يقال: لو لم يكن لِلَّقب مفهومًا (2) لما كان في تخصيصه بالذكر فائدة كما عللوا به مفهوم الصفة.
والجواب: بأن اللقب ذُكِر ليسند إليه الحكم فقط إذ لا يمكن إسناد خبريّ بدون مسند إليه، وذلك هو معنى قوله: “وهو ما أُبي من دونه نظم الكلام العربي”.
واعلم أن التحقيق عدم اعتباره، وعدم الفرق بين العَلَمِ واسم الجنس خلافًا لمن قال باعتباره مطلقًا، ولمن قال باعتباره في اسم الجنس دون العَلَمِ.
فإن قيل: جاء عن مالك -رحمه اللَّه تعالى- ما يدلُّ على اعتبار مفهوم اللقب، وذلك أنه قال باشتراط النهار في الأضحية وأنها لا تُجزئ إن ذُبِحت ليلًا، مستدلًّا بمفهوم قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} (3) [الحج/ 28] الآية، والأيام جمع يوم،
__________
(1) انظر “جمع الجوامع”: (1/ 254 – مع حاشية البناني).
(2) كذا في الأصل، وصححت في الهامش بخط مغاير: مفهومٌ.
(3) انظر “التهذيب في اختصار المدونة”: (2/ 43)، و”بداية المجتهد”: (1/ 509)، و”الجامع لأحكام القرآن”: (12/ 30).

(1/93)


وهو اسم جنس لزمان النهار.
فالجواب: أنه مفهوم ظرف لا مفهوم لقب، وقد قدمنا اعتبار مفهوم الظرف.

158 – أعلاه لا يُرشِد إلا العُلَما … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن أعلى -أي أقوى- مفاهيم المخالفة مفهوم الحصر بأداة النفي والإثبات نحوُ: “لا إله إلا اللَّه”، ومَثَّل له المؤلف بقوله: “لا يرشد إلا العلما” فمنطوقه عند الأصوليين نفي الإرشاد عن غير العلماء، ومفهومه إثبات الإرشاد لهم. ومذهب البيانيين عكس هذا، والتحقيق أن الكل منطوق، لأن النفيَ منطوقٌ صريح (1) والإثبات كذلك كما لا يخفى (2).

. . . . . . . . . . . . … ما لِمَنْطوقٍ بضَعْفٍ انتمى
يعني أن المرتبة الثانية في القوة من مراتب مفهوم المخالفة هو ما قيل فيه: إنه منطوق بالإشارة قولًا ضعيفًا كمفهوم “إنما” ومفهوم الغاية، فإنهما يليان النفي والإئبات في القوة كقوله: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)} [التحريم] يُفْهَم منه أن الإنسان لا تُوزَن له حسنة لم يعملها ولا سيئة لم يعملها، وقوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة/ 230] يُفهم منه حِلِّيتها له إن نكحت غيره، وممن قال بأن مفهومَ “إنما” والغاية منطوقٌ القاضي أبو بكر الباقلاني (3). وهذا القول بناءً على كون المنطوق منه غير صريح
__________
(1) الأصل والمطبوعة: صريحًا.
(2) انظر “نشر البنود”: (1/ 98).
(3) انظر “النشر”: (1/ 98).

(1/94)


كما تقدم.

159 – فالشرط فالوصفُ الذي يناسبُ … فمطلَقُ الوصف الذي (1) يقاربُ
160 – فعددٌ ثَمَّتَ تقديمٌ يلي … وَهُوَ حجَّةٌ على النَّهْجِ الجَلي
يعني أن المرتبة الثالثة في القوة من مراتب مفهوم المخالفة هي: مفهوم الشرط نحو: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ} [الطلاق/ 6] كما تقدم، وإنما كان بعد مفهوم الغاية، و”إنما” لأن مفهوم الشرط لم يُنْقل أنه منطوق بخلافهما كما تقدم.
وأن المرتبة الرابعة: مفهوم الوصف المناسب للحكم، وسيأتي للمؤلف تعريف المناسب بأنه ما تتضمَّن إناطةُ الحكم به مصلحة نحو: “في الغنم السائمة زكاة” (2). ووجه مناسبة الوصف بالسوم أن الموجب للزكاة نعمة الملك وهي مع السوم أتم، وإنما تأخر هذا عن مفهوم الشرط لأن بعض القائلين به -أي مفهوم الشرط- خالفَ في مفهوم الوصف المناسب (3).
وأن المرتبة الخامسة: مفهوم الوصف الذي لم تظهر له مناسبة، كما لو قال: في الغنم العُفْر زكاة، فإناطة الحكم بوصف “العفر” لا تظهر مناسبته.
قال مُقَيِّده عفا اللَّه عنه: مثل هذا المثال وصف طَرْدي لا تصلح
__________
(1) في نسخة: ما.
(2) تقدم تخريجه.
(3) كما هو قول ابن سُرَيج وغيره، انظر “البحر المحيط”: (4/ 14، 37).

(1/95)


إناطة الأحكام به في المعاملات، وأما التعبديَّات فلا يشترط فيها ظهور العلة، ولذلك مَثَّلوا به في الزكاة لأنها تعبدية (1)، فلو فُرِض أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “في الغنم العُفْر زكاة”، لقال العلماء بأن غير العفر لا زكاة فيها، وإن كانت مناسبة الوصف بالعفر غير ظاهرة.
وأن المرتبة السادسة: مفهوم العدد نحو: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ} [النور/ 4]، ووجوب الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة سبعًا وإنما تأخر العدد عما قبله لأن قومًا من القائلين بمفهوم الوصف أنكروا مفهوم العدد.
وأن المرتبة السابعة: مفهوم تقديم المعمول، فإنه يُفهم منه الحصر كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة/ 5] يُفهم منه عدم عبادة غيره.
وفائدة التفاوت في القوة تقديم الأقوى عند التعارض.
وقول المؤلف: “وهو حجة على النهج (2) الجلي” يعني أن مفهوم المخالفة حجة على القول المشهور، وهو مذهب الجمهور، وخالف الباقلانيُّ في مفهوم الشرط، وأبو حنيفة في جميع أنواع مفهوم المخالفة، وأنكره مطلقًا قومٌ في الخبر دون الإنشاء، وأنكره السبكيُّ (3) في غير الشرع، وإمام الحرمين الصفة التي لا تناسب (4)، وقومٌ العدد.
* * *
__________
(1) انظر ما تقدم عند البيت رقم (116).
(2) الأصل: القول.
(3) أي: تقي الدين، حكاه عنه ابنه في “الجمع”: (1/ 255).
(4) انظر “البرهان”: (1/ 309 – 310).

(1/96)


فصل
161 – من لُطفِ ربِّنا بنا تعالى … توسيعُهُ في نُطقِنا المجالا
يعني أن من لُطْف اللَّه تعالى بالناس توسِيعُه المجالَ لهم في التكلم بسبب حدوث الموضوعات اللغوية ليعبر كل أحدٍ عمَّا في ضميره مما يحتاج إليه في دنياه وآخرته لغيره حتى يعاونه عليه، لعدم قدرته على الاستقلال باستجلاب مصالح نفسه دُنْيا ودينًا.

162 – وما من الألفاظِ للمَعْنَى وُضِعْ … قلْ لُغَةٌ بالنَّقْلِ يَدْري مَنْ سَمِعْ
اللغة أصلها “لُغَوَة” فُعَلة من “لغا” بمعنى تكلم، حُذِفَ لامها فهي من باب سَنَة، وفي الاصطلاح عرَّفها المؤلف بأنها الألفاظ الموضوعات للمعاني.
وقوله: “بالنقل” يتعلق بقوله: “يدري” أي يدريها السامع بالنقل تواترًا وآحادًا عن العرب، فالمتواتر كلفظ السماء والأرض، والآحاد كالغضنفر للأسد والزخيخ للنار، وربما استنبطت بالعقل من النقل، كما لو قلت: كل مُعَرَّف بأل الاستغراقية يصح منه الاستثناء، وكل ما يصح منه فهو عام = ينتج كل ما يُعَرَّف بأل الاستغراقية فهو عام.
وقول المؤلف: “وما” مبتدأ خبره “لغة”. وقوله: “قل” اعتراض بين المبتدأ وخبره. و”المعنى” مَفْعَل من عَنيْت بمعنى قصدت، وهو أعم من المُسَمَّى؛ لأن المعنى هو ما يُقْصد باللفظ سواء كان هو مُسَمَّاه كالحقيقة أو غير مسماه كالمجاز.

(1/97)


163 – مدلولُها المعنى ولفظٌ مفردُ … مُسْتعملًا ومُهْملًا قد يوجَدُ
164 – وذو تَرَكُّبٍ. . . . .. . . … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن المدلول عليه بالألفاظ التي هي اللغة إما أن يكون معنى كدلالة الألفاظ على معانيها، نحو دلالة الكرم والشجاعة على المعنيين المعروفين، وإما أن يكون لفظًا كدلالة لفظ “الكلمة” على اللفظ ودلالة القول عليه.
وأشار المؤلف بقوله: “مستعملًا ومهملًا” وبقوله: “وذو تركُّب” إلى أن اللفظ المدلول عليه ببعض الألفاظ اللغوية أربعة أقسام؛ لأنه إما مفرد، وإما مركب، وكل منهما إما مستعمل، أو مهمل. فالمفرد المستعمل كالكلمة، والمفرد المهمل كالجيم أو اللام أو السين من لفظة “جلس”، والمركب المهمل كلفظ “الهذيان” (1) فإن لفظة “الهذيان” تدل على لفظ مركب مهمل، والمراد بالتركيب هنا ما فيه كلمتان فأكثر، كما قال العبَّادي في “الآيات” (2)، والمركب المستعمل كمدلول لفظ الخبر فإن لفظ “الخبر” يدل على مركب مستعمل كـ “جاء زيد” و”عمرو قائم”.
وقول المؤلف: “مدلولها المعنى” أي سواء كان جزئيًّا كمعنى العلم أو كليًّا كمعنى اسم الجنس، فتحصَّل أن مدلول الألفاظ اللغوية
__________
(1) في “شرح المحلي على الجمع”: (1/ 264)، و”نشر البنود”: (1/ 101)، و”فتح الودود”: (ص/ 37): كمدلول لفظ الهذيان: إذ لفظ الهذيان مفرد، لكن مدلول لفظه مركب.
(2) (2/ 53).

(1/98)


المعاني مطلقًا والألفاظ مطلقًا.

. . . . . . . . . . ووضعُ النكرَهْ … لِمُطلق المَعْنَى فريقٌ نَصَرَه
165 – وهِيَ للذّهنِ لدى ابن الحاجبِ … وكم إمامٍ للخلافِ ذاهبِ
يعني أنهم اختلفوا فيما وُضِعت له أسماء الأجناس المنكَّرة كرجل وإنسان مثلًا على ثلاثة أقوال (1):
الأول: أنها موضوعة لمطلق المعنى من غير تقييد بذهني ولا خارجي، وعليه فإطلاقه على كلٍّ منهما حقيقة، وهو قول الفهري من المالكية. وحجة هذا القول أن دعوى اختصاصه بأحدهما تحكُّم وترجيح بلا مرجِّح.
الثاني: أنها موضوعة للمعنى الذهنّي فقط، وهو قول الفخر الرازي وابن الحاجب. وحجة هذا القول أن معنى النكرة قد تشترك فيه (2) أفراد كثيرة والخارج لا يوجد فيه إلا المتشخصات بحقائقها، فليس في الخارج شئ مشترك بين حقيقتين، فمعنى “الإنسان” الذهني -مثلًا- قدر مشترك بين جميع أفراد الإنسان، والموجود في الخارج كزيد -مثلًا- لا يشاركه أحدٌ في حقيقة ذاته، وإنما الاشتراك في المعنى الكليّ الذهنيّ وهذا واضح، ورجَّح هذا القول زكرياء.
الثالث: أنها موضوعة للمعنى الخارجي. وحجة هذا القول أن الأحكام إنما وُضِعت للأمور الخارجية المتشخِّصة دون الحقائق
__________
(1) انظر “شرح المحلي على الجمع”: (1/ 266 – 267).
(2) ط: قدر مشترك بين.

(1/99)


الذهنية، ورجَّح هذا القول القرافي وعزاه في “نشر البنود” (1) للجمهور، وأطال العبَّادي في “الآيات البينات” (2) في مبحث التخصيص باختيار هذا القول وأنه هو الحق، وأن الحقيقة الذهنية توجد في الخارج في ضمن أفرادها الشخصية، فـ “زيد” مثلًا مشتمل على القدر المشترك وهو الإنسانية إلا أنه تميَّز عن غيره بتشخُّصاته الذاتية.
تنبيه: محل هذا الخلاف فيما له وجود ذهني وخارجي كما مَثَّلنا، أما ما له وجودٌ ذهني فقط، كبحر من زئبق، وجبل من ياقوت، فالموضوع له معناه الذهني فقط بلا خلاف.
وأشار المؤلف إلى القول الأول بقوله: “ووضع النكرة لمطلق المعنى” إلخ. وإلى الثاني بقوله: “وهي للذهن” إلخ. وللثالث بقوله: “وكم إمام” إلخ. وقوله: “ووضعُ” مبتدأ، وقوله: “فريق” مبتدأ أيضًا سوَّغ الابتداء به كونه في معرض التفصيل، وجملة “نصره” خبر الأخير، والأخيرُ وخبرُه خبرُ الأول، وقوله: “إمامٍ” مجرور بإضافة كم الخبرية إليه على التحقيق.

166 – وليس للمعنى بلا احتياجِ … لفظٌ كما لِشارحِ المنهاجِ
يعني أن شارح “المنهاج” وهو تاج الدين السبكي قال في “جمع الجوامع” (3): إنه لا يلزم أن يكون لكل معنى لفظ مستقل يدل عليه بل
__________
(1) (1/ 102).
(2) (2/ 53).
(3) (1/ 267 – مع حاشية البناني).

(1/100)


يجوز أن يكون بعض المعاني لم توضع له ألفاظ تدل على خصوصه، كأنواع الروائح المختلفة، فإنه ليس لكل رائحة لفظ يدل عليها بخصوصها وإنما تُعْرف بالتقييد كرائحة المسك مثلًا، وكذلك أنواع الطعوم واللذات.
وقوله: “بلا احتياج” يُفهم منه أن المعنى المحتاج احتياجًا قويًّا إلى لفظٍ مستقل (1) لابد منه وهو كذلك.

167 – واللغةُ الربُّ لها قد وضعا … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن اللغات توقيفية وضعها اللَّه للخلق، وعلَّمَها أباهم آدم فتعلمتها منه ذريته، والدليل على هذا قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة/ 31]، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث الشفاعة حاكيًا عن أهل الموقف مقررًا له: “وعلمكَ أسماءَ كل شيء” (2).

. . . . . . . . . . . . . … وعزْوُها للاصطلاح سُمِعا
168 – فبالإشارةِ وبالتَّعَيُّنِ … كالطِّفْل فهمُ ذي الخفا والبَيِّنِ
يعني أن كَوْن اللغات اصطلاحيةً أي وضعها البشر [و] اصطلحوا عليها مسموع أيضًا، وهو قول أكثر المعتزلة وبعض أهل السنة، وعلى هذا القول فالمفاهمة حصلت بينهم أوَّلًا بالاعتماد على الإشارة والتعيين
__________
(1) الأصل: مستعمل!
(2) أخرجه البخاري رقم (4476)، ومسلم رقم (193) من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-. وهذه اللفظة ليست في مسلم.

(1/101)


كأنْ يشير إلى شيءٍ حاضر ويقول: “هذا كتاب” فيعرف السامع مراده بالكتاب، وكأن يقول: “هات الكتاب في البيت” فلا يجد في البيت غيره فيتعين عنده أنه هو لعدم وجود غيره، وذلك هو معنى قول المؤلف: “فبالإشارة وبالتعين فهم ذي الخفا” إلخ.
وقوله: “كالطفل” اعتراض بين المبتدأ الذي هو “فهم” وخَبَرِه الذي هو “بالإشارة”، ومعنى قوله: “كالطفل” أي كما يفهم الطفل لغة أبويه بالإشارة والتعين والقرائن.

169 – يُبْنَى عليه القلبُ والطلاقُ … بكاسْقني الشرابَ والعتاقُ
يعني أن الخلاف في اللغات هل هي توقيفية أو اصطلاحية يُبْنى عليه قلب اللغة كتسمية الحجر إنسانًا، فعلى أنها توقيفية لا يجوز، وعلى أنها اصطلاحية يجوز، وينبني عليه أيضًا لزوم الطلاق والعتق بالكنايات الخفية نحو “اسقني الماء” إذا قصد به طلاقًا أو عتقًا، فعلى أن اللغة توقيفية لا يلزم بذلك طلاق ولا عتق، وعلى أنها اصطلاحية يلزمان، ولزومهما بالكناية الخفية هوالصحيح من مذهب مالك (1).
ومحل الخلاف في قلب اللغة فيما لم يُتَعَبَّد بلفظه، أما هو فلا يجوز تغييره، كتكبيرة الإحرام والتشهد وتسليمة التحليل، قاله المازَرِي وغيره (2).
وقال قوم: الخلاف في هذه المسألة طويل الذيل قليل النيل (3)،
__________
(1) انظر “مختصر خليل”: (ص/ 119).
(2) انظر “إيضاح المحصول من برهان الأصول”: (ص/ 147) للمازري.
(3) انظر “البحر المحيط”: (2/ 18).

(1/102)


وقال الأبياري من المالكية: لا فائدة تتعلق بهذا الخلاف، وقد رأيت ما ذكره له المؤلف من الفائدة.

170 – هل تثبُتُ اللغةُ بالقياس … والثالثُ الفرقُ لدى أناس
171 – محلّه عندهمُ المشتقُّ … وما عداه جاءَ فيه الوَفْقُ
172 – وفرعُة المبنيُّ خِفَّة الكُلَفْ … فيما بجامعٍ يقيسُهُ السَّلَفْ
يعني أنهم اختلفوا في اللغة هل تثبت بالقياس -وبه قال جَمْع من المالكية والشافعية- أوْ لا تثبت -وبه قال أيضًا جمع من المالكية والشافعية ويعزى للحنفية-؟ ورجَّح هذا القول ابنُ الحاجب وغيره بأن اللغةَ نقلٌ مَحْض فلا يدخلها قياس (1).
وثالث الأقوال: الفرق بين الحقيقة والمجاز، فيجوز ذلك في الحقيقة دون المجاز، وهذا هو معنى قوله: “والثالث الفرق لدى أناس”.
وهذا الخلاف إنما هو في المشتق المشتمل على وصف كانت التسمية من أجله ووُجِد ذلك الوصف في معنًى آخر كالخمر المخمّر العقل أي مغطيه من ماء العنب، فإذا وُجِد هذا المعنى في غير ماء العنب سُمِّي خمرًا بناءً على إثبات القياس في اللغة، ويعكِّر على هذا المثال أنه ثبت في الصحيح (2) تسمية كل ما خمَّر العقلَ من المشروبات خمرًا كائنًا
__________
(1) “مختصر ابن الحاجب”: (1/ 255 – مع شرح الأصبهاني).
(2) أخرج البخاري رقم (5588)، ومسلم رقم (2032) أن عمر بن الخطاب خطب على منبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل. . .

(1/103)


ما كان. وأجاب بعضهم بأن الخمر موضوع لما كان من خصوص العنب، فتسمية غيره خمرًا قياس لغوي واللَّه تعالى أعلم.
وهذا الذي ذكرنا من التقييد بالمشتق هو معنى قوله: “محله عندهم المشتق”. وقوله: “وما عداه” أي: ما عدا المشتق كالعَلَم فلا يجوز فيه القياس قولًا واحدًا.
وينبني على الخلاف في اللغة هل تثبت بالقياس خفة الكلفة أي المشقة فيما يقيسه المجتهدون بجامع أي علة، فمن قال: تثبت اللغة بالقياس اكتفى بوجود الوصف في المقيس فيصدق عليه اسمه لغة فيثبت حكمه بالنص فلا يحتاج إلى القياس الأصوليّ للاكتفاء عنه بالقياس اللغويّ، فمن سمَّى النّبَّاشَ سارقًا واللّائط زانيًا بالقياس اللغويّ لأخذ النباش خفية، وإيلاج اللائط إيلاجًا محرمًا = قال: إن النصوص الواردة في السارق تتناول النّبَّاشَ، والواردة في الزاني تتناول اللائط فلا حاجة إلى القياس الأصوليّ، ومن منع ذلك احتاج إلى القياس الشرعي المتوقف على وجود شروطه وانتفاء موانعه، وهذا الذي ذكرنا هو معنى قوله: “وفرعه المبني” إلخ.
* * *

(1/104)


فصل في الاشتقاق
هو لغة الاقتِطَاع، والمراد به عند الإطلاق الصغير وهو المعقود له الفصل، أما الكبير والأكبر فإنما ذُكرا استطرادًا. واعلم أن العدل المانع للصرف مع العلمية والوصفية نوع من الاشتقاق كعمر من عامر.

173 – والاشتقاقُ ردُّكَ للفظَ إلى … لفطٍ وأَطلِقْ في الذي تأصَّلا
174 – وفي المعاني والأصول اشْتَرطا … تَناسُبًا بينهما مُنضبِطا
يعني أن الاشتقاق في الاصطلاح هو: أن تردّ لفظًا إلى آخر لمناسبة بينهما في المعنى والحروف الأصلية، بأن يكون المعنى الذي في المردود موجودًا في المردود إليه، وأن تكون الحروف الأصلية التي في المردود موجودة على ترتيبها في المردود إليه، كالضارب من الضرب. ومعنى ردُّ لفظٍ إلى آخر: أن تحكم بأن الأول مأخوذ من الثاني، أي فرع عنه.
وقوله: “وأطلق في الذي تأصَّلا” يعني أن الأصل المشتق منه يصح الاشتقاق منه مطلقًا أي سواء كان حقيقة أو مجازًا، فالحقيقةُ كاشتقاقِ الناطقِ من النطقِ بمعنى التكلُّم، والمجاز كقولك: “الحال ناطقة بكذا” فإنه مشتق من نُطْق الحال بمعنى دلالتها مجازًا مفردًا على سبيل الاستعارة التبعية الصريحة التحقيقية. فما ذكره بعض الأصوليين من أن المجاز لا يشتق منه خلاف التحقيق كما حرره علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية (1).
__________
(1) انظر “المطوّل”: (ص/ 402 – 404) للتفتازاني.

(1/105)


وخرج بقيد التناسب في المعنى نحو “قَتْل ومَقْتل” مصدر ميمي لأن معناهما واحد، والشيء لا يناسب نفسه بل هو هي، ونحو “بان يبين” فليس مشتقًّا من “بَيْن” الظرفية لعدم تناسبهما في المعنى.
وخرج بقيد المناسبة في الحروف ما لم تتناسب حروفه في الأصل أو الوضع، أما عدم المناسبة في الأصل كـ “الهالك” فإنه غير مشتق من الموت لعدم تناسب الحروف، وأما عدم المناسبة في الوضع -أعني الترتيب- فكـ “مِلْح ولَحْم وحِلْم” ولو كانت غير متناسبة في المعنى أيضًا.
وخرج بقيد الأصلية الحروف المزيدة فلا يشترط التناسب فيها، ولا يشترط في الحروف الأصلية أن تكون موجودة بالفعل، إذ قد يُحْذف بعضها من الأصل وهو المصدر كـ “زِنَة وعِدَة وصِلَة” وقد يُحذف بعضها من الفرع أعني المشتق كـ “خُفْ وقُلْ وجْ وقلت وبعْت” ونحو ذلك.

175 – لابدَّ في المشتق من تغييرِ … محقَّقٍ أو كان ذا تقديرِ
يعني أنه لابد في تحقق الاشتقاق من تخالف بين لفظ المشتق والمشتق منه تحقيقًا كالضارب من الضرب، أو تقديرًا كطَلَبَ فِعْل ماض من الطَّلَب بمعنى المصدر، فتقدَّر فتحة اللام في الفعل في غيرها في المصدر.

176 – وإن يكنْ لمبهمٍ فقد عُهِدْ … مطّرِدًا وغيرُه لا يَطَّرِدْ
يعني أن الضميرَ في قوله: “يكن” عائد إلى الاشتقاق، والمبهم اسم مفعول من الإبهام وهو ضد التعيين، ومراده بالمبهم الذات التي سميت باسم مشتق لها من صفة، ومعنى إبهامها أنها صالحة لكل من

(1/106)


اتصف بتلك الصفة، فكلُّ من وَقَع منه الضرب صح أن يُقال له: ضارب، فضارب مبهم يصح إطلاقه على كل من صدر منه الضرب، وكلُّ ذات قام بها السواد -مثلًا- صحَّ أن يقال لِذَكَرها: أسود ولأنثاها: سوداء، فالأسود -مثلًا- مبهم أي غير معيَّن يصح إطلاقه على كلِّ من قام به السواد.
وقوله: “وغيره لا يطَّرِد” يعني أن غير المبهم لا يطَّرِد فيه الاشتقاق، كالقارورة فإنها غير مبهمة بل مُعَينة، لكونها يُقْصَد بها ما كان من الزجاج خاصة دون غيره مما هو مقر للمائع، وكالدَّبَران لخصوص الأنجم المعروفة، وكالأبلق لما اجتمع فيه سواد وبياض من خصوص الخيل دون غيرها من الحيوانات. ومحل اطراد الاشتقاق فيما لم يمنع منه مانع، فإن اللَّه تعالى قال عن نفسه: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد]. ولا يصح الاشتقاق له من ذلك فلا يقال له: فاضل لأن أسماءه تعالى توقيفية.

قال مقيده عفا اللَّه عنه: ضابط الاشتقاق المطرد بالقياس الصرفيَّ إذا أردت أن تعلمَه فاعلم أن المصدر الذي منه الاشتقاق له حالتان:
الأولى: أن يكون حدثًا متجددًا باختيار الفاعل كالقيام والجلوس.
الثانية: أن يكون صفةً قائمة بالذات من غير اختيارها كالسجايا والألوان ونحوِ ذلك، فالسجايا نحوُ: الكرم والشجاعة، والألوان كالسواد والبياض.
والقسم الأول الذي هو الحدث المتجدد باختيار الفاعل له حالتان:
الأولى: أن تكون نسبته واحدة وهو المعبَّر عنه باللزوم أي عدم التعدي إلى المفعول به كالقيام والجلوس.

(1/107)


الثانية (1): أن تكون له نسبتان: نسبةٌ إلى فاعله من حيث وقوعه منه، ونسبة إلى مفعوله من حيث وقوعه عليه، نحو الضرب فإنه لا تُعْقَل حقيقته إلا بضارب ومضروب، لأنه صفة إضافية وهي لا تُدْرَك حقيقتها إلا بإدراك المتضايِفيْن، وهذا هو المعبَّر عنه بالتعدي إلى المفعول.
فإن كان المصدر الذي منه الاشتقاق صفة قائمة بالذات من غير اختيارها كالكرم والشجاعة فلا يشتق منها باطراد القياس الصرفي إلا ثلاثة أشياء: الأول: الفعل ككَرُمَ وشجُعَ. الثاني: الصفة المشبهة ككريم وشجاعٍ. الثالث: صيغة التفضيل بشروطها المعروفة، نحو “زيد أكرم من عَمرو، وأشجع منه”.
وإن كان المصدر الذي منه الاشتقاق حَدَثًا متجددًا باختيار الفاعل له نسبة واحدة أي غير متعدٍّ للمفعول فلا يُشتق منه بالقياس الصرفي إلا خمسة أشياء: الأول: الفعل نحو “قام ومشى”. الثاني: اسم الفاعل نحو “قائم وماشي”. الثالث: صيغة التفضيل بشروطها المعروفة نحو “زيد أمشى بالنميمة من بكر”. الرابع: اسم المكان كـ “المجلس والمسجد” لمكان الجلوس والسجود. الخامس: اسم الزمان نحوُ “محِلّ الدَّيْن رمضان” أي زمان حلوله رمضان.
وإن كان المصدر الذي منه الاشتقاق حدَثًا متجددًا باختيار الفاعل له نسبتان أيْ متعدٍّ إلى المفعول، فإنه يُشتق منه بالقياس الصرفي جميع المشتقات الثمان إلا الصفة المشبهة فقط فإنها لا تُصاغ إلا من صفة قائمة بالنفس لا من حَدَث متجدد. وبذلك تعلم أن المشتقات من المصدر
__________
(1) الأصل: الثاني.

(1/108)


المذكور سبع وهي: الفعل نحو “ضربه”، واسم الفاعل كـ “ضارب”، واسم المفعول كـ “مضروب”، واسم الآلة كـ “مفتاح”، واسم الزمان والمكان كـ “المَضْرب” بمعنى مكان الضرب أو وقته، وصيغة التفضيل نحو “زيد أضرب من عَمرو”.

177 – والجَبْذُ والجَذْبُ كبيرٌ ويَرى … للأكبر الثَّلْمَ وثلبًا مَنْ دَرَى
ذكر في هذا البيت الاشتقاق الكبير والاشتقاق الأكبر، فالاشتقاق الكبير في الاصطلاح هو: ما اجتمعت فيه الأصول دون الترتيب مع مناسبة معنوية، كاشتقاق “جبَذ وجابذ” من الجَذْب، فالمعنى واحد والحروف والأصول (1) متحدة إلا أن ترتيبها مختلف في المشتق والمشتق منه.
والاشتقاق الأكبر في الاصطلاح هو: ما فيه المناسبة في المعنى وفي بعض الحروف، كاشتقاق “ثلمَ وثالم” من الثلب، فلم تتناسب الأصول في اللام وإنما تناسبت في الفاء والعين.
قال أبو حيان (2): ولم يقل بالاشتقاق الأكبر من النحاة إلا أبو الفتح (3)، وكان ابن الباذش (4) يأنس به.
__________
(1) ط: الحروف الأصول.
(2) انظر “البحر المحيط”: (2/ 75).
(3) أي ابن جني في كتابه “الخصائص”: (2/ 133 – وما بعدها).
(4) هو: علي بن أحمد بن خلف أبو الحسن بن الباذش الأندلسي النحوي، له تصانيف (ت 528 هـ)، ترجمته في “معجم الصدفي”: (ص/ 274)، و”بغية الوعاة”: (2/ 142 – 143). =

(1/109)


وقول المؤلف “مَنْ” في قوله: “من درى” فاعل “يرى”.

178 – والأعجميُّ فيه الاشتقاقُ … كجبْرَئيلَ قاله الحُذَّاق
يعني أن الأسماء الأعجمية قد تكون مشتقة قاله الأصفهانيُّ في “شرح المحصول”، والدليل عليه ما روي أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لجبريل: “لم سُميت جبرئيل؟ ” فقال: لأني آتٍ بالجبروت (1).

179 – كذا اشتقاقُ الجمع مما أُفْرِدَا … ونفْيُ شرطِ مصدرٍ قد عُهِدا
يعني أن الجمع والتثنية مشتقان من المفرد، فرجلان -مثلًا- ورجال مشتقان من رجل، والمراد بالاشتقاق في ذلك جَعْل أحدهما أصلًا والآخر فرعًا، والفرع مردود إلى الأصل.
وقوله: “ونفي شرط” إلخ يعني أنه لا يشترط في الاشتقاق وجود المصدر بل يُشتق من مصدر مقدَّر لم تنطق به العرب، وعليه فالأفعال الجامدة كـ “عسى” مشتقة، ولا ينافي اشتقاقها جمودها إذ لا منافاة بين الجمود والاشتقاق، ألا ترى أن “تبارك” فعل جامد وهو مشتق من البركة.

180 – وعند فَقْد الوصفِ لا يُشتقُّ … وأَعْوَزَ المُعْتزليُّ الحقَّ
يعني أن الذات إذا لم تتصف بالمصدر فلا يجوز الاشتقاق لها
__________
= وقد نسب هذا القول له العطار في حاشيته على شرح المحلي، وصاحب “النشر”: (1/ 109)، لكن الزركشي في “البحر”: (2/ 75) نسبه إلى أبي علي الفارسي نقلًا عن أبي حيان النحوي. فاللَّه أعلم.
(1) لم أجده.

(1/110)


منه، فلا يصح اشتقاق “الضارب” لمن لم يقع منه ضرب أصلًا، ولا اشتقاق “الأسود” لمن لم يقم به سواد، خلافًا للمعتزلة القائلين بجواز ذلك مع عدم اتصاف الذات بالمصدر، حيث زعموا أنه تعالى قادر بذاته لا بقدرة قامت بذاته، عالم بذاته لا بعلم قام بذاته، وهكذا في كل صفات المعاني، فرارًا منهم من تعدد القديم. ومذهبهم ظاهر البطلان إذ لا يعقل كونه قادرًا من غير قدرة، عالمًا من غير علم. وأشار المؤلف إلى هذا بقوله: “وأعوز المعْتزليُّ الحق” وأعوزه الشيءُ احتاجَ إليه، يعني أن المعتزلة خالفوا منهج الصواب المحتاج إلى اتباعه (1).
واحترز المؤلف بالوصف في قوله: “وعند فقد الوصفِ” من العين فإنها يُشتق منها مع عدم قيامها بالذات لاستحالة قيامها بها كاشتقاق “التامر” و”اللَّابن” من التمر واللبن، مع أنهما لم يقوما بذات صاحبهما كما في قول الشاعر:
وغَرَرْتَني وزعمتَ أنّـ … ــكَ لابنٌ في الحي تامِر (2)
وكاشتقاق المكي والمدني من مكة والمدينة حرسهما اللَّه ونحو ذلك.

181 – وحيثُما ذو الاسم قَامَ قد وجَبْ … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن كل معنى وَضَعت له [العرب] اسمًا إذا قام بالذات وجب اشتقاق الوصف للذات منه، فكل ذات قام بها علم، أو قدرة، أو سواد،
__________
(1) كذا في “النشر”: (1/ 110)، و”مراقي السعود”: (ص/ 122 – 123)، و”فتح الودود”: (ص/ 41).
(2) البيت للحُطَيئة “ديوانه”: (ص/ 86) وفيه: لابن في الصيف.

(1/111)


أو بياض ونحو ذلك، وجب أن يشتق لها العالم، والقادر، والأسود، والأبيض -مثلًا- من تلك الصفات المذكورة القائمة بها.
وقول المؤلف: “ذو الاسم” يعني المعنى الذي له اسم في العربية كالأمثلة المذكورة، واحترز به عن المعنى الذي ليس له اسم في العربية كأنواع الروائح، فلا يصح الاشتقاقُ منه لعدم وجود لفظ يعبر به عنه حتى يصح منه الاشتقاق. وضمير الفاعل في قوله: “وجب” للاشتقاق.

. . . . . . . . . . . . . … وفرعُه إلى الحقيقةِ انتسب
182 – لدى بقاء الأصلِ في المَحَلّ … بحسبِ الإمكان عند الجُلِّ
183 – ثالثُها الإجماعُ حيثما طَرا … على المحَلِّ ما مُناقضًا يُرى
184 – عليه يُبْنى مَنْ رَمَى المطلَّقَه … فبعضُهُمْ نفى وبعضٌ حقَّقه
الضمير في قوله: “فرعه” راجع إلى الوصف المشتق منه فهو الأصل وفرعه المشتق. وقوله: “إلى الحقيقة انتسب” أي يقال له: “حقيقي” ما دام الوصف المشتق منه قائمًا بالذات، فـ “القائم” مثلًا مشتقّ من القيام، إلا أن “القائم” لا يكون حقيقةً إلا في حالة الاتصاف بالقيام.
وقول المؤلف: “لدى بقاء” يتعلق بقوله: “إلى الحقيقة انتسب” أي انتسب الفرع -الذي هو المشتق- إلى الحقيقة، فقيل فيه: “حقيقي” عند قيام الوصف بالمحل. وقوله “بحسب الإمكان” يُشير به إلى أن بعض المصَادر التي منها الاشتقاق يكون سيَّالًا أي يمضي تدريجًا شيئًا فشيئًا كـ “التكلُّم” فإن المشتق منه ينتسب للحقيقة عند قيام المصدر السيال بالذات بحسب الإمكان، لأنه لا يقوم بالذات جُمْلة لتفاوته تدريجًا،

(1/112)


فحسب (1) الإمكان فيه آخر جزء منه.
وقوله: “عند الجُلّ” يشير به إلى أن بعض المعتزلة وابنَ سينا قالوا بإطلاق الحقيقة على الفرع الذي هو المشتق، ولو فارق الوصف الذي منه الاشتقاق المحلَّ، فيصح تسمية القاعد قائمًا باعتبار قيامٍ سَبَق له أمس.
قوله: “ثالثها” إلخ، يعني أن أهل القول الثالث قالوا: أجمع المسلمون وأهل اللسان العربي على أنه لا يجوز الاشتقاق من الوصف بعد مفارقته حيثما طرأ على المحل وصف وجودي يناقض الوصف الأول الذي منه الاشتقاق، كتسمية القاعد قائمًا باعتبارِ قيامٍ سابق، وأنه يصح مجازًا من إطلاق أحد الضدَّين وإرادة الآخر.
وقوله: “عليه يُبْنى من رمى” إلخ يعني أنه ينبني على الخلاف المذكور من رمى مطلقته طلاقًا بائنًا بالزنا، فعلى أنها لا تسمَّى زوجة بعد مفارقة وصف الزوجية لها فإنه يُحَدّ حدَّ القذف ولا يُمَكَّنُ من اللعان لأنه رمى من لا تسمَّى زوجة، وهذا هو معنى قوله: “فبعضهم نفى”، وعلى أنها تُسَمَّى زوجة بَعْدَ مفارقة وصف الزوجية لها فإنه يلاعنها، لأنها تسمى زوجة واللَّه يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور/ 6] الآية. وهو معنى قوله: “وبعضٌ حقَّقَه”.
وعلى القول الثالث: إذا كانت متزوجة بغيره لم يلاعن لطروِّ وصفٍ وجودي هو زوجية الثاني على المحل الذي هو الزوجة يناقض الأول الذي هو زوجية الأول، لاستحالة اشتراك الزوجة بين زوجين.
__________
(1) الأصل: بحسب.

(1/113)


وإن كانت غير متزوجة بغيره لاعَنَ، ولم يذكر المؤلف هذا ولكنه ذكره في “الشرح” (1) عن ابن المَوَّاز (2).

185 – فما كسارقٍ لدى المُؤَسِّسِ … حقيقةٌ في حالةِ التَّلَبُّسِ
186 – أو حالةِ النُّطقِ بما جا مُسندا … وغيرُه العمومُ فيه قَد بَدا
اعلم أولًا أن اسم الفاعل كـ “سارق” واسم المفعول كـ “مضروب” قد اخْتَلَف في حقيقة استعمالهما البلاغيُّون والنحويون، فهما عند البلاغيين ذاتٌ متصفة بالمصدر الذي منه الاشتقاق من غير اعتبار زمان ولا حدوث، فهو حقيقة فيمن قام به الوصف في الحال أو الماضي أو الاستقبال فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة/ 38] حقيقةٌ فيمن وقع منه هذا الفعل في الماضي أو الحال والاستقبال إلى يوم القيامة، ولذا لو شهد عند القاضي بأن فلانًا سارق في الزمن الماضي لحكم عليه بالقطع، ومن طرأت منه السَّرقة بعد نزول الآية كان داخلًا في معناها دخولًا حقيقيًّا، وهذا المعنى الذي عليه البيانيون هو الذي عليه السُّبْكيَّان: تاج الدين ووالده تقي الدين (3)، وهما مراد المؤلف بقوله: “لدى المؤسِّسِ” بصيغة اسم
__________
(1) (1/ 111).
(2) هو محمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندراني المعروف بابن الموَّاز، من كبار فقهاء المالكية (ت 269)، له كتابه المشهور بـ “الموَّازية” قال فيه عياض: هو أجلّ كتاب ألّفه قدماء المالكيين وأصحه مسائل وأبسطه كلامًا وأوعبه. انظر: “ترتيب المدارك”: (4/ 167 – 170)، و”جمهرة تراجم المالكية”: (2/ 981).
(3) انظر “جمع الجوامع”: (1/ 288 – 289).

(1/114)


الفاعل، ومعناه صاحب الأصول.
فإن قيل: ذكرتم أن البيانيين يقولون: إن الوصفَ كاسم الفاعل أو اسم المفعول ذاتٌ متصفة بالمصدر من غير اعتبار زمان أو حدوث، وأن السُّبْكيَّيْنِ على قول البيانيِّيْن، كيف يجتمع ذلك مع أنهما يقولان: إن اسم الفاعل -مثلًا- لا يكون حقيقة إلا في حالة التلبس بالمصدر الذي منه الاشتقاق أو بآخر جزءٍ منه إن كان سيَّالًا؟
فالجواب: أن اعتبار الزمان غير اعتبار حالة التلبس؛ لأن الزمان باعتبار النطق، والتلبس باعتبار الفعل، فصح للسبكيين اعتبار حالة التلبس دون اعتبار الزمان. فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} -مثلًا- لم يُعتبر فيه زمان، فهو يشمل السارق الآن والسارق فيما مضى والسارق في المستقبل، ولكن تحقيق إطلاق اسم السرقة عليه بالفعل على سبيل الحقيقة إنما هو باعتبار حالة تلبُّسه بها، فظهر الفرق بين الأمرين.
فإن قيل: يلزم على ما ذكرتم أن من كان يسرق ويزني قبل نزول آية السرقة وآية الزنا أنه يُحَدّ.
فالجواب: أنه وقت سرقته أو زناه إن كان كافرا ثم أسلم فالإسلام يَجُبُّ ما قبله، وإن كان مسلمًا فالمانعُ من حَدِّه أن ذلك الفعل في وقته الماضي ليس حرامًا عليه واللَّه تعالى يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة/ 115].
فإن قيل: يلزم على قول السُّبكيين أن من قامت عليه بينة بالسرقة في الزمن الماضي أنه لا يُقْطع، لأنه عندهما لا يسمَّى سارقًا حقيقة إلا

(1/115)


حالةَ التلبس وهو الآن غيرُ متلبس بالفعل، فيلزمُ عليه أنه الآن غيرُ سارق فلا يقطع.
فالجواب: أنه وقتَ تلبُّسه بالسرقة صار سارقًا حقيقة فوجب عليه الحد في ذلك الوقت، لأنه سارق في ذلك الوقت، لا لأنه سارق الآن.
وقول المؤلف: “أو حالة النطق بما جا مسندا” إلخ “أو” فيه لتنويع الخلاف، يعني أن القرافي فرَّق في ذلك بين المسند والمسند إليه فقال في المسند إليه مثل قول السبكيين الذي قدمنا آنفًا، وذلك هو مراده بقوله (1): “وغيره العموم فيه قد بدا” وقال في المسند من اسم فاعل أو مفعول -مثلًا- إنه حقيقة في حالة النطق به خاصة، فقولك: “زيد ضارب” عنده حقيقة في وقوع الضرب وقت النطق لا فيما بعده ولا قبله إلا على سبيل المجاز، وحجته أنه يراد به الحَدَث الحاصل بالفعل ويلزمه حضور الزمان. وقول المؤلف: “أو حالة النطقِ” بالجر عطفًا على حالة التلبس. والوصف كاسم الفاعل عند النحويين يُرَاد به الحدوث في الزمن الحاضر وقت النطق، وإطلاقه على المتصف به قبل ذلك أو بعده مجاز على قولهم أعني النحويين.
ومثال كون الوصف مسندًا: “زيد ضارب” ومثال كونه مسندًا إليه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة/ 38]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور/ 2].
* * *



__________
(1) هنا لحق لكنه مضطرب وغير واضح.

(1/116)


فصل في التَّرادُف
وهو تعدد اللفظ واتحاد المعنى، كالأسد والليث.
187 – وذو الترادفِ له حصولُ … وقيلَ لا ثالِثُها التفصيلُ

يعني أنه اختلف في الترادف على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه واقع في الكلام، وهو الحق. ومن فوائده: أن أحد الرديفين يصلح لما لا يصلح له الآخر في السَّجع والشعر والجناس، وقد يكون أحد الرديفين أسهل على الألثغ الذي لا ينطق ببعض الحروف من الآخر، فالذي يتعذَّر عليه النطقُ بالراء يعدل عن لفظ البرِّ مثلًا إلى لفظ القمح.
القول الثاني: وهو قول ثعلب، وابن فارس، والزجَّاج، وأبي هلال العسكري أن الترادف غير واقع في الكلام، وقالوا: كل ما يظن مترادفًا ليس بمترادف؛ إذ لابد أن يشتمل أحد اللفظين على معنى ليس في الآخر تحصل به المباينة في الصفات، فالإنسان -مثلًا- ليس مرادفًا للبشر لاشتمال الإنسان على معنى النسيان أو الأنس، واشتمال البشر على معنى ظهور البشرة، وقِسْ على ذلك.
القول الثالث: هو التفصيل بين الألفاظ الشرعية وغيرها، فيمتنع الترادف في الألفاظ الشرعية ويجوز في غيرها.
والتحقيقُ: الجواز والو قوع مطلقًا، فمثا له في كلام العرب: “الليث والأسد”، ومثاله في الاصطلاحات الشرعية: “الفرض والواجب” عند

(1/117)


غير أبي حنيفة، و”السنة والتطوع”، ومثاله في القرآن: “يحسبون ويظنون”.

188 – وهل يُفيدُ التَّالي للتأييدِ … كالنفي للمَجازِ بالتوكيدِ
المراد بالتالي: التابع، وهو اللفظ المهمل الذي تذكره العرب بعد متبوعه على وزنه للتقوية، نحو قولهم: “حَسَن بَسنٌ”، و”حاذق باذق”، و”شيطان ليطان”، و”عطشان نطشان”، والمعنى: أنهم اختلفوا في التابع هل يفيد التأييد أي التوكيد للمتبوع أو لا؟ والحقُّ أنه يفيد توكيده، لأن العرب ما أرادت به إلا ذلك ولم تذكره عبثًا.
وقوله: كـ “النفي. . ” إلخ يعني أنهم اختلفوا أيضًا في التوكيد هل ينفي المجاز ويرْفعُه أو لا؟ فالذي عليه أهل المعاني وهو قول المازري أن التوكيد يدل على التقويةِ ورفع المجاز، فإذا قلت: “جاء زيدٌ نفسُه” امتنع إرادة غير زيد مجازًا، وإذا قلت: “جاءوا كلُّهم” امتنع إرادة بعضهم مجازًا، والذي اختاره القرافي (1) أن التوكيد لا يرفع المجاز، وعليه فيكون التوكيد كالتابع في إفادة التقوية فقط دون رفع المجاز.
والفرق بين التابع والتوكيد: أن التوكيد يرفع المجاز على الراجح دون التابع، وأن التابع يشترط فيه أن يكون على زِنَة المتبوع دون التوكيد، وأن التوكيد له معنى في نفسه بخلاف التابع، فإنه لو أُطلق دون المتبوع كان مهملًا نحو: “بَسَنٌ، ونطشان”.

189 – وللرَّديفَيْن تعاورٌ بدا … إن لم يكن بواحدٍ تَعَبَّدا
__________
(1) في “نفائس الأصول في شرح المحصول”: (1/ 350، 352).

(1/118)


التعاور: التداول (1) والتعاقب، ومنه قوله عنترة في معلقته (2):
إذ لا أزال على رِحالةِ سابحٍ … نهْدٍ تعاوره الكماةُ مكلَّمِ
أي تداولوه وتعاقبوا عليه بالرمي.
ومعنى البيت: أن للرِّدْفَيْن تعاورًا أي تعاقُبًا، بمعنى أن كلًّا منهما يأتي مكان الآخر لاتحاد معناه (3)، وسيأتي للمؤلف قوله: “وبالمرادف يجوز قطعا”. ومحل إتيان كل من الرِّدْفَين مكان الآخر إن لم يكن اللَّه تعبدنا بأحدهما، كتكبيرة الإحرام وتسليمة التحليل. وقوله: “تعبَّدا” بالبناء للفاعل، أي تعبدنا اللَّه [به].

190 – وبعضهم نَفْيَ الوقوعِ أبَّدا … وبعضُهم بلغتين قَيَّدا
يعني أن بعض الأصوليين كالرازي (4) منع وقوع الرديف مكان رديفه لغة. وقوله: “أبَّدا” أي منعًا مؤبَّدًا، سواء كان منِ لغتين أومن لغة واحدة.
وقوله: “وبعضهم” إلخ يعني أن بعضهم قيَّد منع تعاور الرديفين بما إذا كانا من لغتين قائلًا: إنه يجوز في اللغة الواحدة لأن ضمَّ لغة إلى أخرى كضمٍ مهمل إلى مستعمل. وما قدَّم من منع تعاور الرديفين إن كان أحدهما متعبَّدًا بلفظه فإنه ممنوع من جهة الشرع لا من جهة اللغة، خلافًا للحنفية القائلين بانعقاد الصلاة بمرادف تكبيرة الإحرام ولو من الفارسية.
__________
(1) الأصل: والتداول، وهو خطأ.
(2) انظر شرح ابن الأنباري: (ص/ 343).
(3) ط: بمعنى الآخر لاتحاد معناهما.
(4) في “المحصول”: (1/ 95).

(1/119)


قال في “نشر البنود” (1): فإن قلت: كيف يتصور نفي وقوع كلٍّ من الرديفين مكان الآخر لأنه حينئذٍ يتعذر التكلم بمعنى له لفظان، فإنه إذا عبر بأحدهما فقد عبر بالرديف مكان رديفه؟
قلت -واللَّه تعالى أعلم-: إن ذلك يظهر في معنى لغتين: قيسية وتميمية -مثلًا- فالتميمي لا يتكلم بالقيسية كالعكس، لأن العربي لا ينطق بغير لغته، والتميمية والقيسية لغة واحدة بالنسبة للعجمية، وكذا الشامي -مثلًا- لا يأتي بلفظ مصري كعكسه. انتهى منه بلفظه.

191 – دخولُ مَنْ عَجَز في الإحرامِ … بما به الدخولُ في الإسلام
192 – أو نيةٍ أو باللّسان يقتدي … والخُلْف في التركيب لا في المُفْرَد
قوله: “دخول” مبتدأ خبره جملة “يقتدي” [ي] يتبع هذه المسألة أي ينبني عليها، والمعنى: دخول من عجز. . . إلخ ينبني الخلاف فيه على الخلاف في هذه المسألة. وقوله: “أو نية” بالخفض عَطْفًا على الموصول المجرور بما، والمعنى: أن من عَجَز عن النطق بتكبيرة الإحرام لعجميته -إذا قلنا بعدم تعاور الرديفين- يدخل في الصلاة بالنية؛ لأن الرديف هنا لا يقوم مقام رديفه على هذا القول، وعلى القول بتعاور الرديفين يدخل في الصلاة بمرادف تكبيرة الإحرام بلغته، أو يدخل فيها باللفظ الذي يدخل به في الإسلام لأن يؤدي معنى “اللَّه أكبر”.
وقول المؤلف: “أو باللسان” يعني لسان العجمي. وقوله:
__________
(1) (1/ 116).

(1/120)


“والخُلْف في التركيب” إلخ يعني أن الخُلْف في تعاور الرديفين في حالة التركيب فقط دون الإفراد قاله البيضاوي (1)، خلافًا (2) للفخر الرازي (3)، فعلى قول البيضاوي يجوز تعاور الرديفين في تعديد الأشياء من غير حكم عليها.

193 – إبدال قرآنٍ بالأعجميِّ … جَوازُه ليسَ بمذْهَبيِّ
يعني أن إبدال ألفاظ القرآن بمرادفها من العجمية في القراءة في الصلاة -مثلًا- لا يجوز في مذهب المؤلف يعني مذهب مالك، وعزا المؤلف في “الشرح” (4) جوازه لأبي حنيفة وقال: وخالفه صاحباه (5).
* * *
__________
(1) لم يصرح به في المنهاج لكن ذكرها الشراح.
(2) الأصل: خلاف.
(3) في “المحصول”: (1/ 95).
(4) (1/ 117).
(5) انظر “بدائع الصنائع”: (1/ 112)، و”رؤوس المسائل”: (ص/ 157) للزمخشري.

(1/121)


المشْترك
الاشتراك هو أن يتحد اللفظ ويتعدد معناه الحقيقي، كالعين للباصرة والجارية.
194 – في رأي الأكثرِ وقوعُ المشترَكْ … وثالثٌ للمنعِ في الوَحْي سلَكْ

يعني أن في وقوع المشترك ثلاثة أقوال:
الأول -وهو رأي الأكثر وهو الحق-: جوازه ووقوعه مطلقًا في الوحي وغيره، كقوله: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة/ 228] لأن القرء مشترك بين الطهر والحيض، وحُجَّة هذا القول مشاهدة الوقوع.
القول الثاني: منع وقوع المشترك مطلقًا في الوحي وغيره، وحجة القائل به أن الاشتراك يخل بفهم المراد من اللفظ لاحتماله لكل من معْنيَيْ المشترك.
وأُجِيْب بأنه يتعين أحد معنيَيْه بقرينة، وإن لم توجد قرينة حمل على معنَيَيْهِ.
القول الثالث: منعه في الوحي دون غيره، وحجة القائل به أنه لو وقع في الوحي لوقع إما مبينًا فيطول بلا فائدة، أو غير مبين فلا يفيد لعدم فهم المراد منه، والوحي ينزَّه عن ذلك.
وأجيب بأمرين:
الأول: أنّا لا نسلم لزوم الطول، فقولك -مثلًا-: “شربت من العين” لا طول فيه مع أنه قرينة تبين أن المقصود الجارية لا الباصرة.

(1/122)


الثاني: أنا لو سلمنا جدليًّا أنه يطول فلا نسلم كون الطول بلا فائدة؛ لأن التفصيل بعد الإجمال من مقاصد اللغة العربية، ففيه فائدة لم تكن في غيره لأنه أوقع في الذهن، لأن الإجمال يستدعي تشوّفًا (1) إلى التفصيل، فإذا جاء التفصيل صادف محله للتسوُّف إليه.

195 – إطلاقَة في مَعْنَيَيْه مثلا … مجازًا أو ضدًّا أجازَ النُّبلا
يعني أن النبلاء -أي الأذكياءَ- من الأصوليين أجازوا إطلاق المشترك على معنييه في وقت واحد من متكلم واحد. وقول المؤلف: “مثلا” يعني أو معانيه إذا كان مشتركًا بين أكثر من اثنين كقولك: “عندي عين” وتعني الباصرة والجارية والذهب. وقوله: “مجازًا أو ضدًّا” يعني أن المشترك إذا أُطلق على مَعْنييه أو معانيه قيل: إنه يكون مجازًا لأن اللفظ لم يوضع لمعنيين أو معان وإنما وضع لكل واحد بانفراده، وكونه مجازًا قول أكثر المالكية. وقيل: يُطلق على معنييه أو معانيه حقيقةً وهو قول الباقلاني والشافعيّ والمعتزلة، وهو مراد المؤلف بقوله: “أو ضدًّا”، يعني ضد المجاز وهو الحقيقة، ومحل القول بإطلاقه على معنييه أو معانيه إن أمكن ذلك بأن يكون لا منافاة بين المعنيين أو المعاني أو تكون بينهما منافاة ولكنها من غير الوجه الذي حصل فيه الإطلاق، فالأسود والأبيض -مثلًا- متنافيان في ذاتَيْهما، والجَون مشترك بينهما، فيجوز على هذا القول أن تقول: “ملبوسي الجَون” وتعني الأسود والأبيض؛
__________
(1) ط: تشوقًا بالقاف، وكذا ما بعدها.

(1/123)


لأنك لابس لكل منهما، ومن هذا الوجه لا منافاة لجواز جمعك بين لُبْس الأبيض والأسود. وتقول: “أقرأت المرأة” بمعنى حاضت وطهرت. وقوله: “إطلاقَه” مفعولٌ مقدَّم على فعله الذي هو “أجاز” و”النُّبَلا” مقصور للوزن.

196 – إن يخْلُ من قرينةٍ فمجمَلُ … وبعضُهم على الجَميع يحمِلُ
يعني أن المشترك إذا تجرد من القرائن الدالة على تعيين أحد معنييه أو معانيه أو على تعميمه لجميع معانيه يُحْكم عليه بأنه مجمل أي غير متضح المعنى كما يأتي للمؤلف، وبعض العلماء يحمله على معنييه أو معانيه كما هو مذهب الشافعي قائلًا بظهوره في ذلك عند التجريد من القرائن.

197 – وقيلَ لم يُجِزْه نهجُ العُرْبِ … وقيل بالمنع لضدِّ السَّلْبِ
يعني أن بعض العلماء قال بأن إطلاق المشترك على معنَيَيْه أو معانيه لا يجوز لغة لا حقيقة ولا مجازًا، ولكن يجوز عقلًا؛ لأن العرب لم تستعمله إلا في كلِّ واحد من معانيه بانفراده لا في مجموعها، وهذا قول الغزالي، وأبي الحسين البصري المعتزلي، والبيانيين وغيرهم.
وقوله: “وقيل بالمنع” إلخ يعني أن بعضهم قال: لا يجوز إطلاق المشترك على معنييه في الإثبات وهو مراده بضد السلب، لأن السلب النفي وضده الإثبات، وهذا القول يقول صاحبه: إن ذلك يجوز في النفي ومثله النهي فتقول مثلًا: “لا قُرْأَ لهند الحامل تعتدّ به”، وتريد أنها لا تعتدّ بحيض ولا طهر لأنها تعتدُّ بوضع حملها، ومثله النهي فتقول: “لا تعتدِ على عينٍ لزيد” وتعني الباصرة والجارية والذهب، لأن النكرة

(1/124)


في سياق النفي تعم بخلاف الإثبات. ويدخل في الإثبات الأمر، وإذا كان المعنيان لا يمكن الجمع بينهما امتنع حمل المشترك عليهما قولًا واحدًا كحمل صيغة “افعل” على طلب الفعل والتهديد.
وقوله: “لضد السلب” مقتضى كلامه أن الإثبات ضد النفي ومراده الضّدُّ اللغوي لا الاصطلاحي؛ لأن النفي والإثبات ليسا بضدَّيْن اصطلاحًا، وإنما هما في الاصطلاح نقيضان.

198 – وفي المجازَيْن أو المجازِ … وضِدّه الإطلاقُ ذو جوازِ
يعني أنه يجوز لغة إطلاق اللفظ على مجازَيْه أو على مجازه وحقيقته. فمثال إطلاقه على مجازَيْه قولك: “لا أشتري” وتريد لا أسوم، ولا يشتري لي وكيلي. ومثال إطلاقه على حقيقته ومجازه عندهم قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج/ 77] فإن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب مجاز في الندب، وهو مستعمل هنا فيهما لتناول الأمر للواجب والمندوب في قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ومحل جواز إطلاق اللفظ على مجازَيْه أن تقوم قرينة على إرادتهما، أو يكونا متساويين في الاستعمال ولا مرجح لأحدهما، فإن رجح أحدهما تعين، وأن لا يتنافيا كالتهديد والإباحة.
ومحل جواز إطلاقه على حقيقته ومجازه فيما إذا ساوى المجازُ الحقيقةَ في الشهرة، فإن لم يساوها امتنع إرادته معها، وإن حمل على حقيقته ومجازه معًا يكون مجازًا، وقيل: حقيقة ومجازًا باعتبارين، وقول المؤلف: “أو المجاز وضده”، يعني المجاز والحقيقة، أي حمل اللفظ عليهما معًا.

(1/125)


فصل: الحقيقَة
هي من حق الشيء يحُق بالكسر والضم إذا ثبت ووجب، فهي فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول من حقَّقته إذا أثبته. وهي في الاصطلاح: الكلمة الثابتة في مكانها الأصليّ على الأول أو المُثبتة فيه على الثاني، والتاء في الحقيقة للنقل من الوصفية إلى الاسمية، فهي علامة للفرعية كما أن المؤنث فرع المذكر، وقيل: للتأنيث وعليه صاحب “المفتاح” (1).

199 – منها التي للشرع عَزْوها عُقِلْ … مرتَجَلٌ منها ومنها منتقِلْ

يعني أن من أقسام الحقيقة، الحقيقةُ الشرعية، وباقي الأقسام هو الحقيقة العرفية، والحقيقة اللغوية.
أما الحقيقة الشرعية: فتقريبها للذهن: أن يكون اللفظ موضوعًا وضعًا عامًّا شاملًا لجميع الأفراد الداخلة في (2) مُسَمّاهُ، فيسمِّي الشرع بعض تلك الأفراد بذلك الاسم العام، كالصوم فإنه وُضِع لكل إمساك، فمن أمسك عن الكلام فقد صام لغةً، كما قال تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم/ 26] أي إمساكًا عن الكلام، بدليل قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم/ 26]. ومن أمسك عن الجري فقد صام
__________
(1) وهو: يوسف بن أبي بكر بن محمد السّكّاكي الخوارزمي (ت 626). وكتابه “مفتاح العلوم” من أشهر كتب العربية الجامعة لفنونها.
(2) ط: تحت.

(1/126)


لغة، ومنه قول النابغة (1):
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة … تحت العَجاج وأخرى تعْلُك اللُّجُما
فقوله: “صيام” أي ممسكة عن الجري، وقيل: عن العلف.
ومن الصوم بمعنى الإمساك عن المشي قول امرئ القيس (2):
كأن الثريا عُلِّقت في مَصامِها … بأمْراسِ كَتَّانٍ إلى صُمِّ جندل
فقوله: “مَصامِها” يعني مكان صومها أي إمساكها عن المشي.
وقد خص الشرعُ هذه الحقيقة ببعض أفرادها وهو: إمساك البطن والفرج عن شهوتيهما بنيَّةٍ من الفجر إلى الغروب، دون غير ذلك من الأفراد التي يصْدُق عليها الصوم لغة.
وأما الحقيقة العرفية فهي أن يختصّ الاستعمال عرفًا ببعض ما دلَّ عليه اللفظ لغة، كالدابة فإنها في اللغة لكل ما دبَّ، وفي العرف تستعمل في بعض ما يدب دون بعض، فالنوع الذي تستعمل فيه من الدواب عُرْفًا هو حقيقتها العرفية.
والحقيقة اللغوية هي التي لم ينقلها عن أصلها استعمالٌ شرعي ولا عرفي.
وأما الحقيقة العقلية فلا ذِكْر لها في الأصول، وإنما تذكر في فنِّ البيان وهي: إسناد الفعل ونحوه لمن هو له في اعتقاد المتكلم، كقول الموحِّد: “أنبتَ اللَّهُ البقلَ”، وكقول الطبائعي: “أنبتَ الربيعُ البقلَ”.
__________
(1) “ديوانه”: (ص/ 240). والبيت من رواية ابن السكيت للديوان.
(2) “ديوانه”: (1/ 243).

(1/127)


وقول المؤلِّف: “منها” أي من أنواع الحقيقة: الحقيقة التي عقل عزوها للشرع فقيل لها: حقيقة شرعية.
وقول المؤلف: “مرتجل منها” إلخ، يعني أن الحقيقة الشرعية منها ما هو مرتجل، أي موضوع وضعًا مؤتنفًا من غير نقل من اللغة، ومنها ما هو منقول من اللغة، وقد قدمنا أن نقله من اللغة هو خصوصه شرعًا ببعض مدلوله اللغوي، وكون الشرعية منها مرتجل ذكره المؤلف هنا (1) تبعًا لحلولو ناقلًا عن الرَّهوني (2)، والظاهر أنه غير صحيح وأن الحقيقة الشرعية ليس فيها مرتجل ألبتة كما صرح به الشَّارِمْساحي (3) في “شرح ابن الجلاب” (4) وهو الحق خلافًا لما ذكره المؤلف، والاستقراء التام دليل على ذلك.

200 – والخُلْفُ في الجواز والوقوعِ … لها من المأثُوْر والمَسْموعِ
يعني أنهم اختلفوا في جواز وقوع الحقيقة الشرعية. والقائلون
__________
(1) “النشر”: (1/ 121).
(2) ذكره الرهوني في “شرح مختصر ابن الحاجب”: (1/ 353 – 355).
(3) هو: عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن عمر المصري الشارِمْساحي الفقيه المالكي (ت 669)، له شرح على مختصر ابن الجلاب المسمى بـ “التفريع”. انظر: “الديباج المذهب”: (ص/ 142 – 143). وشارِمْساح بلدة بمصر. انظر “معجم البلدان”: (3/ 308).
(4) ابن الجلاب هو: عبيد اللَّه بن الحسين المالكي (ت 378)، وكتابه “التفريع” مشهور وهو من أوائل المختصرات في المذهب، وعليه شروح كثيرة، طبع عن دار الغرب 1417 هـ. انظر “ترتيب المدارك”: (7/ 76)، و”الديباج”: (ص/ 146).

