مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم
مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم
http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم [آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (7)]اختصره: محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي (ت 778) المحقق: علي بن محمد العمران راجعه: محمد أجمل الإصلاحي الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الصفحات: 135 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (7)
مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول – صلى الله عليه وسلم –
لشيخ الإسلام ابن تيمية
اختصره
العلامة محمد بن على بن محمد البعلي الحنبلي ت (778)
تحقيق
علي بن محمد العمران
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم – دار ابن حزم
(1/1)
راجع هذا الجزء
محمد أجمل الإصلاحي
(1/3)
مقَدّمةُ التَّحقيق
نحمدك اللهم على ما أنعمتَ به علينا من بِعْثة هذا النبي الأُمِّي الخاتم، الرؤوف الرحيم، قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، فاللهم إنا نشهد أنه أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، وقام في أمته أصدق قيام:
فما حملتْ من ناقةٍ فوقَ رحلها … أبرَّ وأوفى ذمةً من محمد
فَتَرَكَنا على طريقٍ سويٍّ، ومحجَّة بيضاء، وصراطٍ مستقيم، فاجْزِه اللهمّ خير ما جزيتَ نبيًّا عن أُمته.
ثم نحمدك على ما يسَّرت على يديه من الهدى بعد الضلال، والنور بعد الظلام، والرَّشَد بعد الغواية، والعلم بعد الجهالة، والرِّفعة بعد الذلة، والتبصُّر بعد العماية.
أما بعد؛ فمن واجبات الدين المتحتِّمات تعزير نبيِّنا وتوقيره ومحبته وطاعة أمره، بل لا يكمل إيمانُ المرء حتى يكون هو “أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين”. كما أوجب علينا أيضًا أحكامًا أخرى في عقوبة من سبَّه أو أهانه أو استهْزَأ به، أو خالف أمره، أو ابتدع طريقة غير طريقته = حمايةً لجنابه الكريم، وتقديسًا لذاته الشريفة، وتنزيهًا لعِرْضه النقي، وصيانة لجاهه العَلِيّ، وحِياطة للشريعة التي جاء بها.
وهذه الأَحكام جميعها بيَّنها العلماءُ في بحوث مستفيضة في مصنفاتهم الفقهية في (أبواب الردة) وفي كتب العقائد، وفي مصنفاتٍ
(1/5)
مستقلة. وكان من أعظم هذه التصانيف – إن لم يكن أعظمها مطلقًا – كتاب “الصارم المسلول على شاتم الرسول – صلى الله عليه وسلم -“، لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية (728) – رحمة الله عليه – وكان تصنيفه له عام 693 لحادث اقتضى ذلك (1).
وقد نثر – رحمه الله – كنانته في جميع مباحث الكتاب ومسائله؛ فحقق وحرَّر، وناقش ودلَّل، وتوسَّع في نقل المذاهب واستطرد، وأتى بما أعجز العلماء عن الدفع والرد، فرجَّح واختار واحتج، فحدِّث عن البحر ولا حرج.
ولعل في الحادثة المشار إليها قريبًا التي اقتضت تأليف الكتاب حافزًا قويًّا لهذا التوسُّع والاستطراد.
وعليه؛ فالكتاب بحاجة إلى شيءٍ من التهذيب والانتقاء حتى يتسنَّى لعموم الناس الانتفاع به والإفادة منه بأقرب طريق، وذلك بتقريب مسائله، وإبراز مقاصده، وتقليل صفحاته (2).
فاعتنى بهذا الأمر الشيخُ العلامةُ الفقيه محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي المتوفى سنة (778). والبعليُّ أدرك من حياة شيخ الإسلام بضع عشرة سنة على أقل تقدير، بل تتلمذ لمن توفي قبله مثل اليونيني ت (726)، إلا أن الجزم بأنه أخذ عنه أو لقيه بعيد، ولئن فاته ذلك إلا أنه قد أخذ عن تلاميذ شيخ الإسلام مثل ابن القيم وابن عبد الهادي – كما سيأتي – فهو سليل تلك المدرسة المباركة.
__________
(1) انظر الخبر مفصلًا في “الجامع لسيرة شيخ الإسلام”: (ص/ 344 – 345).
(2) ومما يؤيد هذه الحاجة: أن الدكتور صلاح الصاوي قد اختصر الكتاب، ولم أقف عليه.
(1/6)
وللبعلي – أيضًا – عنايةٌ خاصة بكتب شيخ الإسلام واختصارها، فقد اختصر أربعة من كتبه هي “الفتاوى المصرية”، و”الصارم”، و”الاقتضاء”، و”إبطال التحليل” كما سيأتي في ذكر مصنفاته.
وقد وقفت – بحمد الله – على مجموعٍ نفيس يضمُّ هذه المختصرات بخط مؤلفه، فكان من المحفِّزات على صرف شيءٍ من الوقت للعناية بها، فبدأت بهذا المختصر، وثنَّيتُ بمختصر “الاقتضاء” المسمَّى: “المنهج القويم في اختصار الصراط المستقيم”. وثلَّثت بـ “مختصر الإبطال” المسمَّى: “شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل”، أما “مختصر الفتاوى” فهو مطبوع وإن كان بحاجة إلى مُعَارضته بأصل مؤلفه.
وقد قدمت له بمقدمة لخَّصْتُ فيها فصلًا في تكفير السابّ والمستهزئ بالله أو رسوله، والرد على شُبه المرجئة وأتباعهم، وترجمتُ للمؤلف، وعرّفت بالكتاب وعملي فيه، أسأل الله أن ينفع بهذا المختصر كما نفع بأصله، وأن يكتب الأجر للجميع، مؤلفه ومختصره والمُعْتني به، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
عليُّ بن محمد العمران
19/ 2/ 1421
في مكة المكرمة حرسها الله تعالى
ص. ب (2928)
(1/7)
فصل: في كفر الساب والمستهزئ بالله أو رسوله والرد على المرجئة وأتباعهم
من المسائل المهمة التي حرَّرها شيخ الإسلام في “الصارم” مسألة السبّ (سبّ الله أو رسوله) وأنه كُفْرٌ ظاهرًا وباطنًا، سواءٌ اعتقدَ السابُّ تحريم ذلك أو استحلاله، أو كان ذاهِلًا عن اعتقاده.
قال شيخ الإسلام: “وهذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة، القائلين بأن الإيمان قولٌ وعمل”.
ثم ذكر بعض نصوصهم في إثبات ذلك، ثم أجابَ عن شُبَه من قال: إنما يكفر مُسْتحلُّ السبِّ، وبيَّن أن هذا قول الجهميَّة الإناث والمرجئة القائلين بأن الإيمان هو مجرَّد التصديق بالقلب وإن لم يُقارنه قولُ اللسان، ولم يقتضِ عملَ القلبِ والجوارحِ.
ولأهمية هذه المسألة، ولانزلاق بعض العصريين فيها، ومتابعتهم لقول أهل البدع من المرجئة والكرّامية، وعدم فهمهم لمذهب أهل السنة والجماعة بسبب هوًى أو شبهة = نلخِّص ما ذكره الشيخ في الأصل – إذ اختصره المصنّف – لعل الله أن ينفع به من شاء من عباده.
قال الشيخ ما ملخصه مع بعض التصرُّف (1): وهذا موضع لا بدَّ من
__________
(1) البحث في “الصارم”: (3/ 960 – 976).
(1/8)
تحريره، ويجب أن يُعْلَم أن القولَ بأن كفر السابِّ في نفس الأمر إنما هو لاستحلالِه السبَّ زلةٌ منكرةٌ وهفوةٌ عظيمةٌ … وإنما أوقع من وقع في هذه المهواة ما تلقَّوْه من كلامِ طائفةٍ من متأخري المتكلِّمين الذين ذهبوا مذهبَ الجهمية الأولى …
وليس الغرض استيفاء الكلام، وإنما الغرضُ التنبيهُ على ما يخصُّ هذه المسألة، وذلك من وجوه:
أحدها: أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء: “أنه إن كان (أي: السابّ) مُسْتحلًّا كفر وإلا فلا”، ليس لها أصلٌ، وإنما نقلَها القاضي (يعني: أبا يعلى) من كتاب بعض المتكلمين الذين حكَوْها عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريًا في أُصولهم، أو بما سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يُعَدّ قولُه قولًا … فلا يظن ظانٌّ أن في المسألةِ خلافًا يجعلُ المسألةَ من مسائل الخلافِ والاجتهاد، وإنما ذلك غلط، لا يستطيع أحدٌ أن يحكيَ عن واحدٍ من الفقهاء وأئمة الفتوى هذا التفصيلَ أَلْبتةَ.
الوجه الثاني: إذا كان سبب الكفر هو الاستحلالُ، فلا فرقَ في ذلك بين سبِّ النبيَّ وبين قذفِ المؤمنين والكذبِ عليهم والغيبةِ لهم، إلى غير ذلك من الأقوال المعلوم تحريمها، فإن من فعل شيئًا من ذلك مُسْتحلًا كَفَر.
الوجه الثالث: إذا كان ذلك كذلك، فلا أثر إذن للسَّبِّ في التكفير وجودًا وعدمًا، فالمؤثِّر – على ما زعموا – هو الاعتقادُ والاستحلالُ. وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء؛ إذ أجمعوا على كفر السابّ استحلّ أو لم يستحلّ.
(1/9)
الوجه الرابع: أن يقال: إذا كان المكفِّر هو اعتقاد حِلِّ السبِّ، فليس في مجرَّد السبِّ استحلالٌ، فينبغي – على قولهم – ألا يُكفَّر، خاصةً إذا قال: أنا أعرفُ أنه حرامٌ، لكن قلتُه عبثًا ولعبًا، أو غيظًا وسَفَهًا (1).
فيقال لهم: ما تقولون في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}. فإن قالوا: لا يكفرون، قلنا: هذا خلاف نص القرآن، وإن كفَّرتموهم، فهو تكفير بلا مُوْجِب إذا لم يُجعل نفسُ السبِّ مكفِّرًا، وكذا في قوله: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} كفَّرهم بذلك القول الذي صدر منهم، ولم يقل: قد كذبتم في قولكم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
فتبيَّن أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة (أي: السب) في نفسها كفر، استحلَّها صاحبُها أو لم يستحلَّ، والدليل عليه جميع ما قدمنا في المسألة الأولى (2) من الآيات والأحاديث، فإنها أدلة بيّنة على أن نفس أذى الله ورسوله كُفْر، مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجودًا وعدمًا.
ثم ذكر الشيخ – رحمه الله – منشأ هذه الشبهة عند المتكلمين أو من حذا حذوهم، فذكر شبهتين:
1 – أنهم رأوا أن الإيمان هو التصديق، وأن اعتقاد صدقه (أي: الرسول) لا يُنافي السبَّ والشتم، فإن الإنسان قد يهينُ من يعتقد وجوب
__________
(1) أو سوء تربية، على قول البعض.
(2) في “الصارم”: (2/ 58 – 378)، و”المختصر”: (ص / 31 – 77).
(1/10)
إكرامه، كما يترك ما يعتقد وجوب فعله، ثم رأوا أن الأمة قد كفَّرت السابّ، فقالوا: إنما كَفر لأن سبَّه دليل أنه لا يعتقد أنه حرام، واعتقاد حلِّه (أي: السبّ) تكذيب للرسول فكَفَر بالتكذيب لا بالإهانة، والإهانةُ دليل التكذيب، فإذا فُرِض أنه في نفس الأمر ليس بمكذِّب كان في نفس الأمر مؤمنًا، وإن كنَّا نحكم عليه بالظاهر. فهذا مأْخَذ المرجئة والكرّامية.
2 – وللجهمية مأْخَذٌ آخر، وهو أنه (أي: الساب) قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فإذا كان فيه التعظيم والتوقير للرسول لم يقدح إظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن.
وجواب الشبهة الأولى من وجوه:
الأول: أن الإيمان أصله تصديق القلب، وهذا التصديق لا بد أن يُوْرث حالًا له وعملًا، وهو تعظيمُ الرسول وإجلالُه ومحبتُه، وذلك أمر لازم كالتألُّم والتنعُّم عند الإحساس بالمؤلم والمنعم، كالنُّفْرة والشهوة عند الشعور بالملائم والمنافي. وإن لم تحصُل هذه الحال لم ينفع ذلك التصديق شيئًا. وإنما يمنع حصوله وجودُ المعارِض من حَسَد الرسول أو التكبُّر أو نحوه، بل يكون ذلك المعارِض موجبًا لعدم المعلولِ الذي هو حال القلب، فيزول التصديق الذي هو العلَّة، فيذهب الإيمان بالكلية من القلب، وهذا الموجب لكفر من حَسَد الأنبياء أو تكبَّر عليهم.
الثاني: أن يقال: كلامُ الله خَبَر وأَمْر، فالخبر يستوجب التصديق، والأمر يستوجب الانقياد والاستسلام، فإن حصل التصديق والانقياد حصلَ أصلُ الإيمان في القلب وهو الطمأنينة والإقرار.
(1/11)
فإذا تقرَّر ذلك؛ فالسبُّ إهانة واستخفاف، ومُحالٌ أن يُهينَ القلب أو يستخف بمن انقاد له وخَضَع واستسلم، فإذا حصل في القلب استخفافٌ واستهانة امتنع أن يكون فيه إيمان. وهذا بعينه كفر إبليس، إذ هو لم يُكذِّب خبرًا، ولكنه لم ينقد للأمر بل استكبر عن الطاعة.
قال شيخ الإسلام: وهذا موضع زاغ فيه خلقٌ من الخَلَف!
فإذا تقرَّر أنه لا بدَّ من اجتماع التصديق بالخبر والانقياد للأمر الذي هو موجبُ التصديق ومقتضاه وثمرتُه، فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذِّب له أو ممتنع عن الانقياد لربِّه، وكلاهما كفر صريح. ومن استخفَّ به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقادًا لأمرِه، فالانقياد إجلال وإكرام والاستخفاف إهانة وإذلال، وهما ضِدان، فمتى حصل في القلب أحدُهما انتفى الآخر، فَعُلِمَ أن الاستخفاف والاستهانة والسبّ تنافي الإيمان منافاة الضدِّ للضدِّ.
الثالث: التفريق بين من يفعلُ الذنبَ تشهِّيًا من غير معاندة أو جحودٍ أو استكبار، وبين من يفعله جُحودًا ومعاندةً.
ثم الامتناعُ والإباءُ من الفعل إما لخللٍ في اعتقاد حِكْمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفةٍ من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدِّق به تمرُّدًا أو اتباعًا لغرض النفس، وحقيقته كفرٌ. هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكلِّ ما أخبر به ويصدِّق بكلِّ ما يصدِّق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويُبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومُشْتهاه، ويقول: أنا لا أقرُّ بذلك ولا ألتزمه، وأُبغض هذا الحق وأنفر عنه. فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلومٌ بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع، بل عقوبته أشد.
(1/12)
أما إهانةُ الرجل من يعتقد وجوب كرامته كالوالدين ونحوهما؛ فلأنه لم يُهن من كان الانقياد له والإكرام شرطًا في إيمانه، وإنما أهان من إكرامه شرطٌ في بره وطاعته.
وجانب الله ورسوله إنما كَفَر فيه؛ لأنه لا يكون مؤمنًا حتى يصَدِّق تصديقًا يقتضي الخضوعَ والانقياد، فحيثُ لم يقتضِه لم يكن ذلك التصديقُ إيمانًا.
أما جواب الشبهة الثانية فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يلزم على قولهم هذا أن من تكلَّم بسائر أنواع الكفر والتكذيب والجحود يجوز أن يكون مؤمنًا في نفس الأمر! وهذا لا يقوله إلَّا من خلعَ رِبْقة الإسلام من عُنقه.
ثانيها: أن الذي عليه أهل السنة والجماعة أن ما في القلب من المعرفة لا ينفع العبدَ ما لم يتكلَّم بالإيمان، فالقولُ من القادر عليه شرطٌّ في صحة الإيمان، فأهل السنة مطبقون أن الإيمان قولٌ وعملٌ.
ثالثها: قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106].
فالمعنى: أن من تكلّم بكلمة الكفر فعليه غضبٌ من الله وله عذابٌ عظيم، وأنه كافر بذلك إِلا من أُكْرِه وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرًا من المُكْرَهين فإنه كافرٌ أيضًا، فصار كلُّ من تكلَّم بالكفر كافرًا إلا من أُكْرِه، فقال بلسانه كلمةَ الكفر، وقلبُه مطمئن بالإيمان.
(1/13)
إذن فلم يُرد بالكفر هنا اعتقادَ القلب، لأن ذلك لا يُكْرَه عليه الرجل، وإنما يُكره على القول فقط.
ومثله قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] فبيّن أنهم كفار بالقول.
وأخيرًا اعلم بأن الإيمان وإن قيل: هو التصديق، فالقلب يُصدِّق بالحق، والقول يصدق ما في القلب، والعمل يصدِّق القولَ، والتكذيب بالقول مُسْتلزم للتكذيب بالقلب، ورافعٌ للتصديق الذي كان في القلب، إذ أعمال الجوارح تؤثر في القلب كما أن أعمال القلب تؤثِّر في الجوارح، فأيهما قامَ به كُفْر تعدَّى حكُمه إلى الآخر (1).
انتهى ملخَّصًا، وفيه غُنْية لمن ألقى السمعَ وهو شهيد، والحمد لله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء وما ربك بظلَّامٍ للعبيد.
* * *
__________
(1) راجع لمزيد من التأصيل والاستدلال، والمناقشة والرد، وتفصيل ما أُجْمِل كتابَ “الإيمان الأوسط” لشيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -.
(1/14)
• ترجمة المؤلِّف (1)
* اسمه ومولده ونشأته
هو: محمد بن علي بن محمد (2) بن عمر بن يَعْلى البَعْلي الحنبلي، بدر الدين أبو عبد الله، الشهير بابن أسبا سلار (3).
هذا أتم سياق لنسبه، ساقه ابنُ حجر في “الدرر”.
وزاد في “الإنباء”: “اليونيني” نِسبةً إلى “يُونين” ويقال: “يونان”، وهي إحدى قرى بعلبكّ.
__________
(1) * مصادر ترجمته
“معجم ابن ظهيرة – إرشاد الطالبين”: (ق/ 138)، “الدرر الكامنة”: (4/ 84)، “إنباء الغمر”: (1/ 223)، “تاريخ ابن قاضي شُهْبة”: (1/ 242)، “المنهج الأحمد”: (5/ 146 – 147)، “مختصره”: (2/ 558 – 559)، “الجوهر المنضَّد”: (ص/ 144)، “شذرات الذهب”: (6/ 254 – 255)، “السحب الوابلة”: (3/ 1016 – 1017)، “الأعلام”: (6/ 286)، “معجم المؤلفين”: (11/ 46)، “التسهيل”: (مخطوط).
(2) غيَّره الزركلي في “الأعلام” إلى “أحمد”، وقال: إنه رآه بخطه كذلك! أقول: الزركلي متثبِّت في هذه القضايا، إلا أنني رأيتُ اسمه بخطه الواضح الذي لا لَبْس فيه هكذا: “محمد بن علي بن محمد الحنبلي” انظر المجموع الخطي الذي اعتمدنا عليه في إخراج هذا المختصر: (ق/ 20 ب، 143 أ، 177 أ).
(3) تعددت التحريفات في هذا اللقب؛ ففي “الدرر”: “اسبهادر”، و”الإنباء”: “اسلار”، وفي “السحب”: “الباسلار”، وفي “إرشاد الطالبين”: “المعروف بابن أفهلار”، ويشبه هذا التركيب لقب “اسْفَهْسِلار” ومعناه: مُقَدَّم العسكر، وهو مركب من لفظ فارسي، وهو “أسْفَه” ومعناه مقدَّم، ولفظ تركي وهو “سلار” ومعناه عَسْكَر، فلعله مصحف عنه، انظر “صبح الإعشى”: (6/ 7).
ثم وجدت البرزالي قد قال – كما نقله عنه ابن رافع في وفياته: 1/ 404 – : “اسفاسلار بقلعة بعلبك” فالله أعلم.
(1/15)
ووقع في “الجوهر المنضد”: “محمد بن حسن … ” ولقبه: “شمس الدين”! وهذا خلاف ما أجمعت عليه مصادر ترجمته، ولعله تحريف إما من ناسخ الكتاب أو مؤلِّفه، بدليل ما نقله المؤلفُ نفسُه عن ابن قاضي شُهْبَة في “تاريخه”.
قال ابنُ المَبْرَد: “”اسْبَا سلار” اسمٌ أعجمي ذكره الشيخ تقي الدين الجُراعي في “شرح التسهيل” مثل بهاء الدين ونحوه” اهـ
ولد المؤلف بالشام في مدينة بَعْلَبَكّ كما قال ابن ظهيرة، ولم ينص أحدٌ على تاريخ ولادته إلا الحافظ ابن حجر، فإنه قال في “إنباء الغمر”: “ولد سنة أربع عشرة وسبع مئة”.
وتوجَّه أبو عبد الله للطلب مبكِّرًا؛ إذ أخذ عن الشيخ المحدِّث المؤرِّخ قطب الدين أبي الفتح اليونيني، بَلَدِيِّه، المتوفى سنة (726)، بل أكثر عنه، فإن صحَّ ما قاله الحافظ ابن حجر في تاريخ ولادته، فإنه يكون قد لازم اليونينيَّ وهو دون العاشرة!
وقد سمَّى لنا ابنُ ظهيرة بعضَ مرويَّاته عن اليونيني، فذكر “جزء مطَيَّن” عن ابن رواح، و”جزءًا من حديث ابن زبر” قال: وغيرهما.
كما سمع – أيضًا – من جماعة من شيوخ بلده وغيرهم، فسمع من الحجَّار المُسْنِد المتوفى (730)، وتفقَّه بابن عبد الهادي ت (744)، وابن القيم ت (751) وكتب بخطِّه كثيرًا من العلم.
ويبدو أنه بدأ بسماع الأجزاء والعوالي ليدرك عُلوِّ الأسانيد ومشايخ الرِّواية، على طريقة العلماء في ذلك، ثم توجَّه إلى الفقه، فتفرَّغ له فَبَرَع فيه. وقد أثنى عليه العلماء – كما سيأتي – ووصفوه بالإمامة في الفقه
(1/16)
والفتوى، وتصدَّر لذلك، فأقْرَأ ببلده – بعلبكّ – بالجامع، بل أصبح عالمَ الحنابلة هناك وشيخَهم، وعليه مدار الفتوى، فسمعَ منه الكثيرُ من الفضلاء، وحدَّث، وممن أخذ عنه ابن ظهيرة (1) وغيره.
وَوُصِف بأنه “مُفيد النوريَّة” (2).
* صفاتُه وثناءُ العلماء عليه.
وُصف بأنه: طويل الروح، حسن الشكل، طوال، يخضِبُ بالحِنَّاء، فاضل، كثير الاستحضار، حسن العبارة.
ومن ثنائهم عليه:
قال ابن ظهيرة (817) – تلميذه -: “الإمام العلّامة، شيخ الحنابلة ببعلبكّ … وكان إمامًا عالمًا، عليه مدار الفتوى ببلده”، ومثله قال ابنُ حجر.
وقال ابنُ قاضي شُهْبة (851): “الشيخ الإمام العالم المفتي”.
وقال ابن المَبْرَد (909): “الشيخ الإمام العالم العلامة الفقيه الزَّكي المحصِّل”.
وقال مجير الدين العُلَيمي (928): “الشيخ الإمام العالم العلامة البارع الناقد المحقق … أحد مشايخ المذهب”، ومثله ابن العماد (1089) وابن حميد (1295) في “السحب”.
__________
(1) ذكره في معجم شيوخه “إرشاد الطالبين”.
(2) انظر عن المدرسة النورية “الدارس”: (1/ 99). ومصطلح “المفيد” عند المحدثين في مرتبة دون الحافظ وفوق المسْنِد.
(1/17)
* مصنَّفاته.
1 – ” التسهيل” (1)
مختصر في الفقه على الفتوى – في مذهب الحنابلة -، عبارته وجيزة مفيدة، وفيه من الفوائد ما لا يوجد في غيره من المطوَّلات، أثنى عليه العلماء. قاله العُليمي.
وقال ابن المَبْرَد “وهو قولٌ واحدٌ في مذهب أحمد، لم يذكر فيه خلافًا إلا في باب صلاة الجماعة، فإنه جمع مسائل وأطلق فيها الخلاف (2) ” اهـ
والكتاب طبع عام 1413 بتحقيق د. عبد الله الطيار، ود. عبد العزيز الحجيلان، عن نسخته الوحيدة المُصورة بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، المجلوبة من بعض جمهوريات السوفيت – سابقًا -، ويعود الفضل لاكتشافها للأستاذ عبد الرحمن العثيمين، على ما ذكر في هامش “الجوهر” و”السحب”، وذكر هناك أيضًا أن صديقه سليمان التويجري يعمل عليه.
ووهم الزركلي في “الأعلام” إذ جعل “التسهيل” هو نفسه مختصر الفتاوى المصريَّة وتَبِعَه عمر رضا كحالة في “معجمه” – كعادته -!
2 – شفاء العليل في اختصار “إبطال التحليل” لابن تيمية.
منه نسخة بخط المؤلِّف في المجموع الذي اعتمدنا عليه (ق/ 143 أ – 176 أ) انتهى من كتابته في التاسع والعشرين من صفر سنة سبع مئة وخمس وخمسين.
ومنه نسخة أخرى في مكتبة برلين رقم 4665 في 23 ورقة، كُتبت سنة 1100، انظر “فهرس المكتبة”: (4/ 178).
__________
(1) تحرّف في بعض المصادر إلى “الترتيل”! و”السرقيل”!
(2) هناك مسائل أخرى ذكر فيها الخلاف، انظر مقدمة تحقيق “التسهيل”: (ص/ 25).
(1/18)
3 – “القواعد النورانية مختصر الدرة المضيَّة من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية”
هكذا سمَّاه مؤلِّفه بخطه، وهو مطبوع بعنوان “مختصر الفتاوى المصرية”، طبَعَه حامد الفقي، ثم عبد المجيد سليم شيخ الأزهر، عن نسخة دار الكتب.
ومنه نسخة بخطِّ المؤلف، ضمن المجموع المتقدِّم (ق/ 21 أ – 142 ب)، فإعادة إخراجه على هذه النسخة له أهميته، وخاصَّة أن فيه بعض الزيادات التي ظهرت لي أثناء المعارضة.
وتقدم ما وهم فيه الزركلي عند رقم (1).
* مختصر الفتاوى المصرية = القواعد النورانية.
4 – “مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول – صلى الله عليه وسلم -” لابن تيمية.
وهو كتابنا هذا، وسيأتي الحديث عنه.
5 – “المنهج القويم في اختصار الصراط المستقيم” لابن تيمية.
منه نسخة بخط المؤلف ضمن المجموع السابق (ق/ 177 أ – 21 ب) ولم يحدد فيه تاريخ انتهائه.
وقد عملت على إخراجه وسيطبع قريبًا إن شاء الله تعالى.
* وفاته
أجمع من ترجم له أنه توفي في ربيع الأول سنة سبع مئة وثمانية وسبعين، إلا ابن العماد في “الشذرات” فإنه جعله في وفيات سنة سبع وسبعين وسبع مئة، ولا يُعْلَم مستنده في ذلك!
* * *
(1/19)
• التعريف بالكتاب، وعملي فيه
الكتاب مختصرٌ للصارم، وهو تَبَعٌ لأصله، والأصلُ بناه مؤلفهُ على أربع مسائل هي:
الأولى: في وجوب قتل من سبّ النبي – صلى الله عليه وسلم -.
الثانية: في وجوب قتل الساب الذمي.
الثالثة: في وجوب قتله وعدم استتابته مسلمًا كان أو كافرًا.
الرابعة: في بيان السبّ والفرق بينه وبين الكفر.
وكان جلُّ عمل المؤلف هو الحذف والانتخاب، مع المحافظة على عبارات شيخ الإسلام، وعدم التصرّف فيها إلا بما يقتضيه الاختصار من ترابط الكلام وانسجامه.
