شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل لشيخ الإسلام ابن تيمية
شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل لشيخ الإسلام ابن تيمية
http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل لشيخ الإسلام ابن تيمية [آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (10)]اختصره: محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي (ت 778 هـ) تحقيق: علي بن محمد العمران راجعه: سليمان بن عبد الله العمير – جديع بن محمد الجديع الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الثالثة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الصفحات: 163 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (10)
شفاء العليل في اختصار شش التحليل
لشيخ الإسلام ابن تيمية
اختصره
العلامة محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي (المتوفى 778 هـ)
تحقيق
علي بن محمد العمران
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم – دار ابن حزم
(1/1)
راجَع هذا الجُزْء
سليمان بن عَبد الله العمير
جديع بن محمَّد الجديع
(1/3)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد؛ فهذا هو المختصر الثالث الذي وعدنا بإخراجه في هذه السلسلة المباركة – إن شاء الله – من آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال، وهو مختصر كتاب “بيان الدليل على بطلان التحليل”، المسمَّى: “شفاء العليل في اختصار بطلان التحليل”.
ومما ينبغي أن يقال – هنا -: إن هذا الكتاب – أعني: بيان الدليل – من أجلّ كتب شيخ الإسلام وأكثرها فوائد، بل فيه من الفوائد والبحوث ما لا يوجد في غيره من كتب الشيخ (1) = ومع هذا كلِّه لم ينل مكانته اللائقة به لدى الباحثين والمشتغلين بالعلم!.
ولعل ذلك يعود إلى أسباب؛ منها: عنوان الكتاب؛ إذ هو
__________
(1) كبحثه لقاعدة سدّ الذرائع، وكلامه على مقاصد الشريعة، وغيرها، وهذا الكتاب ثبت أن الشاطبي قد نقل عنه في “الاعتصام” و”الموافقات” صفحات كاملة دون التصريح باسمه، بل يقول: قال بعض الحنابلة، أو: قال بعضهم. انظر “مقاصد الشريعة عند ابن تيمية”: (ص/ 508 – 517) للبدوي.
(1/5)
مُشعر بأنه خاصٌّ بمسألة التحليل، أو يعود إلى طبعة الكتاب؛ إذ طُبِع – أول ما طبع – ضمن “الفتاوى المصرية”: (3/ 97 – 405) سنة 1327، وهو ليس منها، بل هو كتاب مستقلٌّ برأسه، ولم يُطبع مفردًا إلا سنة 1412 هـ عن مكتبة لينة بمصر، ولم تفلح هذه الطبعة في إماطة اللثام عن قيمة الكتاب العلمية، لا في مقدمتها، ولا في فهارسها، ولا في العناية بالكتاب (1)!!.
ولقد كان من الجدير حقًّا أن يتقدم تحقيق الأصل – بيان الدليل – على مختصره هذا من باب تقديم الأصول على فروعها، لكن حصل العكس، ولعل في ذلك من الخير المخبوء ما فيه من التمهيد للعناية بالأصل، ليبلغ الغاية في الكمال، يسّر الله ذلك بمنه وكرمه، وقد عكف على تحقيقه الآن أحد طلبة العلم، وسيطبع ضمن هذه السلسلة – إن شاء الله -.
ثم إن القول في هذا المختصر كالقول في سابِقَيْه؛ من حيث ترجمة المؤلف، ووصف النسخة، ومنهج المؤلف، والعمل في الكتاب … انظر مقدمة تحقيق “مختصر الصارم”: (ص/ 15 – 24).
وبقي أن نقول: إن هذا المختصر يقع من ذلك المجموع في الأوراق: (142 – 176) أي في ثلاثٍ وثلاثين ورقة، فهو يساوي مختصر الاقتضاء تمامًا.
__________
(1) وهذا الإجمال كافٍ في نقد هذه الطبعة هنا، ومكان التفصيل مقدمة التحقيق الجديد للأصل.
(1/6)
وكان فراغ المؤلف من اختصاره – كما أثبته في آخره – سنة خمسٍ وخمسين وسبع مئة.
ويزيد هذا المختصر على سابقيه بأن له نسخة أخرى محفوظة في مكتبة برلين برقم (2583)، مكتوبة سنة (1100)، وتقع في (23 ق)، وقد حصلنا على صورة منها عن طريق مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية، وهي نسخة جيدة، قريبة الشبه جدًّا بالأصل، لكن الجزم بأنها منسوخة عنه يُعكّر عليه وجود خلافات في بعض المواضع، وفيها بعض البياضات، وغالبها لكلمات عَسُر على الناسخ قراءتها.
وقد قابلنا هذه النسخة، وأثبتنا الفروق المهمة – على قلتها – في الهوامش ورمزنا لها بـ (م).
وقد كان اعتمادنا في الإحالة على أصل الكتاب – “بيان الدليل … ” – على طبعة المكتب الإسلامي سنة 1418، بتحقيق حمدي السلفي، وهي أحسن طبعات الكتاب حتى الآن، على ما وقع فيها من هناتٍ!. وأشرنا إليه بـ “الإبطال” اختصارًا.
والحمد لله حق حمده.
وكتب
علي بن محمد العمران
29/ شوال/ 1423 هـ
في مكة المكرمة حرسها الله
(1/7)
الورقة الأولى من نسخة المؤلف (الأصل)
(1/8)
الورقة الأخيرة من نسخة المؤلف (الأصل)
(1/9)
الورقة الأولى من نسخة ألمانيا
(1/10)
الورقة الأخيرة من نسخة ألمانيا
(1/11)
(143/ ب) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
والحمد لله الذي لا يُحْصِي الخلقُ ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسِه، لا يبلغ العارفون كُنْه معرفته، ولا يُقدِّر الواصفون قدرَ صفته.
والحمد لله الذي لا تُشْكَر نعمتُه إلا بنعمتِه، ولا تُنال كرامتُه إلا برحمتِه، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكلِّ شيءٍ عليم.
وهو الله لا إله إلا هو، له الحَمْد فى الأولى والآخِرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
والحمد لله الذي جَعَلَنا من خير أمةٍ أُخْرِجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.
والحمد لله الذي أَكمل لنا ديننا، وأتمَّ علينا نعمتَه، ورضيَ لنا الإسلام دينًا.
والحمد لله الذي بيَّن لنا آياته، ونهانا أن نتَّخِذَها هُزْوًا، وأمرنا أن نذكر نعمته علينا، وما أنزلَ علينا من الكتاب والحكمة يَعِظنا به،
(1/13)
وأن نتَّقِيه، وأن نعلم أنه بكل شيءٍ عليم.
فإنه من تدبَّر هذه الأوامر = تبيَّن له أن فيها جِماع أمر الدين كلِّه، وعلمَ أن من هو بكلِّ شيء عليم لا يخفى عليه الذين يُلْحدون في آياته، ولا الذين يتخذونها هزوًا، ولا يخفى عليه من أظهر خلافَ ما في باطنه، فإن السرائرَ لديه بادية، والسِّرُّ عنده علانية.
فله الحمد كما يُحبه ويرضاه، وكما ينبغي لكريم وجهه وعِزّ جلاله، أحمده حمدًا موافيًا لِنِعَمه، مكافيًا لمزيده، وأستعينه استعانةَ مخلصٍ في توكله، صادق في توحيده، واستهديه إلى صراطه المستقيم صراطِ الذين أنعم عليهم من صفوة عبيده، وأستغفره استغفار من يعلم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه في صدره (1) ووروده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ مُقِرٍّ بأن الدين عند الله الإسلام، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، خاتم النبيين وسيِّد الأنام، صلى الله عليه وعلى آله الصفوة الكرام، وسلَّم عليهم سلامًا باقيًا بقاء دار السلام.
أما بعد؛ فإن الله بعثَ محمدًا بالحق، وأنزلَ عليه الكتاب، وهدى به أمته إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولما كان العبدُ مفتقرًا إلى هذه الهداية في جميع أموره مما يأتيه ويذره؛ من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو محتاجٌ إلى التوبة منها، وأمور هُدِيَ إلى
__________
(1) في “الإبطال”: “صدوره”.
(1/14)
أصلها دون تفصيلها، أو هُدِيَ إليها من وجهٍ دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية ليزاد (1) هدًى، وأمورٍ هو (144/ أ) محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها في المستقبل، مثل ما حصل له في الماضي، وأمورٍ هو خالٍ عن اعتقادٍ فيها، هو محتاج إلى الهداية فيها، وأمورٍ لم يفعلْها، هو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية، إلى غير ذلك من أنواع الحاجات إلى أنواع الهدايات = فُرِضَ (2) عليه أن يسأل اللهَ هذه الهداية في أفضل أحواله – وهي الصلاة – مراتٍ متعددة في اليوم والليلة، وهذه نعمة مغايرة للمغضوب عليهم – اليهود -، وللضالين – النصارى -.
وكان الرسول الرؤوف الرحيم يحذِّر أُمَّتَه سلوكَ سبيل أهل الغضب والضلال، ويلعنهم (3) تحذيرًا للأمة أن يرتكبوا ما ارتكبوه من أنواع المِحال (4)، وينهى عن التشبُّه بهم في استحلال المحرَّم (5) بالاحتيال، لما علمه – صلى الله عليه وسلم – مما أوقعه الله بهم على ذلك من الخِزْي والنكال.
ولما انتهى الكلامُ بنا في المدارسة في الفقه إلى مسائل الشروط في النكاح، وبُيِّن (6) ما كان منها مؤثِرًا في العقد، مُلْحِقًا له بالسِّفاح،
__________
(1) كذا، وفي “الإبطال” و (م): “ليزداد”.
(2) في “الإبطال”: “فَرَضَ الله عليه”.
(3) “الأصل”: “ويعلنهم”!.
(4) أي: أنواع الكيد والمكر، انظر “اللسان”: (11/ 618 – 619).
(5) في بعض نسخ “الإبطال”: “المحارم”.
(6) في “الإبطال”: “وبيان”.
(1/15)
وجرى الكلامُ في مسألتي المتعة والتحليل، وتبين حكمهما بأرشد دليل، وظهرت الخاصَّةُ التي استحقَّ بها المحلِّل اللعنة، ولِمَ سمَّاه الرسول من بين الأزواج بالتيس المستعار، وتبيَّنَتْ مآخِذُ الأئمة تأصيلًا وتفصيلًا على وجه الاستبصار.
فانتبه بعضُ من كان غافلًا من رَقْدَته، وشكى ما بالناس من الحاجة إلى ظهور هذا الحكم ومعرفته؛ لعموم البلوى بهذه القضيَّة الشنيعة، وغَلَبَة الجهل بدلائل المسألة على أكثر المنتسبين إلى علم الشريعة، وسأَلَ أن أُعَلِّق في ذلك ما يكون تَبْصِرةً للمسترشد وحجة للمستنجد، فأجبتُه إجابةَ المتحرِّج من كتمان العلم المسئول، الخائف من نَقْض الميثاق المأخوذ على الذين أوتوا الكتاب وخَلَفُوا الرسولَ، والتمس بعضُ الجماعة مكررًا (1) الالتماس بتقرير القاعدة التي هي للمسألة المذكورة أساس (2)، وهي: بيان حكم الاحتيال على سقوط الحقوق والواجبات، وحل العقود وحل المحرَّمات، بإظهار صورةٍ ليس لها حقيقة عند المحتال، لكن جنسها مشروع لمن قَصَد به ما قصده الشارع من غير اعتلال.
فاعتذرتُ بأن الكلام المفصَّل في هذا يحتاج إلى كتابٍ طويل، ولكن سأدرج في ضمن هذا من الكلامِ الجُمْلي ما يوْصِل إلى معرفة التفصيل، بحيث يتبين للبيب موقع الحيل من دين الإسلام، ومتى حدثت، وكيف كان حال ذلك عند السلف الكرام، وما بلغني من
__________
(1) غير بينة في الأصل، و (م): “تكرر” والمثبت من “الإبطال”.
(2) الأصل: “بأساس” والمثبت من (م) وأصله.
(1/16)
الحجة، بكلامٍ فيه اختصار، واللهُ المسئول أن يوفِّقنا وإخواننا المسلمين لما يحبُّه ويرضاه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكَّلت وإليه أُنِيب، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم.
(144/ ب) مسألةٌ (1)
نكاح المحلِّل باطل حرام، لا يُفيد الحِل، وذلك أن الرجل إذا طلَّق امرأته ثلاثًا، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيرَه، كما ذكره الله في كتابه، وكما جاءت به سنةُ نبيِّه محمد – صلى الله عليه وسلم -، وأجمعت عليه الأمة.
فإذا تزوَّجها رجلٌ بِنيَّة أن يطلِّقها لتحلَّ لزوجها الأول؛ كان هذا النكاح حرامًا باطلًا، سواءٌ عزم بعد ذلك على إمساكها أو فارقَها، وسواءٌ شرط عليه في العقد أو قبل العقد أو لم يشرط عليه لفظًا، بل كان ما بينهما من الخطبة وحال الرجل والمرأة والمهر نازلًا بينهم منزلةَ اللفظ بالشرط، أو لم يكن شيءٌ من ذلك، بل أراد الرجل أن يتزوَّجها ثم يطلقها لِتَحلَّ للمطلِّق ثلاثًا من غير أن تعلم المرأةُ ولا وليُّها شيئًا من ذلك، وسواءٌ عَلِم الزوج المطلِّق أو لم يعلم، مثل أن يظن المحلِّل أن هذا فِعْل خير ومعروف مع المطلِّق ومع امرأته بإعادتها إليه، لمَّا أن الطلاق أضرَّ بهما وبأولادهما وعشيرتهما، ونحو ذلك، بل لا تحل للمطلِّق ثلاثًا إلا أن ينكحها رجلٌ مرتغبًا لنفسه نكاح رغبةٍ لا نكاحَ دُلْسة، ويدخل بها بحيث
__________
(1) “الإبطال”: (ص/ 17).
(1/17)
تذوق عُسَيْلته ويذوق عُسَيلتها، ثم بعد هذا إذا حدثت فُرْقة لموتٍ أو طلاق أو فَسْخ جازَ للأول أن يتزوَّجها.
بل لو أراد هذا المحلِّل أن يقيم معها استأنف النكاح؛ لأن ما مضى عقد فاسد.
هذا هو الذي دلَّ عليه الكتابُ والسنة، وهو المأثور عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعامة التابعين، وعامة فقهاء الإسلام؛ مثل: سعيد بن المسيّب والحسن والنخعي وعطاء، وهؤلاء الأربعة هم أركان التابعين. ومثل: أبي الشعثاء والشعبي وقَتادَة وبكر بن عبد الله المزني، وهو مذهب مالك بن أنس وجميع أصحابه، والأوزاعي والليث بن سعد والثوري، وهؤلاء الأربعة أركان تابعي التابعين، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل في فقهاء الحديث، منهم: إسحاق بن راهويه وأبو عبيد وسليمان بن داود الهاشمي وأبو خيثمة وأبو بكر بن أبي شيبة وغيرهم. وهو قول للشافعي.
قال (1) الإمام أحمد في رواية أبي بكر الأثرم: إذا تزوَّجها يريد التحليل ثم طلَّقها بعد أن دخل بها فرجعت إلى الأول؛ يُفَرَّق بينهما، ليس هذا بنكاحٍ صحيح.
وفي روايته – أيضًا – في الذي يطلِّق ثلاثًا: لا تحلُّ له حتى تنكح زوجًا غيرَه نكاحًا صحيحًا، نكاح رغبة ليس فيه دُلْسة.
وهذا قول عامة أصحابه ومحققيهم، قطعوا بأن المسألة رواية
__________
(1) “الإبطال”: (ص/ 22).
(1/18)
واحدة. وهذا الذي استقرَّ عليه قول القاضي (1) في كتبه المتأخرة، مثل “الجامع” و”الخلاف”.
ومنهم من جعل في المذهب خلافًا، وسنذكر أصله إن شاء الله تعالى.
وقال عبدُ الملك بن حبيب (145/ أ) المالكي: ولو تزوَّجها فإن أعجبته أمسكها وإلا كان قد احتسب في تحليلها (2) للأول؛ لم يَجُز، ولا يُحلِّها ذلك؛ لما خالط نكاحه من نية التحليل.
وقياس قول أكثر أصحابنا أن هذا نكاح صحيح؛ لأنه إنما نوى فراقها إذا لم تعجبه وصار التحليل ضِمْنًا.
فأما من سوَّى من أصحابنا بين نكاح المتعة والتحليل وبين قوله: إن جِئتني بالمهر إلى وقت كذا وإلا فلا نكاح بيننا، فإن قولهم يوافقَ قولَ ابنِ حبيب، فإن هؤلاء يسوُّون بين أن يشترط الفُرْقة في النكاح عينًا أو يشترطها بتقدير عدم المهر.
وللشَّافعي فيما إذا نوى الزوج التحليل ولم يشترط عليه قولان:
أحدهما: مثل قول مالك (3).
والقول الثاني: أن النكاح صحيح (4).
__________
(1) يعني: أبا يعلى بن الفراء.
(2) “الأصل”: “تحليها”! .
(3) وهو قوله القديم.
(4) وهو قوله الجديد، انظر “الأم”: (6/ 206).
(1/19)
ورُوي عن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزِّناد، حكاه عنهم ابنُ عبد البر (1)، وفي القلب من حكاية هذا عنهم حزازة (2)؛ فإن مالكًا أعلمُ الناس بمذاهب المدنيين وأتبعُهم لها، ومذهبه في ذلك شدة المنع، وهؤلاء من أعيان المدنيين، والمعروف عن المدنيين التغليظ في التحليل، قالوا: هو عملهم وعليه اجتماع ملئهم.
وهذا القول الثاني هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وداود بن علي، وقد خرَّج ذلك طائفة من أصحابنا، منهم القاضي في “المجرَّد” وابن عقيل في “الفصول” وغيرهما على وجهين:
أحدهما: أن العقد صحيح مع أنه مكروه، قالوا: لأن أحمد قال: أكرهه، والكراهةُ المطلقةُ منه هل تحمل على التحريم أو على التنزيه؟ على وجهين. وجعلَ الشريفُ أبو جعفر وأبو الخطاب وطائفةٌ المسألةَ على روايتين (3). وقطع ابن البنّا بالصحة مع الكراهة.
وهذا التخريج ضعيف على المذهب من وجهين:
أحدهما: أن الكراهة المنقولة نَقَلها حَرْب: أن أحمد سئل عن الرجل يتزوج المرأة وفي نفسِه طلاقها، فكرهَه، وليس هذا
__________
(1) في “التمهيد”: (13/ 234).
(2) بيَّنها المؤلف في موضع آخر من “الإبطال”: (ص/ 30).
(3) أحدهما: البطلان، كما نقله حنبل.
والثانية: الصحة؛ لأن حربًا نقل عنه أنه كرهه. كما في “الإبطال”: 24.
(1/20)
في (1) نية التحليل، وإنما هو في نية الاستمتاع، وبينهما فَرْق؛ لأن المحلل لا رغبة له في النكاح أصلًا وإنما غرضه إعادتها إلى المطلِّق، والمستمتع له رغبة في النكاح إلى أَمَد، ولهذا أُبيح نكاحُ المتعة في بعض الأوقات ثم حُرِّم، ولم يُبَح التحليلُ قط.
الوجه الثاني: أن أحمد قال: إذا تزوَّجها ومن نِيَّته أن يُطلِّقها: أكرهه، هذا متعة، نقله عبد الله (2).
ونقل أبو داود (3) إذا تزوَّجها على أن يحملها إلى خراسان ثم يخلِّي سبيلها؟ فقال: لا، هذا يُشبه المتعة، حتى يتزوجها على أنها امرأته ما حَيِيَت.
وهذا يُبين أَنَّ هذا كراهة تحريم وأنه جعله متعة، والمتعة حرام عنده، ففي الجملة إذا تزوَّجها ونوى أن يُحِلِّها فلم يُنقل عن أحمد (145/ ب) فيه لفظ محتمل لعدم التحريم.
وأما إذا نوى أن يطلِّقها في وقت، فقد نقل عنه التحريم في روايةٍ تقدمت، وفي الرواية الأُخرى – وهو قوله: “هذا يُشبه المتعة” – يحتمل التحريم ويحتمل الكراهة، لأن المشبَّه دون المشبَّه به.
وأما إذا تواطآ على التحليل قبل العقد، فهو كالمشروط في
__________
(1) (م): “هو في”، وأصله: “وهذا ليس في”.
(2) لم أجده في مسائله المطبوعة.
(3) “المسائل”: (ص/ 230).
(1/21)
العقد عند كثير من هؤلاء، وهو أشْبَه بأَصْلِنا إذا قلنا: إن النية المجرَّدة لا تؤثِّر، فإن الغالب على المذهب: أن الشروط المتقدمة على العقد بمنزلة المقارنة، وهو مفهوم ما خرَّجه أبو الخطاب وغيره؛ لأنه خصَّ الخلاف فيما إذا نوى التحليل ولم يشترطه، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وهو قول هؤلاء التابعين الذين نقل عنهم الرُّخصة في مجرَّد نيَّة التحليل.
فرُوي عن القاسم وأبي الزناد وسالم: لا بأس إذا لم يعلم الزوجان، وهو مأجور، حكاه الطحاوي (1). وكذلك قال ربيعة ويحيى بن سعيد: هو مأجور (2).
وعلى هذا (3)؛ فليس عن أحدٍ من التابعين رخصة في نكاح المحلِّل إذا علمت به المرأة أو الزوج المطلِّق، فضلًا عن اشتراطه. والمشهور في مذهب الشافعي: أن الشرط المتقدم غير مؤثِّر، وكذا ذكره القاضي في “المجرَّد”: أنه عندنا كنية التحليل من غير شرط، وخرَّج فيهما وجهين.
وأما إذا شَرَط التحليل في العقد، فهو باطل، سواء قال: زوَّجتك إلى أن تحلَّها، أو إلى أن تطأها، أو بشرط أنك إذا وَطِئتها فلا نكاح بينكما، أو على أن لا نكاح بينكما إذا أحْلَلْتها، ونحو ذلك من الألفاظ التي أوجبت ارتفاع النكاح إذا تحلَّلت. أو قال:
__________
(1) في “اختلاف العلماء” انظر “مختصره”: (2/ 325) للجصّاص.
(2) ذكره عنهم ابن عبد البر في “التمهيد”: (13/ 234).
(3) من قوله: “وهو أحد الوجهين” إلى هنا ملحق في الهامش.
(1/22)
على أنك تطلِّقها إذا أحللتها، أو على أن يُحلِّها فقط (1).
وهو ظاهر مذهب الشافعي، ويروى عن أبي يوسف.
وقال أبو حنيفة وأصحابُه: النكاحُ صحيحٌ والشرطُ فاسد.
وخرَّج القاضي في موضع من “الخلاف” وأبو الخطَّاب روايةً بصحة العقد وفساد الشرط، كقول أبي حنيفة، ومن أصحابنا من طَرَد التخريج في الصور الثلاث (2)، وهو في غاية الفساد! بل لا يجوز نِسبة مثل هذا إلى أحمد.
ثم عامة هؤلاء الذين لا يُبْطلون العقد يكرهون نكاح المحلل، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، ولم يبلغنا عن أحدٍ خلاف ذلك فيما إذا ظهر من الزوج أنه يريد التحليل.
وزعم داود: أنه لا يبعد أن يكون مرِيد نكاح المطلَّقة ليُحلها لزوجها مأجورًا إذا لم يظهر ذلك باشتراطه حين العقد. واخْتُلِف عن أبي حنيفة وأصحابه إذا صحَّحوا النكاح؛ هل يُفيد الحل أم لا يُفيده وإن كان صحيحًا (3)؛ لأنه استعجل ما أخَّره الشارع فجوزي بنقيض قصده.
فإذا ظهرت المقالات في هذه المسألة؛ فقد تقدَّم أن الذي
__________
(1) من قوله: “أو إلى أن تطأها” إلى هنا ملحق في الهامش.
(2) سيذكرها المؤلف بعد قليل.
(3) عبارة “الإبطال”: ” … فمرة قالوا: لا تحل له بهذا النكاح – وإن كان صحيحًا -، ومرة قالوا: تحل به … “.
(1/23)
عليه الصحابة وعامة السلف التحريم مُطلقًا، ونحن نذكر الأدلة على تحريم نكاح المحلِّل وبطلانه، سواء قَصَدَه فقط، أو قَصَدَه واتفقوا عليه قبل العقد، أو شرط مع ذلك في العقد، ونبين الدلائل على المسألة الأولى، فإن ذلك تنبيه على المسألتين الآخرتين. وهنا طريقان:
أحدهما: الإشارة إلى بطلان الحيل عمومًا.
والثاني: الكلام في خصوصية هذه المسألة.
(146/ أ) الطريق الأولى: أن نقول: إن الله – سبحانه – حرَّم أشياء إما تحريمًا مطلقًا، كتحريم الزنا، أو تحريمًا مقيَّدًا إلى أن يتغيَّر حالٌ من الأحوال، كتحريم نكاح المطلَّقة ثلاثًا، وكتحريم [وطء] (1) المحلوف بطلاقها عند الحنث.
وأوجب أشياء إيجابًا معلَّقًا بأسباب، إما لله كالزكاة ونحوها، أو حقًّا للعباد كالشفعة.
ثم إنه شرع أسبابًا تُفْعل لتحصيل مقاصد، كما شرع العبادات لابتغاء فضله، وكما شرع عقد البيع لنقل الملك بالعِوَض، وعقد القرض لإرفاق المقترض، وعقد النكاح للازدواج والسَّكن والأُلفة بين الزوجين، والخُلْع لحصول البينونة المتضمِّنة لافتداء المرأة من رقِّ بَعْلها، وغير ذلك.
__________
(1) زيادة من “الإبطال”.
(1/24)
فالحيلةُ: أن يقصد سقوطَ الواجب أو حلَّ الحرام بفعلٍ لم يقصد به ما جُعِل ذلك الفعل له أو ما شُرِع له، فهو يريد تغيير الأحكام الشرعية بأسبابٍ لم يقصد بها ما جُعِلت تلك الأسباب لأجله، بل يفعل تلك الأسباب لأجل ما هو تابع لها، لا لأجل ما هو المتبوع المقصود بها، بل يفعل السببَ لما ينافي قصدَه = قَصْدَ حكم السبب، فيصير بمنزلة من طلب ثمرةَ الفعل الشرعيّ ونتيجته وهو لم يأت بقوامه وحقيقته. وهذا خداعٌ لله واستهزاءٌ بآيات الله، وتلاعُب بحدود الله.
وقد دلَّ على تحريم ذلك الكتابُ والسنةُ وإجماعُ السلف الصالح، وعامةُ دعائم الإيمان ومباني الإسلام، ودلائله لا تكاد تنضبط؛ لكن ننبِّه على بعضها، مع أن القول بإبطال الحِيَل في الجملة مأثور عن عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعائشة، وأنس بن مالك.
ومن التابعين: عن سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبيد الله بن عبد الله (1)، وعروة، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد، وعطاء بن أبي رَبَاح، وغيره من فقهاء المكيين، وجابر بن زيد أبي الشعثاء، والحسن، ومحمد بن سيرين، وبكر بن عبد الله (2)، وقتادة، وأصحاب عبد الله بن مسعود، وإبراهيم
__________
(1) ابن عتبة.
(2) المزني.
(1/25)
النخعي، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان (1).
وهو قول أيوب السختياني، وعَمْرو بن دينار، ومالك بن أنس وأصحابه، والأوزاعي، والليث بن سعد، والقاسم بن مَعْن، وسفيان الثوري، وشريك بن عبد الله، وابن عُيينة، وابن المبارك، والفضيل بن عِياض، وحَفْص بن غِياث، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه، ومن لا يُحْصَى (146/ ب) من العلماء، وكلامهم في ذلك يطول.
قال الإمام أحمد في رواية موسى بن سعيد: لا يجوز شيءٌ من الحيل.
وإذا حلف على شيءٍ ثم احتال بحيلةٍ فصار إليه فقد صار إلى ذلك بعينه، رواه الحكم (2).
وقال: ما أخبثهم – يعني: أصحاب الحيل -.
وقال: لا يجوز شيءٌ من الحيل في إبطال حق مسلم – يعني: الشُّفعة -.
وقال: نحن لا نرى الحيل إلا بما يجوز.
قال الميموني: قلت لأحمد في رجلٍ حلف على امرأته وهي على درجة: إن صَعِدْتِ أو نَزَلْتِ فأنت طالق، قالوا: تُحمل حملًا. قال: هذا هو الحِنْث بعينه، ليس هذا حيلة هذا هو الحنث. وقالوا:
__________
(1) في الأصل و (م): “سليم”! .
(2) كذا بالأصل، وفي “الإبطال”: “ابن الحكم” وهو جعفر بن محمد، لكن هذه الرواية بنصها في ترجمة بكر بن محمد النسائي في “طبقات الحنابلة”: (1/ 320)، و”إعلام الموقعين”: (3/ 174 – 175).
(1/26)
حَلَف لا يطأ بساطًا، يُجْعل بساطين. وحَلَف لا يدخل الدار، يُحْمل. فجعل يعجبُ من ذلك؟!.
قلتُ: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا؟ قال: بلى هكذا هو. قلت: وليس هذا مِنَّا حِيْلة؟ قال: نعم (1).
فبيَّنَ الإمامُ أحمد أن من اتبع ما شُرِع له، وجاء عن السلف في معاني الأسماء التي علَّق بها الأحكام، ليس بمحتالٍ الحيلةَ المذمومة، وإن سُمِّيت حِيلة، وغرضه: الفرقُ بين سلوك الطريق المشروعة التي شُرِعت لحصول ذلك المقصود وبين غيرها، كما سيأتي بيانُه، وسيأتي تشديده في سائر أنواع الحِيل واحتجاجه على ردها في أثناء الأدلَّة، فنقول:
الدليل على تحريمها وإبطالها وجوه:
أحدها: أن الله – سبحانه وتعالى – قال في صفة أهل النفاق من مُظهري الإسلام: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)} إلى قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} [البقرة: 8 – 15].
وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]،
__________
(1) هذا المقطع في “الإبطال”: (ص/ 33) بعد قوله: “نحن لا نرى الحيل إلا بما يجوز”، وهو أنسب للمعنى.
(1/27)
وقال في صفة أهل النفاق من أهل العهد: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} الآية [الأنفال: 62].
فأخبر – سبحانه – أن هؤلاء المخادعين يُخدعون (1) وهم لا يشعرون بذلك، وأن الله خادع من يخادعه، وأن المخدوع يكفيه الله شرَّ من خَدَعه.
والمخادعة هي: الاحتيال والمراوغة بإظهار الخير مع إبطان خلافه لتحصيل المقصود. يقال: طريق خَيْدَع، إذا كان مخالفًا للقصد، لا يُفطن له. ويقال: غُوْل خَيْدَع، ويقال للسَّراب: الخيدع، وضَبٌّ خَدِع، أي: مراوغ، وفي المثل: “أخدع من ضب” (2)، وخُلُق خادع، وسوق خادعة، أي: متلوِّنة (147/ أ) والحرب خدعة.
وأصله: الإخفاء والستر. ومنه قيل للخزانة: مُخدع ومِخدع (3)، فلما كان قول القائل: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إنشاءً للإيمان وإخبارًا به، وحقيقته أن يكون صادقًا في هذا الإنشاء والإخبار، بحيث يكون قلبه مطمئنًّا بذلك، وحكمه أن يعصم دمه وماله في الدنيا، وأن يكون له ما للمؤمنين، كان من قال هذه الكلمة غير مُبطن لحقيقتها، بل مريدًا لحكمها وثمرتها فقط = مخادعًا لله ورسوله، وكان جزاؤه أن يُظهر الله له ما يظن أنه كرامة، وفيه عذاب أليم، كما أظهر هو للمؤمنين ما ظنوا أنه إيمان وفي ضمنه الكفر.
__________
(1) أصله: “مخدوعون”.
(2) انظر: “مجمع الأمثال”: (1/ 457).
(3) انظر: “لسان العرب”: (8/ 64 – 65).
(1/28)
وهكذا قول القائل: بعتُ واشتريتُ وأقرضت وأنكحت ونكحت إنشاء للعقد أو إخبارًا به، فإذا لم يكن مقصوده انتقال الملك الذي وُضِعت له هذه الصيغة، ولا ثبوت النكاح الذي جُعِلت له هذه الكلمة، بل مقصوده بعض أحكامها التي قد تحصل ضمنًا وقد لا تحصل. أو قصده ما يُنافي قصد العقد، أو قصده بالعقد شيءٌ آخر خارج عن أحكام العقد، وهو: أن تعود المرأةُ إلى زوجها، أو أن تعود السلعة إلى البائع بأكثر من ذلك الثمن، أو أن تنحلّ يمينه التي حَلَفها، ونحو ذلك. فيكون مخادعًا لله بمباشرته للكلمات التي جُعلت لها حقائق ومقاصد، وهو لا يريد مقاصدها وحقائقها، وهذا ضَرْب من النفاق في آيات الله وحدوده، كما أن الأول نفاق في أصل الدين.
يؤيد ذلك من الأثر ما روي عن ابن عباس أنه جاءه رجلٌ فقال: إن عمِّي طلق امرأته ثلاثًا، أَيُحلها له رجلٌ؟ فقال: “من يُخادع اللهَ يخدعه” رواه سعيد (1).
وحُكِي (2) عن ابن عباس وأنسٍ: أن كلًّا منهما سُئل عن العينة، فقال: إن الله لا يُخدع، هذا مما حرَّمه الله ورسوله (3).
ورُوِيَ عن عثمان وابن عمر وغيرهما: أنهما قالا: لا نكاح إلا نكاح رغبة لا نكاح دُلْسة (4).
__________
(1) هو ابن منصور في “سننه”: (1/ 262).
(2) كذا في الأصل و (م)، وفي “بيان الدليل”: “وسيجيء”.
(3) سيذكرهما المؤلف (ص/ 50، 51) ومن أخرجهما.
(4) أخرجه عنهما البيهقي في “الكبرى”: (7/ 208).
(1/29)
وقد قال أهل اللغة: المدالسة: المخادعة.