(1/128)


بجوازها عقلًا اختلفوا أيضًا هل واقعة أم لا؟
فالذين قالوا لا تجوز عقلًا هم المعتزلة لا غيرهم، وحُجَّتهم في منع إمكان الشرعية: أن بين اللفظ والمعنى مناسبة مانعة من نقله إلى غيره، ويلزم على هذا منع العرفية أيضًا.
والذين قالوا ليست الشرعية واقعة منهم: القاضي الباقلاني، وابن القشيري، وبعض الحنابلة والشافعية زاعمين أن اللفظ مستعمل في معناه اللغوي، والشرع زاد شروطًا زائدة على اللغوي، فلفظ الصلاة -مثلًا- على هذا القول مستعمل في الشرع في معناه اللغويّ وهو الدعاء بخير، لكن اشترط الشرع في الاعتداد به أمورًا زائدة كالركوع والسجود. وردَّ هذا القول إمام الحرمين في “البرهان” (1) بالإجماع على أن الركوع والسجود من الأركان التي هي من نفس (2) الصلاة لا أنها شروط؛ لأن الشرطَ خارج عن الماهية. وردَّه غيرُ إمام الحرمين بأن فيه جَعْل الأعظم شرطًا والأقل مشروطًا وهو خلاف القياس.
وفي الشرعية قولٌ آخر لم يذكره الناظم في النظم وهو: أن الحقيقة الشرعية واقعة في الفروع العملية لا في أصول الدين، فتقع في الصوم والزكاة -مثلًا- ولا تقع في الكفر والإيمان على هذا القول، والظاهر وقوعها في الكل والعلم عند اللَّه تعالى.

201 – وما أفادَ لاسمِه النبيُّ … لا الوضعُ مطلقًا هو الشرعِيُّ
__________
(1) (1/ 134).
(2) ط: تفسير!

(1/129)


يعني أن الحقيقة الشرعية هي: ما استُفِيْدت تسميتها من جهة الشرع لا من مطلق الوضع اللغوي، فالصوم -مثلًا- سُمِّي به إمساك البطن والفرج كما تقدم، وهذه التسميه غير مستفادة من مطلق الوضع، لأن الوضع لا يخص الصوم بذلك الإمساك دون غيره من سائر الإمساكات، وإنما اسْتُفيد خصوصه به وانصرافه إليه عند الإطلاق من جهة الشارع، وقد بينا معنى هذا فيما مضى.

202 – وربما أطلِقَ في المأذون … كالشُّرْبِ والعِشاءِ والعيدينِ
يعني أنه قد يطلق لفظ الشرعي على ما أَذِن فيه الشرع من واجب ومندوب ومباح، فالشرعي في البيت قبل هذا مراد به المعنى، وهذا مراد به اللفظ على سبيل الاستخدام، فالواجب كقولك: “صلاة العشاء مشروعة” أي واجبة، والمندوب كقولك: “من النوافل ما تشرع فيه الجماعة” أي تُنْدَب كالعيدين، والمباح كأنْ تقول في شُرْب الحائض والمسافر في رمضان: “هذا الشرب مشروع”.

(1/130)


المجَاز

هو في اللغة مكان الجواز، وفي الاصطلاح هو: اللفظ المستعمل في غير ما وُضع له لعلاقة بينهما مع قرينة صارفة عن قصد المعنى الأصلي. وهذا تعريف المجاز المفرد لأنه هو المقصود عند الأصوليين، أما المجاز المركب، والمجاز العقلي فليس لهما ذِكر في الأصول، وإنما يُذكران في فنِّ البيان.
203 – ومنه جائزٌ وما قد مَنَعوا … وكلُّ واحدٍ عليه أجمعوا
يعني أن من المجاز ما هو جائز بالإجماع، ومنه ما هو ممنوع بالإجماع، وقد قدَّمنا قسمًا مُخْتَلَفًا فيه، وهو: الجمع بين حقيقتين أو مجازين، أو حقيقة ومجاز، فتحصَّل أنه باعتبار المنع والجواز ثلاثة أقسام: قسم جائز، وقسم ممنوع، وقسم مختَلَف فيه، وأشار إلى القسم الجائز بقوله:

204 – ماذا اتحادٍ فيه جاء المَحْمَلُ … ولِلْعلاقةِ ظهورٌ أوّلُ
قوله: “ما” مبتدأ، وخبره “أول”، يعنى أن أول القسمين المذكورين وهو: الجائز اتفاقًا هو: ما كان له محمل واحد وكانت علاقته ظاهرة بينة، كقولك: “رأيت أسدًا يرمي”، فمحمل هذا الكلام واحد إذ لا يحتمل غير الرجل الشجاع، والعلاقة بين الأسد والرجل ظاهرة وهي الشجاعة. وقول المؤلف: “ذا” حال من المحمل، أي ما جاء فيه المحمل حال كونه “ذا اتحاد” أي متحدًا، واحترز باتحاد المحمل من

(1/131)


الحقيقة والمجاز والحقيقتين والمجازَيْن، لأن المحمل متعدد في كلها، وقوله: “المَحْمَل” بفتح الميمين وهو المعنى الذي يُحمل عليه اللفظ.
وظاهر المؤلف أن مثل هذا المجاز مُجمع عليه، وليس كذلك، لأن قومًا منهم الفارسي، وأبو إسحاق الإسفراييني أنكروا المجاز في اللغة من أصله، وقالوا: إن ما يسميه القائلون بالمجاز مجازًا ليس بمجاز، وإنما هو أسلوب من أساليب اللغة العربية، ونفاه قوم في خصوص القرآن، منهم ابن خُويز منداد من المالكية، وابن القاصّ من الشافعية، ومَنَعه الظاهرية في الكتاب والسنة معًا (1).
قال مقيده عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي عدم جواز إطلاقه في القرآن، لأن المجاز يجوز نفيه، كما يأتي للمؤلف أن من علامات الحقيقة عدم جواز النفي، فيلزم على القول بالمجاز في القرآن أن في القرآن ما يجوز نفيه وكل ما يلزم المحظور فهو محظور، والعلم عند اللَّه تعالى (2).

205 – ثانيهما ما ليسَ بالمفيدِ .. لِمَنْع الانتقال بالتعقيدِ
يعني أن ثاني القسمين وهو القسم الممنوع اتفاقًا هو ما كان غير مفيد للمقصود لما فيه من التعقيد المعنوي المانع من فهم المراد، كما لو قلت: “رأيتُ أسدًا يرمي” تريد رجلًا أبخر، فإن الأسد وإن كان أبخر، فاستعارته للرجل الأبخر بعلاقة البَخَر غيرُ متعارفة في اللِّسان العربيّ،
__________
(1) انظر “جمع الجوامع”: (1/ 308).
(2) للشيخ رسالة مفردة سماها “منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز” وهي مطبوعة، وانظر “المذكرة”: (ص/ 106 – 113).

(1/132)


وعدم تعارفها يمنع من فهم المراد، فهذا التعقيد المعنوي يمنع المجاز.
وقوله: “لمنع الانتقال” أي الانتقال من المعنى الحقيقي إلى المجازي بحيث يستعمل اللفظ الموضوع للحقيقي في المجازي، وذلك المنع بسبب التعقيد المعنوي وهو عدم ظهور المعنى.

206 – وحيثُما استحال الأصل يُنتقلْ … إلى المجاز أو لأقرب حَصَلْ

يعني أنه إذا تعذَّرَت الحقيقة يجب عند المالكية الانتقال إلى المجاز إذا كان واحدًا، أو إلى أقرب المجازَيْن إن تعدَّد، ومثلوا لهذا بقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة/ 6] قالوا: حقيقةُ المأمور بمسحه جلدة الرأس ولهذه الحقيقة مجازان؛ أحدهما: أبعد وهو العمامة، والثاني: أقرب للحقيقة وهو شعر الرأس، فيجب الأقرب، فيمسح على الشعر لا على العمامة، وما ثبت عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- من مسحه على العمامة (1) حملوه على ما إذا خيف بنزعها ضرر كما قال خليل: “وعمامة خيف بنزعها ضررٌ” (2).
207 – وليس بالغالبِ في اللُّغاتِ … والخلْفُ فيهِ لابن جنِّي آتِ
يعني أن المجاز ليس بغالب في اللغات، أي المفردات والمركبات، خلافًا لابن جنِّي -بالجيم وسكون الياء، معرَّب كِنِّي بين الكاف والجيم- في قوله: إنهَ غالب في كل لغة على الحقيقة، زاعمًا أنه ما من لفظ إلا
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (274) من حديث المغيرة بن شعبة -رضي اللَّه عنه-.
(2) “مختصره”: (ص/ 20).

(1/133)


واستعماله مجازًا مقرونًا بالقرينة أكثرُ من استعماله حقيقة بالاستقراء قائلًا: أكثر كلام البلغاء تَشْبيهات واستعارات، وإسناد الأفعال إلى من لا يصح أن يكون فاعلًا كالحيوانات والدهر والأطلال ونحو ذلك، وأن عُرْف التخاطب كذلك كقولهم: سافرت إلى البلاد، ورأيت العباد، ولبست الثياب، وملكت العبيد، مع أنه لم يسافر إلى كل البلاد، ولم يَرَ كُلَّ العباد. . . إلخ (1). ولا يخفى سقوط قول ابن جِنِّي بأن الغالب في اللغات المجاز، وأنَّ ما سماه مجازًا حقائق الغوية.

208 – وبعدَ تخصيصٍ مجازٌ فَيَلي … الإضمارُ فالنقلُ على المعوَّل
209 – فالاشتراك بعدَه النسخُ جرى … لكونِه يُحتاط فيه أكثرا
يعني أن التخصيص، والمجاز، والإضمار، والنقل، والاشتراك، والنسخ، إذا تعارضت فالمقدَّم التخصحص، ثم المجاز، ثم الإضمار، ثم النقل، ثم الاشتراك، ثم النسخ على خلافٍ في بعضها سنذكره إن شاء اللَّه.
أما التخصيص فسيأتي تعريفه في قول المؤلف: “قصر الذي عم” (2) إلخ. وأما المجاز فقد تقدم الكلام عليه. وأما الإضمار فهو دلالة الاقتضاء المتقدمة في قوله: “وهو دلالة اقتضاء أن يدل” (3) إلخ. وأما النقل فهو نقل الكلمة إلى معنى آخر، والظاهر أنه نوعٌ من المجاز إذ لا يكاد يُعقل الفرق بشهما. وأما الاشتراك فقد تقدم الكلام عليه في
__________
(1) انظر “الخصائص”: (2/ 447 – فما بعدها) لابن جني.
(2) البيت رقم (382).
(3) البيت رقم (138).

(1/134)


قوله: “في رأي الأكثر وقوع المشترك” (1).
وأما النسخ فسيأتي في قوله: “رفع لحكم أو بيان الزمن” (2) إلخ.
ومثال تقديم التخصيص على المجاز -كما رجحه المؤلف وغيره- قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام/ 121] فهو مخصوص عند الجمهور بغير النَّاسِي للتسمية فتؤكل ذبيحته، وحَمَله الشافعي على المجاز وأن المراد به ما أُهِل به لغير اللَّه أو ما مات من غير تذكية، فيقدَّم التخصيص على المجاز على الراجح، ورجحانه من وجهين:
الأول: أن اللفظ يبقى في بعض الحقيقة كلفظ المشركين في: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} هو خرج أهل الذمة وبقي الحربيون وهم بعض المشركين، فعلى أنه تخصيص فهو أَقرب للحقيقة.
الثاني: إذا خرج بعضٌ بالتخصيص بقي اللفظ مستصحبًا في الباقي من غير احتياج إلى القرينة، قال القرافي (3): وهذان الوجهان لا يوجدان في غير التخصيص.
قال مُقيده عفا اللَّه عنه: هذا الوجه الأخير يدل على أن العام المخصوص حقيقة في الباقي بعد التخصيص، كما يأتي تحقيقه عند قول المؤلف: “وذاك للأصل وفرع يُنْمى” (4).
__________
(1) البيت رقم (194).
(2) البيت رقم (466).
(3) في “شرح التنقيح”: (ص/ 122).
(4) البيت رقم (389).

(1/135)


ومثال تقديم المجاز على الإضمار: قول السيد لعبده الذي هو أكبر منه سنًّا: أنت أبي، فإنه يحتمل المجاز من باب إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، أي أنت عتيق، لأن الأبُوَّة يلزمها العتق شرعًا، واللازمية والملزومية كلتاهما من علاقات المجاز المرسل كما هو مقرر في محله، ويحتمل الإضمار أي أنت مثل أبي في الشفقة والتعظيم، فيكون من التشبيه البليغ. فعلى الأول يُعتق وهو الذي رجَّحَه المؤلف، وعلى الثاني لا يعتق، ورجح بعضهم الثاني.
حُجَّة من رجح المجاز على الإضمار أن المجاز أكثر، قال القرافي (1): “والكثرة تدل على الرجحان”. وحجة من رجح الإضمار على المجاز أن قرينة الإضمار متصلة به لما قدمنا من أن قرينة الاقتضاء -الذي هو الإضمار- هي توقُّف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه، وذلك غاية الاتصال، بخلاف قرينة المجاز فإنها منفصلة خارجة عنه.
وقال بعض العلماء: هما سيَّان لاحتياج كل منهما إلى قرينة، وهو وجيه، لأن قرينة المجاز قد تكون استحالة الحقيقة، والاستحالة لا تقصر عن قرينة الاقتضاء كما هو ظاهر.
ومثال تقديم الإضمار على النقل: قول الحنفي: إن درهم الربا إذا أسقط صح العقد لأن قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة/ 275] يحتمل الإضمار أي: آخْذ الربا كما حمله عليه أبو حنيفة، فلو حذف
__________
(1) في “شرح التنقيح”: (ص/ 122).

(1/136)


درهم الربا صح العقد، ويحتمل النقل، أي نقل “الربا” -الذي هو لغةً الزيادة- إلى العقد شرعًا فيكون المعنى تحريم العقد وفساده مطلقًا ولو حُذِف الدرهم الزائد المؤدي إلى التحريم.
حجة من قال بتقديم الإضمار على النقل هي سلامة الإضمار من نسخ المعنى الأول، بخلاف النقل فإنه ينسخ المعنى الأصليَّ.
قال مقيِّدهُ عفا اللَّه عنه: ذَكَرَ هذه الحجة لتقديم الإضمار على النقل المؤلِّفُ في “الشرح” (1) تَبَعًا لغيره، ولا يخفى أن هذه الحجة تقتضي تقديم الإضمار على المجاز؛ لأن المجاز فيه نسخ المعنى الأصلي أيضًا، ولما قدمنا من أن النقل مجاز فانظره، لأن تقديم المجاز على الإضمار وتأخير النقل عنه مع أن النقل مجاز لا يخلو من إشكال.
ومثال تقديم النقل على الاشتراك: لفظ “الزكاة” إذا أريد به الجزء المخرجُ من المال، فإنه يحتمل النقل عن المعنى الأصلي الذي هو النماء، ويحتمل الاشتراك بينه وبين الجزء المخرَج فيُحْمَل على النقل لأن الاشتراك يخل بالفهم اليقينيّ.
وقول المؤلف: “بعده النسخ” إلخ، يعني أن الاشتراك مقدَّم على آخر المراتب الذي هو النسخ، لأن النسخ يُحتاط فيه أكثر لتصييره اللفظ باطلًا فتكون مقدماته أكثر. قاله في “التنقيح” (2).
ولم أر من مَثَّل لتعارض الاشتراك والنسخ، والذي يظهر لي أنه لا
__________
(1) (1/ 127).
(2) (ص/ 78 – مع الذخيرة).

(1/137)


يتأتَّى إلّا في المشتركيْن المتضادَّيْن كقوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} لأن القُرْءَ مُشْترك بين الطُّهر والحيض وهما ضدَّان، كما أن الناسخ والمنسوخ ضدان، فيُحْمَل الضدان على الاشتراك ولا يحملان على النسخ إلا بدليل على النسخ، كما يأتي للمؤلف من أن النسخ لا بد له من دليل خاص في قوله: “الإجماع والنص على النسخ” (1) إلخ.
تنبيه: هذا الذي ذكره المؤلف من تقديم التخصيص، ثم المجاز، ثم الإضمار. . . إلخ لا ينافي ترجيح المتأخر المرجوح في بعض الصور بِمُدْرَكٍ يخصُّه، كترجيح النقل على الإضمار في آية: {وَحَرَّمَ اَلرِّبَا} ونحو ذلك.
وقول المؤلف: “فيلي الإضمارُ” هو بالرفع فاعل “يلي” والمفعول محذوف أي يلي الإضمارُ المجازَ. وجَمَع بعضُهم هذه المسائل في بيتين فقال:
يُقدَّم تخصيصٌ مجازٌ ومضمَرٌ … ونَقْلٌ يليه واشتراكٌ على النسخ
وكلٌّ على ما بعدَه متقدِّمٌ … وقدَّم أضْدَادَ الجميع ذوو الرسخ
قال مقيّده عفا اللَّه عنه: قول ناظم البيتيْن: “وقدم أَضدَادَ الجميع” وجيهٌ في غير التخصيص، أما التخصيص فلا يقدَّم عليه ضده الذي هو العموم بل يقدَّم هو على العموم كما سيأتي.

210 – وحيثما قصدُ المَجاز قد غَلَبْ … تعيينُه لدى القرافي مُنْتَخَبْ
211 – ومذهبُ النعمانِ عكسُ ما مضى … والقوْلُ بالإجمال فيه مُرْتضى
__________
(1) البيت رقم (485).

(1/138)


يعني أن اللفظ إذا دار بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح بكثرة الاستعمال، كلفظ “الدابة” الذي هو حقيقة مرجوحة في كلِّ ما دب، مجاز راجح في ذوات الحافر في أكثر البلاد، وفي بعضها للحمار وفي بعضها للحيَّة، فإن في ذلك ثلاثة مذاهب:
الأول: تعيين حمل اللفظ على المجاز لرجحانه بكثرة الاستعمال، وعزاه المؤلف في “الشرح” (1) لأبي يوسف، واختاره القرافي (2)، وهو معنى قول المؤلف: “تعيينه لدى القرافي منتخب” أي مختار، ولا يُحمل على الحقيقة إلا بنيته (3) أو قرينة.
الثاني: حمله على الحقيقة لرجحانها بالأصالة، ولا يُحمل على المجاز إلا بنيته أو قرينة، وهو قول أبي حنيفة، وهو مراد المؤلف بقوله: “ومذهب النعمان عكس ما مضى”.
الثالث: وهو قول الإمام (4)، واختاره السبكي في “جمع الجوامع” (5) أن اللفظ يكون مجملًا فلا يُحمل على المجاز لرجحان الحقيقة بالأصالة، ولا على الحقيقة لرجحان المجاز بكثرة الاستعمال، فيتساوى الاحتمالان؛ لأن لكل منهما مرجِّحًا فيكون اللفظ مجملًا،
__________
(1) (1/ 128).
(2) في “التنقيح”: (ص/ 77).
(3) كذا، وط: بنية، ولعلها ببينة.
(4) أي الفخر الرازي، كما هو اصطلاح ابن السبكي في “الجمع”.
(5) (1/ 331).

(1/139)


وهو مراد المؤلف بقوله: “والقول بالإجمال فيه مرتضى”.

212 – أجْمَعَ إنْ حقيقةٌ تُماتُ … على التقدُّمِ له الأثباتُ
يعني أن الأثبات -أي العلماء- أجمعوا على تقديم المجاز على الحقيقة إن أُميتت الحقيقة أي هُجِرت بالكلية، فمن حلف: لا يأكل من هذه النخلة، حَنَث بثمرها دون خشبها الذي هو الحقيقة لأنها مُمَاتة مهجورة.
وقوله: “الأثبات” بفتح الهمزة جمع ثَبَت فاعل “أجمعَ”، و”إن” شرطية، و”حقيقة” نائب فاعل “تُمات” محذوفة دل عليها “تمات” المذكورة، لِمَا تقرَّر من أن أدوات الشرط لا تتولاها إلا الجمل الفعلية، وهو الصحيح عند النحويين خلافًا لبعضهم زاعمًا أن الشرط ربما ولي جملة اسمية، وجعل بعضُهم منه قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ} [الإسراء/ 100] الآية.

213 – وهو حقيقةٌ أو المَجازُ … وباعتبارَيْن يجي الجوازُ
يعني أن اللفظ المستعمل في معنى لا يخلو إما أن يكون حقيقة فقط، أو مجازًا فقط، كالأسد للحيوان المفترس أو للرجل الشجاع، ويجوز أن يكون حقيقة ومجازًا معًا باعتبارين كالصوم -مثلًا- فإنه حقيقة لغوية مجاز شرعيّ في كل إمساك، وحقيقة شرعية مجاز لغوي في خصوص إمساك البطن والفرج. وكالدَّابة فإنها حقيقة لغوية مجاز عرفيّ في كل ما دَبّ، حقيقة عرفية مجاز لغويّ في ذوات الحافر مثلًا، وهذا مراده بقوله: “وباعتبارين يجي الجواز”.
قال مُقَيّدهُ عفا اللَّه عنه: حَصْر المؤلف اللفظ في الحقيقة والمجاز

(1/140)


لا يستقيم إلا على القول بأن الكناية حقيقة أو أنها مجاز، وأما على القول بأنها لا حقيقة ولا مجاز، فهي واسطة يختلُّ بها الحَصْر الذي ذكره المؤلف هنا، والعلم عند اللَّه تعالى.

214 – واللفظُ محمولٌ على الشرعيّ … إن لم يكن فمطلَقُ العرفيّ
215 – فاللغوي على الجَلي. . . . … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن اللفظ يُحمل على معناه الشرعيّ إن كان من الشارع، فالصوم في كلام الشارع -مثلًا- يجب حمله على خصوص إمساك البطن والفرج، دون غيره من الإمساكات، وهذا معنى قوله: “واللفظ محمول على الشرعيّ”.
فإن لم يكن في اللفظ استعمال شرعي خاص وجب حملُه على معناه العرفيّ كما قدمنا عن أبي يوسف والقرافِيّ، كالدابة -مثلًا- فمن أوصى بدابة حُمِل على المتعارف في الدابة عند الناس، وهذا هو مراده بقوله: “إن لم يكن فمطلق العرفي” ومراده بالإطلاق في العرف يعني سواءٌ كان عرفًا عامًّا أو خاصًّا بأهل بلد، وسواءٌ كان عرفًا قوليًّا أو فعليًّا خلافًا لخليل (1) القائل بعدم اعتبار العرف الفعلي تَبَعًا للقرافي (2).
ومثال العُرْف الفعليّ: أن يكون أهل بلد لم يأكلوا قط إلا خبز البر، فَحَلَف أحدهم لا يأكل خبزًا، فأكل خبزَ شعير، فإنه يحنث عند القرافي وخليل لعدم اعتبارهما العرف الفعلي. أما العُرْف القولي فواضح.
__________
(1) كما يفهم من عبارته في “المختصر”: (ص/ 84).
(2) في “شرح التنقيح”: (ص/ 212).

(1/141)


وقوله: “فاللغوي”، يعني أنه إن لم يوجد في اللفظ اصطلاح شرعي ولا عرفيّ فإنه يجب حمله على معناه اللغويّ. وقوله: “على الجلي” أي على القول الظاهر، خلافًا لمن قدَّم اللغويّ كما تقدم عن أبي حنيفة، وخلافًا لمن يجعله مجملًا كما تقدم عن الإمام والسبكي، وخلافًا لمن لا يعتبر العرف الفِعْلِيَّ كالقرافي وخليل، وخلافًا لمن أخر الشرعي كخليل وانتصر له الرَّهوني. وتسكين “ياء” اللغوي والجلي لضرورة الوزن.

. . . . . . ولم يَجِبْ … بحثٌ عن المجازِ في الذي انتُخِبْ
يعني أنه يجوز حمل اللفظ على معناه الحقيقي قبل البحث عنه هل هو مستعمل في معناه المجازي؛ لأن الأصل عدم المجاز بلا قرينة كما يدل عليه كلام الفِهْرِيّ. وقوله: “انتُخِب” بالبناء للمفعول بمعنى اختير، ومقابله قول القرافي: إنه لا يصح التمسُّك بالحقيقة إلا بعد الفَحْص عن المجاز. وهذا الخلاف يجري في العام مع الخاص؛ هل يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصِّص أو لا؟ والحق جوازه لأن الأصل لا ينتقل عنه إلا بموجب.

216 – كذاك ما قابل ذا اعتلالِ … من التأصُّلِ والاستقلالِ
217 – ومِنْ تأسُّسٍ عمومٍ وبقا … الإفرادُ والإطلاق مما يُنْتقَى
218 – كذاك ترتيبٌ لإيجاب العمل … بما له الرجحانُ مما يُحْتَمَل
يعني أن هذه الأمور الثمانية المذكورة في هذه الأبيات الثلاثة تُقَدَّم على مقابلاتها، كما قدم الشرعي ثم العرفي.
الأول: التأصُّل، فإنه يقدم على مقابله الذي هو الزيادة، ومثاله

(1/142)


قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد] قيل: “لا” زائدة وقيل: نافية.
الثاني: الاستقلال، يقدَّم على مقابله الذي هو الإضمار، ومثاله قوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة/ 33] الآية، قال الشافعيُّ وغيرُه: يُقتلون إن قتلوا وتُقْطع أيديهم إن سرقوا، والمالكية يقولون: الأصل عدم الإضمار أي الحذف فيخير الإمام بين الأمور المذكورة، فيجوز القتل وإن لم يَقْتلوا والقَطْع وإن لم يسرقوا.
الثالث: التأسيس، يقدَّم على مقابله الذي هو التوكيد كقوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} في سورة الرحمن. وقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)} في المرسلات، فيحمل على تنوُّع الآلاء في الأول، والمكَذَّب به في الثاني فلا يتكرر.
الرابع: العموم، فإنه يقدم على مقابله الذي هو التخصيص، وقيدَّه المؤلف في “الشرح” (1) بكونه قبل البحث عن المخصص، ولا معنى له عندي، لأنه قبل العثور على المخصِّص لم يكن هناك مقابل للعموم موجودًا وبعد العثور على المخصِّص فهو مقدَّم على العامّ فاتضح أن ذكر العموم هنا فيه نظر، وكذلك ذكر الإطلاق الآتي قريبًا.
الخامس: البقاء، يقدم على مقابله الذي هو النسخ، ومثَّل له المالكية بذي الناب من السباع، وذي المخلب من الطير، دلّ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام/ 145] الآية على إباحته، وثبت
__________
(1) (1/ 131).

(1/143)


عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- النهي عنه (1)، فاختلف فيه هل النهي ناسخ للآية أم لا؟ فيكون المصدر مضافًا إلى فاعله، فيكون الحديث مثل قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة/ 3].
قال مقيّدهُ عفا اللَّه عنه: جَعْل النسخ والبقاء متقابِلَيْن فيه عندي نظر، لأن النسخ أيضًا قبل ثبوته لم يكن مقابلًا للبقاء، وبعد ثبوته فهو مقدَّم على البقاء، كما هو ظاهر (2).
* * *



__________
(1) فيما أخرجه البخاري رقم (5530)، ومسلم رقم (1932) من حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي اللَّه عنه-.
(2) هنا انقطع الشرح، وبقي من الأمور الثمانية ثلاثة، وننقل شرحها من “نشر البنود”: (1/ 131 – 132):
السادس: يقدم الإفراد على ضده الذي هو الاشتراك، فجعل النكاح مثلًا لمعنى واحد وهو الوطء، أرجح من كونه مشتركًا بينه وبين سببه الذي هو العقد.
السابع: يقدم الإطلاق على التقييد كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} فعند المالكية أن مطلق الشرك محبط، وقيده الشافعي بالموت على الكفر. وأجيب بأن الأصل عدم التقييد.
الثامن: ويقدم الترتيب على التقديم والتأخير كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} الآية، ظاهرها أن الكفارة لا تجب إلا بالظهار والعود معًا. وقيل: فيها تقديم وتأخير تقديره: والذين يظهرون من نسائهم فتحرير رقبة ثم يعودون لما قالوا قبل الظِّهار سالمين من الإثم بسبب الكفارة، وعلى هذا لا يكون العود شرطًا في كفارة الظهار وإنما قدم ما ذُكر لأجل إيجاب العمل بالراجح من محتملات اللفظ، وكون ما ذكر هو الراجح، لأنه الأصل” اهـ.

(1/144)


219 – وإن يجي الدليل للخلافِ … فقدِّمَتَه بلا خلاف (1)
يعني أن محل ترجيح المذكورات على مقابلاتها المرجوحة حيث لا دليل لخلاف الأصل يعضده “فقدِّمَنَّه” أي خلاف الأصل على الأصل “بلا خلاف”.
220 – وبالتبادر يُرَى الأصيلُ … إن لم يكُ الدليلُ لا الدخيلُ
يعني أن المعنى الأصيل وهو الحقيقة “يُرى” أي يُعرف بالتبادر إلى الفهم “إن لم يكُ الدليل” أي حيث فُقِدت القرينة فالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن من اللفظ عند عدم القرينة هو المعنى الحقيقي له. قوله: “لا الدخيل” يعني أن المعنى الدخيل وهو المجاز لا يتبادر إلى الذهن إلا بالقرينة.
221 – وعدم النفي والاطّراد … إن وُسِم اللفظُ بالانفراد
يعني أن الأصل يُعرف بعدم صحة نفيه في نفس الأمر لا لفظًا ولا لغة، وبه احترز عن قوله: ما أنت بإنسان لصحته لغة. قاله العضد. ويُعرف أيضًا بوجوب الاطراد فيما يدل عليه “إن وسم اللفظ بالانفراد” أي عُرف بعدم الترادف وإلا فلا يجب الاطراد لجواز التعبير بكل من المترادفين مكان الآخر، مع أن كلًّا منهما حقيقة فما لا يطرد أصلًا مجاز. قال المحلِّي: كما في {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي أهلها ولا يقال: واسأل البساط أي صاحبه.
222 – والضدُّ بالوقف في الاستعمال … وكون الاطلاق على المحال
__________
(1) من هنا إلى البيت رقم (381) ليس في شرح الشيخ، واستدركناه في الحاشية من شرح الولاتي: (52 – 84).

(1/145)


يعني أن ضد الحقيقة وهو المجاز يُعرف “بالوقف” أي توقف اللفظ في إطلاقه عليه واستعماله فيه على المسمى الآخر الحقيقي، وهذا هو المسمى عند أهل البديع بالمشاكلة نحو: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} فقوله: {وَمَكَرُوا} حقيقة وقوله: {وَمَكَرَ اللَّهُ} مجاز (1). وعلامة كونه مجازًا توقف صحة إطلاقه على اللَّه على تقدم {مَكَرُوا} عليه لأن إطلاق اللفظ على معناه الحقيقي لا يتوقف على شيء.
ويُعرف أيضًا المعنى المجازي بكون إطلاق اللفظ على المعنى الحقيقي إطلاقًا على المستحيل عليه ذلك الإطلاق نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أطلق سؤال القرية على معنى هو استفهامها وهو مستحيل واستحالته يعرف بها أن المراد سؤال أهلها.
223 – وواجبِ القيدِ وما قد جُمعا … فخالفَ الأصل مجازًا سُمِعا
يعني أن المعنى المجازي يُعرف بوجوب تقييد اللفظ الدال عليه كـ “جناح الذل” و”نار الحرب” الأول بمعنى لين الجانب، والثاني بمعنى شدة الحرب، فإنه التزم تقييد كل من الجناح والنار بما أضيف إليه وتلك الإضافة قرينة المجاز، والتزامها علامة تمييز المجاز عن الحقيقة.
قوله: “وما قد جُمعا” إلخ يعني أن اللفظ الذي يجمع على خلاف جمع
__________
(1) بل صفة حقيقية وردت في القرآن مقيدة، فتستعمل في موردها، ولا يصح استعمالها مطلقة. انظر: “مختصر الصواعق”: (2/ 737 – 747).

(1/146)


الحقيقة سُمِع حالَ كونه مجازًا؛ لأنَّ جمعَه على خلاف جمع الحقيقة علامة كونه مجازًا كالأمر بمعنى الفعل مجازًا يجمع على أمور بخلافه بمعنى القول حقيقة فإنه يُجمع على أوامر، وهذا مقيَّد بما عُلِم له معنى حقيقي وتُردِّد في معناه الآخر فيستدل على أنه مجاز باختلاف الجمع دفعًا للاشتراك.
المُعَرَّب
بفتح الراء المشددة أي هذا مبحثه.
224 – ما استعملت فيما له جا العرَبُ … في غير ما لغتهم مُعَرَّب
يعني أن المعرَّب هو اللفظ الذي استعملته العرب في معنى وضع له في غير لغتهم، فخرج الحقيقة والمجاز العربيتان؛ إذ كل منهما استعمل فيه اللفظ فيما وضع له في لغتهم.
225 – ما كان منه مثلُ إسماعيلِ … ويوسفٍ قد جاء في التنزيلِ
226 – إن كان منه. . . . . … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن ما كان منه أي المعرَّب علَمًا مثل إسماعيل ويوسف وإبراهيم وإسحاق ويعقوب قد جاء في التنزيل أي القرآن.

“إن كان منه” أي إن كان نحو هذا من المعرَّب بناءً على أن الأعلام من المعرب.
. . . . . . واعتقاد الأكثرِ … والشافعيِّ النفيُ للمنكر

(1/147)


يعني أن “اعتقاد الأكثر” من العلماء أي رأيهم ورأي الشافعي هو نفي وقوع المعرَّب المنكَّر في القرآن؛ إذ لو كان فيه لاشتمل على غير عربي فلا يكون كله عربيًّا وقد قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف/ 2]. وقيل: إنه فيه كـ “استبرق” فارسية للديباج الغليظ، و”قسطاس” رومية للميزان، “ومشكاة” هندية للكُوَّة التي لا تنفذ.
227 – وذاك لا يُبنى عليه فرعُ … متى أبى رجوعَ دَرٍّ ضَرْعُ
يعني أن ذكر المعرَّب في الأصول [لا يُبْنى عليه فرع] ما دام اللبن يأبى الرجوع إلى الضرع بعد الخروج منه.

(1/148)


الكناية والتعريض
أي هذا مبحثهما.
228 – مستعملٌ في لازم لما وُضِع … له وليس قصده بممتنع
يعني أن الكناية لفظ مستعمل في لازم معناه الموضوع هو له مع جواز إرادة ذلك المعنى الحقيقي.
229 – فاسم الحقيقة وضدٍّ ينسلب … . . . . . . . . . . . .
أي فعلى تفسير الكناية بما ذَكَر “ينسلب” أي ينتفي عنها اسم الحقيقة وضدها الذي هو المجاز، فلا تكون حقيقة لاستعمالها في غير ما وضعت له، ولا مجازًا لجواز إرادة المعنى الذي وضعت له.
. . . . . . . . . . . . . . . . … وقيل بل حقيقة لما يجب
230 – من كونه فيما به مُسْتعملا … . . . . . . . . . . . .
يعني أن بعضهم قال: إن الكناية حقيقة إذ اللفظ مستعمل فيما وُضِع له مرادًا به الدلالة على لازمه.
. . . . . . . . . . . . … والقول بالمجاز فيه انتقلا
231 – لأجلِ الاستعمالِ في كليهما … . . . . . . .
يعني أن القول “بالمجاز فيه” أي لفظ الكناية منتقل أي منقول عن بعض الأصوليين “لأجل استعمال اللفظ في كليهما” أي كلا المعنيين: المعنى

(1/149)


الحقيقي والمعنى اللازم له.
. . . . . . . . . . . . … والتاجُ للفرع والأصل قَسَّما
232 – مستعمل في أصله يرادُ … لازمُه منه ويُستفاد
233 – حقيقةٌ. . . . . . . . . … . . . . . . . . . . .
يعني أن تاج الدين السبكي قسم الكناية إلى الفرع أي المجاز والأصل أي الحقيقة، فاللفظ المستعمل منها “في أصله” أي في معناه الأصلي حال كونه يراد به منه لازمه حقيقة نحو: “فلان طويل النِّجاد” وهو حمائل السيف استُعْمِل في طول حمائل السيف مقصودًا به طول القامة، لكن قصد المعنى الحقيقي هنا لا ليتعلق به النفي والإثبات ويرجع إليه الصدق والكذب بل لينتقل منه إلى لازمه فيكون مناط الإثبات والنفي ومرجع الصدق والكذب، فيصح الكلام وإن لم يكن له نجادٌ قط، بل وإن استحال المعنى الحقيقي.
. . . . وحيثُ الأصلُ ما قُصِد … بل لازمٌ فذاك أوَّلًا وُجِد
أي وحيث لم يقصد المعنى الأصلي بل قصد المعنى اللازم فقط “فذاك” أي اللفظ المكنى به وُجِد من القسم الأول والذي هو المجاز.
234 – وسمِّ بالتعريض ما اسْتُعْمِل في … أصلٍ أو الفرع لتلويح يفي
235 – للغير من معونةِ السياق … وهو مركَّب لدى السُّبَّاق
أي سم بالتعريض اللفظ المستعمل في معناه الأصلي أي الحقيقي أو معناه الفرعي أي المجازي للتلويح به أي للإشارة به إلى معنى غير معناه المستعمل فيه، لا من جهة الوضع الحقيقي ولا من جهة المجازي، بل “من

(1/150)


معونة السياق” والقرائن وهذا المعنى المعرض به هو المقصود الأصلي على نحو قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه الصلاة والسلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتخذة آلهة كأنه غضب أن تُعبد الصغار معه تلويحًا للعابدين لها بأنها لا يصح أن تُعبد لما يعلمون إذا نظروا بعقولهم من عجز الكبير عن كسر الصغار فضلًا عن غيره، والإله لا يعجز عن شيء.
قوله: “وهو مركب” يعني أن لفظ التعريض لابد أن يكون مركبًا تركيبًا إسناديًّا لدى العلماء السُّبَّاق، أي الحائزين قصب السبق في الفن كابن الأثير.

(1/151)


الأمر
أي هذا مبحثه، والمرادُ به في هذه الترجمة أعم من النفسي واللفظي.
236 – هو اقتضاء فعل غير كَفِّ … دُلَّ عليه لا بنحو كُفِّي
يعني أن الأمر النفسي (1) “هو اقتضاء” أي طلب تحصيل “فعل غير كف” مدلول عليه بغير كُف ودع وذَرْ وخَلِّ واترك. فتناول الاقتضاء ما ليس بكف نحو قم، وما هو كف مدلول عليه بنحو كف بخلاف الكف المدلول عليه بصيغة “لا تفعل” فليس بأمر، ولا فرق في الاقتضاء بين الجازم وغيره. والمراد بالفعل في قوله “اقتضاء فعل” الأمر والشأن فيشمل فعل اللسان كالقول وفعل القلب كالقصد وفعل الجوارح كالضرب.
وجملة “عليه” المبني للمفعول في محل نعت لكف المجرور بغير.
237 – هذا الذي حدَّ به النفسيُّ … وما عليه دَلَّ قل لفظيُّ
يعني أن هذا التعريف الذي ذُكِر في البيت قبل هذا هو الذي حُدّ به الأمر النفسي، واللفظ الدال عليه أي على الأمر النفسي هو الأمر اللفظي فاللفظي لفظ دال على اقتضاء فعل إلخ.
__________
(1) هذا مذهب بعض المتكلمين، أما أهل السنة فالأمر عندهم في كلام اللَّه صفة ثابتة في الكتاب والسنة، وأن اللَّه متكلم كلامًا حقيقيًا متى شاء وكيف شاء يليق بجلاله وعظمته، ولا يشبه كلام خلقه.

(1/152)


238 – وليس عند جُل الأذكياء … شرطُ عُلو فيه واستعلاءِ
يعني أن الأمر لا يشترط في حده نفسيًّا كان أو لفظيًّا وجود علو ولا استعلاء، بل يصح المساوِي والأدْوَن على غير وجه الاستعلاء [من] كون الطلب بغلظة وقهر. اهـ.
239 – وخالف الباجي بشرطِ التالي … . . . . . . . . . . . .
يعني أن الباجي خالف الجمهور باشتراطه في حد الأمر القيد التالي وهو الاستعلاء.
. . . . . . . . . . . . … وشرطُ ذاك رأيُ ذي اعتزال
يعني أن اشتراط العلو في حد الأمر هو مذهب المعتزلة، فإن كان من المساوي سُمِّي التماسًا، ومن الأدْوَن سُمِّي دعاءً وسؤالًا عندهم.
240 – واعْتبِرا معًا على توهينِ … لدى القشيري وذي التلقين
يعني أن العلو والاستعلاء “اعتبرا معًا” أي اشتُرِطا جميعًا في حدِّ الأمر لدى القشيري وصاحب “التلقين” وهو القاضي عبد الوهاب. “على توهين” أي مع ضعف لقولهما. فالحاصل أربعة مذاهب في اعتبار العلو والاستعلاء في حد الأمر أصحها أنه لا يعتبر واحد منهما.
241 – الأمر في الفعل مجاز … … . . . . . . . . . . . .
يعني أن الأمر إذا استعمل في الفعل فهو مجاز نحو: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أي الفعل الذي تُقْدِم عليه، وحقيقة في القول لتبادر القول دون الفعل من لفظ

(1/153)


الأمر إلى الذهن والتبادر علامة الحقيقة.
. . . . . . . . . . . . واعتمى … تشريكَ ذَيْن فيه بعضُ العلما
يعني أن بعض العلماء اختار “تشريك ذين” أي الاقتضاء المعرف بما ذكر والفعل في الأمر فيطلق عليهما حقيقة.
242 – وافعَل لدى الأكثر للوجوب … . . . . . . . . . . . .
يعني أن صيغة “افعل” حقيقة في الوجوب عند الأكثر من المالكية وغيرهم فيُحمل عليه حتى يصرف عنه صارف.
. . . . . . . . . . . . … وقيل للندبِ أو المطلوب
أي وقيل: إن الأمر حقيقة في التدب لأنه المتيقَّن، وقيل إنه حقيقة في المطلوب أي مطلق الطلب وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب. وبه قال الماتريدي.
تنيبه: حجة من قال إن الأمر حقيقة في الوجوب قوله تعالى لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} ذمه على ترك السجود المأمور به في قوله: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} والذم لا يكون إلا في ترك واجب أو فعل محرم.
وحجة الندب أن الأمر تارةً يرد للوجوب كما في الصلوات الخمس، وتارةً للندب كما في صلاة الضحى، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل فجُعِل حقيقة في رُجحان الفعل وجواز الترك الذي هو الندب لأنه الأصل من جهة براءة الذمة. وهذا بعينه هو حجة من قال: إن الأمر حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو مطلق الطلب. قاله في شرح التنقيح.

(1/154)


243 – وقيل للوجوب أمرُ الرَّب … وأمرُ من أرسلَه للندبِ
أي وقيل: إن أمر اللَّه تعالى حقيقة في الوجوب، وأمر من أرسله اللَّه تعالى حقيقة في الندب إذا كان مُبتدأ من جهته، بخلاف الموافق لأمر اللَّه تعالى في القرآن أو المبيِّن لمجمل القرآن فهو حقيقة في الوجوب. والمبتدأ من جهته ما كان باجتهاده وإن كان بمنزلة الوحي إذ لا يقع منه خطأ أو لا يُقر عليه. قاله في “الآيات البينات”.
244 – ومُفْهِمُ الوجوب يُدْرِي الشرعُ … أو الحجا أو المفيدُ الوضعُ
يعني أنهم اختلفوا في الذي يُفهم منه دلالة الأمر على الوجوب: هل هو الشرع أو العقل أو الوضع أي اللغة؟ أقوال.
حجة الأول قوله تعالى لإبليس: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} وقوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)}. ومن السنة قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة”.
وحجة الثاني: أن ما تفيده اللغة من الطلب يتعين أن يكون للوجوب لأن حمله على الندب يصيِّر المعنى افعل إن شئت، وهذا التقييد ليس مذكورًا.
وحُجة الثالث: أن أهل اللغة يحكمون باستحقاق عبد مخالف لأمر سيده العقاب.
245 – وكونه للفور أصل المذهب … وهو لدى القيد بتأخيرٍ أُبي
يعني أن كون “افعل” للفور هو أصل مذهب مالك رحمه اللَّه تعالى دل على الوجوب أو الندب على الصحيح، قال القاضي: لكن بعد سماع الخطاب وفهمه.

(1/155)


وأما اقتضاؤه الفور على القول بأنه يقتضي التكرار فحكى القاضي عبد الوهاب الاتفاق عليه كما سيأتي قوله: وهو لدى القيد إلخ. يعني أن دلالة فعل الأمر على الفور إذا قُيِّد بالتأخير نحو: “صم غدًا” ممنوعة فهذا محل وفاق، وكذا لا خلاف إذا قُيِّدت بفور نحو: “قم الآن”.
246 – وهل لدى الترك وجوبُ البدلِ … بالنصِّ أو ذاكَ بنفسِ الأولِ
أي وعلى القول بأن فعل الأمر للفور فهل إذا ترك المأمور وفعل ما أمر به بأن أخره يكون وجوب الإتيان ببدله عليه بنفس الأمر الأول وعليه الأكثر؟ أو لا يجب إلا بنص آخر غير نفس الأمر الأول؟
والبدل هو العزم على أداء الفعل في الوقت ليفارق المندوب، فهو بدل من التقديم، وقيل: بدل من نفس الفعل، وقيل: ليس ببدل وإنما شرط في جواز التأخير.
247 – وقال بالتأخير أهل المغربِ … وفي التبادُرِ حصولُ الأرَبِ
يعني أن أهل المغرب من المالكية قالوا: إن فعل الأمر للتأخير فقيل: مطلقًا وقيل: بشرط السلامة فإن مات قبل الفعل أَثِم وقيل: لا يأثم إلا إن يظن موته.
قوله: “وفي التبادر” إلخ يعني أن التبادر إلى فعل المأمور به يحصل به الأرب أي المقصود وهو امتثال أمر اللَّه تعالى ولو على القول بأنه للتأخير. وقيل: لا يحصل به وهو خلاف الإجماع.
248 – والأرجح القدر الذي يُشْتَرَكُ … فيه وقيل إنه مشتركُ
يعني أن الأرجح في الموضوع له فعل الأمر أنه القدر المشترك فيه الفور والتراخي حذرًا من الاشتراك والمجاز، والقدر المشترك هو طلب الماهية من

(1/156)


غير تعرض لوقت من فور أو تراخ.
قوله: “وقيل” إلخ يعني أنه قيل إن فعل الأمر مشترك بين الفور والتراخي أي حقيقة في كل منهما.
249 – وقيل للفور أو العزم وإنْ … تَقُل بتكرارٍ فوفقٌ قد زُكِن
يعني أنه قيل: إنه لواحد من الفور أو العزم، قال حلولو: فالعزم بدل من التقديم، وعلى القول بأنه يفيد التكرار فالاتفاق على أنه للفور “قد زُكِن” أي قد عُلِم عند الأصوليين.
250 – وهل لمرةٍ أو اطلاق جلا … أو التكرار (1) اختلافُ من خلا
يعني أن “من خلا” أي من مضى من العلماء اختلفوا في فعل الأمر هل هو موضوع للدلالة على المرَّة الواحدة وبه قال كثير من الحنفية والشافعية وهو مذهب مالك لأن المرة هي المتيقن. وقال بعضهم: إنه لمطلق الماهية لا لتكرار ولا لمرة وعليه المحققون واختاره ابن الحاجب. وقال بعضهم: إنه للتكرار واستقرأه ابن القصار من كلام مالك. حجة التكرار أنه لو لم يكن له لامتنع ورود النسخ له بعد الفعل قاله القرافي.
251 – أو التكرُّر إذا ما عُلِّقا … بالشرط أو بصفةٍ تحققا
أي وقال بعض العلماء وهو مالك وجمهور أصحابه والشافعية أن الأمر يكون للتكرار إذا عُلِّق بشرطٍ أو صفة خلافًا للحنفية وبعض المالكية، نحو قوله
__________
(1) في ط: التكرُّر.

(1/157)


تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} و {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} فتتكرر الطهارة والقطع والجَلد بتكرر الجنابة والسرقة والزنى. ولا فرق على ظاهر كلامهم بين كون الشرط والصفة علة كالأمثلة المذكورة أم لا. ومما ينبني على مسألة الخلاف في الأمر هل يفيد التكرر تعدُّدُ السبب مع اتحاد المسبب هل يتعدد بتعدد السبب أو لا كحكاية الأذان فيمن يقول بالتكرُّر مطلقًا وإن عُلِّق بشرطٍ أو صفة تعددت عنده ومن لا فلا.
252 – والأمر لا يستلزمُ القضاءَ … بل هو بالأمر الجديدِ جاءَ
يعني أن الأمر بشيء مؤقت لا يستلزم عند الجمهور القضاء له إذا لم يُفعل في وقته بل القضاء بأمر جديد. وخرج بالمؤقت المطلق وذو السبب فلا قضاء فيهما اتفاقًا. وأشار إلى تعليل ذلك بقوله:
253 – لأنه في زمن مُعينِ … يجي لما عليه من نفعٍ بُني
أي لأن الأمر بفعل في وقت معين إنما يجيء لأجل مصلحة اشتمل عليها ذلك الوقت تختص به، والقضاء بعد ذلك الوقت إنما يكون بأمر جديد يدل على مساواة الزمن الثاني للأول في المصلحة. مثال الأمر الجديد حديث “الصحيحين”: “من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها” وتقضى المتروكة عمدًا قياسًا على المنسية بالأولى. قاله في “الآيات البينات”.
254 – وخالف الرازي إذا المركب … لكل جزء حكمه ينسحب
يعني أن أبا بكر الرازي من الحنفية خالف الجمهور في أن القضاء بأمر جديد فقال: إنه بالأمر الأول نظرًا إلى أصل آخر وهو أن الأمر بالمركب

(1/158)


ينسحب حكمه على كل جزء من أجزائه، فالأمر بفعل في وقت معين إذا لم يفعل في وقته يستلزم عند جمهور الحنفية القضاء في وقت آخر؛ لأن المأمور به مركب من الفعل وكونه في الوقت، ولما تعذر أحد الجزئين وهو خصوص الوقت تعين الجزء الثاني وهو فعل المأمور به نحو: صُم يوم الخميس، مقتضاه إلزام الصوم وكونه في يوم الخميس، فإذا عجز عن الثاني لفواته بقي اقتضاء الصوم.
255 – وليس من أمر بالأمر أمر … لثالث إلا كما في ابن عمر
يعني أن من أمر شخصًا أن يأمر شخصًا ثالثًا بشيء لا يسمّى أمرًا لذلك الشخص الثالث كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر” فإنه ليس أمْرًا للصبيان إلا أن ينص الآمِر على ذلك، أو تقوم قرينة على أن الثاني مبلِّغ عن الآمر الأول، فالثالث مأمور إجماعًا كما في حديث ابن عمر الثابت في “الصحيحين” أنه طلق زوجته وهي حائض فذكره عمر للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: “مُرْه فليراجعها”. والقرينة الدالة على أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- آمر لابن عمر دخول لام الأمر في قوله: “فليراجعها” ومجيء الحديث أيضا بلفظ: “فأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يراجعها”.
256 – والأمر للصبيان نَدْبه نُمِي … لما رووه من حديث خَثْعَم
يعني أن الأمر للصبيان بالمندوبات منسوب للحديث المروي في شأن امرأة من خثعم قالت: يا رسول اللَّه ألهذا حج تشير إلى صبي في حجرها؟ قال: “نعم، ولك أجر” وليس منسوبًا لحديث: “مروهم بالصلاة لسبع”.

(1/159)


257 – تعلُّق الأمر (1) بالاختيار … جوازه رويَ باستظهار
يعني أن تعليق الأمر باختيار المأمور به نحو: افعل كذا إن شئت، فيه اختلاف بين العلماء لكن “جوازه رُوي” مع استظهار، والمستظهر له المحلِّي قال: والظاهر الجواز والتخيير قرينة على أن الطلب غير جازم، وقد روى البخاري أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “صلوا قبل المغرب لمن شاء” أي ركعتين، وقيل: لا يجوز لما بين الطلب والتخيير من التنافي.
258 – وآمِرٌ ولفظُه يعمُّ (2) هل … دَخَل قصدًا أو عن القصد اعتزل
يعني أن الآمر بكسر الميم بلفظ يعمه وغيره اختلفوا فيه هل يدخل في قصده لتناول الصيغة له -وصُحِّح ونُسِب للأكثر-؟ أو لا يدخل في قصده لبُعْد أن يريد الآمِر نفسَه -وصُحِّح أيضا ونسب للأكثرين-؟ كقول السيد لعبده: أكرم من أحسنَ إليك، وقد أحسن هو إليه، إلا أن تقوم قرينة على عدم دخوله كقوله لعبده: تصدَّق على من دخل داري، وقد دخلها هو. قال زكرياء: والقرينة على عدم دخوله أن التصدُّق تمليك وهو لا يتصور إذ المالك لا يملِّك نفسَه.
259 – أنِبْ إذا ما سِرُّ حكمٍ قد جرى … بها كسدِّ خَلَّةٍ للفقرا
يعني أن النيابة تجوز وتصح إذا حصل بها أي بالنيابة سر الحكم أي مصلحته التي شُرِع لها، سواء كان الحكم ماليًا كالزكاة فتجوز النيابة فيها
__________
(1) ط: تعليق أمرنا. . .
(2) ط: بلفظة تعتمّ. . .

(1/160)


لحصول سر الحكم الذي شُرِعت له وهو سد خلة الفقراء، أو بدنيًّا كالحج، إلا لمانع من سر الحكم بأن كان لا يحصل بالنيابة كالصلاة، لأن السر في مشروعيتها الخضوع والتذلل للَّه وذلك لا يحصل بالنيابة.
260 – والأمر ذو النفس بما تعيَّنا … ووقته مضيَّق تضمّنا
261 – نهيًا عن الموجود من أضداد … . . . . . . . . . . .
يعني أن الأمر النفسي بشيء معين ووقته مضيَّق يتضمن أي يستلزم عقلًا النهي عن الموجود من أضداده، وإليه ذهب أكثر أصحاب مالك، واحدًا كان الضدُّ كضد السكون أي التحرك، أو أكثر كضد القيام أي القعود وغيره.
. . . . . . . . . . . . … أو هو نفسُ النهي عن أندادِ
يعني أن الأمر النفسي بشيءٍ مُعين ووقته مضيق قيل: إنه هو نفس النهي عن أنداد أي أضداد ذلك الشيء، وهو قول الأشعري والقاضي وجمهور المتكلمين وفحول النظار.
و”أو” لتنويع الخلاف، فالمعنى أن ما يَصْدق عليه أنه أمر نفسي هل يصدق عليه أنه نهي عن ضده أو مستلزم له سواء كان إيجابًا أو ندبًا؟ فالنهي عن الضد في الواجب يكون على وجه التحريم وفي الندب على وجه الكراهة. وبيانُ ذلك أن الطلب واحد هو بالنسبة إلى المأمور به أمر وإلى ضده نهي، وقولنا: “بشيءٍ معين” احترازًا عن المخير فيه بين أشياء فليس الأمر فيه بالنظر إلى مصدقه نهيًا عن ضده منها ولا مستلزمًا له اتفاقًا. واحترز بقوله: “ووقته مضيق” عن الموسّع فيه فلا يُنهى عن ضده.

(1/161)


262 – وبتضمن الوجوب فرَّقا … بعضٌ وقيل لا يدلُّ مطلقا
يعني أن بعض الأصوليين فرق بين أمر الوجوب وأمر الندب فقال: يتضمن الأول النهي عن ضده بخلاف الثاني فإنه لا عَيَّنه ولا يتضمنه لأن الضد فيه لا يخرج به عن أصله من الجواز بخلاف الضد في أمر الوجوب لاقتضائه الذم على الترك.
“وقيل لا يدل مطلقًا” أي وقال الأبياري مِنَّا وإمام الحرمين والغزالي من الشافعية: إن الأمر المذكور لا يدل مطلقا على النهي عن ضده. أي: ليس هو عينه ولا يتضمنه أمر وجوب كان أو ندب ومنعوا دليل القولين الأولين.
263 – ففاعلٌ في كالصلاةِ ضدَّا … كسِرْقَةٍ على الخلافِ يُبْدى

يعني أن الخلاف في من فعل في العبادة كالصلاة ضدَّها كالسرقة هل يفسدها أم لا يبدى أي يظهر، ويُبنى على الخلاف في الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا؟ فعلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده تبطل الصلاة بالسرقة فيها، وعلى أنه ليس نهيًا عن ضده ولا يدل عليه لا تبطل الصلاة. وأَدْخَلت الكافُ مَنْ صلى بحرير أو ذهب أو نظر إلى عورةِ إمامِه فيها.
ومحل الخلاف إذا لم يدل دليل على الفساد بفعل الضد كالكلام في الصلاة عمدًا، وإلى ذلك أشار بقوله:
264 – إلا إذا النصُّ الفسادَ أبدا … مثلُ الكلامِ في الصلاةِ عَمْدا
أي فإن ورد النص على الفساد للصلاة بفعل ذلك الضد كالكلام في الصلاة عمدًا بطلت الصلاة. قوله: “الفسادَ” بالنصب مفعول مقدَّم لقوله: “أبدا”.

(1/162)


265 – والنهي فيه غابرُ الخلاف … أو أنه أمرٌ على ائتلاف
يعني أن النهي النفسي عن شيء معين تحريمًا أو كراهة فيه من الخلاف مثل ما في الأمر النفسي أي هل هو أمر بالضد أو يتضمنه أو لا عَيَّنه ولا يتضمنه، أو نَهْي التحريم يتضمنه دون نهي الكراهة؟
قوله: “أو أنه أمر على ائتلاف” يعني أن النهي يزيد على الأمر قولين: أحدهما: هو أنه أمر بالضد اتفاقًا، وهي طريقة القاضي بناءً على أن المطلوب في النهي فعل الضد، وإنما جرى القطع في جانب النهي دون جانب الأمر لأن النهي أهم لأنه من قبيل درء المفسدة بخلاف الأمر فإنه من قبيل جلب المصلحة ودرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح لأنه أهم منه. وإلى القول الثاني أشار بقوله:
266 – وقيل لا قطعًا كما في المختصرْ … وهو لدى السبكيِّ رأيٌ ما انتصرْ
أي وقيل: إن النهي عن الشيء ليس أمرًا بالضد لا على وجه المطابقة ولا التضمن اتفاقًا بناءً على أن المطلوب فيه انتفاء الفعل حكى القول ابنُ الحاجب في “مختصره” لكنه عند تاج الدين السبكيّ رأيٌ غير منصور ولا مقبول ولذلك لم يذكره في “جمع الجوامع”.
267 – الأمْران غير المتماثلَيْن … عدَّا كصُمْ نَمْ مُتغايرَيْن
يعني أن الأمر إذا تكرر والثاني غير مماثل للأول عُدَّا متغايرين تعاقبا أم لا فيُعْمَل بهما دون عطف كصُمْ نَمْ، أو به وهما غير ضدَّيْن نحو: اركعوا واسجدوا، أم تضادَّا وكانا في وقتين نحو: أكرم زيدًا وأهِنْه، فإن اتحد الزمن

(1/163)


حُمِل الكلام على التخيير ولا يحمل على النسخ.
268 – وإن تماثلا وعطفٌ قد نُفي … بلا تعاقبٍ فتأسيسٌ قُفي
يعني إذا تكرر الأمران وتماثلا من غير عطف ومن غير تعاقب بل تراخى الثاني عن الأول فكون الثاني تأسيسًا أمرٌ مَقْفوٌّ أي مُتَّبع لأنه هو الذي ذهب إليه أهل الأصول وهو الصحيح.
269 – وإن تعاقبا فذا هو الأصحْ … والضعفُ للتأكيد والوقفِ وضَحْ
أي وإن كُرِّر الأمران وتماثلا وتعاقبا نحو: صلِّ ركعتين صل ركعتين “فذا” أي التأسيس هو الأصح ويُعمل بهما كان الأمر للوجوب أو للندب، وعزاه وليُّ الدين للأكثر، لأن الأصل التأسيس لا التأكيد، وضَعْف القول بأنه للتأكيد والقول بالوقف واضح.
ومحلُّ كون التأسيس هو الراجح:
270 – ما لم يكن تأسُّسٌ ذا منع … من عادةٍ ومن حِجا وشرع
أي فإن منع من التأسيس مانع عادي نحو: اسقني الماء اسقني الماء، فإن العادة باندفاع الحاجة بمرةٍ واحدة في الأول ترجح التأكيد. أو عقلي نحو: اقتل زيدًا اقتل زيدًا، لكنَّ التأكيد هنا متعين قطعًا. أو شرعي كتكرير العتق في عبد واحد = ترجَّح التأكيد في الأولى وتعين في الأخيرتين.
ومن موانع التأسيس كون الأمر الأول مستغرقًا للجنس والثاني يتناول بعض أفراده نحو: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ومنها العهد نحو: صل الركعتين صل الركعتين، وكذا إذا دلَّت قرينة حال على التأكيد.