فمثلًا يسوق شيخ الإسلام الدليلَ من رواياته المتعددة ويذكرها بألفاظها، كما في قصة كعب بن الأشرف: (2/ 145 – 188) فاستغرقت نحو أربعين صفحة، بينما اقتصر في المختصر على موضع الشاهد منها في صفحة واحدة، انظر ص/ 54.
وقُلْ مثل ذلك في اختلافات الفقهاء والتوسع في سَرْدها، والخلاف بين أصحاب المذهب الواحد، واعتراضاتِ كلٍّ، وغيرها، فقد أجرى المؤلف عليها يدَ الاختصار والانتقاء.
(1/20)
فكان الاختصار في نحو الخُمُس مقارنةً بالطبعة القديمة، وفي نحو العُشر على الطبعة الجديدة.
ومما ينبغي ملاحظته أن المؤلف كان عَجِلًا في اختصاره، ولأجل ذلك ربما سقطت عليه نصف الكلمة أو آخر حرفٍ منها، كما في (ص/ 43, 49, 62، 66 وغيرها). وأحيانًا يحصل له وهم في فهم كلام المؤلف – مع قِلته – مثل دمج حديثٍ في آخر، أو إغفال ما لا يستقيم النص بدونه من كلام المؤلف، مثل (ص/ 39، 54، 74 وغيرها).
كما تتضح عجلته عند مقارنة خطه في هذه المختصرات، وخطه في آخر المجموع للرسالتين في طواف الحائض، والماء المائع … إذ نجد الفرق واضحًا جليًّا في الوضوح والإعجام والنَّقْط … وغير ذلك.
وكان عملي يتلخص فيما يلي:
1 – نسختُ المخطوط وقابلته مرة أخرى.
2 – علقتُ عليه باختصار؛ تخريجًا لأحاديثه وعزوًا لنقوله … وغيرها مما يكمِّل فوائده.
3 – أصلحت ما سها فيه المختصِر من إسقاطٍ أو تغيير أو نحوه؛ فرأبْتُ صدعَه وجَبَرتُ كسرَه، وليس هذا من التَّسَوُّر على أصل المؤلِّف في شيءٍ، إذ قد علمنا غرضَه، وهو محاكاةُ أصلِه، فلا التفاتَ إلى سهو البصر أو طغيان القلم، وقد أذكر نصَّ كلام الشيخ في الحاشية، لمزيد البيان.
4 – قابلتُ النصَّ بأصله المختصَرِ منه، معتمدًا في ذلك الطبعةَ التي حقَّقها الشيخان محمد الحلواني ومحمد شودري (الطبعة الأولى،
(1/21)
1417، رمادي للنشر)، وهي أجود طبعة للكتاب، ولا يُضيرها ما وقع فيها من سهو أو خطأ (1)، إذ المحقق الذي لا يخطئ لم يولد إلى الآن.
وقد استفدت من عملهما في الكتاب، وإن لم أتابعهما فيه، بل زدْتُه فوائد، خاصة في الحكم على الأحاديث، وعزو بعض النقول.
* * *
__________
(1) وقد نبَّهت على ما لا بد منه في الهامش.
(1/22)
• وصف النسخة الخطِّية
هي نسخة ضمن مجموع يحتوي على (230 ق) كله بخط مؤلفه وناسخه: محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي، وهذه محتوياته على الترتيب:
1 – مختصر الصارم المسلول (1 ب – 20 ب).
2 – مختصر الفتاوى المصرية (21 أ – 142 ب).
3 – مختصر إبطال التحليل (143 أ – 176 أ).
4 – مختصر الصراط المستقيم (177 أ – 210 ب).
5 – فصلٌ في طواف الحائض والجنب والمحدث، لشيخ الإسلام (1) (211 أ – 221 ب).
6 – الزيت اليسير إذا وقعت فيه نجاسة، لشيخ الإسلام (2) (222 أ – 229 أ).
كان هذا المجموع في ملك الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ت (1233) صاحب “تيسير العزيز الحميد” كما هو مثبتٌ بخطه في آخر المجموع، وإن حاول بعضُهم طمسَه، ثم آل
__________
(1) وهو في “مجموع الفتاوى”: (26/ 176 – 218).
(2) وهو في “مجموع الفتاوى”: (21/ 488 – 512).
(1/23)
إلى مكتبة أحد آل العسَّافي (1)، ثم استقرَّ أخيرًا في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض إهداءً، وهو محفوظ فيها برقم 8959/ 1/ خ.
والنسخة بحالة جيدة إلا أن التآكل قد أتى على بعض الأسطر الأخيرة بسبب الرطوبة، ومقاسها 19 × 13,5، وعدد الأسطر متفاوت، وخطُّها تدويني عديم الإعجام، قليل النَّقْط، وتبدو عجلة المؤلف واضحة في اختصاره كما تقدم. وعلى هوامشها أثر مقابلة وتصحيح واستدراك. ولم تخل من بعض الأخطاء التي لا يعرى منها بشر.
وأخيرًا أُسدي الشكر للصديق الأستاذ عبد الرحمن بن حسن الزير على ما اجتهد وبذل في تصوير هذا المجموع وإرساله.
والحمد لله حقَّ حمده. وصلاةً وسلامًا على رسوله.
* * *
__________
(1) لم أعرف من هو، ومن آل العسافي ممن ذُكر بالعلم: محمد بن حمد بن محمد بن صالح بن سليمان العسَّافي (1311 – 1388)، انظر: “تاريخ علماء بغداد في القرن الرابع عشر”: (ص/ 573) للسامرائي، و”علماء نجد”: (5/ 521) للبسَّام. فلعلَّه هو.
(1/24)
ورقة عنوان المجموع بخط المؤلف
(1/25)
الورقة الأولى من مختصر الصارم
(1/26)
الورقة الأخيرة من مختصر الصارم
(1/27)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم فنِعْم الهاد، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادةً تبرِّئُ قائلَها من الإلحاد.
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله أكرم العِباد، أرسله بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كُلِّه ولو كره أهلُ العِناد، فله الفضيلة والوسيلة والمقام المحمود ولواء الحَمْد الذي تحته كلُّ حمَّادٍ، صلى الله عليه وعلى آله أفضل الصلوات وأطيبها وأحسنها وأزكاها، صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم التناد.
وبعد؛ فإن الله أرسل نبيَّه محمدًا – صلى الله عليه وسلم – وهدانا به، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وآتانا ببركةِ رسالته ويُمْنِ سفارته خيرَ الدنيا والآخرة، والمتعرِّض (1) لجنابِه الرفيع يجب بيانُ حكمه وما يجب عليه من النَّكال.
والمقصودُ هنا بيانُ الحكم الشرعي الذي يُفْتَى به ويُقْضَى، ويجبُ على كلِّ أحدٍ القيامُ بما أمكن منه، واللهُ هو الهادي إلى سواءِ السبيل، وهو مرتَّب على أربعة (2) مسائل:
المسألة الأولى: في أنّ السَّابَّ يُقتل سواء كان مسلمًا أو كافرًا.
__________
(1) هكذا قرأتُها.
(2) كذا، وفي أصله: “أربع”.
(1/29)
الثانية: أنه ينبغي قتله وإن كان ذمِّيًّا.
الثالثة: في حكمه إذا تاب.
الرابعة: في بيان السّبِّ ما هو.
* * *
(1/30)
المسألة الأولى (1): أنّ من سبَّه – صلى الله عليه وسلم – من مسلم وكافر فإنه يجب قتلُه
هذا مذهب عامة العلماء، قال ابنُ المنذر (2): “أجمع عوامُّ العلماء على أنّ على من سبَّه القتل، قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق والشافعي. وحُكِيَ عن النعمان: لا يُقتل الذِّمِّي”.
وحكى أبو بكر الفارسي (3) – من أصحاب الشافعي – إجماعَ المسلمين على قتل من سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم -، كما أنَّ حكم من سبَّ غيرَه الجلد.
وهذا الإجماع محمولٌ على إجماع الصدر الأوَّل من التابعين والصحابة – قاله شيخ الإسلام – أو (4) أنه أراد إجماعَهم على وجوب قتله إذا كان مسلمًا، وكذلك قَيَّده القاضي عِياض (5).
__________
(1) “الصارم”: (2/ 13).
(2) في “الأوسط”: (2/ 682) و”الإشراف”: (2/ 244)، و”الإقناع”: (2/ 584). وانظر “الإجماع”: (ص/ 76) له.
(3) هو: أحمد بن الحسين بن سهل، أحد أئمة الشافعية ت (350)، له مصنفات، منها كتاب “الإجماع” وهذا النقل منه، انظر “فتح الباري”: (12/ 293).
(4) لم تظهر الهمزة بسبب الرطوبة.
(5) في: “الشفا بتعريف حقوق المصطفى – صلى الله عليه وسلم -“: (2/ 386 – مع شرح الملا علي القاري).
(1/31)
وقال إسحاق بن راهويه: أجمع المسلمون أنّ من سبَّ الله أو سبَّ رسوله، أو دفع شيئًا مما أنزل الله، أو قتل نبيًّا: أنه كافر، وإن كان مُقِرًّا بكلِّ ما أنزله الله.
قال الخطَّابي (1): “لا أعلم أحدًا اختلف في وجوبِ قتله”.
وقال محمد بن سُحْنُون: أجمعَ العلماء أنَّ شاتم الرسول [المتنقِّص له] (2) كافر، ومن شكَّ في كفره كَفَر.
وتحريرُ القول: أنَّ السَّابَّ المسلم يُقْتَل بلا خِلافٍ، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وإن كان ذِمِّيًّا قُتِل – أيضًا – عند مالك وأهل المدينة، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث، نصَّ عليه أحمد في مواضع متعدِّدة.
نقله (3) حنبل وأبو الصقر (4) والخلّال وعبد الله وأبو طالب: أنه يُقتل مسلمًا كان أو كافرًا، قيل لأحمد: فيه حديث (5)؟ قال: نعم، أحاديث، منها حديث الأعمى الذي قَتَل المرأةَ حين سمعها تشتم النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – (6)، وحديث حُصَين (7).
__________
(1) في “معالم السنن”: (6/ 199).
(2) غير بيِّنةٍ في الأصل بسبب الرطوبة، والاستدراك من “الصارم”.
(3) غير واضحة بسبب الرطوبة.
(4) هو: يحيى بن يزداد الوراق أبو الصقر، ورَّاق الإمام، له مسائل عنه، انظر: “طبقات الحنابلة”: (2/ 542).
(5) في أصله: “أحاديث”.
(6) سيأتي ص/ 53.
(7) يرويه عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه مرَّ براهبٍ فقيل: إن هذا سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: لو سمعته لضربتُ عُنقَه، إنا لم نُعْطِهم العهد على أن يسبُّوا نبيَّنا. =
(1/32)
قال (1): ولا يُستتاب، رواه أبو بكر في “الشافي” (2)، فلا خلاف عنه أنه يُقتل، وأنه ينتقض عهدُه.
وذكر القاضي (3) روايةً في الذِّمِّي: أنه لا ينتقض عهده، وتبعه جماعة من الأصحاب، كالشريف، وابن عقيل، وأبي الخطَّاب، والحُلْواني (4)، ذكروا في جميع الأعمال التي فيها غضاضة على [المسلمين وآحادهم في نفسٍ] (5) أو مال أو دِيْن، مثل سبِّ الرسول:
__________
أخرجه مسدَّد في “مسنده – كما في المطالب رقم 2047″، والحارث بن أبي أسامة في “مسنده – كما في البغية رقم 510” واللفظ له، والخلَّال في “الجامع رقم 732 – أحكام أهل الملل”.
كلهم من طريق حصين بن عبد الرحمن السلمي عن رجل لم يُسمَّ – وعند الخلال: شيخ – أن ابن عمر به. وفي رواية الحارث: “حصين أن ابن عمر” بدون واسطة. وحصين لم يسمع من ابن عمر، انظر: “تهذيب التهذيب”: (2/ 381).
(1) أي: الإمام أحمد.
(2) هو: أبو بكر عبد العزيز بن جعفر المعروف بغلام الخلال ت (363)، انظر “طبقات الحنابلة”: (3/ 213). وكتابه “الشافي” في الفقه يقع في ثمانين جزءًا على ما ذكره أبو يعلى فيما نقله الخطيب عنه في “تاريخه”: (10/ 459).
(3) هو: أبو يعلى ابن الفراء شيخ الحنابلة، وإذا أُطلِق “القاضي” عندهم فهو المراد. وسيرِدُ ذكره كثيرًا.
(4) الشريف هو: أبو جعفر عبد الخالق بن عيسى الهاشمي ت (470)، وابن عقيل هو: أبو الوفاء صاحب “الفنون” ت (513)، وأبو الخطاب هو: محفوظ بن أحمد الكَلْوذاني ت (510)، والحُلْواني هو: محمد بن علي أبو الفتح ت (505).
(5) ما بين المعكوفين هنا وما سيأتي مُتآكل في الأصل، والإكمال من “الصارم”: (2/ 22، 24)، ومكان النقط لم نتبين وجه إكماله.
(1/33)
روايتين، مع اتفاقهم على أن المذهبَ انتقاضُه بذلك، [ …… روايتين].
ثم هؤلاءِ كلُّهم ذكروا أنَّ سابّ الرسول يُقْتل وإن كان ذِمِّيًّا، وأن عهده ينتقض.
قال شيخ الإِسلام: [وهذا أقرب من تلك الطريقة، وعلى الرواية التي تقول: لا ينتقض العهدُ بذلك، فانما ذلك] إذا لم يكن مشروطًا عليهم، فإن كان مشروطًا؛ ففيه وجهان:
أحدهما: [ينتقض، قاله الخِرَقي، وصححه الآمدي.
والثاني: لا ينتـ]ــقض، قاله القاضي.
والذي عليه عامة [المتقدِّمين من أصحابنا ومن تبعهم من المتأخرين] إقرار نصوصه على حالها، وقد نصَّ على أن سابَّ الرسول يُقتل وينتقض عهده، وكذا من جسَّ على المسلمين، أو زنى بمسلمةٍ، أو قتل مسلمًا، أو قَطَع الطريقَ، ونصَّ على (1) أن قَذْفَ المسلم أو سَحْره لا يكون نقضًا للعهد.
قال شيخ الإسلام: وهذا هو الواجبُ تقريرُ نصوصِه، فلا يخرَّج منها شيءٌ، للفرق بين نصوصه (2).
__________
(1) “ونص على” ملحقة في الهامش، ومكان اللحق بعد “أو قتل مسلمًا” وهو سبق قلمٍ إذ عليه يكون قطع الطريق لا ينقض العهد، وهو خلاف ما في أصله.
(2) النص في “الصارم”: (2/ 25): “وهذا هو الواجب؛ لأن تخريج إحدى المسألتين =
(1/34)
وأما الشافعي؛ فالمنصوص عنه أنه ينتقض العهد به، وأنه يُقتل (1)، وأما أصحابه فذكروا فيما إذا ذَكَر اللهَ أو رسولَه أو كتابَه بسوءٍ: وَجْهَين، ومنهم من فرَّق بين أن يكون مشروطًا أو لا، ومنهم من حكى هذه الوجوه أقوالًا، والمنصور في كتب الخلاف عنه: أَن سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – ينقضُ العهدَ، ويوجبُ القتلَ.
وأما أبو حنيفة وأصحابه؛ فقالوا: لا ينتقض العهد بالسبِّ، ولا يُقتل بذلك لكن يُعَزّر على إظهار المنكرات، ومن أصولهم: أن ما لا قتلَ فيه عندهم، مثل القتل بالمثقَّل، والجِماع في غير القُبُل إذا تكرر، للإمام أن يقتلَ فاعلَه، وله أن يزيد على الحدِّ المقَدَّر إذا رأى المصلحةَ، ويحملوا (2) ما جاء عن النبيّ وأصحابه من القتل في مثل هذه الجرائم، على أنه رأى المصلحةَ في ذلك، ويسمونه: القتلَ سياسةً.
وحاصله: أن له أن يُعزِّر بالقتل في الجرائم التي تغلَّظت بالتَّكْرَار، وأفتى أكثرهم بقتل مَن أكثر مِن سبِّ الرسول مِن أهل الذِّمة، وإن أسلمَ، قالوا: يُقتل سياسةً.
[الأدلة على وجوب قتل الساب]والدليلُ على وجوب قتل السَّابِّ لله أو رسوله أو دينه أو كتابه، ونقض عهده بذلك – إن كان ذِمِّيًّا -: الكتابُ والسنةُ وإجماعُ الصحابة والتابعين والاعتبار.
__________
= إلى الأخرى وجعل المسألتين على روايتين مع وجود الفرق بينهما نصًّا واستدلالًا، أو مع وجود معنى يجوز أن يكون مستندًا للفرق غير جائزٍ” اهـ.
(1) انظر “الأم”: (4/ 208 – 211).
(2) كذا، وفي أصله: “يحملون”.
(1/35)
أما الكتاب، فمواضع (1):
أحدها: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [التوبة: 29] فأمرَ بقتالهم إلى أن يُعطوا الجزية وهم صاغرون، فلا يجوز تركهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية، ومعلومٌ أن إعطاءهم الجزية من حين بذلها والتزامها إلى حين تسليمها وإقباضها، وإذا كان الصَّغَار حالًّا لهم في جميع المدَّة، فمن سبَّ الله ورسوله فليس بصاغرٍ؛ لأنَّ الصاغِرَ: الحقيرُ، وهذا فِعْل متعزِّزٍ مُرَاغِم.
قال أهل اللغة: الصَّغَار: الذُلُّ والضَّيْم.
الموضع الثاني: قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} إلى قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} الآية [التوبة: 7 – 12]. نفى سبحانه أن يكون لهم عهد إلا ما داموا مستقيمين لنا، فعُلِمَ أن العهدَ لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيمًا، ومعلومٌ أنَّ مجاهرتَنا بالوقيعة في ربِّنا ونبيِّنا وكتابِنا ودينِنا يقدح في الاستقامة، كما لو حاربونا، بل ذلك أشدّ علينا إن كنا مؤمنين، فإنه يجب علينا أن نبذلَ دماءَنا وأموالنا حتى تكون كلمة الله هي العُلْيا، ولا يُجْهَر في ديارنا بشئٍ من أذى الله ورسوله، يوضِّحه قوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8] أي: كيف يكون لهم عهدٌ ولو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرَّحِمَ ولا العهد! فعُلِمَ أن من كانت حالُه أنه إذا ظَهَرَ لم يرقُبْ ما بيننا وبينه من العهد، لم يكن له عهد، ومن جاهَرَنا بالطعن في ديننا كان ذلك دليلًا
__________
(1) “الصارم”: (2/ 32 – 57).
(1/36)
على أنه لو ظَهَر لم يرقُبْ العهدَ، فإنه مع وجود الذِّلَّة يفعل هذا، فكيف يكون مع العِزَّة!؟ وهذا بخلاف من لم يُظْهِر لنا مثل هذا الكلام.
الموضع الثالث: قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12].
وهذه الآية تدل من وجوهٍ:
أحدها: أن مجرَّد نكث الأيمان مقتضٍ للمقاتلة، وذِكْره الطعنَ في الدين تخصيصًا له بأنه من أقوى الأسباب الموجبةِ للقتال، أو ذَكَره على سبيل التوضيح وبيان سبب القِتال، أو لأنه (1) أوجبَ القتالَ في هذه الآية بقوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}، وبقوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 13]، فيفيد ذلك أن من لم يصدر منه إلّا مجرَّد نكث اليمين جاز أن يُؤَمَّن ويُعاهد، فأمّا من طعن في الدين فإنه يتعيَّن قتالُه، وهذه كانت سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، كان يَنْدُرُ (2) دماءَ من آذى اللهَ ورسولَه وطعن في الدين.
فإن قيل: هذا يفيد أن من طعن في الدين ونكثَ عهدَه يجب قتالُه، أما من طعن في الدين فقط، فمفهوم الآية أنه وحدَه لا يوجِبُ هذا الحكم؛ لأنه عَلَّقَ الحكمَ على صفتين، فلا يجب وجوده عند وجود إحداهما.
قلنا: لا ريبَ أنه لا بُدَّ أن يكون لكلِّ صفةٍ تأثير في الحكم؛ إذ لا يجوز تعليقه بصفةٍ عَدِيمة التأثير، ثم قد تكون كلُّ صفةٍ مستقلة بالتأثير، كما [يقال]: يُقتل زيد لأنه مرتد زانٍ، وقد يكون مجموعُ الجزاء مرتبًا على
__________
(1) في بعض نسخ “الصارم”: “ولأنه” وعليه فالكلام، مستأنَف.
(2) أي: يُسقطها ويُهدرها.
(1/37)
المجموع، ولكل وصف تأثير في البعض، كقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية [الفرقان: 68] وقد تكون تلك الصِّفات متلازمة كلٌّ منها لو فُرِضَ تجرُّده لكان مؤثِّرًا مستقلًا أو مشتركًا، فيذكر إيضاحًا وبيانًا للموجب، كما يقال: “كفروا بالله وبرسوله”، و”عصى اللهَ ورسولَه”، وقد يكون بعضها مستلزمًا للبعض من غير عكس، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} الآية [آل عمران: 21] وهذه الآية من أيِّ الأقسام فُرِضت كان فيها دلالةٌ (1)؛ لأن أقصى ما يقال: إن نقض العهد هو المبيح للقتال، والطعن في الدين مؤكِّد له وموجبٌ له، فنقول: إذا كان الطَّعن يُغَلِّظ قتال من ليس بيننا وبينه عهد ويوجبه، فأن يوجِب قَتْل من بيننا وبينه ذِمَّة – وهو ملتزم للصَّغَار – أولى.
الوجه الثاني: أن الذِّمِّي إذا سبَّ الرسول أو سبَّ اللهَ أو عابَ الإسلام علانيةً، فقد نكث يمينَه وطعن في ديننا؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يُعاقَب على ذلك ويؤدَّب، فعُلِمَ أنه لم يُعاهَد عليه، فيجب قتله بنصِّ الآية، وهذه دلالة قويَّة حسنة، فإنه قد وُجِد منه نكثُ يمينِه وطعنٌ في الدين. والقرآنُ يُوجِب قتلَ من نكثَ وطعنَ في الدين.
الوجه الثالث: أنه سمَّاهم “أئمة الكفر”؛ لطعنهم في الدين، وثانيًا علَّل ذلك بأنهم لا أيمان لهم، فهو يشمل جميع الناكثين الطاعنين.
وإمامُ الكفر هو الداعي إليه، وإنما صار إمامًا (2) في الكفر لأجل
__________
(1) في الأصل: “دلا” وهو سهوٌ.
(2) في الأصل “إما” وهو سهوٌ.
(1/38)
الطعن فيه، ودعوته إلى خلافه، وهذا شأن الإمام، فكلُّ طاعن في الدِّين فهو إمامٌ في الكفر، فيجب قتاله لقوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}.
الوجه الرابع: أنه قال: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13] فجعل همَّهم بإخراج الرسول من المُحضِّضات على قتالهم، وذلك لما فيه من الأذى له. وسبُّه أغلظُ من الهمِّ بإخراجه، لأنه عفى عام الفتح عن الذين همُّوا بإخراجه، ولم يعف عمَّن سبَّه.
الخامس: قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)} الآية [التوبة: 14]، فأمر – سبحانه – بقتال النَّاكثين الطاعنين في الدين، فضَمِنَ أنَّا إذا فعلناه عذَّبهم وأخزاهم ونَصَرَنا عليهم، وشفَى صدورَ المؤمنين الذين تأذَّوا من نقضهم، وأذهبَ غيظَ قلوبهم، فدلَّ على أن الناكث الطاعن مستحقٌ لذلك كله، والسَّابُّ للرسول ناكث طاعن فيستحق القتل.
السادس: أن قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14، 15] دليلٌ على أنَّ شفاء الصدور من ألمِ النَّكْثِ والطعنِ، وذهابَ الغيظِ الحاصل [أمرٌ مقصود للشارع] (1)، فمن سبَّ الرسول، فإنه يغيظ المؤمنين ويُؤْلمهم أكثر من سَفْك دمائهم وأَخْذ مالهم، فإن هذا يُثير الغضب لله ورسوله (2).
__________
(1) ما بين الحاصرتين من “الصارم”: (2/ 46) ليتم الكلام، إذ بدونها يختلّ المعنى.
(2) ثم ذكر شيخ الإسلام أن هذا الغيظ لا يذهب إلا بقتل السابِّ وذلك لأربعة أوجه … وذكرها.
(1/39)
الموضع الرابع (1): قوله سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [التوبة: 63]، فإنه يدل على أن أذى النبي – صلى الله عليه وسلم – مُحَادَّة لله ولرسوله؛ لأنه قال هذه الآية عقيب قوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: 61]وسبب نزول الآية عِتابه – صلى الله عليه وسلم – لمن كان يسبُّه من المشركين المنافقين.
الموضع الخامس: قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]. وهذه توجب قتل من آذى الله ورسوله، ونحن لم نعاهدهم على أن يؤذوا الله ورسوله، يوضِّح ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ لِكَعْبِ بن الأشْرفِ، فإنّه قد آذى الله ورسوله” (2).
* * *
__________
(1) من الأدلة على وجوب قتل السابِّ.
(2) سيأتي الحديث ص/ 54، وهو في “الصحيحين”.
(1/40)
فصل (1)
وأما الآيات الدالة على كفر الشاتم وقتله إذا لم يكن معاهدًا، وإن كان مُظهرًا للإسلام فكثيرة، مع [أنه مُجْمَعٌ عليه] (2).
منها: قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)} إلى قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 61 – 63]، فعُلِمَ أنَّ إيذاء رسول الله محادّة لله ولرسوله؛ لأن ذِكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذِكر المحادَّة؛ فيجب أن يكون داخلًا فيه، فيدل على أنَّ الإيذاء والمحادّة كفر؛ لأنه أخبر أن له نارَ جهنَّم خالدًا فيها (3)؛ بل المحادة هي المعاداة وذلك كُفْر ومُحاربة، فيكون المؤذي لرسول الله كافرًا عدوًّا لله ورسوله محاربًا لله ورسوله.
وفي الحديث: أن رجلًا كان يسبُّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “مَن يَكْفِيني عَدُوِّي” (4).
__________
(1) “الصارم”: (2/ 58).
(2) متآكل في النسخة والإكمال من “الصارم”.
(3) قال الشيخ: “ولم يقل: “هي جزاؤه” وبين الكلامين فرقٌ” اهـ.
(4) أخرجه عبد الرزاق في “المصنف”: (5/ 237، 307) عن عكرمة مولى ابن عباس مرسلًا، وفيه رجلٌ لم يُسَمَّ، وأخرجه أبو نعيم في “الحلية”: (8/ 45) من طريق إبراهيم بن أدهم عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس = فذكره. قال أبو نعيم عقبه: “غريب من حديث إبراهيم لم نكتبه إلا من هذا الوجه” اهـ. وأخرجه أيضًا عبد الرزاق: (5/ 307) ومن طريقه ابن حزم في “المحلى”: (11/ 413) من طريق سِماك بن الفضل أخبرني عروة بن محمد – هو السعدي – عن رجلٍ من بلقين … بنحوه، وكان القاتل هنا خالد بن الوليد، وفي الأول الزبير بن العوام.
والحديث احتج به عليٌّ بن المديني، وصححه ابن حزمٍ قال: “هذا حديث مسندٌ صحيح”. أقول: وفيه عروة بن محمد السعدي لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الحافظ في “التقريب”: “مقبول”.
(1/41)
وأيضًا قوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، فإذا كان من يُوادِد المحادّ ليس بمؤمن، فكيف بالمحاد نفسِه؟!
وقيل: إن سبب نزولها أن أبا قُحافة شتم النبي – صلى الله عليه وسلم -، فأراد أبو بكرٍ قتلَه (1)، فثبتَ أن المحادَّ كافر حلال الدَّم.