قال أيوب السختياني – وناهيك به – في هؤلاء المحتالين: يخادعون الله كأنما يُخادعون الصِّبيان، فلو أتوا الأمرَ على وجهه عيانًا كان أهون عَلَيَّ.
وقال شَريك في “كتاب الحِيَل”: هو كتاب المخادعة.
فالمعاهدون [إذا] أظهروا للرسول أنهم يريدون سِلْمه ومقصودهم المكر به من حيث لا يشعر، بأن يظهروا الأمان وهم يعتقدون أنه ليس بأمان، فقد ابطنوا خلافَ مقصود المعاهدة، كما يُظْهِر (147/ ب) المحلِّل للمسلمين وللمرأة أنه إنما يريد نكاحها وأنه راغبٌ فيها، ومقصوده طلاقها بعد استفراشها، لا ما هو مقصود النكاح، بل عكس ذلك، فَعُلِم أن مخالفة ما يدلُّ عليه العقد لفظًا أو عرفًا خديعة، وأنه حرام.
وتلخيص هذا الوجه: أن مخادعة الله حرام، والحِيل مخادعة، وقد سمَّى ابنُ عباس وغيره ذلك مخادعة – كما تقدم -، والرجوع إليهم في معاني الألفاظ متعيِّن، سواء كانت لغوية أو عرفية أو شرعية.
الوجه الثاني: قوله – سبحانه – لما قال المنافقون: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)}: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} [البقرة: 15]، وقوله: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]، بعد أن ذكر الطلاق والرجعة والخلع والنكاح المحلِّل والنكاح بعده، وغير ذلك، إلى غيره من المواضع؛ فيه دليلٌ على أن الاستهزاء
(1/30)
بدين الله من الكبائر.
والاستهزاء هو السُّخرية، وهو: حَمْل الأقوال والأفعال على الهزل واللعب، لا على الجدِّ والحقيقة. والذي يسخر بالناس هو الذي يذمُّ صفاتهم وأفعالَهم ذمًّا يخرجها به عن درجة الاعتبار، كما سَخِرْوا بالمطَّوِّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم، بأن قالوا: هذا مُرائي، ولقد كان الله غنيًّا عن صاع فلان (1).
فمن تكلَّم بالأقوال التي جعل الشارعُ لها حقائق ومقاصد، مثل كلمة الإيمان، وكلمة الله التي تُسْتَحلُّ بها الفروج، والعهود والمواثيق التي بين المتعاقدين، وهو لا يريد بها حقيقتها المقومة لها، ولا مقاصدها التي جُعِلت هذه الألفاظ محصِّلة لها، بل يريد أن يرتجع المرأة ليضرها ولا حاجةَ له في نكاحها، أو ينكحها ليحلها، أو يخلعها ليلبِسها = فهو مُسْتهزئٌ بآيات الله، فإن العهود والمواثيق من آيات الله، وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله بالأدلة الخاصة.
وإذا كان الاستهزاء بها حرامًا وجبَ إبطالُه وإبطال التصرفات = عدم ترتُّب أثرها عليها، فإذا كان المستهزئ بها غَرضه إنما يتم بصحَّتها وَجَب إبطال هذه الصحة، والحكم ببطلان تلك التصرفات، وإن كان غرضه اللعب بها دون لزوم حكمها، وجب إبطال لعبه بإلزامه أحكامَها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاحُه.
__________
(1) أخرجه الطبري في “تفسيره”: (6/ 430).
(1/31)
الوجه الثالث: أن الله – سبحانه – أخبر عن أهل الجنة الذين بلاهم بما بلاهم به في “سورة نون” وهم قوم كان للمساكين حقٌّ في (148/ أ) أموالهم إذا جذُّوا نهارًا بأن يلتقط المساكين ما يتساقط من الثَّمَر، فأرادوا أن يجذُّوا ليلًا ليسقط ذلك الحق ولئلّا يأتيهم مسكين، فأرسل الله على جنتهم طائفًا وهم نائمون، فأصبحت كالصريم، عقوبةً لهم على احتيالهم على منع حق الله تعالى الذي كان للمساكين، ففي ذلك عبرة لكل محتال على منع حق الله أو لعباده؛ من زكاة أو شُفعة.
وقصة هؤلاء معروفة – كما ذكرناه -.
على أنَّ في التنزيل ما يكفي في الدلالة، فإن هؤلاء لو لم يكونوا أرادوا منع واجب لم يعاقبوا بمنع التطوّع؛ لأن الذَّمَّ والعقوبة إنما تكون على فعل المحرَّم أو ترك الواجب.
ثم لو (1) كانوا عوقبوا على الاحتيال على منع المستحبِّ، ففيه تنبيه على العقوبة على ترك الواجب، ولا يجوز أن تكون العقوبة على ترك الاستثناء وحدَه، فإن هذا إنما يُعاقَب صاحبه بمنع الفعل، بأن يُبتلى بما يشغله عنه، أما عقوبته بإهلاك ماله؛ فلا.
وأيضًا: فإنه – سبحانه – قال: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] بعد أن قال: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [القلم: 10 – 12]؛ ولأن الله قصَّ عنهم أنهم: {أَقْسَمُوا
__________
(1) في “الإبطال”: “إن”.
(1/32)
لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)} [القلم: 17، 18]، وأنهم: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)} [القلم: 23, 24].
فعُلِم أنَّ جميع هذه الأمور لها تأثير في العقوبة، فعُلِم أنها محرَّمة؛ لأن ذِكْر ما لا تأثير له في الحكم مع المؤثِّر غير جائزٍ، كما لو ذكر مع هذا أنهم أكلوا وشربوا. وهم لم يمنعوه بعدَ وجوبه؛ لأنه لو كان قد وجب، لم يكن فرقٌ بين صَرْمه بالليل و [صرمه بـ] النهار، وإنما قصدوا بالصرم ليلًا الفرار مما كان للمساكين فيه من اللقاط، فعُلِم أن الأمر كما ذكره المفسِّرون من أن حق المساكين إنما كان فيما تساقط، ولم يكن شيئًا مؤقتًا. ووجوب هذا مشروط بسقوطه وحضور من يأخذه، كأنَّ الساقط عفو المال وفضله، وحضورُ أهل الحاجة بمنزلة السؤال، ومثل هذه الحال يجب فيها ما لا يجب في غيرها، كما يجب قِرَى الضيف، وإطعام المضطر، ونفقة الأقارب، وحَمْل العقل، ونحو ذلك.
فيكون هذا فِرارًا من حقٍّ فد انعقد سببُ وجوبه قبل وقت وجوبه، فهو مثل فرار المزكِّي قبل حَؤول الحول وبعد ملك النِّصاب، والفرارُ من قِرى الضيف قبل حضوره، ومن الشُّفعة بعد إرادة البيع وقبل تمامه، ونحو ذلك.
الوجه الرابع: أنه – سبحانه – قال في كتابه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ (148/ ب) فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)} [البقرة: 65, 66].
وقال في موضعٍ آخر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا
(1/33)
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: 47]، وقال: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ … } إلى قوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: 163 – 166].
وقد ذكر جماعة من العلماء – من الفقهاء وأهل التفسير -: أنهم احتالوا على الصيد يوم السبت بحيلة يخيل بها في الظاهر أنهم لم يصيدوا في يوم السبت، حتى قال أبو بكر الآجرِّي: لقد مسخ الله اليهود قردة بدون هذه الحِيَل الربوية.
وقال الإمام أبو يعقوب الجُوْزجاني – لما استدلَّ على إبطال الحيل -: وهل أصابَ الطائفة من بني إسرائيل المسخُ إلا باحتيالهم على أمر الله، بأن حظَّروا الحظاير على الحيتان في يوم سبتهم فمنعوها الانتشار يومها إلى الأحد، فأخذوها.
وكذلك السلسلة التي كانت تأخذ بعنق الظالم (1)، فاحتال لها صاحب الدُّرَّة إذ صيّرها في قصبةٍ ثم دفعها بالقصبة إلى خصمه، وتقدم إلى السلسلة ليأخذها فرُفِعَت.
قال بعض الأئمة: في هذه الآية مَزْجرة عظيمة للمتعاطين الحِيَلَ على المناهي الشرعية ممن يتلبَّس بعلم الفقه وليس بفقيه؛ إذ الفقيه من يخشى اللهَ في الربويات والتحليل باستعارة المحلِّل
__________
(1) أخرج خبر السلسلة ابن عساكر في “تاريخ دمشق”: (17/ 103) عن وهب بن منبِّه، وانظر “مصنف عبد الرزاق”: (8/ 276).
(1/34)
للمطلَّقات، والخلع لحل ما لزم من الطَّلَقات المعلَّقات، إلى غير ذلك من العظائم التي لو اعتمد بعضها مخلوق في حق مخلوق؛ لكان في نهاية القُبْح، فكيف بمن يعلم السرَّ وأخفى؟ ! .
وقد ذكر القصة غيرُ واحدٍ من مشاهير المفسِّرين (1) بمعنًى متقارب عن ابن مسعودٍ وغيره من الصحابة، قال: كانت الحيتان تأتي يوم السبت حتى تخرج خراطيمها من الماء، فإذا كان يوم الأحد لم يُر منهنَّ شيءٌ، فذلك قوله تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} [الأعراف: 163] وقد حرَّم الله عليهم أن يعملوا شيئًا في يوم السبت. فجعل يحفر الرجلُ الحُفَيْرةَ (2) ويجعل لها نهرًا إلى البحر، فإذا كان يوم السبت أَقْبَلْ الموج بالحيتان فيلقيها بالحفيرة، فلا يمكن الحوت الخروج منها لقلَّة الماء فيه، فإذا كان يوم الأحد جاءَ فأخذه.
وقيل: كانوا ينصبون الحبائل والشُّصُوص (3) يوم الجمعة ويُخرجونها يوم الأحد. ذكر هذا الوجه القاضي أبو يعلى (4). فلما فعلوا ذلك صاروا ثلاث فرق، فرقة أمسكت ونهت غيرها عن ذلك، وفرقة أمسكت ولم تَنْه، وفرقة أُخرى انتهكت الحرمة، وتمام القصة مشهور.
فدلَّ ذلك على أنهم إنما أخذوها بنوع من التأويل استحلوا به
__________
(1) كابن جرير: (6/ 98 – 99)، وابن المنذر وابن أبي حاتم وعبد الرزاق وغيرهم – كما في “الدر المنثور: 3/ 251 – 252” -.
(2) كذا في الأصل، و”الإبطال”، وفي (م): “يحظر الرجل الحظيرة”.
(3) الشّصّ: حديدة عقفاء يُصاد بها السمك. انظر “اللسان”: (7/ 48).
(4) لعله في “إبطال الحيل” والكتاب في حكم المفقود.
(1/35)
ذلك، ومعلومٌ أنهم لم يستحلُّوها تكذيبًا لموسى وكفرًا بالتوراة، وإنما هو استحلال بتأويل واحتيال ظاهره ظاهر الاتقاء، وحقيقته حقيقة الاعتداء؛ ولهذا – والله أعلم – مُسِخوا قردة؛ لأن صورةَ القرد فيها شَبَه من صورة الإنسان، وهو مخالف له في الحدِّ والحقيقة، فلما مَسَخُوا دينَ الله بحيث لم يتمسَّكوا إلا بما يُشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته، مَسَخهم الله قردةً يُشبهونهم في بعض ظواهرهم دون الحقيقة جزاءً وِفاقًا.
يقوِّي ذلك: أن بني إسرائيل أكلوا الرِّبا وأكلوا أموالَ الناس بالباطل كما قصَّه الله عنهم، ولم يمسخ منهم غير الذين اعتدوا في السبت، مع أن أكل الربا أعظم إثمًا؛ ولكن لما كانوا بمنزلة المنافقين، وهم لا يعترفون بالذنب، بل فسدت عقيدتهم وأعمالهم، فكانوا أعظم جُرْمًا من أُولئك، كما قال أيوب (1): “لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون”. فكانت عقوبتهم أعظم من عقوبة غيرهم، فإن من أكلَ الربا أو الصيدَ المحرم مع علمه بالتحريم، فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم، وهذا إيمان بالله وآياته.
ويترتب على ذلك من خشية الله ورجاء مغفرته وإمكان التوبة ما قد يُفضي به إلى الخير، وأما من أكله مستحلًّا بنوع احتيال، فلا يزال مصرًّا على الحرام مع اعتقاده الفاسد حل الحرام، وذلك يُفضي إلى شرٍّ طويل.
ولذلك حذَّر – صلى الله عليه وسلم – أمته ذلك فقال: “لا تَرْتكبوا ما ارتكبتِ
__________
(1) هو السختياني، وتقدمت عبارته بتمامها.
(1/36)
اليهودُ فتستحلَّوا محارمَ اللهِ بأَدْنَى الحِيَل” (1).
وقد روى البَرْقاني وأبو داود: “ليكوننَّ من أمتي أقوام يَسْتحلُّون الحر والحرير يُمْسَخ منهم قردةً وخنازير إلى يوم القيامة” (2)، فيكون استحلالهم الخمر بمعنى أنهم يشربون بعض الأنبذة ويسمُّونها بغير اسمها، كما ذكره – صلى الله عليه وسلم -. وأيضًا: يستحلون المعازف بنوع تأويل، وأنها تشبه أصوات الطير، وكذلك الخز (3) قياسًا على حالة الحرب، وهذه التأويلات واقعة في الطوائف الثلاثة، التي قال فيها ابنُ المبارك:
وهل أفسدَ الدينَ إلا الملوك … وأحبارُ سوءٍ ورُهْبانُها
ومعلوم أنها لا تغني عن أصحابها شيئًا بعد أن بلَّغ الرسول وبيَّن تحريم هذه الأشياء (149/ ب) بيانًا قاطعًا للعذر.
ثم رأيتُ هذا المعنى قد قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال: “ليشربَنَّ ناسٌ من أُمتي الخمرَ يُسَمُّونها بغير اسمها، يُعْزَف على رؤوسهم بالمعازف والقيان، يخسفُ اللهُ بهم الأرضَ ويجعل منهم القِرَدة والخنازير” رواه أبو داود وابن ماجه (4).
__________
(1) سيأتي تخريجه، وسياق سنده، والحكم عليه (ص/ 42).
(2) أخرجه البرقاني – مسندًا – في مستخرجه على البخاري.
وأبو داود – مختصرًا بهذا اللفظ – رقم (4039).
والبخاري في الصحيح – معلقًا – رقم (5590) بسياق أتم، وانظر ما سيأتي (ص/45).
(3) كذا في الأصل و (م)، وفي “بيان الدليل”: “الحرير”.
(4) سيأتي تخريجه (ص/ 45).
(1/37)
فقد قال بعد ذلك: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)} [البقرة: 66]، قالوا: للمتقين من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم -، فلا تفعلوا مثل فعالهم. فحقيق بالمؤمن أن يحذر استحلال محارم الله بأدنى الحِيَل، وأن يعلم أن ذلك أشد (1) أسباب العقوبة.
ومن العجب العُجاب: أن هذه الحيلة التي احتالها أصحاب السبت في الصيد قد فعلها طوائف من المفتِيْن، حتى تعدَّى ذلك إلى الحنبلية، فقالوا: إن الرجل إذا نصب شبكةً قبل أن يُحْرِم ليقع فيه الصيد بعد إحرامه ثم أخذه بعد حِلِّه لم يَحْرُم، وهذه بعينها حيلة أصحاب السبت. وفي ذلك تصديق قوله تعالى: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69]، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: “لتتبعنَّ سَنَنَ من كان قبلكم حَذْو القُذَّة بالقذة … ” الحديث (2)، وهو صحيح.
وهذا كله يدلّ على أن الحِيَل من أعظم المحرمات في دين الله تعالى.
الوجه الخامس: قوله – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّما الأعمالُ بالنياتِ وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هِجْرته إلى اللهِ ورسوله فهجرتُه إلى اللهِ ورسولِه … ” الحديث (3).
__________
(1) “الإبطال”: “من أشد”.
(2) أخرجه البخاري رقم (3456)، ومسلم رقم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -.
(3) أخرجه البخاري رقم (1)، ومسلم رقم (1907) من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -.
(1/38)
وهو أصلٌ في إبطال الحِيَل، وبه احتجَّ البخاريُّ على ذلك (1)، فإن من أراد أن يعامل الرجلَ معاملةً يُعطيه فيها ألفًا بألف وخمس مئة إلى أجلٍ، فأقرضه تسع مئة وباعه ثوبًا بست مئة يساوي مئة، إنما نوى بإقراضِه التسع مئة تحصيلَ ما ربحه في الثوب، وإنما نوى بالستِّ مئة التي أظهر أنها ثمن أن أكثرها ربح التسع مئة، فلا يكون له من عمله إلا ما نواه بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -.
وهذا مقصودٌ فاسد غير جائز، فإذا كان إنما باع الثوب بستّ مئة مثلًا؛ لأن الخمس مئة ربح التسع مئة التي أعطاه أياها دراهم، فهذا مقصودٌ محرم، فيكون مهدرًا، فلا تترتَّب عليه أحكام البيع الصالح والقرض، كما أن مُهاجِر أُم قيس ليس له من أحكام الهجرة الشرعية شيءٌ. وكذا المحلل إنما نوى أن يطلِّق المرأة لتحلَّ للأول، ولم ينو أن يتخذها زوجة، فلا تكون له بزوجة، فلا تحلُّ له ولا للأوَّل، وهذا ظاهر.
الوجه (150/ أ) السادس: ما روى سفيان بن حسين وسعيد بن بشير، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “من أدْخَلَ فرسًا بين فرسينِ وهو لا يأْمَنُ أنْ يَسْبِق فليسَ بقمارٍ، وإن أَمِنَ أنْ يَسْبِق فهو قِمار” رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (2).
__________
(1) في الصحيح رقم (6953) كتاب الحِيل، بابٌ في ترك الحيل، وأنّ لكل امرئٍ ما نوى في الأيمان وغيرها. ثم ساق الحديث.
(2) أخرجه أحمد: (16/ 327 رقم 10557)، وأبو داود رقم (2579)، وابن =
(1/39)
وابنُ حسين قد خرَّج له مسلم، وقال فيه ابن معين: ثقة، وقال مرَّةً: ليس به بأس (1). وقال الإمام أحمد: ليس هو بذاك في حديثه عن الزهري (2). وكذلك قال ابن معين: في حديثه ضعف ما روى عن الزهري (3).
وهذا الذي قالوه؛ لأنه قد يروي أشياء يخالف فيها الناس، وهذا يوجب التوقُّف في روايته إذا خالفه من هو أوثق منه، فأما إذا روى حديثًا مستقلًّا وقد وافقه عليه غيره فقد زال المحذور، وظهر أن للحديث أصلًا بمتابعة غيره له.
ووجه الدلالة: أنه حرَّم إخراج السبق من المتسابقين معًا؛ لأنه قمار، إذ كان كل منهما بين أن يأخذ من الآخر أو يعطيه، فإذا أدخلا ثالثًا كان لهما حالٌ ثانية، وهو: أن يُعطيا جميعًا الثالث، فيكون الثالث له جُعْل على سَبْقه، فيكون من جنس الجعالة، فلما كان الأمر كذلك لم يرض النبي – صلى الله عليه وسلم – بصورة الثالث، حتى يكون فرسًا يحصل معه المقصود وهو انتفاء القمار، بأن يكون يخاف منه أن يسبق فيأخذ السبقين.
__________
= ماجه رقم (2876)، والدارقطني: (4/ 111)، والبيهقي: (10/ 20)، والحاكم: (2/ 114) وغيرهم.
انظر في الكلام على الحديث: “الكامل”: (3/ 372) لابن عدي، و”التلخيص”: (4/ 180).
(1) “التاريخ – رواية الدوري”: (2/ 210 – 211).
(2) “العلل – رواية المروذي” رقم (28).
(3) رواية الدارمي رقم (19).
(1/40)
ومن جوَّز الحِيَل فإنه بين أمرين، إما أن يجوِّز هذا فيكون مخالفًا للرسول، أو لا يجوِّزه. فمن المعلوم أن قياس قوله جوازه بطريق الأَوْلى، فإنه لا يعتبر قَصْد المتعاقدين في العقود، ولا يعتبر ما يقتضيه العُرْف في العقود، بل يجوز أن يُباع ما يساوي مئة ألف بدرهم، مع القطع بأنما ذاك لما يقابل المئة ألف من دراهم أكثر منها أُخِذت باسم القرض وهي ربا.
ويجوز أن تُنكح الوسيطة [في قومها] من بعض الأراذل بعِوَضٍ يُبْذَل له في الحقيقة على ذلك، ومعلوم أن هذا ليس فعل من يريد النكاح.
الوجه السابع: ما روى عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “البائع (1) والمبتاع بالخيار حتى يتفرَّقا، إلا أن تكون صَفْقَة خيارٍ، ولا يحلُّ له أن يُفارقه خشْيَةَ أن يَسْتَقِيْلَه” رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي (2)، وقال: حسن.
قال الإمام أحمد: فيه إبطال الحِيَل (3).
فلما كان الشارع قد أثبت الخيار إلى حين التفرّق (150/ ب) الذي يفعله المتعاقدان بشؤم طباعهما، حرَّم – صلى الله عليه وسلم – أن يقصد الفِراق خَشْيةٍ أن يستقيله؛ لأنه يكون قصد بالتفرُّق غير ما جُعِل التفرُّق له عُرْفًا من إسقاط حق المسلم.
__________
(1) في الأصل و (م): “البيع”!.
(2) أخرجه أحمد: (11/ 330 رقم 6721)، وأبو داود رقم (3456)، والنسائي: (7/ 251)، والترمذي رقم (1247).
(3) نقله عنه الأثرم، كما في “إبطال الحيل” لابن بطة رقم (60) تحقيق سليمان العمير.
(1/41)
الوجه الثامن: ما روى محمد بن عَمْرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا ترتكبوا (1) ما ارْتكَبتِ اليهودُ فتَسْتَحِلُّوا محارمَ اللهِ بأَدْنى الحِيَلِ”.
رواه ابنُ بطة (2)، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم ثنا الحسن بن الصبَّاح الزعفراني، ثنا يزيد بن هارون، ثنا محمد بن عَمْرو.
وهذا إسنادٌ جيِّد يُصحِّح مثلَه الترمذيُّ وغيره (3). وقد تقدم ما يشهد له من قصَّة أصحاب السبت.
وهذا نصٌّ في تحريم استحلال محارم الله بالاحتيال، وإنما قال: “بأدنى الحِيَل”؛ لأن المطلِّق ثلاثًا من أسهل الأشياء عليه أن يُعطي بعضَ السفهاءِ عشرة دراهم ويستعيره لِيَنْزُوَ عليها، بخلاف الطريق الشرعي من نكاح الرَّغبة، فإن ذلك يصعُب (4)، وهكذا سائر أبواب الحِيَل.
وأيضًا: فإنه نهانا عن التشبُّه باليهود، وقد كانوا احتالوا في الاصطياد يوم السبت – كما ذكرنا -.
__________
(1) الأصل: لا تركبوا.
(2) في “إبطال الحيل” رقم (56).
(3) والحديث حسَّنَه الحافظ ابن القيم في “تهذيب السنن”: (5/ 103)، و”إغاثة اللهفان”: (1/ 313) وقال بمثل ما قال شيخُ الإسلام الحافظُ ابن كثير في تفسيره: (1/ 290)، (4/ 1498) وانظر “الدر المنثور”: (3/ 592)، و”إرواء الغليل”: (5/ 375).
(4) تمام العبارة في “الإبطال”: “فإن ذلك يصعُب معه عودُها حلالًا، إذ من الممكن أن لا يطلِّق، بل أن يموت المطلِّق أولًا قبله”.
(1/42)
ومن احتيالهم: لمَّا حرَّم اللهُ عليهم أكلَ الشحوم، تأوَّلوا أن المراد نفس إدخاله الفم، وأن الشحمَ هو الجامد، فجملوه فباعوه وأكلوا ثمنه. وقالوا: ما أكلنا الشحم، ولم ينظروا في أن الله إذا حرَّم شيئًا فلا فرق بين الانتفاع بعينه أو ببدله، إذ البَدَل يسدُّ مسدَّه، ولا فَرْق بين حال جموده وذَوْبه، وهذا هو:
الوجه التاسع: وهو ما روى ابنُ عباس قال: بلغ عمر أن فلانًا باع الخمر، فقال: قاتل الله فلانًا، ألم يعلم أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “قاتلَ اللهُ اليهودَ حُرِّمت عليهم الشحومُ فجملُوها فباعُوها” متفق عليه (1).
قال الخطَّابي (2): جملوها: أذابوها حتى تصير ودكًا ويزول عنها اسم الشحم.
قال الإمام أحمد (3): هذه الحِيَل التي وضعها هؤلاء فلانٌ وأصحابُه، عَمَدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها.
وقال الخطَّابي: في هذا الحديث بطلان كل حيلة، وأنه لا يتغيَّر الحكمُ بتغيُّرِ الاسم وتبديله باسمٍ آخر.
فوَجْه الدلالة: أنهم احتالوا على الانتفاع بالشحم على وجهٍ
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2223)، ومسلم رقم (1582).
(2) في “معالم السنن”: (3/ 757 – بهامش سنن أبي داود)، وانظر: “أعلام الحديث”: (2/ 1100، 3/ 1566) له.
(3) في رواية صالح 2/ 486 و 3/ 130، كما في “الإبطال”: (ص/58) وقد ذكر رواية صالح بالمعنى وجعل لفظ الميموني لهما جميعًا. ورواية أبي الحارث كما في “إبطال الحيل”: (ص/ 52) لابن بطة.
(1/43)
لا يُقال في الظاهر: إنهم انتفعوا بالشحم، فجملوه، وقصدوا بذلك أن يزول اسمُه، فلَعَنَهم اللهُ علِى ذلك نظرًا إلى المقصود، فإن التحريم لا يختلف مع جموده وذَوْبِه.
(151/ أ) ولمن يجوِّز الحِيل في باب الإيمان من هذا الضرب فنون كثيرة، يعلِّقون الحكم فيها بمجرَّد اللفظ، من غير التفاتٍ إلى المقصود، فيقعون في مثل ما وقعت اليهود سواء، ولكن المنع هنا من جهة الشارع، وهناك من جهة الحالف، ولولا أن الله رَحِم هذه الأمة بأن نبيها – صلى الله عليه وسلم – نبَّههم على ما لعنت به اليهود، وكان السابقون فقهاء أتقياء علموا مقصود الشارع، فاستقرت الشريعة بتحريم المحرَّمات، من الدم والميتة ولحم الخنزير، وإن تبدَّلت صورها، لَطَرَّقَ الشيطانُ لأهل الحِيَل ما طَرَّق لهم في الإيمان ونحوها، إذ البابان بابٌ واحد على ما لا يخفى، وأيُّ فرقٍ بين ما فعلت اليهود وبين أن يريد رجلٌ أن يَهَبَ رجلًا شيئًا، فيريد أن يقطعَ عنه مِنَّته فيقول: والله لا آخذ هذا فيبيع (1) ذلك ويأخذ ثمنَه، أو يفصِّله قميصًا ثم يأخذه ويقول: ما أخذتُ الثوبَ.
ومما يبيِّن أن فِعْل أرباب الحيل مثل فِعْل اليهود:
الوجهُ العاشر: ما روى معاوية بن (2) صالح، عن حاتم بن حريث، عن مالك بن أبي مريم قال: دخل علينا عبد الرحمن بن
__________
(1) في الأصل و (م): “فيباع”.
(2) في الأصل و (م): “بن أبي” وكذا في الموضع بعده، وهو خطأ.
(1/44)
غَنْم فتذاكرنا الطِّلاء، فقال: حدثني أبو مالك أنه سمع رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “ليشربَنَّ ناسٌ من أُمتي الخمرَ يُسَمُّونها بغير اسمها، يُعْزَف على رؤوسِهم بالمعازفِ والمغنِّيات، يَخْسِف الله بهم الأرضَ ويَجْعَلُ منهم القِرَدَةَ والخنازيرَ”.
رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه (1)، ولم يذكر أحمد وأبو داود من عند “يُعْزَف” إلى آخره.
وإسناد ابن ماجه إلى معاوية بن صالح صحيح، وسائر إسناده حَسَن، وله أصل في “الصحيح”.
قال البخاري (2): قال هشام بن عمَّار: ثنا صَدَقة بن خالد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عطية بن قيس، عن عبد الرحمن بن غَنْم، حدثني أبو عامر – أو أبو مالك – سَمِع النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – يقول: “لَيكُوْنَنَّ من أُمَّتي أقوامٌ يستحلُّوْنَ الحِرَ (3) والحريرَ والخمْرَ والمعازِفَ،
__________
(1) أخرجه أحمد: (5/ 342)، وأبو داود رقم (3688)، وابن ماجه رقم (4020) وغيرهم.
والحديث صححه ابن حبان، والمصنف وله شواهد كثيرة، انظر: “فتح الباري”: (10/ 54).
(2) رقم (5590).
(3) الأصل و (م): “الخَّزّ” بمعجمتين، لكن رواية البخاري بالحاء المهملة المكسورة والراء الخفيفة، قال الحافظ في “الفتح”: (10/ 57): “كذا هو في معظم الروايات من صحيح البخاري، ولم يذكر عياض ومن تبعه غيره، وأغرب ابن التين فقال: إنه عند البخاري بالمعجمتين، وقال ابن العربي: هو بالمعجمتين تصحيف … ” اهـ.
(1/45)
ولينزِلَنَّ أقوامٌ إلى جنبِ عَلَم تروح عليهم بسارحة لهم تأتيهم لحاجةٍ فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيُبَيِّتُهم اللهُ ويضعُ العلمَ، ويمسخُ آخرينَ قِرَدةً وخنازيرَ إلى يومِ القيامَةِ”.
هكذا رواه البخاري تعليقًا مجزومًا به، وعُرْفُه إذا قال: “قال فلان كذا” فهو من الصحيح المشروط، وإنما لم يُسْنِدْه؛ لأنه قد يكون عنده نازلًا (151/ ب) أوْ لا يذكر من سمعه منه، مع علمه باشتهار الحديث عن ذلك الرجل، أو لغير ذلك. وإذا قال: رُوِي أو يُذكر، لم يكن من شرط كتابه، لكن يكون من الحسن.
والخزُّ (1) – بالخاء والزاي المعجمتين – نوعٌ من الحرير، ليس هو الخز المأذون في لبسه، المنسوج من صوفٍ وحرير.
وقوله: “لينزلَنَّ أقوامٌ” يعني: من هؤلاء المستحلِّين، والمعنى: أن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب جبل، فيواعدهم رجلٌ إلى الغد، فيُبَيَّتُهم الله – سبحانه – ليلًا، ويمسخ منهم آخرين.
كما ذكر المضمر (2) في حديث أبي داود حيث قال: “يمسَخُ منهم آخرين”، والخَسْف المذكور في هذا الحديث – والله أعلم -: التَّبْييت في الحديث الآخر؛ لأنه الاتيان بالبأس بالليل، فهذا نصُّ
__________
(1) اختصر البعليُّ الكلامَ هنا، فأوهم أن تفسير “الخز” هنا هو لرواية البخاري السابقة، وليس كذلك، ففي أصله – بيان الدليل – ساق شيخُ الإسلام بعضَ ألفاظ حديث المعازف – غير رواية البخاري – ومنها لفظ أبي داود (رقم 4039): “ليكونن من أُمتي أقوام يستحلون الخزّ والحرير … ” الحديثَ. ثم شرح هذا اللفظ …
(2) في “بيان الدليل”: “الضمير”.
(1/46)
رسول الله: أن هؤلاء المستحلين هذه المحارم كانوا متأوِّلين فيها، حيث زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر وإنما له اسمٌ آخر، إما النبيذ أو غيره.
ومعلومٌ أن هذا هو تأويل طائفةٍ من الكوفيين مع فضل بعضهم وعلمه ودينه، حتى قال قائلهم (1):
دع الخمر يشربْها الغواةُ فإنني … رأيتُ أخاها قائمًا في مكانها
فإِلَّا يَكُنْها أو تكُنْهُ فإِنَّه … أخوها غَذَتْه أُمُّه بِلِبَانِها
ولقد صدق فيما قال، فإن النبيذ [و] إن لم يُسَمَّ خمرًا فإنه من جنس الخمر في المعنى، فكيف وقد ثبتَ أنه يسمَّى خمرًا؟ ! فلما ظنوا انتفاء الاسم استحلوها ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته، وهذا بِعَينه شبهة اليهود في استحلال بيع الشحم بعد جَمْلِه، وأخذ الحيتان يوم الأحد – كما تقدم ذكره -.
وروى ابنُ بطة (2) بإسناده عن الأوزاعي، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “يأتي على الناس زمانٌ يستحلُّونَ الرِّبا بالبيع” – يعني العِيْنة -.
__________
(1) هو أبو الأسود الدؤلي “ديوانه”: (ص/ 189)، وانظر “إصلاح المنطق”: (ص/ 297)، و”أدب الكاتب”: (ص / 407).
(2) هذا النص لا يوجد في طبعات “إبطال الحيل” الثلاث، فلعلّ النسخة الأصلية فيها نقص، أو له رواية أخرى، أو سقط سهوًا في الطباعة. وساقه شيخ الإسلام في “الإبطال”: 66، لبيان أنه – صلى الله عليه وسلم – أخبر عن استحلال الربا باسم البيع كما أخبر عن استحلال الخمر باسم آخر، وذكر الحديث، كما هنا بدون إسناد.
(1/47)
وهذا المرسل يصلح للاعتضاد باتفاق الفقهاء، ويشهد له من المسند أحاديثُ العِيْنة، وسنذكرها، فإنه من المعلوم أن مستحلَّ العينةِ إنما يُسمِّيها بيعًا، وفي هذا الحديث أنها ربا لا بيع.
وروى إبراهيمُ الحربيُّ حديثًا عن أبي ثعلبة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “أولُ ديِنكم نبوَّةٌ ورحمة، ثم مُلْك ورَحْمة، ثم مُلْك وجَبْرية، ثم مُلك عَضُوض يُسْتَحَلُّ فيه الحِرَ والحريرَ” (1).