(1/164)


271 – وإن يكن عطف فتأسيسٌ بلا … منعٍ يُرى لديهمُ معوَّلا
يعني أن الأمر إذا كُرِّر مع العطف فالتأسيس عند عدم المانع منه يُرى عند الأصوليين معوَّلًا عليه ومعتمدًا عليه لأن العطف يقتضي المغايرة، واختاره القاضي. وقال القاضي عبد الوهاب: وهو الذي يجري على قول أصحابنا، وقيل: للتأكيد لأن الأصل براءة الذمة.
272 – والأمر للوجوب بعدَ الحظل … أو بعد سؤْلٍ قد أتى للأصل
يعني أن الأمر اللفظي حقيقة في الوجوب إذا ورد بعد الحظل لمتعلقه عند قدماء أصحاب مالك والباجي [من المتأخرين] وأصحاب الشافعي خلافًا لبعض أصحابنا وأصحاب الشافعي في أنه للإباحة، فمن استعماله في الوجوب قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. ومن استعماله في الإباحة: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}.
قوله: “أو بعد سُؤْل قد أتى للأصل” يعني أن الأمر اللفظي إذا ورد بعد سؤال فهو حقيقة في الوجوب كما يقال لمن قال: أأفعل كذا؟ افعله. ومنه في غير الوجوب حديث مسلم: أأصلي في مرابض الغنم؟ قال: “نعم” فإنه بمعنى صلِّ فيها. وقوله: “للأصل” تعليل لإتيانه للوجوب أي إنما أتى فيها ذكر للوجوب بناءً على أن الوجوب هو مسمَّى الأمر حقيقة.
273 – أو يقتضي إباحةً للأغلب … إذا تعلَّقَ بمثل السبب
يعني أن الأمر الوارد بعد الحظر يقتضي عند القاضي عبد الوهاب الإباحة “للأغلب” أي لأن الغالب في عرف الشرع استعماله فيها إذا تعلق الحظر السابق

(1/165)


عليه “بمثل السبب” أي بعلة أو شرط أو غاية وورد الأمر بعد ما زال ما عُلِّق عليه، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} فإنَّ حظر الاصطياد أي تحريمه مُعلق على علة هي الإحرام، وقد ورد الأمر بالاصطياد بعد ما زالت تلك العلة.
274 – إلا فذي المذهبُ والكثيرُ … له إلى إيجابه مصيرُ
أي وإلا يكن الحظر السابق على الأمر مُعلقًا على سبب أو شرط أو مانع بأن كان غير معلق على شيء مما ذُكِر “فذي” أي إلإباحة هي مذهب مالك وأصحابه أي هي مدلوله عندهم، والكثير من أهل الأصول لهم مصير إلى إيجابه أي إلى كونه للوجوب، فتحصل في ورود الأمر بعد الحظر ثلاثة أقوال قولان مطلقان وقول مفصل.
275 – بعد الوجوب النهيُ لامتناع … للجلِّ والبعضُ للاتِّساع
يعني أن النهي اللفظي إذا ورد بعد الوجوب فهو لامتناع أي تحريم ذلك الواجب عند جل أهل الأصول، فتقدم الوجوب ليس قرينة صارفة له عن أصل وضعه الذي هو التحريم. وقال بعض الأصوليين: إن النهي بعد الوجوب للاتساع أي الإباحة لأن النهي عن الشيء بعد وجوبه يرفع طلبه فيثبت التخيير فيه.
276 – وللكراهةِ برأيٍ بانا … وقيل للإبْقا على ما كانا

يعني أن النهي الوارد بعد الوجوب بانَ أي ظهر كونه للكراهة في رأي بعضهم، و”قيل للإبقا” أي وقال بعضهم: إن النهي بعد الوجوب للإبقاء على ما كان عليه الفعل المنهي عنه قبله من تحريم لكون الفعل مضرة أو إباحة لكونه

(1/166)


منفعة وإنما هو لإساقط الوجوب فقط ويرجع الفعل إلى ما كان عليه.
وأما النهي بعد السؤال فيُحمل على ما يُفهم من السؤال من إيجاب أو ندب أو إرشاد أو إباحة، فصما ورد منه للتحريم خبر مسلم والبخاري عن المقداد قال: أرأيتَ إن لقيتُ رجلًا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم قطعها ثم لاذَ مِنِّي بشجرة فقال: أسلمت، للَّه، أفأقتله يِا رسول اللَّه بعد أن قالها؟ قال: “لا”. ومما ورد منه للكراهة حديث مسلم: أصَلِّي في مبارك الإبل؟ قال: “لا”. وحديث أنس قال رجل: يا رسول اللَّه الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: “لا”. وحديث سعد في الوصية بجميع ماله فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا”. حَمَلَه على التحريم مَن فَهِم أن السؤال عن إباحة، ويحتمل أن يكون السؤال عن الندب.
277 – كالنسخ للوجوب عند القاضي … وجلُّنا بذاك غيرُ راض
يعني أن القاضي عبد الوهاب قال: إنه إذا نسخ وجوب الشيء يبقى على ما كان عليه قبل الوجوب من تحريم أو إباحة وصار الواجب بالنسخ كأن لم يكن، وجلنا معاشر المالكية غير راضٍ بذاك أي بما قال القاضي وفاقًا لغير المالكية.
278 – بل هو في القوي رفعُ الحرج … . . . . . . . . . . . .
“بل هو” أي نسخ الوجوب في القول القوي وهو قول الجمهور رفع الحرج عن الفاعل في الفعل والترك من الإباحة والندب عند القرافي والكراهة عند المحلي. وبيانه على ما قال في “شرح التنقيح” إن الأمر دل على جواز الإقدام والنسخ على جواز الإحجام فيحصل مجموع الجوازين من الأمر وناسخه لا من الأمر فقط ولا يرد أن نسخ استقبال بيت المقدس لم يبق معه

(1/167)


الجواز لأن اقتفاء الجواز من دليل آخر لا من مجرد النسخ.
. . . . . . . . . . . . … وللإباحة لدى بعضٍ يجي
يعني أن النسخ للوجوب يجي لدى بعض الأصوليين للإباحة بمعنى استواء الطرفين، وإنما حملوه على الإباحة لأنه بارتفاع الوجوب ينتفي الطلب فيثبت التخيير.
279 – وقيل للندب كما في مبطل … أوجبَ الانتقالَ للتنفل
وقال بعض الأصوليين: إن النسخ للوجوب للندب أي إذا نسخ الوجوب بقي الندب إذ المحقق بارتفاع الوجوب انتفاء الطلب الجازم فيثبت الطلب غير الجازم، كما في طُرُوِّ مُبطل الصلاة أوجب الانتقال من الفرض للتنفل أي السلام عن نافلة أي شفع، ووجهه أن الواجب مندوب وزيادة فإذا طرأ ما يبطله بقي المندوب فلا يبطله بالكلية.
280 – وجُوِّز التكليفُ بالمحالِ … في الكل من ثلاثةِ الأحوالِ
يعني أنه يجوز عقلًا أن يكلف اللَّه تعالى عبادَه بفعل مُحال في كل الأحوال الثلاثة أي سواء كان محالًا عادةً وعقلًا كالجمع بين السواد والبياض وهو المحال لذاته أم لغيره وهو الممتنع عادة فقط كالطيران من الإنسان أو عقلًا كالإيمان ممن علم اللَّه أنه لا يؤمن.
281 – وقيل بالمنع لما قد امتنع … لغير علم اللَّه أن ليس يقع
أي وقال بعض المعتزلة وبعض أهل السنة: إن التكليف بالمحال الذي

(1/168)


امتنع لغير تعلق علم اللَّه بعدم وقوعه ممنوع؛ لأنه لظهور امتناعه للمكلفين لا فائدة في طلبه منهم. وأُجيب بأنَّ فائدته اختبارهم هل يأخذون في المقدمات فيترتب الثواب أوْلا فيترتَّب العقاب. وأما الممتنع لتعلُّق عِلْم اللَّه بعدم وقوعه فالتكليف به جائز وواقع إجماعًا وذلك كإيمان أبي جهل.
282 – وليس واقعًا إذا استحالا … لغيرِ عِلْم ربنا تعالى
يعني أن التكليف بالمحال غير واقع في الشريعة إذا كانت استحالته لغير تعلُّق علم اللَّه تعالى بعدم وقوعه بشهادة الاستقراء وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وأما وقوع التكليف بالثاني فلأن اللَّه تعالى كلف الثقلين بالإيمان وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} فامتنع إيمان أكثرهم لعلمه تعالى بعدم وقوعه.
283 – وما وجودُ واجبٍ قد أطلقا … به وجوبُه به تحقَّقا
يعني أن الشيء الذي وجود الواجب المطلق منوط به وجوبه أي ذلك الشيء به أي بسبب وجوب الواجب المطلق قد تحقق عندنا معاشر المالكية وجمهور العلماء سببًا كان ذلك الشيء أو شرطًا إذ لو لم يجب لجاز ترك الواجب المنوط به. فاحترز بالمطلق عن الواجب المقيد وجوبه بسبب أو شرط فأسباب الوجوب وشروطه لا يجب إجماعًا تحصيلها بسبب وجوب ما توقف عليها من فعل كالنصاب يتوقف عليه وجوب الزكاة ولا يجب تحصيله.
284 – والطوقُ شرطٌ للوجوب يُعرف … إن كان بالمحال لا يُكَلَّف
يعني أن الطوق أي قدرة المكلف شرطٌ في وجوب الشيء المتوقف عليه

(1/169)


وجود الواجب المطلق بناءً على مذهب الجمهور من أن اللَّه تعالى لا يكلِّف عباده بالمحال، فإذا كان الشيء المتوقف عليه وجود الواجب المطلق غير مقدور للمكلف فإنه لا يجب بوجوبه، كتوقف فعل العبد بعد وجوبه على تعلق علم اللَّه وإرادته وقدرته بإيجاده فهذا القسم لا يوصف بالوجوب إلا على مذهب من يجوز التكليف بالمحال فلا يقيده بالقدرة. قاله حلولو. ثم مثل للشيء المقدور للمكلف المتوقف عليه وجود الواجب المطلق فقال:
285 – كعلمنا الوضوء شرطًا في أدا … فرضٍ فأمرُنا به بعدُ بَدا
يعني إذا علمنا من الشارع أن الوضوء شرط في أداء فرض الصلاة فأمرنا به أي بالوضوء أي وجوبه علينا بعد أمرنا بالصلاة أي وجوبها علينا بدا أي ظهر لأن الوضوء مقدور لنا. ولا فرق في الوجوب بين كون الشرط شرعيًّا كالوضوء أو عقليًّا كترك ضد الواجب أو عاديًّا كغسل جزء من الرأس لتحقق غسل الوجه فلا يمكن عادة غسل الوجه بدون غسل جزء من الرأس. ومنه إمْساك جزء من الليل للصائم وفيه خلاف عندنا، وهل دلالة دليل الواجب المطلق على وجوب سببه أو شرطه بالتضمن أو الالتزام أو من دليل خارجي؟ أقوال.
286 – وبعض ذي الخُلْف نفاه مطلقا … . . . . . . . . . . . .
يعني أن بعض المخالفين لمذهب مالك نفى وجوب المقدور للمكلف الذي لا يوجد الواجب المطلق إيجابه إلا به بوجوب ذلك الواجب. “مطلقًا” أي سواء كان سببًا أو شرطًا؛ لأن الدال على ذلك الواجب ساكت عنه فالأمر عندهم لا يقتضي إلا تحصيل المقصود لا الوسيلة ولم يعطوا الوسيلة حكم مقصدها.

(1/170)


. … والبعضُ ذو رأيين قد تفرَّقا
يعني أن بعض المخالفين لنا غير المطلقين ذهبوا إلى رأيين مختلفين فبعضهم قال: إنه يجب بوجوبه إن كان سببًا كإمساس النار لمحل يجب إحراقه فإنه سبب لإحراقه عادة، بخلاف الشرط كالوضوء للصلاة، والفرقُ أن السبب لاستناد المسبب إليه أشد ارتباطًا من الشرط بالمشروط لأنه يلزم من وجوده وجود المسبب بخلاف الشرط مع المشروط. وقال إمام الحرمين: يجب إن كان شرطًا شرعيًّا كالوضوء للصلاة لا عقليًّا كترك ضد الواجب أو عاديًّا كغسل جزء الرأس لغسل الوجه فلا يجب بوجوب مشروطه.
287 – وما وجوبُه به لم يَجِبِ … في رأي مالكٍ وكل مذهب
يعني أن الواجب الذي وجوبه مقيد به، أي بالشرط أو السبب، أي بوجوده كالزكاة وجوبها متوقف على ملك النصاب لم يجب بوجوب ذلك الواجب المقيد به “في رأي مالك وكل مذهب” أي فهو أمر مُجمع عليه.
288 – فما به تركُ المحرَّم يرى … وجوبَ تركه جميعُ من دَرَى
يعني أن الشيء الذي تَرْك المحرم منوط بتركه أي متوقّف عليه يَرَى “جميعُ من درى” من العلماء وجوب تركه لتوقف ترك المحرم الذي هو واجب عليه.
289 – وسوِّيَنَّ بين جهلٍ لَحِقا … بعد التعيُّن وما قد سَبقا
يعني أن الجهلَ اللاحقَ بعد التعيين كما لو طَلَّق معينةَ من زوجاته ثم نسيها، والجهلَ السابقَ على التعيين كما لو اختلطت منكوحة بأجنبية أو ميتة

(1/171)


بمذكى = سواء في وجوب ترك الجائز الذي لم يميز عن المحرم فيحرم عليه جميع زوجاته في الأولى، والمنكوحة والمذكى في الثانية لاختلاط الزوجة بالأجنبية والمذكى بالميتة وعدم تمييزهما منهما. ومثل الواجب المطلق المندوب المطلق الذي لا يوجد إلا بعد وجود مقدور للمكلف فإن ذلك المقدور يندب لندب ذلك المطلق.
290 – هل يجبُ التنجيزُ في التمكُّن … أو مطلق التمكين ذو تعيُّن
يعني أنهم اختلفوا في التمكُّن المشترط في التكليف هل يجب فيه التنجيز؟ أي أن يكون ناجزًا بناءً على أن الأمر لا يتوجه إلا عند المباشرة أو يكفي مطلق التمكن؟ أي التمكن في الجملة بناءً على أن الأمر يتوجه قبل المباشرة، وهذا هو الحق.
291 – عليه في التكليف بالشيء عُدِم … موجِبُه شرعًا خلافٌ قد عُلِم
أي ينبني على الخلاف في وجوب التنجيز في التمكن وعدم وجوبه الخلافُ في جواز التكليف عقلًا بالشيء من مشروط أو مسبب المعدوم “موجبه شرعًا” من شرط أو سبب. فمن أوجب التنجيز في التمكن منع التكليف بما ذُكِر ومن لم يوجبه فيه واكتفى بمطلق التمكن جَوَّز التكليف به.
وينبني على هذا الخلاف أيضًا الخلاف في وجوب الشرط أو السبب بوجوب الواجب المطلق، فمن أوجب التنجيز في التمكن لم يوجب الشرط أو السبب بوجوب الواجب المطلق، ومن لم يوجبه فيه أوجبه بوجوبه.
292 – فالخلْف في الصحةِ والوقوع … لأمرِ من كَفَر بالفروع

(1/172)


أي ويُبنى على الخلاف المذكور الخلاف في صحة خطاب الكفار بفروع الشريعة ووقوعه، والقولان موجودان في المذهب من غير ترجيح، ومن شيوخ المذهب من يرجح عدم وقوع خطابهم بها، والقول الأول وهو أنهم مخاطبون بها هو الذي صححه السبكي وعزاه ابن الحاجب للمحققين وحجته قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، وقوله تعالى: {يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الإسلام يجب ما قبله” لأن الجبّ هو القطع وإنما يُقْطَع ما هو متصل فلولا القطع لاستمر التكليف.
293 – ثالثها الوقوعُ في النهي يُرَد … بما افتقاره إلى القصد انْفَقَد
يعني أن ثالث الأقوال هو القول بوقوع تكليف الكافر بالنواهي دون الأوامر لإمكان امتثالها مع الكفر لأن متعلقاتها ترك ولا تتوقف على نية التقرب المتوقفة على الإيمان، لكن هذا القول “يُرَد” عند ابن رشد والفهري والأبياري بالمأمورات التي “انفقد” أي عُدِم افتقارها إلى القصد أي النية كأداء الديون ورد الودائع وكل ما لا يفتقر إلى النية ويصح مع عدم الإيمان.
294 – وقيل في المرتد. . . . . … . . . . . . . . . . . . .
أي وقال بعضهم: إن تكليف الكفار بالفروع واقع في المرتدين عملًا باستمرار تكليف الإسلام دون الكافر الأصلي وهذا هو رابع الأقوال.
. . . . . . . . . . . . . فالتعذيبُ … عليه والتيسيرُ والترغيبُ

(1/173)


أي ويُبنى على الخلاف في خطاب الكفار بالفروع الخلاف في تعذيبهم عليها وعلى الإيمان معًا في الآخرة. ويُبنى عليه أيضا تيسير الإسلام على الكافر بسبب كثرة فعله للحسنات فييسر له الإسلام. ويُبنى عليه أيضًا ترغيبهم في الإسلام إذا سمعوا أنه يهدم ما قبله من الآثام.
295 – وعلَّلَ المانعُ بالتعذُّرِ … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن المانع من تكليف الكفار بالفروع علَّلَ ذلك بتعذر الإيمان منهم لأنهم لا يطيقونه في الحال لاشتغالهم بالضلال.
(وهو) أي التعليل بالتعذر (مُشكلٌ لدى المحرِّر) أي المحقِّق وهو القرافي.
296 – في كافر آمن مطلقًا. . . . . … . . . . . . . . . . . . .
أي بظاهره وباطنه لكنه كفر بعدم التزام الفروع كأبي طالب فإنه كان يقول:
ألم تعلما أنا وجدنا محمدًا نبيًّا … كموسى خط في أول الكتب
(و) استشكله أيضًا
. . . . . . . . . . في … من كُفْره فِعلٌ كإلقا المصحف
أي في الكافر الذي كفره فعل كإلقاء المصحف في القَذَر، وإنما استشكل القرافي التعليل المذكور في هذا القسم والذي قبله لأن الإيمان

(1/174)


أو بباطنه فقط كعبد اللَّه بن أُبيّ لعنهما اللَّه.
297 – والرأيُ عندي أن يكون المُدْرَك … نفيَ قبولها فذا مُشْترك
يعني أن الرأي الأصوب عند الناظم أي يكون المدرك أي العلة في عدم خطاب الكفار بالفروع عدم قبولها منهم لكفرهم، لأن الطاعة لا تنفع مع الكفر فلا يكلفون بما لا ينفعهم، وهذا التعليل مشترك بين جميع أقسام الكفر الأربعة.
298 – تكليفُ من أحدَث بالصلاة … عليه مُجْمعٌ لدى الثقاتِ
يعني أن تكليف المحدِث بالصلاة مع تعذُّرها منه في حالة حَدَثه مُجمع عليه عند الثقات أي المجتهدين لكنه مكلف بالطهارة قبلها وهذا الإجماع حجة من لا يشترط التنجيز في التمكن ويصح عنده التكليف بالمشروط حال عدم الشرط.
299 – وربطه بالموجِبِ العقليّ … حتمٌ بِوَفْق قد أتى جلي
يعني أن ربط التكليف لكل أحد بالموجب العقلي كالحياة للعلم وكفهم الخطاب للتكليف بالعمل واجب باتفاق [جلي أي] واضح لا نزاع فيه، وكالشرط العقلي الشرط اللغوي نحو: إن دخلت المسجد فصل ركعتين. وأما الشرط العادي كغسل جزء من الرأس لغسل الوجه فليس بشرط في صحة التكليف اتفاقًا وإنما الخلاف في الشرط الشرعي كما رأيت.
300 – دخولُ ذي كراهة فيما أُمِر … به بلا قيدٍ وفصلٍ قد حُظِر
يعني أن دخول المكروه الخالي من الفصل في المأمور به إذا كان بعض

(1/175)


جزئياته والأمر غير مقيد بغير المكروه محظور أي ممنوع، والمكروه الخالي من الفصل ما كانت له جهة واحدة أو جهتان بينهما لزوم. هذا هو مذهب الجمهور خلافًا للحنفية في قولهم: إنه يتناوله. أما إن قُيد بغير المكروه فلا يدخل اتفاقًا.
301 – فنفي صحةٍ ونفي الأجر … في وقت كُرْهٍ للصلاة يجري
يعني أنه يجري على عدم دخول المكروه الخالي من الفصل في المأمور به غير المقيد بغير المكروه نفي صحة الصلاة النافلة ونفي ثبوت الأجر فيها إذا وقعت في وقت كره أي وقت تكره فيه الصلاة أي لا تصح ولا يثاب عليها.
302 – وإن يكُ الأمرُ عن النهي انفصل … فالفِعل بالصحة لا الأجرِ اتَّصل
يعني أن الأمر إذا انفصلت جهته من جهة النهي بأن تعددت جهتهما “فالفعل متصل بالصحة لا الأجر” أي موصوف بالصحة ولكن لا أجر فيه، ومعنى كونه صحيحًا أنه لا يطلب من المكلف فعله ثانيًا، كالصلاة في الدار المغصوبة إذ الصلاة والغصب يوجد كل منهما بدون الآخر، وتعدُّد الجهات كتعدد الذوات، فهي مأمور بها من جهة أنها صلاة ومنهيٌّ عنها من جهة الغصب وكل من الجهتين منفكة عن الأخرى، فلذلك ثبتت لها الصحة دون الثواب عقابًا لفاعلها.
303 – وذا إلى الجمهور ذو انتساب … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن هذا الذي ذكر من صحة الصلاة المذكورة وعدم الثواب فيها منسوب إلى الجمهور من المالكية وغيرهم.
. . . . . . . . . . . . . … وقيل بالأجر مع العقاب

(1/176)


أي وقال بعضهم بثبوت الأجر في الصلاة في المكان المغصوب من جهة أنها صلاه مأمور بها مع ثبوت العقاب لفاعلها من جهة الغصب، قال القرافي: ينبغي أن يقابل بين الثواب والإثم فإن تكافئا أو زاد الإثم بطل الثواب، وإن زاد الثواب بقي الزائد منه للمصلي.
قلت: وهذا القول هو الأحسن والأظهر عندي.
304 – وقد رُوي البطلانُ والقضاءُ … . . . . . . . . . . . . .
أي وقد روى ابن العربي عن مالك رحمه اللَّه تعالى أنها أي الصلاة في المكان المغصوب باطلة يجب قضاؤها، وهذا هو مذهب الإمام أحمد وأكثر المتكلمين.
. . . . . . . . . . . . . … وقيل ذا فقط له انتفاءُ
أي وقال بعضهم وهو القاضي والرازي: إن ذا الأخير وهو القضاء له انتفاء أي منتف عن الصلاة في المكان المغصوب، أي قالا إنها باطلة لكن لا يلزم قضاؤها.
قلت: ويمكن أن يقال أيضًا في هذه الصلاة المذكورة أي الصلاة في المكان المغصوب: إنها صحيحة مُثَاب عليها ولا عقاب معها من جهة الغصب لأن الغصب سيئة والصلاة حسنة والأصل في الشريعة محو السيئة بالحسنة لا العكس لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، وليس من شروط صحة الصلاة ولا من أركانها صحة ملك المكان الواقعة فيه، وهذا القول لم أر من صرح به من الأصوليين وأظنني لم أُسْبَق إليه وإنما استنبطته من قوله تعالى:

(1/177)


{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وذلك لأن الصلاة حسنة وشغل ملك الغير بتلك الحسنة سيئة وقد اجتمعا، وقد نصَّ اللَّه تعالى في الآية على أن الحسنة تمحو السيئة وظاهر الآية أنها تمحوها مطلقًا أي سواء اجتمعتا فى وقت واحد كما هنا أو ترتبتا بأن سبقت السيئة الحسنة في الزمن.
ثم شرع الناظم يمثل للمأمور به الذي انفردت فيه جهة النهي عن جهة الأمر فقال:
305 – مثلُ الصلاة بالحرير والذهب … . . . . . . . . . . . . .
أي فإنها مأمور بها من جهة أنها صلاة أيضًا ومنهي عنها من جهة الحرير والذهب.
. . . . . . . . . . . . . … أو في مكان الغَصْب. . . . .
أي فإنها مأمور بها من جهة أنها صلاة أيضًا ومنهي عنها من جهة الغصب.
. . . . . . . . . . . . . … . . . . . والوضو انقلب
أي وكالوضوء المقلوب أي المنكس فإنه مأمور به جهة كونه وضوءًا منهي عنه من جهة التنكيس.
306 – ومَعْطنٍ ومنهجٍ ومقبره … كنيسةٍ وذي حميمٍ مجزره
أي وكالصلاة في معاطن الإبل، والمنهج أي الطريق، والمقبرة، والكنيسة، وذي الحميم وهو الحمام، والمجزرة أي مكان الجزر، والمزبلة أي مكان طرح الزبل فإن الصلاة في هذه المواضع مأمور بها من جهة أنها صلاة

(1/178)


ومنهي عنها من جهة حيض الناقة وإمناء الجمل في الأول، وخوف النجاسة والتشويش بمرور الناس في الثاني، وخوف النجاسة فقط في الثالث والرابع والسادس والسابع، ووسوسة الشيطان في الخامس.
307 – من تاب بعد أن تعاطى السَّبَبا … فقد أتى بما عليه وجبا
يعني أن من تاب بعد تعاطيه لسبب المعصية على كماله، كالخارج من المكان المغصوب تائبًا أي نادمًا على الدخول فيه عازمًا على عدم العود إليه فقد أتى بالواجب عليه لأن فيه تقليل الضرر، بشرط الخروج بسرعة وسلوك أقرب الطرق وأقلها ضررًا، وبشرط قصد ترك الغصب سواء كانت توبته قبل وجوده مفسدة المعصية أو بعد وجودها وارتفعت بل:
308 – وإن بقي فسادُهُ كمن رجع … عن بثِّ بدعةٍ عليها يُتبع
309 – أو تاب خارجًا مكان الغصب … أو تاب بعدَ الرَّمي قبل الضرب
يعني أن التائب من المعصية بعد أن تعاطى سببها آب بالواجب عليه وإن بقي فساده، كمن تاب من بدعة بعدما بثها في الناس وقبل أخذهم بها أو بعده وقبل رجوعهم عنها، وكمن تاب من الغصب حال كونه خارجًا من مكان الغصب، وكذا من تاب بعد الرمي للقوس وقبل الضرب أي الإصابة فالتائب في هذه المسائل الثلاثة آتٍ بالواجب عليه خلافًا لأبي هاشم المعتزلي وأبيه أبي علي الجبائي في أنه آتٍ بحرام.
310 – وقال ذو البرهان إنه ارتبك … مع انقطاعِ النهي للذي سلك
أي وقال صاحب البرهان وهو إمام الحرمين: إنه أي التائب بعدما

(1/179)


تعاطى السبب على كماله كالأمثلة المذكورة مرتبك أي مشتبك في المعصية مع انقطاع تكليف النهي الذي هو إلزام الكف عن الشغل وإنما انقطع للذي سلك أي لأخذه في قطع المسافة للخروج تائبًا المأمور به. فاعتبر إمام الحرمين في الخروج جهة معصية وهي الإثم بحصول الضرر بالشغل لملك الغير بالخروج، وجهة طاعة وهي امتثال الأمر بقطع المسافة بالخروج وإن لزمت الأولى من الثانية إذ لا ينفك امتثال الأمر بالخروج عن الشغل بخروجه تائبًا.
311 – وارتكبِ الأخفَّ من ضُرَّيْن … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن ارتكاب أخفّ الضررين عند تقابلهما من أصول مذهب مالك، ومن ثَم جبر المحتكر على البيع للطعام عند احتياج الناس إليه، وجار المسجد إذا ضاق، وجار الطريق والساقية إذا أفسدهما السيل.
. . . . . . . . . . . . . … وخَيِّرن لدى استوا هذين
يعني أن المكلف مخير عند استواء الضرين المتقابلين في ارتكاب أيهما شاء وذلك:
312 – كمن على الجريح في الجرحي سقط … وضَعَّف المُكْثَ عليه من ضَبَط
أي كمن سقط على جريحٍ بين جرحى بحيث يقتله إذا بقيَ عليه، وإن انتقل عنه انتقل إلى كُفؤ مماثل له في صفات القصاص فَقَتله لعدم موضع يعتمد عليه إلا بَدَن كُفؤ، فهو مخير عند بعضهم لاستواء المقام والانتقال. وقال قوم:

(1/180)


يمكث وجوبًا لأن الضرر لا يُزال بالضرر مع أن الانتقال فعل مبتدأ بخلاف اللبث. وضَعَّف القولَ بالمكث عليه أي على الجريح المسقوط عليه أولًا من ضَبَط المسألة أي حقَّقها بأن مكثه الاختياري كانتقاله. وقال إمام الحرمين: لا حكمَ في هذه المسألة من إذن أو منع.
313 – والأخذُ بالأول لا بالآخر … مُرَجَّح في مقتضى الأوامر
يعني أن الأخذ بالمعنى الأول أي الأقل والأخف لا بالمعنى الآخر أي الأكثر والأثقل “مرجَّح في مقتضى” أي مدلول الأوامر المعلقة على معنى كلي له جزئيات متباينة في الكثرة، والمرجِّح له القاضي عبد الوهاب وما زاد على المعنى الأول ساقط أو مندوب عنده، وإلى ذلك أشار الناظم بقوله:
314 – وما سواه ساقط أو مستحب … لذاك الاطمئنانُ والدَّلْكُ انْجَلَب
يعني أن ما سوى المعنى الأول أي الزائد عليه من مقتضى الأمر إما أن يكون ساقطًا وإما أن يكون مستحبًا. قوله: “لذاك” إلخ، يعني أن ذاك الخلاف في الأخذ بمقتضى الأمر هل بأوله أو بآخره انجلب له أي انبنى عليه الاطمئنان والدَّلْك؟ فعلى ما رجَّحَه عبد الوهاب يكون الواجب أقل ما يطلق عليه اسم الطمأنينة والزائد عليه مستحب، ويكون الواجب في الدلك أقل ما يُطلق عليه اسم الدلك والزائد عليه ساقط. وعلى القول الثاني يكون الواجب فيهما أكثر ما يطلق عليه اسم الطمأنينة والدلك احتياطًا.
حجة القول المرجَّح الجمع بين دلالة الأمر على الوجوب وكون الأصل

(1/181)


براءة الذمة، وحُجة الثاني الاحتياط.
وليست القاعدة خاصة بالأمر بل هي عامة في كل لفظ له معنى كُلِّي له جزئيات متباينة في الكثرة، فتدخل فيها أيْمان الطلاق وسائر الألفاظ المحتملة، كمن حلف بالحرام وحنث هل تُحمل يمينه على أدنى ما تحتمله وهو طلقة بائنة أو على أعلاه وهو الثلاث؟ ورُجِّح القول بحَمْلِه على طلقةٍ بائنة حيث لا نية له سوى مطلق التحريم إذا لم يجر عرف باستعمال الحرام في ثلاث طلقات، وهو الذي أحْكُم به وأُفتي.
315 – وذاك في الحكم على الكُلِّيِّ … مع حُصول كثرةِ الجُزْئي
يعني أن الخلاف في الأخذ بالأخف أو الأثقل المذكور في البيتين قبل محله في الحكم على الكلي الذي له جزئيات أكثر من واحد وتلك الجزئيات متفاوتة بالشدة والخفة كما رأيت.
316 – وربما اجتماع أشياء انحظل … مما أتى الأمرُ به على البدل
317 – أو الترتُّبِ. . . . . . . . … . . . . . . . . . . . . .
أي وربما انحظل أي امتنع اجتماع شيئين أو أشياء مما أتى من المأمورات الأمر به على البدل والترتب.
الأول: كتزويج المرأة من كُفئين فإنه مأمور به على سبيل البدل بأن تزوج لأحدهما مكان الآخر ويحرم الجمع بينهما.
والثاني: كأكل المذكى والميتة فإنه مأمور به لكن على الترتيب فلا يجوز أكل الميتة إلا عند عدم المذكى في حال الضرورة ويحرم الجمع بينهما.

(1/182)


… … … … وقد يُسَنُّ … وفيه قُل إباحةٌ تعنُّ
أي وقد يُسن الجمع بين الشيئين أو الأشياء. و”تعنّ” أي تعرض فيه الإباحة أيضًا فيباح الجمع بينهما. فالأول: كستر المحرم عورته بثوبين يكفيه واحد منهما، لكن يُنْدَب له الجمع بينهما بأن يجعل أحدهما رداء والآخر أزرة. والثاني: كالجمع بين التيمم والوضوء لمن حُكْمه التيمم وتحمَّل المشقة وتوضأ بعد أن تيمم.

(1/183)


الواجب الموسع
أي هذا مبحثه.
318 – ما وقته يسعُ منه أكثرا … وهو محدودًا وغيرَه جرى
يعني أن الواجب الموسَّع هو: “ما” أي الفعل الواجب الذي يسع وقته المقدر له شرعًا أكثر منه، “وهو” أي الوقت المقدَّر له شرعًا جرى حال كونه محدودًا كأوقات الصلوات الخمس وغير محدود بل مُغَيَّى بالعمر كوقت الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والحج وقضاء الفوائت على القول بالتراخي.
319 – فجوَّزوا الأدا بلا اضطرار … في كل حصَّةٍ من المختار
أي فعلى القول بالواجب الموسع يجوز أداء الفعل الواجب المؤقت في كل حصة أي جزء من الوقت المختار المقدر له شرعًا “بلا اضطرار” دون اشتراط ضرورة إذا كانت تلك الحصة آخره ولا يشترط في جواز التأخير العزم على الفعل.
320 – وقائلٍ منا يقولُ العزمُ … على وقوع الفَرْض فيه حَتْم
يعني أن قائلًا منا معاشر المالكية وهو القاضيان عبد الوهاب والباقلاني يقولان: إن العزم على إيقاع الفعل الواجب فيه أي الوقت المختار المقدر له شرعًا حَتْم أي واجب بدلًا من التقديم مع أنه قائل أيضًا بالواجب الموسَّع، ومن المالكية من يقول بجواز التأخير لآخر المختار من غير عزم على إيقاعه فيه وهو الباجي.

(1/184)


321 – أو هو ما مكلَّفٌ يُعَيِّن … . . . . . . . . . . . . .
أي وقيل: إن وقت الأداء هو ما يُعينه المكلَّف للأداء لا تَعْيينَ له غير ذلك، نقله الباجي عن بعض المالكية.
. . . . . . . . . . . . . … وخلفُ ذي الخلافِ فيه بَيِّن
يعني أن الخلاف بين المخالفين لنا في الواجب الموسع بَيِّن أي ظاهر، وأشار إلى تفصيل ذلك:
322 – فقيل الآخر. . . . . … . . . . . . . . . . . . .
أي فقال بعضهم: وقت أداء الواجب الموسَّع الآخر أي آخر الوقت لانتفاء وجوب الفعل قبله، وهو بعض الحنفية.
. . . . . . . . . . وقيل الأول … . . . . . . . . . . . . .
أي وقال بعضهم: إن وقت أدائه أول الوقت لوجوب الفعل أو الوقت فإن أُخر عنه فقضاء وإن فُعِل في الوقت فيأثم بالتأخير عن أوله، وهذا القول لبعض الشافعية. وعلى القول بأن وقت أدائه آخر الوقت فمن عَجَّله أوله فتعجيل للواجب مُسقط له، وقيل: نَفْل ناب مناب فرض.
. . . . . . . . . . . . . … وقيل ما به الأدا يتصل
أي وقال بعضهم أيضًا: إن وقت أداء الواجب الموسع هو “ما” أي الجزء الذي يتصل به الأداء أي وقع فيه، فإن لم يقع الفعل في الوقت فوقت أدائه الجزء الآخر من الوقت لتعيينه للفعل فيه حيث لم يقع فيما قبله.

(1/185)


323 – والأمر بالواحدِ من أشياء … يوجب واحدًا على استواءِ
يعني أن الأمر بالواحد المبهم من أشياء مختلفة مُعينة يوجبُ واحدًا منها “على استواء” أي غير معين بل تلك الأشياء مستوية فيه، وذلك هو القَدْر المشترك بينها في ضمن أيِّ مُعَيَّن منها لأنه المأمور به، ولا فرق في ذلك الواحد المبهم بين المتواطئ كـ “اعتق هذا العبد وهذا العبد” والمشكَّك كما في آية كفارة اليمين فإن الواجب فيها واحد لا بعينه الإطعام والكسوة والعتق.

(1/186)


[فصل ذو الكفاية]324 – ما طلب الشارع أن يُحَصَّلا … دون اعتبارِ ذاتِ من قد فعلا
يعني أن فرض الكفاية هو: “ما” أي الفعل الذي طلب الشارع تحصيله من غير اعتبار ذات فاعله، أي من غير نظر إلى فاعله إلَّا بالتَّبَع للفعل ضرورة أنه لا يحصل دون فاعل فيشمل ما هو ديني كصلاة الجنازة وما هو دنيوي كالحرف المهمة. وخرج بقوله: “دون اعتبار ذات” فاعله ذو العين لطلب حصوله من كل عين.
325 – وهو مفضَّلٌ على ذي العين … في زعمِ الاستاذ مع الجويني
يعني أن المطلوب على وجه الكفاية مفضل على المطلوب ذي العين في زعم الأستاذ أبي إسحاق وأبي محمد الجويني وابنه إمام الحرمين أي فهو أكثر ثوابًا عندهم من العيني لأنه يُصان بقيام البعض به جميعُ المكلفين عن الإثم المرتَّب على تركهم له، والعيني إنما يُصان بالقيام به عن الإثم البعض القائم به خاصة، وعبر الناظم بالزعم تنبيهًا على ضعف هذا القول تابعًا في ذلك السبكي.
326 – مِزْه من العين بأن قد حُظِلا … تكرير مصلحته إن فُعِلا
يعني أن المطلوب على الكفاية يميز عن المطلوب من كل عين بأن الأول قد حُظِل أي مُنِع تكريرُ مصلحته إن فعل ثانيًا كإنقاذ الغريق. فإذا شيل من البحر فالنازل فيه بعد ذلك لا يحصل مصلحة بخلاف الثاني. فإنه تتكرر مصلحته بتكرره كالصلوات الخمس فلذلك شرع على الأعيان تكثيرًا للمصلحة.

(1/187)


327 – وهو على الجميع عند الأكثر … لإثمهم بالتَّرْك والتعذُّر
يعني أن ذا الكفاية فرضًا كان أو ندبًا مشروع على جميع المكلفين عند الجمهور، والحجة في ذلك إثم الجميع بتركه وتعذر خطاب المجهول، ولقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}. وأما قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ} إلخ، وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية، فإن القرافي استدل بالآيتين على أن الوجوب متعلق بالقدر المشترك لأن المطلوب فعل إحدى الطوائف ومفهوم إحداها قدر مشترك بينها لصدقه على كل طائفة منها.
328 – وفعلُ ما به يقومُ مُسْقِط … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن فعل القائم به مسقط لطلبه من الباقين على مذهب الجمهور. (وقيلَ) أي وقال بعض المخالفين للجمهور ومنهم الإمام الرازي: إن المطلوب على الكفاية (بالبعض فقط يرتَبِطُ) أي يتعلق بالبعض فقط لا بالجميع حال كون ذلك البعض:
329 – معينًا. . . . . . . . … . . . . . . . . . . . . . .
عند اللَّه، مبهمًا عندنا يَسْقط الطلب بفعله وفعل غيره كما يسقط الدين عن الشخص بأداء غيره.
. . . . . . . . . أو مبهمًا أو فاعِلًا … . . . . . . . . . . . . .
أي غير معين إذ لا دليل على تعيينه واختاره الأبياري، فمن قام به سقط

(1/188)


الطلب بفعله.
. . . . . . . . . . . . . … خلْفٌ عن المخالفين نُقِلا
يعني أن ما ذُكِر خُلْف منقول عن المخالفين للجمهور. ونقل الرهوني أن البعض المطلوب منه ذو الكفاية القوم الذين شهدوا ذلك الشيء والشهود أعم من القياس به.
330 – ما كان بالجزئي ندبُه عُلِم … فهو بالكلي كعيدٍ مُنْحتم
يعني أن ما كان مندوبًا بالنظر إلى جزئياته فهو بالنظر إلى كُلِّيه أي مُطلقه منحتم أي واجب، كصلاة العيدين وصلاة الجماعة والأذان في المساجد، فهذه الثلاثة واجبة كفاية على الجملة لأنها لو تركها أهلُ بلدٍ قوتلوا، مندوبة على الكفاية أيضًا من كل شخص في خاصَّة نفسه.
331 – وهل يعيّن شروع الفاعل … في ذي الكفاية خلافٌ منجلي
يعني أنهم اختلفوا في المطلوب على الكفاية هل يتعين بشروع فاعله فيه فيصير فرض الكفاية فرض عين ومندوب الكفاية مندوب عين أوْ لا يتعين به؟ “خلاف منجلي” أي مُتَّضِح. [قال] حلولو: والأقرب أنه لا يتعين بالشروع أي إن كان ثَمَّ من يقوم به إلا فيما قام الدليلُ على تَعَيُّنه به كصلاة الجنازة بخلاف تكفين الميت ودفنه.
332 – والخلفُ في الأجرة للتحمُّل … فرعٌ على ذاك الخلافِ قد بُلي
يعني أن الخلاف في أخذ الأجرة على التحمل للشهادة بعد الشروع فيه

(1/189)


فرع “قد بُلي” أي عُلِم بناؤه على ذاك الخلاف في تعين ذي الكفاية بالشروع، فمن قال: يتعين به منع لأن المعين لا تؤخذ عليه الأجرة، ومن قال: لا يتعين أجاز أخذَها.
333 – وغالب الظن في الإسقاط كفى … وفي التوجُّه لدى من عُرِفا
يعني أن غلبة الظن بأن المطلوب على الكفاية فُعِل أي قامَ به أحد تكفي في إسقاط الخطاب به عمن لم يفعله، وغلبةُ الظن أنه لم يقم به أحدٌ تكفي في توجُّه الخطاب عليه “لدى من عُرِفا” أي لدى أهل المعرفة بهذا الفن كالإمام الرازي والقرافي خلافًا للفهري.
ثم شرع الناظم في تعداد فروض الكفاية فحصرها بالعد بعدما حصرها مع مندوباتها بالحد فقال:
334 – فروضه القضا. . . . . . … . . . . . . . . . . . . . .
أي هو أولها وهو الإخبار بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام، وحِكْمته دفع التخاصم المفضي إلى الفساد بين المسلمين.
. . . . . . . . . . . كنهيٍ أمرِ … . . . . . . . . . . . . .
أي ثانيها وثالثها النهي عن المنكر والأمر بالمعروف حيث لم يُنَصَّب أحد لهما وإلا تعين عليه.
(ردِّ السلام) على البادي به وهذا رابعها.
(و) خامسها (جهاد الكفر) في كل سنة في أهم جهة على السلطان والناس معه.

(1/190)


335 – (فتوى) أي سادسها الفتوى أي القيام بها وهي الإخبار بالحكم الشرعي لا على سبيل الإلزام.
(و) سابعها (حفظ ما سوى المثاني) أي حفظ القرآن سوى الفاتحة فإنها فرض عين وسورة معها فإنها سنة عين.
وثامنها (زيارة الحرام ذي الأركان) أي البيت الحرام كل سنة إلا لعذر لا يستطاع معه الوصول إليه.
336 – (إمامة منه) أي من فرض الكفاية وهي نصب السلطان الأعظم ويأثم بتركها أهل الحل والعقد والصالح للقيام بها، وهذا هو تاسعها.
[وعاشرها (دفع الضرر) عن الأنفس والأموال التي لا تستحقه شرعًا كفداء الأسرى ودفع الصائل عن المصول إليه، وإطعام الجائع، وستر العورة] (1).
(و) حادي عشرتها (الاحتراف) المهم كالحراثة والتجارة فإنه معدود من فروض الكفاية.
(مع سد الثغر) عن المسلمين وهو ما يلي دار الحرب وموضع المخافة من فروج البلدان، وهذا هو الفرض الثاني عشر.
337 – والثالث عشر (حضانة) اللقيط وكذا التقاطه.
والرابع عشر (تَوَثُّق) أي كتب الوثائق.
(شهادة) أي تحملها لئلا تضيع الحقوق وهو الخامس عشر.
والسادس عشر (تجهيز ميت) أي القيام بمؤنته كدفنه وكفنه وغسله.
__________
(1) سقط من الكتاب واستدركناه من “النشر”: (1/ 192).

(1/191)


(وكذا العيادة) أي عيادة المرضى وكذا تمريضهم وهذا هو السابع عشر.
338 – والثامن عشر (ضيافة) الواردين لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة وضيافته ثلاثة وما كان بعد ذلك صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يُحرجه”.
قال مالك: الضيافة إنما تتأكد على أهل القرى والبوادي ولا ضيافة في الحضر لوجود الفنادق وغيرها لأن القرى يقل الوارد إليها فلا مشقة بخلاف الحضر.
قلت: فظاهر الحديث وكلام مالك أن الضيافة واجبة على أهل قصورنا هذه كـ “ولات” و”تشيت” لأن الحديث يعم البدوي وغيره ولأن مالكًا سوَّى بين القرى والبادية في وجوب الضيافة وقصورنا هذه قرى لا مدن. وعلَّل أيضًا مالك عدم وجوب الضيافة على أهل الحضر بوجود الفنادق أي الأسواق فيها فيتيسر شراء الطعام للوارد عليها ولا فنادق في قصورنا هذه ولا طعام يباع فيها سوى كسر المؤن والفوج وهذان لا يباعان إلا بالزرع وأكثر الواردين لا زرع عنده وهذان أيضًا لا يوجدان غالبًا إلا في وقت الضحى وأكثر الواردين لا يأتي إلا ليلًا أو آخر النهار.
والتاسع عشر (حضور من في النزع) أي من احتضره الموت.
(و) العشرين (حفظ سائر علوم الشرع) من تفسير وحديث وفقه لقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية. وكذا ما كان وسيلة لعلوم الشرع كالنحو والبيان واللغة والأصول.
تنبيه: من فروض الكفاية أكل اللحم وتشميت العاطس أي ومحل كون هذه الفروض على الكفاية إذا تعدد من يقوم به فإن انفرد كان فرض عين عليه

(1/192)


وكذلك في المندوبات.
339 – وغيره المسنون كالإمامه … والبدء بالسلام والإقامه

يعني أن غير المفروض على الكفاية المسنون على الكفاية والمراد به ما يشمل المندوب كالإمامة للصلاة والإقامة لها أيضًا، والبدء بالسلام، وكالأذان وما يفعل بالأموات من المندوبات.

(1/193)


النهي
أي هذا مبحث النهي النفسي.
340 – وهو اقتضاء الكفِّ عن الفعل ودع … وما يضاهيه كذَرْ قد امتنع
يعني أن النهي النفسي هو اقتضاء أي طلب الكف أي الترك طلبًا جازمًا عن الفعل أي الأمر فعلًا كان أو قولًا أو نية “ودع وما يضاهيه” أي وما يشابهه كذر واترك وخل قد امتنع دخوله في مدلول النهي فلا يسمى نهيًا.
341 – (وهو) أي النهي النفسي (للدوام) أي يدل عليه دلالة الالتزام للزوم الدوام لامتثال النهي (والفور) أي يدل عليه إجماعًا أو على المشهور وذلك (متى عدم تقييدٍ بضدٍّ ثَبتَا) أي ما لم يقيد بالمرة أو التراخي فإن قُيد بالمرة كانت مدلوله وضعًا، وإن قُيد بالتراخي حُمِل عليه.
342 – واللفظ للتحريم شرعًا وافترق … للكُرْه والشِّرْكة والقَدْر الفِرَق

يعني أن صيغة النهي حقيقة في التحريم شرعًا، وقيل: لغة، وقيل: عقلًا عند المالكية، وافترق الفرق المخالفة لهم، فمنهم من قال بها للكراهة حقيقة، ومنهم من قال بالشِّرْكة إنها مشتركة بين التحريم والكراهة، ومنهم من قال للقَدْر المشترك بين التحريم والكراهة وهو مطلق طلب الترك جازمًا أم لا.
343 – وهو عن فرد وعما عُدِّدا … جمعًا وفرقًا وجميعًا وُجِدا
يعني أن وُجِد عن فرد أي عن معنى واحد نحو: لا تزن، وعن جمع

(1/194)


المتعدد نحو: لا تتزوج هندًا وأختها فعليه ترك أحدهما فقط، وعن فرق المتعدد كالنهي عن التفريق بين النعلين بلبس أو نزع الثابت في “الصحيحين”. وقد يوجد عن جميع المتعدد أي عن كل فرد منه كقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} فإن “أو” بمعنى الواو أي لا تطع واحدًا منهما. قوله: “جمعًا وفرقًا وجميعًا” تمييزات محولات عن المضاف.
344 – وجاء في الصحيح للفساد … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن النهي لفظيًّا كان أو نفسيًّا، تحريمًا كان أو تنزيهًا في العبادات والمعاملات مستلزم للفساد أي فساد المنهي عنه، والمراد بالفساد هنا لازمه وهو عدم الاعتداد بالمنهي عنه إذا وقع. والمراد النهي المطلق أي غير المقيد بما يدل على الصحة، فإن قُيد بذلك فهو للصحة، وإلى ذلك أشار الناظم بقوله:
. . . . . . . . . . . . . … إن لم يجي الدليل للسداد
أي إن لم يدل دليل على السداد أي الصحة، فإن دل دليل على الصحة فهو لها كالطلاق في الحيض يترتب عليه أثره الذي هو وقوع الطلاق، وإنما كان النهي يدل على الفساد.
345 – لعدم النفع وزَيْد الخلل … . . . . . . . . . . . . .
لعدم المصلحة في النهي عنه ولزيادة الخلل أي الفساد فيه على المصلحة. والقائل بأن النهي للصحة مطلقًا هو أبو حنيفة، ومذهب مالك أنه يدل على الفساد إذا كان لأمر داخل في الذات أو خارج لازم لها مع إفادته شبهة الصحة.

(1/195)


قوله:
. . . . . . . . . . . . …. ومُلْك ما بيعَ عليه ينجلي
346 – إذا تغيَّر بسوقٍ أو بدن … أو حقُّ غيره به قد اقترن
أي ينبني على كون النهي يفيد الفساد وشبهة الصحة صحة ملك المشتري لما بيْع بيعًا حرامًا إذا تغير المبيع لتغير سوقه أو تغير بدنه بهلاك أو غيره أو اقترن به تَعلق حق غير المشتري كما إذا وهبه أو باعه أو أعتقه أو آجره فيملكه المشتري حينئذٍ بالقيمة.
347 – وبثَّ للصحة في المدارس … معلِّلًا بالنهي حِبْر فارس
يعني أن حِبْر فارس وهو أبو حنيفة بث في مجالس درسه أن النهي يقتضي الصحة، وعلَّل ذلك بالنهي أي بأن النهي عن الشيء يقتضي إمكان وجوده شرعًا وإلا امتنع النهي عنه. فعلى مذهب أبي حنيفة يترتب الملك وسائر الآثار من جواز التصرف ووطء الأمة على مجرد وقوع البيع من غير احتياج إلى موقت؟
348 – والخُلْف فيما ينتمي للشرع … وليس فيما ينتمي للطبع
يعني أن الخلاف بين القائل بأن النهي يقتضي الفساد والقائل بأنه يقتضي الصحة إنما هو في الصحة الشرعية وليس الخلاف في الصحة الطبعية أي العادية. قال القرافي: اتفق الناس على أنه ليس في الشريعة منهي عنه ولا مأمور به ولا مشروع على الإطلاق إلا وفيه الصحة العادية.
349 – الإجزاء والقبول حين نُفيا … لصحةٍ وضدها قد رُوِيا

(1/196)


أي روي عن الأصوليين قولان في نفي الإجزاء والقبول هل نفيهما يدل للصحة أو يدل لضدها الذي هو الفساد؟ حجة الأول: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من أتى عرَّافًا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا”. وقوله: “إذا أبَقَ العبد من مواليه لم تقبل له صلاة حتى يرجع إليهم” رواهما مسلم. ومعلوم أن صلاة سائل العراف والعبد الآبق صحيحة لعدم طلب فعلها منهما ثانيًا لكنها غير مقبولة أي لا ثواب فيها، وهذا بناءً على أن الإجزاء إسقاط القضاء وأنَّ نفي القبول ظاهر في عدم الثواب دون عدم الاعتداد.
وحجة القول الثاني: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن”. وقوله: “لا يقبل اللَّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ”. وهذا بناءً على أن الإجزاء الكفاية أي سقوط الطلب وأن نفي القبول ظاهر في عدم الاعتداد.

(1/197)


العام
أي هذا مبحثه.
350 – ما استغرق الصالح دَفْعةً بلا … حصر من اللفظ كعشرٍ مثلا
يعني أن العام هو اللفظ الذي يستغرق جميع المعاني الصالحة له أو الصالح هو للدلالة عليها دفعة من غير حصر. قوله: “من اللفظ” بيان لـ “ما”، والمراد بـ “الصالح” جميع الأفراد باعتبار الوضع الذي استعمل اللفظ باعتباره حقيقة كان أو مجازًا. وقوله: “بلا حصر” أي في اللفظ ودلالة العبارة فخرج ما فيه حصر كاسم العدد من جهة الآحاد فإنه يستغرقها بحصر كألف وعشر، ومثله النكرة المثناة من حيث الآحاد كرجلين. وخرج بقوله: “دَفْعة” النكرة في الإثبات فإنها تستغرق ما تصلح له لكن لا دفعة بل على سبيل البدل.
351 – وهو من عوارض المباني … وقيل للألفاظ والمعاني
يعني أن الصحيح عند السبكي أن العموم من عوارض المباني أي الألفاظ، يعني أنها توصف به فيقال: لفظ عام. وقال ابن الحاجب والعضد وغيرهما: إن العموم يكون عَرَضًا أي وصفًا للألفاظ والمعاني معًا، فكما يصدُق “لفظ عام” يصدُق “معنى عام” حقيقة ذهنيًّا كان كمعنى الإنسان أو خارجيًّا كمعنى المطر والخصب.
352 – هل نادرٌ في ذي العمومِ يدخل … ومطلقٍ أو لا خلافٌ يُنْقَل

(1/198)


يعني أنهم اختلفوا في دخول الصورة النادرة في حكم العام والمطلق، والخلاف منقول عن أهل المذهب، والنادر هو الذي لا يخطر ببال المتكلم لندرة وقوعه.
353 – فما لغير لذَّةٍ والفيلُ … ومشبِهٌ فيه تَنافى القيلُ
يعني أن القيل أي القول تنافى أي اختلف في المنيّ الخارج لغير لذة أو للذة غير معتادة، هل يلزم منه غسل أم لا؟ وفي الفيل هل تجوز المسابقة عليه أم لا؟ وفي ما يشبه ذلك، فعلى القول بدخول الصورة النادرة في حكم العام والمطلق يلزم الغسل من المنيّ ألخارج بغير لذة أو بلذة غير معتادة، وتجوز المسابقة في الفيل، لدخول الأول في عموم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنما الماء من الماء”، ودخول الثاني في إطلاق قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا سَبق إلا في خُف أو حافر” لأن الفيل من ذوات الخف. وعلى القول بعدم دخول الصورة النادرة في العام والمطلق لا يلزم الغسل من المنيّ المذكور، ولا يجوز السَّبق في الفيل بناءً على عدم دخولهما في عموم الحديثين المذكورين. وعدم لزوم الغسل من المني المذكور هو المشهور.
354 – وما من القصد خلا فيه اخْتُلِف … . . . . . . . . . . . . .

أي وقع الخلاف بين الأصوليين في غير المقصود هل يدخل في حكم العام والمطلق أم لا؟ حكى ذلك الخلاف القاضي عبد الوهاب. مثال غير المقصود: ما لو وكَّلَه على شراء عبيد فلان وفيهم من يعتق عليه، هل يصح شراؤه أم لا؟ والاختلاف في اعتبار غير المقصود مبني على الخلاف في

(1/199)


تعارض اللفظ والقَصْد هل يعتبر اللفظ أو القصد؟
. . . . . . . . . . . . . … وقد يجيءُ بالمجاز مُتَّصف
يعني أن العام قد يجيء متصفًا بالمجاز نحو: جاءني الأُسُود الرماة إلا زيدًا، خلافًا لبعض الحنفية القائل: إن المجاز لا يكون عامًّا.
355 – مدلوله كُلِّية إنْ حَكَما … عليه في التركيب من تكلَّما

يعني أن مدلول العام في التركيب أي في حال التركيب إذا حكم عليه المتكلم أي من جهة الحكم عليه “كُلية” أي الحكم على كل فرد مما يتناوله اللفظ مطابقة إثباتًا أو نفيًّا، والإثبات الخبر والأمر، والنفي يدخل فيه النهي نحو: جاء عبيدي وما خالفوا فأكرمهم ولا تهنهم، لأن الأول جمع معَرَّف بالإضافة والضمائر الباقية عائدة إليه، والعائد على العام عام، فقد اشتمل الكلام على الخبر والأمر والنفي والنهي، وحكم عاى العام بكل واحد منها في قوة قضايا بعدد أفراده، أي: جاء فلان وفلان إلخ وما خالفَ فلان وما خالف فلان إلخ، وأكرم فلانًا وأكرم فلانًا إلخ، ولا تُهِن فلانًا ولا تهن فلانًا إلى آخر الأفراد. فاحترز بقوله: “في التركيب” عن العام قبل التركيب إذ لا يتصور كونه كلية. وقوله: “إن حَكَما عليه في التركيب من تكلما” يريدا وحكم به نحو: الساكن في الدار عبيدي، والمراد بالحكم ما يشمل التعلق.
356 – وهو على فردٍ يدلُّ حتما … وفهمُ الاستغراقِ ليس جزما
يعني أن العام يدل على فرد واحد دلالة “حتمًا” أي دلالة قطعية، والمراد بالفرد الواحد ما ليس جمعًا ولا تثنية، والاثنان في التثنية والثلاثة في الجمع.

(1/200)


“وفهم الاستغراق” منه لجميع أفراده “ليس جزمًا” أي ليست دلالته على كل فرد من أفراده دلالة قطعية بل هو أمر راجح أي مظنون، لأن الألفاظ ظواهر فلا تدل على القطع إلا بالقرائن كما أنها لا تسقط دلالتها إلا بالقرائن، وهذا هو المختار عند المالكية. وهذا هو معنى قوله:
357 – بل هو عند الجُلِّ. . . . … . . . . . . . . . . . . .
أي الجمهور من المالكية وغيرهم (بالرجحان) أي الظن القوي.
. . . . . . . . . . . . . … والقطعُ فيه مذهب النعمان
يعني أن إفادة القطع أي اليقين “فيه” أي العام، أي أنه يدل على ثبوت الحكم لكل فرد مما يتناوله اللفظ دلالة قطعية، هو مذهب أبي حنيفة النعمان.
358 – ويلزمُ العمومُ في الزمان … والحالِ للأفرادِ والمكان
يعني أن العموم في الأزمان والأحوال أي الصفات والأمكنة يلزم من عموم العام لأفراده إذ لا غنى للأفراد عن هذه الثلاثة، فقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} الآية، أي كلُّ زانٍ على أي حال كان من طول وقصر وبياض وسواد وغير ذلك، وفي أي زمان كان، وفي أي مكان كان. هذا هو مذهب السبكي ووالده والسمعاني.
359 – إطلاقه في تلك للقرافي … وعمَّمَ التقيْ إذا يُنافي
يعني أن القرافي والآمدي والأصبهاني قالوا: إن العام في الأفراد مطلق في الأزمان والأمكنة والأحوال لانتفاء صيغة العموم فيها، فما خُص به العام

(1/201)


مبين للمراد بما أُطلق فيه. قوله: “وعمم التقي” إلخ، يعني أن تقي الدين ابن دقيق العيد قال بعموم الأفراد في المتعلقات: “إذا ينافي” الإطلاق أي ما يلزم عليه من الاكتفاء بالعمل بالمطلق مرة واحدة صيغة العموم، فإذا كان الإطلاق أي ما يلزم عليه منافيًا لصيغة العموم كان العام في الأفراد عامًّا في الأزمان والأمكنة والأحوال محافظةً على مقتضى صيغة العموم، لا من حيث أن المطلق يعم، فإذا قال: من دخل داري فأعطه درهمًا، فدخل قوم في أول النهار وأعطاهم لم يَجُز حرمان غيرهم ممن دخل آخر النهار لكونه مطلقًا فيما ذكر لما يلزم عليه من إخراج بعض الأشخاص بغير مخصِّص.
360 – صِيَغهُ كلُّ أو الجميعُ … وقد تلا الذي التي الفروعُ
هذا شروع منه في تعداد أدوات العموم وهي نحو عشرين، فمنها “كل” وهي أقوى صيغ العموم ولذلك قدمها. و”الجميع” ولابد من إضافة كل منهما للفظ حتى يحصل العموم فيه. ومن صِيَغه أيضًا “الذي والتي” وفروعهما نحو: أكرم الذي يأتيك والتي تأتيك، أي كل آتٍ وآتيةٍ لك، حيث لم تكن الصلة معهودة بين المتكلم والسامع وإلا فلا عموم.
361 – أينَ وحيثُما ومَن أيٌّ وما … شَرْطًا ووصْلًا وسؤالًا أفهما
يعني أن من صِيَغ العموم “أين وحيثما” المكانييم الشرطيين، نحو: أين أو حيثما كنت آتك، وتزيد أين بالاستفهام نحو: أين كنت؟ ومنها أيضًا: “من وأي وما” سواءٌ أَفْهَم كلٌّ من الثلاثة شرطًا أو موصولية أو استفهامًا.
واستشكل جعل الموصول من صيغ العموم مع أنه لابد من العهد في

(1/202)


صلته، وأجيب بأن العهد في الصلة لا يسقط عموم الموصول لأنه عام وضعًا بل يخصصه.
362 – متى وقيل لا وبعضٌ قَيَّدا … . . . . . . . . . . . . .
أي ومن صيغ العموم “متى” شرطية كانت أو استفهامية، نحو: متى تجيء، ومتى تجئني أُكْرمك، لكن العموم في “متى وأين وحيثما” إنما هو في الظرف، وأما المعلَّق عليها وهو المظروف فمطلق، فإذا قال: متى أو حيثما دخلتِ الدار فأنتِ طالق، فهو مُلتزمٌ مطلقَ الطلاق في جميع الأزمنة أو البقاع، فاذا لزمه طلقة واحدة فقد وقع ما التزمه من مطلق الطلاق، فلا تلزمه طلقة أخرى بل ينحل اليمين. وقيل: إن “متى” ليست للعموم بل بمعنى أن وإذا، وبعض الأصوليين قيد كونها للعموم بأن تكون معها “ما”.
. . . . . . . . . . . . . … وما معرَّفًا بأل قد وُجدا
363 – أو بإضافةٍ إلى المعرَّف … إذا تحقق الخصوصِ قد نُفِي
أي من صيغ العموم المعرَّف بأل أو الإضافة إلى المعرَّف إذا انتفى تحقق الخصوص أي العهد فيهما كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} و {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ} سواء كان كل منهما مفردًا أو تثنية أو جمعًا مكسَّرًا أو سالمًا.
364 – وفي سياق النفي منها يُذْكَر … إذا بُني أو زِيْد مِن مُنَكَّر
يعني أن المنكَّر في سياق النفي يذكر كونه من صيغ العموم إذا بُني المنكَّر مع “لا” التي لنفي الجنس، أو زِيْد من قبله نحو: لا رجل في الدار، وما في

(1/203)


الدار من رجل.
365 – أو كان صيغةً لها النفيُ لَزِمْ … وغيرُ ذا لدى القرافي لا يَعُمْ
يعني أن من صيغ العموم النكرة التي النفي صيغة ملازمة له كـ “أحد” بمعنى إنسان و”ديار وعريب” ونحوه. و”غير ذا” أي غير النكرة التي في سياق النفي والملازمة له لا يعم أي لا يفيد العموم، والقيد هو النكرة في سياق النفي غير المبنية ولا زائدة قبلها من نحو: لا رجلُ في الدار بالرفع.
366 – وقيل للظهور في العُموم … وهو مُفاد الوضعِ لا اللُّزوم
أي وقال السبكي فيما قال القرافي إنه لا يفيد العموم وهو النكرة الواقعة في سياق النفي غير المبنية ولا زائدة قبلها من أنها للظهور في العموم، ويحتمل الوحدة احتمالًا مرجوحًا، وهو أي عمومها مفاد منها بالوضع أي المطابقة بمعنى أن اللفظ وُضِع لسلب كل فرد من الأفراد. قوله: “لا اللزوم” أي ليس العموم مستفادًا من النكرة المذكورة باللزوم أي بالالتزام خلافًا للحنفية القائلين بأنه مستفاد باللزوم منها نظرًا إلى أن النفي أولًا للماهية ويلزم منه في كل فرد ضرورة.
367 – بالقصد خُصِّص التزامًا قد أبى … تخصيصَه إيَّاه بعض النُّجَبا
يعني أنه يجوز التخصيص بالقصد أي بالنية لما دلَّ عليه اللفظ بالالتزام أو بالتضمن فأحرى بالمطابقة باتفاق المالكية والشافعية، وقد أبى بعض النجباء التخصيص بالنية لما دل عليه اللفظ بالالتزام أو التضمن وهم الحنفية، والتقييد كالتخصيص في الصحة والمنع، ورُدَّ على الحنفية بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “وإنما لكل امرئ ما نوى” وهذا قد نوى شيئًا فيكون له.

(1/204)


368 – ونحو لا شربتُ أو إن شَرِبا … واتفقوا إن مصدَرٌ قد جُلِبا
أي ومن صيغ العموم نحو: واللَّه لا شربت أو إن شرب زيد فزوجي طالق، فيعمان جميع المشروبات، وكذا كل فعل مطلق وقع في سياق النفي لأن الفعل يدل بالتضمن على نكرة واقعة في سياق النفي. وكذا: إن أكلت فزوجي طالق فهو للمنع من جميع المأكولات عند ابن الحاجب والأبياري لأن الفعل في سياق الشرط يعم عندهما ولا فرق بين المتعدي والقاصر.
قوله: “واتفقوا” إلخ يعني أن العلماء اتفقوا على عموم الفعل المذكور إذا جلب المصدر نحو: واللَّه لا أكلت أكلًا فيخصص بالنية.
369 – ونزِّلَنَّ تركَ الاستفصال … منزلةَ العُمومِ في المقال
يعني أن ترك الشارع الاستفصال أي طلب التفصيل في حكاية الأحوال مع قيام الاحتمال يُنَزَّل منزلةَ العموم في المقال أي الأقوال، والمراد بالأحوال حال الشخص، والمراد بالحكاية التلفظ سواء كان الحاكي لها صاحبها أو غيره، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لغيلان بن سلمة وقد أسلم على عشرة نسوة: “أمسك أربعًا وفارق سائرهن”، لم يستفصِلْه عليه الصلاة والسلام هل تزوجهن معًا أو مرتبات، فلولا أن الحكم يعم الحالين لما أطلق الجواب لامتناع الإطلاق في مكان التفصيل المحتاج إليه.
370 – قيامُ الاحتمال في الأفعال … قُلْ مجمِلٌ مُسْقِطُ الاستدلال
يعني أن قيام الاحتمال المساوي في الأفعال أي في أفعال الشارع مجمل بكسر الميم أي يورث الإجمال فيها ومسقط للاستدلال بها على أحد الاحتمالات

(1/205)


المتساوية. مثال ذلك حديث: “أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جمع بالمدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر”، فإنه يحتمل أن يكون لمرض وأن يكون جمعًا صوريًّا ولا مرجح لأحد الاحتمالين فلذلك كان مجملًا لا يستدل به.
371 – وما أتي للمدحِ أو للذَّمِّ … يعمُّ عند خلِّ أهل العلم
يعني أن العام الذي سيق للمدح أو للذم أو لغرض آخر كالامتنان لا يخرجه ذلك عن عمومه عند الأكثر بل يعم عند جل أهل العلم، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}. وقيل: لا يعم لأنه سيق لقصد المبالغة في الحث أو الزجر ولهذا منع التمسك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية، في وجوب الزكاة في الحلي.
372 – وما به قد خُوطب النبيُّ … تعميمُه في المذهب السَّنِيُّ

يعني أن الخطاب الخاص بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تعميمه بأن يتناول الأمة من جهة الحكم لا من جهة اللفظ هو السَّنِيّ أي المشهور من مذهب مالك إلا ما ثبتت فيه الخاصية كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} فإنه يعم الأمة من جهة الحكم، ولذلك احتج مالك في “المدونة” على أن ردة الزوجة مزيلة للعصمة بقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}. وقد أنكرت عائشة رضي اللَّه عنها على من ذهب إلى أن نفس التخيير طلاق بقولها: خَيَّر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نساءَه فاخترته فلم يعد ذلك طِلاقًا، مع أنه ورد فيه خطاب خاص به -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ} الآيتين.
373 – وما يعمّ يشملُ الرَّسولا … وقيلَ لا ولْنَذْكر التفصيلا

(1/206)


يعني أن اللفظ العام الوارد على لسان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المتناول له لغةً نحو: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} يشمل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من جهة الحكم المستفاد منه التركيب كما شمله من جهة اللغة، وقيل: لا يشمله من جهة الحكم مطلقًا لأنه ورد على لسانه للتبليغ لغيره، وقيل: إن اقترن بنحو بَلِّغ أو قل فلا يشمله وإلا فيشمله، وأما ما لا يتناوله لغة فلا يشمله حكمًا بلا خلاف نحو: يا أيها الأمة.
374 – والعبدُ والموجودُ والذي كَفَر … مشمولةٌ له لدى ذوي النظر
يعني أن العبيد والموجودين زمن الوحي دون من بعدهم والكفار “مشمولة له” أي للفظ العام من جهة الحكم إذا كان يتناولها لغة لدى العلماء أهل النظر نحو: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} لأن العبد والكافر من الناس لغةً والأصل عدم النقل وإنما خُص بالموجودين زمن الوحي لأن الخطاب موضوع لغة للمشافهة فلا يتناول من يحدّث بعده إلا بدليل ليس من اللغة بل هو للعلم من الدين بالضرورة أن الشريعة عامة قوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} والإجماع على تكليفهم بما كُلِّف به الموجودون.
375 – وما شمولُ مَنْ للأنثى جَنَفُ … وفي شبيه المسلمين اختلفوا
يعني أن شمول “من” شرطية كانت أو استفهامية للأنثى ليس جَنَفًا بل هو الصواب والأصح عند الأكثرين، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} إذ لولا تناولها للأنثى وضعًا لما صح أن تبين بالقسمين، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من جرَّ ثوبَه خيلاء لم ينظر اللَّه إليه” فقالت أم سملة: كيف تصنعُ النساء بذيولهن؟ ففهمت أم سلمة دخولهن في عموم “من”

(1/207)


وأقرَّها -صلى اللَّه عليه وسلم-.
قوله: “وفي شبيه” إلخ، يعني أنم اختلفوا في شبيه “مسلمين” وهو جمع المذكر السالم هل يدخل فيه النساء ظاهرًا؟ قال في “التنقيح”: والصحيح عندنا اندارج النساء في خطاب التذكير قاله القاضي عبد الوهاب؛ لأن النساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما دل دليل على تخصيصه.
376 – وعمِّم المجموع من أنواع … إذا بمن جُرَّ بلا نِزاع
يعني أن المجموع من أنواع إذا كان معرفًا بأل أو الإضافة يعمم جميع تلك الأنواع إذا جُرَّ بمن التبعيضية نظرًا لمدلول العام أنه كلية، نحو قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فإنه يقتضي الأخذ من كل نوع من مال كل واحد، وقيل: يقتضي الأخذ من نوع واحد من مال كل واحد، واختاره ابن الحاجب والقرافي؛ لأن صيغة التبعيض تبطل صيغة العموم في ذلك الحكم المتبعِّض لأن “من” للتبعيض وهو يَصْدق ببعض مدخولها وهو نوع واحد، وأجيب بأن التبعيض في العام أن يكون باعتبار كل جزء من جزئياته. وينبني على الخلاف ما لو شَرَط على المدرِّس أن يلقي كل يوم ثلاثة علوم من الفقه والتفسير والأصول هل يجب عليه أن يلقي كل يوم من كل واحد منها أو يكفيه أن يلقي من واحد منها؟ وإلى ذلك أشار بقوله:
377 – كمِنْ علومٍ ألْقِ بالتفصيل … للفقه والتفسير والأصول
أي ألق من علوم الفقه والتفسير والأصول بتفصيل العلوم بأن ينص على كل واحد منها.