الدليل الثاني (2): قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا} إلى قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة: 64 – 66]، وهذا نصٌّ أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفرٌ صريح، فدلَّت الآية أنَّ كلَّ مُتَنَقِّصٍ رسولَ الله جادًّا أو هازلًا (3) = فقد كفر.
الدليل الثالث (4): قوله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] واللَّمز: العَيْب والطَّعْن.
وقال: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ … } الآية [التوبة: 61]، فدل على أنَّ كل من لمزه وآذاه كان منهم، فلما أخبر أنَّ الذين يلمزون النبي ويؤذونه من المنافقين ثبت أنه دليل على النفاق.
الدليل الرابع (5): قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65]، أقسم – سبحانه – بنفسه أنهم لا
__________
(1) أخرجه ابن المنذر من طريق ابن جُرَيج حُدِّثتُ أن أبا قحافة … الخبر. انظر: “الدر المنثور”: (6/ 274)، و”أسباب النزول”: (ص/ 478) للواحدي. وقيل في سبب نزولها غير ذلك.
(2) “الصارم”: (2/ 70).
(3) رسمت في الأصل “هزلًا”.
(4) “الصارم”: (2/ 75).
(5) نفسه: (2/ 80).
(1/42)
يؤمنون حتى يُحكِّموه في الخصومات التي بينهم، ثم لا يجدوا في نفوسهم ضِيقًا من حكمه، بل يُسلِّموا تسليمًا لحكمه ظاهرًا وباطنًا.
وقال قبل ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} إلى قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء: 60, 61]، فبيَّن أن من دُعِيَ إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله، فصدَّ عن رسوله، كان منافقًا، مع قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، فمن تولَّى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه، فهو منافق وليس بمؤمن، بل المؤمن من يقول: سمِعْنا وأطَعْنا.
وإذا ثبت النفاقُ بمجرَّد الإعراض عن حكم الرسول، فكيف بالتنقُّص والسَّبِّ ونحوه؟!
الدليل الخامس (1): قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الآية [الأحزاب: 57]، فَقَرَنَ أذاه بأذاه، كما قرن طاعته بطاعتِه، فمن آذاه فقد آذى الله، وقد جاء ذلك منصوصًا عنه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم، يوضِّحه أنه جعل محبةَ الله ورسوله، وإرضاءَ الله ورسوله، وطاعةَ الله ورسوله شيئًا واحدًا، وجعل شِقَاقَ الله ورسوله [و] (2) محادَّة الله ورسوله، وأذى الله ورسوله، ومعصيةَ الله ورسوله، شيئًا واحدًا، ففي ذلك بيانٌ لتلازم الحَقَّيْن، وأن جهةَ الله ورسوله جهةٌ واحدة؛ فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاع الرسول فقد أطاع
__________
(1) “الصارم”: (2/ 85).
(2) سقطت سهوًا من المؤلِّف.
(1/43)
الله؛ لأنه واسطة بين الله وبين الخلق، ليس لأحدٍ منهم طريق غيره، وقد أقامه مُقامَ نفسِه في أمره ونهيه، وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن نفرِّق (1) بين الله ورُسُلِه في شئٍ من هذه الأمور.
وأيضًا: فإنه فرَّق بين أذى الله ورسوله، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعلَ هذا قد احتمل بهتانًا وإثمًا مُبِينًا، وجعل على ذلك لعنته في الدنيا والآخرة، وأعدَّ له العذاب المهين، ومعلومٌ أن أذى المؤمنين قد يكون فيه الجَلْد فيكون من كبائر الإثم، وليس فوقه إلا الكفر والقتل.
وأيضًا: فإنهم (2) لعنهم، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ولا يُطرَد من رحمته في الدنيا والآخرة إلا الكافر، فلا يكون محقون الدم، بل مباحه؛ لأن حَقْنَه رحمةٌ عظيمة، يؤيده قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} [الأحزاب: 61].
يؤيده: أنَّ سائر من لعنه الله في كتابه؛ إمَّا كافر أو مُباح الدم.
فإن قيل: يَرِد عليك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23] مع أنَّ مجرَّد القذف ليس بكفر.
فجوابُه من وجوه:
أحدها: أن هذه الآية نزلت في عائشة – رضي الله عنها – قاله ابن
__________
(1) في “الصارم”: “يُفَرَّق” والرسم والمعنى يحتمل الضبطين.
(2) كذا، والأصح: “فإنه” كما في “الصارم”.
(1/44)
عباسٍ (1) وغيره، ففي قذفها طعنٌ وأذىً للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فإن زِنى امرأةِ الرَّجلِ يؤذيه. ولهذا ذهب أحمد – في روايةٍ عنه – إلى أن من قذف امرأةً غير محصنةٍ كالأمَةِ والذِّمِّية، ولها زوجٌ أو ولد محصن حُدَّ لقذفها، لما يلحقه من العار بولدها وزوجها المحصَنَيْن، فتكون هذه الآية خاصة بمن قذف أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم -، فإن من يقصد عيبَ النبيِّ بعيبِ أزواجه فهو منافق، فأما من رَمَى امرأةً من المسلمين فهو فاسق، كما قال تعالى، أو يتوب، ويكون الألف واللام في قوله: {يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}، عهديَّة راجعة إلى معهودٍ وهم أزواج الرسول – صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الكلام في قصة الإفك، أو يُقْصَر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك؛ لأن أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – مشهود لهنَّ بالإيمان، وهنَّ أُمهات المؤمنين، وهنَّ أزواجه في الدنيا والآخرة.
وقال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} [النور: 11] فعُلِمَ أن الذي يرمي أمهات المؤمنين يعيب بذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وتولّى كِبْر الإفك، وهذه صفة المنافق ابن أُبَيٍّ. فرميهنَّ نفاق مُبيح للدم إذا قصد به أذى النبي – صلى الله عليه وسلم -، أو أُوذِيْنَ بعد العلم بأنهنَّ أزواجه في الآخرة، فإنه ما بغت امرأةُ نبيٍّ قطُّ.
ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم – فيما ثبت عنه في “الصحيحين” (2): “مَنْ يَعْذِرُني مِن
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم – وصححه – وابن مردويه، كما في “الدر المنثور”: (5/ 64). وفي سند الحاكم سعيد بن مسعود (هو المروزي) ذكره ابن حبان في “الثقات”: (8/ 271)، ووقع فيه “يروي عن يزيد بن مروان”! وهو تحريف عن “يزيد بن هرون”.
(2) البخاري رقم (2637، 4141 وغيرها)، ومسلم رقم (2770) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(1/45)
رجلٍ قد بلغني أذاهُ في أهل بيتي فوالله ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا … ” الحديث.
وفيه: فقال سعد بن مُعاذ: “أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عُنُقَه” ولم ينكر النبي – صلى الله عليه وسلم – على سعدٍ استيماره في ضرب أعناقهم.
ولا يَرِدُ على ذلك مِسْطح وحسَّان وحَمْنَة، وإن كانوا في أهل الإفك، فإنهم لم يُرْموا بنفاقٍ، ولم يقتل النبي أحدًا في ذلك السبب، بل اخْتُلف في جلدهم، فإنهم لم يقصدوا أذى النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولا ظهر منهم دليل أذاه، بخلاف ابن أُبَيٍّ الذي إنما كان قصده أذاه.
وأيضًا: لم يكن قد ثبت عندهم أن أزواجه في الدنيا هنَّ أزواجه في الآخرة، وكان وقوع ذلك منهنَّ ممكنٌ عقلًا، ولذلك توقَّف النبي – صلى الله عليه وسلم – في القصَّة.
الوجه الثاني: أن الآية عامة، وقد رُويَ من غير وجهٍ أنّ قذف المحصنات من الكبائر (1)، ثم قد يقال (2): هي في مشركيِّ العرب من أهل مكة، فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله مهاجرةً قذفها المشركون من أهل مكة، فيكون ذلك فيمن قذف المؤمنات قذفًا يصدُّهُنَّ به عن الإيمان، ويقصد ذمَّ المؤمنين لِيُنَفِّر الناس عن الإسلام، كما فعل كعب بن الأشرف.
__________
(1) جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها في “الصحيحين” عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “اجتنبوا السبعَ الموبقات … ” وعدَّ منها قذف المحصنات. البخاري رقم (2766) ومسلم رقم (89).
(2) هو قول أبي حمزة الثمالي الكوفي التابعي.
(1/46)
وعلى هذا؛ فمن فعل ذلك فهو كافر، وهو بمنزلةِ من سبَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -.
وقد يقال: هي عامَّة مُطلقًا؛ ولكن قوله: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23] هو مبنيٌّ للمفعول، فلم يُسَمَّ اللاعِن من هو، فيجوز أن يكون اللاعن غيرُ الله من الملائكة والناس، وجاز أن يلعنهم الله في وقتٍ، أو يلعن بعضَهم دون بعضٍ، ويلعنُهم بعضُ خَلْقِه في وقتٍ. واللهُ إنَّما يلعن من كان قذفه طعنًا في الدين، وأما لعنةُ خلقِه بعضهم لبعضٍ فقد تكون بمعنى الدعاء عليهم، وقد يكون بمعنى أنهم يُبْعِدونهم عن رحمة الله، ويؤيده أن الرجلَ إذا قذفَ زوجته تلاعَنا، وكذلك قوله: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} (1) [آل عمران: 61] فمما يُلْعن به القاذف أن يُجْلَد وتُرَد شهادتُه ويُفَسَّق، فإنه عقوبة له، وإقصاءٌ عن مواطن الأمن والقبول، وهي من رحمة الله، وهذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا والآخرة، فإن لعنةَ اللهِ تُوجِبُ زوال النصر عنه من كلِّ وجهٍ، وبُعده عن أسباب الرحمة.
يؤيده أنه قال هنا: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} [الأحزاب: 57]، ولم يجئ العذاب المُهين في القرآن إلا للكافرين، كقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} (2) [البقرة: 90].
__________
(1) في “الصارم”: (2/ 108) العبارة هكذا: “ويؤيد هذا أن الرجل إذا قَذَف امرأتَه تلاعَنا، وقال الزوج في الخامسة: “لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين” فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبًا في القذف أن يلعنه الله، كما أمر الله رسوله أن يُباهِل من حاجَّه في المسيح بعد ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين، فهذا مما يُلْعن به القاذف، ومما يُلْعن به … “.
(2) وفي آياتٍ أُخرى كثيرة.
(1/47)
وأما قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]؛ فهي فيمن جحد الفرائض واستخفَّ بها، على أنه لم يذكر أنه أعدَّه له. والعذاب إنما أُعِدَّ للكافرين، فإنَّ جهنمَ لهم خُلِقت؛ لأنهم لا بُدَّ لهم من دخولها (1) وما هم منها بمُخْرَجين.
وأما أهل الكبائر من المؤمنين فيجوز ألا يدخلوها إذا غُفِر لهم، وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بَعْد حين.
الدليل السادس: قوله – سبحانه -: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية [الحجرات: 2].
فوجه الدلالة: أنه – سبحانه – نهاهم عن رفع أصواتهم فوقَ صوتِهِ، وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعضٍ، لأن ذلك قد يُفْضي إلى حُبوط العمل وصاحبه لا يشعر، وما يُفْضي إلى حبوط العمل يجبُ تركُه غايةَ الوجوب، والعملُ يحبطُ بالكفر لقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] ولا تحبط الأعمال بغير الكفر، لأن من مات مؤمنًا لا بُدَّ له من دخول الجنة، ولو حبط عملُه كلُّه لم يدخلها، نعم قد يبطل بعضُها بوجود ما يفسده، كالمنِّ والأذى.
وإذ ثبتَ أن رفعَ الصوت والجهر به يُخاف منه أن يكفر صاحبُه وهو
__________
(1) سها المؤلف في كتابتها، ثم حاول إصلاحها ولم يتبيَّن مراده، فاجتهدت في إصلاحها.
(1/48)
لا يشعُر؛ لأن فيه سوء أدب واستخفاف وهو لا يشعر به؛ فكيف بمن يسبُّه ويستخفُّ به ويؤذيه مع قصده له وتعمُّده لذلك؟! فهو كافر بطريق الأَوْلى.
الدليل السابع: قوله – سبحانه -: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} إلى قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63].
فأمر من يخالف أمره أن يحذر الفتنة وهي الرِّدَّة والكفر، لقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193].
قال الإمام أحمد (1): “الفتنة الشرك، لعلَّه إذا (2) ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شئٌ من الزيغ فيُهْلِكَه” وجعل يتلو هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65].
قال (3): فأَتعجَّبُ من قومٍ عرفوا الإسنادَ وصحتَه ويذهبون إلى رأي فلان أو فلان، قال: فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] تدري ما الفتنة؟ الكفر، فيدعون الحديثَ وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي.
وإذا كان المخالف (4) لأمره قد حُذِّر من الكفر أو العذاب الأليم، وإفضاؤه إلى الكفر إِنَّما هو لما قد يقترنُ به من استخفافٍ بحقِّه كما
__________
(1) في رواية الفضل بن زياد.
(2) في الأصل: “أن إذا” وهو سبق قلم.
(3) أي الإمام أحمد في رواية أبي طالب أحمد بن حميد المشكاني.
(4) في الأصل: “المخالفة” والمثبتُ هو الصواب كما في “الصارم”: (2/ 117).
(1/49)
فعل إبليس، فكيف بمن عمل ما هو أعظم من ذلك من السبِّ والانتقاص ونحوه؟!
وهذا باب واسعٌ مع أنه بحمد لله مُجْمَعٌ عليه.
الدليل الثامن (1): أنه – سبحانه – قال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا … } [الأحزاب: 53]. فحرَّم على الأمَّة أن تنكح أزواجه من بعده؛ لأنه يؤذيه، وجَعَله عظيمًا عند الله، ثم إن من نكح أزواجه أو سرارِيْه عقوبته القتل جزاءً له بما انتهك من حُرمته، فالشَّاتِم له أولى، والدليل على ذلك ما رواه مسلم في “صحيحه” (2) عن أنسٍ أن رجلًا كان يتَّهم بأُمِّ ولد النبي – صلى الله عليه وسلم -، فأمر عليًّا أن يضربَ عُنُقَه، فأتاه عليٌّ فإذا هو في رَكيٍّ (3) يتبرَّد، فقال له: اخرج، فتناول يده فأخرجه، فإذا هو مَجْبُوب ليس له ذَكَر، فكفَّ عليٌّ، ثم أتى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال له: إنه مجبوب ما له ذَكَر.
وكذلك لما تزوَّج رسول الله قَيْلَةَ (4) بنت قَيْس أخت الأشعث، ومات قبل أن يدخل بها وقبل أن تَقْدَم عليه (5)، وقيل: إنه خيَّرها بين
__________
(1) “الصارم”: (2/ 120).
(2) رقم (2771).
(3) الرَّكِي: البئر.
(4) وقيل: اسمها “قُتَيْلَة”.
(5) أخرجه أبو نعيم في “معرفة الصحابة”: (6/ 3245) عن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما -. وقال الحافظ عن سنده في “الإصابة”: (4/ 394): “موصول قوي الإسناد”.
(1/50)
أن يضرب عليها الحجاب وتكون من أمهات المؤمنين، وبين أن يطلِّقها فتنكح من شاءت، فاختارت النكاحَ، فتزوَّجها عكرمةُ بعد رسول الله، فبلغ أبا بكرٍ فَهَمَّ بقتلهما حتى قال له عمر: ما هي من أمهات المؤمنين، فتركها (1).
* * *
__________
(1) أخرجه ابن جرير في “تفسيره”: (10/ 327) عن عامر الشعبي مرسلًا. وانظر “المستدرك”: (4/ 38)، و”الإصابة”: (4/ 393)، و”تفسير ابن كثير”: (3/ 513).
(1/51)
فصلٌ (1)
وأما السنة فأحاديث:
الحديث الأول: ما رواه الشعبي عن عليًّ أن يهوديَّةً كانت تشتم النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – وتقع في؛ فخنقها رجلٌ حتى ماتت، فأبطل رسول الله دمها.
رواه أبو داود (2) وابن بطَّة (3)، واستدلّ به أحمد (4)، ورُوِيَ أن الرجل كان أعمى (5)، وهو حديث جيِّد، وهو متَّصل؛ لأن الشعبي رأى عليًّا (6)، ولو كان مرسلًا فهو حجة وفاقًا؛ لأن الشعبي صحيح المراسيل عندهم، ليس له مرسل إلا صحيح (7).
وهذا صريحٌ في جواز قتله؛ لأجل شَتْم النبي – صلى الله عليه وسلم -، وهو
__________
(1) “الصارم”: (2/ 125).
(2) رقم (4362).
(3) في “سننه” كما ذكر شيخ الإسلام، وهذا الكتاب ذُكر في ترجمته في “طبقات الحنابلة”: (3/ 270) وهو في عداد المفقود.
(4) في رواية ابنه عبد الله، على ما ذكره الخلال عنه في “جامعه”: (2/ 341).
(5) أخرجه الخلال في “الجامع”: (2/ 341 – أهل الملل … ) من مرسل الشعبي.
(6) انظر “جامع التحصيل”: (ص/ 204)، و”تحفة التحصيل”: (ق 168/ ب) ووقعت رواية الشعبي عن علي في “صحيح البخاري”: (6812)، وردَّ هذا بعضُهم، وجزم الدارقطني أنه لم يسمع منه غير ذاك الحديث، انظر “فتح الباري”: (12/ 121).
(7) ذكره العجلي، وقرنَه ابن المديني بابن المسيب في قوة المراسيل، انظر “شرح علل الترمذي”: (1/ 543) لابن رجب.
(1/52)
دليل (1) على قتل الذَّمَّي والمسلم والمسلمة إذا سبَّا بطريق الأوْلَى.
الحديث الثاني (2): ما روى ابنُ عباسٍ: أن أعمى كانت له أمُّ ولدٍ تشتم النبي – صلى الله عليه وسلم – وتقع فيه، فأخَذَ المِغْوَلَ (3) ووضعه في بطنها واتَّكأ عليه فقتلها، ثم ذُكر ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فأهْدَر دَمَها، رواه أبو داود والنسائي (4)، واستدلَّ به أحمد (5).
فهذه القصَّة يمكن أن تكون هي الأولى، فتكون يهودية، وهو قول القاضي أبي يعْلَى وغيره، جعلوا كلا الحديثين واقعة واحدة، ويمكن أن تكون هذه قضية أخرى.
قال الخطَّابي (6): “فيه أنَّ سابَّ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – يُقْتَل؛ لأنّ السبَّ ارتداد”، فهذا دليل أنه اعتقد أنها مسلمة، وليس في الحديث دليل على ذلك، بل الظاهر أنها كافرة، فإن في الحديث أن سيّدها كان ينهاها مرارًا (7) ولو كانت مرتدةً لَما جاز وطؤها وإبقاؤها مدةً طويلةً … (8)
__________
(1) تكررت في الأصل.
(2) “الصارم”: (2/ 140).
(3) حديدة دقيقة، وقيل: سيف دقيق ماضٍ له قفا.
(4) أخرجه أبو داود رقم (4361)، والنسائي: (7/ 107)، والدارقطني: (3/ 112) من طريق أبي داود، والحاكم: (4/ 354)، والبيهقي: (7/ 60).
كلهم من طريق عثمان الشحَّام عن عكرمة عن ابن عباس به، والحديث صححه الحاكم، وقال ابن حجر في “بلوغ المرام”: (2/ 138): رواته ثقات.
(5) انظر “الجامع”: (2/ 341 – أهل الملل … ) للخلال.
(6) “معالم السنن”: (6/ 199 – مع المختصر).
(7) في الأصل: مرار.
(8) هنا كلمة لم تحرر لي.
(1/53)
الحديث الثالث: ما احتج به الشافعيُّ أن الذِّمي إذا سبَّ قُتل، وهو قصة كعب بن الأشرف اليهودي، وقصَّته مشهورة معلومة (1)، قال فيها رسول الله: “مَن لكعبِ بن الأشرافِ فإنه قد آذى الله ورسولَه”؟ فقام محمد بن مَسْلَمة فقالَ: يا رسول الله! أتحب أن أقتله؟ قال: “نعم”، قال: فأذن لي [أن أقول شيئًا] (2)، فأذن له، فأتاه فقال: إن هذا الرجل قد أراد الصدقةَ وعنَّانا، فلما سمعه كعبٌ قال: وأيضًا والله لَتَمَلُّنَّه … الحديث، فقتلوه.
وهو متفق عليه، وكان كعبٌ قد هجا النبىَّ – صلى الله عليه وسلم – فندبَ رسول الله إلى قتلِه، فأتى أصحابُ كعبٍ رسولَ الله فقالوا: إنه قد اغْتِيْل وهو سيدنا، فقال رسول الله: “إنه لو قرَّ كما قرَّ غيرُه لما أوذي (3)، لكنه نال منَّا الأذى وهجانا بالشِّعر، ولم يفعل هذا أحدٌ منكم إلا كان السيف”.
فذلَّت يهودُ وحَذِرَت من يوم قَتْل كعب بن الأشرف.
وكان كعبٌ معاهدًا، فلما سبَّ نقض عهده، وقال فيه: “فإنه قد آذى الله ورسولَه”، فكل من آذى الله ورسولَه قُتِل، والسبُّ أذًى لله ورسوله باتفاق المسلمين، فيكون موجِبًا للقتل.
الحديث الرابع (4): ما رُوي عن عليًّ – رضي الله عنه – قال: قال
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2510)، ومسلم رقم (1801)، وغيرهم من حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -.
(2) زيادة متعيَّنة.
(3) في “الصارم”: (2/ 152): ” … كما قرَّ غيرُه ممن هو على مثل رأيه، ما اغتيل … “.
(4) “الصارم”: (2/ 188).
(1/54)
رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من سبَّ نبيًّا قُتِلَ، ومن سبَّ أصحابه جُلِد”، رواه أبو محمد الخلَّال، وأبو القاسم الأزَجِيُّ، وأبو ذرًّ الهروي.
وظاهره قتله من غير استتابة؛ لكن فيه عبد العزيز بن الحسن بن زبَالَة وهو ضعيف، قاله شيخ الإسلام (1).
الحديث الخامس: ما روى عبد الله (2) عن أبي بَرْزَة قال: أغلظَ رجلٌ لأبي بكر الصديق، فقلتُ: أقتله؟ فانتهرني وقال: ليس هذا لأحدٍ بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. رواه النسائي (3).
وفي رواية: أن رجلًا شتم أبا بكرٍ، فذكره، رواه أبو داود في “سننه” (4)، بسند صحيح.
وقد استدلَّ به جماعاتٌ من العلماء على قتل سابِّ الرسول، منهم: أبو داود، وإسماعيل بن إسحاق، وأبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم.
__________
(1) “الصارم”: (2/ 191) فقال بعد أن ذكر أن ابن زبَالَة يرويه بسندٍ مسلسل بالهاشميين: “وفي القلب منه حَزَازة، فإن هذا الإسناد الشريف قد رُكَّب عليه متون منكرة” اهـ وحكم عليه الذهبي بالنكارة في “الميزان”: (3/ 341) في ترجمة ابن زبالة.
وله متابعةٌ – لا يُفرح بها – يرويها عبيد الله العمري عن ابن أبي أويس عن الهاشميين. أخرجه الطبراني في “الأوسط”: (5/ 35 – 36)، و”الصغير”: (1/ 393). والعمري متهم بالكذب.
(2) هو: عبد الله بن قدامة بن عَنَزَة أبو السَّوَّار العنبري، ثقة من رجال التهذيب.
(3) “السنن”: (7/ 108 – 109) وسنده صحيح.
(4) رقم (4363)، وكذا النسائي: (7/ 110 – 111) من طريق عبد الله بن مطرَّف بن الشخِّير عن أبي برزة به.
(1/55)
وهذا الحديث يُفِيد أنَّ من سبَّه في الجملة أُبِيح قتلُه، وهو عامٌّ في المسلم والكافر.
الحديث السادس (1): قصة العَصْماء بنت مروان، ما رُويَ عن ابن عباس قال: هَجَت امرأةٌ من خَطْمَةَ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “مَنْ لي بها”؟ فقال رجلٌ من قومها: أنا يا رسول الله، فنهض فقتلها، فأخبر النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “لا يَنْتَطِحُ بها عَنْزَان (2) “، وقصتها مبسوطة عند بعض أهل المغازي، وكان الرجل عُمَير بن عَدِي، فامتدحَه حسَّان بأبياتٍ (3):
بني وائلِ وبني واقفٍ … وخَطْمَةَ دونَ بني الخزرجِ
متى ما دعت أختُكم ويحها … بُعُولَتها والمنايا تجي
فهزَّت فتًى ماجدًا عِرقُه … كريمَ المداخِلِ والمَخْرجِ
فضرَّجَها مِن نجيع الدِّما … قُبيل الصباح ولم تخرجِ
فأوْرَدَكَ اللهُ بردَ الجِنا … ن جَذلانَ في نَعمةِ المولِجِ
وكان قتلها لخمس ليالٍ بقين من رمضان مرجِعَ رسول الله من بَدْر، وذكر هذه القصة أصحاب السِّيَر، مثل ابن سعد والعسكري وأبو
__________
(1) “الصارم”: (2/ 195).
(2) أخرجه الواقدي في “المغازي”: (1/ 172 – 173) بسندٍ منقطع، وتبعه ابنُ سعد: (2/ 27) وغيره. وأخرجه ابن عدي في “الكامل”: (6/ 145)، والخطيب في “تاريخ بغداد”: (13/ 99) من طريق محمد بن الحجَّاج أبي إبراهيم الواسطي، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس به.
وفي إسناده محمد بن الحجاج الواسطي، اتهمه غير واحدٍ بالكذب والوضع.
(3) “الديوان”: (1/ 449)، و”سيرة ابن هشام”: (2/ 637).
(1/56)
عبيد في “الأموال” (1) والواقدي وغيرهم، وهي مشهورة، وأنها قُتِلت لسبِّها النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -.
الحديث السابع (2): قصة أبي عَفَك اليهودي، ذكره أهل المغازي والسير (3)، وكان من شأنه هِجاء النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، حتى خرج إلى بدرٍ وظفَّره الله بمن ظفَّره، فحسدَه وهجاه وذمَّ من اتّبعَه، أعظم ما فيها قوله:
فيسلبهم أمرَهُم راكبٌ … حرامًا حلالًا لِشَتَّى معًا
قال سالم بن عُمير: عليَّ نذرٌ أن أقتله، وذكر محمد بن سعد (4) أنه كان يهوديًّا. لكنه من رواية أهل المغازي، لكنه يصلح أن يكون عاضدًا ومؤكِّدًا ومؤيدًا بلا تردُّد.
الحديث الثامن: حديث أنس بن زُنَيم الدِّيلي، وهو مشهور عند أهل السِّيَر، ذكره ابن إسحاق والواقدي (5) وغيرهما، أنه هجا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ فسمعه غلام من خُزَاعة فشجَّه، وكان قد نَدَر رسول الله دَمَه، أي: أهدره، فلمَّا بلغه ذلك جاء إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مُعْتذرًا ومدحه في قصيدةٍ أوَّلُها:
أأَنتَ الذي تُهْدَى مَعَدٌّ بأمره … بل اللهُ يهديها وقال لكَ أشهدِ
__________
(1) (2/ 194 رقم 485).
(2) “الصارم”: (2/ 211).
(3) رواه الواقدي في “المغازي”: (1/ 174)، وانظر “سيرة ابن هشام”: (4/ 635 – 636).
(4) “الطبقات”: (2/ 28).
(5) “سيرة ابن هشام”: (2/ 424) مختصرًا، و”مغازي الواقدي”: (2/ 782 – 791).