يُريد استحلال الفروج من الحرام؛ لأن “الحِرَ” – بالكسر – هو الفرج. ويُشبه أن يكون أراد ظهور نكاح المحلِّل واستحلال خلع اليمين ونحوه، والله أعلم. فإنَّ الأمةَ لم يستحلَّ أحدٌ منها الزنا الصريح (2)، ولم يُرِد فِعْل الزنا؛ لأن هذا لم يزل موجودًا. ثم لفظ الاستحلال يُشْعِر أنه فيمن اعتقد الشيءَ حلالًا والواقعُ كذلك (3).
فمن تأمَّلَ ما أخبر به رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – ناهيًا عنه مما سيكون في
__________
(1) أخرجه الدارمي: (2/ 155)، ونعيم بن حماد في “الفتن”: (1/ 98)، والبزار “الكشف”: رقم (1589)، والطبراني في “الكبير”: (22/ رقم 591).
قال الهيثمي في “المجمع”: (5/ 192): “رواه أبو يعلى والبزار عن أبي عبيدة وحده قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: إن أول دينكم بدأ نبوّة ورحمة، فذكر نحوه. ورواه الطبراني عن معاذ وأبي عبيدة قالا: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكر نحو حديث أبي يعلى، وزاد: “يستحلون الحرير والفروج والخمور، وفيه ليث بن أبي سُلَيم، وهو ثقة ولكنه مدلّس، وبقية رجاله ثقات” اهـ.
(2) هذا في عصر الشيخ وما قبله، أما في هذه العصور المتأخرة، فقد وقع ذلك جهارًا نهارًا، فلا قوة إلا بالله! ! .
(3) انظر شرح هذا الواقع في “الإبطال”: (ص/ 67 – 68).
(1/48)
الأمة (1) من استحلال المحرَّمات (152/ أ) بأن يسلبوا عنها اسمها الذي حَرُمت به، وما فعلته اليهود علمَ قطعًا أنَّ هذين من مشكاةٍ واحدة، وأن ذلك تصديق قوله: “لتتبعُنَّ سَنَن من كان قَبْلَكُم” (2)، وعلم أن أكثر الحِيَل من هذا الجنس، لا سيما مع قوله – صلى الله عليه وسلم -: “لا ترتكبوا ما ارتكبتِ اليهودُ فتَسْتَحِلُّوا محارمَ اللهِ بأدنى الحِيَل” (3)، والله الهادي إلى الحق.
الوجه الحادي عشر: ما روى ابن عمر قال: سمعت رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إذا ظنَّ الناسُ بالدينارِ والدِّرْهم، وتبايعوا بالعِيْنَة، واتَّبعوا أذنابَ البقر، وتركوا الجهادَ في سبيلِ اللهِ؛ أنزلَ اللهُ بهم بلاءً فلا يرفعه حتى يُرَاجِعوا دينَهم” رواه الإمام أحمد في “المسند” (4)، وأبو داود (5) بإسنادٍ حسن.
قال أحمد: ثنا أسود بن عامر، ثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر.
وإسناد أبي داود صحيح إلى حَيْوة بن شريح، عن إسحاق أبي عبد الرحمن الخراسانى، أن عطاءً الخراسانى حدَّثه أن نافعًا حدَّثه عن ابن عمر (6).
__________
(1) الأصل: “الأ” وهو سهو.
(2) تقدم تخريجه ص/ 38.
(3) تقدم تخريجه ص/ 42.
(4) (8/ 440 رقم 4825).
(5) رقم (3462).
(6) وانظر بقية كلام شيخ الإسلام على الحديث في الإبطال: ص/ 71 – 72.
(1/49)
ورُوِي من طريق ثالث من حديث السَّرِي بن سهل (1)، فتبيَّنَ أنَّ للحديث أصلًا محفوظًا عن ابنِ عُمر.
قال أهل اللغة: العِيْنة في أصل اللغة للسَّلَف، والسلفُ يعمُّ تعجيل الثمن وتعجيل المثمن، وهو الغالب هنا، يقال: اعتانَ الرجلُ وتعيَّن إذا اشترى الشيءَ بنسيئةٍ، كأنها مأخوذة من العين وهو المعَجَّل.
قال أبو إسحاق الجُوْزجاني: أنا أظن أنها مشتقَّة من حاجة الرجل إلى العَيْن يعني: الذهب والوَرِق، فيشتري السلعةَ ويبيعها بالعين التي احتاجها.
فالحديث يدلُّ على أنَّ من العِيْنة ما هو محرَّم، وإلا لما أدخلها في جملة ما استحلُّوه واستحقُّوا به العقوبة.
وكذلك الأخذ بأذناب البقر، وهو على ما قيل: الدخولُ في أرض الخراج بدلًا عن أهل الذمة.
وقد تقدَّم (2) قولُه: “ليأتينَّ على الناسِ زمانٌ يستحلُّون الربا بالبيع” يعني: العينة، فهذا شاهد وعاضد لهذا الحديث.
وعن أنسٍ أنه سئل عن بيع العينة – يعني بيع الحريرة -؟ فقال: “إن الله لا يُخْدَع، هذا مما حرَّم اللهُ ورسولُه” رواه محمد بن
__________
(1) قال حدثنا عبد الله بن رشيد، ثنا عبد الرحمن بن محمد، عن ليث عن عطاء، عن ابن عمر قال … الحديث، أخرجه الطبراني في “الكبير”: رقم (13583)، وأبو نعيم في “الحلية”: (1/ 313 – 314 و 3/ 319)، وغيرهما.
(2) (ص/ 47).
(1/50)
عبد الله الحافظ المعروف بمطَيَّن (1).
وقوله: “هذا مما حرَّم الله” هو في حكم المرفوع.
وعن ابن عباسٍ أنه سُئل عن العينة؟ فقال: “إن الله لا يُخْدَع”، [وقال] (2): “اتقوا هذه العينة دراهم بدراهم متفاضلة بينهما حريرة” ذكره القاضي أبو يعلى وغيره، ومطيَّن – أيضًا – وأبو محمد النخشبي الحافظ.
والأثر المعروف عن أبي إسحاق السَّبِيْعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة هي وأمُّ ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى، فقالت لها أمُّ ولد زيد: إني بعتُ من زيد غلامًا (152/ ب) بثمان مئة درهم نسيئة، واشتريته بست مئة نقدًا، فقالت عائشة: “أَبْلِغي زيدًا أنْ قد أبطلَ جهادَه مع رسول الله إلا أن يتوب. بئس ما اشتريتِ وبئس ما شريتِ”.
رواه أحمد (3): ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق.
__________
(1) في “كتاب البيوع”، كما في الإبطال.
(2) زيادة لازمة، وبدونها يصبح الأثر مركبًا من أثرين.
(3) ظاهر هذا العزو أنه في “المسند”، وقد عزاه إليه الزيلعى فى “نصب الراية”: (4/ 16)، ولم أجده فيه، فلعله مما سقط من المطبوعة.
والحديث أخرجه الدارقطنيُّ: (2/ 311)، والبيهقي في “الكبرى”: (5/ 330)، وغيرهم.
قال ابن عبد الهادي في “تنقيح التحقيق”: (2/ 558) عن إسناد أحمد: “هذا إسناد جيد، وإن كان الشافعي قال: لا يثبت مثله عن عائشة، وكذلك الدارقطني، =
(1/51)
ورواه حرب (1) من حديث إسرائيل.
فهذه أربعة أحاديث تُبَيِّن أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حرَّم هذا، ولولا أن عند أم المؤمنين علمًا من رسول الله لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجِزْ أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد، لا سيما إن قصدت أن العمل يبطلُ بالرِّدة، واستحلال مثل هذا كُفْر؛ لأنه من الرِّبا، ولكن عُذْر زيد أنه لم يعلم أن هذا محرَّم، ولهذا أمرت بإبلاغه.
وإن لم تكن قصدت هذا، فإنها قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد، فتصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها، فما كأنَّه عملَ شيئًا، ولو كان هذا مما يسوغ فيه الاجتهاد لم يكن مأثمًا، فضلًا عن أن يكون صغيرة، فضلًا عن أن يكون من الكبائر، فلما قطعت بذلك و [أمرَتْ بـ] إبلاغه عُلِم أنها علمت أن هذا لا يسوغ فيه الاجتهاد، وما ذاك إلا عن علم، وإلا فالاجتهاد لا يحرِّم الاجتهاد (2). وكون العمل يُبْطِل الجهادَ لا يُعْلَم إلا بتوقيفٍ من رسول الله، لا يُعْلَم بالاجتهاد.
ثم من هذه الآثار حجة أُخرى، وهو:
__________
= قال في العالية: هي مجهولة لا يُحتج بها، ففيه نظر، فقد خالفه غيره …
وانظر: “نصب الراية”: (4/ 15 – 16)، و”الدر النقي”: (5/ 330 – بحاشية السنن الكبرى).
(1) أي: الكرماني، لعله في مسائل لأحمد.
(2) في هامش الأصل: “إذ ليس اجتهادها أولى من اجتهاده”.
(1/52)
الوجه الثاني عشر (1): وهو أن هذه (2) الصحابة؛ عائشة وابن عباس وأنس أفتوا بتحريم ذلك، وغَلَّظوا فيه في أوقاتٍ مختلفة، ولم يبلغنا أن أحدًا من الصحابة، بل ولا من التابعين رخَّصَ في ذلك، فتكون حجة راجحة، بل إجماعًا على تحريم ذلك.
ولا يقال: فزيد بن أرقم فعلَه؛ لأنه لم يقل: إن هذا حلال، بل يجوز أن يكون فعلَه جريًا على العادة من غير تأمُّلٍ ولا نظرٍ ولا اعتقاد.
ولهذا قيل: أضعفُ العلمِ الرؤية. يعني أن يقال: رأيتُ فلانًا يفعل كذا، ولعلَّه قد فعله ساهيًا. وقال إياس: لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سَلْه يَصْدُقك، ولهذا لم يذكر عنه أنه أصرَّ على ذلك بعد بلوغِه إنكار عائشة.
وقد يفعل الرجلُ النبيلُ الشيءَ مع ذهوله عنه فإذا نُبِّه انتبَهَ، وإذا احتمل (3) ذلك لم يَجُز نسبةُ اعتقادِ حلِّه إلى زيد – رضى الله عنه -. وفي تلاوة عائشة عليها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] دليلٌ على أن الإنكار لأجل الاستحلال، لا لأجل جهل الأجل، فإن هذه الآية إنما هي في التائب من الربا، وهذا دليل على بطلان العقد الأول إذا قصد به التوسُّل إلى الثاني، وهذا هو الصحيح من مذهبنا وغيره.
__________
(1) كذا في الأصل و (م)، وفي “الإبطال”: (ص/ 76) لم يجعل هذا وجهًا جديدًا، بل هو تابع للوجه الحادي عشر.
(2) كذا في الأصل و (م)، وفي “بيان الدليل”: “هؤلاء”.
(3) أي: الفعل.
(1/53)
وأما إذا باع السلعةَ لغير البائع الأوَّل بيعًا بتاتًا (1)، فهي مسألة (153/ أ) التوَرُّق؛ لأن مقصوده الورق، وكان عمر بن عبد العزيز يكرهه، وقال: التورُّق آخِيَّة (2) الربا. وإياس بن معاوية يُرخِّص فيه، وعن الإمام أحمد في ذلك روايتان، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطرٌّ.
ولعل قوله [- صلى الله عليه وسلم -]: “إنّما الرِّبا في النسيئة” (3) إشارة إلى هذا ونحوه، وهو كما يُقال: إنما العالم زيد، و: لا سيفَ إلا ذو الفقار، يعني: أنه هو الكامل في بابه.
وروي عن ابن عباس أنه قال: “إذا استقمتَ بنقد فبعت بنقد فلا بأس، وإذا استقمتَ بنقد فبعتَ بنسيئة فلا خير فيه، تلك ورق بورق” رواه سعيد وغيره (4).
وهذا شأن المورِّقين، فإن الرجل يأتيه فيقول: أُريد ألف درهم فيخرج له سلعة تُسَاوي ألفًا، وهذا هو الاستقامة، يقال: أقمتُ السلعة وقومتها واستقمتها بمعنًى، وهي لغة مكيَّة بمعنى التقويم (5).
__________
(1) كذا في الأصل و (م)، و”بيان الدليل”: “باتًّا”.
(2) الآخِيَّة: بالمدّ والتشديد، حبل مثل العروة التي تشدّ إليها الدابة، واستعير هنا لشدة شبه التورق بالربا.
(3) أخرجه البخاري رقم (2179)، ومسلم رقم (1596) من حديث أسامة بن زيد – رضي الله عنهما -.
(4) أخرجه عبد الرزاق: (8/ 236).
(5) انظر: “الصحاح”: (5/ 2017).
(1/54)
فإذا تأَملَ اللبيبُ هذه الأحاديث علمَ أن الاعتبار بحقيقة العقودِ ومقاصدها التي تؤول إليها والتي قُصِدت بها، وأن الاحتيال لا تُرْفع به هذه الحقيقة، وهذا بيِّن إن شاء الله تعالى.
الوجه الثالث عشر (1): أن المقاصد والاعتقادات معتبرةٌ في التصرُّفات والعادات، كما هي معتبرة في العبادات والتقرُّبات، فتجعلُ الشيءَ حلالًا أو حرامًا، أو صحيحًا أو فاسدًا، أو صحيحًا من وجهٍ فاسدًا من وجه، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو مستحبَّة، أو محرمة أو صحيحة أو فاسدة.
ودلائل هذه القاعدة كثيرة:
منها قوله – سبحانه -: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]، وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، فإنه نصٌّ في أن الرَّجعة إنما تثبت لمن قَصَد الصلاح دون الضرار.
ومنها: قوله – تعالى -: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا … } إلى قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} إلى قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229, 230]، فإنه دليل على أن الخُلْع المأذون فيه إذا خيف ألا يقيم الزوجان حدودَ الله. وأن النكاح الثاني إنما يُبَاح إن ظنَّا أن يُقيما حدود الله.
__________
(1) “الإبطال”: (ص/ 85) وهو هناك الوجه الثاني عشر، وسبق التنبيه على سبب ذلك.
(1/55)
ومنها: قوله – سبحانه -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]، فقدَّم على الميراث وصيَّةَ من لم يُضارَّ الورثة (1).
وقد لعن رسول الله عاصر الخَمْر (2)، ومعلومٌ أنه إنما يعصر عنبًا، ولعن بائعها، فتكون الأجرة على عصرها حرامًا، فتكون باطلة.
وفي معناه نَهْيه عن بيع السلاح في الفتنة (3) (153/ ب)، وكذا كل بيعٍ أو إجارةٍ أو هبةٍ أو إعارةٍ تُعينُ على معصية إذا ظهر القَصْد، وإن جاز أن يزول قصد المعصية، مثل بيع السلاح للكفار أو للبغاة، أو لقاطع الطريق، أو لأهل الفتنة. وبيع الرقيق لمن يعصي الله فيه، إلى غير ذلك.
فإن ذلك قياس بطريق الأولى على عاصر الخَمْر، ومعلوم أنه
__________
(1) تتمة الكلام: “فإذا وصى ضرارًا كان ذلك حرامًا، وكان للورثة إبطاله، وحَرُم على الموصَى له أخذه بدون رضاهم”.
(2) فيما أخرجه أحمد: (8/ 405 رقم 4787)، وأبو داود رقم (3674)، وابن ماجه رقم (3380) وغيرهم من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
والحديث صححه ابن السكن، وشيخ الإسلام في الأصل.
(3) أخرجه البيهقي في “الكبرى”: (5/ 327)، والطبراني في “الكبير”: (18/ رقم 286)، والعقيلي في “الضعفاء”: (4/ 139)، وابن عدي في “الكامل”: (2/ 51) من طريق بكر بن كنيز السقاء عن عبد الله اللقيطي عن أبي رجاء عن عمران بن حصين قال: فذكره، وفيه بحر السقاء، ضعَّفه غير واحد. وأُعلّ الحديث بالوقف. انظر: “نصب الراية”: (3/ 391)، و”التلخيص”: (3/ 20)، و”الإرواء”: (5/ 135 – 136).
(1/56)
إنما استحقّ اللعنة وصارت إجارته وبيعه باطلًا إذا ظهر له أن المشتري والمستأجر يريد التوسُّل بماله ونفعه إلى الحرام، فيدخل في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
ومن لم يُراعي المقاصد في العقود، يلزمه ألا يلعن عاصر الخَمْر، وأن يجوز له أن يعصر العنب لكلِّ أحدٍ، وإن ظهر له أنه يتخذه خَمْرًا، لجواز تبدُّل الاسم، ولعدم تأثير القَصْد عنده في العقود، وقد صرَّحوا بذلك، وهذا مخالفةٌ بيِّنة لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
يؤيِّد ذلك: ما روى ابنُ بطة بإسناده عن عبد الله بن بُريدة عن أبيه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من حَبَس العنبَ أيَّامَ القِطافِ حتَّى يبيعَه من يهوديٍّ أو نصراني، أو من يتخذه خمرًا فقد تقَحَّم النارَ على بصيرة” (1).
ومن هذا قوله – صلى الله عليه وسلم -: “صَيْدُ البرِّ لكم حلالٌ وأنتم حُرُم ما لم تصيدوه أو يُصَدْ لكم” رواه الخمسة إلا ابن ماجه (2).
__________
(1) أخرجه الطبراني في “الأوسط”: (5/ 294)، وابن حبان في “المجروحين”: (1/ 236).
قال أبو حاتم في “العلل”: (1/ 389): “هذا حديث كذب باطل”.
(2) أخرجه أحمد: (23/ 171 رقم 14894)، وأبو داود رقم (1851)، والنسائي: (5/ 187)، والترمذي رقم (846) وغيرهم من حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -.
وفي سماع المطلب بن عبد الله راوي الحديث عن جابر كلام، قال الترمذي: لا نعرف له سماعًا عن جابر، وقال الشافعي: هذا أحسن حديث في هذا الباب وأقْيَس، وصححه ابن خزيمة رقم (2641).
(1/57)
وكذلك حديث الصعب بن جثَّامة (1). فلما حرَّم الصيدَ عند قصده المُحْرِم وأباحَه عند عدم قَصْدِه المُحْرِم؛ عُلِم أن النيةَ حرَّمَتْ وأثَّرت فيه بالتحليل أو التحريم، فيعلم بذلك أن القصدَ مؤثِّر في تحريم العين التي تُباح بدون القصد، وإذا كان هذا في الأفعال الحِسِّيَّة؛ ففي الأقوال والعقود أولى.
فعُلِمَ أن من حرَّم اللهُ عليه امرأتَه بعد الطلاق، وأباحها له إذا تزوَّجت بغيره، فهو بمنزلة من حرَّمَ اللهُ عليه الصيد، وأحلَّه له إذا ذَبَحه غيره، فإذا كان ذلك الغير إنما قصد بالنكاح أن تعود إلى الأوَّل؛ فهو كما إذا قصد ذلك الغير بالذبح أن يَحِلَّ للمُحْرِم، فإنَّ المناكح والذبائح من بابٍ واحد.
ويؤيّد ذلك – أيضًا -: ما رُوي عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “من تزوَّج امرأةً بصَدَاق ينوي أَنْ لا يؤدِّيَه إليها، فهو زانٍ. ومن ادَّان دينًا ينوي أن لا يَقْضِيَه، فهو سارقٌ” (2). فجعله زانيًا وسارقًا إذا قَصَد أن لا يؤدِّي العِوَض. رواه أبو حفص العكبري.
يؤيده: ما روى البخاري (3): “من أَخَذَ أموالَ (154/ أ) الناسِ يريدُ أداءَها أدَّاها اللهُ عنه، ومن أخذها يريدُ إتلافَها أَتْلَفَه الله”.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (1825)، ومسلم رقم (1193).
(2) أخرجه البخاري في “التاريخ الكبير”: (1/ 258)، وابن أبي الدنيا في “مكارم الأخلاق” رقم (272).
وهو حديث ضعيف، انظر “العلل المتناهية”: (2/ 623 – 624).
(3) رقم (2387).
(1/58)
فهذه النصوص كلُّها تدلُّ على [أنَّ] المقاصد تُغيِّر أحكام التصرُّفات من العقود وغيرها.
من ذلك: أنه لو قضى عن غيره دَيْنًا أو أنفق عليه نفقةً واجبةً، ونحو ذلك، ينوي التبرُّعَ = لم يملك الرجوعَ، وإن لم يَنْو فله الرجوع إن علم إذنه وفاقًا، وبغير إذنه على خلاف فيه.
ومن ذلك: أن الله حرَّم أن يدفع الرجلُ إلى غيره مالًا ربويًّا بمثله على وجه البيع إلا أن يتقابضا، وجوَّزه على وجه القرض.
وكذا لو باعه درهمًا بدرهمين كان ربًا محرَّمًا، ولو باعه درهمًا بدرهم، ووهبه درهمًا هبةً مطلقة لا تعلُّق لها بالبيع ظاهرًا ولا باطنًا كان ذلك جائزًا. فلولا اعتبار المقاصد لأمْكن كلُّ مُرْبٍ إذا أرادَ بيعَ ألفٍ بألفٍ وخمسِ مئة أن يقول: بعتُكَ ألفًا بألف ووهبتك خمس مئة، ولم يبقَ لتحريم الربا فائدة.
ولا يجوز أن يظن أن الأحكام إنما اختلفت لاختلاف اللفظ، بل لما اختلفت المقاصد اختلفت الأسماءُ والأحكام، وإنما المقاصد حقائق الأفعال وقوامها، و”إنما الأعمال بالنيات”.
ويدلُّ على ذلك عقودُ المكره وأقواله، مثل: بيعِه وقرضِه ورهنه، ونكاحه وطلاقه ورجعته، ويمينه ونذره، وشهادته وحكمه وإقراره ورِدَّتِه، وغير ذلك من أقواله، فإن هذه كلها مُلْغاة منه، وأكثرها مُجمع عليها، وقد دلَّ على بعضها القرآنُ، مثل قوله – تعالى -: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] ,
(1/59)
وقوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
والحديث: “عُفِيَ لأُمتي عن الخطأ والنسيان وما اسْتُكْرِهوا عليه” (1)، وقوله: “لا طلاق ولا عِتاق في إغلاق” (2) أي: إكراه.
فالمكره قد أتى باللفظ المقتضي للحكم، ولم يثبت الحكم في حقه؛ لعدم قصده وإرادته بذلك [اللفظ]، فعُلِمَ أن نفس اللفظ ليس مقتضيًا للحكم اقتضاء الفعل أثره، فإنه لو قَتَل أو غَصَب أو أَتْلف أو بَخَس [البائع] (3) مكرهًا، لم نَقُل: إن ذلك فاسد، بخلاف ما لو عَقَد.
فكذلك المحتال لم يقصد الحكمَ [المقصود] بذلك اللفظ الذي احتال به، وإنما قَصَد معنًى آخر؛ من التوسُّلِ إلى الربا أو
__________
(1) هذا الحديث جاء معناه عن عددٍ من الصحابة؛ ابن عباس، وابن عمر، وعقبة بن عامر، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وثوبان، وأبي بكرة. بألفاظٍ مختلفة، أقربها إلى لفظ المصنِّف: ما أخرجه ابن الجوزي في “التحقيق”: (2/ 293)، من طريق سعيد بن منصور ثنا خالد بن عبد الله عن هشام عن الحسن عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن الله عز وجل عفا لكم عن ثلاث … فذكره.
وأقوى هذه الأحاديث حديث ابن عباس بلفظ: “إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ … ” أخرجه ابن حبان “الإحسان”: (16/ 202)، والدارقطني: (4/ 170)، والبيهقي: (7/ 356) وغيرهم.
وانظر في الكلام على الحديث: “نصب الراية”: (2/ 64)، و”المعتبر” رقم (113)، و”موافقة الخُبر الخَبر”: (1/ 510).
(2) أخرجه أحمد: (6/ 276)، وأبو داود رقم (2193)، وابن ماجه رقم (2046)، والحاكم: (2/ 198)، والبيهقي: (7/ 357) وغيرهم، وصححه الحاكم.
(3) في الأصل و (م): “الما”! والمثبت من “الإبطال”.
(1/60)
التحليل الذي يتوسل به إلى ردِّ المرأة، فالمكره والمحتال يشتركان في أنهما لم يقصدا بالسبب حكمَه ولا باللفظ معناه، لكن المكره راهبٌ قصدُه دفعُ الضرر، فيُحْمد على ذلك، والمحتال راغبٌ قصدُه إبطالُ حقٍّ أو إثبات باطل، فيُذَمُّ على ذلك.
الوجه الرابع عشر (1): قوله – صلى الله عليه وسلم -: “من أَحْدَثَ في أَمْرِنا هذا ما ليسَ منه فهو ردٌّ”، رواه البخاري ومسلم (2).
ولمسلمٍ (3): “من عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عليه أَمْرنا فهو رَدٌّ”.
وفي “صحيح مسلم” (4) عن جابر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يقول في خُطبته: “أما بعد، فإن أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرُ الهدي هدي محمد (154/ ب)، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ بدعةٍ ضلالة”.
وفي لفظٍ (5): “كان يخطب للناس فيحمد الله ويُثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مُضِلَّ له ومن يُضلِل فلا هاديَ له، خيرُ الحديثِ كتابُ الله، وخيرُ الهدي هدي محمدٍ، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثةٍ بدعة” [و] رواه النسائي (6) بإسنادٍ
__________
(1) “الإبطال”: (ص/ 118).
(2) البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(3) “الصحيح”: (3/ 1344).
(4) رقم (867).
(5) لمسلمٍ أيضًا: (2/ 592 – 593)، وليس فيه “وكل محدثة بدعة”.
(6) (3/ 188 – 189).
(1/61)
صحيح، وزاد: “وكلُّ بدعةٍ في النار”.
وكان عمر وابن مسعود يخطبان بهذه الخطبة، وكان يخطبُ بها رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -.
وفي لفظ ابن مسعود: “إنكم سَتُحْدِثُوْنَ ويُحْدَث لكم” (1).
وفي حديث العِرْباض بن سارية قال: “وعَظَنا رسول الله موعظةً ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قيل: يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فما تعهد إلينا؟ فقال: “أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة”.
رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي (2)، وقال: “حسن صحيح”.
وفي لفظٍ: “تركتكم على البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها
__________
(1) أخرجه الدارمي: (1/ 72)، والمروزي في “السنة” رقم (81)، وهناد في “الزهد”: (1/ 287) بسندٍ صحيح.
(2) أخرجه أحمد: (28/ 367 رقم 17142)، وأبو داود رقم (4607)، والترمذي رقم (2678)، وابن ماجه رقم (43)، وغيرهم.
والحديث صححه الترمذي، وابن حبان “الإحسان”: (1/ 179)، والحاكم في “المستدرك”: (1/ 174) وغيرهم، وللحديث شواهد كثيرة.
(1/62)
بعدي إلا هالك … ” وفيه: “عليكم بما عرفتم من سنتي” (1).
فهذه الأحاديث تبيِّن أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – حذَّر الأمةَ الأُمور المحدثَة، وبيَّن أنها ضلالة، وأن من أحدثَ في أمر الدين ما ليس منه فهو رد، وهذه الجملة لا تنحصر دلائلُها، وكثرةُ وصايا السلف بمضمونها، وكذلك الأدلةُ على لزوم طريقةِ الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان، ومجانبة ما أُحْدِث بعدهم كثيرة جدًّا.
واذا كان كذلك، فهذه الحِيَل من الأمور المحدَثة بلا شك ولا رَيْب، ومن البدع الطارئة.
أما الافتاءُ بها وتعليمُها للناس؛ فأول ما حدث في أواخر عصر التابعين (2) بعد المئة الأولى بسنين كثيرة، وليس فيها – ولله الحمد – حيلة واحدة (3) تُؤْثَر عن أصحاب رسول الله، بل المأثور عن الصحابة أنهم كانوا إذا سُئلوا عن فعل شيءٍ من ذلك حذَّروا منه وزجروا عنه، وفي هذا الكتاب (4) عن الصحابة ما يُبَيِّن ذلك.
وأما فِعْلها من بعض الجهال؛ فقد كان يصدر منه قليل في العصر الأول، ولكن يُنكره الفقهاء من الصحابة والتابعين، كما كانوا يُنكرون عليهم الكذب، والرِّبا (5) وسائر المحرَّمات.
__________
(1) هذا لفظ أحمد رقم (17142)، وابن ماجه (43) وغيرهما.
(2) تعبير شيخ الإسلام: “في أواخر عصر صغار التابعين”.
(3) الأصل: “واحد”.
(4) أي: في مسألتي العينة والتحليل، كما في “الإبطال”: (ص/ 121).
(5) تحتمل في الأصل: “الزنا” وهو كذلك في نسخة في “الإبطال”.
(1/63)
وهذا الذي ذكرناه من كونها محدثة وبدعة أمر لا يَشُكُّ فيه من له أدنى علمٍ بآثار السلف، وأيام الإسلام، وطبقات المفتِيْن، يُبَيِّنُ ذلك:
أن الكتب المصنَّفة في أحاديث رسول الله، وفتاوى الصحابة والتابعين، ليس فيها شيءٌ من ذلك، ولو أفتوا بشيءٍ من ذلك (155/ أ) لنُقِل كما نُقِل غيره، والذين صنَّفوا في الحيل من المتأخرين حَرَصوا على أثرٍ من ذلك يقتدون به، فلم يجدوا شيئًا من ذلك، ولله الحمد، إلا ما حُكي عن بعضهم من التعريض واللحن، وقولهم: “إنَّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب” (1). و”الكلامُ أوسع من أن يكذب ظريف” (2).
وليس هذا من الحِيل التي قلنا: إنها مُحْدَثة، فإن المعاريض عند الحاجة والتأويل في الكلام، والحلف من المظلوم بأن ينوي بكلامه ما يحتمله اللفظ وهو خلاف الظاهر، كما فعل الخليلُ – صلى الله عليه وسلم – (3)، وكما قال أبو بكر – رضي الله عنه – عن النبي: إنه رجلٌ يهديني السبيل (4)، وكما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – للرَّجل الكافر الذي سأله: ممن أنت؟ فقال: “نحن من ماءٍ” (5)، إلى غير ذلك = أمرٌ جائز،
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة: (5/ 282)، والبخاري في “الأدب المفرد”: (ص/ 297)، والبيهقي: (10/ 199) عن عمران بن حُصين – رضي الله عنه -.
(2) أخرجه ابن عدي: (4/ 32)، والبيهقي في “الشعب”: (4/ 232) من قول ابن سيرين.
(3) فيما أخرجه البخاري رقم (3358)، ومسلم رقم (2371) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(4) أخرجه البخاري رقم (3911).
(5) ذكره ابن إسحاق في “السيرة”: (1/ ق 2/ 616).
(1/64)
وليس هذا من الأمور التي نحن فيها، فإن أكثر ما في ذلك: أنه كَتَم عن المخاطَب ما أراد معرفته، وأفْهَمه خلافَ ما في نفسِه، مع أنه صادق فيما عناه. والمخَاطَب ظالم في تعرُّف (1) ذلك الشيء، بحيث إن جهله بذلك خير له من معرفته، وهذا فِعْل خير ومعروف مع نفسه ومع المخاطَب، بخلاف الحِيَل التي مضمونها الاحتيال على محرَّم، إما بسببٍ لا يُباح [به] قط، أو يُباح [به] إذا قصدَ به مقصودَه الأصلي، أو للاحتيال على مباح بسببٍ محرَّم، أو على محرَّم بمحرَّم، فهذا الذي قلنا: إنه لم يكن في أصحاب رسولِ الله من يُفتي بها، بل [كان] من ينهى عنها (2).
وأما الدلالة على الطريق التي يُنال بها الحلال، والاحتيال للتخلُّص من المأْثَم بطريقٍ مشروع يُقْصَد به ما شُرِع له؛ فهذا هو الذي كانوا يُفتون به، وهو من الدعاء إلى الخير، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لبلال: “بِعِ الجَمْعَ بالدراهمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدراهِمِ جَنِيْبًا” (3).
__________
(1) الأصل و (م): “تعريف” والمثبت من “الإبطال”.
(2) في “الإبطال”: “بل كانوا ينهون عنها”، والأصل و (م): “بل من ينهى عنها” فأصلحناه بما هو مثبت.
(3) لم أجد ما ذكره المصنف من قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لبلال – وإن كان الحافظ ابن حجر قد ذكر نحوه في “الفتح”: (12/ 342) في كتاب الحيل – أما قصة بلال فقد أخرجها مسلم رقم (1594) وهو أنه جاء بتمر بَرْنيّ، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من أين هذا”؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديء، فبعتُ منه صاعين بصاع … فقال – صلى الله عليه وسلم -: “أَوَّه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فَبِعْه ببيعٍ آخر، ثم اشتر به”. =
(1/65)
فهذا يبيع بيعًا بتاتًا مقصودًا ويستوفي الثمن، ثم يشتري به ما أحبَّ من غير ذلك المشتري، فأما إن كان من ذلك المشتري، فإنهم كرهوه، حيث يكون في مظنة أن لا [يَبُتَّا] (1) البيعَ الأول، ورخَّص فيه من لم يعتبر ذلك.
قال محمد بن سيرين: كانوا يكرهون للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير (2).
والبيع طريق مشروع لحصول المُلْك ظاهرًا وباطنًا، بحيث لا يبقى للبائع فيه علاقة، فإذا سلك وقصد به ذلك، فهو جائز، وليس مما نحن فيه، فإنه لم يقصد به المقصود الشرعي.
وبالجملة؛ فقد نصبَ الشارعُ إلى الأحكام أسبابًا تُقْصَد لحصول تلك [الأحكام] (3)، فمن دلَّ عليها وأمر بها من يقصد الحلالَ، ليقصد بها المقصودَ الذي جُعِلت له؛ فهذا مُعِلِّم خير، وهذا هو الذي تقدم ذكره عن الإمام أحمد في أول الكتاب (4)، لما ذكَرَ: أن حيلة المسلمين أن يتَّبعوا ما شُرِع لهم، فيسلكوا في
__________
= أما اللفظ الذي ذكره المصنف فهو من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة – رضي الله عنهما -.