(1/208)


378 – والمقتضِي أعمَّ جلُّ السَّلَف … كذاك مفهومٌ بلا مختلفِ
يعني أن المقتضِي بكسر الضاد أي الكلام المتوقف صدقه أو صحته على تقدير أحد أمور يعم تلك الأمور حذرًا من الإجمال عند “جُل السلف” خلافًا لابن الحاجب والغزالي في أنه لا يعمها لاندفاع الضرورة بواحد منها ويكون مجملًا بينها يتعين بالقرينة، وكذاك المفهوم موافقةً كان أو مخالفة فإنه يعم “بلا مختلف” أي بلا خلاف، كقوله تعال: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فإنه يدل على تحريم جميع أنواع الإيذاءات. وكقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “مَطْل الغني ظلم” أي بخلاف غيره.

(1/209)


ما عَدَمُ العمومِ أصحُّ فيه
أي من العموم.
379 – منه منكَّرُ الجموع عُرِفا … وكان والذي عليه انْعَطَفا
يعني أن المُنكَّر المجموع في الإثبات نحو: جاءَ عبيد لزيد “عُرِف” مما عَدَم العموم أصح فيه، أي ليس بعام على الأصح عند الجمهور فيُحْمَل على أقل الجمع ثلاثة أو اثنين، والأصح في “كان” أيضًا أنها ليست صيغة عموم إذا كانت في الإثبات إلا أن تكون مصوغة للامتنان فإنها تعم.
قوله: “والذي عليه انعطفا” يعني أن المعطوف على العام الأصح فيه أنه ليس بعام، نحو قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} فهذا الضمير لا يلزم أن يكون عامًّا في جملة ما تقدم فإن العطف معناه التشريك في الحكم الذي سيق الكلام لأجله. قاله في “التنقيح”. قال في “الشرح”: الضمير خاص بالرجعيات لأن وصف الأحقية بالأزواج إنما هو فيهن لانعقاد الإجماع على استواء الزوج والأجنبي في البائن.
380 – وسائرٌ حكاية الفِعْل بما … منه العمومُ ظاهرًا قد عُلِما
يعني أن لفظ “سائر” الأصح فيه أنه ليس للعموم فإن معناه باقي الشيء لا جملته، هذا هو مذهب الجمهور. قوله: “حكاية الفعل” إلخ، يعني أن حكاية الصحابي لفعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- “بما” أي بلفظ عُلِم منه العموم ظاهرًا نحو قوله: “نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الغرر”، و”قضى بالشفعة للجار”، و”حكم بالشاهد

(1/210)


واليمين”. فلا يعم عند الأكثر كل غَرَر وكلَّ جارٍ وكلَّ شاهد؛ لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية. وقيل: يعم وهو الذي اختاره الأبهري وابن الحاجب، لأن الحاكي عَدْل عارف باللغة والمعنى فلا ينقل العموم إلا بعد ظهوره عنده أو قَطْعِه به وهو صادق، وصِدْق الراوي يوجب اتباعَه اتفاقًا.
381 – خطابُ واحدٍ لغير الحَنْبلي … من غيرِ رَعْي النصِّ والقَيْس الجَلي
يعني أن خطاب الواحد أو الاثنين أو الجماعة الأصح أنه لا يعم غير المخاطب فلا يتناول الأمة “من غير رَعْي” نصٍّ أو قياس جلي يدل على عمومه عند الجمهور للقطعٍ بأن خطاب الواحد أو الاثنين أو الجماعة لا يتناول غير المخاطب لغة خلافا لأحمد بن حنبل القائل بعمومه محتجًّا بأن العادة جارية بخطاب الواحد وإرادة الجميع فيما يتشاركون فيه، وبقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في مبايعة النساء: “أنا لا أصافح النساء وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة”، وما روي عنه أيضًا أنه قال: “حكمي على الواحد حكمي على الجماعة”.

(1/211)


التخصِيص
هو مصدر خصّصَ بمعنى خصَّ.
382 – قصرُ الذي عمَّ مع اعتمادِ … غيرٍ على بعضٍ من الافرادِ

يعني أن التخصيص في الاصطلاح هو: قَصْر العام على بعض أفراده لدليل، والدليل المخصَّص هو مراده بقوله: “مع اعتماد غير”، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة/ 228] الآية، فإنه مقصور على بعض أفراد الملطقات دون بعض، لخروج الحوامل منه بقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق/ 4] الآية، وخروج المطلقات قبل الدخول بقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب/ 49] الآية. وسواء كان العموم لفظيًّا أو عرفيًّا أو عقليًّا، فالعمومُ اللفظي كما مثلنا، والعمومُ العرفيّ كعموم مفهوم الموافقة، والعموم العقليّ كعموم مفهوم المخالفة، كما تقدم في قوله: “كذاك مفهوم بلا مختلف” (1).
383 – جوازُه لواحدٍ في الجمعِ … أَتَتْ به أدلةٌ في الشرعِ
الضمير في قوله: “جوازه” عائدٌ إلى التخصيص، يعني أن الأدلة الشرعية جاءت بجواز التخصيص حتى لا يبقى من العام إلَّا فَرْدٌ واحد كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران/ 173] الآية، يعني نُعَيم بن مسعود، ويدل لذلك إفراد اسم الإشارة في قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ
__________
(1) البيت رقم (378).

(1/212)


يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران /175] الآية. وكقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء/ 54] على القول بأن المراد بالناس نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-. وكقوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} [آل عمران/ 42] يعني جبريل. وسواءٌ كان العام كـ “من وما” ونحوهما من أسماء الشروط (1) والاستفهام أو لا على الصحيح، وسواءٌ كان جمعًا أو مفردًا على الصحيح أيضًا.

384 – وموجِبٌ أقلَّهُ القفَّالُ … والمنعُ مطلقًا له اعتِلالُ
يعني أن القفَّال الشاشي يقول: إن لفظ العام إذا كان جمعًا كـ “المسلمين” يجب فيه أن يبقى بعد التخصيص أقل الجمع وهو ثلاثة أو اثنان -كما يأتي قريبًا- بناءً منه على أن أفراد العام الذي هو جمع جماعات لا آحاد، والتحقيق أنها آحاد، وأن التخصيص يجوز فيها إلى أن لا يبقى إلَّا واحد كما تقدم.
وقوله: “والمنع مطلقًا له اعتلال” يعني أن القول بمنع التخصيص إلى الواحد مطلقًا سواء كان لفظ العام جمعًا أو مفردًا “له اعتلال” أي ضعيف، وهو قول أبي الحسين المعتزلي، والقائل بالمنع يوجب بقاء أقل الجمع، وقيل إلى بقاء غير محصور من أفراد العام.

385 – أقلُّ معنى الجمع في المُشتهِر … الاثنانِ في رأي الإمام الحِمْيري
386 – ذا كثرةٍ أم لا وإن مُنكَّرا … والفرقُ في انتهاءِ ما قد نُكِّرا

يعني أن أقل الجمع الحقيقي وما في معناه كـ “ناس وجيل ورهط”
__________
(1) كذا في الأصل.

(1/213)


ونحو ذلك من أسماء الجموع -في رأي الإمام مالك بن أنس- اثنان، كما نقله عنه القاضي أبو بكر وعبد الملك بن الماجشون، واستدل لهذا بقوله: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه/ 130] أي طرفيه، وقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم/ 4]، وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء/ 11] أي: أخوان فصاعدًا، وفي الحديث: “الاثنان فما فوقهما جماعة” (1).
وقال الجمهور: أقل الجمع وما في معناه ثلاثة، لتفريق العرب بين الجمع والتثنية ووضعها لكل منهما لفظًا يختص به، وجعلوا إطلاق الاثنين وإرادة الثلاثة من المجاز.
وقوله: “ذا كثرة أم لا. . ” إلخ، يشير إلى أن التحقيق هو ما حرَّره بعضُ المحققين من أن جمع القلة وجمع الكثرة إذا كانا مُعرَّفَيْن لا فرق بينهما، لأن “أل” الاستغراقية تعمّم كل واحد منهما فيستويان في المبدأ والمنتهى، أي مبدؤهما ثلاثة أو اثنان ولا منتهى لأكثرهما، وأما إذا كانا مُنكَّرَين فلا فرق بينهما أيضًا في المبدأ، لأن أقل كل منهما الاثنان أو الثلاثة، وإنما يفترقان في الانتهاء فقط في التنكير، فأكثر جمع القلة
__________
(1) أخرجه ابن ماجه رقم (972)، والحاكم: (4/ 334)، والبيهقي في “الكبرى”: (3/ 69)، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-.
وأخرجه البيهقي في “الكبرى”: (3/ 69) من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-. والدارقطني: (1/ 281) من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وله طرق أخرى لكن جميع طرقه ضعيفة.
انظر “البدر المنير”: (7/ 204 – 206)، و”فتح الباري”: (2/ 166)، و”التلخيص الحبير”: (3/ 94)، و”نصب الراية”: (2/ 198).

(1/214)


عشرة، وجمع الكثرة لا منتهى له، وبهذا التحرير لا تحتاج أن تقول في محلٍّ من المحال: هذا مما استُعِيْرَ فيه جمع الكثرة لجمع القلة، فهذا هو التحقيق ولا تلتفت إلى كلام كثير من النحويين يزعمون أن أقل جمع الكثرة ما زاد على العشرة.

387 – وذو الخصوص هو ما يُسْتعملُ … في كلِّ الافرادِ لدى من يعقِلُ

يعني أن العام المخصوص هو ما يُقصد فيه جميع الأفراد استعمالًا لا حكمًا نحو: “له عليَّ عشرة إلَّا ثلاثة” فجميع العشرة يتناوله اللفظ استعمالًا إلَّا أن الحُكم لا يتناول مما دل عليه اللفظ إلَّا سبعة، لخروج ثلاثة بالمخصِّص الذي هو الاستثناء.
388 – وما به الخصوصُ قد يُرادُ … جعَلَه في بعضِها النقَّادُ
يعني أن العامَّ المرادَ به الخصوص لم يُقصد فيه إلَّا بعض الأفراد وبعضها لم يُقصد لا تناولًا ولا حُكمًا، بل المراد فيه البعض فقط في الاستعمال والحكم معًا كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران/ 173] أي: نُعَيم، {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} [آل عمران/ 39] أي: جبريل، فالأول أريدت فيه الأفراد كُلًّا استعمالًا لا حكمًا، والثاني لم يُرَد فيه إلَّا البعض استعمالًا وحكمًا.

389 – والثانيَ اعْزُ للمَجَازِ جزما … وذاك للأصلِ وفرعٍ يُنْمَى
يعني أن الثاني من القسمين وهو العام المراد به الخصوص مجاز جزمًا، يعني بلا خلاف، لأنه من إطلاق الكل وإرادة البعض، وعلاقة الكلية والجزئية من علاقات المجاز المرسل كما هو معروف عند البيانيين،

(1/215)


فالعام المراد به الخصوص على هذا مجاز مرسل.
وقوله: “وذاك للأصل وفرع يُنْمَى” يعني أن العام المخصوص يُنمى للأصل في قول، وللفرع في قول، ومراده بالأصل الحقيقة، وبالفرع المجاز. والمعنى: أن العام المخصوص قيل: إنه حقيقة في الباقي بعد التخصيص، وقيل: مجاز فيه، وممن قال بالأول السُّبْكي والفخر الرازي والحنابلة وكثير من الحنفية وأكثر الشافعية وبعض المالكية. وممن قال بالثاني ابن الحاجب والبيضاوي والصَّفِيُّ الهندي والكمال ابن الهمام (1).
وحجة من قال إنه حقيقة في الباقي بعد التخصيص: أن تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله له بلا تخصيص، وذلك التناول حقيقي فليكن هذا التناول حقيقيًّا.
وأجاب القائلون بأنه مجاز في الباقي بأنه كان يتناوله مع غيره والآن يتناوله وحده وهما متغايران؛ لأن الشيء مع غيرِه غيرُه لا مع غيره. وحجتهم لكونه مجازًا: أن اللفظ عام والحكم قاصر على البعض فعُرِف أن اللفظ أطلق على غير مدلوله اللغوي فهو مجاز.
وأجيب: بأن اللفظ أطلق على مدلوله اللغوي ولكنَّ المخصِّص أخرج بعض ما دلَّ عليه العموم، كما تقدم من أن كل الأفراد مقصودٌ تناولًا لا حكمًا في العام المخصوص.

390 – ثمَّ المُحاشاةُ وقصرُ القصدِ … من آخرِ القِسْمَين دون جَحْدِ
__________
(1) انظر “شرح المحلي على الجمع”: (2/ 5)، و”شرح الكوكب”: (3/ 160 – 163 وحاشيته).

(1/216)


يعني أن المحاشاة وقَصْرَ القصد -أي التخصيص- بالنية كلاهما من القسم الأخير وهو العام المراد به الخصوص، والمحاشاة هي: إخراج الحالف شيئًا يتناوله لفظه بالنية فقط دون اللفظ، وظاهر كلام المؤلف أن المحاشاة غير التخصيص بالنية، والواقع في الحقيقة أن المحاشاة تخصيص بالنية أيضًا، ولذا قال القرافي: المحاشاةُ هي التخصيص بعينه من غير زيادة ولا نقص (1).
فإن قيل: أهل مذهب مالك يفرقون بينهما، فإن التخصيص بالنية إذا خالفت ظاهر اللفظ لا يقبل عندهم مع المرافعة، والمحاشاة تُقبل عندهم في المرافعة، فمن قامت عليه بينة عندهم أنه قال: الحلال عليَّ حرام، وادعى محاشاة الزوجة بالنية، صدق في المرافعة، وهذا يقتضي الفرق عندهم بين المحاشاة والتخصيص بالنية.
فالجواب: أن المحاشاة تخصص بمسألة الحلال عليه حرامٌ كما قال خليل، وهي المحاشاة وعليه فلا إشكال.
وعلى القول بأن المحاشاة أعم من مسألة “الحلال عليَّ حرام” كما صوَّبه البنَّانيّ مستدلًا بكلام الباجيّ.
فالجواب: أن المحاشاة في خصوص المحلوف به، والتخصيص في المحلوف به والمحلوف عليه، فهي أخص وهو أعم.
وعلى قول ابن محرز ومن تبعه: أن المحاشاة قاعدة مطَّرِدة في
__________
(1) “الفروق”: (3/ 92).

(1/217)


المحلوف به والمحلوف عليه فيتعين ما قاله القرافي من اتحادهما، أو يُجاب بأن ابن محرز ومن تبعه يرون أن اليمين على نية الحالف باللَّه أو غيره مطلقًا حلف على وثيقة حق أم لا، وعليه فهما متحدان أيضًا، فظهر أن الفرق لا يمكن إلَّا على القول الأول والثاني، واللَّه تعالى أعلم (1).

391 – وشبه الاسْتِثنا للأوَّلِ سَما … واتَّحدَ القسمان عندَ القُدَما
يعني أن كل ما يشابه الاستثناء من كل مخصص متصل فرينته لفظية “سما” أي ظهر عندهم “للأول” أي من القسم الأول الذي هو العام المخصوص، و”القسمان” اللذان هما العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص متحدان “عند القدما” أي الأقدمين من الأصوليين، ولذا لم يتعرضوا للفرق بينهما فكلاهما عند الأقدمين عام مخصوص ومراد به الخصوص، وإنما فرَّق بينهما المتأخرون كالسُّبكيَّيْن.

392 – وهو حجةٌ لدى الأكثرِ إنْ … مُخصَّصٌ له معَيَّنًا يَبِنْ

يعني أن العام الذي دخله تخصيص حجة في الباقي بعد التخصيص لدى أكثر العلماء وهو الحق، ولكن يشترط أن يكون المخصِّص -بصيغة اسم الفاعل- معيَّنًا بصيغة اسم المفعول نحو: “اقتلوا المشركين إلَّا أهل الذمة” فإن كان غير معين نحو: “اقتلوا المشركين إلَّا بعضهم” لم يصح الاحتجاج به في الباقي؛ لأنه ما من فرد إلَّا يحتمل أنه من البعض المستثنى
__________
(1) انظر “النشر”: (1/ 233).

(1/218)


فلا يجوز قتل فرد. وخالف السبكي (1) قائلًا: إن مذهب الأكثر الاحتجاج به ولو كان المخصِّص غير معين، وقال القرافي (2): إن هذا المذهب لم يقل به أحد ولا يمكن العمل به مع كون البعض حرامًا والبعض حلالًا من غير تمييز.
قال مُقيِّده عفا اللَّه عنه: يظهر من بعض مسائل فروع المالكية جواز ما ذكره السبكي عن الأكثر، مِن جواز العمل مع عدم تعيين المخصص وذلك في قولهم: إن كون مضيّ البيع المختلَف فيه عند الفوات بالثمن، ومضي المتفق عليه بالقيمة، كلتاهما قاعدة أغلبية يخرج منها بعض الأفراد ولم يُعَيِّنُوه مع تجويزهم العمل بكلتا القاعدتين، كما هو معروف في فروع مالك.

393 – وقِسْ على الخارج للمصالحِ … ورُبَّ شيخٍ لامتناع جانحِ
يعني أنه اختلف في الفرد الخارج من العموم بمخصص هل يجوز أن يكون أصلًا يقاس عليه أو لا؟ وإيضاحه: أن العامَّ إذا أخرج من حكمه بعض الأفراد بمُخصِّصٍ لحِكْمة تخص ذلك الفرد المخرجَ من العموم، ثم وُجِدت تلك الحكمة في شيء آخر، هل يجوز قياسه على ذلك الفرد المخرَج من العموم لتكثير المصلحة، أو لا يجوز ذلك خوفًا من كثرة مخالفة الأصل؟
__________
(1) “جمع الجوامع”: (2/ 6).
(2) في “نفائس الأصول”: (2/ 572).

(1/219)


مثال ذلك: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة/ 275] خرج من عمومه بيع البرّ متفاضلًا يدًّا بيد، فهل يجوز أن نقيس الأرز -مثلًا- على البر الخارج من العموم بجامع الطعم والكيل، أو الاقتيات والادِّخار، أو لا يجوز ذلك خوفًا من كثرة مخالفة الأصل؟
وقوله: “ورب شيخ” للتكثير، يشير إلى كثرة القائلين بعدم القياس علي ما أخرجه المخصِّصُ. وقوله: “جانح” أي مائل، والمجرور قبله متعلَّق به، أي: رُبّ شيخ جانح، أي مائل إلى امتناع ذلك.
* * *

(1/220)


المخصِّصُ المتصل
المخصِّص عرفًا: الدليل المفيد للتخصيص. والتخصيص قسمان: متصل ومنفصل، أما المنفصل فسيأتي الكلام عليه في قول المؤلف: “وسمِّ مُسْتقلهُ منفصلًا” (1) إلخ. وأما المتصل وهو المذكور هنا فهو: ما لا يستقل بنفسه دون العام بل لابد من مقارنته للعام، وهو خمسة أشياء: الاستثناء، والشرط، والصفة، والغاية، وبدل البعض من الكل، وسيأتي إن شاء اللَّه جميعها للمؤلف.

394 – حروفُ الاستثناءِ والمضارعُ … من فِعْل الاستثنا وما يُضارعُ
يعني أن من أنواع المخصِّص المتصل حروف الاستثناء، أي أدواته كـ “إلَّا، وسوى” إلخ. وقوله: “والمضارع من فعل الاستثناء” أي الفعل المضارع من مادة الاستثناء نحو: “جاء القومُ واستثني زيدًا”. وقوله: “وما يضارع” أي ما يشابه المضارع من صِيَغ الماضي الدالةِ على الاستثناء نحو: “جاء القوم خلا زيدًا” و”عدا عَمْرًا” بالنصب فيهما. وقيل: يشترط في المستثنَى والمستثنى منه أن يكونا من متكلِّم واحد، وقيل: لا يشترط ذلك.
وإذا كان العام من كلام اللَّه والاستثناء من كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل: يكون مخصِّصًا منفصلًا، وقيل: يكون متصلًا، لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مبلِّغ في
__________
(1) البيت رقم (423).

(1/221)


الكل ولا يقول على اللَّه إلَّا بوحي لقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم/ 3 – 4] بل قال العبَّادي في “الآيات البينات” (1): الأمر كذلك ولو على القول بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ربما اجتهد لأن اجتهاده أيضًا حق ولا يُقَرُّ على باطل.

395 – والحكم بالنقيض للحكم حَصَلْ … لِما عليه الحُكْم قبل مُتَّصِلْ
396 – وغيرُه منقطعٌ ورُجِّحا … جوازُه وهو مجازًا وَضَحا

تعرَّض المؤلف هنا لحقيقة الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع. وقوله: “والحكم بالنقيض” إلخ يعني أن الاستثناء المتصل هو الحكم بنقيض الحكم على جنس ما حكمت عليه أولًا، وأن غيره هو المنقطع، وهو صادق بأمرين:
الأول: أن يكون المحكوم عليه بنقيض الحكم ليس من جنس الأول نحو: “جاء القوم إلَّا حمارًا”.
والثاني: أن يكون المحكوم عليه في الثاني من جنس الأول إلَّا أن الحكم على الثاني ليس بنقيض الحكم الأول كقوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان/ 56]، فإنه استثناء منقطع على التحقيق، مع أن المحكوم عليه في الثاني هو عين المحكوم عليه في الأول، إلَّا أن الحكم على الثاني ليس نقيضًا للحكم على الأول، لأن الحكم [على] الأول عدم ذوق الموت في الآخرة، والحكم على
__________
(1) (3/ 26).

(1/222)


الثاني ذوقه في الدنيا، وذوقه في الدنيا ليس نقيضًا لذوقه في الآخرة.
وقوله: “ورُجِّحا جوازه” يعني أن المرجَّح عند علماء الأصول جواز وقوع الاستثناء المنقطع، خلافًا لأحمد وأصحابه القائلين بعدم جوازه في اللغة، لأن الاستثناء إخراجٌ لما دخل، وما لم يدخل لا يمكن إخراجه. وحجة الجمهور: كثرة وقوعه في القرآن وفي كلام العرب، فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنّ} [النساء/ 157]. ومعلوم أن اتباع الظن ليس من جنس العلم، وقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم/ 62]، وقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِ} [الواقعة/ 25 – 26]، وقوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} [الليل/ 19 – 20] الآية.
ومن أمثلته في كلام العرب قول نابغة ذبيان (1):
وقفت فيها أُصَيْلالًا أُسائلها … عيَّت جوابًا وما بالرَّبع من أحد
إلَّا الأواريَّ لأْيًا. . . . … . . . . . . . . . . . . .
“الأواريُّ” ليس من جنس “الأحد” وهي مرابط الخيل.
وقول بعض شعراء بني تميم (2):
وبنتِ كريمٍ قد نكحنا ولم يكن … لها خاطب إلَّا السنانُ وعاملُه
وقول الراجز (3):
__________
(1) “ديوانه”: (ص/ 14 – 15).
(2) البيت للفرزدق انظر: “شرح النقائض”: (3/ 758). وسقط من “الديوان” مع بيت قبله.
(3) روي هذا الرجز بألفاظ مختلفة ذكرها البغدادي في “الخزانة”: (10/ 15 – 18) =

(1/223)


ياليتني وأنت يالميسُ … ببلدةٍ ليس بها أنيسُ
إلَّا اليعافيرُ وإلَّا العيسُ
وقوله: “وهو مجازًا وَضَحا”، يعني أن الاستثناء المنقطع وَضَحَ حال كونه مجازًا، وسيأتي بقية الأقوال فيه من كونه مشتركًا أو متواطئًا بين المتصل والمنقطع.

397 – فلْتُنْمِ ثوبًا بعد ألفِ درهمِ … للحذفِ والمجازِ أو للندمِ
398 – وقيلَ بالحذفِ لدى الإقرارِ … والعقدُ معنى الواوِ فيه جارِ
قوله: “فَلْتُنْم” يعني فلْتَنْسُبْ وهو مجزوم بلام الأمر. وقوله: “ثوبًا بعد ألف درهم” يعني أنه لو قال: “له عليَّ ألف دينار إلَّا ثوبًا” أنه ينسب قوله: “إلَّا ثوبًا” للحذف على قول، وللمجاز على قول، وللندم على قول.
أما نسبته للحذف فالمراد به حذف المضاف المدلول عليه بالاقتضاء، وتقديره: إلَّا قيمة ثوب. وأما نسبته للمجاز فالمراد أن الثوب أُطْلق وأُريدت قيمته مجازًا علاقته البدلية وهي: أن القيمة بدل عن الثوب عادة، وقد تقرر عندهم أن البدلية والمبدلية من علاقات المجاز المرسل، وقد تقدم للمؤلف أن المجاز قبل الإضمار في قوله: “وبعد تخصيصِ مجازٍ فيلي الإضمارُ” (1) إلخ، وعليه فالأولى جعله مجازًا دون تقدير المحذوف، ومعنى القولين واحد؛ لأن المعنى على كليهما أنه استثنى
__________
= وذكر أنه وجدها بهذا اللفظ في كتاب “أبيات المعاني” للأشنانداني.
(1) البيت رقم (208).

(1/224)


قيمة الثوب، سواءٌ عبرنا عن ذلك بالمجاز أو الحذف. وأما نسبته للندم فمعناه أن الألف تلزمه كفَها ويعدُّ قوله: “إلَّا ثوبًا” ندمًا. والظاهر أن هذا القول مبنيٌّ على عدم صحة الاستثناء المنقطع كما هو قول أحمد ومن وافقه المشار إليه بقول المؤلف: “ورجحا جوازه”.
وقوله: “وقيل بالحذف لدى الإقرار” يعني أن في المسألة قولًا رابعًا، وهو: التفريق بين الإقرار والعقود، فلو قال في الإقرار: “له على ألف دينار إلَّا ثوبًا” كان للحذف أي: إلَّا قيمة ثوب، ولو قال في البيع: “بعتك هذه السلعة بألف دينار إلَّا ثوبًا” فإنه يكون معناه وثوبًا، فيكون الثوب مبيعًا مع السلعة، قال مالك: إذا قلت: “بعْتُك هذه السلعة بدينار إلَّا قفيز حنطة”، كان القفيز مبيعًا مع السلعة؛ لأنه لو استثنى من الدينار قيمة القفيز لفسد البيع للجهل بالثمن، نص عليه مالك في كتاب الصرف من “المدونة” (1).

399 – بِشِرْكَةٍ وبالتَّواطِي قالا … بعضٌ. . . . . . . . . . . . .
يعني أن بعض الأصوليين وهو أبو الحسن الأبياري المالكي اختار أن الاستثناء المنقطع حقيقة، وهو الظاهر من كلام أهل العربية، وعليه فقيل: اسم الاستثناء مشترك بين المتصل والمنقطع كاشتراك العين بين الباصرة والجارية، وقيل: هو متواطى فيهما كتواطى الرجل في زيد وعمرو.
__________
(1) انظر “تهذيب المدونة”: (3/ 106) للبراذعي.

(1/225)


.. . . . . وأوْجِب فيه الاتصالا
400 – وفي البواقي دونَ ما اضطرار … وأبْطِلَنْ بالصمت للتَّذكارِ
يعني أنه يجب في الاستثناء اتصاله بالمستثنى منه خلافًا لمن قال بجواز تأخير الاستثناء إلى شهر، وقيل: إلى شهرين، وقيل: إلى سنة، وقيل: إلى سنتين، وقيل: أبدًا، كما روي عن ابن عباس (1)، وعن عطاء والحسن جواز انفصاله في المجلس، وأومأ إليه أحمد في إحدى الروايتين في اليمين، وعن مجاهد إلى سنتين، وقيل: ما لم يأخذ في كلام آخر، وقيل: يجوز ذلك في كلام اللَّه لأنه لا يغيب عنه شيء فهو مرادٌ أولًا بخلافِ غيره (2).
وحجة من قال بجواز تأخير الاستثناء حديث: “من حَلَف واستثنى عاد كمن لم يحلف” (3) أي قال: إن شاء اللَّه ولم يذكر لزوم اتّصاله به، قالوا: وقوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء/ 95] نزل بعد المستثنى منه
__________
(1) ولفظه: “إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني ولو إلى سنة” أخرجه ابن جرير في تفسيره: (15/ 225)، والحاكم: (4/ 353)، والبيهقي: (10/ 48). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وانظر “البدر المنير”: (8/ 124).
(2) انظر “العدة”: (2/ 660 – 664)، و”شرح الكوكب”: (3/ 297)، و”إرشاد الفحول”: (2/ 646 – 652).
(3) لم أجده بلفظه، لكن أخرجه ابن ماجه رقم (2105) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- بلفظ: “من حلف واستثنى فلن يحنث”.

(1/226)


في المجلس (1) واستدل ابن عباس بقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (2) [الكهف/ 24] لأن معناه لما أمره بقوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأمره بالاستنناء بالمشيئة صرَّح له بأنه إن نسي الاستثناء به وتذكَّره بعد ذلك قال: إن شاء اللَّه.
وحجة الجمهور قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “من حلفَ على شيء ثم رأى غيرَه خيرًا منه فليكفِّر عن يمينه وليأتِ الذي هو خير” (3)، فلو جاز الانفصال لقال: فليَسْتثن ولا داعي إلى التكفير حالة إمكان الاستثناء. قال ابن العربي المالكي (4): سمعت فتاةً ببغداد تقول لجارتها: لو كان مذهب ابن عباس صحيحًا ما قال اللَّه تعالى لأيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص/ 44] بل يقول له: استثن (5).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2832) عن زيد بن ثابت أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أملى عليه: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي فقال: يا رسول اللَّه لو أستطيع الجهاد لجاهدت. . . فأنزل اللَّه تبارك وتعالى على رسوله. . {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}.
(2) انظر “الدر المنثور”: (4/ 394).
(3) أخرجه مسلم رقم (1650) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.
(4) “أحكام القرآن”: (2/ 647). ونقلها عنه القرطبي في تفسيره.
(5) كذا أورد المؤلف هذه القصة نقلًا عن “نشر البنود”: (1/ 240) والظاهر أن قوله: “فتاة” محرفة عن “فاميّ” لأنه الوارد في سياق القصة و”الفامي” هو البقَّال. وإليك القصة كما في كتاب ابن العربي قال: “كان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام، فكانت الكتب تأتي إليه من بلده فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحدًا، مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه أو يقطع به عن طلبه، فلما كان بعد خمسة أعوام، =

(1/227)


ولو جاز انفصال الاستثناء لما ثبت إقرارٌ ولا طلاقٌ ولا عتق، لعدم الجزم بثبوت شيء منها لجواز الاستثناء المنفصل، ولم يُعلم صِدْق خبر ولا كذبه أصلًا، لجواز استثناءٍ يَرِدُ عليه يصرفه إلى ما يغيره (1) صادقًا وبالعكس.
وأجيب من قبل الجمهور عن احتجاج ابن عباس بالآية بأمرين:
الأول: أن الاستثناء بالمشيئة له فائدتان: الأولى: رد الأمور إلى مشيئة من هي بيده وهو اللَّه تعالى. والثانية: عدم انعقاد اليمين. والاستثناء يُفيد مع الانفصال في الخروج من عُهدة اللوم المتوجه من عدم رد الأشياء إلى مشيئة من هي بيده، وهو مراد ابن عباس بجواز انفصال الاستثناء. أما
__________
= وقضى غرضًا من الطلب، وعزم على الرحيل = شد رحله وأبرز كتبه، وأخرج تلك الرسائل وقرأ منها ما لو أن واحدة منها قرأها في وقت وصولها ما تمكن بعدها من تحصيل حرف من العلم، فحمد اللَّه تعالى، ورحَّل على دابته قماشه، وخرج على باب الحلبة طريق خراسان، وتقدمه الكريُّ بالدابة، وأقام هو على فاميٍّ يبتاع منه سفرته، فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفاميِّ آخر: أي فُلُ! أما سمعت العالم يقول -يعني الواعظ-: إن ابن عباس يجوِّز الاستثناء ولو بعد سنة، لقد اشتغل بالي بذلك منذ سمعته يقوله، وظللت فيه متفكرًا، ولو كان ذلك صحيحًا لما قال اللَّه تعالى لأيوب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} وما الذي كان يمنعه من أن يقول حينئذٍ: قل إن شاء اللَّه؟
فلما سمعته يقول ذلك قلت: بلدٌ يكون فيه الفاميون به من العلم في هذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة؟ لا أفعله أبدًا، واقتفى أثر الكريّ، وحلله من الكِراء، وصرف رحله، وأقام بها حتى مات -رحمه اللَّه- اهـ.
(1) ط: يصيره.

(1/228)


الثانية التي هي عدم انعقاد اليمين، فلا يفيد فيها الاستثناء مع الانفصال كما هو مذهب الجمهور ولم يقصده ابن عباس وجزم بهذا ابنُ جرير (1)، وهو وجيه جدًّا.
الثاني: أن يُحمل الانفصال المذكور على ما إذا قصد الاستثناء ونواه وقتَ اليمين وأَخَّرَ النُّطق به، كما ذكره ابن رشد عن بعض العلماء وقال: يُحمل عليه كلام ابن عباس (2).
وقوله: “وفي البواقي” يعني أن البواقي من المخصِّصات المتصلة كالشرط والغاية والبدل يجب فيها الاتصال أيضًا، وحكى بعضٌ الاتفاقَ على ذلك في الكل، وحكى بعضهم عليه الاتفاق في غير الشرط. فالحاصل أنه في الكل إما اتفاقًا وإما على الصحيح الذي هو مذهب الجمهور في بعض المخصِّصات كالشرط.
وقوله: “دون ما اضطرار” يعني أن وجوب عدم الفصل ما لم يضطر إليه فالفصل بما اضطر إليه كلا فصل، كالفصل بِنَفَس أو سعال، أو عطف الجُمَل بعضها على بعض ثم يستثني.
وقوله: “وأبطلن بالصَّمْت للتذكار” يعني أن سكتة التذكار فاصل مانع من إفادة الاستثناء، وهي أن يسكت المتكلم ليتذكر شيئًا من الكلام الذي هو بصدده هو في الحال ناسٍ له. و”ما” في قوله: “دون ما” زائدة، والأصل: دون اضطرار.
__________
(1) انظر “تفسيره”: (15/ 227).
(2) انظر “البيان والتحصيل”: (2/ 182).

(1/229)


401 – وعَددٌ مع كَإلَّا قد وجَبْ … له الخصوص عند جُلِّ من ذَهَبْ
402 – وقال بعضٌ بانتفا الخُصوصِ … والظاهرُ الإبقا من النُّصوصِ
اعلم أنه لمَّا كان في التخصيص بالمخصِّص المتصل شِبْه تناقض؛ لأن البعض الخارج بالمخصِّص اجتمع فيه أنه داخلٌ في العموم وخارجٌ بالمخصِّصِ، وكون الشيء الواحد داخلًا في شيء وغير داخل فيه في وقت واحد يظهر أنه تناقض = اضطروا إلى تقدير دلالة على وجهٍ يرفع ذلك التناقض، واختلفوا في ذلك على ثلاثة مذاهب، أشار لها المؤلف في مسألة الاستثناء من العدد؛ لأن التناقض المذكور أظهرُ فيها من غيرها؛ لأن في قولك: “عشرة إلَّا ثلاثة” ما يدل على دخول الثلاثة في العشرة مع أن فيه التصريح بعدم دخولها فيها.
الأول: وعزاه المؤلف إلى جل من ذهب أن العددَ مع إلَّا كقوله: “له عليَّ عشرة إلَّا ثلاثة” عامٌّ مرادٌ به الخصوص، فالمراد بالعشرة سبعة، وقوله: “إلَّا ثلاثة” قرينة على ذلك وليس فيه إخراج أصلًا فلا تناقض، وهذا مراده بقوله: “وعدد مع كإلَّا. . ” البيت، هكذا قرره المؤلف وغير واحد. ولا يخفى أن جعلهم له من العام المراد به الخصوص ينافي قول المؤلف المارِّ: “وشبه الاستثنا لأولٍ سما” فلا يصح قولهم على (1) هذا إلَّا على قول الأقدمين الذين لم يفرقوا بين العام المخصوص والمراد به الخصوص كما ترى، وجَعْله العدد من العموم ينافي أيضًا قوله: “بلا
__________
(1) ليست في الأصل.

(1/230)


حصر من اللفظ كعشر مثلًا”.
الثاني: وهو قول الباقلاني أنه لا خصوص فيه أصلًا، وإيضاحُه أن لفظ “السبعة” له اسمان: اسم مفرد وهو سبعة، واسم مركَّب وهو عشرة إلَّا ثلاثة، وعليه أيضًا فلا إخراج ولا تناقض، وإليه الإشارة بقول المؤلف: “وقال بعضٌ بانتفا الخصوص”.
الثالث: وهو اختيار ابن الحاجب (1) والتاج السُّبْكي (2) أن المراد بالعشرة في المثال المذكور العشرة باعتبار الأفراد ثم أُخْرجت الثلاثة بقوله: “إلَّا ثلاثة” فأُسْنِد لفظًا إلى العشرة ومَعْنًى إلى السبعة، فكأنه قال: “له عليَّ الباقي من عشرة أُخْرِج منها ثلاثة” وليس في ذلك إلَّا إثبات ولا نَفْيَ أصلًا فلا تناقض، فتحصَّل أنه على قول الجُلّ فيه تخصيص وإليه الإشارة بقوله: “وعددٌ مَعَ كإِلَّا” البيت. وعلى قول الباقلاني لا تخصيص فيه، وإليه الإشارة بقوله: “وقال بعضٌ بانتفا الخصوص”. وعلى ما اختاره ابنُ الحاجب والسبكيُّ فهو يحتمل التخصيص نظرًا إلى الحكم؛ لأنه للعام في الظاهر والمراد الخصوص، ويحتمل كونه ليس تخصيصًا، إذ المفرد الذي هو “العشرة” لم يرد به إلَّا العموم لجميع أفراده كحالته منفردًا لم يغير بتخصيص، لأن العشرة في قولك: ما بقي من العشرة بعد إخراج الثلاثة، لم تطلق العشرةُ فيه إلَّا على معناها الأصلي وإن كان المعنى يؤول إلى سبعة.
__________
(1) انظر “المختصر – مع شرحه”: (2/ 257) للأصفهاني.
(2) في “الجمع”: (2/ 13).

(1/231)


وقوله: “والظاهر الإبقا من النصوص” يعني أن الذي يظهر للمؤلف من النصوص أي المذاهب الثلاثة المذكورة في الاستثناء أن المستثنى مُبَقّى على الملك لا مشترى لأن عشرة إلَّا ثلاثة عند الجُل عامّ مراد به الخصوص، فالثلاثة باقية على الملك، وعند الباقلاني بمعنى سبعة فالثلاثة باقية أيضًا، وعلى المختار عند ابن الحاجب والسبكي فالعشرة وإن أريد بها جميع الأفراد فالعموم مُرادٌ تناولًا لا حكمًا فبقيت الثلاثة أيضًا ولم تدخل في الحكم.

403 – والمِثْل عند الأكثرين مُبطلُ … ولجوازه يدُلّ المَدْخَلُ

يعني أن استثناء المِثْلِ مبطل للاستثناء، ويدل لجوازه على أحد القولين كلام ابن طلحة (1) الأندلسي في “المدخل” (2)، وروي عن اللخمي أيضًا ما يفيد جوازه إن نواه قبل الانعقاد في الفتوى، وفي القضاء خلاف.
404 – وجوِّز الأكثر عند الجُلِّ … . . . . . . . . . . . . .
يعني أنه يجوز استثناء الأكثر عند الأكثر والقاضي عبد الوهاب، نحو: “له عليَّ عشرة إلَّا تسعة” واستدلوا بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر/ 42]، ومعلوم أن الغاوين أكثر.
__________
(1) من أول هذه الفقرة إلى هنا لحق في الحاشية لكنه لم يظهر، وأثبتناه من (ط).
(2) ابن طلحة هو: عبد اللَّه بن طلحة بن محمد اليابري المالكي (ت 518) له مختصر “الرسالة”، ويسمى بـ “المدخل”. انظر “بغية الوعاة”: (2/ 46)، و”نفح الطيب”: (2/ 648).

(1/232)


فإن قيل: المراد بالعباد في قوله: {عِبَادِي} ما يشمل الملائكة مع صالح الثّقلين فإذًا يلزم كونهم أكثر من الغاوين فينتفي الدليل من الآية.
فالجواب: أنا لو سلمنا أن الصالحين أكثر من الغاوين بهذا الاعتبار فإنه يلزم على ذلك أيضًا جواز استثناء الأكثر في قوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [ص/ 82 – 83]، وادعاء دخول الملائكة في الأول وخروجهم من الثاني تحكُّم لا دليل عليه. واستدل له أيضًا بقوله:
أدّوا التي نقصت تسعين عن مئة … ثم ابعثوا حكمًا بالعدل قوَّالا (1)
وتكلم بعضُهم في هذا البيت بأنه مصنوع.
. . . . . . . . . . . . . … ومالًا أوجبَ للأقلِّ
يعني أن الإمام مالكًا -رحمه اللَّه- أوجب كون المستثنى أقلَّ من المستثنى منه، فلو استثنى النصف كقوله: “عليَّ عشرة إلَّا خمسة” بَطَل الاستثناءُ ولزمته العشرة. وأحرى إذا كان المستثنى أكثر نحو: “له عليَّ عشرة إلَّا ستة”. وإلى هذا القول ذهب القاضي وغيره، وأكثر النحويين، وهو مذهب الإمام أحمد إلَّا أن استثناء النصف فيه عند الحنابلة خلاف، أما استثناء الأكثر فلا يجوز عندهم، ومشهور المذهب المالكي موافقة الجمهور في استثناء الأكثر كما قال خليل في “مختصره” (2) الذي قال مبينًا
__________
(1) البيت أنشده ثعلب من أبيات، فيما نقله عنه تلميذه أبو بكر ابن الأنباري في كتابه “الأضداد”: (ص/ 127). والرواية فيه:
أَدُّوا الَّتي نَقَصَتْ سَبْعين من مئة … ثمَّ ابْعَثوا حَكمًا بالعَدْلِ حَكَّاما
(2) (ص/ 120).

(1/233)


لما به الفتوى: “وصح استثناء بإلَّا إن اتّصَل ولم يستغرق” فالمضر الاستغراق فقط لا الأكثرية وأحرى المساواة. وحجة القول بوجوب كون المستثنى أقل: أنه هو المعروف من لغة العرب فإنهم يقولون: “مائة إلَّا عشرة” ولم يقولوا: “مائة إلَّا تسعين” وقس على ذلك.

405 – ومُنِعَ الأكثرُ من نَصِّ العَدَد … والعقدُ منه عندَ بعضٍ انْفَقَد
يعني أن اللخميّ قال بمنع استثناء الأكثر من خصوص ما هو نصٌّ في العدد كـ “له عليَّ عشرة إلَّا سبعة” بخلاف ما ليس نصًّا في العدد فإنه يجوز فيه عنده استثناء الأكثر نحوُ: “عبيدي أحرار إلَّا الصقالبة” وهم أكثر.
وقوله: “والعقد منه عند بعضٍ انفَقَدْ” يعني بالبعض عبد الملك بن الماجشون، ومراده أنه ينفقد أي يمتنع عنده استثناء العقد الصحيح من العدد ويجوز غيره، فالعقد الصحيح الذي يمتنع عنده استثناؤه من العدد كالعشرة من المائة والمائة من الألف، فلا يجوز عنده: “له عليَّ مائة إلَّا عشرة” ولا “ألف إلَّا مائة”. وخَرَج بالعقد ما ليس بعقد كالانثي عشر، وبالصحيح الكسر كنصف.
وحاصل هذا القول: أن الآحاد عقود العشرات، والعشرات عقود المئين، والمئون عقود الألوف، فلا يجوز على هذا القول استثناء عقدٍ صحيح من العدد نحو “عشرة إلَّا واحدًا” و”مائة إلَّا عشرة” أو “ألف إلَّا مائة”. ويجوز: “له عليَّ عشرة إلَّا نصفًا” أي نِصْف واحد أو نحوه ولو مع غيره كـ “واحد ونصف” و”مائة إلَّا تسعة” أو نحوها ولو مع غيرها من

(1/234)


العشرات، و”ألف إلَّا تسعين” ونحوها ولو مع المئين.
وحجة هذا القول: أنه لم يقع في الكتاب والسنة إلَّا هو كقوله تعالى: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت/ 14] وخمسون بعض عقدٍ من ألف، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إن للَّه تسعة وتسعين اسمًا مائة إلَّا واحدًا” (1) والواحد بعض عقد المئة، فتحصَّل أن في المسألة خمسة أقوال: الأول: قول ابن طلحة بجواز المِثْل. الثاني: قول الجمهور بجواز الأكثر دون الكل. الثالث: قول مالك بمنع النصف وأحرى الأكثر. الرابع: قول اللخمي بمنع الأكثر من نص العدد. الخامس: قول ابن الماجشون بمنع استثناء العقد الصحيح من العدد دون غيره.

406 – وذا تعدُّدٍ بعطفٍ حصِّلِ … بالاتفاقِ مُسْجَلًا للأوَّلِ
يعني أن الاستثناءات المتعددة إذا كان بعضها معطوفًا على بعض ترجع كلها للأول الذي هو المستثنى منه، لا الأول من الاستثناءات. وقوله: “مُسْجَلًا” يعني مطلقًا، سواء كان الاستثناء مستغرقًا أم لا، إلَّا أنه يبطل في المستغرق ويصح في غيره. مثال غير المستغرق: “له عليَّ عشرة إلَّا واحدًا وإلَّا اثنين وإلَّا ثلاثة” فتسقط الستة من العشرة فتبقى أربعة هي اللازمة له، ومثال المستغرق: “له عليَّ عشرة إلَّا خمسة وإلّا أربعة وإلَّا واحدًا” فالمجموع عشرة، فعلى القول بجمع مُفرق الاستثناء يبطل
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2736)، ومسلم رقم (2677) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/235)


جميع الاستثناءات لأنها بمثابة: “له عليَّ عشرة إلَّا عشرة”. وأما على القول بأنه لا يُجمع مُفرقه فلا يبطل إلَّا الذي حصل به الاستغراق مع ما بعده إن كان بعده شيء، والباطل الذي حصل به الاستغراق في هذا المثال الأخير هو الواحد لأنه آخر مذكور حصل به الاستغراق فتسقط تسعة ويلزم واحد لبطلان الاستثناء فيه. وقوله: “ذا تعدد” مفعول به مقدَّم لقوله: “حَصِّلِ”.

407 – إلَّا فكلٌّ للذي به اتَّصلْ … . . . . . . . . . . . . .
قوله: “إلَّا” يعني وإلَّا تكن الاستثناءات المتعددة متعاطفة بل كانت متعددة من غير تعاطفِ فكلٌّ منها عائد إلى ما قبله يليه ما لم يستغرقه، فإن استغرقه فسيأتي للمؤلف. ومثالُ رجوع كلٍّ لما قبله يليه مع عدم الاستغراق قوله: “عليَّ عشرة إلَّا خمسة إلَّا أربعة إلَّا ثلاثة” فيلزمه ستة لأن الثلاثة تخرج من الأربعة فيبقى واحد يخرج من الخمسة فتبقى أربعة تخرج من العشرة تبقى ستة. وهذا الذي مشى عليه المؤلف هو الحق، خلافًا لقول ابن مالك في “الخلاصة” برجوعها كلها للأول، حيث قال:
* وحكمها في القصد حكم الأول *
فإن استغرق كل ما يليه بطل الجميع نحو: “له عليَّ عشرة إلَّا عشرة إلَّا عشرة إلَّا عشرة” فتلزمه العشرة لبطلان الاستثناءات كلها، وإلى هذا أشار بقوله:

. . . . . . . . . . . . . … وكلُّها عند (1) التساوي قد بَطَل
__________
(1) الأصل: مع.

(1/236)


أي ويدل له قوله المتقدم: “والمثل عند الأكثرين مبطل” (1).

408 – إن كان غيرُ الأول المستَغْرِقا … فالكل للمُخْرَجِ منه حُقِّقا
يعني أن الاستثناء إذا تعدد واستغرق غير الأول عاد الكل إلى المُخْرَجِ منه الذي هو المستثنى منه نحو: “له عليَّ عشرة إلَّا اثنين إلَّا ثلاثة إلَّا أربعة” فيخرج الكل من العشرة يبقى واحد فقط هو اللازم.

409 – وحيثُما استغرقَ الأولُ فقطْ … فأَلْغِ واعتبر بخَلْفٍ في النَّمَطْ

يعني أنه إذا تعدَّد الاستثناء ولم يستغرق منه إلَّا الأول فقط نحو: “له عليَّ عشرة إلَّا عشرة إلَّا أربعة” فقيل: يُلغى ما يعد المستغرق تبعًا له وهو الأربعة في المثال المذكور فتلزم العشرة، وهذا هو معنى قوله: “فألْغِ”. وقيل: يعتبر ما بعده، وعليه فقد اخْتُلِف في نمط أي طريق اعتباره فقيل: يُستثنى الثاني من الاستثناء الأول، فتلزم أربعة لأن العشرة المستثناة من العشرة منفية لأن الاستثناء من الإثبات نفي، والأربعة المستثناة منها منفية لأن الاستثناء من النفي إثبات. وقيل: يعتبر الاستثناء الثاني ويبطل الأول، فيكون الثاني الذي هو استثناء الأربعة في المثال المذكور من العشرة الأولى وهي مثبتة، وهو من الإثبات نفيٌ فتبقى ستة هي اللازمة.
410 – وكلُّ ما يكونُ فيه العطفُ … من قبلِ الاستثنا فكُلًّا يقفو
411 – دونَ دليلِ العقلِ أو ذي السَّمعِ … والحقُّ الافتراقُ دون الجَمْعِ
يعني أن الاستثناء الوارد بعد متعاطفات سواءٌ كانت مفردات أو
__________
(1) البيت رقم (403).

(1/237)


جملًا فإنه يرجع لكلها حيث صلح له، لأنه الظاهر عند الإطلاق إلَّا لدليل يُعَيِّن ما يرجع إليه الاستثناء من المتعاطفات، فإن وُجِد دليل يُعين الرجوع إلى بعضها اتُّبع.
مثاله في المفردات قولك: “تصدَّق على المساكين وأبناء السبيل وبني تميم إلَّا الفاسق منهم” فإنه يخرج فاسق الكل، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا يجلسَنَّ أحدُكم على تَكْرِمة أخيه ولا يؤمُّه في بيته إلَّا بإذنه” (1) فإنه راجع لهما.
ومثاله في الجُمَل قولك: “عبيدي أحرار ونسائي طوالق إلَّا المسلم منهم” فإنه يخرج مسلم الكل، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان/ 68 – 69] الآية، فإنه راجع إلى الكل.
وخالف أبو حنيفةَ الجمهورَ قائلًا: إن الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، ولأجل ذلك لم يقبل شهادةَ القاذف ولو تابَ وأصلحَ لأن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} يرجع عنده لخصوص جملة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} أي فقد زال فسقهم بالتوبة، ولا يَقْبل رجوع الاستثثاء إلى قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أي: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور/ 4 – 5] فاقبلوا شهادتهم، بل يقول: لا تقبلوها لهم مطلقًا، والاستثناء لم يرجع إليها لاختصاصه بالأخيرة.
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (673) من حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي اللَّه عنه- ضمن حديث، ولفظه: “ولا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه”.

(1/238)


ولم يخالف أبو حنيفة قاعدَتَه هذه في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ} فإنه موافق للجماعة في رجوعه لجميع الجمل قبله، ووجه عدم مخالفته فيه لأصله: أنه عنده راجع إلى الأخيرة فقط وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)} إلَّا أن الإشارة في قوله: {ذَلِكَ} راجعة إلى جميع الجمل المتقدمة، وبرجوعه لها صار الاستثناء راجعًا للكل فظهر أن أبا حنيفة لم يخالف فيها أصلَه.
قال مُقيِّده عفا اللَّه عنه: هذه القاعدة التي ذكرها المؤلف وذكرناها عن الجمهور، منهم المالكية والشافعية والحنابلة، مِن رجوع الاستثناء لجميع المتعاطفات قبله تقتضي صحة احتجاج داود الظاهريِّ على إباحة جمع الأختين في الوطء بملك اليمين؛ لأنه يقول: إن قوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} راجع أيضًا لقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23] أي: إلَّا ما ملكت أيمانكم من الأخوات فلا يحرم فيه الجمع.
والجواب عن هذا: أن التحقيق في هذه المسألة هو ما حقَّقه بعضُ المتأخرين كابن الحاجب (1) من المالكية، والغزالي (2) من الشافعية والآمدي (3) من الحنابلة (4) = مِن أَنَّ حُكم الاستثناء بعد الجمل المتعاطفات
__________
(1) انظر “المختصر – مع شرحه”: (2/ 281) للأصفهاني.
(2) انظر “المستصفى”: (2/ 177).
(3) انظر “الإحكام في أصول الأحكام”: (2/ 506).
(4) كان حنبليًّا في أول أمره، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، انظر: “البداية والنهاية”: (17/ 214)، و”طبقات الشافعية الكبرى”: (8/ 306 – 307).

(1/239)


هو الوَقْف لاحتمال رجوعه للكل أو البعض أخيرًا أو أوَّلًا.
ووَجْه كون هذا القول هو التحقيق: أن القرآن يشهد له في آيات كثيرة كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ} إلى قَوْله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور/ 4 – 5] فإنه لا يرجع إلى الجملة الأولى التي هي {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} لأن القاذف لا يسقط عنه حدّ القذف بالتوبة. وكقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء/ 92] فإنه لا يرجع للأولى لأن تَصَدُّق مستحق الدية بها لا يُسقط كفارةَ القتل خطأً. وكقوله تعالى: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ} [النساء/ 89 – 90] الآية، فإنه لا يرجع للأخيرة التي هي: {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} لأن اتخاذهم أولياء حرامٌ مطلقًا دون استثناء، ولكنه راجع للأولين أعني قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} أي خذوهم بالأسْرِ واقتلوهم، إلَّا الذين يَصِلُون إلى قومٍ بينكم وبينهم ميثاق فليس لكم أسْرُهم ولا قَتْلُهم لأن لهم من الميثاق ما لمن وصلوا إليهم، لاشتراطهم ذلك في عقد الصلح الذي عقده -صلى اللَّه عليه وسلم- مع هلال بن عُوَيمر، وسراقة بن مالك.
وإذا كان الاستثناء ربما لا يرجع للأخيرة التي هو يليها فكيف يكون نصًّا في الرجوع إلى غيرها؟ ! فتبين أنه لا حجة لداود الظاهري في الاستثناء بقوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} على التحقيق.
وفرَّق بعضُ العلماء بين المفردات والجملِ فقال: يرجع للكل في المفردات بلا خلاف، وفي الجُمَل فيه خلاف، وفرَّق بعضهم بين العطف

(1/240)


بالواو وبين العطف بغيرها قائلًا برجوعه للكل في الواو دون غيرها.
وقوله: “والحق الافتراق دون الجمع” يعني أنه على القول برجوع الاستثناء لجميع المتعاطفات قبله فالحق أنه يعود إلى الجميع مفرَّقًا ولا يعود إليه مجموعًا، وتظهر ثمرةُ ذلك فيما لو قال: “أنتِ طالق ثلاثًا وثلاثًا إلَّا أربعًا” فعلى التفريق تلزمه الثلاث لأن قوله: “إلَّا أربعًا” راجع لكل من الثلاث بانفراده، والأربعة مستغرقة للثلاث فيبطل الاستثناء في كل منهما لاستغراقه، وعلى الجمع تجمع الثلاث والثلاث فيكون مجموعها ستة فيكون كمن قال: “ستًّا إلَّا أربعًا” فتلزمه طلقتان.

412 – أمَّا قِرانُ اللفظ في المشهورِ … فلا يُساوي في سِوى المذكُورِ
يعني أن القِران بين جملتين مثلًا، أو مفردَيْن مثلًا، أي الإتيان باللفظين الدالَّين عليهما مقترنين لا يوجب التسوية بينهما في غير ذلك الحكم المذكور، كقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة/ 196] عند من يقول بعدم وجوب العمرة فإنه تعالى قَرَن بينهما في حكم، هو وجوب الإتمام بعد الشروع، فلا يلزم من ذلك مساواتهما في الحكم ابتداءً، ومن قال بالوجوب يقول: معنى الإتمام ابتداء فعلهما والإتيان بهما تامَّين. وما ذكره المؤلف من أن القِران في اللفظ لا يدل على المساواة في غير ذلك الحكم هو مذهب الجمهور خلافًا لبعض المالكية، والمُزَنيِّ من الشافعية، وأبي يوسف من الحنفية، وعليه تكون العمرة واجبة كالحج ولو على أن المراد بالإتمام الإتمام بعد الشروع.

413 – ومنه ما كان مِنَ الشرطِ أَعِدْ … للكلِّ عند الجلِّ أو وَفْقًا تُفِدْ

(1/241)


اعلم أولًا أن الشرط من حيث هو أربعة: شرط عقليّ كالحياة للعلم، وشرعيّ كالطهارة للصلاة، وعاديّ كالسُّلَّم لصعود السطح، ولغويّ وهو المقصود هنا.
وقوله: “ومنه” أي ومن المخصِّص المتصل “ما كان” أي ما شابه إنْ الشرطية من أدوات الشروط كـ “مهما ومتى” ونحوِهما من جوازم فعلين، وكـ “إذا ولو”، والمراد بالشرط الأداة وفعل الشرط لأنهما هما الدالَّان على التخصيص كقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور/ 33]، يُفْهم منه تخصيص الأمر بالكتابة بالذين عُلِم منهم خيرٌ دون غيرهم، أي فإن لم تعلموا فيهم خيرًا فلا تكاتبوهم، وحقيقةُ الشرط المخصص هو تعليق حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملةٍ أخرى.

وقوله: “أعدْ للكل عند الجل أو وَفْقًا” يعني أن الشرط يعود لكل الجمل المتقدمة عند الجمهور وقيل: اتفاقًا. ووَجْه ذلك أن الشرط له صدر الكلام فهو مقدم على مشروطه تقديرًا. ورُدَّ هذا بأنه مقدَّم على خصوص ما هو راجع إليه فلا يلزم من ذلك رجوعه للكل، فإن رجع للأخيرة قُدِّم عليها فقط، وعلى هذا فلا يظهر بينه وبين الاستثناء فَرْق.
414 – أخرجْ به وإن على النِّصْفِ سما … كالقومَ أكرِمْ إن يكونوا كُرَما
يعني أنه يجوز الإخراج بالشرط وإن كان المخرَج به أكثر من المخرَج منه نحو: “أكرِم القومَ إن كانوا كرماءَ” فيصح ولو كان المخرَج بالشرط أكثر وهم اللؤماء، وقوله: “وإن على النصفِ سما” أي زاد على النصف.

(1/242)


415 – وإن ترتَّبَ على شرطينِ … شيءٌ فبالحصولِ للشرطَيْن

يعني أنه إن اشْتُرط شرطان أو أكثر في شيء فإنه لا يحصل إلا بحصول الجميع، فلو قال لزوجته: “إن دخلتِ الدارَ وكلمتِ زيدًا فأنتِ طالق” لم تَطْلُق إلا بالشرطين معًا وهكذا.
416 – وإن على البدلِ قد تعلَّقا … فبحصولِ واحدٍ تُحُقِّقا

يعني أنه إن عُلِّق شيءٌ على أحدِ شرطين على سبيل البدل نحو: “إن دخلتِ الدارَ أو كلمتِ زيدًا فأنتِ طالق” فإنه يحصل بحصول أيِّ واحد منهما. وقوله: “تُحُقِّقا” بالبناء للمفعول.
417 – ومنه في الإخراج والعَوْدِ يُرى … كالشرط قُل وصفٌ وإن قبلُ جَرى
قوله: “ومنه” أي من المخصِّص المتصل، يعني أن من المخصِّص المتصل الوصف، نحو: “أكرِمْ بني تميم العلماءَ” فالعلماء وصف مُخْرِجٌ لغير العلماء منهم.
وقوله: “في الإخراج والعَودِ يُرى كالشرط” يعني أن الوصف كالشرط في أنه يعود للكل، وأنه يجوز به إخراج أكثر من النصف، فمثال رجوعه للكل: “هذه الدار حَبْس على أولادي وأولادهم المحتاجين” فإنه يخرج غير المحتاج من الأولاد وأولادهم.
وقوله: “وإن قبلُ جَرى” يعني أن التخصيص المذكور بالوصف واقع وإن جاء الوصف قبل الموصوف نحو: “هذه الدار حَبْس على محتاجي أولادي وأولادهم” فإنه يخرج غير المحتاجِ من الجميع.

418 – وحيثُما مُخَصِّصٌ توسَّطا … خصَّصَه بما يلي من ضَبَطا

(1/243)


يعني أن المخصِّص المتصل من صفةٍ، أو استثناءٍ، أو شرطٍ، أو غايةٍ، إذا توسَّط بين المتعاطفات كان مخصِّصًا لما قبله من المتعاطفات دون ما بعده، وهو مراده بقوله: “خصَّصَهُ بما يلي”، وقوله: “من ضَبَطا” يعني به السبكيَّ، ولم يقل السبكيُّ ذلك إلَّا في الصفة فقط مع قوله: “إنه لا يعلم فيها نقلًا” (1). وذكر ابن قاسم في “الآيات البينات” (2) أنه لا فرق بين الصفة وغيرها في تخصيص الكل لما قبله دون ما بعده، وإياه تبعَ المؤلِّف في قوله “وحيثما مخصص” إلخ حيث عمَّم في المخصص المتصل. ومثاله في الصفة قولك: “أكرم بني هاشم وبني زهرة العلماء وبني تميم” فإن التخصيص بوصف العِلم يكون فيما قبله لا فيما بعده، وقس على ذلك باقى المخصصات.
وروى عن الإمام الشافعي -رحمه اللَّه- ما يدل على أن الصفة المتوسطة بين المتعاطفات تخصِّص ما بعدها كتخصيصها لما قبلها، ولذا قال في طعام جزاء الصيد: إنه يُعطَى لخصوص مساكين الحرم؛ لأنه تعالى قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة/ 95] الآية، فالأول الذي هو الهَدْي خُصِّص ببلوغ الحرم، فجعل الشافعيُّ التخصيص بذلك فيما بعد الصفة وهو الإطعام فجعله لمساكين الحرم (3).