(1/57)
فما حملتْ مِن ناقةٍ فوقَ رَحْلِها … أبرَّ وأوفى ذِمةً من محمدِ
تَعَلَّم رسولَ الله أنك مُدْركي … وأنَّ وعيدًا منك كالأخذِ باليدِ
تَعَلَّم رسولَ الله أنك قادِرٌ … على كلَّ سَكْنٍ من تَهامٍ ومُنجدِ (1)
ونُبَّي رسولُ الله أني هجوتُه … فلا رفعَتْ سَوْطي إليَّ إذن يدي (2)
سوى أنني قد قلتُ يا ويحَ فِتْيَةِ … أُصِيْبوا بنحسٍ يوم طَلْقٍ وأسعُدِ
فإنيَ لا عِرضًا خرقتُ (3) ولا دمًا … هرقتُ ففكِّر (4) عالمَ الحقَّ واقصِدِ
فلما بلغ رسول الله قصيدتَه واعتذارَه، وكلَّمه فيه نوفل بن معاوية الدَّيلي وشَفَع فيه، وكان قد شجَّه بعضُ بني خُزاعة، فقال رسول الله: “قد عفوتُ عنه”، قال نوفَل: فِداك أبي وأُمِّي، ثم قَدم واعتذر، وقال: إنهم قد كذبوا عليه (5).
فوجه الدلالة: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان قد صالح قريشًا عشر سنين،
__________
(1) كذا بالأصل، و”مغازي الواقدي”، وفي “السيرة”:
* على كلِّ صَرْمٍ مُتْهِمِين ومُنْجِد *
والسَّكْن: أهل الدار. والصرم: البيوت المجتمعة.
(2) في “السيرة”:
ونبَّوا رسولَ الله أني هجوتُه … فلا حملت سوطي إليَّ إذن يدي
(3) في “السيرة”: ” … لا دينًا فتقت”.
(4) في “السيرة”: “تبيَّن”.
(5) هذا تصرُّف من المختصر، وإلا فقد أنشد في القصيدة نفسها:
تعلَّم بأن الرَّكب ركبَ عُويمرٍ … هم الكاذبون المخلِفُو كلّ موعِدِ
(1/58)
ودخل فيهم خزاعة وبنو بكر (1)، ثم إن هذا الرجل المعاهد هجا رسول الله – على ما قيل عنه – وشجَّه ذلك الرجل، فلولا أنهم علموا أن هجاء النبي – صلى الله عليه وسلم – من المعاهد مما يوجِبُ الانتقامَ منه لم يفعلوا ذلك.
ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم – هَدر دمَه لذلك، وهذا نصٌّ في أنَّ المعاهد الهاجي يباح دمُه، ثم إنه أسلم في شعره، ولهذا عدُّوه من الصحابة، وقوله: “تعلَّم رسولَ الله” دليل على إسلامه، ومع ذلك فانكر أنه هجاه، وردَّ شهادة الذين شهدوا عليه، فإنهم أعداؤه، وبينهم حروب وقتال، فلو لم يكن ما فعله مُبِيحًا لدمه، لما احتاج إلى فعل شئٍ من ذلك.
ثم إنه بعد إسلامه واعتذاره وتكذيبه المُخْبِريْن ومدحِه لرسول الله، طلبَ العفوَ منه عن إهدارِ دمه، والعفوُ إنما يكون مع جواز العقوبة على المذنب (2)، فعُلِمَ أنه كان له أن يُعاقبه بعد مجيئه مسلمًا معتذرًا، وإنما عفا عنه حلمًا وكرمًا، مع أن العهد كان عهد هُدْنة ليس عهد جِزْية، والهادن المقيم ببلده يُظهر ببلده ما شاء، فلا ينتقض عهدُه حتى يُحارب، فعُلِمَ أن الهجاءَ من جنس الحِراب وأغلظ منه، وأن الهاجي لا ذِمَّةَ له.
الحديث التاسع (3): قصة ابن أبي سَرْحٍ، وهي مما اتفق عليها أهلُ العلم، واستفاضت عندهم استفاضةً تُغني عن رواية
__________
(1) فخزاعةُ في عهده – صلى الله عليه وسلم -، وبنو بكر في عهد قريش.
(2) في “الصارم”: “الذنب”.
(3) “الصارم”: (2/ 219).
(1/59)
الآحاد (1)، وذلك أن يومَ فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله بايع عبدَ الله، فرفع رأسه فنظر إليه، ثلاثًا، كلُّ ذلك يأبى، فبايعه بعد الثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: “أما كان فيكم رجلٌ رشيدٌ يقومُ إلى هذا حين رآني كففتُ يدي عن بيعته فيقتله”، فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أوْمأت إلينا بعينك؟ فقال: “إنه ما يَنْبَغي لنبيٍّ أنْ تكون له خائنةُ الأعْيُن” رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح، والنسائيُّ كذلك.
وكان قد ندر (2) رسول الله دَمَه، وكان أخا عثمان من الرَّضاعة، فشَفَع له إلى رسول الله فتركه، وكان ابن أبي سَرْح هذا قد أسلم ثم ارتدَّ ولحق بالمشركين، وكان يكتب لرسول الله الوحيَ، وكان لما رجع إلى المشركين يقول لهم: إني لأصرِّفه كيف شئت، إنه ليأمرني أن أكتب له الشئَ، فأقول له: كذا أو كذا، فيقول: نعم، وذلك أن رسول الله كان يقول: “عليم حكيم”، فيقول: أو أكتبُ: “عزيز حكيم” فيقول له: “نعم كلاهما سواء” (3).
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (2683، 4359)، والنسائي: (7/ 105 – 106)، والحاكم: (3/ 45)، والبيهقي: (7/ 40) كلهم من طريق أحمد بن المفضل حدثنا أسباط بن نصر الهَمْدَاني زعم السُّدي عن مصعب بن سعد عن أبيه به.
والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه شيخ الإسلام والألباني، انظر “السلسلة الصحيحة” رقم (1723).
(2) في الأصل: “ند” وهو سهو.
(3) انظر “السيرة”: (2/ 409) لابن هشام.
(1/60)
وقيل (1): إن فيه نزلت: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ … } الآية [الأنعام: 93]فوجه الدلالة: أنه افترى على رسول الله أنه كان يُتَمِّم له الوحي ويكتب ما يريد ويقرّه رسول الله على ذلك، وهذا نوع من أنواع السبِّ.
وكذلك لما افترى عليه كاتب آخر مثل ذلك، قَصَمه الله وعاقبه بأن أماتَه، وكلما دفنوه تلفظه الأرض (2).
فهذا من أوضح الدلالة أن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه.
فإباحة دم ابن أبي سَرْح بعد مجيئه تائبًا مسلمًا، وقول رسول الله: “هلَّا قتلتموه” ثم عَفوه عنه بعد ذلك = دليلٌ على أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان له أن يقتله وأن يعفو عنه، وهو دليلٌ على أنَّ له أن يقتل من سبَّه، وإن تاب وعاد إلى الإسلام.
وصحَّ (3) أن ابن أبي سَرْح كان قد رجعَ إلى الإسلام قبل الفتح، وقال لعثمان: “إن جُرْمي عظيم، وقد جئتُ تائبًا” (4)، ثم جاء به إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد الفتح، وهدوء الناس بعدما تاب، فأراد النبي – صلى الله عليه وسلم – من
__________
(1) انظر “تفسير الطبري”: (5/ 268)، و”أسباب النزول”: (ص/ 254)، و”الدر المنثور”: (3/ 55 – 56).
(2) أخرج القصة البخاري رقم (3617)، ومسلم رقم (2781) من حديث أنسٍ – رضي الله عنه -.
(3) لم يجزم شيخ الإسلام في “الصارم”: (2/ 235) بصحته، بل قال: “رُوِيَ عن عكرمة … ” وقال: “وذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام”.
(4) في رواية الواقدي لقصته في “المغازي”: (2/ 855).
(1/61)
المسلمين أن يقتلوه حينئذٍ، وتربَّص زمانًا ينتظر قتلَه، ويظن أن بعضهم سيقتله، وهذا أوضح دليلٍ على جوازِ قتلِه بعد إسلامه.
واعلم أن افتراء ابن أبي سَرْح والكاتب الآخر النصراني على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، بأنه كان يتعلَّم منهما افتراءٌ ظاهر، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يُكَتِّبه إلا ما أنزله الله عليه، ولا يأمره أن يُثْبِت قرآنًا إلا ما أوحاه الله ولا يتصرَّف به (1) كيف شاء، بل يتصرف كما يشاء الله تعالى.
ثم اختلف أهل العلم؛ هل كان رسول الله أقرَّه على أن يكتب شيئًا غير ما ابتدأه النبي – صلى الله عليه وسلم – بإكتابِه، وهل قال له شيئًا؟ على قولين:
أحدهما: أن النصرانيَّ وابنَ أبي سرح افتريا ذلك كلَّه، وأنه لم يصدر منه إقرارٌ على كتابةِ غيرِ ما (2) قاله أصلًا، وإنما هما افتريا ذلك لينفِّروا الناسَ عنه.
والقول الثاني: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له شيئًا، فيقول له ويُمْلي عليه: “سميعًا بصيرًا”، فيكتب: “سميعًا عليمًا”، فيقول له: “دعه” (3)، ونحو ذلك.
ويكون كل واحد من الحرفين قد نزل، فيقول له: اكتب كذا وإن شئت كذا، فكلٌّ صواب، وقد جاء مصرَّحًا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “أُنْزِلَ
__________
(1) في مطبوعة “الصارم”: “ولا ينصرف له” وما في المختصر أصح.
(2) في “الأصل”: “على كتابة ما غير ما … “! وهو سهو.
(3) أخرجه أحمد: (3/ 245 – 246)، من طريق ثابتٍ عن أنسٍ، وأخرجه بنحوه في (3/ 120 – 121) وابن حبان “الإحسان”: (2/ 62) من طريق حميد عن أنسٍ. وصححه شيخ الإسلام (2/ 242).
(1/62)
القرآنُ على سبعةِ أحْرُفِ كلُّها شافٍ كافٍ، إن قلتَ: “عزيز حكيم” أو “غفور رحيم” فهو كذلك ما لم تَخْتم آيةَ رحمةٍ بعذاب أو آيةَ عذابٍ برحمةٍ” (1).
فالأحاديث تدلُّ على أن من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن أن تُخْتم الآية الواحدة بعدَّة أسماء من أسماء الله تعالى على سبيل البدل، يُخَيَّر القارئُ في القراءة بأيِّها شاء، فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يُخَيّره أن يكتب ما شاء من تلك الحروف، وربَّما قرأها النبيُّ بحرفٍ، فيقول له: أو كذا وكذا لكثرة ما سمعه منه يُخَيِّر بحرفَيْن، فيقول له: “نعم كلاهما سواء”؛ لأن الآية نزلت بالحرفين معًا، فيقرّه على ذلك، ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يُعارض النبيَّ بالقرآن في كلِّ رمضان، وكانت العرضة الآخرة على حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ به الناس اليوم، وهو الذي جمع عثمانُ والصحابةُ عليه الناسَ.
ورُوِيَ فيها وجه آخر (2): أنه كان يقول للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: أكتب “تعملون” (3) أو “تفعلون”؟ فيقول له: “اكتب أيَّ ذلك شئت”.
فيوفّقه الله للصواب من ذلك، فيكتب أحب الحرفين إلى الله إن كان
__________
(1) هذا الحديث معدود من الأحاديث المتواترة واتفق على تخريجه أصحاب الصحاح والسنن المسانيد، وفي بعض طرقه ألفاظ وزيادات، واللفظ المذكور ملفَّق من عدة روايات. انظر: “قطف الأزهار”: (ص/ 163)، و”المرشد الوجيز”: (ص/ 77 – 95) لأبي شامة.
(2) أخرجه الإمام أحمد في “الناسخ والمنسوخ” – كما في الصارم: (2/ 245) وساق سندَه – وابن أبي حاتم – كما في الدر المنثور: (3/ 55) – مختصرًا، وسنده مع إرساله ضعيف جدًّا.
(3) في “الأصل”: “تعلمون” سبق قلمٍ.
(1/63)
كلاهما منزّلًا، أو يكتب ما أنزله الله فقط، وكان هذا التخيير من النبي – صلى الله عليه وسلم – توسِعَةً في المُنَزَّل، وثقة في (1) الله بحفظ القرآن، وعلمًا بأنه لا يكتب إلا ما أنزل، وليس هذا بمنكرٍ في كتابٍ تولَّى الله حفظه، وضمن أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلْفِه.
وذكر بعضهم وجهًا ثالثًا: أنه ربما كان يسمع من النبي – صلى الله عليه وسلم – الآية حتى لم يبق منها إلا كلمة أو كلمتان، فيستدّل بما قرأ منها على باقيها، كما يفعله الفَطِن الذكيُّ، فيكتبه ثم يقرأه على النبي – صلى الله عليه وسلم – فيقول: “كذاك أُنْزلَ”، كما اتفق مثل ذلك لعمر بن الخطاب في قوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (2) [المؤمنون: 14].
قال شيخ الإسلام: والقول الأول أشبه الأقوال.
الحديث العاشر (3): حديث القَيْنتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ومولاة بني هاشم (4).
__________
(1) كذا استظهرت، والكلمتان غير محررتين في النسخة، وفي الصارم: “أو ثقة بحفظ الله … “.
(2) أخرجه الطيالسي في مسنده: (ص/ 9 رقم 41)، وابن أبي حاتم وابن مردوية وابن عساكر – كما في الدر المنثور: (5/ 12) – عن أنسٍ أن عمر قال: وافقت ربي في أربع فذكر هذه الآية منها.
وأخرجه الطبراني في “الكبير”: (11/ 439) وابن مردوية – كما في الدر: (5/ 14) – عن ابن عباس، وفي سنده مقال، انظر “مجمع الزوائد”: (9/ 71).
(3) “الصارم”: (2/ 249).
(4) انظر “مغازي الواقدي”: (2/ 859)، و”سيرة ابن هشام”: (2/ 409 – 410).
(1/64)
وذلك مشهور مستفيض عند أهل السير، فأمر رسول الله بقتل قَيْنَتين لابن خَطَل تُغنِّيان بهجاء رسول الله، فَقُتِلت إحداهما وكمنت الأخرى حتى اسْتُؤمن لها.
ذكره محمدُ بن عائذ، وابنُ إسحاق، وعبدُ الله بن حزم.
وقيل: كانت القينتان لابن خطل، فأمر رسول الله بقتلهما معه، وحديثهما مما اتفق عليه علماء السير واستفاض.
ووجه الدلالة: أن تعمد قتل المرأة لمجرَّد الكفر الأصلي لا يجوز بالإجماع، وقد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله أنه نهى عن قتل النساء والصبيان (1).
فعُلِم أن أمره بقتل هاتين المرأتين إنما كان لأجل الهجاء الذي كانتا تُغنِّيان به، فمن هجاه وسبَّه وجبَ قتله بكلِّ حال.
الحديث الحادي عشر (2): أنه – صلى الله عليه وسلم – دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه، جاء رجلٌ فقال: ابن خَطَلٍ متعلِّق بأستار الكعبة، فقال: “اقتلوه”.
وهذا مما استفاض نقلُه، وهو في “الصحيحين” (3)، وأنه قُتِل، وكان جُرْمه: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – استعمله على الصدقة، وأصْحَبه رجلًا يخدمه
__________
(1) منها: ما أخرجه البخاري رقم (3014)، ومسلم برقم (1744) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه نهى عن قتل النساء والصبيان بعد أن رأى امرأةً مقتولة في بعض المغازي.
(2) “الصارم”: (2/ 264).
(3) البخاري رقم (1846)، ومسلم رقم (1357) من حديث أنسٍ – رضي الله عنه -.
(1/65)
فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعامًا، فقتله، ثم خاف أن يُقْتَل فارتدَّ واستاق إبل الصدقة، وأنه كان يهجو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويأمر جاريتيه تغنيان بذلك (1)، فله ثلاث جرائم مبيحة لدمه: قتل النفس، والرِّدة، والهجاء.
فلا يمكن قتله أنه كان بالقِصاص (2)؛ لأنه كان ينبغي أن يُسَلَّم إلى أولياء القتيل الذي قتله من خُزاعة؛ إما أن يقتلوه، وإما أن يعفوا عنه، أو يأخذوا (3) الدِّيَة.
ولم يُقتل لمجرّد الردة – أيضًا – لأن المرتَدَّ يُستتاب، وإذا اسْتَنْظَرَ أُنْظِر، وهذا ابن خَطَل قد فرَّ إلى البيت عائذًا به، طالبًا للأمان، تاركًا للقتال، مُلْقيًا للسلاح، وقد أمر النبىُّ بعد علمه بذلك بقتله، وليس هذا سنة من يُقْتَل لمجرَّد الرِّدة، فثبت أنه إنما كان لأجل الهجاءِ والسَّبِّ.
الحديث الثاني عشر: أنَّ النبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – أمر بقتل جماعةٍ لأجل سبِّه – صلى الله عليه وسلم -، وقَتَل جماعةً لأجل ذلك، مع كَفِّه عمن هو بمنزلتهم في كونه كافرًا حربيًا؛ فمن ذلك ما تقدم عن ابن المسيب أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر يوم فتح مكة بقتل ابن الزِّبَعْرَى (4).
__________
(1) انظر: (ص/ 64).
(2) كذا بالأصل، وهو واضح المعنى.
(3) بالأصل: “يأخذ” بالإفراد، وأصلحناه ليتحد السياق.
(4) ذكره ابن سعد في “الطبقات”: (2/ 141)، قال شيخ الإسلام في “الصارم”: (2/ 267): “وسعيد بن المسيّب هو الغاية في جودة المراسيل، ولا يضره أن لا يذكره بعض أهل المغازي – أي ابن الزِّبَعْرى – ومن أثبت الشيء وذكره حجة على من لم يُثبته” اهـ.
(1/66)
وذكر ابن إسحاق قال (1): لما قَدِم رسولُ الله المدينةَ منصرفًا عن الطائف كتب بُجِير بن زُهَيْر إلى أخيه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله قد قتلَ رجالًا (2) بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقيَ من شعراء قريش ابن الزِّبَعْرى وهُبيرة بن أبي وَهْب قد هربوا في كلِّ وجهٍ، فهرب ابن الزِّبَعْرى إلى نجران، ثم قدم على رسول الله مسلمًا وله أشعار حسنة في التوبة والاعتذار، فأهدر دمه للسَّبِّ مع أمانِه لجميع أهل مكة إلا من كان جرمه مثله.
ومن ذلك عبد الله بن أبي أُمية بن المغيرة، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطَّلب، قصَّته في هجائه للنبي مشهورة (3)، وكان أخاه من الرضاعة أرضعته حليمة، فاهدر دمَه لجل أذاه وهجائه له ولأصحابه، حتى جاء واعتذر وأسلم وجعل يتشفَّع بعمه العباس وبَعلِيٍّ وبكلِّ أحدٍ، ثم دخل عليه وأنشَده في إسلامه واعتذاره حتَّى رقَّ له فقال:
لعمرك إني يومَ أحملُ رايةً … لتغْلِبَ خيلُ اللاتِ خيلَ محمدِ
لكالمدْلِجِ الحيرانِ أظلمَ ليلُه … فهذا أواني حين أُهدى وأهْتدي
هدانِىَ هادٍ غيرُ نفسي ودلَّني … على الله من طرّدتُ كلَّ مطرَّدِ
__________
(1) انظر “السيرة النبوية”: (2/ 501) لابن هشام.
(2) وقع في الأصل: “رجلًا” وهو سهو.
(3) انظر “المغازي”: (2/ 806 – 810) للواقدي، و”السيرة”: (2/ 400 – 401) والأبيات فيه.
(1/67)
وذكر باقي الأبيات.
وفي روايةٍ (1) قال: فطلبنا الدخول على رسول الله، فأبى، فكلَّمته أم سلمة زوجته – لعبد الله بن أبي أمية وأبي سفيان بن الحارث – فقالت: يا رسول الله! صِهْرك وابن عمتك وابن عمك وأخوك، وقد جاء الله بهما مُسلِمَين، لا يكونان أشقى الناس بك، وقد عفوتَ عمن هو أعظم جرمًا منهما، وأنت أحقُّ الناس عفوًا عن جُرمه. فقال: “هتكَ عِرضي لا حاجة لي به”، فلما بلغ الخبر لأبي سفيان – وكان معه [ابنه] (2) – فقال: والله ليقبلنَّ مني أو لأذهبنَّ أنا وابني حتى نموت في البرِّيَّة (3) جوعًا وعطشًا، وأنت أحلم الناس وأكرم الناس. فرقَّ رسول الله حينئذٍ، فأَذِنَ ودخلا (4) فأسلما، وكانا حَسَني الإسلام. قُتِل عبد الله بن أبي أُمية بالطائف، ومات أبو سفيان بالمدينة في خلافة عمر.
فوجه الدلالة: أنه ندر دم أبي سفيان بن الحارث دون غيره من صناديد قريش الذين كانوا أشدَّ تأثيرًا بالجهاد واليد والمال (5)، وليس له سبب سوى السَّبِّ والهجاء، ثم جاء مسلمًا، وهو يُعرض عنه، وكان من شأنه أن يتألَّف الأباعدَ فكيف بعشيرته!؟ كلُّ ذلك بسبب هَتْك عِرضه كما فسَّره في الحديث (6).
__________
(1) للواقدي في “المغازي”: (2/ 810).
(2) سقطت من الأصل، والاستدراك من “المغازي” و”الصارم”.
(3) كذا استظهرتها.
(4) في الأصل: “ودخل”! والمثبت الصواب.
(5) كذا بالأصل، وفي “الصارم”: (2/ 275): “أشد تأثيرًا في الجهاد باليد والمال”. وهو أصح.
(6) إذ قال: “هو الذي هتكَ عِرْضي، فلا حاجة لي بهما”، “المغازي”: (2/ 810).
(1/68)
وكذلك أمر يوم الفتح بقتل ستة سماهم: ابن أبي سَرْح، وابن خَطَل، والحويرث، ومِقْيَس، وعكرمة، وهبَّار (1).
فمثل [هذا] مشهور عن هؤلاء، وقد رواه الأئمة (2)، وأكثر ما فيه أنه مرسل، والمرسل إذا روي من جهاتٍ مختلفة لا سيما ممن له عناية بهذا الأمر كان كالمسنَد؛ بل بعض ما يشتهر عند أهل المغازي أقوى مما يُروى بالإسناد الواحد.
وكذلك عُقبة بن أبي مُعَيْط قُتِل صبرًا فقال: يا معشر قريش مالي أُقتل من بينكم صبرًا؟ فقال رسول [الله]: “بكفرك وافترائك على رسول الله” (3).
وكذلك النضر بن الحارث قتلَه عليٌّ صبرًا لسبِّه لرسول الله (4).
ففي هذا بيان أن السبَّ أوجبَ قتلَ هذين من بين أُسارى بدرٍ، وأمر بقتل من كان يهجوه بعد الفتح من قريشٍ وسائرِ العرب.
وكذلك جنّيٌّ سبَّ وهجا فقتلَه عِفْريتٌ من الجنّ كان قد أسلم، فأخبر به رسولُ الله الناسَ (5).
__________
(1) انظر “المغازي”: (2/ 825). وجاءت رواياتٌ أخرى في تعيين من أمر بقتلهم، جمعهم الحافظ من متفرقات الروايات في “الفتح”: (7/ 604 – 605).
(2) أصحاب المغازي؛ كالزهري وابن عقبة وابن إسحاق والواقدي والأموي.
(3) بهذا اللفظ أخرجه البزار “الكشف: 2/ 320” من حديث ابن عباسٍ، وقد تفرد به يحيى بن سلمة بن كهيل، وهو ضعيف. وقصة قتله مشهورة أخرجها أصحاب المغازي.
(4) انظر “المغازي”: (1/ 106 – 107) للواقدي.
(5) انظر “الصارم”: (2/ 291 – 292).
(1/69)
وكذلك أبو رافع بن أبي الحقيق اليهودي، وقصته مشهورة في “الصحيح” (1).
فكل هذه الأحاديث دالَّة على أن من كان يهجوه ويؤذيه فإنه يقتل ويحض عليه الناس.
الحديث الثالث عشر (2): ما رُوي من حديث أبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي، ورواه أبو أحمد بن عدي في “الكامل” (3) قال: كان حيٌّ من بني ليث من المدينة على مِيْلَين، وكان رجلٌ قد خطبَ منهم في الجاهلية فلم يزوِّجوه، فأتاهم عليه حُلَّة، فقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كساني هذه الحُلَّة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم، ثم نزل على تلك المرأة التي كان يحبُّها، فأرسلوا إلى رسول الله، فقال: “كذبَ عَدُوُّ الله”، ثم أرسل رجلًا فقال: “إنْ وَجَدْتَه فاقْتُلْه، وإن وجَدْتَه ميِّتًا فأحْرِقه في النار”، ثم قال: “من كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتبَوَّأ مَقْعَدَه مِنْ النَّار”.
وإسناده على شَرْط الصحيح، لا يُعلم له عِلَّة (4).
__________
(1) البخاري رقم (3022، 3023، 4038).
(2) “الصارم”: (2/ 323).
(3) (4/ 53 – 54)، وقد ساق ابن عدي القصة على أنها من مناكير صالح بن حيان القرشي الكوفي، وقال عقبها: “وهذه القصة لا أعرفها إلا من هذا الوجه” أي: من طريق حجاج الشاعر، حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا علي بن مُسْهِر، عن صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه به.
(4) هذا وهم من شيخ الإسلام – رحمه الله – منشؤه عدم التمييز بين صالح بن حيان القرشي – وهو الراوي هنا – وبين صالح بن حيّ ويقال: حيان الثقة، وقد بيَّن هذا الوهم قديمًا الإمام الذهبي في “سير النبلاء”: (7/ 373 – 374) فقال: “وقد كان شيخنا أبو العباس اعتمد في كتاب “الصارم المسلول” له على حديث لصالح بن =
(1/70)
وله شاهدٌ (1)، وفيه: ثم قال: “لا تحرِّقه، فإنه لا يعذِّب بالنارِ إلا ربُّ النار”.
وللناسِ في هذا الحديث قولان:
أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمَّد الكذبَ على رسول الله ومِن هؤلاء من قال: يكفُر بذلك، قاله جماعةٌ، منهم أبو محمد الجويني.
ووَجْه ذلك: أنَّ الكذبَ عليه كذبٌ على الله، ولهذا قال: “إنَّ كذبًا عَلَيَّ ليس ككذبٍ على أحَدِكُم” (2)، فإن ما أمر به الرسول فقد أمر الله به، يجبُ اتباعُه كما يجب اتباع أمر الله، فإن الكاذب عليه كالمكذِّب له.
يوضِّحه أن تكذيبه نوع من الكذب، فإن مضمون تكذيبه الإخبار عن خبره أنه ليس بصدق، وذلك إبطالٌ لدين الله. وأيضًا فإن الكاذبَ (3) عليه يُدْخِل في دينه ما ليس منه عمدًا (4)، ويزعم أنه يجب على الأمة
__________
= حيّان هذا وقوَّاه، وتمَّ عليه الوهم في ذلك” اهـ وانظر أيضًا “الميزان”: (3/ 7).
(1) رواه المُعَافَى النهرواني في “الجليس الصالح”: (1/ 182 – 183): ومن طريقه ابن الجوزي في “الموضوعات”: (1/ 83)، وفي سنده داود بن الزبرقان وهو متروك.
وللحديث شواهد أخرى ضعيفة لا يرتقي بها إلا درجة القبول، قال الذهبي: “لم يصح بوجهٍ”. وانظر “قصص لا تثبت”: (4/ 13 – 24) للعتيق.
(2) أخرجه البخاري رقم (1291)، ومسلم رقم (4) من حديث المغيرة – رضي الله عنه -.
(3) في الأصل “الكاب” وهو سهو.
(4) في الأصل “عمد”.
(1/71)
التصديق بذلك.
وهو – أيضًا – استهزاء واستخفاف به؛ لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به، بل وقد لا يجوز الأمرُ بها، وهذا نِسبة [له] إلى السَّفَة، أو أنه يُخبر بأشياء باطلة، وهذا نسبة له إلى الكذب، وهو كفر صريح.