أخرجه البخاري رقم (2201)، ومسلم رقم (1592).
(1) الأصل و (م): “يبتاع”، والمثبت من “الإبطال”.
(2) انظر: “مصنف عبد الرزاق”: (8/ 129).
(3) الأصل و (م): “الأسباب” والتصويب من “الإبطال”.
(4) (ص/ 27).
(1/66)
حصول الشيءِ الطريقَ الذي شُرِع لتحصيله، دُوْن ما لم يَقْصد الشارعُ به ذلك الشيء.
فثبت أن ذلك (155/ ب) – أعني: الحِيل – لم تُحْكَ عن أحدٍ من الصحابة، بل حُكي النهي عنها، فعُلِمَ اجتماعُهم على إنكارها وتحريمها، وهذا أبلغ في كونها بدعة محدَثه، فإن أقبح البدع ما خالفت كتابًا أو سنة أو إجماعًا.
وأيضًا: من المعلوم أن الطلاق الثلاث ما زال واقعًا على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه، وما زال المطلِّقون يندمون ويتمنون المراجعة، والرسولُ أنْصَحُ الناس لأمته، وكذلك أصحابه، فلو كان التحليل يُحِلُّها لأوشك أن يَدُلُّوا عليه – ولو واحدًا – فإن الدواعي إذا تَوَفَّرت على طلب فعلٍ مباحٍ، فلا بدَّ أن يوجد، فلَّما لم يُنقل ذلك، بل نُقِل الزجر عنه، عُلِم أنه لا سبيل إليه ألْبتة.
وهذه امرأة رِفاعة جاءت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد أن تزَوَّجت عبد الرحمن بن الزَّبِير وطلَّقها قبل الدخول، وجعلت تختلف إليه وإلى خليفتيه – رضي الله عنهما – تتمنَّى مراجعةَ رِفاعة، وهم يزجرونها عن ذلك (1)، وكأنها كرهت أن تتزوَّج غيرَه فلا يُطلِّقها، فلو كان التحليل ممكنًا لكان أنصح الأمة لها يأمرها أن تتزوّج بمحلِّل، فإنها لم تعدم من يبيتُ عندها ليلة ويُعطى شيئًا! ! .
فمن لم تَسَعْه السنة حتى تعدَّى إلى البدعة، وأطْلَقَ للناس
__________
(1) أخرج قصتها البخاري رقم (5260)، ومسلم رقم (1433).
(1/67)
ما لم يُطْلقه لهم الرسول مع وجود المقتضي للإطلاق؛ فقد جاء بشريعة ثانية، ولم يكن متبعًا للرسول، ومَرَقَ من الدين، فَلْينظر امرؤٌ أين يضع قدمه! .
وكذلك نعلمُ أنَّ التجارة كانت في القوم فاشية، والربحُ مطلوبٌ بكل طريق، فلو كانت هذه المعاملات جائزة لأوشكَ أن يفتوا بها، وكذلك الاختلاع (1) لحل اليمين.
وبالجملة؛ الأسباب المحوجة إلى هذه الحيل ما زالت موجودة، فلو كانت مشروعة لنبَّه الصحابةُ عليها، فلَمَّا لم يصدر منهم إلا الإنكار لجنسها عُلِم قطعًا أنها ليست من الدين، وهذا قاطع لا خفاء به لمن نوَّر اللهُ قلبَه، والله المستعان.
ولما ظهر الإفتاء بهذه الحِيَل في أواخر عصر التابعين، أنكر ذلك علماء ذلك الزمان، مثل: أيوب السَّخْتياني، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس، وسفيان بن عُيَينة، ويزيد بن هارون، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، والفُضَيل، وشريك، والقاسم بن مَعْن، وحفص بن غِياث (2).
وتكلَّم علماء ذلك العصر، مثل: أيوب، وابن عَوْن، والقاسم بن مُخَيمرة، والسفيانين، والحمَّادين، والأوزاعي، [و] (3) من شاء
__________
(1) كذا في الأصل و (م)، وفي “الإبطال”: “الاحتيال”.
(2) وهؤلاء الثلاثة قضاة الكوفة.
(3) من (م) و”الإبطال”.
(1/68)
الله من العلماء = في الذين توسَّعوا فيها من أهل الكوفة وغيرهم بكلامٍ غليظ، لا يُقال مثلُه إلا عند ظهور بدعة لا تُعْرَف.
ومعلوم أنَّ هؤلاء وأمثالَهم سُرُج الإسلام، ومصابيح الهدى، وأعلام الدين، وأعلم أهل وقتهم، وأَعْرَف ممن بعدهم بالسنة الماضية، وأَفْقَه في الدين، وأورع في المَنْطِق. وقد كانوا يصفون من كان يُفتي بذلك: بأنه قَلَب الدينَ ظهرًا لبطن، ويترك الإسلام أرق من الثوب (156/ أ) السَّابِرِي (1)، وينقض الإسلام عُرْوة عروة، إلى أمثال ذلك.
وقد ذُكر عن بعض أهل الرأْي (2): أن امرأةً أرادت أن تختلع من زوجها، فأبى، [فقيل] (3) لها: لو ارْتَدَدتِ بِنْتِ منه، فَفَعَلَت. فذُكِر ذلك لعبد الله بن المبارك، وقيل له: إن هذا في “كتاب الحِيَل”، فقال: من وضع هذا الكتاب فهو كافر، ومن سمع به فرضي به فهو كافر، ومن حمله من كُورةٍ إلى كُورة فهو كافر، ومن كان عنده ورَضِي به فهو كافر.
وقال إسحاق بن راهويه عن سفيان (4) بن عبد الملك: إن
__________
(1) الأصل و (م): “السابوري”.
(2) هو: أحمد بن زهير بن مروان، كما في أصله. وانظر: “تاريخ بغداد”: (13/ 428).
(3) الأصل: “قال”، و (م): “فقال” والمثبت من “الإبطال”.
(4) “الإبطال” و (م): “شقيق” وهو خطأ.
وهو: سفيان بن عبد الملك المروزي، صاحب ابن المبارك وتلميذه توفي =
(1/69)
ابن المبارك قال في قصة بنت أبي روح حيث أُمِرَت بالارتداد، وذلك في أيام غسان (1)، فغضب ابن المبارك وقال: أَحْدَثوا في الإسلام، ومن أَمَر بهذا فهو كافر، ما أرى الشيطان كان يُحْسِن هذا، حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم، أو كان يُحْسِنها ولم يجد من يُمضيها فيهم حتى جاء هؤلاء.
وقال النضر بن شُمَيل: في “كتاب الحيل” ثلاث مئة وعشرون أو وثلاثون مسألة كلُّها كفر (2).
وقال شريك في “كتاب الحيل”: من يُخادع الله يخدعه.
وقال حفص بن غِياث: ينبغي أن يُكتب عليه: كتاب الفجور. يعني: كتاب الحِيل.
وقال حماد بن زيد: [سمعتُ أيوب يقول] (3): وَيْلَهم من يخدعون؟ ! .
وقال يزيد بن هارون: لقد أفتى أصحابُ الحِيَل بشيءٍ لو أفتى به اليهود والنصارى كان قبيحًا.
وعن عبد الخالق بن منصور قال: سمعت أحمدَ بن حنبل
__________
= قبل المئتين، ترجمته في “تهذيب التهذيب”: (4/ 116)، و”تاريخ الإسلام”: (وفيات 191 – 200، ص/ 189).
(1) كذا في الأصل و (م)، و”الإبطال”: “أبي غسان”.
(2) أخرجه الخطيب في “تاريخه”: (13/ 427).
(3) زيادة من “الإبطال”.
(1/70)
يقول: من كان “كتاب الحيل” في بيته يُفتي به؛ فهو كافر بما أُنْزِل على محمد – صلى الله عليه وسلم – (1). رواه أبو عبد الله السدوسي (2) والقاضي أبو يعلى.
وكلام الأئمة في ذلك كثير جدًّا لا يمكن ضبطه، ولا يسع هذا الموضع إيراد عُشره.
وقال رجلٌ للفضيل: إني إستفتَيْتُ رجلًا في يمين، فقال: إن فعلتَ ذلك حنثْتَ، وأنا أحتال لك فلا تحنث. فقال له: ارجع فاستَثْبِتْه، فإنِّي أظنه شيطانًا تصوَّر لك في صورة إنسان (3).
وإنما اشتدَّ نكيرُ هؤلاء الأئمة في “كتاب الحيل”؛ لأن فيه الاحتيال على تأخير صوم رمضان وإسقاط الزكاة والحج، وإسقاط الشُّفعة، وحل الرِّبا، وإسقاط الكفَّارات في الصيام والإحرام والأَيْمان، وحِل السِّفاح، وفسخ العقود، وفيه الكذب وشهادة الزور، وإبطال الحقوق، وغير ذلك، وتعليم الردة لمن أرادت فراقَ زوجها، وهذه من أقبح ما فيه، إلى أشياء أُخر.
فلا يجوز نسبة شيءٍ من ذلك إلى أحد الأئمة، ومن نَسَب ذلك إليهم، فهو مخطئ في ذلك، جاهل بأُصول الفقهاء، وإن كانت الحيلة قد تنفذ على أصل بعضهم (4).
__________
(1) ذكره ابن أبي يعلى في “الطبقات”: (2/ 105) في ترجمة عبد الخالق بن منصور.
(2) في “مناقب الإمام أحمد” كما في “الإبطال”.
(3) رواه ابن بطة في “كتاب الحيل” رقم (66).
(4) وانظر بقية الكلام في “الإبطال”: (ص/ 130) فهو مهم.
(1/71)
وقد انْتَسَب إلى بعض الأئمة قوم يخالفونهم في الأصول؛ مثل المعتزلة والجهمية وأرباب البدع، فلعلَّ ذلك إنما حصلَ منهم، وإنما ذكرنا مثل هذا الكلام (1) على كُرْهٍ شديدٍ مِنَّا؛ لما فيه من شبهه بالغيبة (2)، ولكن وجوب النصيحة اضطرنا إلى أن نُنَبِّه على ما عِيْبَ على بعض (156/ ب) المفتين من الدخول في الحِيَل، وليعلم أنها محدثة وبدعة، ونحن نرجو أن يعذر (3) الله لمن اجتهد فأخطأ.
حتى ذهب (4) هذا الداء إلى كثير من فقهاء الطوائف، حتى إن بعض أتباع الإمام أحمد بن حنبل – مع أنه كان من أبعد الناس عن هذه الحيل – تلَطَّخُوا بها، فأدْخَلها بعضُهم في الأيْمان، وذكر طائفةً من المسائل التي هي بأعيانها من أشد ما أنكره أحمد. وحتى اعتقد بعضُهم جواز خلع اليمين، وصِحَّة نكاح المحلِّل، وجواز بعض الحِيل الربوية.
وكَثُر ذلك في المنتسبين إلى الشافعي – رضي الله عنه -، وتوسَّع بعضُ أصحاب أبي حنيفة فيها توسُّعًا تدلُّ أصول أبي حنيفة على خلافه. وبعض الأئمة من أصحاب مالك تزلزل فيها، حتى رأى أنَّ القياسَ جوازُ بعضها، وحتى ألقوا في نفوس كثير من العامة أنها حلال، وأنها من دين الله! ! .
__________
(1) أي الكلام المتقدم فيمن أفتى بالحيل.
(2) في “الإبطال”: “لما يشبه الغيبة”.
(3) “الإبطال”: “يغفر”.
(4) كذا في الأصل و (م)، وفي “الإبطال”: “دَبَّ”.
(1/72)
ومن شرح الله صدره للإسلام يكرهها وينفر قلبُه منها، والمفتي بغير علم يقول: هي حلال، وهذا جائز، وهذا لا بأس به! ! وهو مُخطئ في هذه الأقوال باتفاق العلماء، فإن أقلَّ درجات أكثرها الكراهة، وقد ذكرنا اتفاقَهم على كراهة التحليل.
ومنشأ هذه الحِيَل وأصلها من اليهود، فلهذا تجد الغاوي من المتفقِّهة متشبِّهًا بهم، وصار أهل الحيل تَعْلوهم الذِّلة والمسكنة لمشابهتهم (1) باليهود في بعض الأخلاق، ثم قد استطار شررُ هذه الحِيل حتى دخلت في أكثر أبواب الدين، وصارت معروفًا وردُّها منكرًا عند كثير ممن لا يعرف أمور الإسلام وأصوله.
وكلما رقَّ دينُ بعضِ الناس أحدثَ حيلةً، وأكثرها مما أُجْمِع على تحريمها، مثل تلقين بعض الشروطيين لمن يريدُ أن يملك ابنه أو غيره أن يُقر بذلك إقرارًا أو يجعله بيعًا (2)، وهذا حرام بالإجماع، فإنه كذب يضر الورثة. وحتى (3) إن بعض المتورِّعين من الشهود يحسب أن لا إثم عليه في الشهادة على ذلك، ولا ريبَ أن الشهادةَ على ما يُعلم تحريمه من عقدٍ أو إقرار أو حكم حرام؛ فقد لعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – آكلَ الربا وموكلَه وشاهدَيه وكاتِبَه (4).
ومثل ما أحدثَ بعضُ الحكام الدعوى المزوَّرة، وأول من
__________
(1) “الإبطال”: “لمشاركتهم”.
(2) ويُشْهِد على نفسه بقبض الثمن.
(3) انظر الكلام الذي قبله في “الإبطال”: (ص/ 135).
(4) أخرجه مسلم رقم (1598) من حديث جابر – رضي الله عنه -.
(1/73)
أحدثها بعض قضاة الشام قبل المئة السادسة، فيقولون: حكم بكذا بمحضر من خَصْمين، مع القطع أن الحاضرين لم يكونوا خَصْمَين، فإن الخصم المدَّعى عليه من إذا سكت لم يُترك، وذاك الحاضر لو سكت لما أُلْزِم (1) وادعى على رجلٍ آخر غيره، فإنما (157/ أ) الغَرَض أن يقول بلسانه: لا حقَّ لكَ قِبَلي، أو: لا أعلمُ صحةَ دعواك، أو يثبت ما ادعاه (2)، فتكون صورته صورة الخصم وليس هو بخصمٍ، وكذلك الآخر الذي يدعى أوَّلًا، إلى أمثال ذلك من الكذب والباطل الذي لا يجوز في دين الله تعالى.
ومن البدع (3) الجديدة: أن يريد الإنسان أن يقف على نفسه، فيعلمونه أن يقر بأنه وقف على الوجه الذي يريد أن يَقِفَه عليه، ويشهدون عليه ويحكمون بصحته، ولا يستريب مسلم أن هذا حرام، فإن الإقرار هو شهادة الإنسان على نفسه، فكيف يُلَقَّن شهادة الزور؟ ! .
ولهم حيلة أُخرى: يُمَلّكه لغيره، ثم يَقِفُه ذلك عليه، ولا شك أن هذا قبيح باطل، فإن حدَّ التمليك أن يرضى المُمَلِّك بنقل الملك إلى المُمَلَّك، بحيث يتصرَّف فيه بما يحِبّ، وهذا قد علم اللهُ وجميعُ الحاضرين أن المُمَلِّك لم يرض بأن يفعل فيه المُمَلَّك ما شاء غير الوقف على الوجه الذي تواطأ عليه، بل ملَّكَه بشرط أن
__________
(1) “الإبطال”: “لو لم يُجب لادَّعى”.
(2) “أو يثبت ما ادعاه” ليست في “الإبطال”.
(3) “الإبطال”: “الحيل”.
(1/74)
يَقِفَه عليه، وهذا تمليك فاسد، ولو فَعَلَ غيرَ ذلك لعدَّه ماكرًا غادرًا، فيتكلَّم بالتمليك استهزاءً وتلاعُبًا بآيات الله وحدوده، وقد كان له مندوحة بأن يقلِّد من يرى وقْفَه على نفسِه (1)، أو يَقِفَه على غيره ويستثني المنفعةَ مدَّةَ حياته (2)، فإن تقليد بعض الأئمة خير من الكذب والخداع والزور.
فصلٌ (3)
فإن قيل: هذه الحيل مما اختلف فيها العلماء، فإذا قلَّد الإنسانُ من يُفتي بها فله ذلك، ولا إنكارَ في مسائل الخلاف، لا سيما على من كان متقيِّدًا بمذهب من يرخِّص فيها أو قد تفقَّه فيها، ورأى أن الدليلَ يقتضي جوازَها، وقد شاع العملُ بها عن جماعاتٍ من الفقهاء، ويُعزى القولُ بها إلى مذهب أبي حنيفة والشافعي – رضي الله عنهما -.
وما قالَه مثل هؤلاء الأئمة لا ينبغي الإنكار البليغ فيه، لا سيما على من يعتقد أن الذين جوَّزوا ذلك أفضل من غيرهم، فإذا قلَّد العاميُّ أو المتفقِّه واحدًا منهم، إما على القول: إنه لا يجب على العامي الاجتهاد في أعيان المُفتين، أو على القول بوجوبه إذا ترجَّح عنده أن من قلَّده فيها هو الأفضل، فلا إنكار، إلا أن يُقال: إن المسألة قطعيَّة لا يسوغ فيها الاجتهاد، وهذا لا يمكن قوله؛ لأن
__________
(1) انظر “الإبطال”: (ص/ 149).
(2) انظر “الإبطال”: (ص/ 138).
(3) “فصل” ليست في “الإبطال”.
(1/75)
فيه طعنًا على الأئمة بمخالفتهم القواطع.
ثم قد يُفضي ذلك إلى الخروج عن الائتلاف والخروج إلى الفرقة والاختلاف المنهيّ عنه، لا سيما ممن يحمله هوى دينه أو دنياه على ما هو أبلغ من ذلك، فتصيرُ مسائلُ الفقه من باب الأهواء، وهذا غير سائغ، وقد علمتم أن السلفَ كانوا يختلفون في الفروع مع بقاء الأُلفة وصلاح (157/ ب) ذات البين.
قلنا: نعوذ بالله – سبحانه – مما يُفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاصِ أحدٍ منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم، أو محادَّتهم وترك محبتهم، ونرجو من الله أن نكون ممن يحبهم ويتوَّلاهم، ونعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع، وأن يكون نصِيْبُنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظٍّ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكن دين الإسلام إنما يتم بأمرين:
أحدهما: معرفةُ فضل الأئمة وحقوقهم وقدرهم، وترك كل ما يجرُّ إلى ثَلْبهم.
والثاني: النصيحةُ لله – سبحانه – ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإبانة ما أنزل الله من البينات والهدى، ولا منافات إن [شاءَ] اللهُ – سبحانه – بين القسمين لمن شرح الله صدره، وإنما يضيقُ عن ذلك أحدُ رجلين؛ رجلٌ جاهل بمقاديرهم (1)، أو رجل
__________
(1) ومعاذيرهم.
(1/76)
جاهل بالشريعة وأصول الأحكام، وهذا المقصود يتلخَّص بوجوه:
أحدها: أن الرجل الجليل الذى له في الإسلام قَدَم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكانةٍ عُليا، قد يكون منه الهفوةُ والزلَّةُ، هو فيها معذور بل مأجور، ولا يجوز أن يُتْبع فيها، مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين.
قال ابنُ المبارك: ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال: رآني أبي وأنا أنشد الشعر، فقال لي: يا بني لا تُنْشد الشِّعر، فقلت له: يا أبه كان الحسن يُنشد، وكان ابن سيرين يُنشد، فقال لي: يا بُني إن أخذت بشَرِّ ما في الحسن وبِشَرِّ ما في ابن سيرين، اجتمعَ فيك الشرُّ كلُّه.
وهذا أمر متفق عليه، فإنه ما من أحدٍ من أعيان الأمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا لهم أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة، وهذا باب واسع لا يُحصى، مع أنَّ ذلك لا يغضُّ من أقدارهم، ولا يسوِّغ اتّباعهم فيها، كما قال – سبحانه -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
قال مجاهد والحكم بن عُتَيْبَة ومالك وغيرهم: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويُتْرك إلا النبي – صلى الله عليه وسلم – (1).
وقال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع
__________
(1) أخرجه البيهقي في “المدخل للسنن الكبرى”: (ص/ 107)، وابن عبد البر في “الجامع”: (2/ 925) عن مجاهد، وأخرجه ابن عبد البر عن الحكم.
(1/77)
فيك الشرُّ كله (1).
قال ابن عبد البر: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا (2).
وقد رُوِي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إنِّي لأخافُ على أُمَّتي من بعدي من أعمال ثلاثة” قالوا: وما هي؟ قال: “أخافُ عليهم من زَلَّةِ العالم، ومن حكم جائرٍ، ومن هوًى مُتَّبَعٍ” (3).
وقال عمر: “ثلاثٌ يَهْدِمن الدين: زلَّةُ عالمٍ، وجدال منافقٍ بالقرآن، وأئمة مُضِلُّون” (4).
وقال أبو الدرداء: “إنَّ مما أخشى عليكم: زلةُ العالم، وجدالُ المنافق بالقرآن” (5).
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كلَّ يوم: “هَلَك المرتابون، إن وراءكم فتنًا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق (158/ أ) والمرأة والصبي والأسود والأحمر، فيوشك أحدُهم أن يقول: قد قرأتُ القرآنَ، فما أظن أن يتبعوني حتى ابتدع لهم غيرَه، وإياكم وما ابتدع، فإن كلَّ بدعة ضلالة، وإياكم وزيغةَ الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر: (2/ 927)، وانظر: “الحلية”: (3/ 32).
(2) في “الجامع”: (2/ 927).
(3) أخرجه البزار “الكشف”: (1/ 103)، والطبراني في “الكبير”: (17/ 17)، وابن عبد البر في “الجامع”: (2/ 978)، وفيه: كثير بن عبد الله المزني ضعيف.
(4) أخرجه ابن عبد البر: (2/ 979 – 980).
(5) أخرجه ابن عبد البر: (2/ 980).
(1/78)
بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمةَ الحق، فتلقَّوا الحقَّ عمن جاء به، فإن على الحق نورًا.
قالوا: وكيف زَيْغَة الحكيم؟ قال: هي كلمة تَرُوْعُكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟ ! فاحذروا زيغتَه ولا تصدَّنكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجعَ الحقَّ، وأن العلمَ والإيمان مكانَهما إلى يوم القيامة، فمن ابتغاهما وجدهما” (1).
وعن ابن عباس قال: “ويلٌ للاتباع من عثرة العالم”. قيل: كيف؟ قال: “يقول العالم برأيه، ثم يجد من هو أعلمُ برسولِ الله منه فيتْرُك قولَه ذلك، ثم يمضي الأتباعُ” (2).
وكذا رُوِي عن غير واحدٍ من الصحابة، فهذه آثار مشهورة رواها ابن عبد البر وغيره، فإذا كان قد حذرنا (3) زلة العالم، وأمرنا مع ذلك أن لا نَرجع عنه، فالواجب على من شرح الله صدرَه للإسلام إذا بلغته مقالةٌ ضعيفةٌ عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلَّدُها، بل يسكت عن ذكرها إن تيقَّنَ صحتَها وإلَّا توقَّف في قبولها.
فما أكثر ما يُحكى عن الأئمة ما لا حقيقةَ له، وكثير من المسائل يُخْرِّجُها بعضُ الأتباع عن قاعدة متبوعه، مع أن ذلك الإمام لو رأى
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق: (11/ 363)، وأبو داود رقم (4611) مختصرًا، والحاكم: (4/ 460)، وابن عبد البر: (2/ 981) وغيرهم.
(2) أخرجه ابن حزم في “الإحكام”: (3/ 256)، والبيهقي في “المدخل”: (1/ 445)، وابن عبد البر: (2/ 984).
(3) “الإبطال”: “فإذا كنا قد حُذِّرْنا .. “.
(1/79)
أنها تُفضي إلى ذلك لما التزمها، ومن عَلِمَ فِقة الأئمة وورعَهم عَلِم أنهم لو رأوا هذه الحيل وما أفضت إليه من التلاعُب بالدين = لقطَعَ بتحريمها من لا (1) يقطع به أوَّلًا.
الوجه الثاني: أن الذين أفتوا من العلماء ببعض الحِيَل، أو أُخِذَ ذلك من بعض قواعدهم، لو بلغهم ما جاء في ذلك عن رسول الله وأصحابه؛ لرجعوا عن ذلك يقينًا، فإنهم كانوا في غاية الإنصاف، وكان أحدُهم يرجع عن رأيه بدون ما في هذه القاعدة، وقد صرَّح بذلك غير واحد منهم، وإن كانوا مُجْمعين على ذلك.
قال الشافعي: إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي، وقال: إذا صحَّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط (2).
وهذا لسانُ حال الجماعةِ كلِّهم.
الوجه الثالث: أن القولَ بتحريم الحِيل قطعيّ ليس من مسائل (3) الاجتهاد كما قد بيَّناه، وبيَّنا إجماع الصحابة على المنع منها بكلامٍ غليظ يُخْرِجها عن مسائل الاجتهاد، واتفاق السلف على أنها بدعة مُحْدَثة، وكلُّ بدعةٍ تخالف السنة أو آثار الصحابة؛ فإنها ضلالة، وهذا هو منصوص الإمام أحمد بن حنبل وغيره، وحينئذٍ (158/ ب) فلا يجوز تقليدُ من يفتي بها، ويجب نقضُ حكمه، ولا تجوز
__________
(1) “الإبطال”: “من لم”.
(2) انظر “السير”: (10/ 35).
(3) “الإبطال”: “مسالك”.
(1/80)
الدلالة لأحدٍ من المقلِّدين على من يُفتي بها، مع جواز ذلك في مسائل الاجتهاد، وقد نصَّ أحمد على هذه المسائل في مثل هذا، وإن كنا نعذر من اجتهد من المتقدمين في بعضها.
وهذا كما أن أعيان المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدُهم في مسألة المتعة والصَّرْف والنبيذ ونحوها، بل عند فقهاء الحديث: أن من شرب النبيذَ المختَلَف فيه حُدَّ وإن كان متأوِّلًا، واختلفوا في ردِّ شهادته؛ فردَّها مالك دون الشافعي، وعن أحمد روايتان، مع أن الذين قالوا بالصَّرف والمتعة معهم سنَّة صحيحة، لكن سنة المتعة منسوخة، وحديث الصَّرف يُفَسِّره سائر الأحاديث، فكيف بالحيل التي لا أصل لها ألْبتة، بل السنة والآثار تخالفها؟!.
وقولهم: مسائل الخلاف لا إنكار فيها؛ ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجَّه إلى القول بالحكم أو العمل.
أما الأول: فإذا كان القول يخالف سنةً أو إجماعًا قديمًا؛ وجب إنكارُه اتفاقًا، وإن لم يكن كذلك، فإنه يُنكَر، بمعنى: بيان ضعفه عند من يقول: المصيْبُ واحد، وهم عامَّةُ السلف والفقهاء.
وأما العمل: فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع؛ وجب إنكارُه – أيضًا – بحسب درجاتِ الإنكار، كما ذكرناه من حدِّ شارب النبيذ، وكما يُنْقَض حكم الحاكم إذا خالف سنةً، وإن كان قد اتبع بعض العلماء.
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها
(1/81)
مَسَاغ؛ لم يُنْكَر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلِّدًا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس.
والصواب: أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليلٌ يجبُ العملُ به وجوبًا ظاهرًا، مثل حديث صحيح لا معارضَ له من جنسه، فيسوغ إذا عُدِم ذلك فيها الاجتهاد، فقد تيقَّنَّا صحة كثير من (1) أحد القولين، وليس فيه طعن على أحدٍ خالفها، مثل كون الحامل المتوفَّى عنها عدتُها وضع الحمل، وأن الجماع المجرَّد [عن إنزال] يوجب الغُسْلَ، وأن ربا الفضل والمتعة حرام، والنبيذ حرام، وأن السنة في الركوع الأخذ بالرُّكَب، وأن ديةَ الأصابع سواء، وأن يد السارق تُقْطع في ثلاثة دراهم، وأن البائع أحق بِسِلْعته إذا أفْلَس المشتري، وأن المسلم لا يُقتل بالكافر، ونحوه كثير جدًّا، من المسح على الخُفَّيْن (2).
فمن بلغه ما في هذا الباب من السنة التي لا معارضَ لها، فليس له عند الله عُذْر بتقليد من ينهاه عن تقليده، ويقول: إذا صحَّ الحديث فلا تَعْبأ (159/ أ) بقولي.
ولو لم يكن في الباب أحاديث لَعَلم المؤمن بالاضطرار أن
__________
(1) كذا في الأصل و (م) وانظر “إعلام الموقعين”: (4/ 288)، وفي “الإبطال”: “صحة أحد القولين”.
(2) كذا في الأصل و (م)، وهي في “الإبطال” في سياق المسائل التي تيقنا فيها صحة أحد القولين، ولفظه: “وأن المسح على الخفين حضرًا وسفرًا”.
(1/82)
محمدًا – صلى الله عليه وسلم – لم يكن ممن يُعَلِّم هذه الحيل ويفتي بها ولا أصحابه، وأنها لا تليق بدين الله أصلًا.
الوجه الرابع: أنا لو فرَضْنا أن الحيل من مسائل الاجتهاد، كما يختاره في بعضها طائفةٌ من أصحابنا وغيرهم، فإنَّا إنما بيَّنا الأدلة الدالة على تحريمها، كما في سائر مسائل الاجتهاد، فأما جواز تقليد من يخالف فيها وتسويغ الخلاف فيها، وغير ذلك، فليس هذا موضعَ الكلام فيه، وليس الكلام في هذا مما يختص هذا الضرب من المسائل، ولا يحتاج على هذا التقدير أن يُجاب عن السؤال، وحينئذٍ فمن وضح له الحق؛ وَجَبَ عليه اتباعُه، ومن لم يتَّضِح له؛ فحكمه حكمُ أمثاله في أمثال هذه المسائل.
الوجه الخامس: أن المتأخرين أحدثوا حِيَلًا لم يصح القول بها عن أحدٍ من الأئمة، ونسبوها إلى مذهب الشافعيِّ وغيره، وهم مخطئون في نسبتها إليه على الوجه الذي يدَّعونه، يعرفُ ذلك من عرف نصوصَ الشافعي وغيره.
فإن الشافعيَّ ليس معروفًا بأن يفعل الحيل ولا يدل عليها، بل يكرهها وينهى عنها، بعضُها كراهةَ تحريم وبعضُها تنزيه، وأكثر الحيل المضافة إلى مذهبه من تصرُّف بعضِ المتأخِّرين من أصحابه، تلقَّوْها عن المشرقيين.
نعم، الشافعي يُجْري العقود على ظاهرها من غير سؤال للعاقد عن مقصوده، كما يُجري أمر من ظهرت زندقتُه على ظاهر الأمر إذا تاب، فيقبل توبتَه، وكما يُجري كنايات القذف وكنايات
(1/83)
الطلاق على ما يقول المتكلِّم إنه مقصوده، من غير اعتبارٍ بدلالة الحال، وأُخِذَ (1) من كلامه عدمُ تأثير العقد في الظاهر بما يسبقه من المواطأة، وعدمُ فساده بما يقارنه من النِّيَّات، على خلافٍ عنه في هذين الأصلين.
أما أنه يأمر بالكذب والخداع، وبما لا حقيقة له، وبشيءٍ يتيقَّنُ أنَّ باطنَه خلاف ظاهره، فما ينبغي أن يُحكى هذا عن مثل الشافعي، فإن هذا ليس هو (2) في كتبه، وإنما غايته أن يوجد في قاعدةٍ، وربما لو عَلِمَ أن هذه القاعدة تجرُّ إلى ذلك لما قعَّدَها ولما قَبِلَها، فمن رعايةِ حقِّ الأئمة أن لا يُحْكى هذا عنهم.
ولهذا كان الإمام (3) يكره أن يُحكى عن الكوفيِّين والمدنيِّين والمكيِّين المسائل المستقبحة، مثل: مسألة النبيذ والصرف والمتعة، ومحاشّ النساء = إذا حُكِيت لمن يُخاف أن يقلِّدَهم فيها أو ينتَقِصَهم بسببها.
وفَرْقٌ بين أن آمر بشئٍ وأفعله (4)، وبين أن أقبل من غيري ظاهرَه، قال الإمام أبو عبد الله بن بطَّة (5): سألت أبا بكر الآجُرِّي عن الخُلْع الذي يُفتي به الناس – يعني: حل اليمين – فقال: سألت
__________
(1) أي: ما سبق.
(2) ليست في “الإبطال” وهو أنسب.
(3) أي: أحمد بن حنبل.
(4) “الإبطال”: “أو أفعله”.
(5) في “إبطال الحيل”: (ص/ 69 – 71).
(1/84)
أبا عبد الله الزبيري (159/ ب) كما سألتني، فقال: هذا لا أعرفه من قول الشافعي، ولا بلغني أن له في هذا قولًا معروفًا، ولا أرى من يدعي هذا عنه إلا محيلًا.
وأبو عبد الله الزبيري أحد الأئمة الأعلام من أصحاب الشافعي (1) – رضي الله عنه -.
* * *
__________
(1) عبارة شيخ الإسلام: “من قدماء أصحاب الشافعي”.
وهو: الزبير بن أحمد بن سليمان الزُّبيري، نسبة إلى الزبير بن العوام – رضي الله عنه – من أئمة الشافعية، له تصانيف، توفي (317).
“تاريخ بغداد”: (8/ 71)، و”طبقات الشافعية الكبرى”: (3/ 295 – 297).
(1/85)
الوجه الخامس عشر (1): وهو أن الحيل إنما تَصْدُر من رجلٍ كَرِه فِعْل ما أمر الله – سبحانه – به أو تَرْك ما نهى الله عنه، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} [محمد: 9]، وقال: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].
وقال تعالى: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 20، 21]. إلى غير ذلك من المواضع التي ذمَّ الله فيها من كره أَمْر ربِّه من الصلاة والزكاة والجهاد.
وقال في المُرْبِيْن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ … } [البقرة: 278، 279].