419 – ومنه غايةُ عمومٍ يَشْمُلُ … لو كان تصريحٌ بها لا يحصُلُ
__________
(1) انظر “شرح المحلي على الجمع”: (2/ 23).
(2) (3/ 53).
(3) انظر “الأم”: (3/ 471).

(1/244)


قوله: “ومنه” أي من المخصص المتصل “غايةُ عمومٍ” بإضافة “غاية” إلى “عموم” أي غاية صحبها عموم يشملها من جهة الحكم لو كانت لم تذكر معه كقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة/ 29] فإنَّ الأمرَ بالقتال عام تناولًا لمعطي الجزية كتناوله لغيره، فلو لم تُذْكر الغاية بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} لَعَمَّ الحكمُ إعطاء الجزية وغيره بوجوب القتال في كل ذلك، وهذا هو مراده بقوله: “غايةُ عموم يشملُ لو كان تصريح بها لا يحصل”.

واعلم أن الغاية تخصِّص سواء تقدمت أو تأخرت، فتقدُّمُها كقولك: “إلى أن يفسق أولادُ فلان وقفتُ عليهم داري” فإذا فسقوا نُزِعَ منهم الوقف، لتخصيص العموم بالغاية ولو تقدمت. ومثال تأخرها ما ذكرنا من الآيات، وقولك: “وقفتُ داري عليهم إلى أن يفسقوا”. وأصلُ الغايةِ منتهى الشيء.
420 – وما لتحقيق العُمومِ فَدعِ … نحو سلامٌ هيَ حَتَّى مَطلَعِ
يعني أن الغاية التي جيء بها لتحقيق العموم فيما قبلها ليست للتخصيص، أي دع التخصيص بالغاية المذكورة لتحقيق العموم كقوله
تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر/ 5] لأنها قد تكون غير مشمولة لما قبلها كهذه الآية، لأن مَطْلع الفجر لا تشمله الليلة لأنه من النهار.

421 – وهي لما قبلُ خلا تعودُ … وكونُها لما تلي بعيدُ
يعني أن الغاية كغيرها من المخصِّصات المتصلة تعود لجميع ما

(1/245)


قبلها من المتعاطفات، نحو: “وقف على أولاده (1) وأولادهم إلى أن يفسقوا” وقوله: “وكونها” إلخ، يعني أن القول القائل برجوعها لخصوص ما قبلها -وهو الأخير من المتعاطفات- بعيد، أي ضعيف.

422 – وبدلُ البعضِ من الكلِّ يفي … مُخصِّصًا لدى أُناس فاعرفِ

يعني أن بدل البعض من الكل من المخصِّصات المتصلة كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران/ 97] فقوله: {عَلَى النَّاسِ} عام، وقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} بدل بعضٍ منه مخصص له بالمستطيع دون غيره.
وقوله: “لدى أناس” أي منهم الشافعي وابن الحاجب (2). ويُخَصِّص أيضًا ببدل الاشتمال؛ لأنه راجع في الحقيقة لبدل البعض من الكل، كقولك: “أعجبني القومُ حديثُهم” والأكثرون لم يعدّوا بدلَ البعض من الكل من المخصِّصات، لأن المبدَل مثه في نية الطرح والمقصود بالحكم البدل، فكأن المبدَل منه لم يُذكر لعدم قَصْده بالحكم (3).
* * *
__________
(1) ط: وقفت على أولادي.
(2) انظر “المختصر – مع شرحه”: (2/ 248)، و”حاشية البناني”: (2/ 24).
(3) انظر “المصدر السابق”، و”البحر المحيط”: (3/ 350).

(1/246)


المخصِّص المنفصل
423 – وسمِّ مُسْتَقِلَّهُ منفصِلا … للحِسِّ والعقل نماة الفُضَلا
هذا هو القسم الثاني من أقسام المخصص وهو المنفصل، وعرَّفه المؤلِّف بأنه المستقلّ بنفسه عن العام، أي لا يحتاج إلى ذكره مقترنًا بالعام، وهو قسمان: لفظيّ وغير لفظيّ. وبدأ المؤلف بغير اللَّفظي لقلته، وهو التخصيص بالحس والعقل.
وقوله: “للحس والعقل نماه الفضلا” أي نسب الفضلاءُ المخصِّصَ المنفصل إلى الحسّ فقالوا:
مُخصِّصٌ منفصل واقع بالحسِّ، ويمثلون له بقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف/ 25]، فقوله: {كُلَّ شَيْءٍ} يعم الأرض والجبال والسماء، والحسُّ بالعين يشاهدها غير مُدَمَّرة، فدلَّ على خصوص التدمير بغيرها. وبعضهم قال: إن هذا التخصيص باللفظ في قوله: {بِأَمْرِ رَبِّهَا} وهذا لم يأمرها ربُّها بتدميره. وله مخصِّص آخر لفظي، وهو تخصيص التدمير بما أتت عليه دون غيره المشار إليه بقوله: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)} [الذاريات/ 42].
ومخصِّص منفصل واقع بالعقل كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر/ 62] الآية دلَّ العقل على عدم دخول اللَّه جل وعلا فى هذا العموم، مع أن لفظ “الشيء” يطلق عليه كما في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص/ 88]، وقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ

(1/247)


اللَّهُ} [الأنعام/ 19] الآية. وقوله: “الفضلا” مقصور لضرورة الوزن، والمراد به الأصوليون.

424 – وخَصِّصِ الكتابَ والحديثَ بهْ … أو بالحديث مطلقًا فَلْتَنْتَبِهْ
يعني أنه يخصَّصُ الكتابُ والحديثُ بالكتاب والحديثِ، فصُوَرُ التخصيص بالنص المنفصل أربع؛ لأن المُخَصِّصَ باسم الفاعل، والمُخَصَّص باسم المفعول، كل منهما يكون كتابًا ويكون سنة، فتضرب حالتي المُخَصِّص بالكسر في حالتي المخصَّص بالفتح بأربع:

الأولى: تخصيص الكتاب بالكتاب كتخصيص قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة/ 228] الآية بغير الحوامل بقوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق/ 4]. وكتخصيصه أيضًا بغير المدخول بهنَّ بقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب/ 49] الآية.
الثانية: تخصيص الكتاب بالسنة كتخصيص قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء/ 24] بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا تُنكح المرأة على عَمَّتها أو خالتها” (1)، وكتخصيص قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء/ 11] بحديث: “لا يرث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ” (2)،
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (5109)، ومسلم رقم (1408) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.
(2) أخرجه البخاري رقم (6764)، ومسلم رقم (1614) من حديث أسامة بن زيد -رضي اللَّه عنه-.

(1/248)


وكقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا نُوْرَث ما تركناه صدقة” (1).

الثالثة: تخصيص السُّنَّة بالسُّنَة كتخصيص قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “فيما سقت السماء العشر” (2) بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ليس فيما دون خمسةِ أوْسُق صدقة” (3).
الرابعة: تخصيص السّنّة بالكتاب، كتخصيص قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “ما أُبِيْن من البهيمة وهي حية فهو ميت” (4) الشامل عمومه للوَبَر والصوف والشَعر
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3092)، ومسلم رقم (1758) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.
(2) أخرجه البخاري رقم (1483) من حديث ابن عمر، وأخرجه مسلم رقم (981) من حديث جابر -رضي اللَّه عنهما-.
(3) أخرجه البخاري رقم (1405)، ومسلم رقم (979) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-.
(4) أخرجه أحمد: (36/ 233 رقم 21903)، وأبو داود رقم (2852)، والترمذي رقم (1480)، والدارمي رقم (2016 – ط أسد)، والدارقطني: (4/ 292)، والحاكم: (4/ 239) وغيرهم من حديث أبي واقد الليثي -رضي اللَّه عنه-.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زيد بن أسلم، والعمل على هذا عند أهل العلم اهـ. وقال ابن القطان: وإنما لم يصححه الترمذي لأنه من رواية عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن دينار وهو يضعَّف وإن كان البخاري قد أخرج له اهـ. انظر “بيان الوهم والإيهام”: (3/ 583). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. وقد حكم أبو زرعة الرازي على هذه الرواية بالوهم وأن الصواب من حديث زيد بن أسلم عن ابن عمر مرسلًا. انظر “العلل” رقم (1479) لابن أبي حاتم. وهذه الرواية أخرجها ابن ماجه رقم (3216).
وللحديث شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الحاكم: (4/ 124) وصححه على شرط الشيخين، وأعله الدارقطني بالإرسال “العلل”: (11/ 259). وله شاهد آخر من حديث تميم الداري أخرجه ابن ماجه رقم (3217)، والطبراني في =

(1/249)


بقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} [النحل/ 80] الآية، وكتخصيص قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أُمِرْت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا اللَّه” (1) الشامل لأهلِ الكتاب بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة/ 29] الآية.
واعلم أن التحقيق هو تخصيص العام بالخاص سواء تقدم العام أو الخاص أو جُهل الحال، خلافًا لأبي حنيفة القائل بأن العام المتأخِّر ناسخ للخاصِّ، وأنه إن جُهل التاريخ تساقطا (2)، وهو رواية عن أحمد (3).
واعلم أيضًا أَنه يجوز تخصيصُ الكتاب والسّنّة المتواترة بأخبار الآحاد؛ لأن التخصيص بيان، والقطعيُّ يُبَيَّنُ المقصودُ منه بالآحاد على التحقيق، كما يأتي للمؤلف في قوله: “وبين القاصر من حيث السند” (4) إلخ.

425 – واعتبرَ الإجماعَ جلُّ الناسِ … وقِسْمَي المفهومِ كالقياسِ
يعني أن الإِجماع اعتبره جلُّ الأصوليين مخصِّصًا للعموم، والتحقيقُ أن التخصيص في نفس الأمر بالنص الذي هو مستند الإِجماع،
__________
= “الكبير” رقم (1276) وسنده ضعيف. انظر “البدر المنير”: (1/ 460 – 467)، و”الهداية” رقم (172) للغماري.
(1) أخرجه البخاري رقم (25)، ومسلم رقم (22) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-.
(2) انظر “ميزان الأصول”: (ص/ 323 – وما بعدها).
(3) انظر “العدة”: (2/ 615 – وما بعدها)، و”التمهيد”: (2/ 155) لأبي الخطاب، و”المسودة”: (ص/ 145 – 146).
(4) البيت رقم (456).

(1/250)


ويوضِّح ذلك أنهم يمثلون للتخصيص بالإِجماع بتخصيص قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج/ 30] بغير الأخت من الرضاع، وبغير موطوءة الأب للإجماع على عدم إباحتهما بملك اليمين، والمخصص حقيقة في الأولى هو قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء/ 23]، وفي الثاني قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء/ 22] وهكذا.
وقوله: “وقسْمَي المفهوم” أي واعتَبَرَ جلُّ الناس أيضا قسْمَي المفهوم مخصِّصَيْن للعام وهما: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة اللذان تقدم الكلام عليهما، وظاهر كلامه وجود الخلاف في كلٍّ من المفهومَين وهو كذلك في مفهوم المخالفة. أما مفهوم الموافقة فقد حَكَى الاتفاقَ على التخصيص به الآمديُّ (1) والسبكيُّ في “شرح المختصر” (2).
ومثاله تخصيص قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عقوبته وعرضه” (3) ومعنى “لَيُّ الواجد” ظُلْم الغني، ومعنى “يُحل” بقوله: “مَطَلني”،
__________
(1) “الإحكام في أصول الأحكام”: (2/ 529).
(2) المسمى “رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب”: (3/ 336).
(3) أخرجه أحمد: (29/ 465 رقم 19746)، وأبو داود رقم (3628)، والنسائي: (7/ 316)، وابن ماجه رقم (2427)، وابن حبان “الإحسان”: (11/ 486)، والحاكم: (4/ 102) وغيرهم من حديث الشريد بن سويد -رضي اللَّه عنه-.
والحديث صححه ابن حبان والحاكم وابن الملقن في “البدر المنير”: (6/ 656)، وحسنه الحافظ في “الفتح”: (5/ 76).

(1/251)


و”عقوبته” (1) أي بالحبس. وظاهر هذا الحديث العموم ولو كان الواجد الذي حصل منه اللّيُّ أبًا في دين ابنه، ولكنَّ مفهوم الموافقة في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء/ 23] يدلُّ على تحريم الأذى بالحبس الذي هو أشد من التأْفيف، فيخصَّص عمومُ الحديث بمفهوم الموافقة في هذه الآية، فيمتنع حبس الوالد في دَيْن ولده كما نص عليه مالك (2).
وأما مفهوم المخالفة فقد اخْتُلف في جواز التخصيص به كما أشار له المؤلف، وحكى الباجي (3) مَنعْ التخصيص به عن أكثر المالكية، والجمهور على التخصيص كما أشار له المؤلف.
وحجة من قال بالتخصيص به: أن إِعمالَ الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وهو الحجة في التخصيص بمفهوم الموافقة أيضًا.
وحجة من قال بعدم التخصيص بمفهوم المخالفة: أن ما دل عليه العام دل عليه بالمنطوق، والمخالفة مفهوم، والمنطوق مقدّم على المفهوم.
وأجيب عن هذا بأن تقديم المنطوق على المفهوم في غير المنطوق الذي هو بعض أفراد العام. أما المنطوق الذي هو بعض أفراد العام فيقدَّم عليه المفهوم؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما.
ومثال التخصيص بمفهوم المخالفة: تخصيص عموم “في أربعين
__________
(1) ط: يحل -بقوله: مطلني- عقوبته. وما في خ أصح.
(2) انظر “تهذيب المدونة”: (3/ 620).
(3) ذكره عنه في “النشر”: (1/ 251).

(1/252)


شاةً شاةٌ” (1) بمفهوم قوله: “في الغنم السَّائمة زكاة” (2) يفهم منه أنه لا زكاة في المعلوفة فيُخَصَّص به عموم: “في أربعين شاةً شاةٌ” أي إن كانت سائمة لا معلوفة عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة، وهم أكثر.

وقوله: “كالقياس” يعني أن الأكثر يخصِّصون النص بالقياس، ومثال ذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور/ 2] فإنه يعم بظاهِرِهِ كل زانيةٍ وكل زانٍ، ثم إن عموم الزانية خصصه النص بالحُرَّة في قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء/ 25]. وخصَّص العلماءُ عمومَ الزاني الذَّكَرِ بالقياس على الزانية بالعلة الجامعة التي هي الرق فقالوا: لا فرقَ بين الأَمَة والحُرة إلَّا الرِّق فتشطَّر جَلْد الأمة لعلة الرق، فيُشَطَّر جلد العبد لاتصافه بعلة التشطير التي هي الرق، فصار عموم الزانية مخصصًا بالنص، وعموم الزاني مخصَّصا بالقياس على النصِّ.
426 – والعُرفَ حيث قارنَ الخطابا … . . . . . . . . . . .
قوله: “والعرفَ” عَطْف على الإِجماع في قوله: “واعتبر الإجماع”
__________
(1) أخرجه أحمد: (33/ 220 رقم 20016)، وأبو داود رقم (1575)، والنسائي: (5/ 25) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وسنده حسن.
(2) أخرجه البخاري رقم (1454) بلفظ: “وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة. . . “. قال ابن الصلاح في “شرح مشكل الوسيط” (2/ 435 – بهامش الوسيط ط: دار السلام): “إن قول الفقهاء والأصوليين: “في سائمة الغنم زكاة” اختصار منهم للمفصل في لفظ الحديث من مقادير الزكاة المختلفة باختلاف النصب”. ونقله ابن الملقن في “البدر المنير”: (5/ 459).

(1/253)


إلخ، يعني أن العرف من مخصِّصات العام، وهو مخصِّص منفصل كما تقدم في قول المؤلف: “إن لم يكن فمطلق العرفيّ فاللغويّ” إلخ.
وقوله: “حيث قارنَ الخطابا” يعني أن العوائد لا تخصِّص نصوص الشريعة إلَّا إذا كانت مقارنة لها في الوجود عند النطق بها، أما الطارئة بعدها فلا تخصِّصْها.
ومثالُ العرف المقارن للخطاب: ما أخرجه مسلم والإمام أحمد من حديث مَعْمر بن عبد اللَّه العدوي رضي اللَّه عنه قال: كنتُ أسمع النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “الطعامُ بالطعام مِثْلًا بمثلٍ وكان طعامُنا يومئذٍ الشعير” (1) فلفظ الطعام يعمّ كل أجناسه إلَّا أن العُرْف المقارن للخطاب خصَّصه بالشعير كما قال هذا الصحابي الجليل، فيخصِّص العرفُ المقترنُ بالخطاب الطعَامَ بالمتعارف عندهم باسم الطعام وهو الشعير، ولولا أن هذا العُرْفُ خصَّص الطعامَ بذلك لكان الربا منصوصًا في جميع أنواع المطعومات، ولم يحتجْ فيها إلى قياسٍ أصلًا كما ذهب إليه الشافعي. والعرف والغالب والعادة مترادفات، وعرَّفه ابن عاصم في أصوله بقوله:
والعرف ما (2) يغلبُ عند الناس … ومثله العادةُ دونَ باس

. . . . . . . . . . . … وَدَعْ ضميرَ البعضِ والأسبابا
427 – وذِكْرَ ما وَافَقَه من مفرَدِ … ومذهبَ الرَّاوي على المُعْتَمَد

هذه أربع مسائل اختُلِف في التخصيص بها، والمعتمد عدم التخصيص
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (1592)، وأحمد: (45/ 223 رقم 27250).
(2) الأصل: وما.

(1/254)


بها، ولذا قال فيها المؤلف: “دَعْ” أي دعِ التخصيصَ بها على المعتمد.

الأولى: ضمير البعض، وقيل: يخصِّص العامَّ، وهو مروي عن الشافعي وأكثر الحنفية. ومثاله قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنّ} [البقرة/ 228] فإنه راجع إلى بعض المطلقات وهي الرجعيات خاصة، ورجوع ضمير بعض المطلقات للمطلقات لا يجعله خاصًّا بالرجعيات بل جميع الرجعيات والبوائن كلهنَّ يتربصن بأنفسهنَّ ثلاثةَ قروء، فالعمومُ باقٍ وإن رجع إليه ضمير البعض. وعلى القول الآخر فالتربص المذكور في خصوص الرجعيات، أما تربص البوائن فبدليل آخر كالقياس على الرجعيات أو نصّ منفصل.
الثانية: سببُ النزول لا يخصِّص العامَّ النازل فيه، وتحريرُ هذا المقام: أن العام الوارد على سبب خاص له ثلاث حالات:
الأولى: أن يقترن بما يدل على التعميم.
الثانية: أن يقترن بما يدل على التخصيص.
الثالثة: ألا يقترن بما يدل على عموم ولا خصوص.
فإن اقترن بما يدل على التعميم فهو عام بلا نزاع كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة/ 38] فإنها نزلت في المخزومية التي سرقت وقطع -صلى اللَّه عليه وسلم- يدها. وقال بعضُ العلماء: نزلت في الرجل الذي سرق رداءَ صفوان بن أمية في مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (1)، فعلى أنها نزلت في المرأة فالإتيان بلفظ “السارق” الذَّكَر دليل على التعميم، وعلى
__________
(1) انظر “تفسير ابن كثير”: (3/ 1171 – 1172).

(1/255)


أنها نزلت في الرجل فالإتيان بلفظ “السارقة” الأنثى يدل على التعميم.
وإن اقترن بما يدل على الخصوص فهو خاص بلا نزاع، ومثاله قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب/ 50] الآية فهذا خاصٌّ بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والخاصُّ به عام على التحقيق كما تقدم في قول المؤلف: “وما به قد خوطب النبي” (1) إلخ، فإذا عرفتَ عمومه فاعلم أنه مقترن بما يدل على التخصيص وهو قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}.
وإن لم يقترن بما يدل على عموم ولا خصوص فهو مراد المؤلف بقوله: “والأسبابا” أي دعَ تخصيص العام بسب نزوله لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ومثاله: آية الظهار النازلة في امرأة أوس ابن الصامت، وآية اللعان النازلة في هلال بن أمية (2) وعُوَيمر العجلاني (3)، وآية: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} النازلة في تميم الدَّاري وعدي بن بداء، وآية: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال/ 70] النازلة في العباس بن عبد المطلب. وآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة/ 196] النازلة في كعب بن عُجْرة، وآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء/ 65] النازلة [في] خَصْم الزبير بن العوام، وآية: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة/ 195] النازلة في الأنصار. فكل هذه الآيات يعم من نزلت فيه الآية وغيره،
__________
(1) البيت رقم (372).
(2) الأصل: مرة!
(3) فيما أخرجه البخاري رقم (4745)، ومسلم رقم (1492) عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-.

(1/256)


فآية الظهار تعم كلَّ مُظاهر، وآية اللعان تعم كل ملاعن، وهكذا. . وإن نزلت في أسبابٍ خاصة.
والدليل على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: قصةُ الأنصاري الذي نال بعض ما لا يجوز من امرأة أجنبية فلما سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنزل اللَّه فيه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود/ 114] فسأل ذلك الأنصاريُّ: هل ذلك خاص به؟ فبيَّن له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه عامٌّ بقوله: “بل لأمتي كلهم” (1) فكان فيه الدليل الصريح على أن العبرة بعموم {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ. . .} الآية لا بخصوص الأنصاري الذي هو سبب النزول.

الثالثة: ذِكْر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصِّصه على التحقيق، وهو مذهب الجمهور ولم يخالف فيه إلَّا أبو ثور، زاعمًا أنه لا فائدة لذكره إلَّا التخصيص. وأُجيب من جهة الجمهور بأنه مفهوم لقب وهو ليس بحجة، وبأن فائدة ذكَر البعض نفي احتمال إخراجه من العام.
وسواء ذُكِرا في نص واحد أو ذُكِر كل منهما على حِدَته، فمثال ذكرهما في نص واحد قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة/ 238] فذِكْر الصلاة الوسطى لا يقتضي تخصيصَ الأمر بالمحافظة بها بل هو عام في جميع الصلوات. ومثال ذكر كل منهما على حدة: حديث الترمذي (2) وغيره: “أيُّما إهابٍ دُبغَ فقد طَهُر”. مع حديث
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (4687)، ومسلم رقم (2763) من حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-.
(2) رقم (1728)، وأخرجه مسلم رقم (366) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه =

(1/257)


مسلم أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرَّ بشاةٍ ميتة فقال: “هَلَّا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به” الحديث (1)، فإنَّ ذِكْر إهاب الشاة لا يدلُّ على تخصيص ذلك بجلد الشاة الميتة فقط بل يعم جلود الميتة لعموم: “أيما إهابٍ دُبغ فقد طَهُر”.

المسألة الرابعة: مذهب الراوي لا يُخَصِّص مَرْوِيَّه لأن العبرة بمَرْوِيِّه لا بمذهبه؛ لجواز أن يكون قوله عن اجتهادٍ. وقيل: يخصِّصه لأنه لا يخالف مرويَّه إلَّا عن دليل. وقيل: يفرَّق بين الصحابي وغيره فيُقْبل من الصحابي دون غيره، لأنه إذا خالف مرويَّه دلَّ ذلك على أنه اطلع منه -صلى اللَّه عليه وسلم- على قرينة تدل على تخصيص ذلك العام، وأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أراد به الخصوص، والتابعيُّ لا يتأتَّى له ذلك لعدم اجتماعه به -صلى اللَّه عليه وسلم-. وما راءٍ كمن سَمِعا.
ومثاله: حديث البخاري (2) من رواية ابن عباس: “من بَدَّل دينَه فاقتلوه”. وهو شامل للمرأة إذا ارتدت، مع ما يُرْوى عن ابن عباس من أنه يقول بعدم قتل المرتدة، إلَّا أنه لم يصح عنه، ولكن سيأتي للمؤلف (3):
والشأن لا يُعْتَرض المثالُ … إذ قد كَفَى الفرضُ والاحتمالُ

428 – واجزِمْ بإدخال ذواتِ السَّبَبِ … واروِ عنِ الإِمَامِ ظَنًّا تُصِبِ
يعني أن صورة السبب الذي ورد عليه العام قطعيةَ الدخول في العام فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد، فالمرأة التي نزلت فيها آية الظهار داخلةٌ في
__________
= عنهما- بلفظ: (إذا دبغ. . .).
(1) أخرجه مسلم رقم (363) من حديثه أيضًا.
(2) رقم (6922).
(3) البيت رقم (809).

(1/258)


حكمها قطعًا، والرجل الذي نزلت فيه آية اللعان داخل في حكمها قطعًا؛ لأن ورودَ العام على تلك الصورة قرينة قطعية على شموله لها.
وقوله: “وارْوِ عن الإمام ظنًّا تُصِب” فِعْل أمر من الرواية، والإمام هو مالك، يعني أنَّ القرافيَّ روى عن مالك أن دخول صورة السبب في العام ظنِّي، فارْوِهِ عن مالك تُصِب، أي توافق الصواب. وحجة هذا القول: أنها من إفراد العام وليست دلالته قطعية إلَّا على واحد منها غير معيَّن كما تقدم في قوله: “وهو على فردٍ يدلُّ حتمًا” (1) إلخ.
وما ألزمه المحلِّي (2) للإمامِ أبي حنيفة من القول بأنه أخرج صورة السبب في قوله بأن الأَمَةَ التي لم يُقر سيدُها باستلحاق ولدٍ (3) منها لا يلحقه ولو كان متسرِّيًا بها، إذ لابد عنده من الإقرار قائلًا -أعني المحلّي-: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في خصومةِ عَبْد بن زَمْعة وسعد بن أبي وقاص: “الولد للفراشِ. . . ” (4) فالأمةُ صورة السبب وأبو حنيفة أخرجها = لا يلزمُ أبا (5) حنيفة لأنه لم يسلِّم أن مجرَّد التَّسَرِّي تكون به الأمة فراشًا بل لا تكون عنده فراشًا إلَّا بالإقرار باستلحاق ولدٍ منها، وأمةُ زمعة عنده استلحق منها ولدًا قبل التنازع فيه بدليل قولِ عَبْد بن زمعة: “وليدة أبي” فهي فعيلة بمعنى فاعلة
__________
(1) البيت رقم (356).
(2) في “شرح الجمع”: (2/ 40).
(3) ط: باستلحاقه ولدًا.
(4) أخرجه البخاري رقم (2053)، ومسلم رقم (1457) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.
(5) الأصل: أبو.

(1/259)


أي والدٌ لأبي، ولو ثبت أنها ولدت منه قبل ذلك وضحَ كونها فراشًا فإنه لا يخرجها من العام لأنها صورة السبب حينئذٍ حقًّا.

429 – وجاء في تخصيصِ ما قد جاورا … في الرَّسْم ما يعمُّ خُلْفُ النُّظَرا
قوله: “خُلْفُ” فاعِل “جاء”. وقوله: “تخصيص ما” مصدر مضاف إلى فاعِلِه، ومفعولُه: “ما يُعَم” فـ “ما” الأولى فاعل المصدر أضيف إليه، وما الثانية مفعوله.
وقوله: “في الرسم” يتعلق بـ”جاور”. وتقرير المعنى: وجاءَ خُلْفُ النُّظراء -أي المتناظرين- في تخصيص الخاصِّ المجاور للعام في الرسم له، أي إذا ذُكِر خاصٌّ ثم ذُكِر بعده عام مجاور له في الرسم هل يُحمل ذلك العام على خصوص ذلك الخاص أو لا؟
مثاله: قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء/ 25]، فقوله: {تَكُونُوا صَالِحِينَ} خاص بالمخاطبين، وقوله: {لِلْأَوَّابِينَ} عامٌّ لكل أوَّاب من المخاطَبِين وغيرهم [من عامة الناس، فهل يُحمل قوله: {لِلْأَوَّابِينَ} على خصوص المخاطبين أو] (1) يبقى على عمومه وشموله لكل أوَّاب كائنًا ما كان؟ وأمثال هذا في القرآن كثيرة، كقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} [آل عمران/ 32].
__________
(1) ما بين المعقوفين من ط.

(1/260)


430 – وإن أتى ما خَصَّ بعدَ العملِ … نَسَخَ وَالغَيرُ مُخصِّصًا (1) جلي
يعني أنه إذا تعارض دليلان أحدهما عام والآخر خاص، وتأخَّر الخاص عن وقت العمل بالعام، فإن الخاص يكون ناسخًا للعام بالنسبة إلى ما تعارضا فيه.
ومثاله: آيات المواريث مع آية الوصية للوالدين والأقربين عند من يقول بأنها مخصصة، لأن تخصيصها بآيات المواريث يُخرج من عمومها الوالدين الوارثين والأقارب الوارثين دون غيرهم، كالوالدين الرقيقين والأقارب الذين لا يرثون، فمن يقول بهذا التخصيص فهو تخصيص بعد العمل بالعام (2)، فهو نسخ، وأما على قول الأكثر بأن آيات المواريث ناسخة لآية الوصية من أصلها، وأن حديث: “لا وصيةَ لوارثٍ” (3) بيانٌ للناسخ فلا تصلح الآية مثالًا.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: ما ذكره جماعة من علماء التفسير من أن آية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة/ 5] ناسخة لقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام/ 121]؛ لأن عموم {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} يتناول ما ذبحه كتابيٌّ لم يسمِّ اللَّه ولا غيره، ثم أخرج الكتابيَّ من عموم هذه الآية بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ} الآية، وهو
__________
(1) في بعض النسخ: مخصص.
(2) ط: بالعمل بعد العام.
(3) سيأتي تخريجه (ص/ 297).

(1/261)


تخصيص بعد العمل، لأن آية: {وَلَا تَأْكُلُوا} من سورة الأنعام وهي مكية بالإجماع، وآية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} من سورة المائدة وهي من آخر القرآن نزولًا بالإجماع بالمدينة، فهذا التخصيص بعد العمل نسخ، ودليل ذلك أن التخصيص بيان، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إليه كما يأتي للمؤلف (1).

431 – وإن يكُ العمومُ من وجهٍ ظَهَرْ … فالحكمُ بالترجيحِ حتمًا مُعْتَبرْ
يعني أن الدليلين إذا كان بينهما عموم وخصوص من وجه يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها، فيجب الترجيح بينهما، ويجب العمل بالراجح إجماعًا، وخلافُ الباقلاني في وجوب العمل بالراجح مردود عليه بالإجماع كما يأتي للمؤلف في آخر الكتاب (2).
ومثال ذلك: قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء/ 23] مع قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون/ 6] فإن بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه، تنفرد آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} في الأختين بنكاح، وتنفرد آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في ملك اليمين غير الأختين، ويجتمعان في الأختين بملك اليمين، فتدل آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} على التحريم، وآية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} على الإباحة كما قال عثمان رضي اللَّه عنه: أحلتهما آية وحرمتهما أخرى (3)،
__________
(1) البيت رقم (461).
(2) البيتان (865، 866).
(3) أخرجه مالك في “الموطأ” رقم (1543)، وعبد الرزاق: (7/ 189).

(1/262)


فيرجَّح عمومُ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} من خمسة أوجه:
الأول: أنه في محل تحريم النساء وتحليلهن، وآية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في معرض مدح المتقين، فذكر من صفاتهم حِفْظ الفرج فاستطرد أنه لا يلزم عن الزوجة والسُّرِّية، وأَخْذ الأحكامِ من مظانّها أولى من أخذها لا من مظانها.
الثاني: أن عمومَ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أجمعَ العلماءُ على تخصيصه، للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يخصِّصه عمومُ {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} وعموم: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء/ 22] الآية، فالأخت من الرضاع وموطوءة الأب لا تحلّان بملك اليمين إجماعًا بخلاف عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} فلم يدخله التخصيص، والعامُّ الباقي على عمومه مقدَّم على العام المخصوص كما يأتي للمؤلف أيضًا، ولم يخالف في ذلك إلَّا السبكي وصفي الدين الهندي (1).
الثالث: أن عموم: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وارد في معرض مدح المتقين، والعامُّ الواردُ في معرض مدح أو ذم قيل بعدم اعتبار عمومه كما تقدم في قوله: “وما أتى للمدح أو للذم” إلخ، وعموم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} لم يَرِد في معرض ذم ولا مدح، وما لم يقترن بمانع الاعتبار مقدَّم على ما قال بعدمِ اعتبارِه بعضُ العلماء كما هو ظاهر.
الرابع: أن الأصل في الفروج التحريم ما لم يدل دليل سالم من
__________
(1) انظر “الجمع”: (2/ 367)، و”نهاية الوصول في دراية الأصول”: (8/ 3704 و 3714) للهندي.

(1/263)


المعارض على الإباحة.
الخامس: أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يتضمن إباحةً، وعموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} يتضمن تحريمًا، والتحريم مقدَّم على الإباحة؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فتركُ مباحٍ أهون من ارتكاب حرام كما سيأتي للمؤلف.
* * *

(1/264)


المقيّد وَالمطلق
432 – فما على معناه زِيدَ مُسْجَلا … مَعنى لغيرهِ اعتقِدْهُ الأوَّلا
يعني أن الأولى الذي هو المقيد هو: ما زِيْد معنًى على معناه لغير معناه نحو: “رقبة مؤمنة” فالإيمان معنى زيد على معنى الرقبة، فالرقبة مقيدة بالإيمان. وقوله: “مُسْجلا” معناه مطلقًا أي سواءٌ ذُكِر القيد أو كان مقدَّرًا، فمثال ذكره قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء/ 92]. ومثال تقديره قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)} [الكهف/ 79] فالسفينة هنا مقيدة بالصفة المقدرة أي كل سفينة صالحة صحيحة، وكذلك كان يقرؤها ابن عباس (1).
وقول عَبيد بن الأبرص (2):
مَنْ قوله قولٌ ومَن فعله … فعلٌ ومَن نائلُه نائلُ
أي: قوله قولٌ فَصْل، وفعله فعل جميل، ونائله نائل جَزْل.
وقول الآخر (3):
وَرُبَّ أسيلةِ الخدَّين بكر … مهفهفةٍ لها فرعٌ وجيد
أي: فرع فاحم وجِيد طويل.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3401)، ومسلم رقم (2385)، وابن جرير: (15/ 354).
(2) “ديوانه”: (ص/ 94).
(3) البيت للمرقش الأكبر، انظر “المفضليات”: (ص/ 224)، و”الأغاني”: (6/ 126). وفيها: منعَّمة لها.

(1/265)


433 – وما على الذات بلا قيدٍ يدُلْ … فمطلقٌ وباسمِ جنسٍ قد عُقِلْ
يعني أن المطلق الذي هو اسم الجنس هو: اللفظ الدال على الماهية بلا قيد أي من غير تقييد بوحدة أو تعيين خارجي أو ذهني، لأنه إن قُيد بوحدة صار النكرة، وإن قُيد بتعيين خارجي صار المعرفة، كالمُعَرَّف بأل العهدية، وإن قُيد بتعيين ذهني صار علمَ الجنس، وعلى هذا التعريف فعَلَم الجنس لا يدخل في اسم الجنس، لأنه مقيّد بالوحدة الذهنية بخلاف اسم الجنس فإنه غير مقيد بشيء، ولكنَّ هذا يشكل عليه أن من فرَّق بين النكرة واسم الجنس كالسبكي جعل موضوع القضية الطبيعية هو اسم الجنس، ومعلوم أن موضوع القضية الطبيعية لابد فيه من مراعاة الوحدة الذهنية للماهية، إذ احتمال دخول الفرد في ضمنها لا يصح في الطبيعية وإن صح في اسم الجنس؛ لأن الماهيَّة في اسم الجنس لا تتحقق في الخارج إلا في ضمن بعض أفرادها، والطبيعية لا يمكن (1) وجودُ فردٍ من أفرادها الخارجية لأنها لم يقصد فيها إلا الماهية من حيث هي هي، فهي المحكوم عليه دون أفرادها الخارجية، فلو قلت: إنسانٌ كلِّي، لا يمكن الحكم بكونه كليًّا على فرد من أفراد الإنسان؛ لأن كل فرد من أفراده جزئي، صمانما الكلِّيُّ الصادق عليه الحكم: ماهيته. وجعل العبادي في “الآيات البينات” (2) عَلَم الجنس في حكم اسم الجنس.
واعلم أن المراد بالجنس هنا ما يشمل الجنس والنوع والصنف عند
__________
(1) الأصل: يكمن.
(2) (3/ 83).

(1/266)


المنطقيين، كالحيوان فإنه جنس، والإنسان فإنه نوع، والعربيّ فإنه صنف.
وحاصل الفرق بينهما (1): أن كل حقيقية اعتبرت من حيث هي هي فهي المطلق، وإن اعتبرت بإضافة شيء آخر إليها فهي المقيد.

434 – وما على الواحدِ شاع النَّكِرَه … . . . . . . . . . . .
يعني أن اللفظ الدالَّ على واحد شائع في جنسه، أي يصح إطلاقه على كل فرد من أفراد الجنس إطلاقًا بدليًّا هو النكرة نحو: “رجلٌ، ورقبةٌ” وكذلك “رجلان” فإنه يدل على اثنين شائعين في جنسهما، و”رجالٌ” فإنه يدل على ثلاثة شائعة من جنسها، فلفظ المطلق والنكرة واحد، وإنما الفرق بينهما اعتباري، لأن المطلق يعتبر فيه مطلق الماهية من غير قيد بشيء، والنكرة يعتبر فيها الواحد الشائع في جنسه.
فإن قيل: إذا كان المعتبر في اسم الجنس مطلق الماهية وهي ذهنية، فأيُّ حاجة للأصول في الحقائق الذهنية؟
قلنا: إن الحقائق الذهنية المطلقة قد توجد في الخارج في ضمن أفرادها، فالأفراد إذًا تدخل في المطلق لضرورة عدم وجوده في الخارج إلا في ضمنها.

. . . . . . . . . . . … والاتحادُ بعضُهم قد نصرَه
يعني أن اتحاد النكرة واسمِ الجنس، وأن كل واحد منهما هو ما دل على واحد شائع في جنسه، نَصرَه بعضُ الأصوليين وهو مذهب ابن
__________
(1) أي: المطلق والمقيد.

(1/267)


الحاجب والآمدي (1)، وعليه عامة النحويين، لأن الموجود في الخارج هو الفرد، والماهية الذهنية لا وجود لها في الخارج، وقد قدمنا وجودها فيه ضمن أفرادها.
وثمرة الخلاف في هل دلالة المطلق على الفرد بالمطابقة أو الالتزام؟ فعلى الاتحاد مع النكرة فهي مطابقة، وإلا فهي التزام، والمراد بالنكرة المتحدة بالمطلق عند هذا البعض هي النكرة في سياق الإثبات التي لم تقترن بأداة استغراق نحو: “رجلٌ، ورقبة” أما التي في سياق النفي كـ “لا رجلَ” والتي في سياق الإثبات مع الاستغراق نحو: “كلُّ رجلٍ” فهي للعموم، ولم تتحد باسم الجنس.

435 – عليه طالقٌ إذا كان ذكَرْ … فولَدَت لاثنين عندَ ذي النظَرْ
يعني أنه ينبني على الفرق بين النكرة واسم الجنس خلافُ الفقهاء فيمن قال لزوجته: “إن ولدت ذكرًا فأنت طالق” فولدت ذكرين هل تطلق أم لا؟ فعلى إرادة المطلق تطلق لأن التعليق على مطلق الماهية وقد وُجِدت في ضمن كل من الولدين، وعلى إرادة النكرة لم تَطْلق لأنها جاءت بغير المعلق عليه، لأن الوحدة الشائعة التي هي مدلول النكرة في معنى: إن ولدت ذكرًا واحدًا، وقد جاءت بذكرين، وكونهما اثنين مخالف للوحدة الشائعة التي هي معنى النكرة.

436 – بما يخصِّصُ العمومَ قَيِّدِ … ودَعْ لِما كان سواه تقتدي
__________
(1) انظر “المختصر – مع شرحه”: (2/ 349)، و”الإحكام”: (3/ 5) للآمدي.

(1/268)


يعني أن المطلق يقيد بما يخصَّص به العامُّ من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس.
مثاله في الكتاب: تقييد الآيات التي أطلق فيها الدّمُ عن قيد المسفوحية في البقرة والنحل والمائدة بقيد المسفوحية في قوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام/ 145].
ومثال التقييد بالسنة: تقييد إطلاق المسروق في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة/ 38] الآية بالسنة التي بينت أن القطع مُقيد بكون المسروق ربع دينار (1) -مثلًا-.
ومثال التقييد بالإجماع: تقييد قوله تعالى: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} [الكهف/ 79] بالإجماع على أن المراد بها خصوص الصحيحة الصالحة، وقد تقدم أن التخصيص في الحقيقة بمستند الإجماع فكذلك التقييد.
ومثال التقييد بالقياس: تقييد قوله تعالى في كفارة الظهار واليمين: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة/ 89] و [المجادلة/ 3] بالقياس (2) على كفارة القتل المقيَّدة بالإيمان في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء/ 92] بناءً على القول القائل بأن حَمْل المطلق على المقيد بالقياس ورجَّحه بعض الأصوليين.
أما المخصِّصات المتصلة فالظاهر أن التقييد لا يكون بها إلَّا في
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (6789)، ومسلم رقم (1684) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.
(2) ط: بالإيمان بالقياس.

(1/269)


الصفة كقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}، وقوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف/ 110] لأن المطلق إما مطلق الماهية أو الواحد الشائع كما تقدم، والواحد لا تعدُّد في ذاته حتى يخرج بعضها بالاستثناء أو بالشرط أو بالغاية أو ببدل البعض، والمطلق على كونه مطلق الماهية لم يقصد به متعدد حتى يخرج بعضُ أفراده أيضًا.

437 – وحملُ مطلقٍ على ذاك وجبْ … إن فيهما اتحدَ حكمٌ والسَّبَبْ
يعني أنه إذا ورد في الوحي نصٌّ فيه إطلاق وآخر فيه تقييد وكان سببُهما واحدًا وحكمهما أيضًا واحدًا فإن المطلق يُحمل على المقيد كتقييد الدم في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة/ 3] بقيد المسفوحية المذكور في قوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام/ 145]؛ لأن السبب واحد والحكم واحد. وكتقييد قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا نكاح إلَّا بوليّ” (1) بقوله في بعض الروايات:
__________
(1) هذا الحديث روي عن نحو ثلاثين من الصحابة، وأحسن رواياته رواية أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- أخرجه أحمد: (32/ 280 رقم 19518)، وأبو داود رقم (2085)، والترمذي رقم (1101)، وابن ماجه رقم (1881)، وابن خزيمة -ذكره ابن الملقن-، وابن حبان “الإحسان” رقم (4077)، والحاكم: (2/ 169 – 172). قال الترمذي: هذا حديث حسن. . وحديث أبي موسى حديثٌ فيه اختلاف. ثم رجح الطريق الموصولة. وصححه عبد الرحمن بن مهدي وعلي ابن المديني وابن حبان والحاكم والبيهقي وابن الملقن وغيرهم. انظر: “السنن الكبرى”: (7/ 107 – 112)، و”إرشاد الفقيه”: (2/ 145 – 146)، و”نصب الراية”: (3/ 187 – 190)، و”البدر المنير”: (7/ 543 – 550).

(1/270)


“إلا بولي مُرْشد وشاهِدَي عدل” (1).

438 – وإن يكنْ تأخَّرَ المقيَّد … عن عَمَلٍ فالنسخُ فيه يُعهَدُ

يعني أن القيد إذا تأخر وروده عن أول وقت العمل بالمطلق كان القيد ناسخًا لما أخرجه من المطلق، وإنما انتقل من التقييد إلى النسخ لأن التقييد بيان والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت العمل كما يأتي للمؤلف، وكما تقدم نظيرُه في التخصيص. والحاصل أنه إنْ عُلِم تقدمُ المقيد على وقت العمل، أو كان المطلق هو الأخير ورودًا أو تقارنا، أو جُهِل التاريخ = حُمِل المطلق على المقيد. وإن تأخر التقييدُ عن وقت العمل كان ناسخًا (2). وكل هذه الصور يدخل في كلام المؤلف.
أما إذا عُلِم الأول منهما ونُسِيَ فالظاهر أيضًا أنه كذلك يُحمل فيه المطلق على المقيد ولا يُحْكَم بكونه نسخًا لاحتياج النسخ إلى دليل خاص يثبته كما يأتي للمؤلف، فلو فرضنا أن الشارع قال للمكفر: “اعتق رقبة” ثم قال بعد الفعل: “اعتق رقبة مؤمنة” كان القيد بالإيمان بعد العمل بعتق مطلق الرقبة نسخًا لعتق الكافرة لا تقييدًا، لمنع تأخر البيان عن وقت العمل.

439 – وإن يكن أمرٌ ونهي قُيِّدا … فمطلقٌ بضدِّ ما قد وُجِدا
__________
(1) أخرجه الشافعي في “الأم” رقم (2217)، والطبراني في الأوسط رقم (525)، والبيهقي في “الكبرى”: (7/ 112) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. والحديث حسنه الحافظ في “الفتح”: (9/ 98)، ونقل ابن الملقن في “البدر”: (7/ 551) عن الدمياطي أنه قال: إسناده لا بأس به.
(2) ط: نسخًا.

(1/271)


يعني أنه إذا كان الإطلاق والتقييد في أمر ونهي بأن كان الأمر والنهي أحدهما مطلق والثاني مُقيد، فإن المطلق منهما يُقيد بضدِّ القيد الذي قُيِّد به المقيّد لما بين الأمر والنهي من المضادة والمنافاة.
مثال تقييد النهي وإطلاق الأمر: “لا تُعْتِقْ رقبةً كافرةً أعتق رقبةً” فإن الرقبة المطلقة المأمور بعتقها تقيد بضدِّ القيد الذي قيدت به الرقبة المنهي عن عتقها وهو الكفر فضدّه الإيمان، فتقيد به الرقبة المطلقة المأمور بعتقها فيكون المعنى: “أعْتِق رقبة مؤمنة”.
ومثال إطلاق النهي وتقييد الأمر ما لو قلت: “لا تُعْتِقْ رقبة أعتق رقبة مؤمنة” فإن الرقبة المُطْلقة المنهي عن عتقها تُقيد بضد القيد الذي قُيدت به الرقبة المأمور بها، وقَيْدها هو الإيمان وضده الكفر، فتقيد الرقبة المطلقة المنهي عنه عتقها بالكفر، فيكون المعنى لا تُعتِق رقبةً كافرة.

440 – وحيثُما اتَّحَد واحدٌ فلا … يحمِلُهُ عليه جُلُّ العُقلا
اعلم أولًا أن أحوال المطلق والمقيد أربعة:
الأول: أن يَتَّحدا في الحكم والسبب معًا، وقد تقدم هذا قريبًا للمؤلف.
الثاني: أن يختلفا في الحكم والسبب معًا، وهذا لا حَمْل فيه لأحدهما على الآخر إجماعًا، ولذا لم يتعرض له المؤلف.
الثالث والرابع هما: إذا ما اتحد الحكم واختلف السبب أو اتحد السبب واختلف الحكم، وهما مراد المؤلف بهذا البيت.
وظاهرُ كلامه أن أكثر العقلاء لا يحمل أحدهما على الآخر وأنهما

(1/272)


سواء في ذلك، وليس كذلك؛ لأن حَمْل المطلق على المقيد فيما إذا اتحد الحكم واختلف السبب قال به جُلُّ الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية. ومثاله: إطلاق كفارة الظهار واليمين عن قيد الإيمان، وتقييد كفارة القتل خطأ به، فيُحْمَل المطلق على المقيد، فيشترط الإيمان في رقبة الظهار وكفارة اليمين، ويدلُّ لذلك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لمعاوية بن الحكم السلمي: “اعتقها فإنها مؤمنة” (1) ولم يستفصله، وتَرْكُ الاستفصال كالعموم في الأقوال، كما تقدم للمؤلف.
واخْتُلِف في دليل حَمْل المطلق على المقيَّد فقيل: هو اللغة لأن العرب يثبتون ويحذفون اتكالًا على المثبت، كقول قيس بن الخطيم (2):
نحن بما عندنا وأنت بما … عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ
وقول ضابئ بن الحارث البُرْجُمي (3):
فمنْ يَكُ أمسى بالمدينةِ. . . … . . . . . . . . . . البيت
وقول عمرو بن أحمر الباهلي (4):
رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي … بريئًا ومن أجل الطَّوِيِّ رماني
فحذف من الأول “راضون” لدلالة “راض” عليه، وحذف من الثاني
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (537).
(2) “ديوانه”: (ص/ 173) وقد نُسِبَ في مصادر أخرى إلى عَمْرو بن امرئ القيس.
(3) البيت في “الأصمعيات” (ص/ 184)، وانظر: “الخزانة”: (10/ 312). وتمامه:
فمَن يَكُ أَمسى بالمدينَهِ رَحلُهُ … فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِها لغَريبُ
(4) البيت في “إصلاح المنطق”: (ص/ 88)، و”شرح الحماسة”: (2/ 936) للمرزوقي.

(1/273)


“غريب” لدلالة لفظ “غريب” المذكور عليه، وحذف من الثالث “بريئًا” لدلالة المذكور عليه أيضًا.
وقيل: حَمْل المطلق على المقيد بالقياس كما تقدمت الإشارة إليه، وقيل: بالعقل وهو أضعفها.
وأما الحالة الثانية التي هي: اختلاف الحكم واتحاد السبب، فليس الحكم فيها كالأولى لأن الحنابلة يقولون بحَمْل المطلق على المقيد في الأولى دونها، وقال بعض المالكية والشافعية بحَمْل المطلق على المقيد فيها أيضًا.
ومَثَّلَ القائلون بعدم الحمل بقوله تعالى في صوم الظهار: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. . .} [المجادلة/ 4] فإنه قَيَّده بالتتابع وأطلق إطعام الظهار عن قيد التتابع فلا يُحْمل المطلق على المقيد، فلا يشترط التتابع في إطعام الظهار مع أن السبب واحد وهو الظهار والحكم غير واحد لأن هذا إطعام وهذا صوم.
ومَثَّلَ القائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الصورة بقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} في عِتْق الظهار وصومه مع أنه أطلق إطعام الظهار عن القيد بكونه قبل المسيس فيُحْمَل المطلق على المقيد، فيجب كون إطعام الظهار من قبل أن يتماسَّا.
ومَثَّلَ له اللخمي بقوله تعالى في كفارة اليمين: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} [المائدة/ 89]، وأطلق الكسوة عن القيد في قوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فيُحْمَل المطلق على المقيد، فتكون الكسوة من

(1/274)


أوسط ما تكسون أهليكم، وهذا كله فيما إذا كان المقيد واحدًا، وأما إن ورد مطلق ومقيدان بقيدين مختلفين فإنه لا يمكن حمله عليهما لتنافي قيديهما، فإن كان أحدهما أقرب إليه من الآخر حُمِل عليه، وإن لم يكن أحدهما أقرب من الآخر بقي على إطلاقه ولم يُقَيَّد بقيدِ واحدٍ منهما لاستحالة الترجيح بلا مرجِّح.
مثال كونه أقرب لأحدهما: صوم كفارة اليمين فإنه لم يقيد بتتابع ولا تفريق، مع أن صوم الظهار مقيَّد بتتابع، وصوم التمتع مُقيد بالتفريق، وكفارة اليمين أقرب إلى الظهار منها إلى التمتع، فتقيد بقيده وجوبًا عند بعضٍ وندبًا عند بعض. وقراءةُ ابنِ مسعود: (ثلاثة أيام متتابعات) لم يثبت بها كون (متتابعات) من القرآن؛ لإجماع الصحابة على عدم كَتْبِها في شيء من المصاحف العثمانية.
ومثال كونه ليس أقرب لأحدهما من الآخر: صوم قضاء رمضان فإن اللَّه قال فيه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة/ 185] ولم يُقَيِّده بتفريقٍ ولا تتابع، مع أن صوم الظهار مُقيد بالتتابع، وصوم التمتع مُقيد بالتفريق، وليس صومُ قضاء رمضان أقرب إلى أحدهما من الآخر، فيبقى على إطلاقه من شاء فَرَّقه ومن شاء تابعه.
ويجاب عن المؤلف بأنه أراد بِجُلِّ العقلاء خصوصَ المالكية، فتكون “ألْ” عهدية، لأن التأليف في أصولهم.
* * *

(1/275)


التأويل، والمُحكم، والمُجْمَل
التأويل في اللغة: ما تؤول إليه حقيقة الشيء، وذلك هو معناه في القرآن حيث جاء، وبعض العلماء كابن جرير الطبري يُطلق التأويل يعنى به التفسير. وفي اصطلاح الأصوليين هو ما عرَّفه المؤلف.
والمُحْكم في اللغة: اسم مفعول أَحْكَمه بمعنى أتقنه، وفي الاصطلاح سيأتي.
والمجمل: اسم مفعول أَجْمَله إذا خَلَطه بغيره ولم يميزه عنه، وفي الاصطلاح سيأتي أيضًا.

441 – حَملٌ لظاهرٍ على المرجوحِ … . . . . . . . . . . . .
يعني أن التأويل في اصطلاح الأصوليين هو: صَرْف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح، وحَمْله على ذلك المحتمل المرجوح لدليلٍ اقتضى ذلك، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الجار أحق بصقبه” (1)، فإنَّ حَمْل الجار على خصوص الشريك غير (2) المقاسم حَمْلٌ له على محتمل مرجوح، إلا أن ذلك الحَمْل (3) دلَّ عليه الدليل وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إذا ضُرِبت الحدود وصُرِفت الطرق فلا شُفعة” (4).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2258) من حديث أبي رافع -رضي اللَّه عنه-.
(2) ليست في ط، وهي مضافة في الأصل بخط أصغر.
(3) ط: المحتمل.
(4) أخرجه البخاري رقم (2257)، ومسلم رقم (1608) من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-.

(1/276)


… واقسِمْه للفاسدِ والصحيح
442 – صحيحُه وهو القريبُ ما حُمِلْ … معْ قوَّةِ الدليلِ عند المُسْتَدِلْ
443 – وغيرُه الفاسدُ والبعيدُ … وما خلا فلَعِبًا يفيدُ
يعني أن التأويل المذكور ينقسم إلى تأويل صحيح وتأويل فاسد، والصحيح هو “القريب” والفاسد هو “البعيد”.
أما التأويل القريب فهو الذي يكون فيه الدليل الذي دلَّ على صرف اللفظ عن المعنى الراجح الظاهر إلى المعنى الخفي المرجوح قويًّا في نفس الأمر، لا في ظن المؤوّل كما يوهمه قول المؤلف: “عند المستدل”. وليس مراده أن قوَّته عند المستدل تكفي ولو كان ضعيفًا في نفس الأمر، بل مقصوده مع قوة الدليل الكائن (1) عند المستدل.
وأما التأويل البعيد فهو كون الدليل الذي اسْتُدِل به على صرف اللفظ عن الظاهر الراجح إلى الخفي المرجوح ليس قويًا في نفس الأمر وإن كان المؤوِّل يظنه قويًّا. وذلك هو معنى قوله: “وغيره الفاسد والبعيد”.
وقوله: “وما خلا” إلخ يعني أن صرف اللفظ عن ظاهره إذا كان لغير دليل أصلًا فهو لَعِب ولا يسمَّى تأويلًا، وكذا إن صرفه عن ظاهره معتقدًا أن ذلك الصرف لا دليل عليه، ولو كان لذلك الصرف دليلٌ في نفس الأمر.
ومثال اللّعب: حَمْل أهل الأهواء كثيرًا من الآيات والأحاديث على معانٍ بعيدة من المقصود، كقول بعض غلاة الشيعة في قوله تعالى: {مَرَجَ
__________
(1) الأصل: الكامن.

(1/277)


الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن/ 19] أنهما عليّ وفاطمة رضي اللَّه عنهما، وأن قولَه: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} [الرحمن/ 20] يعني الحسن والحسين.
وقوله: “لعبًا” مفعول مقدم لقوله: “يُفيد” والمعنى أنه متلاعب بكتاب اللَّه أو سنة نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-.

444 – والخُلْفَ في فهمِ الكتاب صَيِّرِ … إيَّاه تأويلًا لَدى المختَصَر
يعنى أن خليلَ بن إسحاق المالكيَّ في “مختصره” (1) جعل لنفسه اصطلاحًا خاصًّا في التأويل وهو أنه اختلاف شارحي “المدَوَّنة” في فهمها، ومراد المؤلف بـ “الكتاب”: “المدَوَّنة”، وقوله: “إياه” ضمير منفصل مع تأتِّي الاتصال، وارتكبه للضرورة، كما أشار له في “الخلاصة” بقوله:
وفي اختيار لا يجيء المنفصلُ … إذا تأتَّى أن يجيء المتَّصلُ
ونظير ما ارتكبه المؤلف من الفصل في محلِّ الوصل للضرورة قول الشاعر:
بالباعثِ الوارثِ الأموات قد ضَمِنتْ … إيّاهمُ الأرضَ في دهرِ الدَّهاريرِ (2)

445 – فجعل مسكينٍ بمعنى المُدِّ … عليه لائحٌ سِمَات البُعْدِ
446 – كحملِ مرأةٍ على الصغيرَه … وما ينافي الحرَّة الكبيرَه
447 – وحملِ ما رُوِيَ في الصيامِ … على القضاءِ معَ الالتزامِ

ذكر في هذه الأبيات ثلاثَ مسائل من مسائل التأويل البعيدة:
__________
(1) انظر: مقدمته (ص/ 9).
(2) البيت للفرزدق “ديوانه”: (1/ 214).

(1/278)


الأولى: تأويل الحنفية المسكين في قوله: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة/ 4] بالمُدّ حيث جوَّزوا إعطاء ستين مدًّا لمسكين واحد في ستين يومًا، حيث جعلوا الذي لم يُذْكر -وهو المد- هو المقصود، والذي ذُكِر -وهو المسكين- غير مقصود، مع أن قَصْد العدد فيه من الفائدة ما لم يكن في الواحد، لأن إعطاء المكَفِّر ستين رجلًا يستدعي تظافر الكل على الدعاء له، وكثرة الداعين مظنة الإجابة، ومظنة صلاح البعض إن لم يكن الكل صالحًا، وهذا لا يوجد في الواحد. وهذا هو مراد المؤلف بالبيت الأول، فقوله: “جَعْلُ” مبتدأ وهو مصدر مضاف إلى مفعوله، ومفعوله الثاني الجار والمجرور الذي هو “بمعنى”، وقوله: “لائح” خبر المبتدأ، وقوله: “سِمات البُعْد” فاعل الخبر والمسوِّغَ لعمله مع أنه اسم فاعل منكر اعتماده على المبتدأ. والسمات: جمع سِمَة وهي العلامة. و”لائح” معناه ظاهر أي ظاهر عليه علامات البعد.
المسألة الثانية: حَمْل المرأة أيضًا في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل” (1) على خصوص المكاتبة؛
__________
(1) أخرجه أحمد: (40/ 243 رقم 24205)، وأبو داود رقم (2076)، والترمذي رقم (1102)، وابن ماجه رقم (1879)، وابن حبان “الإحسان” رقم (4074)، والحاكم: (2/ 168) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.
قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم، وصححه ابن حبان وعبد الحق وابن الجوزي وابن الملقن. انظر: “البدر”: (7/ 553 – 562).

(1/279)


لأنهم لما أرادوا حمله (1) على الصغيرة فقيل لهم: الصغيرة لا تسمى امرأة عرفًا فأرادوا حمله على الأَمَة، فقيل لهم: آخر الحديث يمنع ذلك فإن في بعض رواياته: “فإن أصابَ منها فلها مهر مثلها”، ومهر الأَمَة لسيدها لا لها. ووجه بُعْد هذا: أن لفظ “أيّ” صيغة عموم كما تقدم للمؤلف، وأُكِّدَ هذا العموم بـ “ما” المزيدة للتأكيد، وزيد التأكيد بتكرير قوله: “باطل باطل باطل” فقَصْر هذا العموم على صورة نادرة بعيد، وهذا هو مراده بالبيت الثاني.
المسألة الثالثة: حَمَل الحنفية أيضًا الصيام في حديث: “لا صيام لمن لم يُبَيِّتِ الصيامَ من الليل” (2) على خصوص النذر والقضاء دون الصوم الذي هو أحد دعائم الإسلام وهو صوم رمضان؛ لأن الصوم إذا أطلق ينصرف إليه فإخراجه من صيغة عامة هي نكرة مبنية على الفتح في سياق النفي بعيد، وقد تقدم أن النكرة إذا كانت كذلك فهي نصٌّ صريحٌ في العموم، ومراده بالالتزام النذر، وبالقضاء قضاء رمضان.

448 – وذو وضوحٌ محكمٌ والمجمَلُ … هو الذي المرادُ منه يُجْهَلُ
يعني أن المحكم في الاصطلاح هو: واضح المعنى نحو: {وَأَقِيمُوا
__________
(1) ط: حمله حملوه.
(2) أخرجه أحمد: (44/ 53 رقم 26457)، وأبو داود رقم (2446)، والترمذي رقم (375)، والنسائي: (4/ 509 – 510) وغيرهم من حديث حفصة -رضي اللَّه عنها-. وقد روي الحديث مرفوعًا وموقوفًا والموقوف أرجح وهو الذي رجَّحه الحفاظ: أبو حاتم وأبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم. انظر: “البدر المنير” (5/ 650 – 655).

(1/280)


الصَّلَاةَ} {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} ويُطلق المُحكم أيضًا مرادًا به غير المنسوخ، ويُطلق أيضًا مرادًا به المتقن كقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود/ 1].
وقوله: “والمجمل” إلخ، يعني أن المجمل في الاصطلاح هو: الذي لم يتضح المقصودُ منه لتردُّده بين معنيين متساويين في الاحتمال أو بين معان كذلك، فإن كان المجمل مشتركًا ففي حمله على معنييه أو معانيه ما تقدم من الخلاف.

449 – وما به استأثرَ علمُ الخالقِ … فذا تشابُهٍ عليه أطْلِقِ
يعني أن المتشابه في الاصطلاح هو: ما استأثر به أي اختص به علم اللَّه دون الخلق، وهذا التعريف للمتشابه مبني على قول الأكثر أن الكلام تمَّ عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران/ 7] وأن “الواو” في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} استئنافية. {وَالرَّاسِخُونَ} مبتدأ خبره جملة {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران/ 7]. وعلى تفسير الآية بهذا فالقسمة ثلاثية: محكم، ومجمل، ومتشابه. وأما على أن الواو عاطفة فالقسمة ثنائية: محكم ومتشابه، والمجملُ على هذا يدخل في المتشابه. وقوله: “ذا تشابه” مفعول مقدَّم لقوله: “أطْلِق”.

450 – وإن يكن عِلمٌ به مِنْ عَبْدِ … فذاك ليسَ من طريقِ العهدِ
يعني أنه لو أطْلَعَ اللَّهُ بعضَ أوليائه على علم شيء من المتشابه، فإنَّ تلك الطريقة إلى علم ذلك المتشابه ليست من الطرق المعهودة لإفادة العلم، وإذًا فلا ينافي ذلك حد المتشابه بأنه ما استأثر اللَّه بعلمه لأن النادرَ لا حكمَ له.

(1/281)


451 – وقد يجي الإجمالُ من وجهٍ ومِنْ … وجهٍ يَراه ذا بيانٍ من فَطِنْ

يعني أن النَّصَّ الواحد يكون مبيَّنًا من جهةٍ مجملًا من جهةٍ أخرى، كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام/ 141]، فإنه مبيَّن في أصل الحق مُجمل في القَدْر المطلوب منه.
452 – والنفيُ للصلاةِ والنكاحِ … والشَّبْهِ مُحكمٌ لدى الصِّحاح
يعني أن نَفْيَ الصلاة -مثلًا- في حديث: “لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأمِّ الكتاب” (1)، وحديث: “لا صلاةَ إلَّا بطَهُور” (2) ونحو ذلك، ونفي النكاح في حديث: “لا نكاح إلَّا بوليّ” (3) ليس من المُجمل خلافًا للباقلاني ومن وافقه. ووَجْه عدم إجماله: أن الحقيقة لا تُراد بالنفي لوجود صورتها في محل النفي، فيجب ارتكاب أقرب المجازاتِ [لنفي] الحقيقة (4)، وأقرب المجازات لنفي الحقيقة نفي الصحة، فيصير المعنى: لا صلاة صحيحة إلَّا بطهور، ولا نكاح صحيحًا إلَّا بولي. وحجّة القائل بالإجمال: أن نفي أصل الذات غير مقصود فيتوجه النفي إلى الصحة والكمال، فيصير مجملًا لاحتمال هذا [وهذا].

453 – والعكسُ في جداره ويَعْفو … والقَرْءِ في منع اجتماعٍ فاقْفوا
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (756)، ومسلم رقم (394) من حديث عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه-.
(2) أخرجه مسلم رقم (224) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-.
(3) تقدم تخريجه (ص/ 27).
(4) الأصل: المجازات للحقيقة، والمثبت من ط، ويدل عليه ما بعده.