وبالجملة؛ فمن تعمَّد الكذب على الله، فهو كالمتعمِّد لتكذيب الله وأسوأ حالًا، فكذلك الكذب على رسوله كالتكذيب له.
قال شيخ الإسلام (1): “واعلم أن هذا القول في غاية القوة” – وذكر له أدلة لا يمكن دفعها قوَّةً وكثرةً (2) – ثم قال: “لكن يتوجَّه أن يُفرَّق بين الذي يكذب عليه مشافهةً، وبين الذي يكذب عليه بواسطة، مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا، فإن هذا إنما كذبَ على ذلك الرجل، فأما إن قال: هذا الحديث صحيح، أو ثبت عنه أنه قال ذلك عالمًا بأنه كَذِب، فهذا قد كذبَ عليه.
أما إذا افتراه ورواه روايةً ساذَجَةً؛ ففيه نظر.
وأما من روى حديثًا وهو يعلم أنه كذب؛ فهو حرام، لكن لا يكفر، إلا أن ينضمَّ إلى روايته ما يوجب الكفر؛ لأنه صادق في أن شيخه حدَّثه به، وعلى هذا؛ فمن سبَّه فهو أولى بالقتل ممن كذب عليه، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – قد أمر بقتل الذي كذبَ عليه من غير استتابة، فكذلك السَّابّ وأولى.
__________
(1) “الصارم”: (2/ 333).
(2) ما بين المعترضتين من كلام المختَصِر.
(1/72)
والقول الثاني: أن الكاذب عليه تُغَلَّظ عقوبته ولا يكفر ولا يجوز قتلُه، لأن موجبات الكفر والقتل معلومة، وليس هذا منها، فلا يجوز أن يثبت ما لا أصل له. ومن قال هذا فلا بُدَّ أن يقيِّد كلامه بأنه لم يكن الكذِبُ عليه متضمِّنًا لعيبٍ ظاهر، فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلامًا يدلُّ على نقصِه وعيبِه دلالةً ظاهرةً، مثل حديث: عَرَق الخيل (1)، ونحوه من التُّرَّهات، فهذا مستهزِئٌ به استهزاءً ظاهرًا، ولا ريب أنه كافر حلال الدم. ذكر ذلك شيخ الإسلام.
فهذا الرجل كذبَ عليه كذبًا يتضمَّن عَيْبَه وانتقاصَه؛ لأنه زعم أنه حكَّمه في دماء قومٍ وأموالهم، وأذن له أن يبيتَ حيث شاء من بيوتهم، ليبيت عند تلك المرأة ويفجر بها.
ومن زعمَ أنه حلَّل المحرَّمات، فقد انتقصَه وعابَه، فثبت أن الحديث نصٌّ في قتل الطاعن على كلا القولين، وهو المطلوب، أما على الأوَّل؛ فلأنه كافر، وأما على الثاني؛ فلأنه طاعن، ويؤيد الأول أنهم لو ظهر لهم طعنٌ وسبٌّ لبادروا إلى الإنكار عليه.
الحديث الرابع عشر (2): حديث الأعرابيِّ الذي قال للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – لما أعطاه: ما أحسنتَ ولا أجملتَ، فأراد المسلمون قتلَه، فقال: “لو قَتَلْتُموه لدخلَ النَّارَ” (3).
__________
(1) حديث موضوع مُخْتَلَق، أخرجه ابن الجوزي في “الموضوعات”: (1/ 105) وقال عقبة: “هذا حديث لا يشك في وضعه، وما وضع مثل هذا مسلم” اهـ.
(2) “الصارم”: (2/ 339).
(3) أخرجه البزار “الكشف: 3/ 159 – 160” وأبو الشيخ في “أخلاف النبي”: (1/ 472 رقم 177)، وفيه إبراهيم بن الحكم شديد الضعف.
(1/73)
فيدلُّ على أن من آذاه إذا قُتِل دخل النار، وذلك لكفره وجواز قتلِه، وإلا كان يكون شهيدًا. وفي هذا الحديث أنه – صلى الله عليه وسلم – عفى عنه؛ لأنه كان له أن يعفو عمَّن آذاه.
ومن ذلك قول الذي قال له حين قَسَم غنائمَ حُنين: إن هذه قِسْمة ما أُرِيْد بها وجهُ الله، فقال عمر: دعني أضربُ عُنُقَ هذا المنافق.
والحديث في “الصحيح” (1)، وإنما منعه لئلَّا يتحدَّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، كذا قاله – صلى الله عليه وسلم -.
ومن ذلك قول عبد الله بن أُبَي: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، فقال عمر: دعني أضربُ عُنُقَه، فقال: إذَن [تُرْعَد] (2) له أُنوْفٌ”. وكان ذلك والإسلام ضعيف، فخاف أن ينفر الناس عن الإسلام (3).
وكذلك قوله: “مَنْ يَعْذِرُني في رجل بلغَ أذاه في أهل بيتي؟ ” [قال سعد بن معاذ: أنا أْعذِرُك، إن كان من الأوس ضربت عنقَه] (4)، ولم ينكر عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – (5).
__________
(1) “صحيح مسلم” رقم (1063) من حديث جابر – رضي الله عنه -.
(2) في “الأصل”: “ترغم” وهو خطأ، والصواب ما أثبتُّ كما في “الصارم” و”مغازي الواقدي”: (2/ 418)، و”السيرة النبوية”: (2/ 293)، وهذه اللفظة ليست في الصحيح، والمعنى: تنتصر له وتحامي عنه.
(3) أخرجه البخاري رقم (3518)، ومسلم رقم (2584) من حديث جابر – رضي الله عنه -.
(4) زيادة لا بد منها، ليستقيم السياق والاستدلال، وهي في الأصل: (2/ 342).
(5) القصة مشهورة، رواها البخاري رقم (4141)، ومسلم رقم (2770) من حديث =
(1/74)
الحديث الخامس عشر: قال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في “مغازيه” عن الشعبي (1): لما افتتح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكةَ دعا بمال العُزَّى فنثره بين يديه، ثم دعا رجلًا قد سمَّاه فأعطاه منها، ثم دعا أبا سفيان بن حرب فأعطاه منها، ثم دعا سعيد بن حُرَيث (2) فأعطاه، ثم دعا رهطًا من قريش فأعطاهم، فجعل يُعطي الرَّجلَ القِطعة من الذَّهب فيها خمسون مثقالًا وسبعون، فقام رجلٌ فقال: إنك لبصير حيث تضع التِّبْر، ثم قال الثانية، فأعرض عنه، ثم قام (3) الثالثة فقال: إنك لتحكم وما نرى عدلًا، فقال: “وَيْحَكَ إذًا لا يَعْدِلُ أحدٌ بعدي”، ثم دعا رسول الله أبا بكر فقال: “اذْهَبْ فاقْتُلْه”، فذهب فلم يَجِدْه، فقال: “لو قتلْتَه لرَجَوْتُ أن يكونَ أوَّلَهم وآخِرَهم”.
فهذا نصٌّ في قتل مثل هذا الطاعن على رسول الله مِن غير استتابة، وهذه قصةٌ أخرى غير قصَّة غنائم حُنين، ولا قصَّة الذهب الذي بعثه عليٌّ، وكان هَدْم (4) العُزَّى عقيب الفتح سنة ثمانٍ، وحُنين بعد ذلك في ذي القَعْدة، وحديث علي سنة عشرٍ.
__________
= عائشة – رضي الله عنها -.
(1) قال شيخ الإسلام في “الصارم”: (2/ 344): “وهذا الحديث مرسل، ومخرجه عن مجالد – هو ابن سعيد – وفيه لين؛ لكن له ما يؤيد معناه” اهـ.
(2) كذا، وفي “الصارم”: “الحارث”. وليس في الصحابة من يقال له “سعيد بن حريث” إلا واحد أسلم قبل الفتح وشهد الفتح وعمره خمسة عشر عامًا؛ فيبعد أن يكون هو، ولعل صوابه “ابن الحارث” وهو ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – انظر “السِّيَر”: (1/ 202)، و”الإصابة”: (2/ 45).
(3) في “الأصل”: “قال” وهو سهو.
(4) في “الأصل”: “هذا” وهو سهو.
(1/75)
وتقدم أن عمر قتلَ الرجل الذي لم يرضَ بحكم النبي – صلى الله عليه وسلم – (1)، ونزل القرآن بتقرير ذلك، وجُرمه أسهل من جُرم هذا.
وفي “الصحيحين” (2) حديث الذي لمزه في قسمة الذهبيَّة التي أرسل بها عليٌّ، وقال: “يخرج من ضِئْضِئ هذا قومٌ يتلون كتابَ الله رَطْبًا لا يُجاوِزُ حناجرَهم يَمْرُقون من الدِّين كما يمرقُ السَّهْم من الرَّميَّةِ، يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهلَ الأوْثانِ، لئن أدركتُهم لأقتلنَّهم قَتْلَ عادٍ”.
وقال: “سيخرجُ قومٌ في آخر الزمان حِداث (3) الأسنان، سُفَهاء الأحلام، يقولون من خيرِ قولِ البريَّة، لا يُجاوِز إيمانُهم حناجِرَهم، يمرقون من الدين كما يمرق السَّهم من الرَّمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنَّ في قتلهم أجرًا لمن قتلَهم يوم القيامةِ” (4).
فهذه الأحاديث كلُّها دليل على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بقتل طائفةِ هذا الرجل العائب عليه، وأخبر أن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم، وقال: “هم شرُّ قَتْلَى تحتَ أديمِ السَّماءِ” (5) فرتَّب القتل على مروقهم من الدين،
__________
(1) لم يتقدم في المختصر شيءٌ، وقد تقدم في أصله: (2/ 82) والقصة عند ابن أبي حاتم وابن مردوية كما في “الدر المنثور”: (2/ 322) بسندٍ فيه ابن لهيعة، وأخرجه دُحيم في “تفسيره” من وجهٍ آخر كما في “الدر” أيضًا.
(2) البخاري رقم (3344)، ومسلم رقم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -.
(3) في “الأصل”: “حديث” والمثبت من “الصارم”.
(4) أخرجه البخاري. رقم (3611)، ومسلم رقم (1066) من حديث علي – رضي الله عنه -.
(5) أخرجه أحمد: (5/ 250)، وابنه في “السنة”: (2/ 643)، والترمذي رقم (3000)، وابن ماجه رقم (176).
(1/76)
فعُلِمَ أنه الموجِب لقتلهم لما غَلَوا فيه حتى مرقوا، وهم أصناف، وكان هذا أولهم قد خرج في زمنه – صلى الله عليه وسلم – فعاب قَسْمه.
فكلُّ من عاب شيئًا من سنَّته فحكمه كحكمهم، فمن زعم أنه يَجُورُ في قَسمه فهو مكذَّب له، ولا يجب اتباعه عنده، وهو مناقض لما تضمَّنته الرسالة من أمانته ووجوب طاعته، وزوال الحرج عن النفس من قضائه بقوله وفعله، فإن الله قد أوجبَ طاعتَه والانقيادَ لحكمه، وأنه لا يَحِيْف على أحدٍ، فمن طَعَنَ في هذا فقد طعن في صحَّةِ تبليغه، وذلك طَعْن في الرِّسالة، وهذا من أقبح الكفرِ وأشنعِه.
* * *
(1/77)
فصلٌ (1)
وأما إجماع الصحابة – رضي الله عنهم -؛ فقد نُقِل ذلك عنهم في قضايا متعدِّدة منتشرة مستفيضة، ولم يُنكرها أحدٌ منهم = فصارت إجماعًا.
قال شيخ الإسلام: واعلم أنَّه لا يمكن ادَّعاء إجماع الصحابة على مسألةٍ فرعيَّةٍ بأبلغَ من هذه الطريق.
فمن ذلك ما ذكره سيفُ بن عُمر التميمي (2) قال: رُفِعَ إلى المُهَاجِر (3) امرأتان مُغَنِّيَتَان، غنت إحداهما بشتم النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ [فـ]ــقطع يدها وَنزعَ ثناياها، وغنَّت الأخرى بهجاء المسلمين؛ فقطع يدها ونزع ثنيَّتها.
فكتب إليه أبو بكرٍ: بلغني الذي سِرْت به في المرأة التي غنَّت بشَتْم النبي – صلى الله عليه وسلم -، فلولا ما قد سبقتني فيها لأَمَرْتُك بقَتْلِها؛ لأن حدَّ الأنبياء ليس يُشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلمٍ فهو مرتدٌّ، أو معاهد فهو محارب غادِر.
وكتب إليه في التي تغنَّت بهجاء المسلمين: أما بعد فإنه بلغني أنك قطعتَ يدَ امرأةٍ تغنَّت بهجاء المسلمين ونزَعْت ثنيَّتَّها، فإن كانت ممن
__________
(1) “الصارم”: (2/ 378).
(2) في كتاب “الردة والفتوح”.
(3) هو: المهاجر بن أبي أمية المخزومي، أخو أم سلمة أم المؤمنين، شهد بدرًا، وبعثه أبو بكر لقتال المرتدين جهة اليمن. “الإصابة”: (3/ 465).
(1/78)
تدعي الإسلام فأدبٌ وتَقْدمه دون المُثلَة، وإن كانـ[ـــــت] ذِمِّية فلَعَمْري لَمَا صفحت عنه من الشِّرك، أعظم، ولو كنتُ تقدمتُ إليك في مثل هذا لبلغت مكروهك، فاقبل الدَّعَة وإياك والمُثْلَة في الناس، فإنها مأثَم ومَنْفَرة إلا في قِصاصٍ.
وذكر هذه القصة غير سيف (1)، وهذا يوافق ما تقدَّم عنه: أنه من شتم النبي – صلى الله عليه وسلم – كان له أن يقتله، وليس ذلك (2) لأحدٍ بعده، وهذا صريح في وجوب قتل من سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – من مسلمٍ ومعاهد، وإن كانت امرأةً، وأنه يُقتل بدون استتابةٍ، بخلاف من سبَّ الناس، وأن قتلها (3) حدٌّ للأنبياء، كما أن جَلد من سبَّ غيرهم حدٌ له، وإنما لم يأمره بقتْلِها؛ لأنه اجتهد فيها وعمل لها حدًّا، فكَرِهَ أبو بكر أن يجمعَ عليها حدَّين، ويُحْتمل أنها أسلمت أو تابت فقبِل المُهَاجِر توبتَها قبل كتابِ أبي بكرٍ، وهو محلُّ اجتهادٍ سبق فيه حكمٌ فلم يُغيِّرْه أبو بكرٍ؛ لأن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد.
وروى حَرْبٌ في “مسائله” (4) عن ليث عن مجاهد قال: أُتي عمر – رضي الله عنه – برجلٍ سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – فقتله ثم قال: من سبَّ الله أو رسولَه أو أحدًا من أنبيائه فاقتلوه.
__________
(1) كالطبري في “التاريخ”: (2/ 305 – 306)، لكنها من طريق سيفٍ أيضًا. وسندها فيه انقطاع مع ضعف سيف بن عمر.
(2) في الأصل “لذلك”! وهو سبق قلم.
(3) كذا بالأصل وبعض نسخ الصارم، وفي أخرى: “قتله”.
(4) “مسائل حرب للإمام أحمد” لا تزال مخطوطة لم تطبع بعدُ.
(1/79)
وقال مجاهد عن ابن عباس: أيُّما مسلمٍ سبَّ الله أو رسوله أو أحدًا من الأنبياء، فقد كذَّب برسول الله، وهي رِدَّة، يُستتابُ فإن تابَ وإلا قتل، وأيُّما معاهدٍ سبَّ أحدًا من الأنبياء، فقد نقض العهد فاقتلوه.
وروى حَرْب (1) – أيضًا – أن عمر قال للنَّبَطيّ الذي كتب له كتابًا حين دخل الشام، وكان قد وقع منه شيءٌ فقال: … (2) لم أُعْطِك الأمان فتُدْخِل علينا في ديننا (3)، لئن عُدْتَ لأضربنَّ عُنُقَك (4).
فهذا عمر – رضي الله عنه – بمحضرٍ من الصحابة من المهاجرين والأنصار يقول لمن عاهده: إنَّا لم نُعْطك العهد على أن تُدْخِل علينا في ديننا، وحلف لئن عاد ليضربنَّ عُنقَه، فَعُلِمَ بذلك إجماع الصحابة – رضي الله عنهم – على أن أهل العهد ليس لهم أن يُظهروا الاعتراض علينا في ديننا، وأن ذلك مُبِيْح لدمائهم.
وإن من أعظم الاعتراض سبَّ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به.
ورُوِيَ عن ابن عمر: أنه مَرَّ براهبٍ، فقيل له: هذا يسبُّ النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن عمر: لو سمعته لقتلْتُه (5).
__________
(1) لعله في “مسائله” للإمام أحمد.
(2) هنا ثلاث كلمات لم أتبين وجهها، والكلام يستقيم بدونها.
(3) العبارة في الأصل: ” … فقال: … لم أعطك لتدخل علينا في ديننا، لم أعطك الأمان لتدخل علينا في ديننا … “! وهي قَلِقَة. وما أثبته أوضح، وهو بنحوه في “الصارم”.
(4) وأخرجه – أيضًا – المعافى النهرواني في “الجليس الصالح”: (3/ 305 – 307)، وابن عساكر في “تاريخه”.
(5) تقدم تخريجه ص/ 32 – 33.
(1/80)
وذكر هذا الحديث غير واحدٍ، وتقدم حديثُ صَبِيْغ مع عمر (1)، وحديث ابن عباسٍ في شأن عائشة وأزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – خاصة (2).
وبخبر خالد بن الوليد: أنه قتل امرأةً سبَّت النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، رواه أحمد (3).
وذكر ابن المبارك بسنده أن غَرَفة بن الحارث الكِنْدي – وكانت له صحبة – سمع نصرانيًّا شتم النبي – صلى الله عليه وسلم -، فضربه فدَقَّ أنْفَه، فرُفِع إلى عَمْرو (4) بن العاص، فقال: إنا قد أعطيناهم العهد، فقال غَرَفة: معاذ الله أن نُعطيهم العهد على سبَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فقال له عمرو: صَدَقتَ (5).
فهذه أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ – رضي الله عنهم -.
* * *
__________
(1) لم يتقدم في هذا “المختصر” شيء وإنما تقدم في “الصارم”: (2/ 356) وقال شيخ الإسلام هناك: “رواه الأموي وغيره بإسناد صحيح” اهـ.
والقصة أخرجها الدارمي في “السنن” رقم (146)، والآجري في “الشريعة” رقم (152، 153)، واللالكائي رقم (1136 – 1138)، وابن بطة في “الإبانة” رقم (308، 309) وغيرهم، وهي قصة مشهورة صححها غير واحد من أهل العلم، وانظر “الإصابة”: (2/ 198) في ترجمة صَبِيْغ.
(2) تقدم (ص/ 44 – 45).
(3) رواه من طريقه الخلال في “الجامع”: (2/ 342 – أهل الملل) عن عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن سماك بن الفضل عن رجلٍ من بلقين به.
وأخرجه البيهقي في “الكبرى”: (8/ 202 – 203) عن ابن مهدي به. وفي سنده من لم يُسَمَّ. وانظر (ص/ 41 – هامش 4).
(4) في الأصل: عُمر، وهو سهو. بدليل ما بعدها.
(5) أخرجه البخاري في “التاريخ الكبير”: (7/ 110)، وأبو يعلى في “مسنده” كما في “المطالب العالية”: (رقم 2048 – مسندة)، والبيهقي في “الكبرى”: (9/ 220)، وصحح البوصيري إسناده (5/ 215).
لكن رواية أبي يعلى فيها: أن غَرَفة قتل النصراني، وبقية المصادر فيها أنه دقّ أنفه.
(1/81)
وأمَّا الاعتبار، فمن وجوه:
أحدها: أن عيب ديننا وشتم نبينا مجاهدة لنا ومحاربة؛ فكان نقضًا للعهد كالمحاربة باليد وأوْلَى.
يُبَين ذلك قوله: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) [التوبة: 41]، والجهاد في النفس يكون باللسان كما يكون باليد.
الوجه الثاني: أنا وإن أقررناهم على ما يعتقدونه من الكفر، فهو إقرار على ما يُضْمِرونه من العداوة، وأما إظهار السبِّ لله ولرسوله ودينه؛ فهو محاربة تنقض العهدَ.
الوجه الثالث: أنَّ مطلق العهد الذي بيننا وبينهم يقتضي أن يكفُّوا عن إظهار الطعن والشتم، كما يقتضي الإمساك عن سفك الدماء، بل السبّ أعظم من سفك الدماء، لأنا نبذل المال والنفسَ على أن نعزِّر الرسول ونعظَّمه ويعلو الدين (2)، وهم يعلمون ذلك من ديننا فإذا خالفوه انتقض عهدُه.
الوجه الرابع: أن العهد الذي عاهدهم عليه عمر – رضي الله عنه – قد بيَّن فيه ذلك وشَرَطَه عليهم، كما روى ذلك حَرْب بإسنادٍ صحيح عن عبد الرحمن بن غَنْم (3).
__________
(1) وقع في الأصل: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}! ولا توجد آية بهذا النظم، ولعله سبق قلم.
(2) كذا قرأت العبارة، وهي في “الصارم”: (2/ 392): ” … ونبذل الأموال في تعزير الرسول وتوقيره ورفع ذكره وإظهار شرفه وعلو قدره … “.
(3) في كتاب عمر – رضي الله عنه – حين صالح نصارى الشام.
(1/82)
الوجه الخامس: أن العقد مع أهل الذّمة على أن تكون الدار لنا تجري فيها أحكام الإسلام، وعلى أنهم أهل صَغَارٍ وذِلَّةٍ، على هذا عُوهِدوا وصُولحوا، فإظهار شتم الرسول والطعن في الدين يُنافي كونهم في صَغَارِ وذِلَّةٍ.
الوجه السادس: أن الله فرض علينا تعزير رسوله وتوقيره ونصره ومنعه وإجلاله وتعظيمه، وذلك يُوْجِب صونَ عِرضِه بكلِّ طريقٍ.
الوجه السابع: أن نصر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرضٌ علينا؛ لأنه من التعزير، وهو من أعظم الجهاد، وقد قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]، بل نصر آحاد المسلمين واجب، فكيف بِنَصْر سيِّد ولد آدم – صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الثامن: أن الكفار قد عُوهِدوا على أن لا يُظهروا شيئًا من المنكرات المختصَّة بدينهم، فمتى أظهروا شيئًا منها عوقبوا؛ فكذلك إذا أظهروا سبَّ الرسول استحقوا عقوبة ذلك، وهي القتل.
الوجه التاسع: أنه لا خِلاف بين المسلمين أنهم ممنوعون من إظهار السبَّ، وأنهم يُعاقَبون عليه إذا فعلوه بعد النَّهْي، فَعُلِمَ أنهم لم يُقَرُّوا عليه، وإذا فعلوا ما لم يُقَرُّوا عليه من الجِنايات استحقوا عقوبته بالاتفاق، وسبُّ غيرِ الرسول يوجبُ جَلْدَهم، فكذلك سبُّ الرسول يوجب قتلَهم.
الوجه العاشر: أن القياس الجلي يقتضي أنهم متى خالفوا شيئًا مما عُوهِدُوا عليه انتقض عهدُهم، كما ذهب إليه طائفةٌ من الفقهاء، وإذا لم يفوا بما عُوهِدُوا عليه انفسخَ عقدُهم كما ينفسخ البيع وغيره إذا لم
(1/83)
يفِ أحد المتعاقدين بما شَرَطَه، والحكمة ظاهرة؛ فإنه إنما التزمَ ما التزمَه بشرطِ أن يلتزم الآخر بما التزمه، فإذا لم يلتزم له الآخر صار هذا غير ملتزم، فإن الحكم المعلَّق بشرطٍ لا يثبت عند عدمه باتفاق العقلاء.
إذا تبيَّن ذلك، فإن كان المعقود عليه حقًّا للعاقد، له أن يَبْذله بدون الشرط، لم ينفسخ العقد بفواته، بل له فسخه، كما إذا شرَط رهنًا في البيع.
وإن كان حقًّا لله أو لغيره ممن يتصرَّف له بالولاية؛ لم يَجُز إمضاء العقد، بل ينفسخ بفوات الشرط، أو يجب فسخُه، كما إذا شَرَطَ الزوجةَ حُرة مسلمة فبانت وثنيَّة.
وعقد الذِّمة ليس حقًّا للإمام؛ بل هو حق لله ولعامة المسلمين، فإن خالفوا شيئًا مما شُرِط عليهم فقد قيل: يجب على الإمام فسخ العقد، وفَسْخُه: أن يُلْحِقَه بمأمَنِه ويُخرجه من دار الإسلام، وهذا ضعيف؛ لأن الشرط حقٌّ لله، فينفسخ العقد بفواته من غير فسخٍ، وهنا شروط (1) الذمة حق لله.
ولو فُرِض جواز إقرارهم بلا شرط، فإنما ذاك فيما لا ضرر فيه على المسلمين، فأما ما يضرُّ بالمسلمين، فلا يجوز إقرارهم عليه بحال، ولو فُرِض إقرارهم على ما يضرُّ المسلمين في أنفسهم وأموالهم فلا يجوز إقرارهم على إفساد (2) دين الله والطعن على كتابه ورسوله.
ومقتضى عقد الذِّمة أن لا يُظهروا سبَّ الرسول، كما أن سلامة
__________
(1) وقع في الأصل سهوًا: “شر”!
(2) في الأصل: “فساد” والمثبت من “الصارم”.
(1/84)
المبيع من العيوب، وحلول الثمن، وسلامة المرأة والزوج من الموانع، وإسلام الزوج وحُرِّيته = من مُوْجب العقدِ المطلقِ ومقتضاه، فإن موجب العقد هو ما يظهر عُرْفًا وإن لم يُتَلَفَّظ به. والإمساك عن الطعن والسبّ مما يُعْلَم أن المسلمين يقصدونه بعقد الذِّمة، ويطلبونه كما يطلبون الكفَّ عن مقاتلتهم وأَوْلَى، فإنه من أكبر المؤذيات.
فإن قيل (1): أهل الذمة قد أقررناهم على دينهم، ومنه استحلال السبِّ، فإذا قالوا ذلك لم يقولوا غير ما أقررناهم عليه.
قلنا: ومن دينهم استحلال قتال المسلمين وأخذ أموالهم ومحاربتهم بكلِّ طريق، ومع هذا فليس لهم أن يفعلوا ذلك بعد العهد، ومتى فعلوا نُقِضَ عهدهم، وذلك لأنا وإن كنَّا نُقِرُّهم على أن يعتقدوا ما يعتقدونه ويخفوا (2) ما يخفونه، فلم نقرّهم على أن يُظْهِروا ذلك ويتكلموا به بين المسلمين، ونحن لا نقول بنَقْض عهد السابّ حتى نسمَعَه أو يشهد به المسلمون، فمتى حصل ذلك كان قد أظهروه (3).
ولو أقررناهم على دينهم لأقْررناهم على هدم المساجد، وإحراق المصاحف، وقتل العلماء والصالحين، فإنهم يدينون بذلك، ولا خِلافَ أنهم لا يُقَرُّون على شيءٍ من ذلك أَلبتةَ.
* * *
__________
(1) انظر “الصارم”: (2/ 448).
(2) في الأصل: “يخفون”، وهو خطأ.
(3) كذا، وفي “الصارم”: “أظهره وأعلنه”. وهو أصح.
(1/85)
المسألة الثانية (1): أنه يتعيَّن قتلُه، ولا يجوز استرقاقُه، ولا المنُّ عليه، ولا فداؤه
أما إن كان مسلمًا فبالإجماع؛ لأنه نوع من المرتدّ أو من الزنديق، والمرتدُّ يتعيَّن قتلُه وكذا الزنديق، وسواء كان رجلًا أو امرأةً، وإن كان معاهدًا يتعين قتله – أيضًا -، سواء كان رجلًا أو امرأة عند عامة الفقهاء من السلف ومن تبعهم، وقد تقدَّم قول (2) ابن المنذر: “أجمع عوامُّ أهل العلم على أن على من سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – القتل، وممن قاله: مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي. وحُكِي عن النعمان: لا يُقْتَل الذِّمِّي”، وهذا اللفظ دليل على وجوب قتلِه عند عامة العلماء، ولقتله مأخذان:
أحدهما: انتقاض عهده.