فيجب أن نتلقَّى أمرَ الله وأحكامَه بطِيْب نفسٍ وانشراحِ صَدْرٍ، ويجب أن يتيقَّن العبدُ أنَّ اللهَ لم يأمرْه إلا بما فيه صلاحُه، ولم يَنْهه إلا عمَّا في فعله فسادُه، وأن المأمورَ به بمنزلة الغذاء الذي هو قوام العبد، والمنهيَّ عنه بمنزلة السُّمِّ الذي فيه هلاك البَدَن.
__________
(1) من أدلة تحريم الحيل، وقد تقدم الرابع عشر (ص/ 61)، وانظر “الإبطال”: (ص/ 156).
(1/86)
ومن تيقَّن هذا لم تَطِبْ [نفسُه] (1) أن يحتالَ على سقوط واجبٍ في فِعله صلاحٌ له، ولا على فِعْل محرَّم في تركه صلاح له – أيضًا -، فإنما تنشأ الحِيَل من ضَعْف الإيمان، فلهذا كانت من النفاق، وصارت نفاقًا في الشرائع، كما أن النفاق الأكبر نفاق في الدين.
فإذا كانت الحِيَل مستلزمةً لكراهة أمر الله ونهيه، وذلك محرَّم بل نفاق، فحُكْم المستلزم كذلك، فتكون الحيل محرمة بل نفاقًا؛ لأنها تجر إلى كراهة الأمر والنهي اللذَيْن يحبهما الله ورسوله.
الوجه السادس عشر (2): أن نقول: الشارع لما حرَّم المطلَّقة ثلاثًا على زوجها حتى تنكح زوجًا غيره، ثم يُفارقها، لم يكن مقصوده وجودَ الحلِّ للزوج الأول، فإنه لم ينصب سببًا (3) يُفضي إليه غالبًا، حيث علَّق وجود الحل بأن تنكح زوجًا غيره، ثم يفارقها، والثاني قد يفارقها وقد لا يُفارقها، فَعُلِم أن الشارع نَفَى الحِلَّ إما عقوبة على الطلاق أو امتحانًا للعباد، أو لما شاء – سبحانه -، ولو كان مقصوده وجوده إذا أراده المكلَّف؛ لنصب له سببًا يُفضي إليه غالبًا، كما نصب البيع للملك إذا أرادَه (160/ أ) المكلَّف، ولذلك
__________
(1) زيادة من (م)، وفي “الإبطال”: “لم يطلب (كذا وصوابه: يَطب، وإن كان ما أثبتَه في نسخةٍ) نفسًا .. “.
(2) “الإبطال”: (ص / 157، 167).
(3) “الإبطال”: “شيئًا”، وكذا بعد أسطر.
(1/87)
نصب لحلِّ المرأة بعد الطلقتين إذا أراده المكلَّف سببًا غالبًا وهو تناكُح الزوجَين، فإنهما إذا أراداه فعلاه، ولهذا قال: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] و {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].
فعلَّق قُربان الصلاة على علمه بما يقوله، وقربان المرأة على الطهر، فعلق ذلك بسببٍ يتيسَّر غالبًا؛ لأنه – سبحانه – أراد وجودَ الحلِّ ووجودَ قربانِ الصلاة، بخلاف قوله: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] لم (1) يُيَسِّر ذلك له، بل علَّقه على سبب لا يوجد غالبًا ولا يتيسَّر كما أراده المكلَّف ولا في الغالب، فيجب الفرق بين هذا وهذا، أعني: بين ما يُقْصَد وجودُه لكن بشرط وجود غيره، وبين ما يُقْصَد عدمُه لكن بشرط أن لا يوجد غيره.
فمثال الأول: [أسباب] حل المال والوطء واللحم، فإن ذلك حرام حتى توجد هذه الأسباب، وهي مقصودة الوجود؛ لأنها [من] مصلحة الخلق.
ومثال الثاني: أسباب حل العقوبات من القتل والجَلْد والقَطْع، فإن الدماء والأبشار حرام حتى توجد الجنايات، وهي مقصودة العدم؛ لأن المصلحة عدمها.
ومن الثاني: تحريم الخبائث حتى توجد الضرورة، ونكاح
__________
(1) في “الأصل”: “لم ــــر ييسر”! .
(1/88)
المحلِّل ليس من القسم الأول؛ لأن السبب المبيح ليس منصوبًا لحصول الحل، أعني: حلها للأول، بل لحصول ما يُنافيه، فلا يكون حلُّها للأول مقصودًا للشارع إذا أراده المكلَّف.
إذا تبيَّن هذا، فإذا نَكَحَها ليُحِلَّها لم يقصد النكاح وإنما قَصَد أثر زوال النكاح، وهذا لم يقصده الشارع ابتداءً، وإنما أثبته عند زوال النكاح الثاني، فلا تتفق إرادة الشارع والمحلِّل على واحدٍ من الأمرين، إذ نكاحه إنما أراده للحل، والشارع إنما أراد ثبوت الحل تبعًا للنكاح المتعقِّب للطلاق، فلا يكون واحد منهما مرادًا لهما، فيكون عَبَثًا من جهة الشارع والعاقد، وما لا يُطابق إرادة الشارع غير معتبر.
وكذا الخُلْع لحلِّ اليمين، فإن الخلع إنما جعله الشارع لأجل البينونة التي يحصل بها مقصود المرأة من الافتداء، وحل اليمين يقع تبعًا لحصول البينونة، فإذا خالَعَ امرأتَه ليفعل المحلوفَ عليه لم [يكن] (1) قصدهما البينونة، بل حل اليمين، وحلها إنما جاء تبعًا، فتصير البينونة لأجل حلّ اليمين، وحلّ اليمين لأجل البينونة، فلا يصير واحد منهما مقصودًا منهما، فلا يُشرع عقدٌ ليس مقصودًا في نفسه، ولا مقصودًا (160/ ب) لما هو مقصود في نفسه من الشارع والعاقد جميعًا؛ لأنه عبث.
وتفاصيل الكلام فيها طول لا يسعه هذا الموضع.
__________
(1) سقطت من “الأصل”، وهي في (م) و”الإبطال”.
(1/89)
وأيضًا: فالمحلِّل يقصد أن ينكح ليُطلِّق، وكذا المخالع يقصد أن يُخالع ليُراجع، والعقدُ لا يُقْصَد به ضدُه ونقيضُه، فإن الطلاقَ لا يُقصد (1) بالنكاح، كما أن البيع لا يُعْقَد للفسخ، والهبة لا تُعقد للرجوع فيها قط، وليس له أن يحرم مفرِدًا أو قارنًا لقَصْد فسخ الحج والتمتُّع بالعمرة، فإن الفسخ إعدام العقد ورفعه، فإذا عقد العقد لأن يفسخه، كان المقصود هو عدمُ العقد، فلا يكون العقد مقصودًا أصلًا، فيكون عبثًا.
ولا يقال: مقصوده ما يحصل بعد الفسخ من الحل للمطلِّق؛ لأن الحل إنما يثبت إذا ثبت العقد ثم انفسخ، ومقصود العقد حصول موجِبِه، ومقصود الفسخ زوال موجبه، فإذا لم يقصد ذلك فلا عقد فلا فسخ، فلا يترتَّبْ عليه تابُعِه، وهذا بيِّن لمن تأمَّله، ولهذا سُمِّي هذا متلاعِبًا مستهزءًا، ولهذا يظهر الفرق بين هذا وبين المقاصد الفرعيَّة في النكاح، مثل من يقصد أن يتزوَّج امرأةً لمصاهرةِ أهلها أو لترَبِّي أولادَه، فإن هذا لا يُنافي النكاح، بل يستدعي بقاءَه ودوامَه، فإن الشيءَ يُفْعَل لأغلب فوائدِه، ولأنْدَرِ فوائده (2) بحيث لا تكون تلك المقاصد مُنافية لحقيقته بل مُجامعة لها، أما أن يَفْعَل لرفع حقيقته، ويوجد لمجرَّد أن تعدم؛ فهذا باطل.
__________
(1) في “الإبطال”: “يعقد”.
(2) كذا في الأصل و (م) وبعض نسخ الإبطال، وفي الأخرى: “فوائده” و: “مفاسده”.
(1/90)
فإن قيل: لا شك أن قصد تراجعهما قصد صالح؛ لما فيه من المنفعة لهما ولولدهما.
قيل: هذه مناسبة شهد الشارعُ لها بالإلغاء والإهدار، ومثل هذا هو الذي يُحل الحرام ويُحرِّم الحلال، وما جاء الشرعُ بإلغائه فاعتبارُه مراغمةً للشارع، تصدر من عدم ملاحظة حكمته، أو عدم مقابلته بالرضى والتسليم (1)، وهي في الحقيقة لا تكون مصالح (2) وإن ظنَّها الظَّانُّ أنها مصالح، بل حكمة الله التي شَرَع قد عَلِمَها الله ورسولُه ومن شاءَ من خلقه، خلافَ ما رآه هذا القاصِر، ولهذا كان الواجب طاعة الله ورسوله فيما ظهر لنا حُسْنُه وفيما لم يظهر، فإن خير الدنيا والآخرة طاعة الله ورسوله.
ومن رأى أن الشارع قد حرَّم هذه على مُطَلِّقها ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره، وعَلِم أن النكاح الحسن الذي لا ريب في حِلِّه هو نكاح الرغبة = عَلِم قطعًا أن الشارع لم يكن متشوِّفًا إلى ردِّ هذه إلى زوجها إلا أن يقضي الله ذلك بقضاءٍ يُيَسِّره ليس للخَلْقِ فيه صُنْع، ولو كان هذا المعنى مطلوبًا لسَنَّه وندبَ إليه كما نَدَب إلى الإصلاح بين (161/ أ) الخَصْمَين. وقد قال من لا ينطق عن الهوى: “ما تركتُ من شيءٍ يُقرِّبُكُم إلى الجنَّة إلا وَقَد حدَّثْتُكُمْ به، ولا مِن شيءٍ يُباعِدُكم عن النَّارِ إلا وقد حَدَّثتكم به، تَرَكْتُكم على البَيْضاءِ
__________
(1) العبارة في “الإبطال”: “مصدرها عدم ملاحظة حكمة التحريم، وموردها عدم مقابلته بالرضا والتسليم”.
(2) في “الأصل” و (م): “مصالحًا”.
(1/91)
ليلُها كنهارها لا يزيغُ عنها بَعْدي إلا هالِكٌ” (1).
وقد علمَ اللهُ كثرةَ وقوع الطلاق الثلاث، فهلَّا ندبَ إلى التحليل وحضَّ عليه! ولِمَ زجر الرسول وخلفاؤه (2) عن ذلك؟ ولعنوا فاعِلَه من غير استثناء نوعٍ، ولا ندب إلى شيءٍ من أنواعه، ولو كان مقصودُ الشارع ردَّها لما حرَّمها عليه؛ لأن الدفعَ أهونُ من الرفع. وما يحصل في ذلك من الضرر فإن المطلِّق هو الذي جلَبَه على نفسه، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].
فصلٌ (3)
ومما ظن المحتالون أنه من الحِيَل: سائر العقود الصحيحة؛ فقالوا: البيع احتيالٌ على حصول الملك، والنكاح احتيال على حصول حل البضع، وكذلك سائر تصرفات الخلق، فهو احتيال على طلب مصالحهم التي أحلَّها الله تعالى لهم.
__________
(1) أخرجه الشافعي في “الرسالة” رقم (289، 306)، والبيهقي في “الشعب”: (2/ 67)، و”السنن الكبرى”: (7/ 76) عن المطلب بن حنطب.
وأخرجه عبد الرزاق: (11/ 125) عن معمر عن عمران عن صاحب له.
وأخرجه هناد في “الزهد”: (1/ 281)، والدارقطني في “العلل”: (5/ 273)، والحاكم: (2/ 4)، والبيهقي في “الشعب”: (7/ 299) عن ابن مسعود.
وانظر حاشية “الرسالة” (ص/ 93 – 103) للشيخ أحمد شاكر فقد أطال في الكلام عليه، و”السلسلة الصحيحة” رقم (1803).
(2) “الأصل”: “وخلافه”!.
(3) ليست في “الإبطال”، وانظره: (ص/ 197).
(1/92)
وقد قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – لعامله: “بِع الجَمْعَ بالدراهم ثم ابْتَع بالدَّراهِم جَنِيْبًا” (1)، فعقد العقد الأول ليتوسل به إلى العقد الثاني. وهذه حيلة تضمنت حصول المقصود بعد عَقْدَين، فهي أوكد مما تضمنت حصولَه بعد عقد واحد، وأشْبَهَتْ العِيْنة، فإنه قصد أن يعطيه دراهم، فلم يمكن بعقد واحد، فعقد عقدين، بأن باع السلعة ثم إبتاعها.
والجواب عن هذا: أن تحصيل المقاصد بالطرق المشروعة إليها، ليس من جنس الحِيَل، سواء سُمِّي حيلة أولم يُسَمَّ، فليس النزاع في مجرَّد اللفظ، بل الفرق بينهما ثابت من جهة الوسيلة والمقصود، اللَّذَيْن هما المحتال به والمحتال عليه، وذلك أن البيع مقصوده أن يجعل ملك الثمن للبائع، ويحصل ملك المبيع للمشتري، فيكون كل منهما ملكًا لمن انتقل إليه كسائر أملاكه، وذلك في الأمر العام إنما يكون إذا قَصَد المشتري ملك السلعة للانتفاع بعينها أو انفاقها أو التجارة فيها.
فإن كان قصده ثمنها فيبتاعها ثم يبيعها ويَسْتَنْفِق ثمنَها، فهي التَّوَرُّق، وفيها خلاف ذكرناه (2).
فأما إذا كان مقصود (161/ ب) الرجل نَفْس الملك المباح بالبيع وما هو من توابعه، وحصَّله بالبيع، فقد قَصَد بالسبب ما
__________
(1) تقدم تخريجه (ص/ 65 – 66).
(2) (ص/ 54).
(1/93)
شرعَه الله له، وأتى بالسبب حقيقةً، وسواء حصل ذلك بعقد أو عقدين. مثل أن يكون بيده سِلْعة وهو يُريد سلعة أخرى غيرها لا تُباع بسلعة لمانع شرعي أو عُرْفي أو غيره، فيبيع سلعته ليملك ثمنها، وتملُّك الثمن أمر مقصود مشروع، ثم يبتاع التي يريدها.
وهذه قضية بلال (1) – رضي الله عنه – بخيبر سواء، فإنَّه قصد بالبيع ملك الثمن، ثم ابتاع بالثمن جَنِيْبًا، فلما كان بائعًا قَصَدَ ملك الثمن حقيقةً، ثم لما كان مُبتاعًا قَصَدَ ملك السلعة حقيقةً.
فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري منه؛ فلا محذور فيه ألبتة، لأن كلَّ واحد من العقدين مقصود، ولذلك يستوفيان حكم العقد الأول من النقد والقبض ونحو ذلك.
وأما إن ابتاع بالثمن من مُبْتاعه من جِنْس ما باعه، فَيُخاف أن لا يكون العقد الأول مقصودًا منهما، بل قصدهما بيع السِّلْعة الأولى بالثانية، فيكون ربًا، ويظهر أثر ذلك بأنه لم يحرز الثمنَ ولا نَقَدَه ولا قَبَضَه، فيُعْلَم أنه لم يقصد بالعقد الأول ملك الثَّمن، بل عَقَد العقد الأول على أن يُعيد إليه الثمن ويأخذ الأخرى، وهذا تواطؤٌ منهما حينَ عَقْدِه على فَسْخِه، فلم يكن العقد الأول مقصودًا، فوجوده كعدمه، فيكون (2) قد اتفقا على أن يبتاع بالتَّمْرِ تَمْرًا أو ربما تشارطا على سعر إحدى السلعتين في الأخرى أوَّلًا، ثم بعد ذلك
__________
(1) انظر التعليق رقم (3)، ص/ 65.
(2) كذا في “الأصل” و (م). و”الإبطال”: “فيكونان”.
(1/94)
يفعلا العقد بالدراهم صورةً لا حقيقةً.
والعقدُ لا يُعْقَد ليُفْسَخ من غير غَرَض يتعلَّق بنفس وجوده، فإن هذا باطل كما تقدَّم بيانُه (1)، ولو كان هذا مشروعًا لم يكن في تحريم الربا حكمة إلا تضييع الزمان، وإتعاب النفوس بلا فائدة، فإنه لا يشاءُ شاءٍ أن يبتاع ربويًّا بأكثرَ منه من جنسه إِلَّا قال: بعتُك هذا بكذا، واشتريتُ منك هذا بهذا الثمن، فلا يعجز أحدٌ عن إحلال ربًا حرَّمه الله تعالى قطُّ.
وكذلك جميع ما نهى عنه، فيا سبحان الله! أيعودُ الرِّبا الذي حرَّمه الله ولعنَ آكله وشاهديه وكاتبه (2)، وعظَّم أمره، وأوجَبَ محاربة مستحلِّه = إلى أن يُسْتحلَّ جميعُه بأدنى سَعْي من غير كُلْفةٍ أصلًا، إلا بصورة عَقْد هي عبث ولعب يُضْحَك منها ويُسْتَهزأُ بها؟ ! .
أم يَسْتحسن مؤمن أن ينسب نبيًّا من الأنبياء فضلًا عن سيد المرسلين، بل أن ينسب ربَّ العالمين إلى [أن] يحرِّم (3) هذه المحرمات العظيمة ثم يُبيحها بضربٍ من اللعب والهزل (162/ أ) الذي لم يُقْصَد؟ ! .
وجِمَاعُ ذلك: أنه إذا اشترى منه ربويًّا، ويريد أن يشتري منه بثمنه من جنسه، فإما أن يتواطئا عليه لفظًا، أو يكون العرف قد
__________
(1) (ص/ 87 – 90).
(2) انظر ما سبق (ص/ 73).
(3) المثبت من “الإبطال”، وفي “الأصل”: “إلى يحرم”، و (م): “إلى تحريم”.
(1/95)
جرى بذلك، أو لا يكون كذلك. فإن كان فهو عقد باطل؛ لما تقدم من عدم قَصْد العقد. وإن لم يَجْر بينهما مواطأة، لكن قد عَلِم المشتري أن البائع يريد أن يشتري منه فهو كذلك؛ لأن علمه بذلك يمنع من قَصْد الثمن من كل منهما، بل علمه بذلك ضرب من المواطأة العرفية.
وإن كان [قصد] البائع الشَّرْيَ منه ولم يعلم المشتري؛ فهنا قال الإمام أحمد: لم يجز إلا أن يمضي ليشتري من غيره فلا يمكنه ثم يرجع فيشتري منه (1).
وكذلك كره مالك أن يبتاع منه في الوقت أو بعد يوم أو يومين. قال ابن القاسم: فإن طال الزمان فلا بأْس.
والذي ذكره أحمد؛ لأنه متى قَصَد الشَّرْيَ منه قد لا يحتاط في الثمن لعدم قصده تملُّكَه، بخلاف ما إذا راح ليشتري من غيره فلم يجد، فإنه يقع العقد الأول مقصودًا بلا خلل من عدم النقد والوزن وغيره، فيجوز.
ثم إن المتقدمين من أصحابه حملوا المنع على التحريم. وقالط القاضي وابنُ عقيل وغيرهما: إذا لم يكن عن حيلةٍ ومواطأة؛ لم يحرم، وقد أومأ إليه أحمد في رواية الكرماني في رجل اشترى
__________
(1) نص رواية الإمام: “لو باع رجلٌ من رجلٍ دنانير بدراهم لم يجز أن يشتري بالدراهم منه ذهبًا إلا أن يمضي ليبتاع بالورق من غيره ذهبًا فلا يستقيم، فيجوز أن يرجع إلى الذي ابتاع منه الدنانير فيشتري منه ذهبًا” اهـ.
(1/96)
من رجلٍ ذهبًا ثم باعه منه؟ قال: يبيعه من غيره أعجب إليَّ.
وذكر ابنُ عقيل أن أحمد لم يكرهه في رواية أخرى، وقد تقدم (1) عن ابن سيرين أنه قال: كان يكره للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير، وهذا إخبار عن الصحابة، فإن ابن سيرين من أكابر التابعين.
وهذه المسألة عكس مسألة العِيْنة؛ لأنه قد عاد الثمن إلى المشتري، وفي العِيْنة قد عاد المبيع إلى البائع.
ثم إن كان في الموضِعَين لم يقصد الثمن ولا المبيع، وإنما جُعل وُصْلة إلى الربا، فلا ريب في تحريمه، وكلام أحمد وغيره في ذلك كثير، وصرَّح به القاضي في مسألة العينة، وإن كان أبو الخطَّاب قد جعل في صحته وجهين، فإن الأول هو الصواب.
ولهذه المسائل مأْخَذٌ آخر عند أبي حنيفة وأصحابه وهو: كون الثمن إذا لم يُستوفَ لم يتم العقد الأول، فيصير الثاني مبنيًّا عليه، وهو خارجٌ عن قاعدة الحِيَل والذرائع، فصار لها ثلاثة مآخذ.
والتحقيق: أنها إذا كانت من الحيل أُعْطِيت حكمَها وإلا اعتُبِر فيها المأخذان الآخران، هذا إذا لم يقصد العقد الأول، وإن كان قد قصده حقيقةً فهو صحيح، لكن مادام الثمن في ذمةِ المشتري لم يجز أن يشتري منه المبيع بأقل منه من جنسه، ولا يبتاع منه بالثمن ربويًّا لا يباع بالأول (162/ ب) نساءً، لأن أحكام [العقد] الأول لا
__________
(1) (ص/ 66).
(1/97)
تُستوفَى إلا بالتقابض، فمتى لم يحصل التقابض كان ذريعة إلى الربا، وإن تقابضا وكان العقد مقصودًا فله أن يشتري منه كما يشتري من غيره.
وأما قوله – صلى الله عليه وسلم – لبلال: “بِع الجَمْعَ بالدراهم ثُمَّ ابْتَعْ بالدراهم جَنِيْبًا” (1)، فليس فيه دلالة عَلى الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة لوجوه:
أحدها: أنه أمره أن يبيع سلعته الأولى، ثم يبتاع بثمنها سلعة أخرى، ومعلوم أن ذلك إنما يقتضي البيعَ الصحيح، ونحن نقول: كلُّ بيع صحيح فإنه يفيد الملك، لكن الشأن في بيوع قد دلَّت السنة على أن ظاهرها – وإن كان بيعًا – فإنها ربا، وهي بيع فاسد، ومثل هذا لا يدخل في الحديث حتى يثبت أنه بيعٌ صحيح، فلا حجَّةَ فيه على صحة صورة من صور النزاع ألبتة.
والنكتة أن يُقال: الأمر المطلق [بالبيع] إنما يقتضي الصحيح، ونحن لا نُسلِّم صحة ذلك (2).
الوجه الثاني: أن الحديث ليس فيه عموم؛ لأن الأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرًا بشيءٍ من قيودها؛ لأن الحقيقة مشتركة بين
__________
(1) تقدم تخريجه (ص/ 65 – 66) والتعليق عليه.
(2) أي: “لا نسلّم أن هذه الصورة التي تواطآ فيها على الاشتراء بالثمن من المشتري شيئًا من جنس الثمن الربوي بيع صحيح، وإنما البيع الصحيح: الاشتراء من غيره أو الاشتراء منه بعد بيعه بيعًا مقصودًا بتاتًا، لم يقصد به الشراء منه” انظر “الإبطال”: (ص/ 205).
(1/98)
الأفراد، والقَدْر المشترك ليس هو ما تميَّزَ به كلُّ واحدٍ من الأفراد عن الآخر ولا هو مستلزمًا له، فلا يكون الأمر بالمشترك أمرًا بالمميز بحال. نعم هو مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه، فيكون عامًّا لها على سبيل البدل، فلا يقتضي العموم للأفراد على سبيل الجمع، وهو المطلوب. فقولُه: “بع هذا الثوب” لا يقتضي بيعَه لزيد ولا لعَمرو، ولا بكذا، ولا بهذه السوق؛ لكن متى أتى بالمسمَّى حصل ممتثلًا من جهة وجود تلك الحقيقة، لا من جهة وجود تلك القيود، وهذا لا خلاف فيه.
فليس في الحديث أن يبتاع من المشتري ولا من غيره، فلا يدل لفظُه على شيءٍ من ذلك بعينه، ولا على جميع ذلك، مطابقة ولا تَضَمُّنًا ولا التزامًا، كما لا يدل على بيعه حالًا أو مؤجلًا، ولا بثمن المثل أو غيره؛ لخروج هذه القيود عن مفهوم اللفظ، وإنما استفيد عدم الإجزاء إذا باع بدون ثمن المثل أو بغير نقد البلد من العُرْف الذي ثبت للبيع المطلق.
وكذلك ليس فيه دليل على أنه يبيعه من المشتري ولا من غيره؛ لكن إنما يُستفاد ذلك من أدلة أخرى، فما أباحته الشريعة جاز فِعْلُه، وما لا فلا.
وبهذا يظهر الجواب عن قول من يقول: لو كان الابتياع من المشتري حرامًا لنهى عنه، فإن مقصوده – صلى الله عليه وسلم – إنما كان بيان الطريق التي بها يحصل اشتراء التَّمْر الجيِّد لمن عنده رديء، ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه، لكون المقصود ذكر الحكم على وجه
(1/99)
الجملة، أو لأن المخاطَب (163/ أ) يفهم البيعَ الصحيحَ، فلا يحتاج إلى بيان. فلا يُحْتج بهذا الحديث على نَفْي شرطٍ مخصوص، كما لا يُحْتج به على نفي سائر الشروط.
الوجه الثالث: أن قوله: “بِع … ” إنما يُفْهم منه البيع المقصود الخالي عن شرط يمنع كونه مقصودًا، ودليل ذلك: أنه لو قال: بعتُ هذا، أو بِعْ هذا، لم يُفْهم منه بيع المكره، ولا بيع الهازل، وإنما يُفْهم البيع الذي قصد به نقل الملك، ولو قالوا: “فلان باع دارَه” لم يُفْهم منه (1) بيع لا حقيقةَ له، فلا تدخل هذه الصورة في لفظ البيع؛ لانتفاء مسمَّى البيع المطلق.
الوجه الرابع: أنَّه – صلى الله عليه وسلم – نهى عن بيعتين في بيعة (2)، ومتى تواطئا على أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه، فهو بيعتان في بيعة، فلا يكون داخلًا في الحديث.
الوجه الخامس: أنه لو فُرِضَ أن في الحديث عمومًا لفظيًّا؛ فهو مخصوص بصور لا تُعَدُّ، فإنَّ كلَّ بيع فاسد لا يدخل فيه،
__________
(1) في “الإبطال”: (ص/ 208 – طبعة المكتب الإسلامي) هنا زيادة “إلا” وهي خطأ، يُفْسِد معنى الكلام، وهي ليست في طبعة مكتبة لينه (ص/ 291).
(2) أخرجه أحمد: (11/ 203 رقم 6628)، والنسائي: (7/ 295)، والدارقطني: (3/ 74 – 75)، والبيهقي: (5/ 340) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده = عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنه -.
وهو حديث صحيح بشواهده، وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود – رضي الله عنهم -.
(1/100)
فتضعُف دلالته. وتُخَص منه هذه الصورة – أيضًا – بما ذكرناه من الأدلة التي هي نصوص في بطلان الحِيَل، وانظر قوله: “لعنَ اللهُ المحلِّلَ والمحلَّلَ لَه” (1)، فإنه عام لفظًا ومعنًى لم يُخص منه شيء ولم يعارضه نصٌّ آخر، فأيهما أولى بالتخصيص؛ هو أم قوله: “بِع الجَمْعَ بالدراهم ثم ابْتَع بها جَنِيْبًا”؟ مع أنه ليس بعامٍّ لفظًا ولَا معنًى، بل هو مطلق.
* * *
__________
(1) انظر ما سيأتي (ص/ 129 – 130).
(1/101)
الوجه السابع عشر (1): أن الحِيَل مع أنها محدثة فإنها من باب الرأي، وإنما أحدثها من كان الغالبُ عليهم اتِّباعَ الرأي، فيدلُّ على بطلانها ما ورد من الحديث والأثر في ذمِّ الرأي وأهله؛ لأنها رأي محض، ليس فيها أثر ولا لها نظير.
وهذا مثل قوله – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ اللهَ لا يَنْزعُ العلمَ بعد أن أعطاهُمُوه ولكنْ بقبْضِ العلماء، فيَبْقَى ناسٌ جُهَّال يُسْتَفتَونَ فَيُفْتُوْنَ برَأْيهم فيَضِلُّون ويُضِلُّون” رواه البخاري (2)، وهو مشهور في “الصحيحين” (3) وغيرهما.
إلى أحاديث أُخَر، مثل قوله: “سَتَفْترق أُمَّتي على بضعٍ وسبعين فرقة؛ أعظمها فتنةً الذين يقيسون الأمورَ برأيهم، فيُحِلُّون الحرامَ ويُحَرِّمون الحلالَ” (4). وهذا مشهور عن نُعَيم بن حماد،
__________
(1) “الإبطال”: (ص/ 209).
(2) رقم (7307) بهذا اللفظ.
(3) من حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص – رضي الله عنهما – البخاري تقدم ومسلم رقم (2673).
(4) أخرجه البزار في “مسنده”: (7/ 186)، والطبراني في “الكبير”: (18/ رقم 90)، وابن عدي: (3/ 429)، والحاكم في “المستدرك”: (3/ 547)، وابن عبد البر في “الجامع”: (2/ 1038) وغيرهم من حديث عوف بن مالك – رضي الله عنه -.
قال البزار: “وهذا الحديث لا نعلم أحدًا حدّث به إلا نُعيم بن حماد، ولم يُتابع عليه” اهـ.
وهذا الحديث مما أُنكر على نعيم بن حماد، وضُعّف بسببه.
(1/102)
ورواه عدة من الثقات عنه، وإسناده في الظاهر جيد (1)، ومعناه شبيه بالواقع.
إلى غيره من الأحاديث التي اشتهرت بِرَدِّ مذهب أهل الأهواء. ورُوِيَ عن ابن مسعود أنه قال: “ليسَ عامٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه، لا أقولُ: عامٌ أَمْطر من عام ولا أَخْصَب، ولا أَميرٌ خيرٌ من أمير؛ ولكن ذهابُ خيارِكم وعلمائكم، ثمَّ يحدثُ قومٌ يقيسونَ الأمورَ برأيهم، فَيُهدم الإسلامُ ويُثْلَم” (2).
وفي ذم الرأي آثار مشهورة عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وغيرهم. وهذا إنما يُحمل على قياس عارض الكتابَ والسنةَ وما كان عليه سلفُ الأمة، فهذا هو الذي يهدم الإسلام، بأن يضع الاسم على غير موضعه، أو يُراعَى (163/ ب) مجرَّدُ اللفظ دون موضوعه، ولا يخفى أن الحِيَل تندرج في ذلك.
ولا يُراد بهذا اجتهاد الرأي على الأصول من الكتاب والسنة والإجماع، ممن يعرف الأشباهَ والنظائرَ، مثل قياس تشبِيهٍ وتمثيل، أو قياس تعليل وتأصيل، قياسًا لم يُعارضْه ما هو أولى منه، فإن أدلة جواز هذا كثيرة جدًّا.
وأيضًا: ليس في هذا القياس تحليل ولا تحريم بخلاف
__________
(1) وبقية عبارة الشيخ: “إلا أن يكون قد اطّلع فيه على علة خفية”.
(2) أخرجه الدارمي: (1/ 76)، والطبراني في “الكبير”: (رقم 8551)، والداني في “السنن الواردة في الفتن”: (3/ 517)، والبيهقي في “المدخل”: (1/ 186).
(1/103)
الأول، فإنه الذي يهدم الإسلام باستحلال المحرمات الظاهرة بنوع تأويل، وهذا بيِّن في الحِيَل، فإن تحريم السِّفاح والرِّبا والخمر ونحو ذلك، هو من الأحكام الظاهرة، وإنما يضلّ من يتأوَّل ويَسِمُ الشيءَ من ذلك بغير اسمه، ويُحِلُّه بنوع حيلةٍ، فيهدم الإسلام حينئذٍ.
قال بِشْرُ بنُ السَّريّ (1) – وهو من العلماء الثقات أخذ عنه الإمام أحمد وغيره – قال: نظرتُ في العلم، فإذا هو الحديث والرأي، فالحديث فيه ذِكْرُ النبيين والمرسلين، وذكرُ الموت وربوبيةُ الرب، وجلالُه (2) وعظمتُه، والجنةُ والنارُ، والحلالُ والحرامُ، والحثُّ على صلة الأرحام. ونظرتُ في الرأي، فإذا فيه المكر والخديعة والتشاحُّ والمماكسة في الدين، واستعمال الحيل، والبعث على قطع الأرحام.
وروي مثل هذا عن يونس بن أسلم (3).
وقال الإمام أحمد – وذكر الحيل من أصحاب الرأي – فقال: يحتالون لنقض سنن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (4).
الوجه الثامن عشر (5): أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – أخبر أن أول ما تفقدون
__________
(1) ترجمته في “السير”: (9/ 332 – 334).
(2) “الأصل”: “وحاله” والمثبت من (م) و”الإبطال”.
(3) ذكره عنهما ابن عبد البر في “جامع بيان العلم”: (1/ 783).
(4) انظر (ص/ 43).
(5) “الإبطال”: (ص/ 217).
(1/104)
من الدين الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة (1). وحدَّث عن رفع الأمانة الحديثَ المشهورَ، وفيه: “أنه يحدُثُ قومٌ يشهدون ولا يُسْتشهدون، ويَخُونون ولا يُؤْتمنون … ” (2).
وهذه أحاديث صحيحة.
ومعلوم أن الحيل تفتح بابَ الخيانة والكذب؛ لاتفاقهما على إظهار عقد ليس له حقيقة، ولهذا لا يطمئن القلبُ إلى من يستحلُّ الحِيَلَ؛ خوفًا من مكرِه، وقد قال [- صلى الله عليه وسلم -]: “يُنْصَبُ لكلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامةِ عند اسْتِهِ بقدْرِ غَدْرَتِهِ” (3).