(1/282)


قوله: “فاقفوا” أمرٌ من الاقتفاء وهو الاتباع، والمراد بـ “العَكْس” عكس الإحكام وهو عند المؤلف الإجْمال، والمعنى: اتبع العكس في الحديث والآيتين أي فكلها من المجمل؛ أما الحديث فهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا يمنع أحدكم جاره أن يضعَ خشبته في جداره” (1) لاحتمال رجوع الضمير إلى الأحد وإلى الجار، والتحقيقُ أن الحديث ظاهر في منع الإنسان من وضع خشبة الجار على جداره أي على جدار الإنسان المالك.
وأما الآيتان فالأولى منهما قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة/ 237] فإنه يحتمل الوليَّ كما قاله مالك، والزوج كما قاله الشافعي. والثانية منهما قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة/ 228] لأن القُرْءَ يُطلق على الطُّهْر وعلى الحيض، وعلى الطهرِ حمل الآيةَ مالكٌ والشافعيُّ، وقال أبو حنيفة وأحمد: المرادُ بالقُرْءِ الحيض.
وقوله: “في منع اجتماع” يعني أن المشترك بين معنيين متنافيين لا يمكن اجتماعهما كالقُرْء المذكور من المجمل، إذ لا يمكن قصد الكل فيتعين أن المقصود واحد، وكلٌّ منهما يحتمل أن يكون هو المراد.
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2463)، ومسلم رقم (1609) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. واللفظ الذي ساقه المؤلف (خشبته) عند الدارقطني: (4/ 228)، والبيهقي: (6/ 68).

(1/283)


البَيَان
يعني به التبيين كالسلام بمعنى التسليم.
454 – تصييرُ مُشكلٍ من الجليِّ … . . . . . . . . . . . .

يعني أن البيان هو تصيير المشكل جليًّا أي إخراجه من حال الخفاء إلى حال الظهور والاتضاح، وعلى هذا التعريف فبين المجمل والمبيَّن واسطة هي ما لا إشكال فيه أصلًا نحو: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء/ 32] فليس بمجمل ولا مبيَّن لأنه لم يدخل الإشكال حتى يخرج إلى حال الظهور.
. . . . . . . . . . . . … وهو واجبٌ على النبيِّ
455 – إذا أُريدَ فهمُه. . . … . . . . . . . . . . . .
يعني أن البيان بمعنى التبيين يجب على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا طُلِبَ منه تبيين ما فيه خفاء لأجل العمل به أو الإفتاء، كسؤال الرجل عن الحيض ليفتي به من لا يستطيع التعلُّم من النساء واللَّه يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل/ 44].

. . . . . . . . . . . وَهُوَ بما … من الدَّليل مطلقًا يجلو العَمَى

يعني أن البيان يكون بكلِّ ما يجلو العمى أي يزيل الجهلَ ويُبَيِّنُ المقصود من نصٍّ أو قرينة أو عقل أو حسٍّ، والمبيِّنُ تارةً يكون مقترنًا بالمبيَّن كقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة/ 187]، وتارةً يكون مستقلًّا عن كتبيين: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة/ 1]

(1/284)


بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة/ 3] الآية.

456 – وبيَّنَ القاصرُ من حيثُ السَّنَدْ … أو الدلالة على ما يُعْتَمد
يعني أن المُبيِّن -باسم الفاعل- لا يشترط أن يكون مساويًا للمبيَّن -باسم المفعول- في القوة بل يجوز تبيين الأقوى في السند أو الدلالة بما هو أضعف منه سندًا أو دلالة.
مثال تبيين الأقوى سندًا بما هو دونه في قوة السند؛ تبيين آيات الصلاة والزكاة بأخبار الآحاد، كتبيين: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام/ 141] بحديث: “ليسَ فيما دونَ خمسةِ أَوسُقٍ صدقة” (1).
ومثال تبيين الأقوى دلالة بما هو دونه في قوة الدلالة: تبيين المنطوق بالمفهوم، كتبيين أن المراد في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “في أربعين شاةً شاةٌ” خصوص السائمة بمفهوم قوله: “في الغنم السائمة زكاة” (2) عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة، فقوله: “القاصر” يعني الأضعف مرتبة (3)، لكونه آحادًا أو مفهومًا. وأضافَ “حيث” إلى المفرد بناءً على جوازه بِقِلَّةٍ، كقول الراجز:
أما ترى حيثُ سهيلٍ طالعا … نجمًا يُضيء كالشهاب لامعا (4)
__________
(1) متفق عليه، وقد تقدم.
(2) تقدم تخريجهما.
(3) تحتمل في الأصل: قرينة.
(4) تقدم تخريجه.

(1/285)


وقوله: “على ما يُعتمد” يشيرُ إلى خلافٍ في المسألة.
فإن قيل: لِمَ جاز البيان بالقاصر سندًا أو دلالة وامتنع النسخ بذلك؟
فالجواب: أن النسخ رفعٌ للحكم من أصله، والأقوى لا يرفعه ما هو أضعف منه، والبيانُ إرشادٌ للمقصود بالنص لا رفعٌ له فظهر الفرق (1).

457 – وأوجِبَنَّ عندَ بعضٍ عِلْمًا … إذا وجوبُ ذي الخفاءِ عمَّا
يعني أن بعض الأصوليين أوجبوا كون الدليل الحاصل به البيان يفيد العلم، أي اليقين، إذا كان المبيَّن -باسم المفعول- يجب على كلِّ أحد، أما إذا كان لا يجب على كلِّ أحد فلا يُشترط فيه عند أهل هذا القول حصول اليقين في البيان. وهذا القول للعراقيين محتجِّين بأن عموم وجوبه تتوفر به الدواعي إلى نقله تواترًا، وما كان كذلك لا يُقبل آحادًا، وعلى هذا القول لا يصح بيان القطعيات كالصلاة والزكاة بأخبار الآحاد بل بالمتواتر فقط، والتحقيق الأول.

458 – والقولُ والفعلُ إذا توافَقا … فانمِ البيانَ للذي قد سَبَقا
يعني أن إذا ورد نصٌّ يحتاج إلى بيان، ثم ورد بعده قول وفعل كلاهما صالح للبيان وليس في أحدهما زيادة على الآخر، فإن الأول منهما هو المبيِّن، فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} الآية يحتمل أن قَطْع اليد من الكوع ويحتمل المرفق والمنكب؛ لأن اليد تطلق على الجميع، فإذا قال
__________
(1) في الهامش تعليق نصه: “يرد على ما فرق به هنا ما ذكره -رحمه اللَّه- في كتابه “مذكرة أصول الفقه” (ص/ 86 – 87) من وقوع نسخ المتواتر بالآحاد”.

(1/286)


النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن القطع من الكوع، وقَطَع المخزومية التي سرقت من الكوع، فالسابق من الأمرين هو المبيِّن:

459 – وإن يزدْ فعلٌ فللقولِ انتسِبْ … والفعل يقتضي بلا قيدٍ طلَبْ
يعني أنه إذا ورد نصٌّ يحتاج إلى بيان، وجاء بعده قول وفعل كلاهما صالح للبيان، وفي الفعل زيادة ليست في القول = فالبيان بالقول، والزيادةُ الحاصلةُ في الفعل تقتضي طلبًا متوجهًا إلى خصوص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وقوله: “بلا قيد” يعني أن الطلب المذكور المتوجه لخصوصه -صلى اللَّه عليه وسلم- المفهوم من الزيادة الفعلية غير مُقيد بإيجاب ولا ندب بل هو محتمل للكل، فالنصوص الواردة في الصوم -مثلًا- تحتمل جوازَ الوصال وعدمه، وقد نهى -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوصال بالقول مع أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَلَه، فيكون البيان بالقول، ووصالُه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدل على أنه مطلوب بذلك دون أمته، ولكن لا يدل إلا على مطلق الطلب من غير قيدٍ بإيجاب أو غيره، وقوله: “طلبْ” وقف على بالسكون على لغة ربيعة.

460 – والقولُ في العَكْس هو المبيِّنُ … وفعلُهُ التخفيفُ فيه بيِّنُ
مراده بالعكس عكس ما قبله الذي هو زياة الفعل على القول، فعكسه المراد هنا زيادة القول على الفعل، يعني أنه إذا جاء فعل وقول كلاهما صالح للبيان، والحالُ أن في القول زيادة على الفعل، فإن البيان يكون بالقول، والفعل يدل على تخفيفٍ خاصٍّ بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في القدر الذي نقص به الفعل عن القول، فلو فرضنا -مثلًا- أنه أمَرَ بطوافين وطاف هو طوافًا واحدًا فالمبيِّن هو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، واقتصاره على واحد يدل على عدم

(1/287)


وجوب الثاني عليه.

461 – تأخّر البيانِ عن وقتِ العملْ … وقوعْه عند المجيزِ ما حَصَلْ

يعني أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يؤخِّر بيانًا عن وقت الحاجة إليه، سواء كان المبيَّن -بالفتح- ظاهرًا في غير المراد أو مجملًا، حتى على قول من قال بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، والحقُّ أنه لم يَجُز ولم يقع.
فإن قيل: قد وقع في صبح ليلة الإسراء فإنَّ جبريل لم يبيِّن للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كيفية الصلاة وأوقاتها إلا من وقت الظهر.
فالجواب: أن الصبح لم تجب لأن أول الواجب بعد فرضها الظهر، أما صلاة صبح ليلة الإسراء فلم تجب، لأنها لو وجبت لوجب قضاؤها، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يصلها أداءً ولا قضاءً، وعدم وجوبها يحتمل أن يكون أصل الوجوب معلقًا على البيان، والواجب المعلق لا يجب حتى يوجد المعلق عليه، أو أنه أُوحي (1) إليه أن أول واجب الظهر.

462 – تأخيره للاحتياج واقِعُ … وبعضُنا هُوَ لذاك مانِعُ
463 – وقيل بالمنع بما كالمطلقِ … ثم بعكسِه لدى البعضِ انْطِقِ

مراده بالبيتين أن تأخير البيان إلى وقت العمل به فيه أربعة مذاهب:
الأول: جوازه مطلقًا لأنه لا يلزم فيه محذور كتأخير بيان المناسك إلى وقت الحج، وكتأخير بيان الصفات الكاشفة لبقرة بني إسرائيل.
واعْتُرِض هذا الأخير بأنه ما كان يحتاج إلى بيان، إذ لو ذبحوا
__________
(1) تحتمل: أومأ.

(1/288)


بقرةً (1) لأجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم فشدَّدَ اللَّه عليهم، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء اللَّه في مبحث النسخ قبل التمكن من الفعل.
الثاني: منع تأخير البيان المذكور مطلقًا، وهو قول بعض المالكية وفاقًا للحنفية والمعتزلة وبعض الشافعية، ووَجْه هذا القول: أن تأخير البيان يخل بفهم المراد وقت الخطاب، لأنه في المجمل لا يُفْهم المقصود منه، وفي الظاهر يتبادر منه غيرُ المقصود.
الثالث: منع تأخير البيان (2) في ماله ظاهر يوهم غير المراد دون ما لا ظاهر له كالمجمل، وهذا قول أبي الحسين المعتزلي، وهو مبنيٌّ على التحسين والتقبيح العقليين، لأن ما لا ظاهر له كالمجمل لا يوقع في غير المراد بل ينشأ منه الجهل البسيط، والجهلُ البسيط لا يخلو عنه البشر، بخلاف ما له ظاهر غير مراد فإنه يوقع في الجهل المركب من جَهْلِه بالمرادِ وجَهْلِه بأنه جاهل به، لاغتراره بالظاهر الغير المقصود.
الرابع: عكس هذا القول، وهو يجوز تأخير البيان إلى وقت الفعل في ما له ظاهر دون ما لا ظاهر له. ووَجه هذا القول: أن ما له ظاهر له فائدة في الجملة دون غيره.
وأشار المؤلَف إلى المذهب الأول بالشطر الأول، وإلى الثاني بالشطر الثاني، وإلى الثالث بالشطر الثالث، وإلى الرابع بالشطر الرابع. مثال ما لا ظاهر له قوله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة/ 1]. ومثال ما له
__________
(1) ط: أي بقرة.
(2) بعده في ط: إلى وقت الفعل.

(1/289)


ظاهر غير مراد قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “الجار أحق بصقبه” (1) فإن ظاهره وجوب الشُّفعة للجار والمراد به خصوص الشريك المقاسم كما تقدم.

464 – وجائزٌ تأخير تبليغ له … . . . . . . . . . . . .
يعني أنه يجوز تأخير التبليغ إلى وقت الحاجة، فاللام في قوله: “له” للغاية بمعنى إلى، والضمير المجرور بها عائد إلى وقت العمل.
فإن قيل: ما الفرق بين تأخير التبليغ إلى وقت الحاجة مع تأخير البيان إليه؟
فالجواب: أن تأخير التبليغ لا يلزمه المحذور الذي يلزم تأخير البيان؛ لأن تأخير البيان يُخِل بفهم المراد، وتأخير التبليغ من أصله ليس كذلك. وَجَزم بعضهم بأن القرآن يجب تبليغه فورًا لأنه متعبَّد بتلاوته، وهو الظاهر. وقال بعض العلماء: يجب التبليغ فورًا مطلقًا لأن اللَّه قال لنبيه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة/ 67] والأمر للفور، وفيه الخلاف المتقدِّم.

. . . . . . . . . . . . … ودَرْءُ ما يُخْشى أَبى تعجيلَه
يعني أن تعجيل التبليغ قد يمتنع ويجب تأخيره إلى وقت الحاجة إذا كان في تعجيله مفسدة يدرؤها تأخير التبليغ، فلو أُمِر -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتال أهل مكة قرب زمن (2) الهجرة، وجبَ تأخير التبليغ لئلا يستعد العدو إذا علم فيعظم
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) ط: زمن قرب.

(1/290)


الفساد، ولذا لما أراد -صلى اللَّه عليه وسلم- قتالهم قطع الأخبارَ عنهم حتى دَهَمهم، وكان ذلك أيْسر لأخذهم.

465 – ونسبةُ الجهل لذي وجودِ … بما يُخصصِّ من الموجودِ
يعني أنه على القول بمنع تأخير البيان إلى وقت الحاجة يجوز أن يكون المكلفُ الموجود وقت الخطاب قد سمع العام مع جهله بمخصِّصِه، ودليلُه الوقوعُ؛ لأن فاطمة بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رضي اللَّه عنها سمعت عمومَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء/ 11] ولم تعلم بتخصيصه يقول -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا نورث ما تركناه صدقة” (1)، ولذا طلبت إرْثها منه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أبي بكر الصديق.
وقيل: لا يجوز وقوعُ جهلِ الموجودِ وقت الخطاب بالمخصِّص لِمَا فيه من تأخير الإعلام بالبيان.
وأجيب بأن المحذور تأخير البيان وهو منتفٍ هنا، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يبلِّغ كلَّ أحد بعينه بل بلَّغ البعض وقال: “ليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ” (2).
وقوله: “نسبة” مبتدأ خبره “من الموجود” أي من الواقع. وقوله: “لذي وجوب” متعلق بـ “نسبة” وقوله: “بما” متعلق بـ “الجهل”. وقوله: “يخصِّصُ” بالبناء للفاعل.
* * *
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه البخاري رقم (67)، ومسلم رقم (1679) من حديث أبي بكرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/291)


النسخ
هو لغة الإزالة (1)، ومنه نَسَخت الشمسُ الظّلَّ، والريحُ الأثرَ، وهذا هو أصل معناه الاصطلاحي، ويُطلق النسخ لغة أيضًا على النقل والتحويل، ومنه: تناسخ المواريث، وتناسخ الأرواح، واصطلاحًا هو ما أشار له المؤلف بقوله:
466 – رفعٌ لحكم أو بيانُ الزَّمَنِ … بمُحْكم القرآن أو بالسُّنَن
يعني أن النسخ اختلف في حدِّه، قيل: هو رفع حكم شرعي بخطاب شرعي متراخٍ (2) عنه. كرفع الحكم بالاعتداد بحولٍ بالاعتداد بأربعة أشهر وعشر، فخرج بقوله: “رفعُ حُكْمٍ شرعيّ” رفعُ البراءةِ الأصلية، وبقوله: “بخطابٍ شرعي” رَفْع الحكم بارتفاع محله أو بانتهاء غايته إذا كان مغيًّا ونحو ذلك، وخرج بقوله: “متراخٍ عنه” ما يرفعه المخصِّص المتَّصل كالاستثناء من الأفراد المشمولة للحكم لولا الاستثناء (3).
فإن قيل: ذلك رفْعٌ للبعض والنسخ رفع للكل؟
فالجواب: أن النسخ يكون رفعًا للبعض أيضًا كما ثبت في “صحيح مسلم” (4) عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن:
__________
(1) ط: الرفع والإزالة.
(2) الأصل: متأخر، ولعله سبق قلم بدليل ما بعده.
(3) بعده في ط: مثلًا.
(4) رقم (1452).

(1/292)


“عشر رضعات معلومات يحَرِّمن” فنُسِخْن بخمسٍ معلومات.
فإن قيل: هذا الحد يشمل نوعين من أنواع النسخ الثلاثة وهما: نسخُ التلاوة والحكم معًا كآية “عشر رضعات”، وكسورة الخلع والخنع (1). ونسخُ الحكم فقط دون التلاوة كآيتي العدة المتقدمة، ولكن لا يشمل الثالث الذي هو رفع التلاوة دون الحكم كنسخ تلاوة آية: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم” (2) دون حكمها، لأن حكمها لم يُرْفع، والنسخ رَفْع الحكم فلم يدخل في النسخ؟
فالجواب: أن فيها نسخ حكم وهو عدم حرمة قراءتها على الجُنُب، ومسِّها على المحْدِث، وقراءتها في الصلاة، وهذه أحكام رُفِعت فيصدق عليها التعريف إذًا.
فإن قيل: هذا ينافي قولكم: إن هذا النوع منسوخ تلاوة لا حكمًا؟
فالجواب: أنه لا منافاة لأن المراد بالحكم المنفي حُكم خاص وهو مدلول اللفظ لا مطلقًا.
والقول الثاني في النسخ: أنه بيان لانقضاء زمن الحكم الأول. وعلى هذا يكون النسخ تخصيصًا في الزمن لأن ظاهر النص الأوّل تأبيد الحكم، والثاني بيَّن اختصاصَه بالزمن الذي قبل ورود الناسخ.
__________
(1) تقدم التعليق (ص/ 68) على هاتين السورتين، والتنبيه إلى ما في قوله: “الخنع” من الغرابة وأن المعروف هو “الحفد”.
(2) تقدم تخريجه.

(1/293)


وقوله: “بمحكم القرآن أو بالسنن” يشير إلى أقسام النسخ بالنظر إلى الناسخ والمنسوخ أربعة، لأن الناسخ إما كتاب أو سنة والمنسوخ كذلك، فالصور أربع من ضرب حالتي الناسخ في حالتي المنسوخ وستأتي أمثلتها.

467 – فلم يكن بالعقلِ أو مجرِّدِ … الإجماعِ بل يُنْمَى إلى المستَنَدِ
صرَّح في هذا البيت بمفهوم قوله: “بمحكم القرآن” إلخ، فبيَّن أن غير النص لا يصح النسخ به كالعقل. وقوله: “أو مجرد الإجماع” يعني أن الإجماعَ بمجرَّده لا يصح النسخُ به، لأنه لا ينعقد إلا بعد وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- كما يأتي للمؤلف، وبعد وفاته لا يمكن النسخُ لأنه تشريع. وقوله: “بل يُنْمى” إلخ، يعني أنك إذا وجدت في كلام العلماء: النصُّ الفلاني منسوخ بالإجماع، فإنهم يعنون بذلك مستند الإجماع؛ لأن الإجماع لا يصلح ناسخًا كما عرفت.

468 – ومنعُ نسخِ النصِّ بالقياسِ … هو الذي ارتضاه جلُّ الناسِ

يعني أن القياس لا يصح النسخ به عند الجمهور، وهو الحق؛ لأن النص مقدَّم على القياس، ولا يصار إلى القياس إلا عند عدم النص.
وقدَّم المؤلف أن النسخ بالقرآن أو السنة كما قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل/ 101]، وقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة/ 106]، وقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس/ 15].
وقيل: يجوز النسخ بالقياس، ووجهه عند من يقول به أن الحكم الأول إنما نُسِخَ بما دل عليه النص الأخير.

(1/294)


469 – ونسخُ بعضِ الذِّكر مطلقًا وَرَدْ … والنسخُ بالنصِّ لنصٍّ (1) مُعتمد

يعني أن نسخ بعض القرآن وقع بالفعل، ومفهوم بعضِه أن كله لا يجوز نسخه، وما زعمه اليهود من استحالة النسخ لما يلزم عليه من البداء -الذي هو الرأي المتجدد- باطل لأن اللَّه يعلم أنه سينسخه ويبدله بغيره عندما تنقضي مصلحته وتكون المصلحة في غيره، كما لا يلزم البداء في إماتة الحيّ وإيجاد المعدوم وإمراض الصحيح ونحو ذلك.
وقوله: “مطلقًا” يعني سواء نُسِخت تلاوته وحكمه معًا، أو تلاوته فقط، أو حكمه فقط، وقد تقدمت أمثلة الكل.
وقوله: “والنسخ بالنص” إلخ يعني أن نسخ النص بالنَّص معتمَدٌ أي قويّ مشهور للجواز والوقوع، وهو أربعة أقسام:
الأول: نسخ الكتاب بالكتاب، كنسخ آية الاعتداد بحول بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر.
الثاني: نسخ السُّنَّة بالسُّنَة، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “كنتُ نَهْيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن ادِّخار لحوم الأضاحي فادخروا منها ما شئتم” (2).
الثالث: نسخ السُّنَّة بالكتاب، كنسخ استقبال بيت المقدس الثابت
__________
(1) ط: للنص بنص.
(2) أخرجه مسلم رقم (977) من حديث بريدة -رضي اللَّه عنه-.

(1/295)


بالسنة بقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1) [البقرة/ 149] الآية.
الرابع: يأتي في البيت الآتي.
واعلم أن الشافعي يمنع نسخَ الكتاب بالسنة كالعكس، فلا يجيز نسخ الكتاب إلا بكتاب ولا سنة إلا بسنة.
وما ذكرنا من نسخ السُّنَّة بالسنة إن كانتا متواترتين، أو كل منهما آحادًا، أو الناسخ متواتر والمنسوخ آحاد، فلا إشكال. أما نسخ السنة المتواترة بالآحاد فالظاهر عدم جوازه (2)، وعلى القول بجوازه لم يقع
__________
(1) انظر قصة تحويل القبلة في البخاري رقم (40، 399)، ومسلم رقم (525) من حديث البراء بن عازب -رضي اللَّه عنه-.
(2) هذا اختيار الشيخ أول الأمر ثم رجع عنه ورجّح جواز نسخ المتواتر بالآحاد بل وقوعه، وقد بيَّن ذلك في مواضع من كتبه كـ “الأضواء” في غير موضع، والمذكرة (ص/ 152 – 154) قال في “الأضواء”: (3/ 334 – 335): “وقد قدمنا. . أن الذي يظهر لنا أنه الصواب: هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه، وأنه لا معارضة بينهما؛ لأن المتواتر حق، والسنة الواردة بعده إنما بينت شيئًا جديدًا لم يكن موجودًا قبل، فلا معارضة بينهما ألبتة لاختلاف زمنهما فقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} يدل بدلالة المطابقة دلالة صريحة على إباحة لحوم الحمر الأهلية؛ لصراحة الحصر بالنفي والإثبات في الآية في ذلك. فإذا صرح النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد ذلك يوم خيبر في حديث صحيح “بأن لحوم الحمر الأهلية غير مباحة” فلا معارضة ألبتة بين ذلك الحديث الصحيح وبين تلك الآية النازلة قبله بسنين؛ لأن الحديث دل على تحريم جديد، والآية ما نفت تجدد شيء في المستقبل كما هو واضح. =

(1/296)


على الصحيح، لأن المتواتر قطعيّ والآحاد ليس كذلك، ولا يصح رفع الأقوى بما هو دونه مرتبة، كما أشار له بقوله:

470 – والنسخُ بالآحادِ للكتابِ … ليسَ بواقعٍ على الصواب

يعني أن نسخ القرآن بأخبار الآحاد ليس بواقع على الصواب أي على القول الصحيح ولو قلنا بجوازه، ووَجْه هذا القول: أن القرآن قطعيٌّ وخبر الآحاد دونه في القوة، والأقوى لا يُرْفع بما هو دونه.
وقيل: هو واقعٌ كنسخ آية الوصية للوالدين والأقربين بحديث: “لا وصيةَ لوارث” (1). واحتجَّ القائلون بهذا أن خبر الآحاد يجب العمل به قطعًا، وإذًا فهو قطعي إذ لا يضرنا التردد في أصله مع القطع بوجوب العمل به، وقالوا أيضًا: لا نسلِّم أن المقطوع لا يُرْفع بالمظنون، فبراءةُ
__________
= فالتحقيق -إن شاء اللَّه- هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه، وإن خالف فيه جمهور الأصوليين، ودرج على خلافه وفاقًا للجمهور صاحب “المراقي” بقوله:
والنسخ بالآحاد للكتاب … ليس بواقع على الصواب” اهـ.
(1) هذا الحديث روي من طريق جماعة من الصحابة، منها حديث أبي أمامة الباهلي -رضي اللَّه عنه- أخرجه أحمد: (36/ 628 رقم 22294)، وأبو داود رقم (2862)، والترمذي رقم (2120)، وابن ماجه رقم (2713): “إن اللَّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث. . . “.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح (وفي التحفة والبدر: حسن فقط). قال ابن الملقن: وهو كما قال؛ لأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم، وهو حمصي من أهل الشام. انظر: “البدر المنير”: (7/ 264 – 269).

(1/297)


الذِّمة من التكليف مقطوع بها، مع أنه يجب التكليف بالأَدلة الظنية. واحتجُّوا أيضًا بأنه (1) وإن كان قطعي المتن فليس قطعي الدلالة بل دلالته ظنية.
فإن قيل: نسخُ التلاوة بالآحاد يُبْطل قرانية الآية، وقرانيتها قطعية.
فإنهم يجيبون أن قرآنيتها وإن كانت قطعية فدوامُها ليس بقطعيٍّ، والنسخُ بالآحاد إنما أبطلَ دوامَ القرآنية المظنون لا أصلها القطعي.
وممن قال بالنسخ به من المالكية: الباجيُّ والقرافيُّ (2).
والتحقيق: أن آية الوصية منسوخة بآية المواريث، والحديث بيانٌ للناسخ، وبيان المتواتر بالآحاد جائز كما تقدم في قوله: “وبين القاصر” إلخ.

471 – ويُنسَخُ الخِفُّ بما له ثِقَلْ … . . . . . . . . . . . .

يعني أنه يجوز نسخ الحكم الخفيف بحكم أثقل منه كنسخ التخيير بين الصوم والفدية في رمضان المنصوص في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة/ 184] الآية. بتعيين الصوم المنصوص في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وكنسخ حَبْس الزواني في البيوت المنصوص في قوله: {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء/ 15] الآية،
__________
(1) أي المتواتر.
(2) الذي اختاره القرافي -كما في “التنقيح”: (ص/ 111) – جوازه عقلًا لا سمعًا، والشيخ هنا تابع صاحب “نشر البنود”: (1/ 285) في الحكاية عن القرافي. أما الباجي فانظر كتابه “إحكام الفصول”: (1/ 432).

(1/298)


بالجلد والرجم المنصوص أولهما بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور/ 2] الآية، وثانيهما بالآية المتقدمة المنسوخةِ التلاوةِ دون الحكم (1).
ونسخه الأخف بالأثقل لمصلحة كثرة الثواب، ونسخ الأثقل بالأخف لمصلحة التخفيف والتسهيل صيانة عن الوقوع في الإثم.

. . . . . . . . . . . . … وقدْ يَجيء عاريًا من البدل
يعني أن النسخ يجوز بلا بدل أصلًا، وهذا قول جمهور الأصوليين، والذي يظهر أن هذا القول باطل لأن اللَّه نصَّ على بطلانه بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة/ 106]. وما احتجُّوا به من وقوعه باطل أيضًا، وذلك أنهم زعموا أن قوله تعالى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة/ 12] الآية نسخٌ بلا بدل، والتحقيق أنه نسخ ببدل وهو ندبيَّةُ الصدقة.

472 – والنسخ مِن قَبْل وقوعِ الفِعْلِ … جاء وُقوعًا في صحيح النقلِ

يعني أن النسخ قبل وقوع الفعل جائز وواقع في النقل الصحيح، كنسخ ذبح ولد إبراهيم قبل أن يذبحه، كما أشار له تعالى بقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات]، وكنسخ خمسٍ وأربعين صلاة بعد فرضها ليلة الإسراء حتى لم يبق من الخمسين إلا خمس. والحكمةُ في النسخ قبل الفعل الاختبار والابتلاء، كما بينه تعالى بقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} إلى قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)} [الصافات] أي
__________
(1) يعني: “والشيخ والشيخة إذا زنيا. . . ” وقد تقدم تخريجه.

(1/299)


الاختبار الظاهر هل يصمِّمُ على ذبح ولده أو لا؟
وهذه المسألة منهم من يعبِّر عنها بنسخ الفعل قبل التمكُّن منه، ومنهم من يعبر بالنسخ قبل الفعل، ومنهم من يقول: وقت الفعل أو قبل مجيء وقته، وبعض الحنابلة يجعلها مسألتين: النسخ قبل التمكُّن من الفعل، والنسخ بعد التمكُّن من الفعل قبل الفعل، وكلاهما فيه الخلاف. والظاهر الجواز مطلقًا لحكمة الابتلاء المتقدمة.

473 – وجازَ بالفحوى ونسْخه بلا … أصلٍ وعَكْسُه جوازُه انجلى

يعني أن نسخ النص بالفحوى جائز، والمراد بالفحوى مفهوم الموافقة بقسميه، وهذا على القول بأنه منصوص، أما على القول بأنه قياس فلا يجوز النسخ به لقول المؤلف: “ومنع نسخ النص بالقياس” (1) إلخ.
فلو فرضنا -مثلًا- أن آية: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء/ 23] نزلت بعد العمل بحديث: “لَيُّ الواجِدِ. . . ” (2) الحديث = لكان مفهومها الذي هو الفحوى ناسخًا لحبس الأب في دَيْن الولد لأن التخصيص بعد العمل نسخ كما تقدم.

وقوله: “ونسخه بلا أصل” إلخ. يعني أنه يجوز نسخ مفهوم الموافقة دون المنطوق ويجوز نسخ منطوقه دونه، فالمنطوق -مثلًا- تحريم التأْفيف، والمفهوم تحريم الضرب، فعلى هذا القول يجوز نسخ
__________
(1) البيت رقم (468).
(2) تقدم تخريجه.

(1/300)


التأفيف مع بقاء تحريم الضرب، ويجوز نسخ تحريم الضرب مع بقاء تحريم التأفيف؛ بناءً على عدم الارتباط بينهما وعدم لزوم واحد منهما للآخر، والظاهر خلاف ذلك كما ذهب إليه الأكثر، وأشار له المؤلف بقوله:

474 – ورأي الأكثرين الاستلزامُ … . . . . . . . . . . . .
يعني أن رأي أكثر العلماء استلزام نسخ كل من المنطوق وفحواه للآخر، وعليه فلا يمكن نسخ أحدهما دون الآخر؛ لأن الفحوى لازم لأصله [وتابع له] ورفع اللازم يستلزم رفع الملزوم كما أن رفع المتبوع يستلزم رفع التابع، وأما رفعهما معًا فلا مانع منه، فيجوز نسخهما بلا خلاف.

. . . . . . . . . . . . … وبالمُخالَفَةِ لا يُرَام
يعني أن النسخ لا يُقصد بمفهوم المخالفة لضعفه عن مقاومة النصِّ وهو ظاهر.

475 – وهي عن الأصل لها تجرُّدُ … في النسخ وانعِكَاسُه مُسْتَبْعَدُ

الضمير في قوله: “لها” عائد إلى المخالفة بمعنى الحكم المدلول عليه بها، يعني أن الحكم المدلول عليه بمفهوم المخالفة يصحُّ تجرُّده عن أصله الذي هو المنطوق، فيجوز نسخ حكمِ مفهوم المخالفة مع بقاء المنطوق. ومثاله: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إنما الماءُ من الماءِ” (1) فإنه دلَّ بمنطوقه على وجوب الغسل من نزول المنيِّ، ودل بمفهومه مفهوم المخالفة الذي
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (343) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-.

(1/301)


هو مفهوم الحصر هنا (1) على عدم وجوب الغسل من الجماع بلا إنزال، فنسخُ المفهومِ بأحاديث وجوب الغسل بالتقاء الختانين، مع بقاء المنطوق الذي هو وجوب الغسل من خروج المنيّ غير منسوخ.
وقوله: “وانعكاسه مُسْتبعد” يعني أن عكس ما ذكر مستبعد، وهذا المستبعد الذي هو عكس المذكور وهو نسخ المنطوق وبقاء مفهوم المخالفة، واستبعادهم له يؤيد رأي الأكثرين في استلزام المنطوق لمفهوم الموافقة كما تقدم.

476 – ويجبُ الرفعُ لحكمِ الفرعِ … إنْ حُكْمُ أصلِه يُرى ذا رَفْعِ
يعني أنه إذا رُفِع حكم [الأصل] (2) المقيس عليه بأن نُسِخَ، فإن حكم الفرع يجب رفعه تبعًا لحكم أصله، فلو قال أحدٌ أيام تحليل الخمر: النبيذُ مباحٌ قياسًا على الخمر، ثم نُسِخ حكم الخمر لزمَ ارتفاعُ الحِلّيَّةِ عن النبيذ تبعًا لارتفاعها عن الخمر.
وخالف في ذلك بعض الحنفية زاعمين جواز بقاء حكم الفرع مع ارتفاع حكم الأصل. ومَثَّلوا لذلك بجواز شهادِة أهلِ الذمة بعضهم على بعض قياسًا على جواز شهادة الكافرين على الإيصاء في السفر المنصوص بقوله: هو {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة/ 106] بجامع ضرورة عدم وجود المسلمين، قالوا: فنُسِخ الأصل بآيات اشتراط العدالة وبقي الفرعُ
__________
(1) أي بأداة “إنما” في الحديث.
(2) من ط.

(1/302)


مُحْكمًا، فمنعوا شهادة الكافرين على الإيصاء في السفر نظرًا لنسخ حكمها وأثبتوا شهادةَ أهل الذمة بعضهم على بعض، إبقاءً لحكم الفرع المقيس مع رفع حكم أصله المقيس عليه، والآيُة مختَلَف في نسخها، وشهادة أهل الذمة المذكورة مختَلَف فيها.

477 – ويُنْسخ الإنشا ولو مؤبَّدا … والقيدُ في الفعل أو الحُكْم بدا
478 – وفي الأخير منَعَ ابنُ الحاجِبِ … كمستمِرٍّ بعدَ صومٍ واجب

يعني أن النسخَ إنما يكون في الإنشاء دون الخبر، ويجوز نسخ الإنشاء ولو اقترن بقيد التأْبيد، سواء كان القيد بالتأبيد في الفعل أو في الحكم. فمثاله في الفعل: ما لو قال الشارع قبل نَسْخ صوم عاشوراء: صوموا عاشوراء أبدًا، فقوله: “أبدًا” متعلق بالفعل الذي هو الصوم.
ومثاله في الحكم: ما لو قال منشئًا لا مخبرًا: صوم عاشوراء مستمرٌّ عليكم أبدًا، أو وجب عليكم أبدًا، فإن كل هذا لا ينافي النسخَ عند الأكثر لأن المقصود الإنشاء، والتأبيد هو ظاهر التشريع، واختار ابنُ الحاجب منع النسخ في الأخير الذي هو كون القيد بالتأبيد واقعًا في الحكم لظهور منافاته للنسخ (1).

وأوْضح فرقٍ بين الإنشاء والخبر: أنَّ مدلولَ الخبر أمر خارجي أُخْبِرَ عنه، ومدلول الإنشاء لا وجود له في الخارج، وإنما يوجد بحصول صيغة الإنشاء، فقولك: “جاء زيد” -مثلًا- إخبار عن أمر واقع في
__________
(1) انظر: “المختصر – مع الشرح”: (2/ 518).

(1/303)


الخارج. وقولك: “بعتك سلعتي بكذا” ليس فيه إخبار عن أمر كان واقعًا في الخارج، لأن السلعة لم تكن مبيعة فيما قبل، وإنما أُنشأ بيعها بالصيغة، أما صيغ الإنشاء الطلبية فلا التباس بينها وبين الخبر أصلًا.

479 – ونسخُ الاخبار بإيجاب خبَرْ … بناقِضٍ يجوز لا نسخُ الخبَرْ
في الكلام مضاف محذوف تقديره: “إيجاب” أي ونسخُ إيجاب الإخبار، وقوله: “بناقض” يعني بنقيض الخبر الأول. وتقرير المعنى: أنه لو وجب خبر بشيء فإن ذلك الإيجاب يجوز نسخُه بإيجاب الإخبار بنقيض الخبر الأول، فيجوز أن يوجب عليك الإخبار بأنَّ زيدًا قائم -مثلًا- ثم يُنسخ ذلك الإيجاب بنقيضه بأن يوجب عليك أن تخبر بأن زيدًا غير قائم.
فإن قيل: يلزم على هذا إيجاب الإخبار بكذب؛ لأن لا يصح صدق الأول والثاني، بل لابدَّ من كذب أحدهما.
فالجواب: أنه لا منافاةَ بين إيجاب الإخبار وبين كون المخبَر به غير واقع [في نفس الأمر] (1) ألا ترى أنك لو سألك ظالمٌ عن رجل تعرف محلَّه وأنت موقنٌ أن الظالم يريد قتلَه ظلمًا ولا يمكن أن تتخلَّصَ من الظالم إلا بالجواب = أنه يجبُ عليكَ الإخبارُ بغير الواقع بأن تقول: لا أدري، وأنت تدري؟
وقوله: “لا نسخ الخبر” يعني أن الخبر لا يجوز نسخه لأن نسخه تكذيب له والوحي يستحيل فيه الكذب.
__________
(1) من ط.

(1/304)


480 – وكلُّ حكمٍ قابلٌ له وفي … نفي الوقوعِ الاتفاقُ قد قُفِي

يعني أن كل حكم تكليفيّ بالنظر إليه بمفرده قابل للنسخ عقلًا وشرعًا، أما نسخ كلِّ أحكام الشريعة فهو مُجْمَع على أنه لم يقع، وذلك هو معنى قوله: “وفي نفي الوقوع الاتفاق قد قُفِي”. وقوله: “قُفي” بمعنى اتُّبع أي اتُّبع اتفاقُ العلماء على عدم وقوع نسخ كل أحكام الشريعة.
481 – هل يستقلّ الحكم بالورودِ … أو ببلوغه إلى الموجودِ
482 – فالعزلُ بالموت أو العزلِ عَرَضْ … كذا قضاءُ جاهلٍ للمفترَضْ
يعني أنهم اختلفوا هل يستقلّ -أي يثبت- الحكم في حق المكلَّفين -بمعنى استقراره في ذِمَمهم- بمجرَّد الورود أي تبليغ جبريل إياه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْ لا يَسْتقل (1) إلا بعد أن يبلِّغه لهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ وللمسألة أربعة أحوال:
الأول: ألا يبلغ الحكمُ جبريلَ ولا النبيَّ فهذا لا يثبت في حق المكلفين إجماعًا.
الثاني: أن يبلغ جبريلَ قبل أن يبلغ النبي. وهذا كالأول على التحقيق.
والثالث: أن يبلِّغه جبريلُ إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يبلّغه الأمة، فهذا هو مقصود المؤلف.
وينبني على الخلاف فيه نسخ خمس وأربعين صلاة من الخمسين ليلة الإسراء بعد بلوغ الأمر للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقبل بلوغه للأمة هل يكون نسخًا في حقهم بناءً على ثبوت الحكم بمطلق الورود، أو لا يكون نسخًا في حقهم
__________
(1) تحتمل: يشتغل.

(1/305)


بناءً على أن الحكم لا يثبت إلا بالبلوغ، ولَمَّا لم يبلُغْهم لم يثبت في حقهم أصلًا حتى ينسخ؟ واختار هذا الأخير ابنُ الحاجب والسبكي (1) وعليه الأكثر.
الرابع: أن يبلِّغ الأمة ولا إشكال فيها.
وقوله: “فالعزل بالموت” إلخ يعني أن الخلاف المذكور ينبني عليه الخلاف في تصرف الوكيل بعد موت موكِّله أو عَزْله إياه وقبل العلم بالموت أو العزل، فعلى القول بأن الحكم يستقل بمطلق الورود ينعزل الوكيل بمجرَّد موت موكله أو عزله إياه ولو لم يعلم بذلك. وعلى أن الحكم لا يستقل إلا ببلوغه فلا ينعزل إلا بعد العلم بالموت أو العزل.
وقوله: “كذا قضاء” إلخ يَعْني أنه ينبني على الخلاف أيضًا الخلاف في الذي لم تبلغه الدعوة، كالذي نشأ على شاهق جبل أو في دار كفر إذا وجد من يعلِّمه هل يقضي ما فاته من الفرائض بناءً على ثبوت الحكم بمطلق الورود أو لا يقضيه بناءً على أنه لا يثبت إلا بالبلوغ؟ أما القادر على تعلُّم الشرائع فالقضاء واجب عليه وإن لم يَعْلمها لأنه مُفرِّط.

483 – وليسَ نسخًا كلُّ ما أفادا … فيما رسا بالنَّصِّ الازدِيادا
قوله: “الازدياد” مفعول “أفادَ”، و”نسخًا” خبر “ليس” و”كلُّ” أسمها. يعني: أنه ما كل شيء أفاد الزيادة على ما “رَسَا بالنص” أيْ ثبت به يكون نسخًا، بل قد يكون نسخًا (2) وقد لا، وقيل: لا يكون نسخًا مطلقًا.
__________
(1) انظر: “المختصر – مع الشرح”: (2/ 563)، و”جمع الجوامع”: (2/ 90).
(2) الأصل: ناسخًا.

(1/306)


وخالف في ذلك الحنفية فقالوا: الزيادة على النص نسخ سواءٌ كانت زيادة جزء أو شرط. مثال زيادة الجزء: زيادة تغريب الزاني البكر بالسنة الثابت في “الصحيح” (1) على جلد مائة الثابت في الآية (2)، فالتغريب المزيد في الحديث جزءٌ من عقوبة الزاني البكر.
وكزيادة الحكم بالشاهد واليمين الثابت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأموال (3) على الشاهدين، والشاهد والمرأتين المنصوص في قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة/ 282] لأن الشاهد واليمين صورة زائدة من الصور التي يُقضى بها في الأموال.
ومثال زيادة الشرط: زيادة شرط الإيمان في رقبة الظهار واليمين المفهوم من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اعتقها فإنها مؤمنة” (4) على مطلق الرقبة المنصوص في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فكل هذه الزيادات لا تقتضي النسخ لأنها لم ترفع حكمًا شرعيًّا، وإنما رفعت جوازَ تركِها الأول وهو من الإباحة العقلية، وهي ليست من الأحكام -كما تقدم للمؤلف- حتى يكون رفعها نسخًا.
وخلافُ الحنفية في ذلك مبنيٌّ على أن الزيادة لابدَّ أن ترفع حكمًا
__________
(1) عن زيد بن خالد -رضي اللَّه عنه- عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه أمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام. أخرجه البخاري رقم (2649)، ومسلم رقم (1697).
(2) يعني في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي. . .} [النور/ 2].
(3) عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى بيمين وشاهد. أخرجه مسلم رقم (1712).
(4) تقدم تخريجه.

(1/307)


شرعيًّا لأن الاقتصار على الأول كان جائزًا، والزيادة رفعت ذلك الجواز، والتحقيقُ الأول؛ لأن جواز ترك الزائد قبل فرضه مأخوذ من البراءة الأصلية.
وقول المصنف: وليس كل ما أفاد الزيادة نسخًا، يُفهم منه أن بعض الزيادات نسخ، وهو يقصد ذلك (1)، والزيادةُ التي تكون نسخًا كما لو زيدت في صلاة الصبح ركعة -مثلًا- لأنه قبل الزيادة كان الاقتصار على الاثنتين واجبًا، والصلاة تبطل بزيادة الثالثة عمدًا، وبطُروِّ الزيادة انعكس الأمر فصارت تبطل بتركها، وإنما لم تكن الزيادة نسخًا لأن الناسخ لابدَّ من منافاته للمنسوخ، والزيادةُ قد لا تنافي، ومن هنا لم يقل مالكٌ بتحريم ذي النَّاب من السباع وذي المِخْلَب من الطير، مع أن الأحاديث صحَّت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنهي عنها المقتضي للتحريم، وفي بعضها التصريح بالتحريم، ولكنَّ مالكًا يقول: هذه الزيادة منافية للآيات، والزائد المنافي لابد أن يكون ناسخًا، والقرآن لا يُنسخ بأخبار الآحاد (2)، ووجه منافاة هذه الزيادة للآيات: أن اللَّه تعالى صرَّح بحصر الطعام الحرام في أشياء لم يكن منها ذو الناب من السباع ولا ذو المِخْلب من الطير، فتحريمُها ينقض ذلك الحصر، ونقضُه لا يكون إلَّا بنسخ، وحَصْرُ التحريم في شيء وبيانُ تحريم شيء بينهما فرق ظاهر، فحَصْر الطعام الحرام في أشياء فيه النَّصُّ على أن غيرها ليس بحرامٍ، فتحريمُه رفع للتحليل المفهوم من النص الأول. وما كالتغريب -مثلًا- فليس فيه منافاة؛ لأن الآية ذُكِر فيها الجلد
__________
(1) انظر: “نشر البنود”: (1/ 295).
(2) تقدم في التعليق (ص/ 296) أن المؤلف قد رجع عن هذا القول.

(1/308)


من غير تعرُّض لنفي غيره.
فإذا عرفتَ ذلك فاعلم أن اللَّه تعالى قال في سورة الأنعام -وهي مكية-: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام/ 145] الآية، وهذا الحصر يدل على عدم تحريم ذي الناب من السباع وذي المِخْلب من الطير، فالزيادة المحرم لهما تُناقض هذا الحصر القرآنيَّ. وقال تعالى في سورة النحل -وهي مكية أيضًا-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [النحل/ 115] و {إِنَّمَا} أداة حصر أيضًا عند جمهور الأصوليين والبيانيين وهو الحق، والنحلُ نزلت بعد الأنعام بدليل قوله في النحل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} [النحل/ 118] وقد قصَّ عليه في سورة الأنعام بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام/ 146] الآية، ثم قال في سورة البقرة -وهي مدنية بالإجماع-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة/ 173] الآية، فلم يقبل مالك رفع هذا الحصر المتكرر في مكة والمدينة بأخبار الآحاد وإن كانت صحيحة، ولذا لم يقل بحُرمة ذي الناب من السباع بل قال بكراهته؛ جمعًا بين الأدلة قائلًا: إن الروايات المصرحة بالتحريم فَهِم أصحابُها التحريم من النهي فصرَّحوا بالتحريم ظنًّا منهم أنه معنى النَّهي، مع أن مالكًا يقبل الزيادة على النص ولا يقول بأنها نسخ إلَّا إذا نافت كما عرفت.

484 – والنقصُ للجزءِ أو الشرطِ انْتُقي … نسخُه للسَّاقِط لا لِلَّذْ بقي
يعني أن نقص الجزء أو الشرط “انتقي” أي اختير كونه نسخًا للساقط دون الباقي، وقيل: إنه نسخ للكل، والأول أصح. مثالُ نسخ الجزء: ما

(1/309)


ثبت في “صحيح مسلم” (1) عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: “كان في ما أنزل من القرآن: “عشر رضعات معلومات يُحَرِّمن” فنُسِخْن بخمس”. ومثالُ نسخ الشرط: نسخ ما كان في أول الإسلام من اشتراط الوضوء لكل صلاة (2). وقوله: “للذْ بقي” بتسكين الذال فيه لغة.

485 – الإجماع والنَّص على النسخِ ولوْ … تَضَمّنًا كلا فعَرفًا رأوْ
486 – كذاك يُعرَف لدى المُحَرِّرِ … بالمَنْع للجَمع مع التأخُّرِ
487 – كقول راوٍ سابقٌ والمَحْكِي … بما يُضاهي المَدَني والمَكَي
488 – وقولِه الناسخُ. . . . . … . . . . . . . . . . . .

ذكر في هذد الأبيات [الأدلة] (3) التي يُعرف بها النسخ أي أن هذا ناسخ وهذا منسوخ:
الأول: الإجماع، كإجماع المسلمين على نسخ سورة الخَلْع والخُنْع (4)، وهو مرادُ المؤلف بقوله: “الإجماع”.
الثاني: النص على النسخ، كما لو قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: النص الفلاني منسوخ ولو كان النَّصُّ على النسخ بالتضمُّن والالتزام من غير تصريح بالنسخ، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها. . . ” الحديث، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “كنتُ نهيتكم عن ادِّخار لحومِ الأضاحي. . . ” (5) الحديث،
__________
(1) رقم (1452).
(2) عن أنس قال: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، يتوضأ عند كل صلاة. أخرجه البخاري رقم (214).
(3) من ط.
(4) انظر ما تقدم (ص/ 68).
(5) هما حديث واحد تقدم تخريجه.

(1/310)


وهذا هو مراده بقوله: “والنص على النسخ ولو تضمنا”.
الثالث: معرفة المتأخر من النصين مع عدم إمكان الجمع، فالمتأخر إن لم يمكن الجمع ناسخ، وهو مراده بقوله: “كذاكَ يُعرفُ. . ” البيت.
وقوله: “كقول راوٍ سابقٌ” يعني أن معرفة المتأخر الناسخ للسابق تُعرف بأدلة منها قول الراوي: هذا سابق وهذا متأخر. ومنها أن يقول: هذا مدني وهذا مكّي، للعلم بأن المدني متأخر عن المكِّي. وأصح التعريفات للمدني والمكي: أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو نزل في مكة أو عرفات، والمكي ما نزل قبل الهجرة. والصحيحُ فيما نزل في سَفَر الهجرة بين مكة والمدينة كآية: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص/ 85] التي نزلت بالجُحْفة من طريق الهجرة أنه مدني، والأمران المذكوران هما مراد المؤلف بقوله: “وقول راو سابق” البيت.
وقوله: “وقولِه الناسخُ” يعني أن من الأدلة المثبتة للنسخ قول الراوي: هذا النص هو الناسخ -بالتعريف- لا إن قال: هذا ناسخٌ -بالتنكير- فلا يثبت به النسخ عند جمهور الشافعية والمالكية خلافًا للحنابلة. ووجه الفرق عند القائل به: أن قوله: هذا هو الناسخ -بالتعريف- يدل على أن النسخ ثابت عند غيره وهو إنما عَيَّن الناسخ، وتعيينُ الناسخ دليل على معرفة خاصة، بخلافِ ما لو قال: هذا ناسخ، فلا يدل على ثبوت النسخ عند غيره (1)، وقد يظهر له ذلك باجتهاد منه لا يتابعه عليه غيره.
__________
(1) انظر: “الجمع”: (2/ 94).

(1/311)


. . . . . . والتأثيرَ دَعْ … بوَفْقِ واحد للأصلِ يُتَّبعْ
489 – وكون راويه الصحابي يقْتَفي … ومِثْلُه تأخُّرٌ في المُصْحَف
قوله: “التأثيرَ” مفعول مقدم لقوله: “دع” يعني اترك التأثير في معرفة المتأخر بموافقة واحد من النصين للأصل الذي هو البراءة الأصلية، فالموافق من النصين لبراءة الذمة الأصلية لا يدل ذلك على كونه متأخرًا حتى ينسخ الآخر، خلافًا لمن زعم ذلك نظرًا إلى أن الأصل مخالفة الشرع لها وهو مردود بجواز ورود الموافق لها أولًا، إذ لا مانع من ذلك، ودع التأثير أيضًا بكون الصحابي الراوي لأحد الحديثين يقتفي راوٍ آخر في الإسلام.
وإيضاحُه: أن راوِيَيْ الحديثين المختلفين إذا كان أحدهما متأخر الإسلام كأبي هريرة الذي أسلم عام خيبر، مع أحد السابقين كعمَّار فلا يقتضي تأخُّر إسلامه تأخُّر حديثه، لجواز أن تكون رواية الأسْبَق إسلامًا بعد رواية الأحْدَث إسلامًا، خلافًا لمن زعم ذلك نظرًا لأن تأخر الإسلام من مظنة تأخر الرواية.
وقوله: “ومثله تأخر في المصحف” يعني أنه يترك التَّأْثير أيضًا بتأخر الآية في المصحف لجواز أن تكون المتأخرة في المصحف سابقة في النزول، ألا ترى أن أول ما نزل صدر سورة اقرأ وهو في آخر المصحف، ولذا جاز أن تكون الأولى في المصحف ناسخةً للأخيرة فيه لتأخرها في النزول وإن تقدمت في ترتيب المصحف. وكآية {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب/ 50]، فإنها ناسخة لقوله: {لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} [الأحزاب/ 52] على أصح القولين مع أنها قبلها في المصحف، والعلم عند اللَّه تعالى.

(1/312)


كتاب السنَّة
السنة في اللّغَة الطريقة، ومنه قول لبيد (1):
من معشَرٍ سنَّت لهم آباؤهم … ولكل قومٍ سنَّةٌ وإمامُها
واصطلاحًا عرَّفها المؤلف بقوله:
490 – وهيَ ما انضافَ إلى الرَّسول … من صفةٍ كَلَيْس بالطَّويل
491 – والقولِ والفعلِ وفي الفعلِ انحَصَرْ … تقريرُه كذي الحديثُ والخبَرْ
يعني أن السنة اصطلاحًا هي ما انتسب إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الصفات ككونه ليس بالطويل ولا بالقصير، ومن الأقوال والأفعال، ويدخل في الأفعال تقريره -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه لا يقر أحدًا على باطل كما يأتي، وأشار إلى أن التقرير فِعْل ضِمْني بقوله: “وفي الفعل انحصر تقريره” ولا سيما إذا سُرَّ بالفعل الذي قُرِّر عليه كسرُوْره من قول مُجزِّزٍ في أسامة وزيد: هذه الأقدام بعضُها من بعض (2). ومن ثمَّ أخذ بعض العلماء ثبوت النسب بالقافة.
ويدخل في الفعل الإشارة والهمُّ، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يهم بباطل، ومثال الإشارة: إشارته لكعب بن مالك أن يضع شَطْر دينه على ابن أبي حَدْرَد (3).
__________
(1) “ديوانه”: (ص/ 179) ضمن معلقته.
(2) أخرج البخاري رقم (6770)، ومسلم رقم (1459) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.
(3) أخرجه البخاري رقم (457)، ومسلم رقم (1558) من حديث كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه-.

(1/313)


ومثال الهم: همه بتنكيس الرِّداء في الاستسقاء، ولذلك قال الشافعي بسُنِّيته (1).
وقوله: “كذي الحديث” إلخ، يعني أن الحديث والخبر والسنة ألفاظ مترادفة، ولما بيَّن أن أفعال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة بيَّن أنه معصوم هو وجميع الأنبياء من الوقوع في المنهي عنه بقوله:

492 – والأنبياء عُصِموا مما نُهوا … عنه. . . . . . . . . . . .
العِصْمة -بالكسر- تخصيص القدرة بالطاعة فلا تقع منهم معصية، وأجاز البعض عليهم خصوص صغيرة غير الخسة مع عدم إقرارهم عليها.
فإن قيل: قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه/ 121]، وقال في يوسف: {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف/ 24]، وذكر عن إخوة يوسف في سورة يوسف ما دل على قطع الرحم والعقوق والكذب.
فالجواب عن قصة آدم: أنه نسيَ العهد فأكل الشجرة ناسيًا، وسبب نسيانه غرور الشيطان له وحلفه باللَّه، لأن آدم لا يخطر في عقله أن أحدًا يحلف باللَّه على الكذب، وذكر اللَّه أنه ناس مغرور قال: {ولَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه/ 115]، وقال: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف/ 22].
ويُجاب عن هم يوسف بأنّها خَطْرة قَلْب لم يُصَمِّمْ عليها، وما كان من الهمِّ كذلك لا مؤاخذة به. وأَجَابَ البعضُ بأن الهمَّ لم يقع منه أصلًا
__________
(1) انظر “الأم”: (2/ 549 – 550)، وحديث قلب الرداء أخرجه البخاري رقم (1005)، ومسلم رقم (894) من حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه-.

(1/314)


لتعليقه على الشرط بقوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف/ 24].
وعن إخوة يوسف بأن التحقيق أنهم ليسوا أنبياءَ (1).
فإن قيل: في القرآن ما يدل على نبوتهم وهو قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ -إلى قوله: – وَالْأَسْبَاطِ} [البقرة/ 136]، ففي ذلك دليل على نزول الوحي إلى الأسباط، والأسباطُ أولاد يعقوب.
فالجواب: أن المراد بالأسباط قبائل بني إسرائيل الاثني عشرة وفيهم أنبياء كثيرون يوحَى إليهم، ويدلُّ لهذا قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف/ 160].
وما أضيف إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الذنب في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح/ 2]، والوزر في قوله: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح/ 2].
فيجاب عنه بأن اللَّه يعدُّ على الأنبياء خلف الأَوْلى كأنه ذنب، كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقال بعضهم (2):
فصغائرُ الرجلِ الكبيرِ كبائرٌ … وكبائرُ الرجلِ الصغير صغائرُ
أو أن المراد بالذنب والوزر ما كان من التقصير في العمل قبل النبوة، ولكن قوله: {وَمَا تَأَخَّرَ} لا يساعد هذا القول. ومما يدل على الجواب الأول قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة/ 43]__________
(1) ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في ترجيح ذلك انظرها في “جامع المسائل”: (3/ 295).
(2) لم أجده.

(1/315)


فالعفو يستلزم ذنبًا وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يفعل إلا ما أذن اللَّه له فيه كما قال: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور/ 62].
والحاصل عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، ومن الكذب فيما بلَّغوا عمدًا إجماعًا، ونسيانًا أو سهوًا عند الجمهور، وعصمتهم من الكبائر عمدًا عند الجمهور وهو الحق خلافًا للحشوية، وكذا سهوًا أو نسيانًا على ما اختاره بعض المحققين. وأما الصغائر فأجاز وقوعها منهم كثير إن كانت غير صغائر خسَّة، وأكثر المجوزين يقولون: لم تقع منهم بالفعل.

. . . . . . . . . . . . … . . . . . ولم يكنْ لهم تفكُّهُ
493 – بجائزٍ بل ذاك للتَّشْرِيعِ … أو نيَّةِ الزُّلفى من الرَّفيعِ
يعني أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يفعلون الجائز للتفكُّهِ أي التلذذ والرغبة في الدنيا، وإنما يفعلون ذلك تشريعًا لأممهم “أو نية الزُّلْفى” أي القربى “من الرفيع” وهو اللَّه تعالى (1)، كالأكل والشرب بنيَّة التقَوِّي على العبادة.

494 – فالصَّمتُ للنبيِّ عن فعلٍ عَلِمْ … به جوازُ الفعل منه قد فُهِمْ
__________
(1) جاء اسم “الرفيع” على أنه من أسماء اللَّه في بعض روايات حديث أبي هريرة المعروف في سرد الأسماء الحسنى، أخرجه ابن أبي الدنيا في الدعاء والطبراني وأبو الشيخ والحاكم: (1/ 63)، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي -كما في الدر المنثور: 3/ 270 – . ولا يصح. وجاء هذا الاسم عن بعض السلف، كما في رسالة المزني في السنة التي ساقها ابن القيم في “اجتماع الجيوش الإسلامية”: (ص/ 121).

(1/316)


يعني أنه يعلم من عصمة الأنبياء أن سيدنا محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُقرُّ أحدًا على باطل، فكل فعلٍ عَلِمَ به وسَكَت عليه فهو جائز إلا إذا عُرِف لسكوته عليه موجب، كما لو أقرّ على ترك الصلاة ذِميًّا كافرًا مؤدِّيًا للجزية.

495 – ورُبَّما يفعلُ للمكروهِ … مُبَيِّنًا أنَّهُ للتنزيهِ
496 – فصارَ في جانبهِ منَ القُرَبْ … كالنهي أن يُشْرَبَ من فَمِ القِرَبْ
يعني أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ربما فعل بعض المكروهات ليبيِّن أن كراهته تنزيهية وأنه غير حرام فيصير قربة في حقه لأنه حينئذٍ تبليغٌ، ومن أمثلة ذلك ما ذكره المؤلف من أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن الشُّرْب من فَمِ القِرْبَةِ (1)، ثم شرب من فَمِ القربة (2) ليبيِّن عدم المنع.

497 – وفعلُه المركوزُ في الجِبِلَّه … كالأكل والشُّربِ فليس مِلَّه
يعني أن أفعال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الجِبِلّية أي التي تقتضيها الجِبِلّة البشرية، كالأكل والشرب والقيام والقعود = لا تدخل في حدِّ السنة اصطلاحًا، وذلك هو المراد بقوله: “فليس مِلَّه” وأصل المِلة الشريعة والطريقة، لأن الأفعال الجبلية لم تُفْعَل لأجل التشريع والاستنان بل لأن الطبع البشري
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (5627)، ومسلم رقم (609) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. وأخرجه البخاري رقم (5629) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-.
(2) أخرجه أحمد: (45/ 416 رقم 27428) من حديث أم سليم -رضي اللَّه عنها- وفيه ضعف. والترمذي رقم (1892)، وابن ماجه رقم (3423) من حديث عبد الرحمن ابن أبي عمرة عن جدته كبشة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.

(1/317)


يقتضيها، والحقُّ أنها تفيد جواز ذلك الفعل.

498 – من غيرِ لَمْح الوصفِ. . . . … . . . . . . . . . . . .
يعني أن حلَّ كون الأفعال الجِبِلّيَة لا تدخل في السنة اصطلاحًا ما لم تُرَاع صفاتها التي وقعت عليها، أمَا مع “لَمح” أي مراعاة صفاتها فإنها من السنة، كمراعاة صفة الأكل من كونه يأكل بيمينه ويأكل مما يليه، ومراعاة صفةِ الشُّرب ككونه يأخذُ الإناءَ بيمينه ولا يتنفس في الإناء، وأمثال ذلك، فإن ذلك كلَّه من السنة وإن كان أصل الأكل والشرب -مثلًا- لَيْسا منها اصطلاحًا.

. . . . . . . . . والذي احتَمَلْ … شرْعًا ففيه قُلْ ترَدُّدٌ حَصَلْ

اعلم أولًا أن أفعال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باعتبار التشريع والجبلَّة ثلاثة أقسام: قسم متمحِّض للتشريع، وقد تقدم في قول المؤلف: “والقولِ والفعلِ” إلخ. وقِسم متمحِّض للجبلة، وقد تقدم في قوله: “وفعله المركوز” إلخ. وقسم محتمل لكليهما لكونه وقع مقترنًا بعبادةٍ مع أن الجبلة تقتضيه، وقد تردَّد فيه العلماء، أي اختلفوا فيه من أجل احتماله للأمرين، وذلك هو معنى قول المؤلف: “والذي احتَمَل شرعًا ففيه قل تردُّد”. ومثَّل له المؤلف بمثالين:
الأول: ركوبه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حجة الوداع، فبعضهم يقول: ركوبه في الحج فِعل جبلَّي لأنه كان يركب في غير الحج، فالركوب في الحج ليس بسنة والمشي فيه أفضل منه، وبعضهم يقول: هو سنة لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فعله

(1/318)


وقال: “خذوا عني مناسككم” (1)، وهذا هو مراد المؤلف بقوله:

499 – فالحجّ راكبًا عليه يجري … . . . . . . . . . . . .
المثال الثاني: الضِّجْعة التي كان يضجعها (2) -صلى اللَّه عليه وسلم- على جنبه الأيمن قبل صلاة الصبح، فالأكثرون يقولون: لا تُسن لأنها فعل جبلِّي لأنه استراحة من تعب القيام بالليل، وبعضهم يقول: سُنة لكثرة فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- لها قبل صلاة الصبح، وهذا هو مراد المؤلف بقوله:

. . . . . . . . . . . . … كضِجْعَةٍ بعدَ صلاةِ الفَجْرِ
وشذ بعضُ الظاهرية فجعلها شرطًا في صحة الصلاة (3).
ومن أمثلة الفعل المتردد بين الجبلة والتشريع: الدخول من كَداء والخروج من كُدى، والنزول بالمُحَصِّب والخروج إلى المصلى من طريق والنزول من طريق آخر يوم العيد.