والثاني: أنه حدٌّ من الحدود، وهو قول فقهاء الحديث.
قال ابن راهوية: إن أظهروا السَّبَّ قُتِلُوا، وأخطأ من قال: “ما هم
__________
(1) “الصارم”: (2/ 467).
(2) انظر ما تقدم ص/ 31.
(1/86)
فيه من الشرك أعظم من سبِّ النبي – صلى الله عليه وسلم -“. قال إسحاق: يقتلون، لأنه نقض للعهد، وكذلك فعلَ عمر بن عبد العزيز فلا شُبْهة في ذلك، وقد قتل ابنُ عمر الراهبَ الذي سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال: “ما على هذا صالحناهم” (1)، وكذلك نصَّ الإمام أحمد على وجوب قتله وانتقاض عهده، وتقدم بعض نصوصه (2)، وكذلك نصَّ عامة أصحابه، ذكروه بخصوصه في مواضع، وذكروه – أيضًا – في جملة ناقضي العهد.
ثم المتقدِّمون وطوائف من المتأخرين (3) قالوا: يتعيَّن قتله وقتل غيره من ناقضي العهد، كما دلَّ عليه كلام أحمد.
وذكر طوائفُ منهم أن الإمام يُخيَّر فيمن نقضَ العهدَ من أهل الذَّمة، كما يُخَيَّر في الأسير (4)، فدخلَ هذا السابُّ في عموم الكلام؛ لكن المحققون منهم كالقاضي (5) وغيره قيَّد ذلك بغير السابِّ، وأما السابُّ فيتعيَّن قتله. فإما أن لا يُحْكَى في تعيُّن قتلِه خلافٌ؛ لكون الذين أطلقوا في موضعٍ قيدوه في موضع آخر: بأن السابَّ يتعيَّن قتلُه، فهو غير داخلٍ في العموم، أو يُحْكَى فيه وجهٌ ضعيف؛ لأن الذين قالوا به في موضعٍ نصوا على خلافه في موضعٍ آخر.
واختلف أصحاب الشافعي – أيضًا – فمنهم من قال: يتعين قتلُه، ومنهم من ذكر الخلاف، وقال: هو كغيره (6)، والصحيحُ جواز قتله،
__________
(1) ص (32 – 33).
(2) انظر ص/ 32 – 34.
(3) أي: من الحنابلة.
(4) بين الاسترقاق والقتل والمنّ والفداء.
(5) أبو يعلى الفرَّاء.
(6) أي: من الناقضين للعهد.
(1/87)
قالوا: ويكون كالأسير يجب على الإمام أن يفعل فيه الأصلح.
وكلام الشافعي يقتضي أن الناقض حكمه حكم الحربي، وفي موضعٍ أمر بقتله عينًا من غير تخيير (1).
وأما أبو حنيفة (2): فلا تجيءُ هذه المسألة على أصلِه، إذ أصله: لا ينتقض عهد أهل الذمة إلا أن يكونوا أهل شوكة ومَنَعَة، فيمتنعون بذلك على الإمام فلا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم.
ومذهب مالك: لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ممتنعين مِنَّا، مانعين للجزية من غير ظلمٍ أو يلحقوا بدار الحرب، لكن مالكًا يوجب قتل سابِّ الرسول عينًا، وقال: إذا اسْتَكْرَه الذِّميُّ مسلمةً على الزِّنا قُتِل إن كانت حُرَّة، وإن كانت أمَةً عُوقِبَ العقوبة الشديدة.
فشاتم الرسول (3) يتعيَّنُ قتلُه كما نصَّ عليه الأئمة، أما على قول من [يقول] (4): يتعيَّن قتل كلِّ من نقضَ العهد وهو في أيدينا، أو: يتعيَّن قتل كل ناقضٍ للعهد بما فيه ضررٌ على المسلمين وأذى، كما ذكرناه من مذهب الإمام أحمد، وكما دلّ عليه كلام الشافعي، أو يقول: يتعين قتل من نقض العهد بسَبِّ الرسول وحده، كما ذكره القاضي، وكما ذكره طائفةٌ من أصحاب الشافعي، وكما نصَّ عليه عامة الذين ذكروه في نواقض العهد، وذكروا أن الإمام يتخَيَّر فيمن نقض العهد
__________
(1) انظر كتاب “الأُم”: (4/ 208 – 211).
(2) انظر “الصارم”: (2/ 496).
(3) انظر “الصارم”: (2/ 510).
(4) من “الصارم”.
(1/88)
على سبيل الإجمال، فإنهم ذكروا في مواضع أُخَر أنه يقتل من غير تخيير فظاهر.
وأما على قول من يقول: إن كل ناقضٍ للعهد يتخيَّر فيه الإمام؛ فقد ذكرنا أنهم قالوا: إنه يستوفي منه الحقوق كالقتل والحدِّ والتعزير؛ لأن عقد الذِّمة على أن تجري أحكامنا عليهم، وهذه أحكامنا، ثم إذا استوفينا فالإمام مخيَّر فيه، كالأسِيْر.
وعلى هذا القول؛ فيمكنهم القول بقتل السابِّ حدًّا من الحدود، كما لو نقض بزنى أو قطع طريق، فإنه يقتل بذلك إن أوجب القتل، بل قد يقتل الذميُّ حدًّا من الحدود وإن لم ينتقض عهدُه، كما لو قَتَل ذِمٍّيًا، ومذهب مالك يمكن توجيهه على هذا الوجه إن كان فيهم من يقول: لم ينتقض عهدُه.
وبالجملة؛ فالقول بأن الإمام يتخيَّر فيه إنما يدلُّ عليه عموم [كلام] (1) بعض الفقهاء أو إطلاقه، وكذلك قولهم: إنه يُلْحق بدار الحرب.
وأخْذُ المذاهب من الإطلاقات يجرُّ إلى غلطٍ عليهم، بل لا بد من أخذ ذلك من كلامهم المفسّر، وبالجملة؛ فإن تقرَّر في هذا خلاف فهو ضعيف نقلًا وتوجيهًا، والدليل على تعيُّن قتله ما قدَّمناه من أقوال الصحابة والتابعين والسنن والآيات (2).
* * *
__________
(1) في “الأصل”: “يدل على عموم بعض الفقهاء … ” والمثبت من “الصارم” وبه يستقيم السياق.
(2) انظر “الصارم”: (2/ 512 – 541).
(1/89)
المسألة الثالثة (1): أنَّه يُقْتل ولا يُسْتتَاب سواءٌ كان مسلمًا أو كافرًا
قال الإمام أحمد (2): كلُّ من شتم النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – مسلمًا كان أو كافرًا فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا يُستتاب.
مع نصِّه أنه مرتدٌ إن كان مسلمًا، وأنه ناقضٌ للعهد إن كان ذِمِّيًّا.
وكذلك أطلق غالب أصحابه أنه يُقتل ولم يذكروا استتابة، حتى فيمن قذفَ أمَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – أطلقوا قتله ولم يذكروا استتابة.
مع أنَّ له في قتل المرتدِّ غير السابِّ هل يجب استتابتُه أم يُسْتحبُّ؛ روايتان منصوصتان.
فلو تابَ من السبِّ بأن يُسلِم أو يعود إلى الذِّمة إن كان كافرًا ويُقْلِع عن السبِّ، فقال القاضي وغيره (3): لا تُقبل توبةُ من سبَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المعرَّة تلحق الرسول، وكذلك قال ابنُ عقيل، وهو حقٌّ آدمي لم يُعْلَم إسقاطُه.
__________
(1) “الصارم”: (3/ 551).
(2) في رواية حنبل، انظر “الجامع للخلال”: (2/ 339 – أهل الملل).
(3) وهو منصوص عن أحمد.
(1/90)
قال عامة الأصحاب: لا تُقبل توبته بل يُقتل ولو تاب، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إن كان مسلمًا يُستتاب؛ فإن تابَ وإلا قُتِل.
وإن كان ذميًّا؛ فقال أبو حنيفة: لا ينتقض عهدُه، واختلف أصحابُ الشافعي فيه.
قال الشريف في “الإرشاد” (1) – وهو ممن يُعْتَمد نقلُه -: “من سبَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قُتِل ولم يُسْتتب (2)، ومن سبَّه من أهل الذِّمة قُتِل وإن أسلم”.
وقال أبو علي بن البناء في “الخصال” (3): “من سبَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – وجبَ قتلُه، ولا تقبل توبتُه. وإن كان كافرًا فأسلم؛ فالصحيح من المذهب أنه يُقْتَل – أيضًا – ولا يُستتاب”.
ومذهب مالكٍ كمذهبنا، وعامة هؤلاء لم يذكروا خلافًا في وجوب قَتل المسلم والكافر، وأنه لا يسقط بالتوبة من إسلام وغيره.
وقال القاضي في “الجامع الصغير” (4): “من سبَّ النبيَّ قُتِل ولم تُقْبَل توبته، فإن كان كافرًا فأسلم ففيه روايتان”.
وكذلك ذكر أبو الخطاب فيمن سبَّ أُمَّه لا تُقْبَل توبتُه، وإن كان كافرًا فروايتان.
__________
(1) (ص/ 468).
(2) في الأصل: “يُستتاب” والتصويب من “الصارم”.
(3) هو كتاب “الخصال والأقسام” لأبي علي بن البناء ت (471)، يوجد منه الجزء الرابع في مكتبة الموسوعة الفقهية بالكويت رقم (293/ 1).
(4) حقق رسالة بجامعة الإمام. انظر: (المدخل المفصَّل: 2/ 809).
(1/91)
وحكى بعض أصحابنا روايةً أن المسلم تُقْبَل توبته – أيضًا – في رواية (1) بأن يُسْلِم ويرجع عن السبِّ، كذا ذكره أبو الخطاب في “الهداية” (2)، ومن احتذى حَذْوَه من المتأخرين، فتلخَّص أن الأصحاب حَكَوا في توبة السابِّ ثلاث روايات:
– لا تُقْبل، وهي المنصورة.
– تقبل.
– الثالثة: الفرق بين الكافر والمسلم، فتقبل توبة الكافر دون المسلم، وتوبة الذَّمِّي إذا قلنا تُقْبَل هو أن يُسْلِم، فأما إن أقلع وطلب عقد الذمة ثانيًا (3) لم يُعْصَم روايةً واحدة كما تقدم.
وعلى قولنا يخيَّر فيه كالأسير، فتُشْرع استتابته بالعَوْد إلى الذِّمة؛ لكن لا تجب هذه الاستتابة رواية واحدة، وعلى الرواية التي ذكرها أبو الخطاب فإنه إن أسلم الذمي سقط عنه القتل، وعلى قول من يقول: تجِب دعوة كل كافرٍ قد تجب استتابة الذِّمي (4).
وذكر السَّامري (5): أن توبة المسلم على روايتين، وتوبة الكافر لا
__________
(1) يعني عن الإمام أحمد. وفي العبارة شيء بسبب تكرار كلمة “رواية” ولو اقتصر على أحدهما لكفى.
(2) (2/ 110).
(3) يحتمل رسمها أيضًا: “تائبًا” وما أثبتُّ موافق للصارم: (3/ 563) وهو الأوفق.
(4) “الصارم”: (3/ 569 – 570).
(5) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحنبلي ت (616)، “ذيل الطبقات”: (2/ 121).
(1/92)
تُقْبَل، عكس ما ذكره الأصحاب من الفرق، وليس الأمر كذلك، بل فيه خلل، وإلَّا فلا رَيْب أنَّا إذا قبلنا توبة المسلم بإسلامه فتوبة الذِّمي بإسلامه أَوْلَى. ذكره شيخ الإسلام (1).
ثم قال: وقد يُوجَّه ما ذكره السَّامري بأن يقال: السبُّ قد يكون غلطًا من المسلم لا اعتقادًا، فنقبل توبته إذ هو عَثْرة لسان أو قِلَّة (2) علم، والذِّمي سبُّه أذًى مَحْض لا ريب فيه فإذا وجب عليه الحدُّ لم يسقط بإسلامه كسائر الحدود.
فتلخَّص (3) أنهما لا يُستتابان في المنصوص المشهور، فإن تابا لم تقبل توبتهما في المشهور – أيضًا -، وحُكِي عنه في الذِّمي إذا أسلم سقط عنه القتل وإن لم يُسْتتب، وحُكِي عنه أن المسلم يستتاب وتُقبل توبته، وخُرِّج عنه في الذمي أنه يستتاب، وهو بعيد.
واعلم أنه لا فرق بين سبِّه بالقذف وغيره، نصَّ عليه، وذكره عامَّةُ أصحابه، وأكثر العلماء.
وفرَّق الشيخ أبو محمد (4) بين القذف والسبِّ، فذكر الروايتين في المسلم وفي الكافر في القَذْف، ثم قال: “وكذلك سبه بغير القذف، إلَّا
__________
(1) “الصارم”: (3/ 564 – 565).
(2) في الأصل: “قلمه” وهو تحريف.
(3) “الصارم”: (3/ 570).
(4) هو موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة، صاحب “المغني” ت (620).
(1/93)
أنه يسقط بالإسلام” (1)، وسيأتي تحرير ذلك (2).
وأما مذهب مالك، فإنه يُقتل السَّابُّ ولا يُستتاب – أيضًا – والمشهور من مذهبه: أنه لا يقبل توبة المسلم إذا سبَّ، وحكمه حكم الزنديق، ويُقْتَل عندهم حدًّا لا كفرًا إذا أظهر التوبة، ورُوي عنه أنه جعله رِدَّة، قال أصحابُه: فعلى هذا يُستتاب، فإن تاب نُكِّلَ، وإن أبى قُتِلَ.
وأما الذميُّ إذا سبَّ ثم أسلم، فهل يدرأ عنه إسلامُه القتلَ؛ على روايتين، ذكرهما عبد الوهَّاب (3) وغيره (4).
وأما مذهب الشافعي (5)؛ فلهم في السابِّ وجهان:
أحدهما: هو كالمرتدِّ إذا تاب سقط عنه القتل.
والثاني: أن حدَّه القتل بكلِّ حال.
وذكر الصيدلاني (6) قولًا ثالثًا: أن السابَّ بالقذف يقتل للرِّدة، فإن تاب زال القتل، وجُلِد ثمانين للقذف، وبغير القذف يُعزَّر بحسَبِه.
__________
(1) انظر: “المغني”: (12/ 405).
(2) انظر ما سيأتي في المسألة الرابعة.
(3) هو: القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي ت (422)، انظر: “تاريخ بغداد”: (11/ 31)، و”ترتيب المدارك”: (7/ 220 – 227).
(4) انظر “الشفا”: (2/ 488).
(5) انظر “روضة الطالبين”: (10/ 332)، و”مغني المحتاج”: (4/ 141).
(6) هو: أبو بكر محمد داود بن محمد الصيدلاني الشافعي ت (427)، انظر “طبقات السبكي”: (4/ 148).
(1/94)
ثم ذكر (1) أدلَّة من قال لا تُقْبَل توبته وما يعارضها وأجاب عن المعارض، واستدلَّ على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، بأدلَّةٍ لا يمكن أحدًا دفعها، مقدارها ثمان كراريس بالبلدي، فليُطالع هناك (2).
* * *
__________
(1) هذا من كلامِ المختصِر إلى نهاية الفقرة.
(2) ذكر شيخ الإسلام في “الصارم” سبعًا وعشرين طريقة من طرق الاستدلال على تحتُّم قتل الذمى والمسلم السابَّ. (3/ 709 – 862).
ثم أجاب عن حُجج المخالفين واعتراضاتهم، وهي خمس وعشرون. (3/ 864 – 940).
(1/95)
المسألةُ الرَّابِعَة (1): في بيان السبِّ المذكور، والفرق بينه وبين مجرَّد الكُفْر
وقبل ذلك لا بد من تقديم مقدمة، وذلك أن نقول:
سبُّ الله أو سبُّ رسوله كفرٌ ظاهرًا وباطنًا، سواء اعتقد السَّابُّ أنه محرَّم أو كان مستحلًّا أو كان ذاهلًا عن اعتقادٍ، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
وقد قال إسحاق بن راهوية – وهو أحد الأئمة يُعْدَلُ بالشافعي وأحمد -: “قد أجمع المسلمون أنَّ مَنْ سبَّ اللهَ، أو سبَّ رسولَهُ، أو دفع شيئًا مما أنزل الله، أو قتلَ نبيًّا = أنه كافر وإن كان مقِرًّا بكل ما أنزل الله” (2).
وبذلك قال سُحْنون، وقال: ومن شكَّ في كفره كفَر، ونصَّ على ذلك غيرُ واحد من الأئمة؛ أحمد والشافعي وغيره، قال: “كلُّ من هَزَل بشيءٍ من آيات الله فهو كافر” (3).
__________
(1) “الصارم”: (3/ 955).
(2) وحكى نحوه عن إسحاقَ المروزيُّ في “تعظيم قدر الصلاة”: (2/ 930).
(3) انظر “الشفا”: (2/ 393).
(1/96)
وكذلك قال أصحابُنا وغيرهم: من سبَّ الله أو رسولَه كفر إن كان مازحًا أو جادًّا، وهذا هو الصواب.
وقال القاضي (1): من سبَّ الله أو رسولَه فإنه يكفر سواءٌ استحلَّه أو لم يستحلَّه، فإن قال: لم استحلّ ذلك، لم يُقبل منه في ظاهر الحكم، روايةً واحدة، وكان مرتدًّا، وإنما يُحْكَم بكفره ظاهرًا، أما في الباطن، فإن كان صادقًا؛ فهو مسلم كما قلنا في الزنديق.
وذكر القاضي عن الفقهاء أن سابَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – إن استحلَّه كفر، وإن لم يستحلَّه فَسَق ولم يكفر كسابِّ الصحابة، وحُكِيَ عن بعض أهل العراق فيمن سبَّ الرسولَ يُجْلَد، فأنكر ذلك مالكٌ وردَّ فُتْياه (2).
وحكى ابنُ حزمٍ أن بعض الناس لم يُكفِّر المستَخِفّ به (3).
وذكر القاضي عِياض (4) – بعد أن ردَّ هذه الحكاية عن بعض فقهاء العراق والخلاف الذي ذكره ابن حزمٍ – بما نقله من الإجماع عن غير واحدٍ، وحملَ الحكايةَ على أن أُولئك لم يشتهروا بالعلم، وتأوَّل الفُتيا على وجوه.
__________
(1) أبو يعلى في كتابه “المعتمد في أصول الدين” كما في “الصارم” وهو في عداد المفقود والمطبوع مختصر منه، وليس فيه النقل.
(2) انظر “الشفا”: (2/ 411).
(3) انظر “المحلّى”: (12/ 431).
(4) “الشفا”: (2/ 411).
(1/97)
قال شيخ الإسلام: والحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه إن كان مُستحلًّا كفر وإلا فلا، ليس لها أصل، وإنما نقلها القاضي (1) من كتاب بعض المتكلِّمين الذين حكوها عن الفقهاء، وهي كَذِب ظنُّوها جاريةً على أصولهم، فلا يظن ظانٌّ أن في المسألة خِلافًا، إنما ذلك غَلَط (2).
فصلٌ (3)
ثم نعود إلى مقصود المسألة فنقول:
قد ثبت أن كلَّ سبٍّ وشَتْمٍ يُبيح الدمَ فهو كفر، وإن لم يكن كل كفرٍ سبًّا، ونحن نذكر عبارات العلماء.
قال الإمام أحمد (4): “من شتم الرسول أو تنقَّصه مسلمًا كان أو كافرًا فعليه القتل، ولا يُستتاب”.
وقال: من ذكر شيئًا يُعرِّض بذكر الربِّ فعليه القتل (5).
وقال أصحابُنا: التعرُّض لسبِّ الله وسبِّ رسوله رِدَّةٌ كالتصريح (6)،
__________
(1) يعني: أبا يعلى.
(2) ثم ذكر شيخ الإسلام في هذا الموضع: (3/ 960 – 976) شُبَه المرجئة والكرَّامية والجهمية القائلين: إن مجرد السب والاستهزاء … ليس بكفر، بل لا بُدَّ معه من الاستحلال. وأجاب عن هذه الشبه بما لا مزيد عليه. وقد لخَّصْنا كلامَه في مقدمة التحقيق (ص/ 8 – 14) فأغنى عن إعادته هنا.
(3) “الصارم”: (3/ 977).
(4) انظر ما تقدم ص/ 90.
(5) في رواية حنبل، كما في “الجامع”: (2/ 339 – أهل الملل) للخلال.
(6) انظر “الإنصاف”: (10/ 333).
(1/98)
ولا يختلف أصحابُنا أن قذف أمِّه هو من جُملة سبِّه الموجِبِ للقتل وأغْلَظ.
وقال القاضي عِياض (1): “كلُّ من سبَّه أو عابَه أو ألحقَ به نقصًا في نفسِه أو نَسَبِه أو دينِه أو خَصْلَةٍ من خِصاله، أو عرَّضَ به، أو شبَّهه بشيءٍ على طريق السبِّ له والإزراء عليه، أو الغض منه والعَيْب له = فهو سابٌّ له يُقْتَل، تصريحًا كان أو تلويحًا. وكذلك من لعنه، أو تمنَّى مضرَّةً له، أو دعا عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذمِّ، أو عَيَّبَه في جهته (2) العزيزة بِسُخْفٍ من الكلام، وهُجْرٍ ومُنْكرٍ من القول وزورٍ، أو عيَّره بشيءٍ مما يجري من البلاء والمحنة عليه، أو غَمَصَه (3) ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة (4) لديه.
قال: وهذا كلُّه إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من أصحابه [و] هلُمَّ جرَّا”.
وقال مالك: من سبَّه قُتل ولم يُستتب، قال ابن القاسم: أو شتمه أو عابه أو تنقَّصَه قُتِل؛ كالزنديق (5).
وذكر بعضُ المالكية أن من دعا على نبيٍّ بشيءٍ من المكروه قُتِلَ بلا استتابة (6).
__________
(1) “الشفا”: (2/ 392 – بشرح القاري).
(2) في الأصل: “جهه” والإصلاح من “الصارم” و”الشفا”.
(3) أي: حقره.
(4) في الأصل: “المعهود”، وهو سهو.
(5) انظر “الشفا”: (2/ 395).
(6) ذكره في “الشفا”: (2/ 396). والذي في “الصارم” و”الشفاء”: “وذكر بعض المالكية إجماع العلماء على أن … “.
(1/99)
وذكر عياضٌ (1) أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بدون استتابةٍ في قضايا:
منها: رجلٌ سمع قومًا يتذاكرون صفةَ النبيِّ؛ إذ مرَّ بهم رجلٌ قبيح الوجه واللحية، فقال: تريدون تعرفون صِفَتَه؟ هي صفة هذا المارِّ.
ومنها: رجلٌ قال: النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – كان أسود.
ومنها: رجلٌ قيل له: “لا وحق رسول الله”! فقال: فعلَ اللهُ به كذا.
ومنها: عَشَّارٌ (2) قال: أَدَّ، واشْكُ إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – (3).
ومنها: متفقَّهٌ كان يُسميه في أثناء مناظرته: “اليتيم” و”خَتَن حَيْدرة”، ويزعم أن زهدَه لم يكن قصدًا، ولو قَدَر على الطيَّبات لأكلها وأشباه هذا.
قال الشافعي: كلُّ تعريض فيه استهانة فهو سبٌّ.
وقال أبو حنيفة وأصحابُه – فيمن تنقَّضه، أو بَرئ منه، أو كذَّبه -: إنه مرتدٌّ.
فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقُّصَ به كفر مُبِيح للدم، وهم في استتابته على ما تقدَّم من الخلاف، ولا فرقَ
__________
(1) في “الشفا”: (2/ 397 – 398).
(2) هو الذي يأخذ المكوس – الضرائب -.
(3) أي أنه غير مبالٍ باطلاع النبي – صلى الله عليه وسلم – على أخذه المكس.
(1/100)
في ذلك بين أن يقصد عيبه أو لا يقصده أو يَهْزِل أو يمزح، فهذا كله سواء، فإن الرجل يتكلَّم بالكلمة ما يُلْقي لها بالًا يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرقَيْن (1).
ومن قال ما هو سبٌّ وتنقُّصٌ له فقد آذى الله ورسولَه، وهو مأخوذٌ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه أذًى وإن لم يقصِد أذاهم، ألم تسمع إلى قوله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ … } الآية [التوبة: 65].
فمن شاجَرَ غيره وبحث معه في حكم وحَرَجَ (2) لذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتَّى أفحشَ في منْطِقِه؛ فهو كافرٌ بنصِّ التنزيل؛ لقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } الآية [النساء: 65]. ولا يُعْذر هذا بأن مقصوده ردُّ الخصم.
ومن هذا الباب: قول القائل: “هذه قِسْمَةٌ ما أُرِيْدَ بها وَجْهُ اللهِ” (3)، وقول الآخر: “اعْدِل فإنَّك لم تَعْدِل” (4)، وقول ذلك الأنصاري: “أنْ كان ابنَ عَمَّتِكَ” (5)؛ فإن هذا كفرٌ صريح، وإنما عَفَى عنه كما عَفَى عمَّن قال: “إنَّ هذه لقسمةٌ ما أريدَ بها وجهُ الله”، وعن الذي قال:
__________
(1) كما جاء في البخاري رقم (6477) عن أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن العبد ليتكلّم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق”.
(2) أي: ضويق حتى لجأ لذكره واضطر لذلك.
(3) تقدم ص/ 74.
(4) هو ذو الخويصرة، وقصته أخرجها البخاري رقم (6150)، ومسلم رقم (1062) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -، وجاء من رواية غيره أيضًا.
(5) يعني: الزبيرَ بنَ العوام في قِصَّة شِرَاجِ الحرة، أخرجها البخاري رقم (2362).
(1/101)
“اعْدِل”، وقد ذكرنا (1) عن عمر – رضي الله عنه – أنه قتل رجلًا لم يرضَ بحكم النبي – صلى الله عليه وسلم – فنزل القرآن بموافقته (2)، فكيف بمن طعن في حكمه!؟
وقد ذكر طائفةٌ – منهم ابنُ عقيل وأصحابُ الشافعي -: أنَّ هذا كان عقوبته التعزير، ثم منهم من قال: لم يُعَزِّره؛ لأنه غير واجب، ومنهم من قال: عَفَى عنه؛ لأنَّ الحقَّ له. ومنهم من قال: عاقبَه بأن أمرَ الزُّبيرَ أن يسقي ثم يحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، وهذه كلُّها أقوالٌ رديَّة، ولا يستريب من تأمَّل أن هذا كان يستحق القتل.
فإن قيل: ففي روايةٍ صحيحة أنه كان من أهل بدرٍ، ولا يقال عن بدريٍّ: إنه كفر.
فيقال: هذه الزيادة ذكرها أبو اليَمَان عن شُعيب ولم يذكرها أكثر الرواة، فهي وهم (3). كما وقع في حديث كعب وهلال بن أميَّة (4) أنهما من أهل بدرٍ، ولا يختلفُ أهل المغازي والسِّيَر أنهما لم يشهدا بدرًا (5)،
__________
(1) لم يتقدم شيءٌ في “المختصر”، وإنما هو في أصله: (2/ 85).
(2) هذه القصة أخرجها إسحاق بن راهويه في “تفسيره”، وابن دُحَيم في “تفسيره” وابن جرير: (4/ 162)، وابن أبي حاتم في “تفسيره”.
وانظر “الصارم”: (2/ 81 – 85)، و”فتح الباري”: (5/ 46)، و”الدر المنثور”: (2/ 322). ومال إلى تقويتها ابن تيمية وابن حجر.
(3) لم يجزم ابن تيمية بأنها وهم وعبارته: “فيمكن أنها وهم”.