يُبَيِّنُه:
الوجه التاسع عشر: وهو أن الله – سبحانه – أوجب في المعاملات خاصةً، وفي الدين عامةً النصيحةَ والبيانَ، وحرَّم الخلابة والغش والكتمان، ففي “الصحيحين” (4) عن جرير قال: “بايعتُ رسولَ اللهِ على النُّصْحِ لكلِّ مُسْلم”.
__________
(1) أخرجه تمام في “فوائده”: (1/ 84)، والقضاعي في “مسند الشهاب”: (1/ 156)، والضياء في “المختارة”: (1/ 495) وغيرهم من حديث أنس – رضي الله عنه -.
(2) أخرجه البخاري رقم (2651)، ومسلم رقم (2535) من حديث عمران بن حصين – رضي الله عنه -.
(3) الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري رقم (3188، 6177، 6178 وغيرها)، ومسلم رقم (1735 – 1738) من حديث ابن عمر وأبي سعيد – رضي الله عنهما -، واللفظ الذي ذكره المؤلف ملفَّق من عدة روايات.
(4) أخرجه البخاري رقم (58)، ومسلم رقم (56).
(1/105)
وعن تميم عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة، قالوا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم” (1).
وقال: “من غَشَّنا فليسَ مِنَّا” رواه مسلم (2).
وقد عُلِمَ أنَّ المحتال ليس بناصِح (164/ أ) للمحتال عليه، بل هو غاشٌّ له، وهذا ظاهر في مثل الحِيَل التي تبطل الحقوق، وكثير من الحيل لا تتم إلا بوقوع الكذب أو الكتمان (3).
وصحَّ عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “بَيْعُ المُحَفَّلات خِلابَة، ولا تحلُّ الخِلَابَةُ لمسلمٍ” (4). وهذا نص في تحريم جميع أنواع الخلابة في البيع وغيره.
والخلابة: الخديعة، يقال: رجل خلَّاب، أي: خدَّاع، وامرأة خلَّابة، أي: خدَّاعة. والبرق الخُلَّب، والسحاب الخُلَّب: الذي لا غيث معه، كأنه يخدع من يراه.
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (55).
(2) رقم (101).
(3) “الأصل” و (م): “أو كتمان” والإصلاح من “الإبطال”.
(4) أخرجه أحمد: (7/ 194 رقم 4125)، وابن ماجه رقم (2241)، والبيهقي: (5/ 317) وغيرهم من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -.
وفيه جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف.
ورُوِي موقوفًا – وهو أصح – رواه عبد الرزاق: (8/ 198)، وابن أبي شيبة: (4/ 339)، وانظر “العلل”: (5/ 48) للدارقطني، و”الفتح”: (4/ 430).
(1/106)
وفي “الصحيحين” (1) عن الرجل الذي كان يُخْدَع في البيع، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إذا بايعتَ فقلْ: لا خِلابَة”.
وهذا شرط موافقٌ لمقتضى العقد؛ ولكن أراد بيانه – أيضًا – بالشرط، كما قال – صلى الله عليه وسلم – في بيع العدَّاء (2): “بيع المسلم للمسلم لا داءَ ولا غائلةَ ولا خِبْثَةَ” (3). يُبَيَّنُه قوله: “ولا تحلُّ الخلابةُ لمسلمٍ”، وإذا حُرِّمت الخلابة فالحيل خلابة، إما مع الخَلْق أو مع الخالق، وهو – سبحانه – أحق أن يُستحيى منه.
الوجه العشرون (4): ما أخرجاه في “الصحيحين” (5) عن أبي حُميد الساعدي قال: استعمل نبيُّ الله – صلى الله عليه وسلم – رجلًا من الأزد يقال له: ابن اللُّتْبِيَّة على الصدقة، فلما قَدِم قال: هذا لكم وهذا أُهديَ لي، قال: فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على المنبر، فَحَمِد اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني استعملُ الرجلَ منكم على العمل مما ولَّاني
__________
(1) البخاري رقم (2117)، ومسلم رقم (1533) وغيرهما من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
(2) قال الحافظ في “الفتح”: (4/ 363): “بالتثقيل وآخره همزة – بوزن الفعَّال – ابن خالد بن هوذة بن ربيعة بن عمرو … ، صحابي قليل الحديث، أسلم بعد حنين” اهـ.
(3) أخرجه الترمذي رقم (1216)، وابن ماجه رقم (2251)، والدارقطني: (3/ 77)، والبيهقي: (5/ 327) وغيرهم.
قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عباد بن ليث”، وحسنه الحافظ في “الفتح”: (12/ 367). و”خبثة” بضم الخاء وكسرها.
(4) “الإبطال”: (ص/ 232).
(5) البخاري رقم (3636)، ومسلم رقم (1832).
(1/107)
الله، فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا أُهدي لي، أفلا جَلَس في بيت أبيه وأُمِّه حتى تأتي هديَّتُه إن كان صادقًا، والله لا يأخذ أحدكم شيئًا بغير حقَّه إلا لقيَ اللهَ يَحْمِلُه يومَ القيامة … ” الحديث.
فوجه الدلالة: أن الهدية عطيَّة يُبْتَغَى بها وجهُ المعطي وكرامتُه، فلم ينظر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – إلى ظاهر الإعطاء قولًا وفعلًا، ولكن نظر إلى قصد المعطين ونياتهم، التي تُعْلَم بدلالةِ الحال، فإن كان الرجل بحيث لو نُزِع عن تلك الولاية أُهدي له تلك الهدية، لم تكن الولاية هي الداعية للناس إلى عطيَّتِه، وإلا فالمقصود بالعطيَّة إنما هي ولايته؛ إما ليكرمهم فيها أو يخفف عنهم، أو يقدمهم على غيرهم، أو نحو ذلك، فاعتبر – صلى الله عليه وسلم – قصدَهم، فكان هذا أصلًا في اعتبار المقاصد ودلالات الحال في العقود، وهو المطلوب.
وهذا الحكم الذي ذكره النبي – صلى الله عليه وسلم – أصلٌ عظيم في كل من أخذ شيئًا أو أعطاه تبرُّعًا لشخص أو معاوضة بشيءٍ في الظاهر وهو في القصد والحقيقة لغيره، فإنه يقال: هلَّا تركَ ذلك الشيء الذي هو المقصود، ثم ينظر هل يكون ذلك الأمر إن كان صادقًا. فيقال في جميع العقود الربوية – إذا كانت خداعًا – مثل ذلك، كما ذكرناه.
(164/ ب) وهذا الأصل لكل من بذل لجهةٍ لولا هي لم يبذله، فإنه يَجْعل تلك الجهة هي المقصودة بذلك البذل، فيكون المال لربِّ تلك الجهة، إن حلالًا فحلال وإلا فحرام (1).
__________
(1) “الأصل”: “حرام”، و”الإبطال”: “وإلا كانت حرامًا”، والمثبت من (م).
(1/108)
ونظير حديثِ ابنِ اللُّتْبِيَّة، وهو:
الوجه الحادي والعشرون: ما روى ابنُ ماجه (1) عن يحيى بن [أبي] (2) إسحاق الهُنَائي قال: سألتُ أنسَ بنَ مالك: الرجلُ مِنَّا يُقرض قرضًا لأخيه، فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إذا أَقْرَض أحدُكم قرضًا فأُهْدِي إليه أو حَمَله على الدابة، فلا يَقْبَلْه ولا يركبها، إِلا أَن يكون جرى بينَه وبينَه قبل ذلك”.
هكذا رواه ابن ماجه، ورواه سعيد (3) والبخاري في “تاريخه” (4).
وروى البخاري في “صحيحه” (5) عن أبي بُرْدة قال: قَدِمتُ المدينةَ فلقيتُ عبدَ الله بن سَلَام فقال لي: إنَّك بأرضٍ الرِّبا فيها فاشٍ، فإذا كان لكَ على رجلٍ حقٌّ فأهدى إليك حِمْلَ تِبْنٍ أو حِمْلَ شعيرٍ أو قَتٍّ، فلا تأخُذْه، فإنَّه رِبا.
وروى سعيد في “سننه” هذا المعنى عن أُبي بن كعب. وجاء عن عبد الله بن مسعود، وعن عبد الله بن عمر (6).
__________
(1) رقم (2432).
(2) زيادة من “الإبطال”: (ص/ 234)، وابن ماجه، وانظر كلام شيخ الإسلام فيمن هو يحيى بن أبي إسحاق، وكذا المزَّي في “تحفة الأشراف”: (1/ 427)، و”النكت الظراف – بهامشه”.
(3) ابن منصور.
(4) (8/ 310).
(5) رقم (3814).
(6) أخرج أثر ابن عمر عبد الرزاق: (8/ 144)، وصححه ابن حزم في “المحلى”: (8/ 86).
(1/109)
فنهى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – وأصحابُه المُقْرِضَ عن قبول هدية المُقْترض قبل الوفاء؛ لأن المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء، فيصير بمنزلة أن يأخذ الألف بهدية ناجزة وأَلْف مؤخَّرة، وهذا ربا.
ولهذا جاز أن يزيده عند الوفاء، ويُهدي له بعد الوفاء؛ لزوال المعنى، ومن لم ينظر إلى المقاصد أجاز وخالف السنة، وهذا بين لمن تدبَّره من غير هوى.
قال تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} [المدثر: 6] وهو أن يُهْدي ليُهْدَى إليه أكثر مما أَهْدى، فهذا كلُّه دليل على أن صور العقد غير كافية، فكلّ ما لو شَرَطه في العقد كان عوضًا فاسدًا فقصده فاسد؛ لأنه لو كان صالحًا لما حَرُم اشتراطه؛ لقوله [- صلى الله عليه وسلم -]: “المُسْلِمونَ على شروطِهم إلا شَرْطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا” رواه أبو داود (1).
الوجه الثاني والعشرون: أن أصحابَ النبي – صلى الله عليه وسلم – أجمعوا على تحريم هذه الحيل وإبطالها، وإجماعُهم حجةٌ قاطعة يجب اتباعُها، وليس في ذلك خلاف بين الفقهاء ولا بين سائر المؤمنين الذين هم
__________
(1) رقم (3594).
وأخرجه الدارقطني: (3/ 27)، والحاكم: (2/ 49)، والبيهقي: (6/ 79) وغيرهم من حديث أبى هريرة – رضي الله عنه -.
والحديث صححه الحاكم وقوَّاه الحافظ في “التغليق”: (3/ 281 – 282)، لكن ليس فيه زيادة “إلا شرطًا أحلّ حرامًا … “، وهذه الزيادة إنما هي في حديث عمرو بن عوف أخرجه الترمذي رقم (1352)، وابن ماجه رقم (2353)، والحاكم: (4/ 49)، وغيرهم، وفي سنده كثير بن عبد الله المزني ضعيف، وقد تفرّد به، وإن صححه الترمذي.
(1/110)
مؤمنون، وإنما خالف فيه بعض أهل البدع.
وبيانُ إجماعهم ما سنذكره (1) إن شاء الله عن عمر أنه خطب الناسَ على منبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين المهاجرين والأنصار، وقال: “لا أُوتى بمحلِّل ولا محلَّل له إلا رجمتهما”.
ويُذكر عن عثمان وعلي وابن عمر وابن عباس وغيرهم: أنهم نهوا عن التحليل وإن لم يشترط في العقد ولا قبله، وهذه أقوالٌ قيلت في أوقات مختلفة، وأماكن متعددة، وقضايا متفرِّقة (165/ أ)، ولم يُنكِرْ ذلك أحد مع طول الأزمنة وانتفاء الموانع.
وقد تقدَّم (2) عن غير واحد من أعيانهم، مثل أُبَيِّ بن كعب وابن مسعود وعبد الله بن سلام وابن عمر وابن عباس: أنهم نهوا المُقْرِض عن قبول الهدية إلا إذا كافأه عليها، أو حسبها من دينه، وجعلوا قبولها ربًا. وهذه أيضًا أقوال اشتهرت ولم تُنكر فيكون ذلك إجماعًا.
وأيضًا: قد تقدم (3) ما رُوِيَ عن عائشة في مسألة العينة.
فكيف يكون قول هؤلاء في إسقاط الزكاة والشفعة وتأخير الصوم، وإخراج الأبضاع والأموال عن ملك صاحبها، وتصحيح العقود الفاسدة (4)؟ ! .
__________
(1) (ص/ 136 – 139) في المسلك الرابع، وستأتي ألفاظهم في ذلك ومن أخرجها.
(2) (ص/ 109).
(3) (ص/ 51).
(4) أى: إذا كان هذا قولهم في المسائل المتقدمة، فكيف يكون في هذه المذكورة؟ ! .
(1/111)
وأيضًا: فإن عمر وعثمان وعليًّا وسائر البدريين وغيرهم = اتفقوا على [أن] (1) المبتوتة في المرض ترث، ولم يُنكر ذلك أحد. فعُلِم أنهم كانوا يعتبرون القصود ويحرمون هذه الحِيَل، وهذا إذا تأمَّله اللبيب؛ قطعَ بتحريم جنس هذه الحيل وإبطالها.
الوجه الثالث والعشرون (2): أنَّه – سبحانه – إنما أوجب الواجبات وحرَّم المحرمات لما فيه من المصالح لخلقه، ودفع المفاسد عنهم؛ ولأن يبتليهم بأن يميز من يطيعه ممن يعصيه، فإذا احتال المرءُ على حلِّ المحرم أو سقوط الواجب [بأن يعمل عملًا لو عُمِل على وجهه المقصود به لزال ذلك التحريم أو سقط ذلك الواجب ضمنًا وتبعًا لا أصلًا وقصدًا، ويكون إنما عمله ليغير ذلك الحكم أصلًا وقصدًا] (3)، والله تعالى إنما حرَّم الربا والزنا وتوابعهما؛ لما في ذلك من الفساد، وأباحَ البيعَ والنكاحَ لما فيه من المصلحة، ولا بدَّ أن يكون بين الحلال والحرام فرق، وإلا لكان البيع مثل الربا، والفرقُ في الصورة دون الحقيقة غيرُ مؤثِّر؛ لأن الاعتبار بالمعاني، فإن الألفاظَ إذا اختلفت ومعناها واحد كان حكمها واحدًا، بخلاف العكس (4).
فالأمر المحتال به صورتُه صورة الحلال، وليس حقيقته
__________
(1) من “الإبطال”.
(2) “الإبطال”: (ص/ 245).
(3) زيادة من “الإبطال” يستقيم بها الكلام.
(4) أي: لو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفًا.
(1/112)
ومقصوده ذلك، فيجب ألا يكون بمنزلته، فلا يترتَّب عليه حكمه.
الوجه الرابع والعشرون: أنك إذا تأملتَ عامةَ الحيل وجدتَها دفعًا (1) للتحريم أو الوجوب، مع قيام المعنى المُقْتضي للوجوب أو التحريم، فيصير حرامًا من وجهين:
من جهة أن فيها فِعْل المحرَّم وترك الواجب.
ومن جهة أنها خِداع وتدليس، وخِلابة ومَكْر، ونفاق واعتقاد فاسد.
وهذا الوجه أعظمها إثمًا؛ لأنه بمنزلة البدع والنفاق، بخلاف الأول، فإنه بمنزلة سائر العُصاة.
وإذا استفرغ الرجلُ وُسْعَه وعمل بها كان معذورًا، فيمنع من لحوق (165/ ب) الذمِّ، [وإلا] (2) كان المقتضي للذم قائم (3)، ولهذا كان التغليظ على من يأمرُ بها ويدلُّ عليها متبوعًا في ذلك أعظم من التغليظ على من يعمل بها مقلِّدًا.
وهذا الوجه مما اعتمد عليه أحمد، قال أبو طالب: سمعتُ أبا عبد الله قال له رجل في “كتاب الحيل”: إذا اشترى الرجل أمةً فأراد أن يقع بها، يُعتقها ثم يتزوجها؟ فقال أحمد: بلغني أن المهديَّ اشترى جارية فأعجبته، فقيل له: أعتقها وتزوجها، فقال:
__________
(1) “الإبطال”: “رفعًا”.
(2) “الأصل” و (م): “وإن”، والإصلاح من “الإبطال”.
(3) كذا، وصوابه: قائمًا.
(1/113)
سبحان الله ما أعجب هذا! ! أبطلوا كتابَ الله تعالى والسنة، يطأها رجلٌ اليومَ ويطأها الآخر غدًا؟ هذا نقض للكتاب والسنة، قال – صلى الله عليه وسلم -: “لا تُوطأ حاملٌ حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض” (1) ولا يُدْرَى هي حامل أم لا؟ سبحان الله ما أسمج هذا (2)! ! .
وبالجملة؛ فلا يشك المؤمن أن الله حرَّمَ الربا لحكمةٍ، فإذا جاز أن يقول: بعني ثوبك بألفٍ حالَّةٍ، ثم يبيعه إياه بألف ومئتين مؤجَّلة، فالغرض الذي كان للمتعاقدين في إعطاء الألف بألف ومئتين هو بعينه موجود – أيضًا – هنا، وما أظهراه من صورة العقد لا غرض لهما فيه بحال.
وقد عُلم أن الله إنما حرَّم الربا زجرًا لما تطلبه النفوس من أكل المال بالباطل، فإذا كانت هذه الحيلة يحصل معها غرض النفوس من الربا، عُلِم قطعًا أن مفسدة الربا موجودة فيها.
وكذلك السِّفاح حرَّمه الله لحِكَمٍ كثيرة، وقَطَع شَبَهَه بالنكاح بكل طريق، فأوجب في النكاح الولي والشاهدين والعدة وغير ذلك.
__________
(1) أخرجه أحمد: (17/ 326 رقم 11228)، وأبو داود رقم (2157)، والحاكم: (2/ 195)، والبيهقي: (7/ 449) وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -.
والحديث صححه الحاكم على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي، وحسَّنه الحافظ في “التلخيص”: (1/ 182).
وللحديث شواهد من حديث جماعة من الصحابة.
(2) انظر: “المغني”: (11/ 272).
(1/114)
ومعلوم أنَّ الرجل لو تزوَّج المرأةَ ليُقيم عندها ليلةً أو ليلتين ثم يفارقها بوليٍّ وشهود وغير ذلك؛ كان سفاحًا، وهو المتعة، فإذا لم يكن له غرض معها، ألَم يكن أولى باسم السِّفاح؟!.
وكذلك إنما أوجبَ الشُّفْعةَ للشريك لما فيه من الضرر بالشركة على الشريك فأثبت له الأخذ؛ ليزول ضرره، فإذا سوغ الاحتيال على إسقاطها، أَلَم يكن فيه بقاء فساد الشركة والقِسْمة وعدم صلاح الشفعة؟!.
وكل موضع ظهرت حكمته أو غابت، فلا يشك مُسْتبصر أن الاحتيال يبطل تلك الحكمة التي قصدها الشارع، فيكون ذلك مناقضًا للشارع ومحادة له.
واعتبر ذلك بسياسة الملوك، بل بسياسة الرجل في بيته، فإنه لو عارضَه بعضُ الأذكياء المحتالين في أوامره ونواهيه، بإقامة صورها دون حقائقها، لعلم أنه ساعٍ في فساد أوامره.
وأظن أن كثيرًا من الحِيَل إنما استحلَّها من لم يفقه حكمة الشارع، ولو هُدِيَ (166/ أ) رشدَه لسلَّم لله ورسوله، وأطاع الله ظاهرًا وباطنًا في كل أمره، وعلم أن الشرائع تحتها حِكَم لم يهتد هو لها، فما كان يفعل شيئًا يعلم أنه مزيل لحكمة الشارع.
الوجه الخامس والعشرون: أن الله – سبحانه – سدَّ الذرائع المفضية إلى المحارِم، بأن حرَّمها ونهى عنها، والذريعةُ ما كان وسيلةً وطريقًا إلى الشيء، لكن صارت في عُرف الفقهاء عبارة عما
(1/115)
أفْضَت إلى فعلِ محرَّمٍ، ولو تجرَّد عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعةَ الفعل الذي ظاهره الإباحة وهو وسيلة إلى فِعل المحرَّم.
ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرَّم غالبًا، فإنه يحرَّمها مطلقًا، وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تُفْضي، لكن الطبعُ متقاضٍ لإفضائها.
وأما إن كانت إنما تُفضي أحيانًا، فإن لم يكن فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل وإلا حرَّمها – أيضًا – فقد حرَّم الشارعُ الذرائعَ وإن لم يُقْصَد بها المحرم، خشيةَ إفضائها إلى المحرَّم، فإذا قُصِد بالشيء نفس المحرَّم كان أولى بالتحريم من الذرائع، وبهذا تظهرُ علةُ التحريم في مسائل العِينة وأمثالها، وإن لم يقصد البائع الرِّبا؛ لأن هذه المعاملة يغلب فيها قَصْد الربا، فيصير ذريعة، فيسد هذا الباب.
وللشريعة أسرار في سدِّ الفساد وحَسْم مادة الشر؛ لِعِلْم الشارع بما خَفِيَ على النفوس من خَفِيِّ هواها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهَلَكة، فمن تَحَذْلَق على الشارع وقال في بعض المحرمات: إنما حرَّمها لعِلَّةِ كذا، وهي مفقودة هنا، فاستباح ذلك بهذا التأويل؛ فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربِّه.
وهذا إن نجى من الكفر لم ينج غالبًا من بدعة أو فسق، أو قِلَّة فقه في الدين وعدم بصيرة، وشواهد هذه القاعدة أكثر من أن تُحْصَر، فنذكُر بعض ما يَحْضر:
(1/116)
فالأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فحرَّم سبَّ الآلهة مع أنه عبادة؛ لكونه ذريعة إلى سبِّهم لله – سبحانه وتعالى -؛ لأن مصلحة تركهم سبَّ الله – سبحانه – راجحة على مصلحة سبِّنا لآلهتهم.
الثاني: ما روى حميد بن عبد الرحمن (1) عن ابن عمر: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “من الكبائر شَتْم الرجلِ والديه”، قالوا: يا رسول الله وهل يسب الرجل والديه؟ قال: “نعم يَسُبُّ أبا الرجل فيسبُّ أباه ويسبُّ أُمَّه فيسبُّ أُمَّه” متفق عليه (2).
الثالث: أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يكُفُّ عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة؛ لئلا يكون (166/ ب) ذريعةً إلى قول الناس: إن محمدًا يقتلُ أصحابَه؛ لأنه يوجب النفورَ عن الإسلام.
الرابع: أنَّ الله حرَّم قليلَ الخمر، وحرَّم اقتناءها للتخليل؛ لئلا تُفْضي إباحة مقاربتها إلى شربها، ثم إنه نهى عن الخليطَيْن، وعن شرب العصير بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها؛ حَسْمًا لمادة ذلك، وإن كان في بعض ذلك خلاف، وقال: “لو رخَّصْتُ لكم في هذه لأَوْشَكَ أن تَجْعَلُوها مثلَ هذه” (3).
__________
(1) وقع في “الأصل” و (م): “حميد بن عبد العزيز”، وهو خطأ، صوابه ما أثبت من “الإبطال” و”الصحيحين”.
(2) أخرجه البخاري رقم (5973)، ومسلم رقم (90).
(3) قطعة من حديث وفد عبد القيس، أخرجه أحمد: (24/ 327 – 330 رقم 15559)، والبخاري في “الأدب المفرد”: (ص/ 349) بنحوه.
(1/117)
الخامس: أنه حرَّم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسَّفَر بها ولو في مصلحة دينية؛ حَسْمًا لمادة ما يحاذر من تغير الطِّباع وتشبه الغير (1).
السادس: أنه نهى عن بناء المساجد على القبور، ولَعَنَ من فَعَلَ ذلك، ونهى عن تكبير القبور وتشريفها وأمر بتسويتها، ونهى عن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعةً إلى اتخاذها أوثانًا
وحرَّم ذلك على من قَصَد هذا ومن لم يَقْصِدْه بل قَصَد خلافَه؛ سدًّا للذريعة.
السابع: أنه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها؛ لما فيه من التشبُّه بالكفار. والتشبُّهُ بالشيءِ ذريعة إلى أن يُعْطَى بعض أحكامه، فقد يُفضي ذلك إلى السجود للشمس.
الثامن: أنَّه نهى عن التشبُّه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة مشهورة (2)؛ وذلك لأن المشابهة في بعض الهَدْي الظاهر توجب المقاربة ونوعًا من المناسبة، تُفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين، وذلك يجرُّ إلى فسادٍ عظيم.
__________
(1) كذا في “الأصل”، و (م): “وغلبة الفتنة”، و”الإبطال”: “وشبه الغير”.
(2) ذكر شيخ الإسلام في “الإبطال” عددًا منها، وأفرد لمسألة التشبه كتابه “اقتضاء الصراط المستقيم”، وقد اختصره المؤلف وسمَّاه: “المنهج القويم”، وطبع ضمن هذه السلسلة “آثار شيخ الإسلام … “.
(1/118)
التاسع (1): أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر الذى أرسل معه بهَدْيه إذا عطب شيءٌ منه دون المحلّ أن ينحره ويصبغ نعلَه بدمه، ويخلَّي بينَه وبين المساكين، ولا يأكل هو منه ولا أحد من أهل رفقته (2)؛ لئلا يُفضي ذلك إلى أن يقصِّر في عَلْفها وحِفْظها.
العاشر: أنه – صلى الله عليه وسلم – نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين أختها، وقال: “إنَّكم إذا فَعَلْتُم ذلك قَطَعْتُم أَرْحامكم” (3)، ولو رَضِيَتا لما جاز؛ لأن الطباع تتغيَّر، فيكون ذلك ذريعة إلى فِعْل القطيعة المحرَّمة.
ولذلك حرَّم الزيادة على أربع؛ لما فيه من الذريعة إلى الجَوْر بينهنَّ في القَسْم؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)} [النساء: 3]، وهذا نصٌّ في اعتبار الذريعة.
11 – وكذلك حَرَّم خطبة المعتدَّة.
__________
(1) هو في “الإبطال”: (ص/ 266 – 267) الوجه الثلاثون، وما بعده هو التاسع في “الإبطال”: (ص/ 260).
(2) أخرجه مسلم رقم (1325) من حديث أبن عباسٍ – رضي الله عنهما -.
(3) أخرجه البخاري رقم (5109)، ومسلم رقم (1408) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
ورواه الطبراني في “الكبير”: (11/ رقم 11931)، وابن حبان “الإحسان”: (9/ 426) من حديث ابن عباس وزاد فيه: “إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم”.
تنبيه: رواية ابن حبان بلفظ الخطاب للنساء “إنكن إذا فعلتن … “، ورواية الطبراني بالميم كما تقدم.
(1/119)
12 – وعَقْد النكاح حال العِدَّة والإحرام.
13 – واشترط للنكاح شروطًا زائدة على حقيقة العقد.
14 – ونهى أن يجمع الرجل بين سلفٍ وبيع.
15 – ونهيه عن العِيْنة.
16 – ومَنَع المُقْرِض من قبول الهدية.
17 – وَمَنْع القاتل الميراث.
18 – وتوريث المطلقة في مرض الموت حيث يُتَّهم (1).
19 – وقَتْل الجماعة بالواحد.
20 – ونَهْيه عن تقدُّم رمضان بصوم يوم أو يومين، وعن صوم يوم العيد، وعن صوم يوم الشكِّ؛ لئلا يُلحَق بالفرض ما ليس منه.
21 – وكراهة الصلاة إلى ما عُبِد من دون الله.
22 – ومَنَع المسلمين أن يقولوا للنبي – صلى الله عليه وسلم -: راعِنا.
23 – وأَوْجَب (167/ أ) الشُّفْعة؛ سدًّا لمفسدة ما يحصل بسبب الشركة من المعاصي.
24 – وأَمَر نَبيَّه أن يحكم بالظاهر، مع إمكان الوحي إليه باطنًا.
25 – ومَنَعه لما كان بمكة من الجهر بالقرآن.
__________
(1) بقصد حرمانها من الميراث.
(1/120)
26 – وأَوْجَب إقامة الحدود؛ سدًّا للتذَرُّع إلى المعاصي.
27 – وأمر (1) بالاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف؛ خوفًا من تفريق القلوب.
28 – وكراهة إفراد رجب ويوم الجمعة وأيام أعياد الكفار [بالصوم] (2).
29 – وشَرَط على أهل الذمة شروطًا يخالفون المسلمين في زيِّهم، في اللبالس والشعر وغيره، لئلا يُعامَلُوا معاملةَ المسلم (3).
وهذا بابٌ واسع لا يكاد ينضبط، وإنما ذكرنا ما هو متفق عليه، أو منصوص عليه، أو مأثور عن الصدر الأول.
وفي بعض هذه الأحكام حِكَم أخرى غير الذرائع، وإنما المقصود أن الذرائع مما اعتبره الشارع، وهذا بيِّن لمن تأمَّله، والله الهادي إلى سواء الصراط.
ولا شكَّ أن تجويز الحيل يناقض سدَّ الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسدُّ الطريق إلى المحرَّم بكل حالٍ، والمحتال يريد أن يتوسّل إلى ذلك.
__________
(1) في “الإبطال”: “سن الاجتماع”.
(2) سقطت من الأصل، والإكمال من (م) و”الإبطال”.
(3) وبقي من شواهد هذه القاعدة الوجه التاسع عشر (في الإبطال: 263) وبه يكمل ثلاثون وجهًا، وهو: نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – عن إقامة الحدود بدار الحرب، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اللحاق بالكفار.
(1/121)
واعلم أن المقصودَ هنا: بيانُ تحريم الحيل، وأن صاحبها يتعرض لسخط الله وأليم عقابه، ويترتَّب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصودَه منها بحسب الإمكان، وما لا يمكن نقضُه فيجب ضمان ذلك على المفسد له، بمنزلة ضمان الأموال بالتَّلَف.
وهذا مثل من يطأ امرأةَ أبيه [أو ابنه] لينفسِخَ نكاحُه، عند من يرى تحريم ذلك، فيغرم ذلك ما فَسَد بفعله، وأما غير ذلك فَيُعامَل بنقيض قصده؛ فمن أراد أن يؤخِّر الصومَ بأن يسافر في الحرِّ ليصوم في الشتاء – مثلًا -، فنقول: يجب عليه الصوم في هذا السفر، ونحو ذلك.
ومن قَصَد قتلَ رجلٍ ليتزوَّج امرأتَه؛ لم تحل له، ونحوه.
وتلخيص ذلك: أنَّ الحِيلَ نوعان؛ أقوال وأفعال.
فالأقوال؛ يشترط لثبوت أحكامها العقل، ويُعتَبر فيها القَصْد، وتكون صحيحةً تارة، وهو: ما ترتَّب حكمه عليه، وفاسدةً أخرى، فلم يترتَّب حكمه عليه.
ثم ما ثبت حكمه؛ منهُ ما يمكنُ فسخُه ورفعه بعد وقوعه؛ كالبيع والنكاح، ومنه ما لا يمكن رفْعُه بعد وقوعه؛ كالعتق والطلاق (1)، فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرَّم أو إسقاط واجب = أمْكَنَ إبطاله؛ إما من جميع الوجوه، وإما من الوجه الذي يُبْطِلُ مقصودَه، بحيث لا يترتَّب عليه أثره الذي احتيل عليه، كما حكم به
__________
(1) زاد في “الإبطال”: “مع أن في ذلك نزاعًا”.
(1/122)
الصحابةُ في طلاق الفارِّ (1).
وأما الأفعال؛ فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم تحصل، كالسفر للقصر أو الفِطْر. وإن اقتضت تحريمًا على الغير، فإنه قد يقع ويكون بمنزلة إتلاف النفس والمال. وإن اقتضت حِلًّا عامًّا إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك؛ فهذه مسألة القتل وذبح الصيد للحلال، وذبح المغصوب للغاصب.
وبالجملة؛ فإن قَصَد (167/ ب) بالفعل استباحةَ محرَّم؛ لم يحل، وإن قصد إزالة ملك الغير ليحلّ له؛ فالأقْيَس أن لا يحل – أيضًا – له، ويحل لغيره.
وهنا مسائل كثيرة لا يمكن ذكرها هنا، نبَّهنا على هذا القَدْر من الحِيَل وإبطالها، والكلامُ في التفاصيل ليس هذا موضعه، وهذا القدر أنموذج منه يُسْتَدل به على غيره، وأما الكلام في إبطال الحِيَل؛ فباب واسع، يحتمل كتبًا كثيرة (2)، وإنما الغرض هنا التنبيهُ على إبطالها وتمهيدُ القاعدة لمسألة التحليل.
وقد استدلَّ [عليه] البخاريُّ (3) بقوله [- صلى الله عليه وسلم -]: “لا يُجمع بينَ متفرِّقٍ ولا يُفَرَّق بين مُجْتمِع خَشْيَةَ الصَّدَقة”، فإن النهيَ عامٌّ قبل
__________
(1) طلاق الفارّ (أو الفرار) هو: أن يطلق امرأته طلاقًا بائنًا في مرض موته.
انظر “مجموع الفتاوى”: (31/ 369)، و”القاموس الفقهي”: (ص/ 231).
(2) “الإبطال”: “كتابًا كبيرًا”.
(3) في كتاب الحيل، بابٌ في الزكاة، وأن لا يُفرَّق بين مجتمع ولا يُجمع بين متفرّق خشية الصدقة، رقم (6955).
(1/123)
الحولِ وبعدَه.
وبقوله – صلى الله عليه وسلم – في الطاعون: “إذا وَقَعَ بأرضٍ وأَنْتُم بها فلا تَخْرجوا فِرارًا منه” (1)، فإذا كان قد نهى عن الفرار من قَدَر اللهِ – سبحانه – إذا نزل بالعبد؛ رضًى بقضاء الله وتسليمًا لحكمه؛ فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد؟!.
وبأنه – صلى الله عليه وسلم – نَهَى عن بَيعْ فَضْل الماء؛ ليمنع به الكلأ (2).
فعُلِمَ أن الشيء الذي هو في نفسِه غير مقصودٍ إذا قُصِد به أمرٌ محرَّم صار محرَّمًا.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارَضٌ بقوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا … } [ص: 44]، فهذا قد أذن الله لأيوب أنْ يضرب بالضِّغْثِ، وكان يلزمه أن يضرب ضرباتٍ متفرِّقة، وهذا نوعٌ من الحيلة؟.