500 – وغيرُه وحكمُه جليُّ … فالاستوا فيه هو القويُّ
501 – من غيرِ تخصيصٍ. . . … . . . . . . . . . . . .
يعني أن فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي ليس بجبلِّيٍّ وهو التشريعي إذا كان معروف الحُكْم بالنسبة إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أي عُرِف أنه فَعَله لأنه واجب -مثلًا- أو مندوب أو مباح، فاستواءُ الأمة معه في حكم ذلك الفعل هو القوي أي
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (1297) من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-.
(2) كذا وفي ط: يضطجعها.
(3) وهو قول ابن حزم كما في “المحلى”: (3/ 196).

(1/319)


هو الصحيح، إلا إذا دلَّ دليل منفصل على خصوصه به كالوصال وتزويج أكثر من أربع. وحاصُل هذا القول أن الأصل في أفعاله -صلى اللَّه عليه وسلم- العمومُ لا الخصوصُ به إلا لدليل، وقيل: يختصُّ حكمُ الفعل به إلا لدليلٍ على استواء الأمة معه، وهذا الكلام في الفعل المعروف حكمه بالنسبة إليه، أما المجهول فسيأتي في قوله: “وكل ما الصفة فيه تُجْهَل”.

. . . . . . . وبالنصِّ يُرى … وبالبيانِ وامتثالٍ ظهرا
لما قدَّمَ أن فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- التشريعي المعروفُ حكمُه تستوي فيه معه الأمة على الصحيح، بيَّن في هذا البيت الطرق التي يُعرف بها حكمه فقال: “وبالنص يرى” يعني أن معرفة حكم الفعل بالنسبة إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تُعْلَم بالنص على ذلك، كما لو قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: هذا الفعل واجب أو مندوب أو جائز.
وقوله: “وبالبيان” أي ويُعرف حكم الفعل بكونه بيانًا لنص من القرآن فيه إجمال، لأن البيان له حكم المبيّن، وقطعه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدَ السارق من الكوع لبيان محل القطع المذكور في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة/ 38] يدلُّ على أن القطع من الكوع واجب لأنه بيان لواجب.
وقوله: “وامتثال” يعني أن وقوع الفعل منه -صلى اللَّه عليه وسلم- على سبيل الامتثال لأمر يعرف منه وجوبه، كما لو قال على سبيل الوجوب: تصدَّقْ بدرهم، فَفَعَل -صلى اللَّه عليه وسلم- امتثالًا للأمر، فيُعْلمُ أن هذا الفعل واجب؛ لأنه فُعِل لامتثال أمرٍ واجب.
فإن قيل: وجوبُه يُعلم من الأمر فأي حاجة للامتثال؟
فالجواب: أن معرفة وجوبه من الامتثال لها فائدتان؛ الأولى:

(1/320)


توكيد ثبوت الحكم حيث استفيد من طريقين وهما: الأمر والامتثال.
والثانية: دَفْع توهم توقف إجزاء المأمور به على بعض الوجوه.

502 – وللوجوب عَلَمُ النِّداءِ … كذاك قد وُسِمَ بالقضاءِ
يعني أن من علامات وجوب الصلاة الأذان، فمراده “بالعَلَم” العلامة وبـ “النداء” الأذان، أي من الطرق التي يُعرف بها حكم الفعل الأذان، فإنه يدل على وجوب الصلاة المؤذَّن لها، لأن الاستقراء دل على اختصاص الأذان بالواجبة. وقوله: “كذاك قد وُسِم بالقضاء” يعني أن من علامات وجوب الفعل عند المالكية وجوب قضائه إلا ركعتي الفجر كما أشار له في “المختصر” (1) بقوله: “ولا يُقضى غيرُ فرضٍ إلا هي فللزوال” أما على قول من يقول بقضاء غير الفرض كالعيدين وذوات الأسباب كالشافعي فالقضاء عنده لا يدل على الوجوب (2).

503 – والتَّرك إن جَلَبَ للتعزير … وَسْمٌ للاستقرا مِنَ البصيرِ

يعني أن من علامات وجوب (3) الفعل تعزيرُ تاركه، لأن الاستقراء من أهل البصر والعلم أثبت أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُعزِّر إلا على ارتكاب حرام فلا يُعزر على ترك إلا إذا كان الترك حرامًا لوجوب الفعل، ولا يعزِّر على فعل إلا إذا كان حرامًا قال في “المختصر” (4): “وعزَّرَ الإمامُ لمعصية اللَّه تعالى”
__________
(1) يعني مختصر خليل (ص/ 34).
(2) انظر “نشر البنود”: (2/ 10 – 11).
(3) تكررت في الأصل.
(4) (ص/ 265).

(1/321)


والمعصية منحصرة في فعل حرام أو ترك واجب.

504 – وما تمحَّضَ لِقَصْد القُرْب … عن قَيْدِ الإيجابِ فسِيْمى النَّدْب
يعني أنَّ تمحُّض الفعل لقصد التقرب به إلى اللَّه علامة لندبتيه إذا تجرَّد عن قيد الوجوب. فإن قيل: قصد القربة أمر باطن لا اطلاع عليه.
فالجواب: أنه يُعرف بدلالة القرينة على قصد القربة بذلك الفعل مجرَّدًا عن قيد الوجوب بأن ينتفي دليل الوجوب وقرينته، والمتمحِّض لقصد القربة يكون صلاة أو صومًا أو ذكرًا أو غير ذلك.

505 – وكل ما الصفةُ فيه تُجْهَل … فللوجوبِ في الأصحِّ يُجْعَلُ
يعني أن فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا كان مجهول الصفة أي مجهول الحكم بالنسبة إليه، فإنه يُحْمَل على الوجوب عليه وعلى الأمة لأنه أحوط إذ لا يتيقن الخروج من العهدة إلا به، ولأن اللَّه قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر/ 7] وفعله مما آتانا، ولأن اللَّه قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب/ 21]، ولأن الصحابة خلعوا نعالهم لما خلع النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نعله في الصلاة، فقد تابعوه طى فعله مع جهلهم حكمَه وقرَّرَهم على ذلك حيث أخبرهم أنه خلعها لأن جبريل أخبره أن في باطنها أذى (1).
__________
(1) أخرجه أحمد: (17/ 243 رقم 11153)، وأبو داود رقم (650)، والدارمي في “مسنده” رقم (1418)، وابن خزيمة رقم (1017)، وابن حبان “الإحسان” رقم (2185)، والحاكم: (1/ 260) وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-.
والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم -على شرط مسلم-، ورجح أبو حاتم في “العلل” رقم (330) اتصاله.

(1/322)


وقيل: يُحْمَل على الندب، إذ فِعْله -صلى اللَّه عليه وسلم- دل على أرجحية الفعل على الترك ولم يدل على الوجوب، لأن الإثم بتركه يحتاج إلى دليل منفصل. وقالوا: إن قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية أن ذلك فيما عُلِم حُكمه بالنسبة إليه لا فيما لم يُعلم حكمه كهذه المسألة، إذ لو كان فعله المجهول الحكم في نفس الأمر مندوبًا في حقه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفعلناه على سبيل الوجوب معللين بأنه الأحوط = لم نكن متبعين له في نفس الأمر.
وأجابوا عن كونه أحوط بأن الاحتياط لا يُشرع إلا إذا تقدم وجوب، أو ثبوت الوجوب هو الأصل. مثال الأول: صلاة الخمس إن جُهِل عين المنسية، ومثال الثاني: صوم الثلاثين من رمضان إذا لم يُرَ الهلال لغيم أو نحوه.
أما إذا لم يتقدم وجوب ولم يكن ثبوته الأصل، فلا يلزم الاحتياط، كصوم يوم الشك في هلال رمضان، وهذه المسألة لم يتقدم فيها وجوب، ولم يكن الثبوت فيها هو الأصل عند أهل هذا القول.
وأجابوا عن خلعهم نعالهم بأن موجبه ليس مجرد المتابعة في الفعل المجهول الحكم بل موجبه المتابعة في هيئات الصلاة وذلك بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “صلوا كما رأيتموني أصَلِّي” (1).
وقيل: يُحمل على الجواز، وقيل بالوقف، وسيأتي للمؤلف.
وذكر غيرُ واحد -كالمؤلف- أن أصح هذه الأقوال الحمل على
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (631)، وأصله في مسلم رقم (674) من حديث مالك بن الحويرث -رضي اللَّه عنه-.

(1/323)


الوجوب، وهو مذهب مالك والأبهري وابن القصَّار وبعض الشافعية وبعض الحنفية وكثير من الحنابلة.

506 – وقيل مع قَصْد التقرب وإنْ … فُقِدَ فَهْو بالإباحة قَمِنْ
هذا القول للباجيّ (1)، يعني أن الباجيَّ قال: إنَّ فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي جُهِل حكمه يُحمل على الوجوب إن ظهر قصد القربة، وإلَّا فعلى الإباحة، وقال بعض المالكية أيضًا: إن ظهر قصد القربة فللندب وإلا فللإباحة.
فإن قيل: قول الباجيّ هذا أنه إن ظهر قصد القربة حُمِل على الوجوب ينافي ما تقدَّم من أن التمحُّض للقربة علامة الندب -كما تقدم- إذا تجرد عن قيد الوجوب.
فقد أجاب بعضهم عن هذا بأن المراد بقصد القربة عند الباجيّ قصد التقرب ببيان الفعل للأمة، وقصد القربة الذي هو سيمى الندب هو قصد التقرب بنفس الفعل، واللَّه تعالى أعلم. وقوله: “قَمَن” بكسر الميم وفتحها بمعنى حقيق وجدير.

507 – وقد رُوِي عن مالكِ الأخيرُ … والوقفُ للقاضي نَمَى البصيرُ
يعني أنه روي عن مالك القول الأخير وهو الإباحة، رواه عنه إمام الحرمين (2) والآمدي (3). وقوله: “والوقف للقاضي” إلخ يعني أن البصيرَ
__________
(1) انظر “إحكام الفصول”: (1/ 316).
(2) ليس في “البرهان”: (1/ 157 – 161) عزو لمالك في هذه المسألة. وقد حكاه عنه في “النشر”: (2/ 13).
(3) انظر “الإحكام”: (1/ 149).

(1/324)


بعلم الأصول نسب القول بالوقف للقاضي أبي بكر الباقلاني (1)، ووجه القول بالوقف احتمال الفعل للوجوب والندب والإباحة.

508 – والناسخُ الأخيرُ إن تقابلا … فِعْلٌ وقولٌ متكَرِّرًا جلا
يعني أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صدر منه قول يقتضي التكرار متضمِّنًا حكمًا، وصدر منه فعل يناقض ذلك القول، كما لو قال: صوم يوم عاشوراء واجب عليَّ، ولم يصُمْه، فإن المتأخِّر من القول أو الفعل ناسخ للأول إذا عُرِف المتأخر، فإن جُهِل فهو قوله:

509 – والرَّأي عندَ جهلِه ذو خُلْفِ … بينَ مرجّحٍ ورأي الوَقْفِ
يعني أنه إن جُهِل المتأخر من القول والفعل المتعارِضَيْن فرأي العلماء مختلف في ذلك، فمنهم من رجح القول، ومنهم من رجح الفعل، ومنهم من قال بالوقف.

510 – والقولُ إنْ خَصَّ بنا تعارَضا … فينا فقطْ والناسخ الذي مَضَى
511 – إن بالتأسِّي أذِنَ الدليلُ … والجهلُ فيهِ ذلكَ التفصيلُ
يعني أن القول المعارض للفعل إذا كان مختصًّا بالأمة دونه -صلى اللَّه عليه وسلم-، تعارض القول والفعل في خصوص الأمة ولم يتعارضا في حقه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لأن القولَ لم يتناوَلْه أصلًا حتى يعارض الفعل، ومحل تعارضهما في الأمة إذا دل الدليل على استواء الأمة معه في الفعل. كما لو قال: صوم عاشوراء واجب عليكم، وتَركَ صومَه تشريعًا لأمته، فالقول والفعل إذًا متعارضان
__________
(1) عزاه له الجويني في “البرهان”.

(1/325)


في حق الأمة والمتأخر منهما ناسخ، وإن جُهِل؛ فقيل يُرَجَّح الفعل، وقيل يُرَجَّح القول، وقيل بالوقف على نحو ما تقدم، وذلك هو معنى قوله: “والناسخ الذي مضى” وقوله: “والجهل في ذلك التفصيل”.
وقوله: “إن بالتأسِيّ أذِنَ الدليل” يعني أن محل تعارضهما في الأمة فيما إذا أذن الدليل بالتَأسِيّ أي دل الدليل على الاقتداء به في الفعل، و”أذن” هنا بمعنى الإعلام أي أكْلَمَ الدليلُ بالتأسِيّ وهو الاقتداء، أما إن لم يدل الدليل على التأسِّي في الفعل، فلا معارضة بينهما في حق الأمة أيضًا. والتعارض في الاصطلاح هو: التقابل بين شيئَيْن على وجهٍ يمنع كلٌّ منهما مقتضى الآخر أو بعض مقتضاه.

512 – وإن يعمَّ غيرَه والاقْتِدا … به له نصٌّ فما قبلُ بدا
يعني أن القول إذا كان يشمل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مع الأمة والحال أن النص دَلَّ على أن الأمة مثله في الفعل المعارض للقول، فحكم المسألة حكم ما مضى قبل، وهو أن المتأخر ناسخ في حقِّه وحقِّ الأمة إن عُلِم، وإن جُهِل المتأخر فالخلاف المتقدِّم بين ترجيح القول أو الفعل أو الوقف. ومفهوم قوله: “والاقتدا به له نص” أن الفعلَ إذا كان خاصًّا به كان التعارض في حقه فقط دون الأمة.

513 – في حقِّه القولُ بفعلٍ خُصَّا … إن يكُ فيه القولُ ليس نَصّا
يعني أنه إذا جاء نص بحكم عام وكان عمومُه يشممل النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولكن لا يشمله إلا بظاهر العموم وعارضَه فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن فعل النبي يدلُّ على أنه غير داخل في العموم وأن الفعل يختص به دون الأمة، كنهيه عن

(1/326)


الوصال، فإنَّ ظاهره شمول كراهة الوصال له -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا أنه لمَّا فَعَلَه دل على اختصاص النهي عن الوصال بغيره، وكتزويجه أكثر من أربع مع دلالة ظاهر القرآن على المنع.

514 – ولَمْ يكن تعارُضُ الأفعالِ … في كلِّ حالةٍ من الأحْوالِ
يعني أن الأفعال لا تتعارض إن تجرَّدت عن القول، لأن الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيًّا، ولا عموم له حتى يقع التعارض بين الأفعال كما قال ابن الحاجب (1) والرهونيُّ وغيرُهما (2).

515 – وإن يكُ لقولُ بحكمٍ لامعا … فآخِرُ الفعلين كان رافعا
يعني أن ما تقدم من عدم تعارض الأفعال محلُّه إذا لم يقترن بالفعلين قولٌ يدل على ثبوت الحكم، فإن اقترن بهما كان آخرُهما ناسخًا للأول، ومثاله عند القائل به: كيفيات صلاة الخوف، لأن القول ورد ببيان الحكم فيها بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “صلوا كلما رأيتموني أُصَلِّي” (3)، فتكون الكيفية الأخيرة ناسخة لما قبلها؛ لأن الحكم مثبت بقول. وقوله: “بحكم لامعًا” أي وإن يكن القول لامعًا بالحكم أي واردًا بثبوته.

516 – والكُلُّ عند بعضِهم صحيحُ … ومالكٌ عنه رُوِي الترجيحُ
يعني أن بعضَ العلماء يقول بأن كيفيات الفعل كلها صحيحة، فأية
__________
(1) انظر “المختصر – مع الشرح”: (1/ 506).
(2) انظر “البحر المحيط”: (4/ 192)، و”النشر”: (2/ 15 – 16).
(3) تقدم تخريجه.

(1/327)


كيفيةِ صلاةٍ من صلاة الخوف فَعَلَها فهي صحيحة بناء على عدم تعارض الأفعال ولو اقترنت بقولٍ مثبت للحكم، ورُوي عن مالك بن أنس -رحمه اللَّه- الترجيح بين كيفيات الفعل فتتعين التي هي أقرب للخشوع، أو التي هي أقل أفعالًا، ونحو ذلك من المرجحات.

517 – وحيثُ ما قد عُدِمَ المصيرُ … إليه فالأوْلى هو التخييرُ
يعني أنه على القول بالترجيح إذا لم يوجد مرجِّح لأحد الفعلين على الآخر فالأولى تخيير المكلَّف في أن يفعل أيَّ الأفعال شاء، فقوله: “عُدِم المصيِرُ إليه” أيْ بعدم وجود مُرَجِّحٍ.

518 – وَلَم يكنْ مكلَّفًا بشرعِ … صلى عليه اللَّهُ قبلَ الوضعِ
يعني أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن مكلَّفًا بشرع أحدٍ من الأنبياء قبل الوضع أي قبل نزول الوحي عليه، وأما بعد نزول الوحي عليه فقد أشار إليه بقوله:

519 – وهو والأمةُ بعدُ كُلِّفا … إلا إذا التكليفُ بالنصِّ انتفَى
520 – وقيلَ لا والخُلْفُ فيما شُرِعا … ولم يكنْ داعٍ إليه سُمِعا
يعني أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته بعد نزول الوحي مكلَّفون بشرع من قبلهم خلافًا للشافعي، ومحلُّ هذا الخلاف فيما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا ولم يثبت في شرعنا أنه شرعٌ لنا، وهذان القيدان هما مراد المؤلف بقوله: “والخُلْفُ فيما شُرِعا. . . ” البيت. وهذه المسألة هي مسألة: هل شَرْع من قبلنا شرعٌ لنا؟ وتحقيق المقام فيها أن لها ثلاث حالات:
الأولى: أن يكونَ شرعُ من قبلنا فيها شرعًا لنا بلا خلاف، وهي ما إذا ثبت في شرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا، ثم نُصَّ لنا في شرعنا أنه شرع

(1/328)


لنا كالقصاص، لأن اللَّه بيَّن أنه كان شرعًا لمن قبلنا بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة/ 45] الآية، ونصَّ على أنه شرعٌ لنا أيضًا في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة/ 178] الآية.
الثانية: ليس شرعًا لنا فيها بلا خلاف، وهي في صورتين؛ إحداهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلًا ولو زعموا أنه من شرعهم. والأخرى: ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لهم ونُصَّ لنا على أنه ليس شرعًا لنا، كالآصار والأثقال التي شُرِعت على من قبلنا، كإيجابه على بني إسرائيل أن يَقتُلوا أنفسهم توبةً من عبادةِ العِجْلِ المنصوص في قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة/ 54] فإن هذه الآصار رُفعت عنا كما قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف/ 157]. وثبت في “صحيح مسلم” (1) أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما قرأ: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال اللَّه: قد فعلت”.
الثالثة: هي محل الخلاف، وهي ما إذا ثبت بشرعنا أنه كان شرعًا لمن قبلنا ولم ينص في شرعنا على أنه مشروع لنا ولا غير مشروع، والجمهور على أنه شرع لنا خلافًا للشافعي، وحُجَّة الجمهور: أنه ما ذُكِرَ لنا في شرعنا إلَّا للاعتبار كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف/ 111]، وثمرة الاعتبار العمل، وقد حضَّ تعالى في آيات كثيرة على الاعتبار بأحوال الأمم الماضية.
__________
(1) رقم (126) من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-.

(1/329)


ومما استدلَّ به الجمهور: أن اللَّه لما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام قال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام/ 90]، وقد تقدَّم أن الأصح أن الأمر للوجوب، وأن الأمة تدخل تحت الخطاب الخاص به -صلى اللَّه عليه وسلم-. واستدلُّوا أيضًا بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى/ 13] الآية، وبقوله: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء/ 26].
واحتجَّ الإمام الشافعي (1) على أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة/ 48] وقال: إن الهدى فى قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} والدين في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} المراد به العقائد دون الفروع العملية بدليل الآية المذكورة.
والحق أنه لا يختص بذلك لما ثبت في “صحيح البخاري” (2) عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: من أين أخذت السجدة في (ص)؟ فقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فسجدها داودُ فسجدها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فهذا نصٌّ صريحٌ مرفوعٌ إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثابت في “صحيح البخاري” على أن سجود التلاوة داخل في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وهو ليس من العقائد بالإجماع، فظهر عدم الاختصاص بالعقائد.
وأجاب الجمهورُ عن احتجاج الشافعي بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا
__________
(1) انظر “قواطع الأدلة”: (2/ 211).
(2) رقم (4807).

(1/330)


مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} بأن المراد بها نسخُ بعض ما كان مشروعًا أو زيادة ما لم يكن مشروعًا وكلاهما ليس من محلِّ النزاع، ولم يزل العلماء يستدلون على الأحكام بالقَصَص الماضية، كاستدلال المالكية وغيرهم على أن القرينة الجازمة ربما تكفي في البيِّنَة بجَعْل شاهدِ يوسفَ قرينةَ شقِّ القميصِ من دُبُرِ مقتضيةً صِدْق يوسفَ وكَذِبَ امرأةِ العزيز المنصوص في قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} إلى قوله: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} [يوسف/ 26 – 28] الآية، ولذا صارت القرينة تكفي عن البينة في أمور كثيرة، كقول مالك: إن من اسْتُنكه فشُّمَّ من نكهته رائحة الخمر أنه يُجلد جلد الشارب (1). وكمسيس الزوجة التي تزوجها ولم يرها وزُفت إليه مع نساء لا تُثْبِت شهادتُهن عينَ الزوجة اعتمادًا على القرينة. وكالضيف يأتيه الصبي أَو الوليدة بالطعام فيُبَاح أكلُه من غير بينة اعتمادًا على القرينة. وكأخْذِ المالكية وغيرهم أيضًا أن القرينة تُبطلها قرينة أقوى منها من قصة يعقوب وأولاده، حيث جعلوا دم السَّخلة على قميص يوسف ليكون الدم قرينة لهم على صدقهم في أن يوسف أكله الذئب، فأبطلها يعقوبُ بقرينة أقوى منها وهي عدم شق القميص فقال: سبحان اللَّه! متى كان الذئب حليمًا كَيَّسًا يقتل يوسف ولا يشق قميصه؟! كما ذكره اللَّه عنهم في قوله: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف/ 18] الآية.
__________
(1) انظر “تهذيب المدونة”: (4/ 499).

(1/331)


وكأَخْذ المالكية وغيرهم جواز ضمان الغرمِ مِنْ قوله تعالى في قصة يوسف وإخوته: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)}.
وكأخذ بعض الشافعية ضمان الوجه المعروف عندهم بالكفالة من قصة يعقوب وأولاده المنصوص في قوله: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف/ 66] الآية.
وكأخذ الحنابلة جواز طول مدة الإجارة من قوله في قصة موسى وشعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} إلى قوله: {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص/ 27].
وكأخذ المالكية وجوب الإعذار للخصم بـ: أبَقِيَتْ لك حجة؟ من قوله في قصة سليمان والهدهد: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)} [النمل/ 21]. وكأخذهم أيضًا أن التلوُّم للخصم بعد انقضاء الآجال ثلاثة أيام من قوله تعالى في قصة صالح وقومه: {فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود/ 65] الآية. وأشار لهذا ابن عاصم في “التحفة” بقوله:
* ثلاثة وأصله تمتّعوا *
وكأخذ العلماء جواز وقِع كرامات الأولياء من قوله تعالى في قصة مريم: {قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران/ 37] الآية، وأمثال هذا كثيرة جدًّا.

521 – ومُفْهِمُ الباطلِ من كلِّ خبَرْ … في الوضع أو نقصٍ من الراوي انحَصَرْ
يعني أن كلَّ خبر رُوي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعُرِف أنه غير مطابق للحق

(1/332)


بطريق من طرق اليقين فإنه لا يخلو من أحد أمرَيْن؛ إما أن يكون موضوعًا أي مكذوبًا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومَثَّل له المؤلف في “الشرح” (1) بما رُوِي: أن اللَّه تعالى خلق نفسه (2).
ومن أمثلته ما رواه مسلم (3) وغيره عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: “أن اللَّه خلق التربة يوم السبت، وخلق الجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، وبثَّ الدواب يوم الخميس، وخَلَق آدمَ بعد العصر يوم الجمعة” فإن هذا الحديث يظهر عدم صحته من مخالفة نص القرآن في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان/ 59]. ولذا قال البخاري (4) وعلي بن المديني (5) وغير واحد من الحفاظ: إنه من كلام كَعْب الأحبار فغلط بعض الرواة فرفعه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (6).
__________
(1) (2/ 18).
(2) يعني حديث: (إن اللَّه خلق الفرس فأجراها فعرقت فخلق نفسه منها. . .) أخرجه ابن عدي في “الكامل”: (6/ 291)، وابن الجوزي في “الموضوعات” رقم (231). وهو حديث مكذوب باتفاق العلماء.
(3) رقم (2789). وأخرجه النسائي في “الكبرى” رقم (10943)، وابن خزيمة رقم (1731).
(4) في “التاريخ الكبير”: (1/ 413).
(5) حكاه عنه البيهقي في “الأسماء والصفات”: (ص/487). لكنه أعله بأن أحد رواته أسقط من إسناده أحد الكذابين.
(6) وقد انتصر للقول بضعفه شيخُ الإسلام ابن تيمية وابنُ القيم، انظر “مجموع الفتاوى”: (18/ 18 – 19)، والجواب الصحيح: (2/ 443 – 445)، و”قاعدة جليلة: (ص/ 186 – 188) كلها لابن تيمية، و”المنار المنيف”: (ص/ 4 – 86) =

(1/333)


وإما أن يكون الراوي نقصَ منه ما يُزيل الباطل، ومثاله: ما رواه الشيخان (1) عن ابن عمر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “أرأيتَكُم ليلَتَكُم هذه فإنَّ على رأس مئة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض اليومَ أحدٌ” قال ابنُ عمر: فوهَل الناس في مقالته أي غلطوا حيثُ لم يسمعوا لفظة “اليوم” فظنوا انقراض جميع الناس على رأس مئة سنة.

522 – والوضعُ للنسيانِ والترهيبِ … والغلَطِ التنفِيْرِ والترغيبِ
يعني أن أسباب الوضع -أي الكذب على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منها: النسيان من الراوي لما رواه فيذكر غيرَه ظنًّا منه أنه هو. ومنها: قصد الترهيب عن المعصية، وقصد الترغيب في الطاعة، وقد وضعت الكرَّامية في ذلك أحاديث كثيرة. ومنها: الغلط بأن يسبق لسان الراوي إلى غير ما رواه. ومنها التنفير كوضع الزنادقة أحاديث لا تقبلها العقول لتنفير الناس عن الشريعة. وقوله: “التنفير”، معطوف بحذف العاطف.

523 – وبعدَ أن بُعِثَ خيرُ العربِ … دعوى النبوَّة انْمِها للكَذِبِ

هذا شروع من المؤلف -رحمه اللَّه- في تقسيم الخبر إلى ما قُطِعَ بكذبه، وما قُطع بصدقه، وما لم يُقْطَع فيه بواحد منهما، وبدأ بالمقطوع بكذبه. ومعنى البيت: أن من ادَّعى النبوة بعد مبعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقْطَع بكذبه
__________
= لابن القيم. وممن انتصر لصحة الحديث الشيخان المعلمي في “الأنوار الكاشفة”: (ص/ 188 – 193)، والألباني في “السلسلة الصحيحة” رقم (1883).
(1) أخرجه البخاري رقم (116)، ومسلم رقم (2537).

(1/334)


من غير أن يُطالب بدليل، للأدلة القاطعة كإجماع المسلمين على ذلك، ونص قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب/ 40].

524 – وما انتفَى وجودُه من نصِّ … عند ذوي الحديثِ بعدَ الفَحْصِ
قوله: “ما” عطفٌ على الضمير المنصوب في قوله: “انْمِها” أي انْمِها للكذب، وانْمِ للكذب أيضًا كُلَّ حديثٍ نُسِب إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يوجد بعد البحث والتفتيش التامِّ، لقضاءِ العادةِ بكذب ناقله. وقيل: لا يُقْطَع بكذبه لتجويز العقل صدق ناقله، وهذا بعد تدوين الأحاديث، أما قبل ذلك كعصر الصحابة فلا مانع من أن يروي أحدهم ما ليس عند غيره.

525 – وبعضَ ما يُنْسب للنبيِّ … . . . . . . . . . . . .
قوله: “وبعضَ” بالنصب أيضًا عطفًا على مفعول “انمِ” أي: انم للكذب بمعنى انسب له قطعًا بعض الأحاديث المروية عن النبي، يعني أنه يُقطع بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قيل عليه ما لم يَقُلْهُ، ووجه القطع بذلك أنه رُوِي عنه أنه قال: “سَيُكْذَب علَيَّ” (1) ولا يخلو الأمر من أحد أمرين: إما أن يكون قال هذا الحديث، وإما أن يكون مكذوبًا عليه، فإن كان قاله حَصَل القطعُ بوقوع الكذب عليه، وإن كان لم يقله فقد كُذِبَ به عليه (2). وهذا الحديث لا يُعْرف له إسناد.
__________
(1) قال ابن الملقن في “تخريج أحاديث البيضاوي” (ص/ 48): “هذا الحديث لم أره كذلك، نعم في أوائل مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “يكون في آخر الزمان دجالون كذابون”. وانظر “المعتبر”: (ص/ 141) وحاشيته.
(2) انظر “منهاج السنة”: (7/ 61)، و”الإبهاج شرح المنهاج”: (2/ 298) للسبكي.

(1/335)


.. وخبرَ الآحاد في السّنيّ
526 – حيثُ دواعي نقْلِه تواتُرا … نَرَى لها لو قاله تقَرُّرا
قوله: “وخبرَ الآحاد” بالنصب أيضًا عطفًا على الضمير مفعول “انْمِ” أي: وانْمِ خبرَ الآحاد للكذب أيضًا إذا كانت الدواعي متوفِّرة إلى نقله تواترًا؛ لأن توفر الدواعي إلى نقله تواترًا قادح في نقله آحادًا، إذ لو وقع لنُقِلَ تواترًا لتوفُّر الدواعي إلى ذلك، كما لو سقط الخطيبُ عن المنبر يوم الجمعة ولم يُخْبر به إلَّا واحد فإنه يُقْطَع بكذبه لمخالفته للعادة، وقيل: لا يُقْطَع بكذبه لتجويز العقل صدقه. وقوله: “دواعي” مبتدأ وجملة “نرى لها” خبره.

527 – واقطعْ بصدقِ خبرِ التواتُرِ … وسَوِّ بينَ مسلمٍ وكافِرِ
528 – واللفظِ والمعنى. . . . … . . . . . . . . . . . .
يعني أن من الأخبار قِسمًا يُقطع بصدقه كالخبر المتواتر. والتواتر لغةً تَتابع الشيء، ومنه قول لبيد (1):
يعلو طريقةَ مَتْنِها متواترٌ … في ليلةٍ كَفَر النجومَ غمامُها (2)
يعني بقوله: “متواتر” مطرًا متتابعًا أو غبارًا متتابعًا. واصطلاحًا سيأتي تعريفه قريبًا.
وقوله: “وسوِّ بين مسلمٍ وكافر” يعني أن المتواتر يُقْطَع بصدقه سواء
__________
(1) “ديوانه”: (ص/ 172).
(2) في بعض المصادر: ظلامها.

(1/336)


كان المخبرون مسلمين أو كفارًا أو فاسقين؛ لأن القطع بصدقه من جهة استحالة تواطئهم على الكذب لا عدالتُهم. والعلمُ الذي يفيده التواتر ضروري عند الجمهور لا نظري خلافًا لإمام الحرمين (1) والغزالي (2)، ومعنى كونه نظريًّا عندهما أنهما يقولان -مثلًا-: هذا الشيء أخْبَرَ به جَمْعٌ يستحيلُ تواطؤهم على الكذب عادةً، وكل ما أخبرَ به جمعٌ كذلك فهو قطعي الصدق، ينتج من الشكل الأول: هذا الشيء قطي الصدق.
وقيل: يشترط الإسلام، وقيل: تشترط العدالة، وكلاهما ضعيف.
وقوله: “واللفظ والمعنى” يعني أنه لا فرق بين التواتر اللفظي والتواتر المعنوي، فالتواتر اللفظي ظاهرٌ، والتواتر المعنوي هو أن تختلف عبارات الألفاظ ويتضَمَّن كلٌّ منها معنى كليًّا يُسْتفاد من جميع الألفاظ المختلفة كما لو أخبر واحد عن حاتم أنه أعطى دنانير، وآخر (3) أنه أعطى خيلًا، وآخر أنه أعطى إبلًا، وهكذا فقد اتفقوا على معنى كِلِّيٍّ هو الإعطاء.
__________
(1) في “البرهان”: (1/ 375 – 376).
(2) حكاه عنه الفخر الرازي -كما في “البحر الميحط”: (4/ 240) – قال الزركشي: (والذي في “المستصفى”: (1/ 132 – 133) أنه ضروري، بمعنى أنه لا يحتاج إلى حصوله إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن، وليس ضروريًّا بمعنى أنه حاصل من غير واسطة، كقولنا: القديم لا يكون محدثًا. . . فإنه لابد فيه من حصول مقدمتين في النفس: عدم اجتماع هذا الجمع على الكذب، واتفاقهم على الإخبار عن هذه الواقعة) اهـ. ثم خرّج كلام إمام الحرمين عليه وكذا الكعبي، قال: فلم يبق خلاف.
(3) الأصل: وأخبر.

(1/337)


وذاك خبَرُ … مَنْ عادةً كذِبُهمْ منحَظِرُ
529 – عن غيرِ معقولٍ. . . . . . … . . . . . . . . .
هذا تعريف المتواتر وهو المشار إليه بقوله: “وذاك” يعني أن المتواتر في الاصطلاح هو خبرُ جَمْعٍ يمتنع عادةً تواطؤهم على الكذب، أي توافقهم عليه إذا كان خبرهم عن محسوس بإحدى الحواس الخمس. وهو المراد بقوله: “عن غير معقول”. ويدخل في المحسوس الوُجداني وهو ما كان مُدْرَكًا بالحس الباطن كاللذة والألم.
وقوله: “عن غير معقول” الذي هو المحسوس احترز به عن المعقول فلا يفيد التواتر فيه القطع، لأن آلاف العقول تتواطأ على الخطأ في المعقول كتواطئ الفلاسفة على قِدَم العالم.

. . . . . . . . . وأوجبِ العَدَدْ … من غيرِ تحديدٍ على ما يُعْتَمَد
يعني أن المتواتر لابدَّ فيه من تعدُّدِ رواته في جميع طبقات السند من غير تحديد بعدد معين، بل المعتبر ما حصل به العلم على المعتمد وهو مذهب الجمهور.
فإن قيل: كيف علمتم أن المتواتر يحصل به العلم مع جهل تعيين العدد المحصِّل للعلم؟ قلنا: كما علمتم أن الخُبز يشبع والماء يُرْوي مع جهلكم لتحديد ما يحصل به الشبع والرِّيُّ.

530 – وقيل بالعشرينَ أو بأكثَرا … أو بثلاثين أوِ اثْنَيْ عشَرا

يعني أنه قيل: إن أقل عدد التواتر عشرون، ويُرْوَى عن ابن القاسم. وقيل: أقله ما زاد على العشرين، ويُروى عن سحنون. وقيل:

(1/338)


أقله ثلاثون، ويروى عن ابن أبي زيد. وقيل: أقله اثنا عشر، وقيل: غير ذلك.

531 – إلغاءُ الأربعَةِ فيه راجحُ … وما عليها زادَ فهوَ صالحُ
يعني أن إلغاء الأربعة في عدد التواتر والحكم بأنها لا تكفي فيه راجح، ووَجْه رجحانه: أنهم لو شهدوا بزنى لاحتاجُوا إلى التزكية وما يحصل به التواتر لا يحتاج إلى تزكية قطعًا، وقد تقدم للمؤلف أن المسلم والكافر فيه سواء، وممن ذكر عدم صلاحية الأربعة الباقلانيُّ والسبكيُّ.

532 – وأوجبَنْ في طبقاتِ السَّنَدِ … تواترًا وَفْقًا لدى التعَدُّدِ
يعني أن طبقات السند إن كانت متعددة يجب التواتر في كل طبقة منها بأن يرويه في كل طبقة جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، فإن بقيت طبقة لم يتواتر فيها كان خبر آحاد، ومثال ما تواتر فيه في كل الطبقات حديث: “من كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوأ مَقْعَدَه من النار” (1). ومثال ما تواتر في بعض طبقات السند دون بعض حديث: “إنما الأعمال بالنيات” (2)، فإنه لم يَرْوه عن عمر بن الخطاب إلَّا علقمة بن وقاص، ولم يروه عن علقمة إلَّا محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم إلَّا يحيى بن سعيد الأنصاري، وقد تواتر عن
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1291)، ومسلم رقم (4) من حديث المغيرة -رضي اللَّه عنه-.
(2) أخرجه البخاري رقم (1)، ومسلم رقم (1907).

(1/339)


يحيى بن سعيد وعمن روى عنه (1).
وقوله: “وفقًا” يعني اتفاقًا. وقوله: “لدى التعدد” يحترز به مما لو كان رواة المنقول بالتواتر طبقة واحدة فإنه لا إشكال فيه.

533 – ولا يفيدُ القطعَ ما يُوافِقُ … الإجماعَ والبعضُ بقطعٍ ينطقُ
534 – وبعضُهم يفيدُ حيث عوَّلا … عليهِ. . . . . . . . . . . .
يعني أن خبر الآحاد إذا انعقد الإجماع موافقًا له اختلف فيه هل يصير بذلك قطعيًّا أو لا؟ على ثلاثة أقوال:
الأول: وهو أصحها عند الأصوليين أن موافقة الإجماع لخبر الآحاد لا تفيد القطع بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ذلك الخبر المروي آحادًا مطلقًا، لجواز أن يكون مستندهم غيره، أو يكونوا ظنوا الحكم فوجب عليهم العمل بما غلب على ظنهم وإن لم يكن مطابقًا في نفس الأمر عند من يجيز ذلك في حقهم.
الثاني: أنه يفيد القطع لاعتضاده بالقطعي الذي هو الإجماع.
الثالث: التفصيل، فإن صرح المجمعون بأن ذلك الخبر هو مستندهم أفاد القطع وإلَّا فلا، ومن يقول في هذا بأنه لا يفيد القطع ولو صرحوا بأنه مستندهم يرى أن الأمة يجوز في حقها أن تُجْمعَ مستندة إلى ظن ليس مطابقًا للواقع في نفس الأمر، وهي حينئذٍ لم تكن مُجْمعة على ضلالة لأنها عملت بما غلب على ظنها أنه صواب، وذلك ليس بضلال ولو لم يطابق ما في نفس الأمر.
__________
(1) انظر “فتح الباري”: (1/ 17).

(1/340)


. . . . . وانْفِهِ إذا ما قد خلا
535 – معَ دَواعي ردِّه من مُبْطِلِ … كما يَدُلُّ لخلافةِ عَلي
الضمير في قوله: “انفه” عائد إلى القطع بصدق الخبر المذكور في قوله: “واقطع بصدق خبر التواتر” يعني أنه لا يفيد القطع بصدق الخبر عدم إبطاله مع توفر الدواعي الباعثة على إبطاله، كالأحاديث الدالة على أن عليًّا أحق بالخلافة من معاوية كحديث: “أنت منِّي بمنزلةِ هارون من موسى” (1)، وكحديث: “من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه” (2) فإن داوعي بني أمية متوفرة إلى إبطال ذلك، فإذا لم يبطلوه لم يوجب ذلك القطع بصدقه. وقوله: “من مبطل” يتعلق بقوله: “خلا” أي خلا الخبر من مبطل “مع دواعي ردِّه” أي إبطاله.

536 – كالافتراقِ بَيْن ذي تأوُّلِ … وعامِلٍ به على المُعَوَّل
يعني أن افتراق العلماء في حديث إلى مؤوِّلٍ له ومحتجٍّ به لا يوجب القطعَ بصدقه على القول المعول عليه وهو مذهب الجمهور، وقيل:
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3707)، ومسلم رقم (2404) من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه-.
(2) هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة، وهو المعروف بحديث غدير خم، وكل رواياته فيها مقال، وله ألفاظ شتى، ومن أحسن أسانيده ما أخرجه الترمذي رقم (3713)، والنسائي في “الكبرى” رقم (8424)، وابن حبان “الإحسان” رقم (6931)، والحاكم (3/ 533). من حديث أبي الطفيل عن زيد بن أرقم -وبعض الرواة لم يذكر زيدًا-. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. انظر: “تخريج أحاديث الكشاف”: (2/ 234 – 244) للزيلعي.

(1/341)


يوجب له القطع. وحجة القائل به: إجماعُ الكل على قبوله لأن تأويله يستلزم القبول ولولا ذلك لم يحتج إلى تأويله، واستلزام العمل بظاهره للقبول واضح فصاروا مجمعين على قبوله.
ومحلُّ هذا القول الضعيف ما لم يعلق التأويل على تقدير الصحة، كما لو قال: ولو فرضنا أنه صحيح فمعناه كذا، ومثاله: حديث أبي رافع عند البخاري: “الجارُ أحق بِصَقَبهِ” (1)، فإنَّ أكثر العلماء أوَّل الجار على أن المراد به الشريك المقاسم، لَحديث جابر المتفق عليه: “فإذا ضُرِبَت الحدودُ وصرفت الطرق فلا شُفعة” (2)، وبعضٌ حمَلَه على ظاهره فأوجبَ الشُّفعة للجار.

537 – ومذهبُ الجمهور صِدق مخبرِ … مع صَمْت جمعٍ لم يَخَفْهُ حاضرِ
يعني أن مذهب الجمهور -واختاره ابن الحاجب (3) – أن من أخبر عن أمر محسوس بحضرة جَمْع يحصل بعددهم التواتر، وذلك الأمر مما لا يخفى عليهم عادة، ولم يكونوا خائفين من ذلك المُخْبِر، وسكتوا ولم يكذِّبوه وهم سامعون لما يقول = فإن ذلك يفيد القطع بصدقه، لاستحالة تواطئهم على السكوت على الكذب عادة، وقيل: يفيد ذلك الظن فقط لإمكان أن يسكتوا لا لشيء. وقوله: “حاضر” نعت لقوله: “جمع” وفاعل “يخف” ضمير عائد إلى الجمع، والضمير المنصوب به عائد إلى “المخبِر”.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) “المختصر – مع الشرح”: (1/ 662).

(1/342)


538 – ومودَعٌ من النبيِّ سَمْعا … يفيدُ ظنًّا أو يفيدُ قَطْعا
539 – وليسَ حاملٌ على الإقرار … ثَمَّ مع الصمتِ عن الإنكار
يعني أن المخبر إذا كان بمكان يسمع النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه خبره وسكت عن الإنكار عليه، ولا حامل للنبيِّ على الصمت ولا للمخبر على الكذب، فإن ذلك يفيد الظن بصدق خبره لا اليقين كما اختاره ابن الحاجب (1)، وقيل: يفيد القطع وهو قول المتأخرين، وسواء كان عندهم ذلك الأمر دينيًّا أو دنيويًّا (2).
أما إذا لم يكن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سمعه فلا إشكال، وإذا سمعه وكان للنبي حاملٌ على الصمت ككون المخبر كافرًا ذا لَجاج وقد أنكر عليه قبل ذلك مرارًا ولم يُفِد، فلا يكون صمته عنه دليلًا على صدقه، وكذا إذا كان للمخبر حامل على الكذب ككونه يدفع به عن نفس معصوم أو مال فلا يفيد ذلك أيضًا صدقه.
والحقُّ في هذه المسألة ما قاله العبَّادي (3) من أنها لا فائدة لها، إذ لا يتصور حصول العلم بالصدق لأحد لتوقفه على العلم بانتفاء كلِّ شيء يحمل على التقرير ولا يمكن العلم بذلك؛ لأن الحوامل لا تنحصر وقد يخفى الحامل ويشتبه بغيره فيظن ما ليس بحامل حاملًا كالعكس.

540 – وخبرُ الآحاد مظنونٌ عَرَى … عن القيودِ في الذي تواترا
__________
(1) المصدر نفسه: (1/ 661).
(2) انظر “نشر البنود”: (2/ 28).
(3) في “الآيات البينات”: (2/ 212).

(1/343)


يعني أن أخبار الآحاد تفيد الظن لا اليقين، وستأتي للمؤلف بقية الأقوال، وقد عرَّفه بقوله: “عرى” إلخ أي هو خبر عار عن قيود المتواتر التي هي: كونه خبر جمع يستحيل. . . إلخ، فخبر الآحاد إذًا هو خبر واحد، أو اثنين، أو جمعٍ لا يستحيل تواطؤهم على الكذب، أو خبر جمع يستحيل تواطؤهم عليه عن معقول.

541 – والمستفيضُ منه وهو أربعَه … أقلُّهُ وبعضُهُم قد رَفَعَه
542 – عن واحدٍ وبعضُهُم عما يلي … وجَعْلُه واسطةً قولٌ جَلِي

يعني أن المستفيض من خبر الآحاد، وعليه فالقسمة ثنائية متواتر وآحاد، والآحاد هو المنقسم إلى مستفيض وغيره. وقيل: إن القسمة ثلاثية: آحاد ومستفيض ومتواتر، وأشار لهذا بقوله: “وجَعْله واسطة” إلخ.
وعند ابن عبد الحكم وابن عَرَفة والموَّاق وغيرهم أن المستفيض هو المتواتر. والمستفيضُ ذَكَر المؤلف في أقله ثلاثة أقوال:
الأول: أن أقله أربعة.
الثاني: أن أقله اثنان، وهو مراده بقوله: “وبعضهم قد رَفَعَه عن واحد”.
الثالث: أن أقله ثلاثة، وهو مراده بقوله: “وبعضهم عما يلي”. وجَعْل المستفيض واسطة هو الذي عليه “شرح عمليات فاس” (1).
__________
(1) (عمليات فاس) هي منظومة في الفقه المالكي لأبي زيد عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي (ت: 1096 هـ) في (43) بيتًا، ولها عدة شروح. انظر: “جامع الشروح والحواشي”: (2/ 1234).

(1/344)


543 – ولا يفيدُ العلمَ بالإطلاق … عند الجماهيرِ من الحُذَّاقِ
544 – وبعضهم يفيدُ إن عدلٌ روى … واختير ذا إنِ القرينةَ احْتَوى
يعني أن خبر الآحاد لا يفيد العلم يعني اليقين عند جماهير الحذَّاق يعني الأصوليين. وقوله: “بالإطلاق” يعني سواء احتفَّت به قرائن الصدق أم لا. وحُجَّة هذا القول: أن الرواة غيرُ معصومين وادعاء القطع بخبرهم مع إمكان الكذب في حقهم كأنه تناقض.
وقوله: “وبعضهم يفيد إن عدلٌ رَوى” يعني أن بعض الأصوليين منهم ابن خُويز منداد من المالكية وهو رواية عن أحمد، وكثير من أهل الحديث يقولون: إن خبر الواحد يفيد القطع إذا كان راويه عدلًا ضابطًا (1).
وحجَّتهم أن وجوب العمل به يقتضي إفادته العلم، لأن اللَّه ذم متبعَ الظن وبيَّن أن الظنَّ لا يغني من الحق شيئًا كما قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}، وقال تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} [النجم]، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: “إياكم والظنَّ فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث” (2).
وأجيب من جهة الجمهور بأن الفروع العملية لا يُطْلَب فيها القطع بما في نفس الأمر، والعمل يكون قطعيًّا وهو مبني على ظن (3) في نفس
__________
(1) انظر في ترجيح هذا القول: “مجموع الفتاوى”: (18/ 41 – 51)، و”مختصر الصواعق”: (ص/ 464)، و”النكت على ابن الصلاح”: (1/ 376).
(2) أخرجه البخاري رقم (5143)، ومسلم رقم (2563) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.
(3) ط: ظني.

(1/345)


الأمر، ألا ترى أن القتل يجب بشهادة عدلين على موجبه وجوبًا قطعيًّا مع أنه لا يُقْطع بصدقهما في نفس الأمر؟
وقوله: “واختير ذا” إلخ يعني أن ابن الحاجب اختار إفادة خبر الآحاد اليقين إذا احتوى على قرينة منفصلة زائدة على العدالة (1)، كما لو أُخْبِر عن رجل بأنه قَتَل آخر مع مشاهدة المقتول يتشحَّط في دمه والقاتل هاربًا فزعًا وبيده السِّكين وعليها الدم، فإن هذه القرينة -مثلًا- يتقوَّى بها الخبر فيفيد القطع.
ومن المحتفِّ بقرينة الصدق: ما أخرجه الشيخان أو أحدهما لما احتف به من قرائن الصدق لشدة معرفتهما بالصحيح من غيره وتلقِّي الناس (2) لكتابَيْهما بالقبول.
وقوله: “القرينة” مفعول فعل محذوف يفسره ما بعده، لأنَّ “إنْ” لا تدخل على الجمل الاسمية، واحتوى الشيءَ وعليه بمعنى جَمَعه.

545 – وفي الشهادةِ وفي الفتوى العَمَلْ … به وجوبُه اتفاقًا قد حصَلْ
546 – كذاك جاءَ في اتخاذِ الأدْوِيَه … ونحوها كسَفَرٍ والأغذيه
يعني أن الأمة اجتمعت على وجوب العمل بحكم الحاكم وفتوى المفتي وبشهادة الشاهد وإن لم يبلغوا حدَّ التواتر، فوجوب العمل بخبر الآحاد فيها مُجْمَع عليه، وكذلك أجمعوا على العمل به في الدنيويات كاتخاذ الأدوية، فيُعْتمد فيها على قولِ عدلٍ أنها داوءٌ مأمون من العطب،
__________
(1) “المختصر – مع الشرح”: (1/ 656).
(2) ط: العلماء.

(1/346)


وكارتكاب سفر أو غيره مما فيه غررٌ إذا أخبرَ عدلٌ أنه مأمون، وكاتخاذ الغذاء [إذا أخبر عدلٌ] (1) بأنه لا يضر سواء كان مأكولًا أو مشروبًا، ومحل هذا إذا كان المخبر عدلًا عارفًا، ولا يجوز الاعتماد على جاهلٍ في ذلك، وإن نشأ عَطَب ضَمِنَ كما أشار له في “المختصر” (2) بقوله: “كطبيب جهل”.

547 – ومالكٌ بما سِوى ذاكَ نَخَعْ … . . . . . . . . . . . .
يعني أن مالكًا رحمه اللَّه “نخع” أي نطق وقال بوجوب العمل بخبر الواحد في جميع الأمور الدينية، وكذلك قال أبو حنيفة والشافعي وأحمدُ وعامة الأصوليين والفقهاء والمحدثين.
وقد دَلّ على العمل به العقلُ والنقلُ، أما دلالة العقل فهي أنه لو لم يُعْمَل به لتعطل جُلُّ الأحكام لأن غالبها ثابت بالآحاد، والتالي باطل فالمتقدم مثله.
وأما دلالة النقل فإنه دل عليه الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، والمخالف فيه من المعتزلة محجوج بانعقاد الإجماع قبله.
أما دلالة القرآن عليه ففي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات/ 6] يُفْهَم من دليل خطابه أن الجائي بنبأ لو كان غير فاسق لما لزم التبيُّن وذلك يفيد العمل بخبره. وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة/ 122] الآية، فإن هذه الطائفة النافرة المنذرة قومَها آحاد، والآية تدلُّ على قبول
__________
(1) من ط.
(2) (ص/ 265).

(1/347)


خبرها، ولم يقل أحد إنها لابد أن تكون يحصل بها التواتر المفيد للقطع.
وأما دلالة السنة فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يرسل الرسول الواحد والرسولين في مُهِمَّات الدين، ولو لم يكن ذلك حجة لما أَرْسَل إلى الناس من ليس في خبره حجة.
وأما الإجماع فقد اشتهر بين الصحابة الرجوع إلى أخبار الآحاد من غير نكير، ومن تتبع وقائعهم في ذلك حصل له العلم بأنه لا مخالف منهم في ذلك، فمن ذلك رجوع عمر بن الخطاب إلى خَبَر عبد الرحمن بن عوف أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخذ الجِزْية من مجوس هَجَر (1)، وكرجوع أبي بكر رضي اللَّه عنه لخبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة بعد أن قال لها: مالكِ في كتاب اللَّه شيء ولا علمتُ لكِ في سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا (2).
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (3157) من حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه-.
(2) أخرجه مالك في “الموطأ” رقم (1461)، وأبو داود رقم (2894)، والترمذي رقم (2100)، وابن ماجه رقم (2724)، والنسائي في “الكبرى” رقم (6346)، وابن حبان “الإحسان” رقم (6031)، والحاكم (4/ 338) كلهم من طريق قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر. . .
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وصححه ابن حبان، وابن الملقن. لكن قبيصة لم يسمع من أبي بكر فهو مرسل، قال ابن عبد البر في “التمهيد”: (11/ 91 – 92): “وهو حديث مرسل عند بعض أهل العلم بالحديث لأنه لم يذكر فيه سماع لقبيصة من أبي بكر ولا شهود لتلك القصة، وقال آخرون هو متصل لأن قبيصة بن ذؤيب أدرك أبا بكر وله سن لا ينكر معها سماعه من أبي بكر رضي اللَّه عنه” اهـ، وضعفه ابن حزم وعبد الحق وابن القطان. انظر “البدر المنير”: (7/ 206 – 209).

(1/348)


ورجوع عمر إلى قولهما في دية الجنين أنَّها غرة (1). وكرجوع الصحابة لخبر عائشة في وجوب الغسل من التقاء الختانين (2).
فإن قيل: لم يقبل أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى شَهِد معه محمد بن مَسْلمة، ولم يقبل عمر بن الخطاب حديث أبي موسى في الاستِئْذان حتى شَهِد معه أبو سعيد الخدري (3)، ولم تقبل عائشة خبرَ ابن عمر أن الميت يُعَذَّب ببكاء أهله (4)، ولم يقبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خبر ذي اليدين في السهو في الصلاة حتى شهد معه أبو بكر وعمر (5).
فالجواب: أن أبا بكر لم يردَّ خبرَ المغيرة في ميراث الجدة وإنما طلبَ غيرَه معه تثبتًا وزيادةً للتأكيد وذلك لا يقتضي رد الخبر، كما جاء في القرآن نظيره عن إبراهيم -عليه السلام- في قوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة/ 260] مع أنه حجة أيضًا على قبول أبي بكر خبر الآحاد؛ لأن الاثنين آحاد بالإجماع. وأن عمر بن الخطاب صرَّح في [بعض] روايات الحديث بأنه لم يتهم أبا موسى، وإنما فعل ذلك سدًّا
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (6905)، ومسلم رقم (1683) من حديث المغيرة -رضي اللَّه عنه-.
(2) أخرجه مسلم رقم (349) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.
(3) أخرجه البخاري رقم (6245)، ومسلم رقم (2153) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-.
(4) أخرجه البخاري رقم (1288)، ومسلم رقم (929) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.
(5) أخرجه البخاري رقم (714)، ومسلم رقم (553/ 99) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/349)


للذريعة لئلا يتجرَّأ الناسُ على التقوُّل على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أيضًا حجة على قبول عمر خبر الآحاد مع أنه ثبت في الصحيح رجوعه لخبر عبد الرحمن ابن عوف وحْدَه في أَخْذ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الجزيةَ من مجوس هجر (1)، وأن عائشة رضي اللَّه عنها لم تقل برد خبر ابن عمر وإنما ظنَّت أنه غالط في خصوص هذا الحديث لظنها أن الآية تكذِّبه وهي قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ويدل لذلك ما ثبت في “صحيح مسلم” (2) من رواية القاسم بن محمد أن عائشة رضي اللَّه عنها قالت في حديث ابن عمر المذكور: “إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولا مكذبين ولكنَّ السمعَ يخطئ”. وهو صريح فيما ذكرنا. وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما لم يقبل خبرَ ذي اليدين لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يظن أنه صَلّى أربعًا وأنَّ ذا اليدين هو الغالط كما دل عليه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “كلُّ ذلكَ لم يكن” أي في ظني.

. . . . . . . . . . … وما ينافي نَقْلَ طَيْبَة مَنَعْ
548 – إذَّ ذاك قطْعِيٌّ وإن رأيًا ففِي … تقديم ذَا أو ذَاكَ خُلْفٌ قد قُفي
يعني أن خبر الواحد إذا تعارض مع ما نقله جميع مجتهدي المدينة من الصحابة والتابعين فقط فإن مالكًا يمنع العمل بخبر الواحد فيقدِّم عليه نقل أهل المدينة؛ لأن نَقْل أهل المدينة قطعيٌّ لتواتره والمخالف له آحاد، وهذا من قبيل تقديم المتواتر على الآحاد.
وقوله: “وما ينافي نقلَ طيبة” يعني أن الذي يقدمه مالك على خبر
__________
(1) تقدم قريبًا.
(2) رقم (929).

(1/350)


الآحاد هو ما نقله أهلُ المدينة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن صرحوا بنقله عنه أو كان له حُكم الرفع بأن كان لا مجال للرأي فيه. وقوله: “إذا ذاك قطعي” أي لتواتره.
وقوله: “وإن رأيًا ففي تقديم ذا” إلخ يعني أن عمل أهل المدينة المخالف لخبر الآحاد إذا كان عن اجتهاد منهم لا نقلٍ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فإن المالكية اختلفوا أيهما يقدم، فأكثر البغداديين على أنه ليس بحجة، لأنهم بعض الأمة فيقدَّم عليهم خبرُ الآحاد المروي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
قلت: وهو الحق وعليه المحققون من المالكية، وسيصرِّح المؤلف في القوادح (1) بأن فساد الاعتبار قادح في كل اجتهاد، وهو مخالفة النص، فكلُّ اجتهاد خالفَ نصًّا فهو باطل بالقادح المُسَمَّى بفساد الاعتبار، وذلك في قوله في باب القوادح الذي سيأتي:
والخُلْفَ للنصّ أو اجماعٍ دعا … فسادَ الاعتبار كلُّ من وعى
وقال آخرون: إجماعهم حجة فيقدَّم على خبر الواحد، والتحقيق خلافه كما يأتي للمؤلف في كتاب الإجماع (2).
أما إذا لم يعلم أهل المدينة بالخبر فهو مقدَّم على قولهم بالاتفاق، وقال المالكية: إذا علموه وتركوا العمل به دل ذلك على نسخة فيقدَّم عملُهم عليه.

549 – كذاك فيما عارضَ القياسَا … رِوَايتا من أحْكَم الأسَاسَا
يعني أنه جاء عن مالك روايتان في عمل أهل المدينة إذا خالف
__________
(1) البيت رقم (799).
(2) البيت رقم (615).

(1/351)


القياس أيهما يقدم؟ وينبني على الخلاف جَرَيان القصاص في الأطراف بين الحر والعبد، فعمل أهلِ المدينة بأن لا قصاص فيها، ومقتضى القياس القصاص فيها، فقدَّمَ مالكٌ هنا عملَ أهل المدينة، وسيأتي لهذا زيادة إيضاح في أول كتاب القياس (1). وقوله: “من أحكم الأساسا” يعني من أتقن الأصول، ومراده به مالك.

550 – وقد كفى من غيرِ ما اعتضادِ … خبرُ واحدٍ منَ الآحادِ
يعني أن خبر الآحاد يجوز العمل به ولا يحتاج إلى عاضد يعضده من نص أو قياس وعمل، فلفظةُ “ما” زائدة والمعنى: من غير اعتضادٍ أي تقوٍّ بشيءٍ مما ذُكِر.

551 – والجزمُ من فرعٍ وشكَّ الأصل … ودَعْ بجَزْمِه لذاك النَّقْلِ
قوله: “الجزمُ” بالرفع عطف على فاعل “كفى”. وقوله: “وشكَّ” بالنَّصب مفعول معه، يعني أنه يكفي في قبول الخبر جزم الفرع الذي هو الراوي مع شك الأصل الذي هو المروي عنه، فشكّ الأصل في رواية الراوي عنه لا يبطلها على قول الجمهور، لأن الرواة قد ينسون بعضَ ما حفظوا وروي عنهم، وإنما قُبِل مع شك الأصل لأن الراوي عَدْل جازم، ولم يأت من المروي عنه ما يُعارضه، وقد روى سُهيل بن أبي صالح [عن أبيه] عن أبي هريرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى بالشاهد واليمين ثم نسيه سهيل فكان يقول: حدثني ربيعةُ عنِّي ولم ينكر عليه أحد (2).
__________
(1) (ص/ 412).
(2) أخرجه أبو داود رقم (3610) وغيره.

(1/352)


وقوله: “ودع بجزمه لذاك النقل” يعني أن الأصل إذا جَزَم (1) بأن الفرع لم يرو عنه هذا الحديث ولم يَشك في ذلك فلا تُقْبَل روايته عنه.
وقوله: “لذاك” مفعول “دع” بمعنى اترك، واللّام زائدة لتأكيد التعدية، والباء في “بجزمه” سببية، وتقرير المعنى: ودع ذلك النقلَ بسبب جزم الأصل أن الفرع لم يرو عنه.

552 – وقال بالقبول إنْ لم ينتفِ … أصْلٌ من الحديث شيخٌ مقتفي
يعني أن الباجيَ قال (2): إنَّ جزم الأصل بعدم رواية الفرع عنه إذا اعترف بأن هذا الحديث من مروياته بأن قال: هذا من روايتي ولكنَّ هذا الراويَ لم يروه عني = لم يمنع جزمُه بذلك قبولَ رواية الفرع عنه؛ لأنه يمكن أن يحدِّثه وينسى أنه حدثه، وأما إن انتفى من الحديث أصلًا بأن قال: لم أرْوِ هذا الحديث أصلًا فلا تُقْبَل رواية الفرع عنه اتفاقًا. وقوله: “شيخ مقتفي” أي متَّبع يعني الباجيَّ.

553 – وليس ذا يقدحُ في العداله … كشاهدٍ للجزمِ بالمقالَه
يعني أن مخالفةَ الأصل والفرع لا تقدَحُ في عدالة واحدٍ منهما، فلا تقول: لابدَّ أن يكون أحدهما كاذبًا والكذبُ من مسقطات الثقة بالخبر؛ لأن كلًّا منهما بالنظر إليه بمفرده يدَّعي أنه جازم وأنه صادق، كما لو قال رجل رأى طائرًا: إن كان هذا غرابًا فزوجتي طالق، وقال الآخر: إن لم
__________
(1) ط: صرح.
(2) في “إحكام الفصول”: (1/ 352).

(1/353)


يكن غرابًا فزوجتي طالق، وطار ولم يُعرف وادَّعى كلٌّ منهما اليقين فلا تطلق زوجةُ واحدٍ منهما.
وقوله: “كشاهد” أي كما لا تسقط شهادة الشهود بشهادة بعضِهم بنقيضِ ما شَهِدَ به الآخرون (1) ولو لم يمكن الجمع بل يرجَّح بين البَيِّنَتَيْن ولا يقدح ذلك التكاذبُ في عدالة أحدٍ منهم لأن الكل عَدْل جازم.
قلت: ويُسْتأْنس لهذه المسائل بمسألة اللعان حيث جاء القرآنُ بقبول أَيْمان الزوجين وسقوط الحدِّ عنهما، مع أنَّا نقطع بأن أحدهما كاذب، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: “اللَّه يعلمُ بأنَّ أحدكما لكاذب” (2)، والكاذبُ منهما يلزم على كذبه حدٌّ من حدود اللَّه، لأنَ كذب المرأة يُلزمها حدَّ الزنا، وكذب الرجل يُلزمه حدَّ القذف.

554 – والرفعُ والوصل وزَيْدُ اللَّفظِ … مقبولةٌ عندَ إمامِ الحفظِ
555 – إن أمكن الذهولُ عنها عاده … إلّا فلا قبولَ للزِّياده
يعني أن الرفع إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مقدَّم على الوقف على الصحابي، والوصل مقدَّم على الإرسال، وإيضاحُه: أن الحديث لو رواه بعضُ الرواة مرفوعًا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورواه بعضُهم موقوفًا على الصحابي ولم يرفَعْه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكلا الإسنادين صحيح، فإنَّ الرفعَ مقدَّم على الوقف؛ لأن الرفعَ زيادة وزيادة العدل مقبولة.
__________
(1) الأصل: الآخر.
(2) أخرجه البخاري رقم (5311)، ومسلم رقم (1493) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-.