(4) كذا وقع هنا ومثله في الأصل: 3/ 987 وفي العبارة سقط صوابه: “كما وقع في حديث كعب [بشأن مرارة بن الربيع] وهلال بن أمية”. فلا بد من هذه الزيادة لأن كعبًا صرح بأنه لم يشهد بدرًا، لكن جاء في حديثه أن مرارة وهلالًا من أهل بدرٍ.
(5) انظر الخلاف في ذلك في “فتح الباري”: (7/ 361 – 362، 724 – 725)، و”زاد =
(1/102)
ولذلك لم يذكره ابنُ إسحاق في روايته عن الزهري (1)؛ لكن الظاهر صحتها.
فنقول حينئذٍ: ليس في الحديث أن هذه القِصَّة كانت بعد بدرٍ؛ فلعلَّها كانت قبل بدرٍ، وسُمَّي الرجلُ بدريًا؛ لأن ابن الزبير حدَّثَ بالقِصَّة بعد أن صار الرجلُ بدريًّا. ولو كانت بعد بدرٍ فقد تاب قائلها واستغفر، فإن التوبةَ تجبُّ ما قبلها (2).
فصلٌ (3)
إذا ثبت أنَّ كلَّ سبًّ تصريحًا أو تعريضًا موجبٌ للقتل، فالذي يجب أن يُعْتَنَى به: الفرق بين السبِّ الذي لا تُقبل منه التوبة والكفر الذي تُقبل منه التوبة، فنقول:
هذا الحكم قد نِيْطَ في الكتاب والسنة باسم أذى الله ورسوله، وفي بعض الأحاديث ذكر الشتم والسبّ، وكذلك ما في ألفاظ الصحابة والفقهاء من ذكر السبّ والشتم، والاسمُ إذا لم يكن له حدٌّ في اللغة، كاسم الأرض والسماء، ولا في الشرع كالصلاة والزكاة والكفر والإيمان، فإنه يُرْجَع في حدِّه إلى العُرْف، كالقَبْض والحِرْز، فيجب أن يُرْجَع في حدِّ الأذى والسبّ والشتم إلى العُرْف، فما عدَّه أهل العُرْف
__________
= المعاد”: (3/ 577)، فمال الحافظ الى شهودهما، ومال ابن القيم إلى عدمه، ولكلٍّ حجَّة ودليل.
(1) في “السيرة النبوية”: (2/ 534).
(2) وانظر “فتح الباري”: (5/ 44).
(3) كلمة “فصل” ليست في “الصارم”: (3/ 992).
(1/103)
سبًّا أو انتقاصًا أو عيبًا أو طعنًا ونحو ذلك فهو من السبّ، وما لم يكن كذلك [وهو كفر]، فهو كفر وليس بسبٍّ، [والمعتبر أن يكون سبًّا وأذًى للنبي – صلى الله عليه وسلم – وإن لم يكن سبًّا وأذًى لغيره] (1)؛ فعلى هذا كلُّ ما لو قيل لغير النبي – صلى الله عليه وسلم – أوجبَ تعزيرًا أو حدًّا بوجهٍ من الوجوه؛ فإنه من باب سبِّ النبي – صلى الله عليه وسلم – كالقذف واللعن وغيرهما.
وأما ما يختصّ بالقدح في النبوَّة؛ فإن لم يتضمَّن [إلا] مجرَّد (2) عدم التصديق بنبوته؛ فهو كفر محضٌ، وإن كان فيه استخفافٌ واستهانةٌ مع عدم التصديق؛ فهو من السبِّ.
وهنا مسائل اجتهاديَّة يتردَّد الفقهاء هل هي من السبِّ أو من الرِّدة المحضة، ثم ما ثبت أنه ليس بسبٍّ؛ فإنْ استسَرَّ به صاحبُه فهو زندقة حكمه حكم الزنديق، وإلا فهو مرتدٌّ محض، واستقصاء الأنواع والفرق بينها له موضعٌ آخر.
فصلٌ (3)
فأما الذمِّي فيجب التفريق بين مجرَّد كفره به وبين سبِّه، فإنَّ كفره به لا ينقض العهدَ ولا يُبِيْحُ دَمَ (4) المعاهد بالاتفاق، وأما سبُّه له فإنه ينقض العهدَ ويوجب القتلَ كما تقدم (5).
__________
(1) زيادة متعيِّنة من “الصارم”.
(2) في الأصل: “فإنه لم يتضمن مجرد” والإصلاح من “الصارم”.
(3) “الصارم”: (3/ 994).
(4) في الأصل: “الدم” سهو.
(5) ص/ 90 – وما بعدها.
(1/104)
قال القاضي: “عَقْد الذمة (1) يوجب إقرارهم على تكذيبه لا على سبِّه – صلى الله عليه وسلم -“.
فنقول: الآثار عن الصحابة وعن السَّلف كلها مطلقة فيمن شتم من مسلمٍ ومعاهدٍ لم يُفَصِّلوا بين شتمٍ وشتمٍ، ولا بين أن يكرر الشتم أو لا يكرره، أو يُظهره أو لا يظهره، وأعني بقولي: “لا يظهره”، أن لا يتكلَّم به في ملأٍ من المسلمين، وإلَّا فالحدُّ لا يُقَام عليه حتى يشهد مسلمان أنهما سمعاه يشتم أو يُقرُّ بالشتم، اللهم إلا أن يُفْرَض أنه شتمه في بيته خاليًا؛ فسمعه جيرانه المسلمون أو من استرقَ السمع منهم.
وقال مالك وأحمد: كل من شتمه أو تنقَّصَه مسلمًا كان أو كافرًا قتِل (2)، وكذلك أطلقه سائر أصحابنا: أنه إن تنقَّصَه قُتِلَ مسلمًا كان أو كافرًا.
وذكر القاضي وابنُ عقيل: أنَّ ما أبطل الإيمان أبطل الأمانَ إذا أظهروه، وطَرَد ابنُ عقيلٍ (3) هذا القياس في كلَّ ما ينقض الإيمان من التثْنِية والتثليث (4)، كقول النصارى: إن الله ثالث ثلاثة، ونحو ذلك: أن الذمي متى أظهرَ ما يعلم (5) من دينه من الشرك نقضَ العهدَ.
__________
(1) في “الصارم”: “الأمان”.
(2) انظر ما تقدم ص/ 90 – 91.
(3) في “الصارم”: “وطرد القاضي وابن عقيل … “.
(4) التثنية في عقيدة المجوس: اعتقاد التدبير والنفع والضُّر في (النور والظُّلمة).
والتثليث هي عقيدة النصارى: المعروفة في الأب والابن وروح القدس.
(5) في “الصارم”: “ما تعلمه”.
(1/105)
قال القاضي: وقد نصَّ على ذلك أحمد في رواية حنبل: “كل من ذكر شيئًا يعرِّض به الربّ فعليه القتل – مسلمًا كان أو كافرًا – وهذا مذهب أهل المدينة” (1).
وقال أحمد في رجلٍ يهودي سمع مؤذِّنًا يؤذِّن فقال: كذبتَ، فقال: يُقْتَل لأنه شتم (2).
وقال ابن القاسم فيمن سبَّه فقال: ليس بنبيٍّ، أو لم يُرْسَل، أو لم يَنْزل عليه قرآن وإنما هو شيءٌ قاله = يُقْتَل. وإن [قال]: إنه لم يُرْسَل إلينا وإنما أُرسِلَ إلى المسلمين، وإنما نبينا موسى أو عيسى = لا شيءَ عليهم (3).
ولو قال: دينه خيرٌ من ديننا = أُدِّب وسُجِن طويلًا وهذا قول محمد بن سُحْنُون، وذكره عن أبيه، ولهم قولٌ إذا سبَّه بالوجه الذي به كَفَرَ (4) لا يُقْتَل، وبغيره يُقتل إلا أن يُسْلِم (5).
وقال في اليهودي – إذا قال للمؤذَّن حين تشهده “كذبتَ” -: يُعَاقَب ويُسجن (6)، قد تقدم نصُّ الإمام أحمد في مثل هذه الصورة على القتل؛ لأنه شَتْم.
__________
(1) تقدم تخريجه ص/ 98.
(2) “الجامع”: (2/ 339 – أهل الملل).
(3) انظر “الشفا”: (2/ 485).
(4) في “الصارم”: “كفروا”.
(5) “الشفا”: (2/ 486).
(6) المصدر السابق.
(1/106)
وكذلك اختلف أصحاب الشافعيِّ في السبّ الذي ينتقض به عهدُ الذَّمي ويُقْتَل به إذا قلنا بذلك على وجهين:
أحدهما: ينتقض بمطلق السبِّ لنبينا والقدح في ديننا إذا أظهروه، وإن كانوا يعتقدون ذلك دينًا، وهذا قول أكثرهم.
والثاني: أنهم إن ذكروه بما يعتقدونه فيه دينًا (1) مِن أنه ليس برسولٍ والقرآن ليس بكلام الله؛ فهو كإظهارهم قولهم في المسيح ومعتقدهم في التثليث، قالوا: وهذا لا ينتقض العهدُ به بلا تردد، بل يُعَزَّر على إظهاره.
وأما إذا ذكروه بما لا يعتقدونه دينًا؛ كالطعن في نسبِه؛ فهو الذي قيل فيه: ينقض العهدَ، وهذا اختيار الصيدلاني وأبو المعالي (2) وغيرهما.
والأدلَّة تدلُّ على أن السبَّ بما يعتقدونه فيه دينًا وما لا يعتقدونه فيه دينًا سواء، وأنَّ مطلق السبَّ مُوجبٌ للقتل، وقد تقدم ذلك بما فيه كفاية. فإن الذين كانوا يهجونه ويعيبونه وينفَّرون عنه الناس إنما كان ذلك فيما يعتقدونه، ومع ذلك أمرَ بقتلهم.
وهذا الفرق متهَافِتٌ جدًّا (3).
وأيضًا: لو قلنا: لا يكون سبًّا إلا ما ليس دينًا لهم أمْكَنَ كلُّ من
__________
(1) تحرفت العبارة في “الصارم”: إلى: “أنهم إذا أظهروه، وإن كانوا يعتقدون فيه دينًا من أنه … ” وهو انتقال نظر من السطر الذي قبله.
(2) الصيدلاني تقدَّم، وأبو المعالي هو: إمام الحرمين الجويني ت (478).
(3) ذكر في الأصل ثلاثة وجوه للتهافت، وما ذكره المختصِر هو الثالث.
(1/107)
سبَّه أن (1) يقول: أنا اعتقده دينًا. وحينئذٍ فنقول:
التكلُّم في تمثيل سبَّه وذكر صفة (2) ذلك مما يثقُل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نَفُوهَ بذلك؛ لكن للحاجة إلى الكلام فنحن نفرض الكلام في أنواع السبِّ مطلقًا من غير تعيين، والفقيه يأخذ حظَّه من ذلك فنقول:
السبُّ نوعان: دعاءٌ وخبر، أما الدعاء: فمثل أن يقول القائل لغيره من الناس: لَعَنَه الله، قبَّحه الله، أخزاه الله، لا رَحِمه الله، لا رضي الله عنه، قطعَ اللهُ دابِره، فهذا سبٌّ للأنبياء ولغيرهم، وكذلك لو قال عن نبيٍّ: لا صلَّى الله عليه ولا سلَّم، أو: لا رفع الله ذكرَه، أو: مَحَى الله اسمه، ونحو ذلك من الدعاء بما فيه ضررٌ في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة، فهذه كلُّه إذا صدر من مسلمٍ أو من معاهدٍ فهو سبٌّ، فيُقْتَل المسلم بكلَّ حالٍ، والذميُّ يُقْتَل بذلك إذا أظهره.
فأما إن أظهرَ الدعاءَ له وأبطنَ الدعاءَ عليه إبطانًا يُعرف من لَحْن القول، بحيث يفهمه بعض الناس دون البعض، مثل قوله: “السام عليكم” إذا أخرجه مخرج التحية، وأظهر أنه يقول: “السلام”؛ ففيه قولان:
أحدهما: أنه من السبِّ الذي يُقْتَل به، وإنما كان عفو النبي – صلى الله عليه وسلم – عن اليهودي حين حيَّاه بذلك حالَ ضعف الإسلام، لمَّا كان مأمورًا بالعفو، وهذا قول طائفةٍ من المالكية والشافعية والحنبلية (3).
__________
(1) غير محررة في الأصل، وفي “الصارم” كما هو مثبت.
(2) “الصارم”: “صفته”!
(3) انظر “الشفا”: (2/ 415 – 416)، و”فتح الباري”: (12/ 293 – 294).
(1/108)
والقول الثاني: أنه ليس من السبِّ الذي ينقض العهد؛ لأنهم لم يُظهروا السبَّ ولم يجهروا به، وإنما أظهروا التحيَّة والسلام لفظًا وحالًا وحذفوا “اللام” حَذْفًا خفيًّا يَفْطُن له بعض السامعين، وقد لا يُفْطَن له (1)، ولهذا أُمِرْنا أن نردَّ عليهم، وجعل ذلك شرعًا باقيًا فينا، وهذا قول جماعةٍ من المتقدمين من أصحابنا وغيرهم.
ولا يقال: هذا دعاءٌ بالموت وهو حقٌّ ليس بسبٍّ. فإن الدعاء على المسلمين بالموت وترك الدين من أعظم السبِّ، كما أنَّ الدعاءَ بالصحة والسلامة كرامة.
النوع الثاني (2): الخبر، فكلُّ ما عدَّه الناسُ شتمًا وسبًّا أو تنقُّصًا، فإنه يجب به القتل كما تقدم، فإن الكفر ليس مستلزمًا للسبِّ، والكلمةُ الواحدةُ تكون في حالٍ سبًّا وفي حالٍ ليست بسبٍّ، فعُلِمَ أنه يختلف باختلاف الناس والأحوال والأقوال، وإذا لم يكن للسبِّ حدٌّ لغويٌّ ولا شَرْعي رُجِعَ فيه إلى العُرْف، فما كان سبًّا في عُرْف الناس حُمِل عليه كلام الصحابة والعلماء وإلا فلا، ونحن نذكر من ذلك أقسامًا فنقول:
لا شكَّ أن إظهار التنقُّص والاستهزاء به عند المسلمين سبٌّ؛ كالتسمية باسم الحمار والكلب، أو وصفه بالمسكنة والخِزْي والمهانة، والإخبار بأنه في العذاب وأنّ عليه آثام الخلائق، وكذلك إظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذَّب؛ مثل وصفه بأنه ساحر خادع محتالٌ، وأنه يضرُّ من اتبعه، فإن نَظَمَ ذلكَ شِعرًا فهو أبلغ في الشتم، فإنه يُحْفَظ.
__________
(1) في “الصارم”: (3/ 1007): “وقد لا يفطن له الأكثرون”.
(2) “الصارم”: (3/ 1009).
(1/109)
وأما إن أخبر عن معتقده بغير طعنٍ، مثل قوله: لست متَّبعه، لست مصدِّقه، أو: لا أُحبُّه، أو: لا أرضى به (1) ولا قرينةَ على تنقُّصه، فقد أخبر بمُعْتَقَدِه، وهو [يحصل لجهله] (2) أو لعناده وحسدِه وتقليد الأسلاف.
وإذا قال: “لم يكن رسولًا ولا هو نبيٌّ”؛ فهو تكذيب صريح، وكل تكذيب فقد تضمَّن نِسبته إلى الكذب ووصفه بأنه كذاب. لكن بين قوله: “ليس بنبي” وقوله “كذَّاب” فرقٌ من حيث أن هذا إنما تضمَّن التكذيب بواسطة علمنا أنه كان يقول: “إني رسول الله”، وليس من نَفَى عن غيره بعض صفاته نفيًا مجرَّدًا كمن نفاها عنه ناسبًا له إلى التكذيب في دعواها، والمعنى الواحد يؤدَّى بعباراتٍ بعضها يُعَدُّ سبًّا وبعضُها لا يُعَدُّ سبًّا.
* * *
__________
(1) في “الصارم”: “ولا أرضى دينه”.
(2) الكلمتان متآكلتان في الأصل، وانظر نحو ما أثبتُّ في “الصارم”.
(1/110)
فصلٌ فيمن سبَّ الله تعالى (1)
فإن كان مسلمًا وجبَ قتله بالإجماع (2)؛ لأنه كافر بل أسوأ حالًا منه.
ثم اختلف أصحابنا وغيرهم في قبول توبته، بمعنى أنه هل يُستتاب كالمرتَدّ ويسقط عنه إذا أظهر التوبة بعد رفعه إلى السلطان؟ على قولين:
أحدهما: أنه بمنزلة سابِّ الرسول فيه الروايتان، كالروايتين في سابَّ الرسول، هذه طريقة أبي الخطاب (3) ومن تَبِعَه من المتأخَّرين، ويدلُّ عليه كلام أحمد، وهو مذهب أهل المدينة (4).
وعلى هذه الطريقة؛ فظاهر المذهب أنه لا يسقط القتل بالتوبة بعد القدرة عليه كما ذكرنا في سابَّ الرسول.
وأما الرَّواية الثانية: فإنه يكون مرتدًّا، وبالرواية الأولى قال مالك والليث وابن القاسم= إنه يُقْتَل ولم يُسْتَتَب (5).
__________
(1) “الصارم”: (3/ 1017).
(2) انظر “الشفا”: (2/ 491).
(3) انظر “الهداية”: (2/ 110).
(4) انظر ما تقدم.
(5) انظر “الشفا”: (2/ 491).
(1/111)
والثاني: يُسْتتاب وتُقْبَل توبتُه بمنزلة المرتدَّ، وهذا قول القاضي والشريف (1) وابن البنَّاء وابن عقيل، مع قولهم: إن سابَّ الرسول لا يُستتاب وهو قول طائفةٍ من المدنيين، وكذا ذكره أصحاب الشافعي، قالوا: سبُّ اللهِ رِدَّة، وهذا مذهب أبي حنيفة.
فأمَّا مأْخَذ من استتاب السابّ لله ورسوله؛ فقالوا: هو رِدَّةٌ، ومن فرَّق قال: سبُّ الله كفرٌ محضٌ حقٌّ لله، وهو – سبحانه – علم منه أنه يُسْقِط حقَّه عن التائب ولا يلحقه غضاضة ولا مَعَرَّةٌ، وحُرْمته في قلوب العِباد أعظمُ من أن تهتكها جُرْأةُ أحدٍ، وبهذا يظهر الفرقُ بينه وبين الرسول، ولأنه حق آدميٍّ فلا يسقط بالتوبة.
وبالنظر إلى أنه حقٌّ لله، فما انتهكه من حُرْمة الله لا ينجبر إلا بالحدِّ فأشبه الزنا والسَّرقة والشرب.
فصلٌ (2)
وإن كان السابُّ لله ذِمِّيًّا؛ فهو كما لو سبَّ الرسول، وقد تقدَّم نصُّ أحمد أنه يُقتل مسلمًا كان أو ذِميًّا (3)، وكذلك أصحابنا وكذا مذهب مالكٍ وأصحابِه، وكذلك أصحاب الشافعي؛ لكن هنا مسألتان:
إحداهما: أن سبَّ اللهِ على قِسمين:
أحدهما: سبُّه بما لا يُتَدَيَّن به، بل هو استهانةٌ عند المتكلِّم وغيره، كاللعن، فهذا هو السبُّ بلا رَيْب.
__________
(1) أبو جعفر الحنبلي.
(2) “الصارم”: (3/ 1031).
(3) ص/ 90.
(1/112)
والثاني: أن يكون مما يُتديَّن به، ويعتقده تعظيمًا، مثل قول النصارى: له ولدٌ وصاحبة، فهذا مما اخْتُلِفَ فيه إذا أظهره الذمي؛ فقال القاضي وابن عقيل: ينتقض به عهدُه.
وقال مالك والشافعي: ما يتديَّن به ليس هو بسبٍّ، وهو ظاهر كلام أحمد، وذلك أن الكافر لا يقول ذلك سبًّا، بل هو عنده تعظيم.
المسألة الثانية: في استتابة الذمي:
فجمهور أصحابنا يقبلون توبته، وهذا المعروف من مذهب الشافعي، وكذا قال ابنُ القاسِم وغيره من المالكية: إنه يُسْتَتَاب، والمنصوص عن مالكٍ: أنه لا يُستتاب بل يُقتل، وهو ظاهر كلام أحمد.
وبالجملة؛ فالسبُّ ثلاثة (1) مراتب:
الأولى: ما يتديَّن به، كقول النصارى في عيسى ونحوه، فهذا حكمه حكم سائر أنواع الكفر، وقد ذكرنا الخلاف في انتقاض العهد بإظهاره (2)، وإذا قيل بانتقاض العهد به؛ فسقوط القتل عنه بالإسلام متوجِّه، وهو قول الجمهور.
المرتبة الثانية: أن يذكر ما يتديَّن به، وهو سبٌّ لدين المسلمين، كقول اليهوديِّ للمؤذِّن: “كذبتَ”، وكردِّ النصرانيِّ على عمر (3)، وكما لو
__________
(1) كذا بالأصل
(2) تقدم قريبًّا
(3) تقدم ص/ 90.
(1/113)
عاب شيئًا من أحكام الله؛ فهذا حكمه حكم سبِّ الرسول في انتقاض العهد به، وهو الذي عناه الفقهاء بقولهم: “ذَكَرَ اللهَ أو كتابَه بسوءٍ”.
وأما سقوط القتل بالإسلام؛ فهو كسبِّ الرسول.
المرتبة الثالثة: أنْ يسبَّه بما لا يتديَّن به، بل هو محرم في دينه كاللعن، فلا يظهر بينه وبين سبِّ المسلم فرقٌ، بل ربما كان أشدَّ، فإسلامه لا يجدِّد له اعتقادًا لتحريمه، بل هو فيه كالذِّمي إذا زنى أو قتل أو سرقَ ثم أسلم، فإذا قلنا: لا تُقْبَل توبة المسلم مِن سبِّ الله، فأَنْ لا تُقبل توبة الذميِّ أَوْلى، بخلاف سبِّ الرسول، ويُشْبِه ذلك زناه بمسلمةٍ (1).
وهذا القسم اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الذميَّ يُستتاب منه كالمسلم.
والثاني: لا يُستتاب، لكن إن أسلم لا يُقتل، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد وقول ابن القاسم.
والقول الثالث: أنه يُقتل بكلِّ حال، وهو ظاهر كلام مالك وأحمد، كما نقول يؤخذ منه حدُّ الزنا والسرقة؛ لأنه مُحرم عنده وعند المسلمين كذا هذا (2)، ويدل على ذلك أكثر الأدلَّة.
__________
(1) إذ هو محرَّم في دينه، مُضرٌ بالمسلمين، فإذا أسلم لم يسقط عنه.
(2) كذا بالأصل، والمعنى ظاهر.
(1/114)
فصلٌ (1)
فإن سبَّ موصوفًا بوصفٍ أو مسمًّى باسم، وذلك يقع على الله أو بعض رُسُلِه، لكن ظهر أنه لم يقصد ذلك ولم يُرِدْه، فهذا القول وشِبْهه حرام في الجملة، يُستتاب صاحبُه منه إن لم يعلم تحريمه، ويُعزَّر مع العلم تعزيرًا بليغًا، لكن لا يكفر ولا يُقتل.
مثاله: من سبَّ الدهر أو الزمان الذي فرَّق بينه وبين الأحبة، ويعتقد أن فاعل ذلك هو الدهر، وفاعله حقيقةً إنما هو الله – تعالى – فيقع السبُّ عليه من حيث لم يعتمده، وإلى هذا أشار – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فإنَّ اللهَ هو الدَّهْر” (2).
وكذلك: من سبَّ رجلًا وقال: يا ابن كذا وكذا إلى آدم، فقد أتى عظيمًا، مع أنه يدخل فيه نوحٌ وإدريس وشِيْث وغيرهم من النبيين، ومثل هذا العموم في هذه الحال لا يُقْصَد به الأنبياء.
وكذلك قال ابنُ أبي زيد فيمن قال: “لعن اللهُ العربَ وبني إسرائيل وبني آدم” لم يُرِد الأنبياء وإنما أراد الظالمين منهم= عليه الأدب بقدر اجتهاد السلطان (3)، وذهب قومٌ إلى قتله، وهذه مسألة الكرماني (4)،
__________
(1) “الصارم”: (3/ 1042).
(2) رواه مسلم رقم (2246) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) انظر “الشفا”: (2/ 437).
(4) هي المتقدمة قريبًا في قول القائل: “يا ابنَ كذا وكذا إلى آدم … “. وانظر “الشفا”: (2/ 438).
(1/115)
وهو قياس أحد الوجهين لأصحابنا فيمن قال: “عصيتُ الله في كلِّ ما أمرني به (1) “.
فصلٌ (2)
والحكم في سائر الأنبياء كالحكم في نبينا – صلى الله عليه وسلم -، ولا يُعلم أن أحدًا فرَّق بين نبيٍّ ونبي، ولا ريب أن جُرْم سابِّه أعظم من سابِّ غيره.
فصلٌ (3)
فأما من سبَّ أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ فمن قذف عائشةَ بما برَّأها الله منه، فقد كفر، حَكَى الإجماعَ عليه غير واحدٍ (4).
وأما من سبَّ غيرها من أزواجه – صلى الله عليه وسلم -؛ ففيه قولان:
أحدهما: أنه كسبِّ واحدٍ من الصحابة على ما سيأتي.
والثاني:- وهو الصحيح – أن من قَذفَ واحدةً من أمهات المؤمنين؛ فهو كقذف عائشة (5).
__________
(1) انظر “الصارم”: (3/ 1045). و”المغني”: (13/ 464).
(2) “الصارم”: (3/ 1048). و”الشفا”: (2/ 545 وما بعدها).
(3) “الصارم”: (3/ 1050). و”الشفا”: (2/ 554 وما بعدها).
(4) ذكر في الصارم منهم: إسماعيل بن إسحاق.
(5) انظر ما تقدم.
(1/116)
فصلٌ (1)
فأما من سبَّ أحدًا من الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين -؛ فقد أطلق أحمد أنه يُنكَّلُ وتوقَّف عن كفره وقتلِه، بل قال: يُعاقَب ويُجْلَد ويُحْبَس حتى يموت أو يرجع عن ذلك، وهذا المشهور من مذهب مالك.
قال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا أوجب قتله (2).
وقال القاضي أبو يعلى: من سبَّ الصحابةَ مُستحِلًّا كفر، وإلَّا فَسَقَ، سواء كفَّرهم أو طعن في دينهم، على ذلك الفقهاءُ.
وقد قطع طائفةٌ من الفقهاء بقتل من سبَّ الصحابة، وكفَّروا الرافضة وصرَّح بذلك كثير من أصحابنا.
قال أبو بكر عبد العزيز في “المُقْنِع” (3) في الرافضي: إنْ سبَّ فقد كفر فلا يُزَوَّج.
ولفظ بعضهم: إن سبَّهم سبًّا يقدح في دينهم أو عدالتهم = كفر، ونصره القاضي، وإن كان سبًّا لا يقدح، مثل أن يسبَّ أبا أحدهم، أو يسبَّه سبًّا يقصد غيظَه لم يكفر.
__________
(1) “الصارم”: (3/ 1055)، و”الشفا”: (2/ 554).
(2) في “الإشراف على مذاهب أهل العلم”: (2/ 245).
(3) ذكره أبو يعلى وأثنى عليه، وقال: إنه في مئة جزء، كما في “تاريخ بغداد”: (10/ 459)، و”المدخل المفصل”: (2/ 808).
(1/117)
قال أحمد في الرجل يشتم عثمان: هذا زنديق، وقال في رواية حنبل: من شتم رجلًا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -: ما أُرَاه على الإسلام (1).
قال القاضي: فقد أطلق أحمدُ القولَ أنه يكفر بسبِّه لأحدٍ من الصحابة، وتوقف في رواية عبد الله وأبي طالب عن قتله، وكمالُ الحدِّ وإيجابُ التعزيرِ يقتضى أنه لم يحكم بكفره.