قلنا أوَّلًا:
ليس هذا مما نحن فيه، فإن الفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا عند الإطلاق على قولين:
أحدهما: قول من يقول: موجبها الضرب مجموعًا أو مفرَّقًا،
__________
(1) في كتاب الحيل – أيضًا – باب ما يُكره من الاحتيال في الفرار من الطاعون، رقم (6973).
(2) كتاب الحيل، باب ما يُكره من الاحتيال في البيوع، ولا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ، رقم (6717).
(1/124)
فعلى هذا يكون هذا موجب اللفظ عند الإطلاق، والحيلة: صرف اللفظ عن موجبه.
الثاني: أنَّ موجبه الضرب المفرَّق، وهذا موجب شرعنا، فلا يُستدل بشرع من قبلنا؛ لأن شرْعَنا وَرَد بخلافه.
وقلنا ثانيًا:
من تأمَّل الآية علم أن هذه الفُتيا خاصة الحكم، فإنها لو كانت عامةً لم يَخْفَ على نبيٍّ كريم موجبُ يمينه، ولم يكن في اقْتِصاصها علينا كبير عبرة، فإنه إنما يُقَصُّ ما خرج عن نظائره ليُعْتَبَر به.
وأيضًا: قال عقيبها: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 44]، فخرجت هذه الجملة مخرج التعليل، فعُلِم أنَّ اللهَ جازاه على صبره تخفيفًا عنه ورحمةً به، لا أن هذا موجب هذه اليمين.
وقلنا ثالثًا:
معلوم أنَّ اللهَ إنما أفتاه بهذا؛ لئلا يحنث، كما أخبر الله، وكما نقله أهلُ التفسير، وهذا يدلُّ على أن كفارة الأيمان لم تكن مشروعةً في تلك الشريعة، بل ليس إلا البر أو الحنث، كنذر التبرُّر في شرعنا.
وكان أبو بكر لا يحنث في يمينه حتى [أنزل] الله كفارة الأيمان (1)، فعُلِم أنها لم تكن مشروعة، فصار كأنه قد (168/ أ) نَذَر
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (4614) عن عائشة بنت الصديق أبي بكر – رضي الله عنهما -.
(1/125)
ضربها، وهذا نذرٌ لا يجب الوفاءُ به؛ لما فيه من الضرر عليها، وما وجب بالنذر يُحْتَذَى [به] حَذْو الواجب بالشرع.
[فإذا كان] يجب تفريق الضرب عند الصحة لخوف الضرر، ويُضرب بالعُثْكُول ونحوه عند المرض (1) = جاز أن يُقام الواجب بالنذر مُقام ذلك، وقد كانت امرأته ضعيفة وكريمة على ربها، فخفَّفَ عنها الواجب بالنذر بجمع الضربات كما يُخَفَّف على المريض.
ألا ترى أنَّ السنةَ فيمن نَذَر الصدقة بماله يُجْزئه الثلث، وهذا كثير، كمن نذر أن يطوف على أربعة يُجْزئه أن يطوف أُسبوعين (2)، أفتى به ابن عباس (3)، ومن نذر ذَبْحَ ولده يجزئه شاة (4)، فيكون هذا من هذا الباب، والله أعلم.
ولا يحتاج في شرعنا إلى هذا، فإن من حَلَف أن يضربَ امرأته، أمكنه أن يُكَفِّر يمينه من غير احتياج إلى تخفيف الضرب، ولو نذره أجزأه كفارة يمين عند أحمد وغيره.
وقيل: لا يلزمه شيءٌ، يوضِّح ذلك: أن المُطْلَق من كلام
__________
(1) كتب فوقها في “الأصل” علامة (×)، ولعله استشكل العبارة؛ لكن بعد زيادة “فإذا كان” فى أول العبارة زال الإشكال.
(2) يعني: طوافين.
(3) أخرجه عبد الرزاق: (8/ 457).
(4) أفتى به ابن عباس – أيضًا – أخرجه عبد الرزاق: (8/ 460)، وابن أبي شيبة: (3/ 104).
(1/126)
الناس محمول على (1) ما فُسِّر به المُطْلَق من كلام الله، خصوصًا في الأيْمان، فإن الرجوع فيها إلى عُرْف الخطاب شرعًا أو عادةً أولى من الرجوع إلى أصل اللغة.
ثم إن الله – سبحانه – لما أوجب الجلدَ على الزاني والقاذف، فَهِم المسلمون من ذلك أنَّه إن كان صحيحًا وجب ضربُه متفرِّقًا (2)، وإن كان مريضًا مأيوسًا من بُرْئه؛ ضُرِب بعثكُوْل ونحوه.
وإن كان مرجَوَّ البُرْءِ؛ فهل يؤخَّر أو يضرب بذلك؟ على الخلاف، فكيف يقال: إنَّ من حلَفَ ليضربنَّ، يكونُ موجب يمينه الضرب المجموع مع صحة المضروب وجلده (3)؟ ! هذا خلاف القاعدة.
فيعلم أن قصة أيوب كان فيها معنًى يوجبُ جوازَ الجمع، وإن كان ذلك ليس موجب الإطلاق، وهو المقصود.
فإن قيل: فحديث بلال (4)؟ .
قلنا: قد تقدم الكلام عليه، وأنه ليس من الحيلة المحرَّمة بوجهٍ في الوجه السادس عشر (5)، وأن قولَه: “بِعِ التَّمْرَ … “
__________
(1) تكررت في “الأصل”.
(2) “الإبطال”: “مفرَّقًا”.
(3) كذا في “الأصل” و”الإبطال”، وعلّق عليه في “الأصل” بقوله: “كذا في الأصل، ولعله: المفرّق مع صحة المضروب ومرضه”، وكذا علق في (م)، ومثله إحدى نسخ “الإبطال”.
(4) انظر ص/ 65.
(5) ص/ 87.
(1/127)
يُصرف إلى البيع الصحيح المتفق عليه، فإنَّ المطلق يَصْدُق بصورة الوفاق ولا يُحتجُّ به على صورة الخلاف، وتقدَّم الكلامُ عليه وعلى غيره من الأدلة، وفيه كفاية.
* * *
(1/128)
فصلٌ (1)
وأما الطريق الثاني في إبطال التحليل في النكاح، فهو الدلالة على عين المسألة، وذلك من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس، والواجب تقديم أدلة الكتاب (2)، ولكن أدِلَّة السنة أبْيَن فتقدَّم لذلك، وفي هذه الطريق مسالك:
الأول
ما روى ابن مسعود قال: “لَعَنَ رسولُ اللهِ الواشِمَةَ والمُوْتَشِمَةَ، والواصِلَةَ والمَوْصُوْلَةَ، والمُحِلَّ والمُحَلَّلَ له، وآكِلَ الرِّبا ومُوْكِلَه” رواه أحمد والنسائي (3).
وروى الترمذيُّ (4): “لَعَنَ [اللهُ] المحلِّلَ والمُحَلَّلَ له” وحسَّنه (5). وقال: “عليه العمل (168/ ب) عند أهل العلم من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، منهم: عمر وعثمان وعبد الله بن عمر، وهذا قول الفقهاء من
__________
(1) “الإبطال”: (ص/ 285).
(2) عند تساوي الدلالة، كما قيده شيخ الإسلام.
(3) أخرجه أحمد: (7/ 314 رقم 4283)، والنسائي: (6/ 149)، والطبراني في “الكبير”: (9/ رقم 9878)، والبيهقي: (7/ 208).
قال الحافظ في “التلخيص”: (3/ 194): “وصححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري”. وانظر: “نصب الراية”: (3/ 239).
(4) رقم (1120).
(5) في “الإبطال”: “وقال: حديث حسن صحيح” وكذا في “السنن”.
(1/129)
التابعين، ورُوِي عن علي وابن مسعود وابن عباس”.
ورُوي من طرق كثيرة، وروي ما يعضده ويقويه، مثل قوله: “ألا أُنْبِئكم بالتيسِ المُسْتَعار”؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: “هو المحلِّلَ والمحلَّل له” (1) – وتكلَّمَ على طرقه وقال في آخر ذلك -: فثبتَ أَنَّه حديث حسن وإسناد جيّد.
فهذه سُنن رسول الله بيِّنَة في لعن المُحِلّ والمُحَلَّل له، وذلك من أبين الأدلة على أنه حرام باطل؛ إذ اللعن لا يكون إلا على معصية، بل لا يكاد يلعن إلا على كبيرة؛ لأن الصغيرة تقعُ مُكَفَّرةً بالحسنات.
واللعنة هي: الإقصاء والإبعاد عن رحمة الله، ولن يستوجب ذلك إلا بكبيرة، قال ابن عباس: كلُّ ذنبٍ خُتِم بغضب أو لعنة أو عذاب أو نار؛ فهو كبيرة (2). والعقدُ محرَّم، والنكاح المحرَّم باطل باتفاق الفقهاء، ولعنُه للمحلل له يدلُّ على أنها لم تحل له وإلا لم يَكُن للعنةِ وَجْه.
فإن قيل (3): يُحمل الحديث على من شَرَطَ التحليل في نفس
__________
(1) أخرجه ابن ماجه رقم (1936)، والحاكم: (2/ 198)، والبيهقي: (7/ 208) من حديث عقبة بن عامر – رضي الله عنه -.
والحديث حسَّنه عبد الحق الإشبيلي، وصححه المؤلف وابن القطان، وقوّاه الزيلعي، وقال في “مصباح الزجاجة”: (2/ 112): “إسناده مختلف فيه”.
انظر: “نصب الراية”: (3/ 239 – 240)، و”التلخيص”: (3/ 195).
(2) رواه ابن جرير: (4/ 44).
(3) “الإبطال”: (ص/ 339).
(1/130)
العقد، فيُخَصَّص؛ لأن الشروط إنما تؤثِّر في العقد إذا قارنَتْه، كالبيع، أو يُحمل على من أظهر التحليل دون من نواه؛ لأن العقد إنما يعتبر فيه الظاهر دون الباطن، وإلا لكان فيه ضرر (1) على العاقد الآخر، فإنه لا اطلاع له على نيَّة الآخر، هذا إن سُلِّم أنَّ لفظ التحليل يَعُم ذلك كلَّه، وإلا [فقد] يقال: لا نُسَلِّم أنَّ المحلل غير من شرط، فلا يكون حينئذٍ ثَم تخصيص أصلًا، ولا بُدَّ من دليل على أنَّ القاصد للتحليل يُسمى محلِّلًا حتى يدخل في العموم، وإلا فالأصل عدم دخوله.
قلنا: الكلامُ في مقامين:
أحدُهما: أن اسم المُحَلِّل يعمّ القاصد وغيره.
والثاني: أنه يجب إجراء الحديث على عمومه.
أما الأول؛ فدليله من وجوه:
أحدها: أن السلفَ كانوا يسمون القاصد محلِّلًا وإن لم يشرطه، والأصل في الإطلاق الحقيقة، قال ابن عمر (2): “لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا عَلِم اللهُ أنهما أرادا التحليل”. وفي لفظ: “إذا علم الله أنه محلِّل”. وفي لفظ: سُئل عمن قَصَد التحليل؟ فقال: “لعن الله المُحِلّ والمحلَّل له” (2)، فقد أدخل القاصد في اسم المحلِّل، وهذا مأخوذ من كلام السلف كما قدمناه.
__________
(1) “الأصل” و (م): “ضررًا”.
(2) سيأتي تخريجه ص/ 137.
(1/131)
الثاني: قال أهلُ اللغة – منهم الجوهري (1) -: المُحَلِّل الذي يتزوج المطلقة ثلاثًا حتى تحلّ للأول.
الثالث: استعمال الخاصة والعامة إلى اليوم، والأصل بقاء اللغة وتقريرها، وكذا عُرْف الفقهاء، فإن فيهم من يقول: نكاح المُحَلِّل باطل، وفيهم من يقول: نكاحُه باطل إذا شرط، وفيهم من يقول: هو صحيح.
الرابع: أن المُحَلِّل اسم لمن حَلَّل الشيءَ الحرام، فإنه اسم فاعل من (169/ أ) أحلَّ المرأة وحلَّلها إذا جعلها حلالًا.
وإذا كان قياس التصريف واللغة يوجب تسمية ذلك القاصد محلِّلًا لم يجز سلبَ الاسم عنه، وإذا ثبت أنه مراد لرسول الله ثبت أن اللفظ يشمله، ويبين ذلك أنه مراد.
المقام الثاني: أن الحديثَ أُريدَ به كل محلِّل أظهر التحليل أو أضمره؛ فدليله من وجوه:
أحدها: أن الحديث أدنى أحواله أن يشمل [التحليل] المشروط والمقصود؛ لأنا قد بيَّنا أن المراد جعل المرأة حلالًا؛ لأن المتكلم إذا تكلم بكلام يشمل صورًا كثيرة وأراد بعضَها، فلا بدَّ أن ينصبَ دليلًا يبين خروجَ ما لم يُرِدْه، فلما لم يجيء في شيءٍ من النصوص التقييد؛ عُلِمَ أنه أرادَ عمومَه.
الثاني: أنه لو قَصَد التحليلَ المشروطَ خاصة؛ لَلَعَن الزوجة
__________
(1) في “الصحاح”: (4/ 1675).
(1/132)
والولي، كما لعن آكلَ الربا وموكِلَه وشاهديه وكاتِبَه، ولعن في الخمر عشرة (1)، فلما خصَّ الزوجين باللعن علم أنه عنى التحليل المقصود [المكتوم] (2) من المرأة ووليها، وهو ما كان يفعله الصَّدِيْقُ مع صديقه.
الثالث: أنه لعن شاهِدَي الربا وكاتبه، ولعن المُحِلَّ والمحلَّل له، فلو كان التحليل ظاهرًا للعن الشاهدين (3).
الرابع: أن التحليل المشروط لم يتم ولم يقع بين المسلمين، لا سيما على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يظهر للناس، فيحولون بين المرأة والرجل، فلما لعن المحل زجرًا له عُلِم أنه من الأمور التي تخفى على العامة، كالزنا ونحوه.
الخامس (4): أنه قرنه بالواشمة والمُوْتَشمة والواصلة، فعُلِم أنه لا بد من قدرٍ مشتركٍ بينهما، وهو – والله أعلم – التدليس والتلبيس.
السادس: أنا سنذكر ما نصَّ الرسولُ في التحليل المقصود، وأن أصحابَه بيَّنوا ذلك، وأنه من التحليل، وهم أعلم بمقصوده وأعرف بمراده.
__________
(1) جاء ذلك من حديث جماعة من الصحابة، منهم أنس أخرج حديثه الترمذي رقم (1295)، وابن ماجه رقم (3381).
انظر “نصب الراية”: (4/ 263 – 264).
(2) زيادة من “الإبطال”: (ص/ 344).
(3) ينظر الأصل (ص/ 344) لزيادة إيضاح هذا الوجه.
(4) هو في “الإبطال”: الوجه الثامن، والذي يليه التاسع. والوجوه المذكورة في الأصل عشرة.
(1/133)
المسلك الثاني
ما روى أبو إسحاق الجوزجاني (1)، ثنا ابنُ أبي مريم، أنبا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة (2)، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: سُئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن المحلِّل؟ فقال: “لا إلَّا نِكاحَ رَغْبة لا نكاح دُلْسَة، ولا استهزاءٍ بكتاب الله، ثُمَّ يذوقُ العُسَيلة”.
ورواه ابن شاهين (3). والدُّلْسَةُ من التدليس، وهو الكتمان والتغطية للعيوب، والمدالسة المخادعة (4).
وإسناده جيِّد، إلا إبراهيم بن إسماعيل، فقد اخْتُلِفَ فيه، ووثَّقه أحمد والدارمي. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال
__________
(1) ساقه بإسناده عن الجوزجاني ابن كثير في “تفسيره”: (2/ 578).
(2) في “الأصل” و (م): “حبيب” والتصويب من “الإبطال” ومصادر الترجمة.
وهو: إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري الأشهلي مولاهم، أبو إسماعيل المدني.
ترجمته في “تهذيب التهذيب”: (1/ 104 – 105).
(3) في “غرائب السنن” كما في “الإبطال”.
وأخرجه الطبراني في “الكبير”: (11/ رقم 11567)، وابن حزم في “المحلى”: (10/ 184) من طريق إسحاق الفَرْوي عن إبراهيم بن إسماعيل به. وقد بالغ ابن حزم، فزعم أن الحديث موضوع بسبب إسحاق الفَرْوي! وقد علمت أنه لم يتفرّد به، بل رواه ابن أبي مريم عن إبراهيم أيضًا؛ فاندفع قول ابن حزم.
(4) انظر: “اللسان”: (6/ 258).
(1/134)
ابن معين: ليس بشيءٍ، وقال ابن عدي: يُكتب حديثُه على ضعفه (1). وهذا عدل، فإن في الرجل ضعفًا من جهة حفظه لا من جهة التهمة، فمثل هذا يُكتب حديثُه للاعتبار.
وقد جاء حديث مرسل يوافقُ هذا (2)، وهو حجةٌ؛ لأن الذي (169/ ب) أرسله احتجَّ به، ولولا ثبوته (3) لما جاز أن يرسله محتجًّا به، وإذا قال التابعيُّ: إن الحديث ثبت عندي كفى.
ثم الحديثان إذا كانا من طريقين مختلفَيْن عَضَد أحدهما الآخر، خصوصًا إذا كان الضعفُ فيهما من جهة سوءِ الحفظ، وعُلِم بذلك أن للحديث أصلًا محفوظًا.
وسئل ابن عمر عن ذلك، فقال: لا إلّا نِكاحَ رغبة، كُنَّا نعدُّ هذا سِفاحًا على عهد رسول الله (4).
المسلك الثالث (5)
أن التحليل لو كان جائزًا لدلَّ عليه الرسولُ من طلَّق ثلاثًا،
__________
(1) انظر: “تاريخ الدارمي”: (ص/ 71)، و”بحر الدم”: (ص/ 48)، و”الجرح والتعديل”: (2/ 83)، و”التاريخ الكبير”: (1/ 271 – 272)، و”الكامل”: (1/ 236).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة: (3/ 553) من مرسل عَمرو بن دينار.
(3) أي: عنده.
(4) أخرجه الحاكم: (2/ 199) وصححه، والبيهقي: (7/ 208)، وأبو نعيم في “الحلية”: (7/ 96).
(5) “الإبطال”: (ص/ 354).
(1/135)
فإنه كان أرحم الناس بأُمَّته، ويحب تيسير الأمور، وقصةُ امرأةِ رفاعة مشهورة (1)، فهلَّا علَّمها ذلك، وهو يرى من حِرْصها على العَوْد إلى زوجها ما يرقّ القلبُ لحالها، وقد كان يمكن أن يقول لبعض المسلمين: حلِّل هذه لزوجها، فلما لم يأمر هو ولا أحد من خلفائه [بشيء من ذلك]، عُلِم قطعًا أنه لا سبيل إليه.
ومن تأمَّل هذا المسلك، وعَلِم كثرةَ وقوع الطلاق على عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه، ولم يُؤْذَن لأحدٍ فيه عُلِم انتفاؤه، وأنه ليس من الدين.
المسلك الرابع
إجماع الصحابة – رضي الله عنهم -.
فروي عن عمر أنه قال: “لا أُوتَى بمحلِّل ولا محلَّل له إلا رَجَمْتُهما”، رواه ابن أبي شيبة (2) وأبو إسحاق الجُوْزجاني وحرب الكرماني والأثرم والبيهقي (3)، وهو مشهور محفوظ (4).
ورُفع إلى عثمان رجل تزوج امرأة ليحلها، ففرَّق بينهما، وقال: “لا ترجع إلا بِنِكاحِ رَغْبة لا دُلْسَة” (5)، رواه الجوزجاني.
وعن عليٍّ قال: “لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة لا دلسة،
__________
(1) تقدمت (ص/ 67).
(2) (7/ 292).
(3) (7/ 208).
(4) وأخرجه عبد الرزاق: (6/ 265)، وسعيد بن منصور: (2/ 75) وغيرهم.
(5) أخرجه البخاري في “تاريخه”: (1/ 152)، والبيهقي: (7/ 208).
(1/136)
ولا استهزئ بكتاب الله” ذكره بعض المالكية (1).
وعن علي: “لعنَ اللهُ المحلِّلَ والمحلَّلَ له” (2).
وعن ابن عمر: “لعنَ اللهُ المحلِّلَ والمحلَّلَ له” (3).
وعن ابن عباس مثله. وقال: “من يُخَادع الله يخدَعْه” (4).
وقال ابن عمر: “لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة” (5) رُوي عنه ذلك وغيره من غير وجهٍ.
وهذه الآثار مشهورة عن الصحابة، ويدلُّ ذلك على أن المحلِّل عندهم اسم لمن قَصَد، وأن عمر كان يُنَكِّل من فعل ذلك، فعُلِم شهرة ذلك عندهم، وأنه حرام.
وحديث ذي الرقعتين (6) منقطع ليس له إسناد، وهو: أن رجلًا تزوج امرأة ليحلها، فأعجبها، فترافعا إلى عمر، فأمره أن لا يُطلِّقها.
__________
(1) “المدونة”: (2/ 295)؟ .
(2) رُوي عنه مرفوعًا في “مصنف ابن أبي شيبة”: (7/ 292) و”سنن أبي داود” رقم (2076)، والترمذي رقم (1119) وقال: هو حديث معلول.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة: (7/ 292).
(4) تقدم ص/ 29.
(5) أخرجه عبد الرزاق: (6/ 266).
(6) أخرجه سعيد بن منصور: (2/ 77)، وعبد الرزاق: (6/ 267)، والشافعي في “الأم”: (6/ 208)، والبيهقي في “الكبرى”: (7/ 209)، وغيرهم، وقد ذكر شيخ الإسلام في “الأصل”: (ص/ 360 – 361) من أخرجه بأسانيدهم وألفاظهم والكلام عليها.
(1/137)
قال أبو عبيد: هو مرسل (1).
فأين هذا من الذي سمعه يخطب: “لا أوتى بمحلِّل ولا محلَّل له إلا رجمتهما” (2).
وقال ابن عمر عن التحليل: “هو سِفاحٌ لو أدرككم عمر لنكَّلكم” (3).
والمنقطع لا يعارض (170/ أ) المسند (4).
أو لعلَّ الزوج لم ينو التحليل وقتَ العقد، بل قَصَد نكاح الرغبة – إن كان له أصل -. أو أنهم لم يذكروا للزوج أنه يحللها، بل تواطؤهم (5) على أن يعطوه شيئًا ليطلقها، ولم يُشعِروه بذلك؛ لكن ظاهر المروي في القصة أنهم شارطوه على الخُلْع قبل النكاح ولم يشترطوا عليه الطلاق المجرَّد.
وليس في القصة أنهم واطئوه على أن يحلِّها للأول، وإنما فيها أنهم واطئوه على أن يبيتَ عندها ليلة ثم يُطلقها، وهذا من جِنْس المتعة التي للزوج فيها رغبة إلى وقت.
ونكاحُ المتعة قد استحلُّوه صدرًا من خلافةِ عمر، حتى أظهر
__________
(1) أرسله محمد بن سيرين، وهو لم يدرك عمر.
(2) تقدم ص/ 136.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”: (3/ 552).
(4) العبارة في “الإبطال”: “والمنقطع إذا عارض المسند لم يلتفت إليه”.
(5) كذا بالأصل و (م)، و”الإبطال”: “تواطئوا” وهي أوضح.
(1/138)
عمرُ السنةَ بتحريمه، فلعلَّ هذا كان قبل أن يظهر تحريم المتعة.
ويحتمل أنه أمره أن يمسكها بنكاح جديد.
ثم لو ثبتَ أنَّ عمر صحَّح نكاح المحلِّل، فيجب أن يُحمل الأمرُ فيه على أنه رجع؛ لأنه قد ثبت عنه من غير وجهٍ التغليظُ في التحليل والنهي عنه، وأنه خطبَ الناسَ فقال: “لا أُوتى بمحلِّلٍ ومحلَّلٍ له إلا رجمتهما” ولا يمكن أن يكون رخَّص في التحليل بعد النهي؛ لأن النهيَ إنما يكون عن علمٍ بسنةِ رسول الله، بخلاف ترك الإنكار، فإنه يكون عن الاستصحاب، فثبتَ أن الصحابةَ لم يختلفوا في ذلك.
المسلك الخامس
قوله – سبحانه وتعالى – بعد قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وبعد ذكر الخلع: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230].
ونكاح المحلِّل والمتعة ليس بنكاح عند الإطلاق؛ لأن النكاح في اللغة: الجمع على أتم الوجوه. فإن كان اجتماعًا بالأبدان فهو الإيلاج، وإن كان بالعقود، فهو الجمع بينهما على وجه الدوام أو اللزوم.
ولهذا لما سُئل ابن عباس عن المتعة – وكان يُبِيْحُها -: “أنكاحٌ هي أم سِفَاح؟ فقال: ليست بنكاح ولا سفاح، ولكنها مُتْعة” (1)،
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر في “التمهيد”: (10/ 115).
(1/139)
فلما لم يكن مقصودها الدوام، قال: ليست بنكاح، ولهذا لم يَثْبُت فيها شيء [من] (1) أحكام النكاح؛ من الطلاق والعِدَّة والميراث، وإنما كان يثبت فيها أحكام الوطء.
ولهذا قال ابن مسعود وغيره: نَسَخَ المتعةَ النكاحُ والطلاقُ والعدةُ والميراثُ (2).
والمحلِّل أولى بأن لا يكون ناكحًا؛ لأنه – أيضًا – لم يقصد الدوام، فهو كالمتعة، بل أولى؛ لأن قولَه: تزوَّجْتُ، وقولَ الوليّ: زَوَّجْتُ = كذبٌ واستهزاء وخداع، وإذا لم يكن نكاحًا عند الإطلاق وإنما يقال: نكاح التحليل ونكاح المتعة، فثبتَ أنه حرام (170/ ب)؛ لأن الفرج حرام إلا بنكاح أو ملك يمين، ولا يدخل هذا في الإطلاق، فلا يحلُّ له إلا بدليل يخصُّه، إذ المطلق إنما يُحْمل على المتفق عليه، ولا يدل على صحة المختلف فيه، فيصدق بصورة الوفاق وهو نكاح الرغبة لا بغيره، وهو المطلوب.
المسلك السادس
قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ … } [البقرة: 230] الآية. يعني: فإن طلَّقها هذا الزوج الثاني، فلا جُناح عليهما – يعني هي والمطلِّق الأول – أن يتراجعا إن ظنَّا أن يقيما حدود الله.
__________
(1) (م): “ولهذا لم يثبت لها شيء من … “.
(2) انظر: “السنن الكبرى”: (7/ 207) للبيهقي.
(1/140)
وحرف “إن” في لسان العرب لما يمكن وقوعه وعدمه، فأما ما يقع لازمًا أو غالبًا، فيقولون فيه: “إذا”، كقولهم: إذا احمرَّ البسرُ فاتني، ولا يقولون: إنِ احمرَّ؛ لأن الاحمرار واقع. فقوله: “فإن طلَّقها” يُعلم منه أن ذلك النكاح المتقدِّم نكاحٌ يقع فيه الطلاق تارة ولا يقع أخرى، ونكاح المحلِّل يقع فيه لازمًا أو غالبًا، وإنما يقال في مثله: “فإذا”.
ولا يقال: فالآيةُ عمَّت كلَّ نكاحٍ، فقيل: “فإن … “.
لأنا نقول: لو أراد ذلك لقال: “فإن فارقها”؛ لأنه قد يموت عنها، وقد يفارقها بفسخ، لكن هذه الأشياء ليست في يد الزوج، إنما بيده الطلاق، فلهذا قيل: “فإن” [فـ]ـــدلّ على أنَّه نكاح رغبة قد تطلق وقد لا تطلق، لا نكاح دُلسة يستلزم وقوعَ الطلاق إلا نادرًا.
يبيِّنُ هذا: أن الغايةَ المؤقَّتة بـ “حتى” تدخل في حكم المحدود المُغَيَّا، لا نعلم بين أهل اللغة خلافًا فيه، وإنما اختلفَ الناسُ في الموقّت بحرف “إلى”.
قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} يقتضي أنها لا تحلُّ حتى يوجد الغاية، وهو نكاح زوجٍ غيره، فلما قال بعده: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} علم أن فيه فائدة جديدة، وهو – والله أعلم – التنبيه على أن ذلك الزوج موصوف بجواز التطليق وعدم جوازه.
وتأمل قوله – تعالى -: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222]، لما كان التطهُّر فعلًا مقصودًا جيء فيه بحرف التوقيت وهو “إذا”، ولما كان الطلاق غير مقصود جيء فيه
(1/141)
بحرف التعليق وهو “إن”، ففرَّقَ اللهُ بينهما ليبَيِّن أنَّ هذا مقصودٌ بخلاف هذا.
قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} هذا وُجِد بفعل الله، وقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فيه أن الثابت بفعل [الله] قد زال، وبقي نوعٌ آخر أخف يمكن زواله بفعل الآدمي، فقال فيه: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ}، وتخصيص الطلاق بهذا المعنى – أيضًا -؛ لأنه إذا كان نكاح رغبة صحَّ أن يقال فيه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} بخلاف المحلِّل، فإنه ليس كذلك لما تقدم.
(171/ أ) المسلك السابع
قوله – سبحانه -: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} بعد قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ … } (1) إلى قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} [البقرة: 229, 230].
فأذِنَ في فديتها إن خيف أن لا يُقيما حدودَ الله؛ لأن النكاح له حدود، وهو ما أوجبه الله لكل من الزوجين.
ثم ذَكَر الطلقةَ الثالثة، ثم ذكر أنها إذا نكحت زوجًا غيره، ثم طلَّقها، فلها أن تراجع زوجها الأول، إن ظنَّا أن يقيما حدودَ الله، فلما أباح معاودتها له إن ظنَّا أن يقيما حدودَ الله (2)، كما أنه أباح
__________
(1) في الأصل: “ولا تأخذوا مما … “!.
(2) كذا في الأصل و (م)، والعبارة في “الإبطال”: “فإنما أباح معاودتها له إذا ظنّا إقامة حدودَ الله … “.
(1/142)
افتداءَها إذا خافا أن لا يقيما حدودَ الله؛ لأن المشروط هناك الفداء، ويكفي في إباحة الفُرْقة خوف الذنب في المقام، والمشروط هنا النكاح، ولا بد في المجامعة من ظنِّ الطاعة.
وإنما شرط هذا الشرط هنا؛ لأنه قد أخبر عنهما أنهما كانا يخافان (1) أن لا يقيما حدودَ الله، فلا بدَّ مع ذلك من النظر إلى تلك الحال؛ هل تبدَّلت أم هي باقية؟ بخلاف الزوج المبتدإ، فإنَّ ظنَّ إقامة حدودِ اللهِ موجودة؛ لأنه لم يكن هناك حالٌ تخالفُ هذا.
ونظير هذا قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]؛ لأن الطلاق غالبًا إنما يكون عن شرٍّ، فإذا ارتجعها مريدًا الشرَّ بها لم يَجُزْ ذلك، بل يكون تسريحها هو الواجب، لكن قال هناك: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}، فجعل الردَّ إلى الزوج خاصَّة؛ لأن الكلام في الرجعة، وقال هنا: {أَنْ يَتَرَاجَعَا}، فجعل التراجُع إلى الزوجين جميعًا؛ لأن الكلامَ في المطلَّقة ثلاثًا، وهي لا تحلُّ بعد الزوج الثاني إلا بعقد جديد يقف على رضاها، وكان فيه دليل على أنَّ هذه المرأة الواحدة اجتمع فيها طلقتان وفدية وطلقة ثالثة، كما قال ابن عباس وغيره.
إذا تبيَّن أن الله إنما أباحَ النكاحَ الذي قد يُخاف فيه من ضرر لمن ظن أنه يُقيم حدودَ الله فيه = عُلِمَ أن النكاح المباح هو النكاح الذي يُحتاج فيه إلى إقامة حدودَ الله في المعاشرة، ونكاح المحلِّل
__________
(1) الأصل و (م): “يخافا”، والمثبت من “الإبطال”.
(1/143)
ليس من هذا، فإنه من نيَّتِه أن يطلِّقها عقيب وطئها، فلا معاشرة هناك تحتاج إلى إقامة حدود الله، فلا يكون هذا الظن شرطًا فيه، وهو خلاف القرآن.
يبينُ ذلك: أن غالب المحلِّلين لا يظنان أنهما يُقيمان حدود الله؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما لا رغبةَ له في صاحبه، ورُوِي عن مجاهد في قوله: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] قال: إن عَلِما أنَّ نكاحهما على غير دُلْسَة (1)، وأراد بالدُّلْسة: التحليل.
ومعنى كلامه: إنْ عَلِم المطلِّق الأول والزوجة أن النكاح الثاني كان على غير دُلْسة (2)، ولهذا لم يجعل الظنَّ علمًا هنا (171/ ب) فلم يرفع الفعل حتى تكون [أن] الخفيفة من الثقيلة الدالة على أن الظن يقين، بل نَصبَ بـ “أن” الخفيفة؛ ليعلم أنه على بابه، ولأن كون الزوج الثاني لم يكن محلِّلًا قد لا يُتيَقَّن، وإنما يُعْلَم بغالب الظن، وعلى هذا ففي الآية حجة ثانية من هذا الوجه.
المسلك الثامن
قوله – سبحانه وتعالى -: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231].
__________
(1) أخرجه ابن جرير: (2/ 492).
(2) انظر بقية التقرير لهذا الاستدلال في “الإبطال”: (ص/ 380).
(1/144)
وقد روى ابن ماجه (1) وابن بطة (2) بإسنادٍ جيَّد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “ما بالُ أقوامٍ يلعبونَ بحدود اللهِ، ويَسْتَهْزِئون بآيات الله؛ طَلَّقْتُكِ راجَعْتُكِ، طَلَّقْتُكِ راجَعْتُكِ”.
وفي لفظٍ لابن بطة: “خلعتك راجعتك”.
وقد رُوِيَ مرسلًا عن أبي بردة.