(1/354)


وكذلك لو روى الحديث بعضُهم متصلًا -أي لم تسقط طبقة من طبقات السند- ورواه بعضُهم مرسلًا، كأن يقول: عن فلان التابعي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ رواية الواصلِ الذي لم يَحْذف واحدًا من رجال السند مقدَّمة على من أرسلَه -أي حَذفَ بعض رجال السند- لأن الوصل زيادة على الإرسال، وزياداتُ العدول مقبولة (1).
فمثال ما اخْتُلِف فيه بالرفع والوقف حديث: “الطوافُ بالبيت صلاة إلا أن اللَّه أحل فيه الكلام” (2)، فقد اخْتُلِف في رفعه ووقفه على ابن عباس. وحديث: “أفضلُ صلاة المرءِ في بيته إلا المكتوبة” (3) اخْتُلِف في
__________
(1) هذه طريقة الفقهاء والأصوليين، أما طريقة المحدثين فتعتمد على القرائن في ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، ولا تلزم طريقة واحدة في الترجيح.
(2) أخرجه الترمذي رقم (962)، والدارمي رقم (1889)، وابن حبان “الإحسان” رقم (3638)، والحاكم: (1/ 459)، والبيهقي في “الكبرى”: (5/ 85) وغيرهم مرفوعًا وموقوفًا على ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-.
قال الحافظ ابن حجر في “التلخيص”: (1/ 138 – 139): “صححه ابن السكن وابن خزيمة وابن حبان، وقال الترمذي: روي مرفوعًا وموقوفًا ولا نعرفه إلا مرفوعًا من حديث عطاء ومداره على عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس واختلف في رفعه ووقفه. ورجح الموقوف النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي “شرح مسلم”: (8/ 220) وزاد: إن رواية الرفع ضعيفة، وفي إطلاق ذلك نظر. . ” اهـ. ومال إلى ترجيح المرفوع، ورجحه أيضًا ابن الملقن في “البدر المنير”: (2/ 487 – 498).
(3) أخرجه البخاري رقم (731)، ومسلم رقم (781) من حديث زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه-.

(1/355)


رفعه ووقفه (1)، ذكر هذين المثالين هكذا المؤلفُ في “الشرح” (2).
ومثال ما اخْتُلِف فيه بالوصل والإرسال -ورواةُ الوصل أعلى درجة من رواة الإرسال- حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: سمعنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: “من أدركَ مالَه بعينه عندَ رجلٍ قد أفلس فهو أحقُّ به” رواه البخاري ومسلم عن أبي بكر بن عبد الرحمن متصلًا (3). ورواه أبو داود ومالك (4) عن أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلًا أي لم يذكر فيه أبو هريرة.
ومثاله -ورواةُ الإرسالِ أعلى درجة- حديث: “لا نكاحَ إلَّا بِوَلي” (5) فإنه رواه إسرائيل بن يونس عن جده أبي إسحاق السبيعيّ، عن أبي بُرْدة، عن أبيه أبي (6) موسى الأشعري، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورواه شبعةُ وسفيانُ الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، وقد قضى البخاريُّ لمن وصله مع كون شبعة وسفيان كالجبلين في الحفظ والإتقان (7).
__________
(1) قال الترمذي بعد أن أخرجه رقم (450): “حديث زيد بن ثابت حديث حسن، وقد اختلف الناس في رواية هذا الحديث فروى موسى بن عقبة وإبراهيم بن أبي النضر عن أبي النضر مرفوعًا، ورواه مالك بن أنس عن أبي النضر ولم يرفعه وأوقفه بعضهم والحديث المرفوع أصح” اهـ.
(2) (2/ 36 – 37).
(3) البخاري رقم (2402)، ومسلم رقم (1559).
(4) مالك رقم (1979)، وأبو داود رقم (3520).
(5) تقدم تخريجه.
(6) الأصل وط: “عن أبيه عن أبي موسى” وهو خطأ.
(7) نقله المؤلف من “النشر”: (2/ 37).

(1/356)


وبما قرَّرْنا من أن الرفع والوصل زيادة وهي مقبولة من العدول يُعْلَم أنه يجري فيها التفصيل الآتي في زيادة اللفظ.
وقوله: “وزيد اللفظ” يعني أنه إذا روي الحديث وكان في بعض طرقه زيادة لم تكن في الأخرى، سواءٌ كانت زيادةَ لفظ فقط أو زيادةً تُبيِّن إجمالًا أو زيادةَ معنى.
مثالُ زيادة اللفظ فقط: رواية: “ربنا ولك الحمد” (1) بزيادة “الواو”. ومثالُ الزيادة المُبيِّنة للإجمال: زيادة مسلم (2) من رواية سعد بن طارق -أبي مالكٍ الأشجعيِّ- لفظ “التُّرْبة” في حديث: “وجُعِلَت لي الأرض تُرْبتُها مسجدًا وطهورًا” عند من يوجب التراب كالشافعي وأحمد، وأما عند مالك وأبي حنيفة فلفظ “التربة” لا يفيد معنًى زائدًا على الصعيد لأمرين: الأول: هو ما تقدم من أن ذِكْر بعض أفراد العام لا يخصِّصه، الثاني: هو ما تقدم من أن مفهوم اللقب لا اعتبار به.
ومثال زيادة المعنى: الحديث المتفق عليه (3): “قوموا إلى سيدكم” فإن الإمام أحمد أخرج فيه (4) بسندٍ حسن عن عائشة من طريق علقمة بن وقاص زيادة: “فأنزلوه” وهي تغير المعنى، لأنها تُصيِّر المعنى أن قيامهم
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (795) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.
(2) رقم (522).
(3) البخاري رقم (3043)، ومسلم رقم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-.
(4) “المسند”: (42/ 26 رقم 25097) وانظر الكلام على إسناده هناك.

(1/357)


له لإنزاله عن الدابة لأنه جريح لا للإجْلال.
وقوله: “إن أمكن الذهول عنها عادة” يعني أن محل قبول الزيادة ما إذا أمكن غفلة الذين لم يذكروها عنها، أما إذا لم تمكن عادة غفلتهم عنها لكثرتهم وأهميتها (1) لم تُقبل لقضاء العادة بكذبها.

556 – وقيلَ لا إنِ اتحادٌ قد عُلِمْ … والوَفْقُ في غيرِ الذي مَرَّ رُسِمْ
يعني أن بعض أهل الأصول منع قبول الزيادة مطلقًا أمكن الذهول عنها أم لا بشرط أن يُعلم اتحادُ المجلس، أي أنه لم يُحَدِّثْ به إلا مرَّةً واحدة، أما إذا عُلِم تعدُّد المجالس فهي مقبولة، ويُحمل على أنه حدَّث بالزيادة في بعض المجالس، وبدونها في غيره، وكذلك إذا لم يُعْلم اتحادهما ولا تعددها فإنها تُحْمل على التعدد، ولا تُرَدُّ رواية العدل للزيادة بمحتمل، والصحيحُ عند المحدثين أن الزيادة إن كانت مخالفة لما رواه العدل لم تقبل، وإن لم تكن مخالفة وكان الراوي عدلًا ضابطًا قبلت (2).

557 – وللتعارُض نُمِي المُغيِّرُ … وحذفُ بعضٍ قد رآهُ الأكثرُ
558 – دونَ ارتباطٍ وهو في التأليفِ … يسُوغُ بالوفْقِ بلا تَعْنيفِ
يعني أن الزيادة إذا غيرت الإعراب كانت معارضة للرواية الخالية عن الزيادة فيُطْلَب الترجيحُ بينهما من خارج، كما لو جاءت رواية في
__________
(1) الأصل: واهتمامها.
(2) أئمة الحديث لا يحكمون على كل زيادة بحكم مطرد لا يحيدون عنه، بل كل زيادة لها حكم خاص بحسب القرائن التي تحتف بها.

(1/358)


قوله: “في أربعين شاة شاة” (1) بنصف شاة. وقيل: تُقبل ولو غيرت الإعراب، والأول مذهب الجمهور.
وقوله: “وحذف بعض” إلخ، يعني أن حذف بعض الحديث جائز في رأي الأكثر بشرط ألا يكون المحذوف بينه وبين المذكور ارتباط، ككون المحذوف شرطًا أو غاية للمذكور أو استثناءً منه.
مثال الحذف الجائز لعدم الارتباط: حديث البحر “هو الطهور ماؤه الحِلُّ ميتته” (2)، فيجوز أن نقتصر على كلٍّ من الجملتين دون غيرها.
ومثال ما لم يجز فيه الحذف للارتباط: حديث أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- “نهى عن بيعِ الثمرةِ حتى تَزْهو” (3) فلا يجوز حذف “حتى تزهو” للارتباط بما قبله، وحديث: “لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الوَرِق بالوَرِق إلا وزنًا بوزن مِثْلًا
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة أحسنها ما أخرجه أبو داود رقم (83)، والترمذي رقم (69)، والنسائي: (1/ 50)، وابن ماجه رقم (386)، وابن خزيمة رقم (111)، وابن حبان “الإحسان” رقم (1243)، والحاكم: (1/ 140) وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال: سألت البخاري عنه فقال: هو حديث صحيح. وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر والبيهقي وابن منده وغيرهم.
وتكلم فيه ابن عبد البر في “التمهيد”: (16/ 218) من جهة إسناده، إلا أنه صححه لتلقي العلماء له بالقبول والعمل به. انظر “البدر المنير”: (1/ 348 – 381) فقد أطال وأجاد.
(3) أخرجه البخاري رقم (2195)، ومسلم رقم (1555) من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-.

(1/359)


بمثل سواء بسواء” (1) فلا يجوز حذف: “إلا وِزنًا بوزن” إلخ.
ومفهوم قوله: “قد رآه الأكثر” أن بعضهم منع حذف البعض مطلقًا ولو لم يكن بينهم ارتباط لاحتمال أن يكون لذكر الكل فائدة تفوت بالتفريق.
وقوله: “وهو في التأليف” إلخ، يعني أن حذف البعض من الحديث جائز في التأليف اتفاقًا، وهو عادة المؤلفين من السلف كمالك وأحمد والبخاري والنسائي وأبي داود وغيرهم، ورُوي عن أحمد أنه لا ينبغي، وقال ابن الصلاح (2): “لا يخلو عن كراهة”. و”التعنيف” اللوم والتشديد.

559 – بغالبِ الظنِّ يدورُ المعتَبَرْ … فاعتبرَ الإسلامَ كلُّ من غبَرْ
“المعتبر” هنا مصدر ميميٌّ بمعنى الاعتبار، والباء في قوله: “بغالب” بمعنى على وهي متعلقة بـ “يدور”، وتقرير المعنى: الاعتبار لصدق الخبر يدور على غلبة ظنِّ صدقه، فكل ما يُخل بغلبة الظنِّ يَمْنع من القبول ككفر المُخْبر وفسقه.
وقوله: “فاعتبر الإسلام” إلخ يعني أنه يتَسبَّبُ عن دوران الاعتبار على غلبة الظن اشتراط الإسلام في الراوي لعدم الثقة بخبر الكافر. واعلم أن الكافر الصريح أجمعَ العلماءُ على عدم قبول روايته، والكافر المتأوِّل كالمبتدع بما يكفِّره إذا كان متدينًا يُحْرِّمُ الكذب فهو كذلك أيضًا عند الجمهور، وهو الحق، وفي بعض الروايات عن أحمد قبوله. وقوله:
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (1584) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. وأصله في البخاري بدون قوله: “إلا وزنًا بوزن. . . “.
(2) في “علوم الحديث”: (ص/ 217).

(1/360)


“غَبَرْ” بمعنى مضى، ومادته من الأضداد تُستعمل في الباقي والماضي.

560 – وفاسقٌ وذو ابتداعٍ إن دَعَا … أو مُطْلَقًا ردٌّ لكلٍّ سُمِعا

يعني أنه يلزم على دوران الاعتبار على غلبة الظن أيضًا رَدٌّ رواية الفاسق والمبتدع، والمشهور عند المحدِّثين أن البدعِى المُتأوِّلَ إذا كان داعية لبدعته، أو كان يجيز الكذب لترويجها كالخطَّابية (1) فإنه لا تقبل روايته، وأما إذا كان غير داعية ولم يُجزِ الكذبَ لترويج بدعته فإنه تقبل روايته، وفي رجال “الصحيحين” جَماعة من أهل الأهواء والبدع لا يدعون لبدعتهم ولا يَسْتبيحون الكذب.
وقيل: تُرد رواية البدعي مطلقًا، وإليه الإشارة بقول المؤلف: “أو مطلقًا” وهو مذهب مالك، وهذا في غير البدعة المكفِّرة كما تقدم.

561 – كذا الصَّبي وإن يكن تحملوا … ثم أَدًا بنفي منعٍ قُبِلُوا
يعني أن الصبيَّ لا تُقْبَل روايته ولو كان مميزًا صدوقًا، لعلمه بعدم مؤاخذته، فلا ثقة بخبره، وأحرى إذا كان غير مميز أو معروفًا بالكذب.
وقوله: “وإن يكن تحملوا” إلخ يعني: أن الكافرَ -المفهوم من اشتراط الإسلام- والفاسق والمبتدعَ والصبيَّ إذا تحملوا حال اتِّصافهم بصفة المنع ثم كانوا وقت الأداء غير متصفين بما يمنع قبول روايتهم كما لو سمع الحديث من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو الشيخ وهو كافر أو فاسق أو مبتدع، أو
__________
(1) إحدى فرق الرافضة. انظر: “الفَرْق بين الفِرَق”: (ص/ 247). وفيهم قال الشافعي “تُقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم”. انظر: “الكفاية”: (1/ 367).

(1/361)


صبي، ثم أدَّاه في حالة الإسلام أو البلوغ أو زوال الفسق والابتداع فإنه يُقْبَل على مذهب الجمهور وهو الحق؛ لأن العبرة بوقت الأداء، وقد أجمعَ الصحابة على رواية صغار الصحابة الذين سمعوا من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في زمن صباهم وأدَّوا بعد البلوغ، كابن عباس والحسن والحسين والنعمان بن بشير وابن الزبير وأضرابهم، وقد قبلوا حديثَ جُبير بن مُطعم في صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بسورة الطور، وقد سمعه وهو كافر من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأدَّاه بعد الإسلام (1).
و”الواو” في قوله: “قُبِلوا” نائب الفاعل وضميره عائد إلى الكافر والفاسق والمبتدع والصبي، والكلام على حذف مضاف، أي قُبلت روايتهم. وقوله: “إن يكن تحملوا” فيه حذف، أي وإن يكن التحمل مقترنًا بصفة المنع كالكفر والفسق مثلًا. وقوله: “ثم أَدًا بنفي منع” إلخ يعني ثم كان الأداء بعد ذلك مقترنًا بنفي المنع لوقوعه بعد زوال الكفر والفسق إلخ.

562 – من ليسَ ذا فِقهٍ أباه الجيلُ … وعكسُه أثبته الدليل
يعني أن الراوي إذا كان غير فقيه فإن الجيل يردون روايته، وأصلُ الجيل: الصنف من الناس، والمراد به عند المؤلف أهل مذهب مالك قائلين: إن رد رواية غير الفقيه هو المنقول عن مالك (2)؛ لأن غير الفقيه لا
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (4854)، ومسلم رقم (463).
(2) هذا نصَّ عليه مالك كما في “ترتيب المدارك”: (1/ 125)، لكن ليس المقصود بالفقيه معناه الاصطلاحي عند المتأخرين، بل المراد به الفاهم العارف المدرك لما يرويه، وقد نُقِل عنه ما يدلّ على ذلك. انظره مفصَّلًا في “أصول فقه مالك”: (2/ 627 – 630 و 638 – 639) للشعلان.

(1/362)


يؤمن أن يَفهم الكلام على غير وجهه فيعبِّر عن المروي بحسب ما فهم فيقع الخلل في الرواية.
وقوله: “وعكسه” أي عكس ما قالوا، وهو قبول رواية غير الفقيه “أثبته الدليل” أي الأحاديث المصرِّحة بقبوله كقوله: “رُبَّ حاملِ فقهٍ ليْس بفقيه” (1).
وقوله: “يَحْمل هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدُولُه. . . ” (2) الحديث ولم يشترط فيهم الفقه.

563 – وِمَنْ له في غيره تساهُلُ … . . . . . . . . . .
قوله: “من” مبتدأ خبره “يقبل” محذوف دل عليه ما بعده، يعني أن الراوي إذا كان يتساهل في غير الحديث مع تحرزه في الحديث وعدم
__________
(1) أخرجه أحمد: (35/ 467 رقم 21590)، وأبو داود رقم (3660)، والترمذي رقم (2656)، وابن ماجه رقم (230)، وابن حبان “الإحسان” رقم (680)، وغيرهم كلهم من حديث زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه-.
قال الترمذي: حديث حسن. وصححه ابن حبان.
وله شاهد من حديث أنس أخرجه أحمد: (21/ 60 رقم 13350)، وابن ماجه رقم (236).
(2) أخرجه ابن عدي في “الكامل”: (1/ 147)، ومن طريقه البيهقي في “الكبرى”: (10/ 209) عن إبراهيم العذري عن الثقة من أشياخه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وأخرجه العقيلي: (4/ 256)، وابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل”: (2/ 17)، وابن عدي: (1/ 146) عن إبراهيم العذري عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. والحديث له شواهد عن عدد من الصحابة، وكل طرق الحديث لا تخلو من مقال.

(1/363)


تساهله فيه يقبل؛ لأن المقصودَ ضبطُ الشريعة وأمْنُ الخلل فيها ولو تساهل في غيرها. وقيل: تردُّ رواية المتساهل مطلقًا، والتساهل كالتحمل حال النعاس أو نعاس الشيخ ونحو ذلك.

. . . . . . . . . . … ذو عجمةٍ أو جهلِ مَنْمًى يُقْبَلُ
يعني أن عجميَّ اللِّسان ومن لا يحسن العربية تُقبل روايتهما لأن العدالة تمنعهما أن يرويا إلَّا كما سمعا، وكذلك يُقبل مجهول المَنْمى أي النسب إذ المدار على عدالته لا على معرفة نسبه.

564 – كخلْفِهِ لأكثر الرواةِ … وخُلْفِه للمتواترات
يعني أن خُلْف الراوي لأكثر الرواة لا يبطل روايته، وخُلْفه للمتواتر لا يُبطل روايته أيضًا، ولكن يُصار إلى الترجيح فيرجح الأكثر والمتواتر على الأقل والآحاد.

565 – وكثرةٍ وإن لُقِيٌّ يَنْدُرُ … فيما به تَحْصِيلُه لا يُحْظَرُ
يعني أنه يُقبل إكثار الرواية من الحديث وإن ندرت مخالطة الراوي للمحدِّثين إن كان يمكن تحصيل ذلك القدر الذي رواه من الحديث في ذلك الزمن الذي خالط فيه المحدثين، ومفهومه أنه إن لم يمكن تحصيله في ذلك الزمن لا يُقبل شيء مما رواد لظهور الكذب في بعض منه لم تُعْلَم عينُه فوجب طرحُ الجميع. هذا حُكم الإكثار من الحديث، وأما حكم الإقلال منه فالتحقيق أنه لا يقدح في روايته، وربما أنكر بعضُ المحدثين روايةَ المُقل من الحديث، لأن إقلاله يدل على عدم اهتمامه بالدين وذلك قادح فيه.

(1/364)


566 – عدْلُ الروايةِ الذي قد أوجَبوا … هو الذي مِن هذا يُجْلَبُ
567 – والعدلُ من يجتنبُ الكبائرا … ويتَّقي في الأغلبِ الصَّغائرا
568 – وما أُبيح وهو في العيانِ …. يقدحُ في مُروءةِ الإنسانِ
هذا تعريف من المؤلف لعَدْلِ الرواية، لأن خبر الآحاد تُشترط فيه عدالة الرواة فاحتيج إلى تعريف العدل، وعرَّفه المؤلف باستجلابه بَيْتَي ابنِ عاصم في تعريفه عدل الشهادة؛ لأن عَدْل الشهادة هو عدلُ الرواية إلَّا في المسائلِ التي ذكرها في قوله: “وذو أنوثة” إلخ وذلك هو قوله: “من بعد هذا يُجْلب”.
وعرَّف العدل بأنه من يجتنب الكبائر مطلقًا والصغائر في الأغلب، ونادِرُها لا يقدح في العدالة لعُسْر التحرز منه، لكن بشرط أن تكون غير صغائر الخِسَّة، أما ارتكاب صغيرة الخِسَّة فهو قادح لدلالته على دناءة الهمة وسقوط المروءة، كسرقة لقمة وتطفيف حبة.
ويشترط للعدالة سلامة المروءة من القوادح، فارتكاب ما يُخل بالمروءة يُخل بالعدالة، كالبول في الطريق والأكل في السوق لغير سوقيّ، ومخالطة الأنذال ونحو ذلك، وذلك هو مراده بقوله: “وما أُبيح” البيت.
وحاصل تحقيق المقام في العدالة أنها لغةً: التوسط، واصطلاحًا: سلامةُ الدينِ من الفسق والمروءةِ من القوادح، والعقلِ من البَلَه والتغفيل.
واختلف العلماءُ في حدِّ الكبيرة اختلافًا كثيرًا فقيل: هي ما تُوُعِّدَ فاعلُه بغضبٍ أو عذابٍ أو نحو ذلك، وقيل: ما يترتب عليه حَدٌّ، واختار بعضهم أن ضَابطها: أنها كل ذنب يدل على استخفاف مرتكبه بالدين،

(1/365)


وقال ابن عباس: هي إلى السبعمئة أقرب منها إلى السبع (1).

569 – وذو أُنُوثةٍ وعبْدٌ والعِدا … وذو قرابةٍ خلافُ الشُّهدا
يعني أن الإنسان المتصف بالعدالة تُقبل روايته ولو كان امرأةً أو عبدًا أو عدوًّا أو قريبًا، فرواية هؤلاء تُقبل دون شهادتهم، فالمرأة تُقبل روايتها في كل شيء ولا تُقْبل شهادتها إلَّا في الأموال وفيما لا يظهر للرجال، والعبد تُقبل روايته إن كان عدلًا ولا تقبل شهادته عند الأكثر، والعدوُّ لا تقبل شهادته على عدوه وتقبل روايته عليه إذا روى حديثًا يقتضي الحكم عليه، وكذلك القريب، وقبول رواية هؤلاء دون شهاداتهم هو مراده بقوله: “خلاف الشهدا” الذي هو خبر المبتدأ وهو “ذو قرابة” وما عُطِف عليه.

570 – ولا صغيرةَ مع الإصْرَارِ … المُبْطِلِ الثقةِ بالأخبار
يعني أن الإصرار على الصغيرة يُصَيِّرها كبيرة فيقدح في العدالة، والإصرارُ عرَّفه بعضهم بأنه المواظبة والمداومة، ومعناه لغةً: العزيمة والتصميم على التمادِي في الفعل، وقوله: “المبطل الثقة” يعني به أن المُصِرَّ على الصغائر لا تقبل روايته إذ لا ثقةَ بخبره، وسواء كانت الصغائر من جنس واحد أم لا، فالآتي بواحدة من كل نوع مُصِرٌّ.

571 – فدَعْ لمنْ جُهِلَ مطلقًا ومَنْ … في عَيْنه يُجْهَلُ أو فيما بَطَنْ

يعني أنه يترتب على اشتراط العدالة ترك شهادة المجهول، والمجهول ثلاثة أقسام:
__________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره: (6/ 651).

(1/366)


الأول: مجهول الظاهر والباطن وهو مراده بقوله: “فدع لمن جُهِل مطلقًا” أي اترك من جُهِلَ ظاهره وباطنه، فاللام زائدة لتقوية التعدية داخلة على المفعول، والكلامُ على حذف مضاف إذ المراد بتركه ترك روايته.
الثاني: مجهول العين، وهو عند جمهور المحدثين من لم يرو عنه إلَّا واحد ولو كان معروف العين والنسب، والجلُّ على عدم قبول روايته إن كان غير صحابي، أما الصحابي فهو مقبول ولو لم يرو عنه إلَّا واحد، كالمسيّب بن حَزْن فإنه لم يرو عنه غير ابنه سعيدٍ أخرج الشيخان حديثه في وفاة أبي طالب (1). وكعَمْرو بن تغلب النَّمَري (2) أو العبدي أخرج البخاري (3) حديثه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أثنى عليه -أي عَمْرو المذكور- في إسلامه ولم يرو عنه إلَّا الحسن البصري، وأشار العراقيُّ إلى هذا في “ألفيته” (4) بقوله:
ففي الصحيح أخرجا المسيبا … وأخرج الجعفيُّ لابن تَغْلبا
مع أنه قال قوم: إن عَمْرو بن تغلب روى عنه غير الحسن البصري وهو الحكم بن الأعرج كما ذكره ابن أبي حاتم (5) وابن عبد البر (6)، وهذا مراد المؤلف بقوله: “ومن في عينه يُجْهَلُ”.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1360)، ومسلم رقم (24).
(2) الأصل: النميري، وهو خطأ.
(3) رقم (923).
(4) البيت رقم (857).
(5) في “الجرح والتعديل”: (6/ 222).
(6) في “الاستيعاب”: (3/ 1166 البجاوي).

(1/367)


الثالث: هو من ظهرت منه العدالة بحسب الظاهر مع جهل باطنه، والأكثر على عدم قبوله، وهو مراد المؤلف بقوله: “أو فيما بطن”. وقوله: “جُهِل” “يُجهَل” بالبناء للمفعول.

572 – ومثبتُ العدالةِ اختبارُ … كذاك تعديلٌ والانتشارُ

يعني أن الأمور التي تثبت بها العدالة ثلاثة: الأول: الاختبار بالمعاملة والمخالطة التي تُطْلِعُ على خبايا النفوس وخفاياها. الثاني: التعديل بتزكية العدل له. الثالث: انتشار السماع المتواتر أو المستفيض بعدالته، وهو في الحقيقة نوع من التعديل.
573 – وفي قضا القاضي وأخذِ الراوي … وعملِ العالِمِ أيضًا ثاوي
574 – وشرطُ كُلٍّ أن يُرَى مُلْتَزَما … رَدًّا لِمَنْ لَيْس بعدلٍ عُلِما
لما بين أن التعديل من مثبتات العدالة بيَّنَ هنا أن التعديل يكون بالالتزام ولو لم يُصرح بالتعديل، والتعديلُ الالتزامي ذكره في ثلاث مسائل:
الأولى: قضاءُ القاضي بشهادة الشاهد أي حكمه بمقتضاها.
الثانية: رواية الراوي الذي لا يروي إلَّا عن عدل عن شيخ.
الثالثة: عمله بروايته.
إلَّا أن كون قبول القاضي شهادته ورواية الراوي عنه وعمل العامل بمرويه تعديلًا ضمنيًّا له مشروطٌ بأن يكون كُلٌّ منهم لا يقبل غير العدل، بأن يُعْلَم ذلك منه بصريح أو بعادةٍ مُطَّردة كالشيخين في صحيحيهما، وقيل: إن لم يصرح بأنه يَشْتَرِط ذلك لم يكن تعديلًا له لجواز أن يَعْمل به احتياطًا أو يخالف عادته. وقوله: “ثاوي” يعني أن التعديل الضمني كائن

(1/368)


ثابت بقضاء القاضي إلخ.

575 – والجَرْحَ قدِّم باتفاقٍ أبدا … إن كان من جَرحَ أعْلَى عَدَدَا
576 – وغيرُه كَهْوَ بغير مَيْنِ … وقيل بالترجيح في القِسْمين

يعني أنه إذا عدَّل الراوي جماعةٌ وجرَّحه آخرون فلذلك ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون المُجَرِّح أكثر عدَدًا.
الثانية: أن يكون المعدِّل أكثر عددًا.
الثالثة: أن يستويا.
فإن كان المُجَرِّح أكثر عددًا قُدِّم بلا خلاف، وهو مراده بقوله: “والجرح قدم” البيت. وإن كان المعدِّل أكثر أو استويا قُدِّم المجرِّح أيضًا على الراجح؛ لأن المجرِّح اطلع على ما لم يطلع عليه المعدِّل وهو مراد المؤلف بقوله: “وغيره وهو”. وقيل: يصار إلى الترجيح في هذين القسمين الداخلين تحت قوله: “وغيره وهو” وهما إذا كثر المعدِّل أو تساويا. والمَيْن: الكذب، ودخول الكاف على ضمير الرفع شاذ.

577 – كلاهما يُثْبِتُه المُنْفَرِدُ … ومالكٌ عنه رُوِي التَّعَدُّد
الضمير في قوله: “كلاهما” راجع إلى الجرح والتعديل، يعني أنه يثبت كل واحد منهما بعدل واحد، ورُوِي عن مالك اشتراط التعدد في الشاهد (1)، كما قال ابن عاصم في “التحفة”:
__________
(1) ذكر الأبياري في “شرح البرهان” أنه لم يعثر لمالك على نص في اشتراط التعدد بخصوص الرواية، وإن كان قياس مذهبه اشتراطها كما في الشهادة. انظر: “أصول فقه مالك”: (2/ 658 – 659).

(1/369)


وشاهدٌ تعديله باثنيْن … كذاك تجريح مبَرِّزَيْن

ويُقاس عليه الراوي، وأشار إلى بقية الأقوال بقوله:
578 – وقال بالعددِ ذو دِرايه … في جهةِ الشاهدِ لا الرِّوَايه
يعني أن بعض أهل الدراية لم يقبل التزكية ولا التجريح من واحد في خصوص الشاهد، نظرًا إلى طلب التعدُّد في أصل الشهادة دون الرواية، فيقبل عدلًا واحدًا في تعديل الراوي وتجريحه، نظرًا إلى أن أصل الرواية لا يطلب فيه التعدد، وعزا بعضُهم هذا التفصيل للأكثر.

579 – شهادةٌ الاخبارُ عما خَصَّ إنْ … فيه ترافُعٌ إلى القاضي زُكِنْ
580 – وغيرُه روايةٌ. . . . … . . . . . . . . . .
تعرَّض المؤلف هنا للفرق بين الشهادة والرواية ففرَّق بَيْنهما بأن (1) الشهادة هي الإخبار عن خاصٍّ من شأنه أن يُترافع فيه إلى حُكَّام الشريعة، كالإخبار عن زيد بأن عليه مئة لعَمْرو أو أنه طلَّق زوجته أو أعتق عَبْده ونحو ذلك.
وقوله: “وغيره رواية” يعني أن الرواية هي الإخبار عن عام كخبر: “إنما الأعمال بالنيات” (2)، أو الإخبار عن خاصٍّ لا يمكن الترافع فيه كخبر “يخرب الكعبة ذو السُّوَيقتين من الحبَشة” (3).
__________
(1) الأصل: لأن!
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه البخاري رقم (1591)، ومسلم رقم (2909) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

(1/370)


واعتُرِض على التعريفين، أما تعريف الشهادة بما ذكر فقد اعترض عليه بأنه غيرُ مانع لشموله للدعوى والإقرار، لأن كلًّا منهما إخبار عن خاصٍّ يمكن الترافع فيه وليسا برواية.
وأجيب بأن المراد تمييز الشهادة عن الرواية خاصة، والتمييز بينهما حاصل بما ذكر.
واعْتُرِض تعريف الرواية أيضًا بأنه غير مانع لأن الإخبار عن عام تارة يكون شهادة كالبينة القائمة على وقف على عامة المسلمين. ولم أر من أجاب عنه بمقنع.
وقوله: “زُكِن” بمعنى عُلِم. وقوله: “الإخبار” مبتدأ مؤخَّر نُقِلت حركة همزته إلى اللام وما بعده متعلق به، و”شهادة” خبر مقدم.

. . . . . . . . . . والصَحْبُ … تْعديلُهم كُلٌّ إليه يَصْبُو
يعني أن أصحابَ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كلَّهم عدولٌ فلا تضر جهالة الصحابي ولا يلزم البحث عن عدالته. وقوله: “يصبو” أي يميل يعني أن كل السلف يميلون إلى عدالة كل الصحابة لما جاء من تزكيتهم والثناء عليهم في الكتاب والسنة.

581 – واختارَ في الملازمينَ دون مَنْ … رآه مرَّةً إمامٌ مؤتمنْ
مراده بالإمام المؤتمن القرافي، يعني أن القرافيّ اختار أن ثبوت العدالة للصحابة إنما هو لخصوص الملازمين له -صلى اللَّه عليه وسلم- المهتدين بهداه، أما من رآه مرَّة ورجع إلى بلاده كمالك بن الحويرث، وضمامة بن ثعلبة،

(1/371)


وأمثالهم = فلا تستلزم تلك الصحبة عدالتهم (1)، والتحقيقُ الأول، وهو قول الجمهور.

واعلم أن أصحَّ حدود الصحابي (2): أنه من اجتمع بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مسلمًا ومات على ذلك ولو تخلَّلت إسلامه ردةٌ كالأشعث بن قيس.
582 – إذا ادَّعى المعاصرُ العدلُ الشَّرَفْ … بصحبةٍ يقبلُه جُلُّ السَّلَفْ
يعني أن الإنسان إذا ادَّعَى صحبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لنفسه بأن قال: أنا اجتمعتُ بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فإنَّ قوله يقبل وتثبت به صحبته بشرطين: الأول: أن يكون عدلًا. الثاني: أن يكون وجوده في عصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- معلومًا، وأشار المؤلف إلى الشرطين المذكورين بقوله: “إذا ادَّعى المعاصِرُ العدلُ”. وإنما قُبِل قولُه لأن عدالته تمنعه من الكذب. ومفهوم قوله: “جُلُّ السلف” أن من العلماء من لا يقبل قوله في ادِّعاء الصحبة لأنه يدعي الفضل والعدالة لنفسه بالصحبة كما أن الإنسان إذا قال: أنا عدل لم تُقْبل تزكيته لنفسه (3).

583 – ومرسلٌ قَوْلَةُ غيْرِ مَنْ صحِبْ … قال إمامُ الأعْجمينَ والعربْ
584 – عند المحدثينَ قولُ التابعي … أوِ الكبيرِ قال خيرُ شافِعِ
تعرَّض المؤلفُ هنا لبيان المرسل فذكر أن المرسل في اصطلاح الفقهاء والأصوليين هو: أن يقول غيرُ الصحابي: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-،
__________
(1) انظر “شرح التنقيح”: (ص/ 360).
(2) انظر “الإصابة”: (1/ 7).
(3) نصر هذا القول الحافظ ابن القطان الفاسي في “بيان الوهم والإيهام”: (5/ 68، 132، 337، 393).

(1/372)


سواء كان تابعيًّا صغيرًا أو كبيرًا أو غير تابعيٍّ مطلقًا، وعليه فالمرسل بالاصطلاح الأصولي يشمل المنقطع والمعضل في اصطلاح أهل الحديث، فكل من يحتج بالمرسل يحتج بالمنقطع والمعضل. وإلى تعريف المرسل عند الأصوليين أشار بالبيت الأول.
وأما المرسل عند المحدثين فهو: أن يقول التابعي -صغيرًا كان أو كبيرًا عند بعض- أو التابعي الكبير خاصة: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. والمشهور عند المحدثين الأول، والتابعيُّ الكبير كعبيد اللَّه بن عدي بن الخِيَار، وقيس بن أبي حازم، والصغير كالزهري.

585 – وهو حجةٌ ولكنْ رُجِّحا … عليه مُسْندٌ وعكْسٌ صُحِّحا
اعلم أن في المرسل ثلاثة أقوال:
الأول: أنه غير حجة، وهو مذهب الشافعي (1) وجمهور المحدثين، لأن الساقط مجهول والمجهول لا اعتبار بروايته، وهذا القول لم يتعرض له المؤلف، وإنما ذكر القولين الأخيرين.
الأول منهما وهو الثاني من الأقوال الثلاثة التي ذكرنا: أنه حجة، ولكنّ المتصل يُقدَّم عليه عند التعارض.
والآخر وهو الثالث: أنه حجة ويقدَّم على المتَّصل عند التعارض.
وحجة القول بالاحتجاج بالمرسل: أن العدل لا يسقط الواسطة مع الجزم برفع الخبر إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلَّا لجزمه بثقة الواسطة التي لم تُذْكر وإلَّا
__________
(1) انظر “الرسالة”: (ص/ 461 – 465).

(1/373)


كان مدلِّسًا تدليسًا قادحًا في عدالته، والفَرْض أنه عدل.
وحجة تقديم المتصل عليه واضحة لأرجحية الاتصال على الإرسال.
وحجة تقديم المرسل على المتصل -عند القائل به- أنَّ من وصلَ السند أحالك على البحث عن عدالة الرواة، ومن حذفَ الواسطة مع الجزم بالرواية فقد تكفَّل لك بعدالة الواسطة، ومشهور مذهب مالك (1) وأبي حنيفة (2) وأصح الروايتين عن أحمد (3): أن المرسل حجة ولكن يُقَدَّم عليه المتِّصل عند التعارض. ومراده بالمسند في البيت المتصل.
فإن قيل: تقدم أن مجهول العين لا يقبل في قوله: “ومن في عينه يجهل” وإذًا فما الفرق بين الواسطة الساقطة -إذا لم يحقق أنها صحابي- وبين مجهول العين المتقدم أنه لا يقبل؟
فالجواب أن المجهول الذي لا يقبل فيما تقدم يُعنى به أمران وكلاهما مغاير للواسطة الساقطة في المرسل:
الأول: هو من روى عنه راوٍ واحدٌ ولو كان معروف العين والنسب إن (4) كان غير صحابي كما تقدم.
والثاني: أن يكون في الإسناد مبهم كقوله: عن شيخ أو عن رجل ونحو ذلك، فإن هذا مجهول العين ولا يُقْبل، والفرقُ بين هذا وبين
__________
(1) انظر “إحكام الفصول”: (1/ 355) للقرافي.
(2) انظر “الفصول في الأصول”: (2/ 30) للجصاص.
(3) انظر “العدة”: (3/ 906 – 909) لأبي يعلى.
(4) الأصل: وإن!

(1/374)


المرسل ظاهر، فإن الراوي إذا حَدَّث عن شيخ أو عن رجل لم يقتض ذلك أنه عَدْل عنده بخلاف ما لو حذف الواسطة وجزم بالرواية فإنه يدل على عدالة الواسطة المحذوفة عنده. والذين لا يحتجون بالمرسل لا يقبلونه (1) دون معرفة عين الراوي لاحتمال أنه لو بيَّنه لكان غيره يعلم فيه جرحًا، والمجرِّح مقدَّم على المعدِّل كما تقدم.

586 – والنقل للحديث بالمعنى مُنِعْ … . . . . . . . . . . . . .
يعني أن نقل الحديث بالمعنى مَنَعه مالك فيما نقله عنه المازري (2) وذكر ابن الحاجب (3) عن مالك أنه كان يشدِّدُ النكير في إبدال التاء بالباء كعكسه من تاللَّه وباللَّه وهو محمول على المبالغة. ومَنْعُ نقله بالمعنى مرويٌّ عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، وحجَّة المنع قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “نَضَّرَ اللَّهُ امرأً سمعَ مقالتي فوعاها فأدَّاها كما سمعها” (4)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- للبراء بن عازب لما أبدلَ لفظةَ النبي بالرسول فقال: وبرسولك الذي أرسلت، قال له -صلى اللَّه عليه وسلم-: “قل وبنبيك الذي أرسلت” (5)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: “لا يقل أحدُكم خَبُثت نفسي وليقل لَقِسَتْ” (6).
__________
(1) ط: يقبلون تعديله.
(2) في كتابه “إيضاح المحصول من برهان الأصول”: (ص/ 511 – 512) نقلًا عن ابن خويز منداد، ونقل عن القاضي عبد الوهاب: أنه مكروه، وخَرَّجه على كراهة التحريم.
(3) “المختصر – مع الشرح”: (1/ 732).
(4) تقدم تخريجه.
(5) أخرجه البخاري رقم (247)، ومسلم رقم (2710).
(6) أخرجه البخاري رقم (6179)، ومسلم رقم (2250) من حديث عائشة، وأخرجه البخاري رقم (6180)، ومسلم رقم (2251) من حديث سهل -رضي اللَّه عنهم-.

(1/375)


مع أن مَعْنى لَقِست وخَبُثت واحد، وكان بعضُ علماء الحديث يمنع إبدال حدثنا بأخبرنا (1)، وهذا القول أحوط في حفظِ الحديث وبعدِه من تطرُّق الخلل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . … ومالكٌ عنه الجوازُ قد سُمِعْ
587 – لعارفٍ يفهَنم معناه جَزَم … وغالبُ الظنِّ لدى البعضِ انحتمْ
588 – والاستواء في الخفاءِ والجَلا … لدى المُجوِّزِين حتْمًا حصلا
يعني أن مالكًا وأبا حنيفة والشافعي وأحمدَ وجمهورَ العلماء والمحدثين على جوز نقل الحديث بالمعنى بالشروط الآتية، لأن الحديث لم يُتعبد بلفظه والمقصود منه المعنى، فإذا حقَّق أو غلبَ على الظن حصول المعنى فلا حاجةَ إلى اللفظ، ولحديث عبد اللَّه بن سليمان بن أُكيمة (2) الليثي عند الطبراني (3) قال قلت: يا رسول اللَّه إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمعه منك يزيدُ حرفًا وينقصُ حرفا فقال: “إذا لم تُحِلوا حرامًا ولم تُحَرِّموا حلالًا وأصبتم المعنى فلا بأس” (4) وذُكِرَ ذلك للحسن فقال:
__________
(1) انظر رسالة الطحاوي “الفرق بين حدثنا وأخبرنا”.
(2) الأصل: أكمة! والتصحيح من مصادر الترجة، انظر “الإصابة”: (3/ 166)، وأبوه سليمان ويقال: سليم.
(3) في “الكبير”: (رقم 6491).
(4) وأخرجه ابن قانع في “معجم الصحابة”: (3/ 18)، والخطيب في “الكفاية” رقم (614)، والجورقاني في “الأباطيل” رقم (90). وابن الجوزي في “الموضوعات” -عزاه له الحافظ في “الإصابة”: (3/ 166) ولم أجده في المطبوع-. قال الجوزقاني: “هذا حديث باطل وفي إسناده اضطراب” اهـ وانظر “فتح المغيث”: (3/ 145).

(1/376)


لولا هذا ما حدثنا (1).
فإن قيل: هذا الحديث صاحبه عاجز عن تأْديته بلفظه كما يدل عليه قوله: لا أستطيع أن أؤديه، وإذًا فلا يصلح دليلًا في القادر على أدائه بلفظه.
فالجواب: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لاسيما وقد صرح -صلى اللَّه عليه وسلم- بما يدل على التَّعميم وهو صِيَغ الجمع في قوله: “تحلوا، وتحرموا، وأصبتم”.
وذَكَر المؤلِّف شروط جواز النقل بالمعنى -على القول به- فبين أن من شَرْطه أن يكون الناقل عارفًا بمدلولات الألفاظ فَطِنًا بمواقعها لا تتمشى عليه التغييرات التي تغير المعاني، وهذا هو مراده بقوله: “لعارف”.
الشرط الثاني: أن يكون الناقل بالمعنى فاهمًا للحديث متيقِّنًا أن معناه هو ما فهم، وقيل: تكفيه غلبةُ الظنِّ، وهذا هو مراده بقوله: “يفهم معناه جزم” إلخ.
الثالث: استواء اللفظ الذي جاء به مع لفظ الحديث في الخفاء والظهور بأن لا يكون أخفى منه ولا أظهر، ومَنعْ كونه أخفى منه واضح، لأنه ينقلُ النص من الوضوح إلى الخفاء، ومَنعْ كونه أظهر منه خوف أن يعارض حديثًا آخر فيرجَّح عليه بالظهور، والظهور من المرجحات، فيؤدِّي إلى ترجيح الحديث بتصرف الراوي، وذلك لا يجوز لأنه يوهم أرْجَحِية غير الراجح.

589 – وبعضُهم مَنَع في القِصارِ … دون التي تطُولُ لاضطرارِ
__________
(1) انظر “تدريب الراوي”: (1/ 534).

(1/377)


يعني أن بعضَ الأصوليين ومراده به القاضي عبد الوهاب من المالكية مَنَع النقل بالمعنى في الأحاديث القصار دون الطوال، لأنه قد
يضطر إليه في الطوال دون القصار (1).

590 – وبالمُرادفِ يجوزُ قطعا … وبعضُهم يحكُونَ فيه المَنْعا
يعني أن بعضهم والمراد به الأبياري شيخ ابن الحاجب من المالكية جعل إبدال اللفظ بمرادفه لا خلاف في جوازه (2)، وقال بعضهم: يختلف فيه لأنه من جملة النقل بالمعنى. والفرق بين المرادف والنقل بالمعنى: أن المرادف لا يتغير فيه وضع الكلام، وإنما يبدل لفظ بمرادفه والتركيب هو التركيب، كما لو روى بعضُهم في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد: فأراقَ عليه دلوًا من ماء، وروى الثاني: فأراق عليه ذَنوبًا من ماء، فالتركيب هو الأول بعينه لأن (3) الدلو أبدلت بمرادفها وهو الذَّنوب.
ويُستثنى من مسألة نقل اللفظ بالمعنى: ما كان متعبَّدًا بلفظه كتكبيرة الإحرام وتسليمة التحليل ونحو ذلك. واستثنى بعضهم منه أيضًا جوامع الكلم نحوُ: “إنما الأعمال بالنيات” (4) و”لا ضرر ولا ضرار” (5)
__________
(1) نقله عنه المازري في “إيضاح المحصول”: (ص/ 511).
(2) انظر “النشر”: (2/ 61).
(3) ط: إلا أن.
(4) تقدم.
(5) تقدم تخريجه.

(1/378)


“والآن حَمِي الوطيس” (1) ونحو ذلك.

591 – وجوِّزَنْ وَفْقًا بلفظٍ عَجَمي … ونحوِهِ الإبدالُ للمتَرْجِم
يعني أن الأصوليين أجازوا اتفاقًا الترجمة عن الحديث بالفارسية، وهي مراده بقوله: “بلفظٍ عَجَمي” ونحوها من لغات العجم لضرورة التبليغ إذا كان الإبدال للإفتاء والتعليم لا للرواية. وقوله: “الإبدالَ” مفعول قوله: “جوِّزن” و”وَفْقًا” معناه: اتفاقًا، وقوله: “للمترجم” يتعلق بـ “جوِّزن”.
فإن قيل (2): ما الفرق بين مسألة نقل الحديث بالمعنى وبين مسألة تعاور الرديفين المتقدمة؟
فالجواب: أن مسألة الرديفين في أمر لغوي وهو أعم من أن يقع في كلامِ راوٍ للحديث أو غيره، فالمانع فيها يقول: اللغة تمنع ذلك مطلقًا ولا يتعرض للشرع هل يمنعه أو لا. ومسألة نقل الحديث بالمعنى في أمرٍ شرعيٍّ خاص بحديثه -صلى اللَّه عليه وسلم- والمانع فيه يمنعه احتياطًا منعَتْه اللغة أم لا.
* * *
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (1775) من حديث العباس بن عبد المطلب -رضي اللَّه عنه-.
(2) السؤال وجوابه في “النشر”: (2/ 59).

(1/379)


كيفية رواية الصَّحابيِّ
592 – أرفعُها الصريحُ في السماعِ … من الرسولِ المُجْتبى المُطاع
593 – منه سمعتُ منه ذا أو أخبرا … شافَهني حدَّثَنيهِ صيَّرا
يعني أن أرفع كيفيات رواية الصحابي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هو ما كان صريحًا في السماع منه لعدم احتمال الواسطة التي يُتوقع منها الخلل، ومن الصريح بالسماع الصِّيَغ التي ذكرها المؤلف وهي: سمعت منه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا، أو أخبرني به، أو شافهني، أو حدثنيه. وقوله: “سمعت” مفعول به لـ “صيَّر” على قصد الحكاية، وما بعده معطوف عليه. و”شافهني وحدثني” معطوفان بحذف العاطف، وهذه هي المرتبة الأولى، وأشار إلى المرتبة الثانية بقوله:

594 – فقال عن. . . . . . . … . . . . . . . . . . . .
يعني أن المرتبة التي تلي ما هو صريح في السماع مرتبة “قال” أيْ إذا قال الصحابي: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأنه ظاهر في سماعه منه -صلى اللَّه عليه وسلم- دون واسطة، وظاهر المؤلف أن “عن” كقول الصحابي: عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في مرتبة “قال” لعدم عطفه (1) بفاء أو بثُم لظهوره في السماع منه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعليه كثير من المحدثين والأصوليين. وقيل: إن “عن” أنزل درجة من
__________
(1) الأصل: عطف.

(1/380)


“قال” وعليه فهي مرتبة ثالثة، وإليه مال المؤلف في “الشرح” (1).

. . . . . . . . . ثم نُهِي أو أُمِرا … إن لم يكن خيرُ الورى قد ذُكِرا
يعني أن المرتبة الثالثة بناءً على اتحاد مرتبة “قال وعن”، أو الرابعة بناءً على أن مرتبة “عن” بعد مرتبة “قال” هي: قول الصحابي: نُهِينا أو أُمرنا، أو نُهِي عن كذا أو أُمِر. وإنما كان هذا في حكمِ المرفوع لأن الظاهر أن الآمر أو الناهي هو -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما كان دون ما قبله لأن احتمال الواسطة الذي فيما قبله فيه هو أيضًا، ويزيد باحتمال أن يكون الناهي والآمر غيرَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الخلفاء الراشدين وغيرهم.
ومفهوم قوله: “إن لم يكن خيرُ الورى قد ذُكِرا” أن الصحابي إذا قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن كذا أو أَمَرَ = أنه لا يكون من هذه المرتبة. وقال المؤلف في “الشرح” (2): إنه لا تحتمل فيه الواسطة اتفاقًا إلَّا أنه يحتمل كون الطلب جازمًا أو غير جازم، وهل النهي أو الأمر للكل أو البعض؟ وهل هو دائم أو غير دائم؟ كما أن هذه الاحتمالات كلَّها عنده أيضًا في منطوق المؤلف، وجَعَل مسألة المؤلف هذه صاحب “جمع الجوامع” (3) مرتبةً رابعة، والصحيحُ عند المالكية والشافعية قبولهما معًا.
قلت: إن مسألة قول الصحابي: أَمَرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو نهانا أظهر ما يقال فيها أن تكون في مرتبة “قال”، وما ادعاه المؤلف في “الشرح”
__________
(1) (2/ 63).
(2) (2/ 64).
(3) (2/ 173 – مع حاشية البناني).

(1/381)


من الاتفاق على عدم احتمال الواسطة غيرُ صحيح، بل الواسطة محتملة في قول الصحابي أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كاحتمالها في قوله: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما ادعوه من الاحتمالات في الأمر هل للكل أو البعض أو دائم أو غير دائم يظهر ضعفه لأن الصحابي عدل عارفٌ فيبعد أن يروي إلَّا كما سمع.

595 – كذا من السنة يُرْوى والتحقْ … كُنَّا بِه إذا بعهدِه التصَقْ
يعني أن قول الصحابي: “من السنة”، يحتج به وهو في مرتبة ما قبله لظهوره في سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقيل: لا يُحتج به لأن السنة قد تطلق على سنة الخلفاء الراشدين وغيرهم، وعلى ما قابل الفرض، وغير ذلك. ومثاله: قول علي -رضي اللَّه عنه-: من السنة ألَّا يقتل حر بعبد (1).
وقوله: “والتحق كنا به” إلخ ظاهر المؤلف أن هذه المرتبة تساوي ما قبلها للعطف بالواو لكنه ذكر في “الشرح” (2) أنها بعدها، ومعنى كلامه أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل كذا في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، يكون له حكم الرفع، لأنه محمول على أنه اطلع عليه فقرَّرهم عليه كقول جابر: كنَّا نعْزِل والوَحْي ينزل (3).
وقيل: ليس له حكم الرفع، لأن الحجة في عِلْم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- به وتقريره عليه، وهنا لم يثبت أنه سمعه، أما إذا قال الصحابي: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سَمِعه وأقر عليه كقول ابن عمر: كنا نقول أفضل الأمة بعد نبيها
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 409)، والبيهقي: (8/ 34).
(2) (2/ 65).
(3) أخرجه البخاري رقم (5208)، ومسلم رقم (1440).

(1/382)


أبو بكر وعمر، والنبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يسمعُ فلا ينكر (1). فهو مرفوعٌ بلا خلاف. وأما إذا قال الصحابيُّ: كنَّا نفعل ولم يذكر أن ذلك في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقيل: له حكمُ الرفع لظهوره في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقيل: لا لاحْتِمال كونه بعد زمنه. ومثاله: قول عائشة -رضي اللَّه عنها-: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه (2).
* * *



__________
(1) أخرجه الطبراني في “الكبير” رقم (13132). ووقع في الأصل: نبينا.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 477)، والبيهقي في “الكبرى”: (8/ 255)، وابن حزم في “المحلى”: (11/ 352) وصححه.

(1/383)


كيفيّة رواية غيره عَن شيْخه
قوله: “غيره” أي غير الصحابي، وهو التابعي فمن دونه:
596 – للعَرْضِ والسَّماع والإذنِ اسْتِوَا … متى على النَّوال ذا الإذْنُ احتوى
يعني أنه عند الإمام مالك تستوي كيفيات رواية الراوي عن غير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الثلاث وهي: السماع والعرض والإجازة، بشرط أن تشتمل الإجازة على المناولة.
و”العرض” هو: القراءة على الشيخ، فيقول: نعم أو يسكت خلافًا لمن قال: إن سكت لا تجوز الرواية عنه. و”السماع” يعني به: السماع من لفظ الشيخ. و”الإذن” يعني به: الإجازة. و”النوال” يعني به: المناولة، بأن يناوله كتابًا ويقول له: أجزتُ لكَ أن تروي هذا عَنِّي، ومساواةُ الإجازة مع المناولة للعرض والسماع ذهب إليها مالك وخالفه جمهور العلماء.
فإن سَمع الراوي وحدَه من الشيخ قال: حدثني أو أخبرني، وإن سمع مع غيره قال: حدثنا أو أخبرنا، فإن روى عنه بالعرض قال: أخبرنا قراءةً عليه، فإن كان القارئ غيره قال: أخْبَرَنا قراءةً عليه وأنا أسمع، فإن كان الرواية بالإجازة قال: أنبأنا، وهي تنصرف في الاصطلاح للإجازة، أو: أخبرنا إجازة.

597 – واعملْ بما عنِ الإجازةِ رُوي … إن صحَّ سمعُه بظنٍّ قد قَوي
يعني أن الإجازة تجوز الرواية بها والعمل إن غلب على ظن المُجاز

(1/384)


أن هذا الشيء المُجاز فيه هو سماع المُجيز بأن يثبت ذلك عنده بطريقٍ تفيدُ العلم أو غلبة الظن. وقال قوم من أهل الحديث: لا يجوز العمل ولا الرواية بالإجازة، قال شعبة: لو جازت الإجازة لبطلت الرحلة في طلب العلم (1).

598 – لِشبْهِها الوقْفَ تجي لمن عُدِمْ … وعدَمُ التفصيل فيه مُنْحَتِمْ

يعني أنه تجوز الإجازة للمعدوم، نحو: أجزتُ لمن سيولد لفلان رواية هذا الكتاب عنِّي، لمشابهتها للوقف. وقوله: “وعدم التفصيل” يعني أن الإجازة للمعدوم تجوز مطلقًا من غير تفصيل خلافًا لمن قال: لا تجوز مطلقًا، ولِمَن فصَّل في ذلك قائلًا: إن كان المعدوم تَبَعًا لموجود جازت نحو: أجزت لك ولمن سيولد لك، وإن لم يكن المعدومُ تبعًا لموجود نحو: أجزتُ لمن سيولد لك، لم تَجُز.
599 – والكَتْبِ دونَ الإذنِ بالذي سُمع … إن عُرِفَ الخَطُّ وإلا يمتنع
قوله: “والكَتْبِ” بالخفض عطفًا على قوله: “الإجازة” يعني أنه يجوز العمل بالكتب دون الإذن بالرواية بأن يكتب راوٍ لغيره بأن هذا سماعه، ولم يقل له: أجزتُ لكَ روايته عَنِّي، فإنَّ العملَ به يجوز دون الرواية، ومحلّ جوازِهِ إذا كان يعرفُ الخطَّ الذي كتب به إليه الراوي، أو شَهِدَت عليه بينة، فإن لم يعرفه ولم تقم عليه بينة لم يَجُز العملُ به وذلك هو مراده بقوله: “إن عرف الخط وإلا يمتنع”، ومفهوم قوله: “دون الإذن” أنه لو أذن له مع الكتب لكان إجازة.
__________
(1) أخرجه الخطيب في “الكفاية”: (1020).

(1/385)


600 – والخُلْفُ في إعلامه المُجَرَّدِ … واعْمِلَن منه صحيحَ السَّنَدِ
يعني أنهم اختلفوا في إعلام الشيخ المجرَّد عن الإجازة، كما إذا قال لك الشيخ: هذا الحديث أو هذا الكتاب من سماعي عن فلان، مقتصرًا على ذلك هل تجوز الرواية [عنه] بهذا أم لا؟ والقول بالجواز ذهب إليه كثير من الأصوليين والفقهاء والمحدثين، وممن ذهب إليه من المالكية ابن حبيب وصححه عياض (1). والقول بالمنع قال به أيضًا جماعة من الأصوليين وكثير من المحدثين، وممن جزم به الغزالي (2). وحجة المنع القياس على الشاهد إذا ذكر شهادته في غير مجلس الحكم، فإنه لا يجوز تحمُّلها إلا بإذنه، وقالوا أيضًا: قد يحدِّث الإنسان بشيء ولا يُجَوِّز روايته عنه لكونه يعلم فيه خَلَلًا مانعًا من القبول.
أما العمل بإعلامه المجرَّد فهو جائز إذا كان صحيح السند والمتن أو حسن السند والمتن، فالمدارُ على صحة المتن أو حُسنه صحَّ الإسناد أو حَسُن أم لا، والمتن والإسناد كل منهما يصح ويحسن دون الآخر، فالإسنادُ قد يكون صحيحًا مع أن المتن غيرُ صحيح لعلةٍ أو شذوذ، كما أن المتن يكون صحيحًا مع أن الإسناد غير صحيح كما في الصحيح لغيره، لأن كثرة الطرق وإن كانت ضعيفة قد يشدُّ بعضُها بعضًا فيصح المتن بمجموعها مع أن كل واحد منها بانفراده ضعيفٌ.
لا تخاصم بواحدٍ أهلَ بيتٍ … فضعيفان يغلبان قويًّا
__________
(1) في “الإلماع”: (ص / 107 – 108).
(2) انظر “المستصفى”: (1/ 165).

(1/386)


وقس على ذلك الحَسَن.

601 – والأخذُ عن وِجادةٍ مما انحْظَل … وَفْقًا وجُلُّ الناس يمنَعُ العَمَلْ
الوِجَادة -بكسر الواو- مصدر وَجَد وهو غير مسموع عن العرب وإنما هو موَلَّد يستعمله المؤلفون، ومرادُهم بالوجادة هو: ما وُجِد من حديث ونحوه مكتوبًا في صحيفة بخط شيخٍ معروفٍ من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة. يعني أن الرواية بالوجادة ممنوعة اتفاقًا والعملُ بها ممنوع عند الجُلِّ، هذا مراده، وكثير من محققي النُّظَّار على جواز العمل بها وعن الشافعي ونُظَّار أصحابه جواز الرواية بها، وقطع بعضُ محققي الشافعية بوجوب العمل بها عند حصول الثقة (1).

602 – وما به يُذْكَرُ لفظُ الخبرِ … فذاك مسطورٌ بعلمِ الأثرِ
يعني أن كيفيات أداء رواية الحديث مسطورة في مصطلح الحديث، ولذا تركها هنا عملًا بما قال في أول الكتاب: “منتبذًا عن مقصدي ما ذكرا” إلخ.
* * *
__________
(1) بنحوه في “علوم الحديث”: (ص/ 180) لابن الصلاح.

(1/387)


كتابُ الإجماع
الإجماع من الأدلة الشرعية، وهو يكون شرعيًّا كالإجماع على حِلّيَّةِ البيع والنكاح، وعقليًّا كإجماع من يُعتد بهم على حدوث العالم، ولغويًّا ككون الفاء للتعقيب، ودنيويًّا كتدبير الجيوش.
والإجماع في اللغة: مصدر أجمع، وهو مشترك لغةً بين أمرين؛ أحدهما: العزم والتصميم، والثاني: الاتفاق، وهو المناسب للإجماع الذي هو أحد الأدلَّة، واصطلاحًا عرَّفه المؤلف بقوله:
603 – وهو الاتفاقُ من مجتهدي … الأمةِ من بعدِ وفاةِ أحمدِ
604 – وأطلِقَنْ في العصر والمتَّفَقِ … عليه. . . . . . . . . . . .
يعني أن الإجماع في اصطلاح الأصوليين هو: اتفاق المجتهدين في أي عصر على أيِّ شيء، وذلك هو مراده بقوله: “وأطلِقَن في العصر
والمتفَقِ عليه” بعد وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- لأنه ما دام حيًّا -صلاةُ اللَّه عليه وسلامه- فالعبرة بقوله وفعله وتقريره، ولا حجة في الإجماع في حياته -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفُهِم من قوله: “وأطلِقَن في العصر” أن الإجماعَ لا يختص بالصحابة والتابعين خلافًا لمن زعم ذلك، ومن قوله: “والمتفق عليه” أن الإجماع يكون شرعيًّا وغير شرعيٍّ.

. . . . . . . . . . . . … فالإِلْغا لمن عَمَّ انْتُقي
يعني أنه يترتب على كون الإجماع اتفاقُ خصوصِ المجتهدين إلغاء العوام وعدم اعتبارهم في الإجماع إذْ لا علمَ عندهم حتى يُعتبر وِفاقُهم،

(1/388)


فمراده بقوله: “من عَمَّ” العوامُّ، وقوله: “انتقي” يعني اخْتِير.

605 – وقيل لا. . . . . . . …. . . . . . . . . . . . .
يعني أن بعضهم قال: إنه يشترط في الإجماع موافقة العوام لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: “لا تجتمع أمتي على ضلالة” (1) وحينئذٍ فالحجة باتفاق جميع الأمة، والعوام من الأمة فلابد من وِفاقِهم.

. . . . . . . . وقيل في الجليّ … مثلُ الزِّنا والحجِّ لا الخفيِّ
معناه أن بعضَ العلماء فصَّل في المسألة فقال: يشترط في الإجماع موافقة العوام في الجلي الواضح الذي لا يخفى على أحد، كوجوب الحج وحرمة الزنا، دون الخفي الذي لا يعلمه كل الناس، كالإجماع على أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب، وأن الأخ لا يحجب الجدَّ.
واعلم أن الإجماعَ يُعتبر فيه في كل فن أهله، فيُعتبر في الشرع المجتهدون، وفي اللغة العلماء باللغة، وهكذا.
__________
(1) هذا الحديث روي من طريق جماعة من الصحابة، قال الحافظ في “موافقة الخُبْر الخَبَر”: (1/ 105): “هو حديث مشهور المتن، له أسانيد كثيرة من رواية جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة. . . “.
منها: ما أخرجه الترمذي رقم (2167)، والحاكم (1/ 115 – 116)، وأبو نعيم في “الحلية”: (3/ 37) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. قال الترمذي وأبو نعيم: حديث غريب من هذا الوجه. وضعفه الدارقطني، والنووي في “شرح مسلم”: (13/ 67). وانظر “المعتبر”: (ص/ 57 – 62)، و”موافقة الخُبْر الخَبَر”: (1/ 105 – 107).

(1/389)


606 – وقيل لا في كلِّ ما التكليفُ … بعلمِه قد عمَّمَ اللطيفُ
يعني أن بعضَ العلماء قال: لا يُلْغَى العوامُّ في الإجماع فيما يعمُّ التكليف بعلمه كالطهارة والصلاة دون ما لا يعم التكليف بعلمه فإنهم يلغون فيه، كالبيع والإجارة، وينعقد الإجماع فيه دونهم. و”اللطيفُ” من أسمائه جلَّ وعلا.

607 – وذا للاحتجاجِ أو أن يُطلَقا … عليه الاجماعُ وكلٌّ يُنْتَقى
الإشارة في قوله: “ذا” راجعة إلى القول باعتبار العوام في الأبيات الماضية، يعني أنه اختلف فيما يشترط له وفاق العوام هل هو الاحتجاج بالإجماع، وعلى هذا القول إن لم يوافق العوام لم يكن إجماعُ من سواهم حجةً، وحجةُ هذا القول: أن الذي دلَّ الدليل على عصمته هو كل الأمة لحديث: “أمتي لا تجتمع على ضلالة” (1)، وآية: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء/ 115]. وعلى هذا القول فالخلاف حقيقي وهو صِدْق إطلاق إجماع الأمة، وعليه فتكون فائدة وفاق العوام أن يَصْدُقَ قولُك: أجمعت الأمةُ على كذا، وأهلُ هذا القول يقولون: حجة الإجماع تامة باتفاق المجتهدين، وعليه فالخلاف لفظي.
وقوله: “وكل يُنتقى” يعني أن كل واحد من القولين اختاره بعض العلماء. وقوله: “يُطْلَقا”، و”يُنتقى” مبنيان للمفعول.

608 – وكلُّ مَنْ بِبِدْعةٍ يُكفَّرُ … من أهل الأهواءِ فلا يُعْتَبرُ
__________
(1) تقدم قريبًا.

(1/390)


يعني أن كل مبتدع ببدعة يكَفَّر مرتِكبُها كجهم بن صفوان فإنه لا يُعتبر في الإجماع، فلا تقدح مخالفته في انعقاد الإجماع إذِ العبرةُ بالمسلمين دون غيرهم، فالمراد بالأمة فيما مضى أمة الإجابة فقط لا أمة الدعوة (1).

609 – والكلُّ واجبٌ وقيل