فوجه الدلالة: أن الله – سبحانه – حرم على الرجل أن يرتجع المرأةَ يقصد بذلك مضارَّتها، بأن يطلِّقها ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة، ثم يرتجعها، ثم يطلقها قبل جماع أو بعده، ويمهلها حتى تشارف انقضاء العدة، ثم يرتجعها، ثم يطلقها، فتصير العدة تسعة أشهر.
وهكذا فسَّره عامة العلماء من الصحابة والتابعين، وجاء فيه حديث مسند.
ومعلومٌ أنه لو وقع هذا اتفاقًا من غير قصد منه، بأن يرتجعها راغبًا ثم يبدو له فيطلِّقها، ثم يبدو له فيراجعها راغبًا، ثم يبدو له فيطلقها، لم يحرم ذلك، لكن لما فعله لا لرغبةٍ، بل لمقصود آخر وهو أن يطلِّقها بعد ذلك ليُطِيل العِدَّة عليها = حَرُم ذلك، فالضرر حصل لها؛ لأنه قصد بالعقد فُرْقة توجب ضررًا، لو حصل بغير قصد إليه، لم يكن سببه حرامًا.
__________
(1) رقم (2017).
(2) في “إبطال الحيل”: (ص/ 40، 41).
(1/145)
فأما أن يكون القصد لغير مقصود العقد محرِّمًا للعقد أو لا يكون، فإن لم يكن محرِّمًا للعقد، والفعل المقصود هنا وهو الطلاق الموجب للعدة ليس محرَّمًا في نفسه، فيجب أن يكون صحيحًا على أصل من يجيز ذلك، وهو خلاف القرآن.
وإن كان محرمًا للعقد، فيجب أن يكون نكاح المحلل باطلًا، وذلك أنَّ الطلاقَ المنضمَّ إلى النكاح المتقدم يوجب العِدَّة المحرمة لنكاحها، ويوجب حلها للزوج الأول، فلا فرقَ بين أن يقصد بالنكاح وجود تحريم شُرِع ضمنًا، أو وجود تحليل شُرِع ضمنًا.
فإن ما شرعَه الله من التحليل أو التحريم ضمنًا أو تَبَعًا لا أصلًا وقصدًا، متى أرادَه الإنسانُ أصلًا وقصدًا؛ فقد ضادَّ اللهَ في حكمه، فيكون (172/ أ) باطلًا.
المسلك التاسع
قوله – سبحانه -: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231].
ومن آيات الله شرائع دينه من النكاح والطلاق والرجعة والخلع؛ لأنها الطريق التي يحل بها الحرام من الفروج أو يحرم بها الحلال، وهي من دين الله الذي شرعَه، وكلُّ ما دلَّ على أحكام الله، فهو من آياته.
فذِكْره هذه الآية بعد أن أباح أشياء من هذه العقود، وحرَّم أشياء، دليلٌ على أنها من الآيات، وإذا كانت من آياته فاتخاذها هزوًا هو فِعْلها مع عدم انعقاد حقائقها التي شُرِعت هذه الأسباب
(1/146)
لها، كاستهزاء المنافقين بقولهم: {آمَنَّا} (1)، فهذا نفاق في أصل الدين، وذاك نفاق في شرائعه.
وذِكْر هذه الآية بعد قوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] = دليلٌ على أن إمساكهن ضرارًا من اتخاذِ آياتِ الله هزوًا، وما ذاك إلا لأن الممسك تكلم بالرجعة غير معتقد لمقصودِ النكاح، بل ينكح ليطلِّق، وإذا كان التحليل من اتخاذ آيات الله هزوًا؛ فهو حرام، فلزم فساده بإبطال مقصود المحلِّل في ثبوت نكاحه.
المسلك العاشر
أنه قَصَد بالعقد غير ما شُرِع له العقد، فيجبُ أن لا يصح، فَشَرع (2) العقود [أسبابًا] إلى حصول أحكام مقصودة؛ فشَرَعَ البيعَ لملك الأموال والهبة والنكاحَ لملك البُضع، ومقصودُه حصولُ السَّكَن والازدواج. فمن تكلم بهذه الكلمات غير معتقد لمقصودها وحقائقها، بحيث يعلم من نفسِه أنه إذا ثبت حقيقة العقد لا يرضى به، لم يصح العقد لوجهين:
أحدهما: أن اللهَ اعتبر الرِّضى في البيع والنكاح، فمن لم يرد مقصود النكاح والبيع ولا رغبة له فيه لم يكن مريدًا ولا راغبًا، فليس هو براضٍ، فلا عَقْد له.
__________
(1) يعني في قولهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} [البقرة: 14].
(2) تحتمل: “فَتُشْرع”.
(1/147)
الثاني: أن عقد المكره لا يصح؛ لأنه (1) لم يقصد موجب ذلك اللفظ، فكذلك المحلل ونحوه لم يقصد موجب ذلك اللفظ، فكلاهما لم يثبت في حقِّه حكم هذا القول؛ لأنه قصد به غير موجبه؛ لكن المكره معذور والمحتال غير معذور، فكل من قَصَد بالعقد غير المقصود الذي شُرِع له فهو مخادع، بمنزلة المرائي بالعبادة والأعمال بالنية.
المسلك الحادي عشر
أنه – سبحانه – حرَّم المطلقة ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره، وإنما حرَّمها لمصلحةٍ لعبادِه وحصول مفسدة في حلِّها قبل ذلك، أو ابتلاءً وامتحانًا، وإذا كان التحريم المتضمِّن للمصالح يزول بأدنى حيلة، فما فيه كبير فائدة ولا مصلحة، وكان إلى اللعب أقرب من الجِد، كما تقدم تقريره. وهذا مما يُنزه الله عنه.
ولهذا قال [ابن] عمر عن التحليل: هو السِّفاح (2).
ولهذا لما رأى بعضُ اليهود ذلك أخذ يُشنِّع ويقول: إنَّ دين المسلمين أن المطلقةَ تحرم حتى تزني، فإذا زنت حلَّت، ذكره أبو يعقوب الجوزجاني وبعض المالكية، وأخذَ بعضُ النصارى (172/ ب) يهجِّن (3) بذلك ويُنفِّر عن الإسلام، ولم يعلم هذا الملعون أن هذا
__________
(1) في “الأصل”: “لا”، والإصلاح من (م) و”الإبطال”.
(2) تقدم ص/ 138.
(3) كذا بالأصل و (م)، وفي “الإبطال”: “يهجو”.
(1/148)
لا أصل له في الدين أصلًا، ولا هو مأخوذ عن السابقين ولا عن التابعين، بل قد حرَّمه الله ورسوله، وهذا بيِّن لمن تأمله.
المسلك الثاني عشر
هو: أن جواز التحليل قد أفضى إلى مفاسد عظيمة كثيرة، وصار مظنة لها ولما هو أكثر منها.
[منها]: أن بعض التيوس المستعارة صار يحلِّل الأمَّ وبنتَها – على ما أخبرني به مَنْ صدَّقْتُه – وذلك أنه قد نصبَ نفسَه لهذا السِّفاح، فلا يُمَيِّزُ مَنِ المنكوحة، ولا له غرض في المصاهرة حتى يَجْتَنِب ما حرَّمَتْه.
ومنها: أنه يجمع ماءَه في أكثر من أربع نسوة، بل أكثر من عشرة، وهو مما أَجْمَع الصحابةُ على تحريمه، وأجمعَ المسلمونَ على تحريمه إذا كان الطلاق رجعيًّا.
ومنها: أنه كثيرًا ما (1) يتواطأ هو والمرأة على أن لا يطأها؛ إذ ليس له ولا لها رغبة في ذلك، والمرأة لا تعده زوجًا.
ومنها: كونه غير كفءٍ غالبًا، ونكاحُه إما باطل أو مكروه أو مشروط فيه رضى الأولياء.
وآل الأمر إلى [أن] صار كثير من الناس يحسب أن مجرَّد وطء الذكر يحلها، حتى اعتقد بعضُهم أنها إذا ولدت ذكرًا حلَّت!!
__________
(1) “الأصل” و (م): “أن كثيرًا مما … ” والمثبت من “الإبطال”.
(1/149)
واعتقد بعضُهم أنه إذا وطئها بقدمه حلَّت! ! فهذه فضائح فيها انهدام شريعة الإسلام.
ومن فضائحه: أن المرأة ربما قتلت الولد إذا حملت من التيس لعدم رغبتها فيه، بل هذا واقع كثيرًا [أ] ودائمًا، وحدَّثني بعضُهم أن رجلًا ترك من حلَّل امرأتَه في بيته، فلما خرج من عندها دعته نفسُه إلى أن راودها عن نفسها، وقال: إن الحلَّ لا يتمُّ إلا برجلين، وما ذاك إلا أنه لما رأى غيرَه قد أتى بالسفاح دعته نفسُه إلى التشبُّه به، إذ النفوس مجبولة على التشبُّه.
إلى غير ذلك من المفاسد.
ومن شرح الله صدْرَه للإسلام علم أن الفعل إذا كان مظنة لبعض هذه المفاسد حَسَم الشارعُ الحكيمُ مادَّتَه بتحريمه جميعَه.
واعلم أنه ليس في المتعة شرٌّ إلا وفي التحليل ما هو شر منه، فإن المتعةَ – مثلًا – مضادة لمقتضى النكاح بكونها مؤقَّته؛ لأن الشارع جعل موجب لفظ النكاح هو الوصل المؤبَّد ومنع التوقيت، لما أنه يُخلّ بمقاصد النكاح، ويُشبه الإجارة والسِّفاح، فكيف بالتحليل؟ ! .
فالمنع من دلالة هذا اللفظ على المتعة شرعى، ولأجل ذلك ورد الشرعُ بإباحته في ذلك الوقت. والمنع من دلالته على التحليل عقلىّ، فلم يَرِد به الشرع قط، بل لعنَ فاعله.
فتبيّن فقه المسألة، وأنه في غاية الفساد والمناقضة للشرع
(1/150)
والعقل واللغة والعُرْف، وأنه لا حظَّ له من نظرٍ ولا أثرٍ أصلًا، فإن من تزوَّج ليطلِّق لم يكن النكاحُ مقصودًا له، كما أن [من] تواضع ليُرْفَع لم يكن تواضعًا.
وبالجملة؛ فعلينا أن ننهى [الناس عما نهاهم اللهُ] (1) (173/ أ) عنه ورسولُه من النيات الباطنة، وإن لم نعتقد أنها فيهم، وأن لا نكتم ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بيَّنَه للناس في الكتاب، الذي تضمَّن طاعة الرسول واتباعَ سبيل السابقين الأولين، وأن لا نعين أحدًا (2) بنوع من الإعانة على عقد يغلب على الظن أنه تحليل، كما لا نعين أحدًا على ما يتوسّل به إلى قَتْل معصوم أو وطئ محرم.
والغرضُ: بيان بطلان التحليل وفساده باطنًا، وأما ترتّب الحكم عليه في الظاهر فسيأتي إن شاء الله.
فصلٌ
وقد أخرج الشيطان للتحليل حيلةً أخرى، وهي: أن يزوَّجها المطلِّق من عبدِه بنيَّة أن يبيعه منها أو يهبه [لها] بعد أن يطأها العبد فيبطل النكاح.
ويؤثرون هذا؛ لأن الفرقةَ تكون بيد الزوج المطلِّق والزوجة، فلا يتمكن الزوج من الامتناع من الفرقة، بخلاف الصورة الأولى،
__________
(1) ما بين المعكوفين مطموس في “الأصل”.
(2) “الأصل” و (م): “أحد” وكذا ما بعدها.
(1/151)
فإنه قد يمتنع من الطلاق.
وأيضًا: زعموا أن هذا استر لهما من رجل أجنبي؛ لأن وطء عبده ليس كوطء من يُساميه في الحرِّية.
ثم ذهب بعضُ الشذوذِ إلى أن وطء الصغير الذي لا يجامِعُ مثلُه يُحِلُّها، فإذا انضمَّ إلى ذلك أن يجبره على النكاح صار بيد المطلِّق العقد والفسخ، وإن كان كبيرًا، فمنهم من يخيِّره، فيصير بيد السيد العقد والفسخ أيضًا.
وجعل بعض أصحابنا في هذه الصورة – أعني إذا زوَّجها من عبده الكبير – احتمالًا؛ لأن الزَوْج لم ينوِ التحليل، وإنما نواه غيره. وهذه الصورة أبلغ في المخادعة لله – تبارك وتعالى – والاستهزاء بآياته تعالى، فإن (1) هناك كان المحلِّل هو الذي بيده الفُرْقة، وهنا جُعلت الفرقة بيَد المطلِّق والمرأة، لا سيما إن كانت الزوجة تحت حجر الزوج، بَأن يكون وصيًّا لها، فيرى أن يهبها العبد ويقبله هو، فيبقى المطلِّق مستقلًّا بفسخ النكاح، والعبدُ لا يمكنه أن يتزوج إلا بإذن سيِّده، فيأذن له في النكاح، ومن نيته أن يفسخَ نكاحَه.
فيكون الزوج مخدوعًا ممكورًا به، حيث أذن له في نكاحٍ باشره وليس القصد به نكاحًا وإنما القصد به سفاح، فهناك وقعت المخادعة لله فقط، وهنا وقعت (173/ ب) في حق الله وفي حق آدميٍّ، وهو الزوج، وتصير اللعنة التي وجبت على المحلِّل والمحلَّل له
__________
(1) “الإبطال”: “فإنه”.
(1/152)
كلتاهما على هذا المطلِّق وعلى الزوجة، فيقتسمان لعنةَ المحلِّل، وينفرد المطلِّق بلعنة المحلَّل له، أو تشركه المرأةُ فيهما.
فلهذا قلنا: إن هذا أَغْلَظ وأشد، حيث اجتمع عليه لعنتان، فإن كان العبد قد واطأهم أخذ بنصيبه من اللعنة من غير أن ينقص من نصيب السيد شيئًا.
ويزيده قُبحًا أن الزوج هنا عبد ليس بكفءٍ، ونكاحه إما منقوض وإما باطل، على الخلاف فيه.
وقد يكون التحليل بالعبد من غير المطلق، مثل صديق أو غيره (1).
وبالجملة؛ فلعنة المحلِّل والمحلَّل له تشمل كلَّ ذلك، وإن كان النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقصِدْه (2)، فلا ريب أنه في معناه وأوْلَى.
وما ذُكِرَ من الاحتمال في مذهبنا؛ فغير محتمل أصلًا، فإن المعتبر في التحليل بنية من يملك الفُرْقة بقولٍ أو فعل، وإذا كان الزوج الذي يقصد التحليل ملعونًا فالذي يقصد أن يحلل بالزوج أولى بذلك، فإنه يخادع اللهَ ورسولَه وعبدَه المؤمن.
وقد تكون المرأة هي المحلِّلة وحدَها، بأن يقصد إرضاع امرأة له صغيرة، حتى تصير من أمهات النساء، أو يقصد مباشرة أبيه أو ابنه عند من يرى ذلك، لكن هذه الأسباب محرمة في
__________
(1) انظر “الإبطال”: (ص/ 435) لمزيد الإيضاح.
(2) أي: بلفظ المحلل.
(1/153)
نفسها، والغرضُ أنها لو فعلَتْ هذا لم تحل للأول، بحيث لو أُريدت أو باشرت وانفسخ نكاحها لم تحلَّ للأول.
وما أطلقه بعضُ أصحابنا من أن نيَّة المرأة لا عبرة بها بناءً على أنها لا تملك رَفْع العقد بسببٍ مباح؛ ليس بشيءٍ؛ لأن العبرة بنية من يملك الفُرْقة سواء كانت مُكْنَتُه شرعية أو غير شرعية، فإن من كان هكذا كان محلِّلًا.
وكذا لو تزوَّجت بفقير وطلبت الفسخَ لعسرته تَحَيُّلًا علي الرجوع إلى الأول؛ فهي محلّلة لا تحلُّ للأول بذلك؛ لأنه نظير ملك الزوج الطلاق سواء، أو نظير الرضاع ونحوه.
ومن الحيل: إذا كانت المرأةُ أمةً فيزوِّجها سيدها من عبد ثم يبيعها، فتختار فراقه، فكلُّ ذلك من باب واحد؛ لأنه نكاح دُلْسة وخديعة ومكر، فيدخل في ذلك والله أعلم.
فصلٌ
فأما إن نوى التحليل من لا فُرْقة بيده، مثل الزوج المطلَّق ثلاثًا أو المرأة فقط، فقد قال حرب: سُئل أحمد عن التحليل إذا همَّ أحدُ الثلاثة؟ فقال: كان الحسن وإبراهيم والتابعون يُشَدِّدون في ذلك.
وقال أحمد – أيضًا -: الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أَتُرِيدين أنْ تَرْجعى إلى رِفَاعة … ” (1)؟ يقول أحمد: إنها كانت قد همَّت
__________
(1) تقدم تخريجه ص/ 67.
(1/154)
بالتحليل، ونية المرأة ليست بشيءٍ، فقد نصَّ على أن نيَّة المرأة لا تؤثِّر، وكذلك (174/ أ) قال أصحابُه.
وكذلك قال مالكٌ، قال أصحابُه: المعنى المؤثِّر يختصُّ به الزوج الثاني، ولا عبرة بنيَّة المرأة والزوج الأول، كلُّ ذلك غير مؤثِّر.
وقال الحسن والنخعي وغيرهما: إذا همَّ أحدُ الثلاثة فهو نكاح محلِّل، ويُروى عن ابن المسيّب.
ووجه ذلك: أن المرأةَ إذا نكحت الزوج، وهي غير راغبة فهي مدلسة مستهزئة متلاعبة مخادعة، كما تقدَّم، وهي وإن لم تملك الفرقةَ، فهي متسببة فيها على وجهٍ يحصل غالبًا، بأن تنوي الانخلاعَ منه وإظهارَ الزهد فيه وبغضه وكراهيته، وذلك مما يبعثه على خلعها أو طلاقها ويقتضيه غالبًا.
ثم قد ينضمُّ إليه أن تنوي النشوزَ عنه ومعصيتَه فيما يجب له، ونحو ذلك؛ لتحصل بها الفُرْقة، وإذا كانت إنما تزوَّجَتْه لتفارقه وتعود إلى الأول؛ لم تكن قاصدةً للنكاح ولا مريدة، فلا يصح هذا النكاح على قاعدة إبطال الحِيَل.
وأما نيَّة المطلِّق ثلاثًا؛ فيشبه أن يَكون هؤلاء التابعون إنما قالوا: إنه (1) يكون النكاحُ بها تحليلًا إذا كان هو الذي سعى في النكاح، وأراد أن يختلعَ المرأةَ بعد ذلك، فإنَّ هذا حرام؛ لأنه خداع للرجل المسلم، ويشبه ما لو كان قد زوَّجها من عبده يريد أن
__________
(1) “الأصل” و (م): “أن”, والمثبت من “الإبطال”.
(1/155)
يُمَلِّكها إيَّاه، وهي لم تشعر بذلك.
ثم يحتمل أنهم أرادوا: أن النكاح باطل في حق الأول فقط، بمعنى أنها لا تُرَدّ إليه؛ لأنه قَصَد تعجيل ما أجَّله الله، فيُعاقَب بنقيض قصدِه، ويُشْبه ما لو تسبَّب رجل في الفرقة بين رجلٍ وامرأته، بأن لمزها عندَه بشيءٍ حتى فارقها، ثم أراد هو أن يتزوَّجها، فلا تحلُّ لذلك المفرِّق عقوبةً له.
وهذا كما نقوله، على إحدى الروايتين، لو خطبَ على خِطبة أخيه: إن عقْدَه باطل، ولهذا قالوا: إذا نوى أحدُ الثلاثة أنه محلِّل، فنكاح هذا الآخر باطل، ولا تحلُّ للأول.
وهذا إنما يقال فيمن له فِعْل في النكاح الثاني، أما إذا لم يوجد من الأول فعلٌ أصلًا، وقد تناكح الزوجان نكاح رغبة، والأولُ يحب أن يطلِّقها، فهذا أقصى ما يقال: إنه متمنٍّ محبٌّ وليس بناوٍ، ولأن نية المرء إنما تتعلَّق بفعله، وما تعلَّق بفعل غيره، فهو أُمنية.
ووَجْه ما ذهب إليه مالك وأحمد – رحمهما الله -: ما استدلَّ به أبو عبد الله من أنّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – لعن المحلِّل والمحلَّل له، فلو كان التحليل يحصل بنية الزوج تارة (174/ ب) وبنية الزوجة أخرى؛ للعنها النبي – صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك أبلغ من لَعْنه آكلَ الربا وموكله، فلما لم يذكرها عُلِم أنَّ التحليل الذي يكون بالنية إنما يُلْعَن فيه الزوج فقط.
ولا يقال: لفظ (المحلِّل) يَعُم الرجل والمرأة، لقوله: “ألا
(1/156)
أُنَبِئكم بالتَّيْسِ الْمُسْتَعار” وقال: “هو المُحَلِّل” (1) وهذه صفة الرجل وحدَه. ثم لو عمهما فإنما ذاك على سبيل التغليب، لاجتماع المذكو والمؤنَّث، فلا بدَّ أن يكون تحليل الرجال موجودًا حتى تدخل معه المرأةُ تبعًا.
أما إذا نَوَت هي ولم ينو هو؛ فليس هو بمحلِّل أصلًا، فلا يجوز أن تدخل المرأةُ وحدَها فى لفظ المذكَّر، إلا أن يقال: قد اجتمعا في إرادة المتكلِّم بهما، وإن لم يجتمعا في عينِ هذا النكاح، فإن من قَصَدَ الإخبار عن المذكَّر والمؤنَّث مجتمِعَيْن ومفرَّقَيْن = أتى بلفظ المذكَّر – أيضًا – فهذا يمنع الاستدلال من هذا الوجه.
وأيضًا: فالمحلِّل هو الذي يَفْعل ما تصير به المرأةُ حلالًا في الظاهر، وليست حلالًا في الحقيقة، وهذا صفة من يمكنه رفع العقد، والمرأةُ ليست كذلك.
واستدلّ أحمدُ بحديث تُمَيْمَة بنت وهب امرأة رفاعة (2).
فوجه الدلالة: أنه مع إرادتها الرجوع إلى رفاعة، قال: لا، حتى يجامعها هذا، فعُلِمَ أنه إذا جامعها حلَّت للأوَّل، ولو كانت نيتُها تمنع ذلك لما حلَّت، سواء جامعها الثاني أو لم يجامعها.
فإن قيل: إنما أرادت الرجوع بعد عقد الثاني عليها (3)؟ .
__________
(1) تقدم تخريجه ص/ 130.
(2) تقدم تخريجه ص/ 67.
(3) انظر “الإبطال”: (ص/ 442) لمزيد إيضاح هذا الاعتراض.
(1/157)
قلنا: الجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يُفَصِّل لها ذلك، بَيْن أن تكون حدثت لها هذه الإرادة، ولا بين أن تكون وُجِدَت قديمًا قبل العقد، فدلَّ على أن الحلَّ يعم الصورتين؛ لأن تركَ الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يُنَزَّل منزلةَ العمومِ في المقال.
الوجه الثاني: أنها كانت راغبة في الأول دون غيره؛ لأنه قد روي أنه طلَّقها عبد الرحمن، ثم جاءت فاسْتَفْتت النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – بعد فراقه، فأجابها بأنها لا تحل حتى تذوق العُسَيلة.
وقال: “اللهم إن كان إنَّما بها أن يُحِلَّها لرفاعة فلا يتمُّ لها نِكاحُه”، وجاءت بعده إلى أبي بكر وعمر، فمنعاها (1).
فَلَمَّا استفتت بعد فراقه وقال: لا، ثم إنها غابت وجاءت فقالت: إنه قد مسَّني، فقال لها: لا تحل؛ لأنها قد كذبت أولًا، ثم أخبرت بخلافه، فلم يقبل رجوعها عن الأول ودعا عليها: إن كانت إنما أرادت أن تحلّها لرفاعة، فلا يتم لها ذلك عقوبةً على كذبها بنقيض قصدها؛ لئلا يتسرَّع الناسُ إلى (175/ أ) الكذب، فدلَّ على إرادتها لرفاعة دون غيره من الأزواج.
وهذا أمر لم يتجدد لها بأن عبد الرحمن لم يصل إليها، فعُلِم أنها كانت إرادةً متقدمة؛ لأن الأصل عدم ما يحدث.
الوجه الثالث: أنه قد رُوِي أنها استفتت النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قبل الطلاق،
__________
(1) هذا لفظ رواية عبد الرزاق: (6/ 347).
(1/158)
فروى البخاري (1) مرسلًا: أنها اشتكت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وقالت: إنما معه مثل هُدْبة الثوب، فجاء ومعه ولدان من غيرها وقال: والله كذبت يا رسول الله إنما (2) أنفضها نفضَ الأديم ولكنَّها تريدُ رفاعة، فقال لها رسول الله: فإذا كان كذلك لم تحلين له حتى تذوقي العُسَيلة … الحديث.
وأسنده سويد بن سعيد.
فتكون قد جاءت قبل طلاقه وبعده، فيدلُّ على رغبتها في الأول، وأنها كانت قديمة، ولم يُفصِّل الرسول، فَعُلِم أن الحكم لا يختلف.
وأيضًا: فإن كانت تحبُّ أن ترجع إلى الأول، فالمرءُ لا يُلام على الحبّ والبغض، وإنما عليه أن يتّقي الله (3).
وبكل حالٍ؛ فإذا تسبَّبت إلى أن تفارق الثاني بالخلع، وقد كانت من حين العقد تريد ذلك، فهي مدلِّسة غارَّة للزوج، وهذا نوعٌ من الخلابة والخديعة، وهي حرام، فلا تدخل هذه الصورة في كلام أحمد، فإنه إنما رخَّص في مُطْلَق نِيَّةِ المرأة، والنيةُ المطلقة إنما تتعلَّق بأن يتزوَّج الأول من غير فعلٍ محرَّم، أما إذا نَوَت
__________
(1) رقم (5825).
(2) كذا في “الأصل” و (م)، و”الإبطال” و”الصحيح”: “إني”.
(3) كذا في “الأصل” و (م)، والعبارة في “الإبطال”: (ص/ 447): “وإنما عليها أن تتقي الله سبحانه في زوجها وتُحسن معاشرته، وتبذل حقَّه غير متبرِّمة ولا كارهة، فإذا نوت هذا وقت العقد، فقد نوت ما يجب عليها … ” اهـ.
(1/159)
الاختلاعَ من الثاني، فهذه نية محرَّمة؛ لأنها تمنع قصدها للنكاح ورغبتها فيه، فلم يكن العقد مقصودًا، وهي أحد المتعاقدين، بخلاف من نوت أن العقد إذا انفسخ تزوَّجت الأول.
وتحريمُ هذا أشدُّ من تحريم نية الرجل من وجه، وذاك أشد من وجهٍ آخر، فإن الرجلَ إذا أراد الطلاقَ فهو في يده، بخلاف المرأة إذا أرادت إلاختلاع وليس في يدها، فربما جرَّها إلى فعل محرم من تعدِّي حدود الله. ونية التحليل ليس فيها من خديعة المرأة ما في نيَّة المرأة من خديعة الرجل، وإنما حرمت تلك لحق الله تعالى.
وأيضًا: فالمرأة إذا تزوَّجت قاصدةً للتسبب في خلع الرجل، فالتحريم لحقِّ الرجلِ؛ لما فيه من الخلابة والخديعة.
فأمَّا إذا طلب المطلِّق الأول من هذا الثاني أن يخلع المرأة أو يطلقها، أو دسَّ إليه من يفعل ذلك؛ فهذا يمنزلة ما لو حَدَث للمرأة ذلك (175/ ب) بعد العقد, فإن المطلق ليس له سبب في العقد الثاني، وقد نصَّ أحمد على أن ذلك لا يحل.
نَقَل عنه مُهنَّا في رجلٍ قال لرجل: طلِّق امرأتَك حتى أتزوَّجُها ولك أَلْف, ففعل؟ فقال: سبحان الله! لا يحلُّ هذا.
فقد نصَّ على أنه لو اخْتَلعها ليتزوَّجها لا تحلّ له، ولو شرط في عقد الخلع أنه يريد التزويج بها؛ فهو أقبح من أن يقصده بقلْبِه، فالمرأة أيضًا إذا اختلعت للتزوُّج بغيره، فهو أشد؛ لأن الأذى بطلب المرأة ذلك أشد من طلب الأجنبي.
(1/160)
فإذا كان هذا حرامًا لو حدث القصد، فكيف إذا كان مقصودًا من حين العقد! ؟ فظهر أنه لا يجوز اختلاعها رغبةً في نكاح غيره، ولا العقد بهذه النية، ولا أمرها بذلك، ولا تعليمها إياه، لكن لو فعَلَتْه لم تقدح في صحةِ العقد. فيما ذكره بعضُ أصحابنا لما تقدم، فلو رجعَتْ عن هذه النيَّة جاز لها المقام معه، وإن اختلَعَتْ منه ففارقَها وقعت الفرقة.
وأما العقد الثاني؛ فقال بعض أصحابنا: إنه صحيح، ولهم في صحة نكاح الرجل إذا خطب على خطبة أخيه وبيعه على بيعه قولان، وقد صحَّ نَهْيُ الرسول عن الخطبة على خطبة أخيه والبيع على بيعه والسوم على سومه، أو تنكح المرأة بطلاق أختها (1).
وهذا نهي تحريم في ظاهر نص أحمد؛ لأنه قد جاء مصرِّحًا: “لا يحلُّ للمؤمنِ أنْ يَخْطِبَ على خِطْبة أَخِيْه” (2).
ومن الأصحاب من حَمَله على أنه نَهْي تأديب، وهو باطل، وإذا ثبت أنه محرَّم، فهل العقد بعده صحيح أو فاسد؟ ذكر القاضي وغيره في المسألة روايتين. وقيل: فيها (3) وجهان.
وخرج القاضي إلى مسألة الخطبة، فجعل فيها الروايتين أيضًا، ويتوجه إقرار النصين هنا.
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2140)، ومسلم رقم (1413) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(2) أخرجه مسلم رقم (1414) من حديث عقبة بن عامر – رضي الله عنه -.
(3) “الأصل”، و (م): “وفيها”.
(1/161)
واشترط متأخِّروا الأصحاب في البيع على بيع أخيه أن يكون ذلك في مدة خيار المجلس أو الشرط، والمتقدمون لم يشترطوا ذلك، وهو أجود، وظاهرُ كلام أحمد يدلُّ عليه، فإنه – أيضًا – قد يفسخ في غير مدة الخيار، إما بعيب أو إقالة. أو يدخل عليه فيفسخ غصبًا، فيكون ذلك أشد تحريمًا لكثرة ضرره، فإذا حرم البيعَ أو الخطبةَ على خطبة أخيه؛ فكيف بالنكاح على نكاح أخيه؟ ! .
ولو أن الرجلَ طلبَ من غيره أن يبيعه سلعةً لجاز؛ ولو طلب أن يخلع زوجته ليتزوجها لم يجز، نصَّ عليه أحمد (1)، فمتى فعلت المرأةُ سببًا للفرقة، وفارقته وتزوّجت؛ فهي محللة (176/ أ) كالرجل المحلِّل، فلا تحلّ، لكن لو أقامت عند الزوج، فهل يَحتاج إلى استئناف عقدٍ كما في الرجل المحلل؟ ولو علم الرجل أن هذا كان في نيتها، وهي مقيمةٌ عليه، فهل يسعه المقام معها؟ .
هذا فيه نظر، فإن الرجل يملك المرأةَ، فإذا نوى التحليل، فقد قَصَد ما ينافي الملك، فلم يثبت له الملك، فانتفت سائر الأحكام تبعًا، وإذا نوت المرأة أن تأتي بالفُرْقة؛ فقد نوى هو الملك، وهي قد ملَّكته نفسَها في الظاهر، والملكُ يحصل له إذا قصدَه حقيقة مع وجود السبب ظاهرًا، لكن نِيَّتها تؤثِّر في جانبها خاصَّة، فلا يحصل لها بهذا النكاح حلُّها للأول، حيث لم تقصد أن تَنْكِح، وإنما قصدت أن تُنْكَح.
والقرآن علَّق الحلَّ بأن تَنْكِح زوجًا غيره، وإذا كانت قد نوت
__________
(1) تقدم نصه ص/ 160.
(1/162)
أن تفعل ما يرفع النكاح لم تكن قد نكحت حقيقةً.
فلا تحسبنَّ أن كلام أحمد وغيره: أَنَّ نيَّة المرأة ليست بشيءٍ = يعم ما إذا نوت أن تفارق بطريق تَمْلِكه، وإنما أرادوا نيَّة أن تتزوج الأول، ولا ريب أنها إذا نَوَت أن تتزوَّج بالأول لم يؤثِّر ذلك شيئًا كما تقرَّر؛ لأن هذه النية لا تتعلق بنكاح الثاني.
فأما إذا نوت فعلًا محرمًا أو خديعة أو مكرًا؛ فهذا نوع آخر، وبهذا يظهر حقيقة الحال فى هذا الباب، ويظهر الجواب عما ذكرناه من جانب من اعتبر نية المرأة مطلقًا.
والمسألة تحتمل أكثر من هذا، ولكن هذا الذي تيسَّر، وهو آخر ما يسَّره اللهُ من الكلام في مسألة التحليل على سبيل الاختصار، وإلَّا فالحيل تحتاج إلى بسطٍ واستيفاء الكلام فيها إلى نظر خاصًّ في كل مسألة (1)، وهذا يحتمل عدَّة أسفار، والله – سبحانه – يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وموافقًا لمحبَّته ومرضاته آمين.
والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فرغ منه ليلة الخميس تاسِع (2) عشري شهر صفر من سنة خمسٍ وخمسين وسبع مئة, أحْسَن الله تَقَضِّيَها.
__________
(1) كذا في “الأصل” و (م)، والعبارة قلقة، وهي في “الإبطال”: (ص/ 469): “وإلا فالحيل يحتاج استيفاء الكلام فيها إلى أن يُفرد كل مسألة بنظر خاص”.
(2) تحتمل: سابع.
(1/163)