قال: فيحتمل حمل قوله – يعني قول أحمد -: “ما أُرَاه على الإسلام” على من استحلَّ سبَّهم، فإنه يكفر بلا خلافٍ، ويُحمل إسقاط القتل على غير المستحلِّ. ويُحتمل أن يُحْمَل على أن من سبَّ طعنًا في عدالتهم فيقتل، ومن سبَّ لا لطعنٍ فلا يُقتل، نحو قوله: كان فيهم قلَّة علم وقلَّة معرفةٍ بالسياسة والشجاعة، وفيهم شُحٌّ ومحبَّة الدنيا ونحوه.
قال: ويحتمل أن يُحْمَل كلامه على ظاهره فيكون في سابِّهم روايتان:
أحدهما: يكفر، والثانية: يفسق.
قال شيخ الإسلام: وعلى هذا استقرَّ قول القاضي، وغيره حَكَوا في تكفيرهم روايتين:
قال القاضي: ومن قذف عائشة بما برَّأها الله منه كَفَر بلا خلافٍ.
قال شيخ الإسلام: ونحن نرتِّب الكلامَ في فصلين:
أحدهما: في حكم سبهم مطلقًا.
والثاني: في تفصيل أحكام السابِّ.
أما الأول: فسبّ أصحابه – صلى الله عليه وسلم – حرامٌ بالكتاب والسنة.
__________
(1) أخرجه الخلال في “السنة”: (3/ 493 رقم 781).
(1/118)
أما الكتاب؛ فلأنه غِيْبة وقد قال: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ (1) الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58]، وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] وقد ثبت في الصحيح: “أنه لا يدخل النارَ أحدٌ بايعَ تحت الشجرة” (2).
وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار … } الآية [التوبة: 117]، وقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10].
فعُلِم أن الاستغفار لهم وطهارة القلب من الغِلِّ أمر يُحبه الله ويرضاه ويثني على فاعله، وذَكَرَ عدة آيات.
وأما السنة؛ ففي “الصحيحين” (3) قوله: “لا تسبُّوا أصحابي فوالذي نفسي بِيَدِه لو أنفق أحدُكم مثلَ أحدٍ ذَهَبًا ما بلغ مدَّ أحدِهم ولا نَصِيْفَه”.
وروى البَرْقاني (4): “لا تسبُّوا أصحابي، دَعُوا لي أصحابي”.
__________
(1) في الأصل: “يرمون” وهو خطأ.
(2) أخرجه مسلم رقم (2496) من حديث أم مبشّر – رضي الله عنها -.
(3) أخرجه البخاري رقم (3673)، ومسلم رقم (2540) عن أبي سعيد – رضي الله عنه -.
(4) قال الحافظ في “الفتح”: (7/ 34): “أخرجه البرقاني في “المصافحة”” وحسَّنه هو والحافظ. وانظر “جزء لا تسبوا أصحابي” (ص/ 60) لابن حجر.
(1/119)
وقال: “إن الله اختارني واختار لي أصحابًا، جَعَلَ لي منهم وُزَرَاءَ وأنْصارًا وأَصْهَارًا، فَمَنْ سبَّهم فَعَلَيْه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أَجْمَعينَ لا يَقْبَل اللهُ منه يومَ القِيَامةِ صَرْفًا ولا عَدْلًا” (1).
وقال: “اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتَّخِذوهم غَرَضًا مِن بَعْدي، مَن أَحَبَّهم فقد أَحَبَّني، ومن أَبْغَضَهم فقد أَبْغَضَنِي، ومَن آذاهُم فَقَد آذَاني، ومَن آذاني فقد آذى اللهَ، ومَن آذى اللهَ فيوشِكُ أنْ يأْخُذَه” رواه الترمذي (2) وغيره (3).
وفي لفظٍ: “من سبَّ أصْحابي فقد سَبَّني، ومن سَبَّني فَقَدْ سَبَّ اللهَ” رواه ابن البناء (4).
__________
(1) أخرجه ابن أبي عاصم في “السنة”: (2/ 469)، والطبراني في “الكبير”: (17/ 140)، والخلال في “السنة”: (3/ 515 رقم 834)، والحاكم: (3/ 632) وغيرهم، كلهم من طريق محمد بن طلحة المدني عن عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جده.
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال شيخ الإسلام: “هذا محفوظ بهذا الإسناد”. وضعفه الألباني في تخريج السنة بجهالة عبد الرحمن بن سالم، وسوء حفظ محمد بن طلحة، وله شاهد من حديث أنس أخرجه الخطيب في “تاريخه”: (2/ 99)، ومن حديث جابر أخرجه البزار “الكشف 3/ 288” قال الهيثمي في “المجمع”: (10/ 16): “رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف”.
(2) رقم (3862) وقال: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه” اهـ.
(3) أخرجه أحمد في “المسند”: (4/ 87)، وفي “فضائل الصحابة”: (1/ 49)، وابن أبي عاصم في “السنة”: (2/ 465)، وابن حبان كما في “الإحسان”: (16/ 244)، وغيرهم من حديث عبد الله بن مغفل – رضي الله عنه – والحديث إسناده ضعيف.
(4) كذا قال ابن تيمية، وأخرجه ابن عدي في “الكامل”: (4/ 210) بنحوه من حديث محاذ بن جبل؛ لكنه من طريق عبد الله بن خراش عن العوَّام بن حوشب، وأحاديثه عامتها مناكير. وزاد فيه بعد أصحابي: “وأصهاري”.
(1/120)
وقال: “لَعَنَ اللهُ مَنْ سَبَّ أصْحابي” رواه الزُّبيري (1).
وغير ذلك من السنة.
وإذا كان شتمهم بهذه المثابة، فأقل ما فيه التعزيرُ، وهذا مما لا نعلم فيه خِلافًا بين أهل الفقه والعلم من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – والتابعين لهم بإحسانٍ. وسائرُ أهل السنة والجماعة مجمعون على أن الواجبَ الثناءُ عليهم والاستغفار لهم والترحُّم عليهم، والترضِّي عنهم، واعتقاد محبتهم وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول.
فمن قال: لا يقتل بشتمهم لقوله: “لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ” (2) الحديث، ولأن بعضهم ربما سبَّ بعضًا (3) ولم يُكفَّر أحدٌ بذلك.
ومن قال: يُقتل السابُّ أو يكفر؛ فاحتجُّوا بأَشياء:
منها: قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ (4) … } الآية [الفتح: 29].
__________
(1) عن محمد بن خالد عن عطاء بن أبي رباح به، مرسلًا أخرجه اللالكائي: (7/ 1248). وأخرجه الترمذي رقم (3958) والبزار “الكشف: 3/ 293 – 294″، والطبراني في “الكبير”: (12/ 434)، واللالكائي: (7/ 1248)، والضياء في “النهي عن سب الأصحاب”: رقم (7) مرفوعًا عن ابن عمر، وهو من مفاريد سيف ابن عمر.
قال الترمذي: “هذا حديث منكر” اهـ أي: من هذه الطريق المرفوعة عن ابن عمر، وللحديث شاهدان من حديث أنسٍ وأبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري رقم (6878)، ومسلم رقم (1676) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -. وجاء من حديث جماعة من الصحابة.
(3) في الأصل: “بعض”.
(4) في الأصل: “آمنوا معه” وهو سبق قلم.
(1/121)
فمن غِيظَ بهم فقد شارك الكفَّار فيما أذلَّهم الله به وأخزاهم وكَبَتَهم، ومن شارك الكفار فيما كُبِتُوا به جزاءً لكفرهم فهو كافرٌ مثلهم؛ لأن المؤمن لا يُكْبَت جزاءً للكفر. يوضّحه أنه علّق الحكم بوصفٍ مشتق مناسبٍ؛ لأن الكفر مناسب لأن يُغاضَ صاحبُه، فإذا كان هو الموجب لأن يُغاظ صاحبه بأصحاب محمد، فكل من غاضَه اللهُ بهم فقد وُجدَ في حقَّه موجِبُ ذاك وهو الكفر، وهذا معنى قول الإمام أحمد “ما أُرَاهَ على الإسلام” (1) – يعني الرافضي -.
ومن ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: “من أَبْغَضَهم فقد أَبْغَضَني، ومن آذَاهم فَقَد آذاني، ومَنْ سَبَّهم فَعَليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ، لا يَقْبَل اللهُ مِنه صرفًا ولا عَدْلًا” (2)، وأذى الله ورسوله كُفْر، وبهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار الصحبة وأذى سائر المسلمين، وبين أذاهم بعد ثبوت الصحبةِ، فإن من كان على صحبته ومات عليها فإن أذاه أذى مصحوبه، قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: “اعتبروا الناسَ بأخْدَانِهم” (3)، كما قيل:
عن المرءِ لا تسألْ وسَلْ عن قريْنِه … فكُلُّ قريْنٍ بالمُقَارِنِ يَقْتَدي (4)
وقال مالك: هؤلاء قومٌ أرادوا قدح الرسول فما أمكنهم فقدحوا في أصحابه، حتى يقال: رجلُ سوءٍ كان له أصحاب سوءٍ.
قال ابن عمر: “لا تسبُّوا أصحابَ محمدٍ، فإن مُقَام أحدهم خير
__________
(1) كما تقدم ص/ 118.
(2) مضى تخريجه. ص/ 120.
(3) رواه ابن بطة في “الإبانة”: (2/ 439) تحقيق رضا نعسان.
(4) البيت لعدي بن زيد العِبَادي، انظر “عيون الأخبار”: (3/ 79)، و”بهجة المجالس”: (1/ 2/ 705).
(1/122)
[من] عملكم [كلِّه] ” (1).
وقال عليٌّ: “إنه لعهد عَهدَه إليَّ رسولُ اللهِ: أنَّه لا يُحِبُّك إلا مؤمنٌ ولا يُبْغِضُك إلا مُنَافقٌ” رواه مسلم (2).
وفي “الصحيحين” (3): “آية الإيمان حُبُّ الأنصارِ، وآيةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنْصارِ”.
وفيهما (4): ” [الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق] (5)، من أحبَّهم أحبَّه الله ومن أبغضهم أبغضه الله”.
فمن سبَّهم فقد زاد على بغضهم، فيجب أن يكون منافقًا، وإنما خصَّ الأنصار؛ لأنهم هم الذين تبوَّءُوا الدارَ والإيمانَ من قبل المهاجرين، وآووا رسولَ الله ونصروه ومنعوه، وبذلوا نفوسهم وأموالهم في إقامة دينه، وعادوا الأحمرَ والأسودَ من أجله، والمهاجرين واسَوْهم في الأموال، وكان المهاجرون قليلًا (6) غُرباءَ فقراءَ مستضعَفين. وأرادَ أن يُعَرِّف الناسَ قدْرَ الأنصارِ، لعلمه أن الناس يكثرون والأنصار يقلُّون، وأن الأمر سيكون في المهاجرين، فكلُّ من شارك الأنصار في نصر الله
__________
(1) رواه ابن ماجه في مقدمة السنن رقم (162)، والإمام أحمد في “الفضائل”: (1/ 57)، وابن أبي عاصم في “السنة”: (2/ 470 رقم 1006) وسنده صحيح.
(2) رقم (78).
(3) البخاري رقم (17)، ومسلم رقم (74) من حديث أنسٍ – رضي الله عنه -.
(4) البخاري رقم (3783)، ومسلم رقم (75) من حديث البراء – رضي الله عنه -.
(5) في الأصل: “آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغضهم … ” وهو تكرار للحديث السابق والتصويب من “الصارم” و”الصحيح”.
(6) في الأصل: “قيلًا” سبق قلم.
(1/123)
ورسوله بما أمكنه؛ فهو شريكهم في الحقيقة، فبُغْضُ من نصرَ اللهَ ورسولَه نِفَاقٌ، يدخل في ذلك كل الصحابة الذين نصروه، ومُبْغِضهم منافق كافر لما ذكرناه.
قال طلحةُ بن مصرِّف: “كان يقال: بُغض بني هاشم نفاق، وبُغْض أبي بكرٍ وعمر نفاق، والشاكُّ في أبي بكرٍ كالشاكِّ في السنة” (1).
قال عليُّ بن أبي طالب: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يظهر في أمتي في آخر الزمانِ قومٌ يُسَمَّونَ الرافضةَ يَرْفُضون الإسلامَ” رواه عبد الله بن أحمد في “المسند” (2) عن كثير النَّوَّاء، عن إبراهيم بن الحسن عن أبيه عن جدِّه عن عليٍّ فذكره (3).
وهو في السنن (4) من وجوهٍ صحيحة، وكثيرٌ يضعَّف (5).
وروى أبو يحيى الحِمَّاني عن عليًّ قال: قال لي النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “يا علي! أنتَ وشِيْعَتكَ في الجنةِ، وإن قومًا لهم نَبْزٌ يقال لهم: الرافضةُ، إن أدركتَهم فاقتلهم فإنهم مشركون”. قال علي: ينتحلون حبَّ أهل البيتِ وليسوا كذلك، وآيةُ ذلك أنَّهم يشتمون أبا بكرٍ وعمر – رضي الله عنهما -. رواه عبد الله بن أحمد (6).
__________
(1) رواه أحمد في “الفضائل”: (2/ 968)، و”اللالكائي”: (7/ 1266)، وأخرجه الخلال في “السنة”: (1/ 290 رقم 353) بنحوه عن محارب بن دثار.
(2) (1/ 103) وهو من زوائده، وضعفه الشيخ أحمد شاكر رقم (808).
(3) وأخرجه عبد الله بن أحمد في “السنة”: (2/ 546)، وابن أبي عاصم: (2/ 460).
(4) غير بينة في الأصل، وفي “الصارم”: “السنة”.
(5) انظر “تهذيب التهذيب”: (8/ 411).
(6) في “السنة”: (2/ 547 – 548)، وابن عدي في “الكامل”: (7/ 213) وهو =
(1/124)
وفي لفظٍ: “يكون بَعْدنا قومٌ يَنْتَحِلُون مَوَدَّتنا يكذبون علينا، مارِقَةٌ، آيةُ ذلك أنَّهم يسبُّون أبا بكرٍ وعمرَ” (1).
ورواه البغوي (2)، وفيه: “أيْنَما أدْرَكتموهُم فاقْتُلُوهُم فإِنَّهم مُشْرِكُونَ”.
ورُوِي موقوفًا علَى علِيٍّ (3) ومرفوعًا.
ورواه ابنُ بطة (4) عن أنسٍ قال: قال رسول الله: “إنَّ الله اختارني واختارَ لي أصحابي، فجعلهم أنصاري وجعلهم أصهاري، وإنَّه سيجيءُ آخِرُ الزمانِ قومٌ ينتقصونهم، أَلا فلا تُواكِلوهم ولا تُشارِبُوهم، ألا فلا تُنَاكِحُوهُم، ألا فلا تُصَلُّوا معهم ولا تُصَلُّوا عليهم، عليهم حَلَّتِ اللعنةُ” (5) وفيه نظرٌ.
ورُوي أضعف من ذلك عن أبي هريرة (6)، لكن هذا مأثور عن الصحابة، فرُوي عن عليٍّ أنه بلغه أن عبد الله بن السوداء ينتقص أبا بكرٍ
__________
= منكرات أبي جناب الكلبي.
(1) رواه اللالكائي: (8/ 1454).
(2) كما ذكر شيخ الإسلام، وأخرجه اللالكائي – أيضًا -: (8/ 1456)، وفيه ما تقدم من الضعف.
(3) أخرجه اللالكائي: (8/ 1456).
(4) ليس فيما طبع من “الإبانة”.
(5) أخرجه الخلال في “السنة”: (2/ 483 رقم 769)، والعقيلي في “الضعفاء”: (1/ 126)، وابن حبان في “المجروحين”: (1/ 187). وهو خبر باطل كما قال ابن حبان.
(6) رواه ابن البناء بلفظ “لا تسبوا أصحابي فإن كفارتَهم القتل” كما في “الصارم”: (3/ 1099).
(1/125)
وعمر فهمَّ بقتلِه (1). وهذا محفوظٌ عن أبي الأحوص، ورواه النجَّاد وابن بطَّة واللالكائي (2) وغيرهم.
ومراسيل إبراهيم جِياد، ولا يُظْهِر عليٌّ أنه همَّ بقتل رجلٍ إلا وهو حلال قتله عنده، وإنما تركه خوف الفتنة، كما أمسك رسولُ الله عن قتل بعض المنافقين.
وقال عبد الرحمن بن أبْزَى: “لو سمعت رجلًا يسبُّ عمرَ لضربتُ عُنقه” (3)، وعبد الرحمن صحابيٌّ مشهور، كان عاملًا على مكة (4)، واستعمله عليٌّ على خراسان.
وقال علي: “لا يُفَضِّلُنِي أحدٌ على أبي بكرٍ وعمرَ إلا جَلَدْتُه جَلْد المفتري، خيرُ الناسِ بعد رسول الله أبو بكرٍ ثمَّ عمر” (5). رواه عبد الله بن أحمد وابن بطة وغيرهما، والآثار في ذلك كثيرة جدًّا.
__________
(1) أخرجه اللالكائي: (7/ 1264).
(2) تحرفت في الأصل إلى: “اللاكي”.
(3) أخرجه الخلال في “السنة”: (1/ 255) بنحوه.
(4) لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه -.
(5) هذان أثران عن علي – رضي الله عنه – جمعها المؤلف في سياقٍ واحد. الأثر الأول ينتهي عند قوله “المفتري” أخرجه أحمد في “الفضائل”: (1/ 83)، وعبد الله بن أحمد في “السنة”: (2/ 562).
والأثر الثاني قوله: “بلغني أن قومًا يفضلوني على أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – ولو كنت تقدمت في هذا لعاقبت فيه، ولكني أكره العقوبة قبل التقدم، ومن قال شيئًا من ذلك فهو مفترٍ، عليه ما على المفتري، خير الناس … ” إلى آخره. أخرجه أحمد في “الفضائل”: (1/ 336)، وابنه في “السنة”: (2/ 588) وغيرهما.
(1/126)
وروى الإمام أحمد (1) بإسنادٍ صحيح عن ابن أبي ليلى قال: تَدَارَوا (2) في أبي بكرٍ وعمر، فقال رجلٌ: عمر أفضل من أبي بكر، وقال الجارود (3): بل أبو بكرٍ أفضل منه. فبلغ عمر، قال: فجعل [يضربه] ضربًا بالدَّرَّة حتى شَغَر (4) برجليه، ثم أقبل إلى الجارود فقال: إليك عنَّي، ثم قال عمر: أبو بكر كان خير الناسِ بعدَ رسول الله في كذا وكذا، ثم قال: من قال غيرَ هذا أقمنا عليه حدَّ المفتري.
فإذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعليٌّ – رضي الله عنهما – يجلدان لمن يُفَضِّل عليًّا على أبي بكرٍ وعمرَ، أو يُفضِّل عمر على أبي بكرٍ، وليس في ذلك سبٌّ = عُلِمَ أن عقوبة السبِّ عندهما فوقَ ذلك بكثير.
فصلٌ (5)
وتفصيل القول في ذلك:
أن من اقترن بسبَّه دعوى أن عليًّا إله، أو أنه نبيٌّ وأن جبريل غَلِطَ؛ فلا شكَّ في كفر هذا، بل لا شكَّ في كفر من توقَّف في تكفيره.
وكذلك من زعم أن القرآن نُقِصَ منه شيءٌ وكُتِم، أو أن له تأويلات
__________
(1) في “الفضائل”: (1/ 300)، وابنه في “السنة”: (2/ 579).
(2) أي: تماروا، وزنًا ومعنى.
(3) الجارود بن المعلَّى، سيد عبد القيس، أسلم عام الوفود، واستشهد في نهاوند، انظر “الإصابة”: (1/ 216).
(4) تحرك واضطرب.
(5) “الصارم”: (3/ 1107).
(1/127)
باطنة تُسْقِط الأعمالَ المشروعةَ، ونحو ذلك، وهذا قول القرامطة والباطنية، ومنهم التناسخيَّة، ولا خلاف في كفر هؤلاء كلِّهم.
وأما من سبَّهم سبًّا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم ببُخْل، أو جُبْن، أو قِلَّة علمٍ، أو عدم زُهْدٍ، ونحوه، فهذا يستحق التأديبَ والتعزيرَ، ولا يكفر، وعلى ذلك يُحمل كلام من لم يُكفَّرهم من العلماء.
وأما من لعنَ وقَبَّحَ مُطلقًا؛ فهذا محلُّ الخلاف، لتردُّد الأمر بَيْن لعنِ الغيظِ، ولعن الاعتقاد.
وأما من جاوزَ ذلك إلى أن زعم: أنهم ارتدُّوا بعد رسول الله إلا نفرًا قليلًا لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فَسَقوا؛ فلا ريب – أيضًا – في كفر قائل ذلك، بل من شكَّ في كفره فهو كافر.
وهؤلاء قد ظهرَ لله فيهم مَثُلات، وتواتر أن وجوههم تُمْسَخ خنازير في المحيا والممات (1).
وبالجملة؛ فمِنْ أصناف السَّابَّةِ من لا ريب في كفره، ومنهم من لا يُحْكم بكفره، ومنهم من يُتَرَدَّد فيه، وليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك، ولو تقصَّيناه، لطال جدًّا؛ لكن هذا بحسب (2) ما اقتضاه الحال، والله أعلم.
* * *
__________
(1) وانظر ما ذكره شيخ الاسلام في “منهاج السنة”: (1/ 485).
(2) ويحتمل أن تقرأ: “بحيث”.
(1/128)
اختصره كاتبه محمد بن علي بن محمد [في شهر الحجة سنة ثلاثين وسبع مئة، وحسبنا الله ونعم الوكيل (1)،] انتهى “مختصر الصارم المسلول” في شهر القعدة سنة ثلاثين وسبع مئة.
* * *
__________
(1) العبارة غير واضحة في الأصل، وهي مشكلة إذا نظرنا إلى التاريخين المدوّنين، ولعل أحدهما متأخر في كتابته عن الآخر، أو في العبارة تحريف لم أهتد إليه.
(1/129)
فهرس المراجع
– الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، لأبي عبد الله بن بطة العكبري، دار الراية.
– الإجماع، لأبي بكر بن المنذر، دار الكتب العلمية.
– الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرناووط، مؤسسة الرسالة.
– أخلاق النبي – صلى الله عليه وسلم -، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق الونيان، دار المسلم.
– الأرشاد، للشريف محمد بن أبي موسى الهاشمي، تحقيق د/ عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة.
– إرشاد الطالبين (معجم شيوخ ابن ظهيرة)، مخطوط.
– أسباب النزول، للواحدي، تحقيق السيد أحمد صقر، دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن ط. 3, 1407.
– الإشراف على مذاهب أهل العلم، لأبي بكر بن المنذر، تحقيق محمد نجيب سراج الدين، دار الثقافة بقطر، ط، 1، 1406.
– الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، دار الفكر، 1389.
– الأعلام، للزركلي، دار العلم للملايين، ط، 8، 1409.
– الإقناع، لابن المنذر، تحقيق الجبرين، مكتبة الرشد، ط، 3، 1418.
– الأم، للإمام الشافعي، تصحيح محمد زهري النجار، مصورة دار المعرفة.
– إنباء الغمر بأبناء العمر، لابن حجر، مصورة عن الهندية.
– الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، تحقيق الفقي، ط 1، 1375.
– الأوسط، لابن المنذر، تحقيق صغير أحمد، دار طيبة.
– بَهجة المَجالس وأُنس المُجالس، لابن عبد البر، تحقيق الخولي، دار الكتب العلمية.
– تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، مصورة دار الكتب العلمية.
– تاريخ ابن قاضي شهبة، تحقيق عدنان درويش، المعهد الفرنسي للدراسات العربية.
– التاريخ الكبير، للإمام البخاري، دائرة المعارف العثمانية.
– تحفة التحصيل في أحكام المراسيل، لأبي زرعة العراقي، (مخطوط).
– ترتيب المدارك، للقاضي عياض، وزارة الأوقاف بالمغرب، ط، 2، 1403.
– التسهيل في تراجم الحنابلة، لابن عثيمين، (مخطوط).
(1/131)
– التسهيل في الفقه على مذهب أحمد، للبعلي الحنبلي، تحقيق الطيار، دار العاصمة ط، 2، 1417.
– تعظيم قدرة الصلاة، لمحمد بن نصر المروزي، تحقيق الفريوائي، دار الصميعي.
– تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، دار المعرفة.
– تقريب التهذيب، لابن حجر، طبعة دار الرشيد، ودار العاصمة.
– تهذيب التهذيب، لابن حجر، مصورة عن الهندية.
– الثقات، لابن حبان، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية.
– الجامع، لمحمد بن عيسى الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، دار الكتب العلمية.
– جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية.
– جامع التحصيل في أحكام المراسيل، للعلائي، تحقيق حمدي السلفي، مكتبة الرشد.
– الجامع (أحكام أهل الملل) للخلَّال، تحقيق السلطان، مكتبة المعارف الرياض.
– الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، ط 1، 1420.
– جزء لا تسبوا أصحابي، لابن حجر، تحقيق مشهور سلمان، ط 1، 1408.
– الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، للمعافي النهرواني، تحقيق الخولي وإحسان عباس، عالم الكتب.
– حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصفهاني، دار الريان والكتاب العربي، ط 5, 1407.
– الدارس في تاريخ المدارس، للنُّعيمي، تحقيق الحسيني، تصوير دار الثقافة الدينية.
– الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1411.
– الدر المنضد في تراجم أصحاب أحمد، للعليمي، تحقيق عبد الرحمن العثيمين، مكتبة التوبة.
– الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، لابن حجر، تحقيق كرنكو.
– ديوان حسان بن ثابت – رضي الله عنه – دار صادر، تحقيق د/ وليد عرفات.
– الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب الحنبلي، تحقيق الفقي، تصوير دار المعرفة.
– روضة الطالبين وعمدة المفتين، للنووي، المكتب الإسلامي.
– زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، مؤسسة الرسالة.
(1/132)
– السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، لابن حميد، تحقيق العثيمين وبكر أبو زيد، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1416.
– سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني، مكتبة المعارف.
– السنن لأبي داود، تحقيق الدعَّاس، دار الحديث، ط 1، 1388.
– السنن للنسائي، بحاشية السندي وشرح السيوطي – تصوير دار الريان.
– السنن، لابن ماجه، تحقيق عبد الباقي، دار الريان.
– السنن الكبرى، للنسائي، دار الكتب العلمية.
– السنن الكبرى، للبيهقي، مصورة دار المعرفة.
– السنن للدارمي، دار الريان.
– السنة لابن أبي عاصم، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي.
– السنة لعبد الله بن أحمد، تحقيق د/ محمد القحطاني، رمادي للنشر.
– السنة، للخلّال، تحقيق الزهراني، دار الراية.
– سير أعلام النبلاء، للذهبي، مؤسسة الرسالة، ط 6، 1409.
– السيرة النبوية، لابن هشام، مكتبة البابي الحلبي، ط 2، 1375.
– شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد، دار الفكر، 1408.
– شرح أصول اعتقاد أهل السنة، لأبي القاسم اللالكائي، تحقيق أحمد سعد حمدان، دار طيبة.
– شرح الشفا، للملا علي القاري، دار الكتب العلمية.
– شرح علل الترمذي، لابن رجب، تحقيق همام سعيد، مكتبة المنار الزرقاء، ط 1، 1407.
– الشريعة، لأبي بكر الآجرّي، تحقيق د/ عبد الله الدميجي، دار الوطن.
– الصارم المسلول على شاتم الرسول – صلى الله عليه وسلم -، لابن تيمية، تحقيق الحلواني وشودري، رمادي للنشر، ط 1, 1417.
– صبح الأعشى في صناعة الإنشا، للقلقشندي.
– صحيح مسلم، للإمام مسلم، ترقيم عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
– الضعفاء، للعقيلي، دار الكتب العلمية.
(1/133)
– الطبقات الكبرى، لابن سعد، دار صادر.
– طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، تحقيق د/ عبد الرحمن العثيمين.
– طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، تحقيق الطناحي والحلو.
– علماء بغداد في القرن الرابع عشر الهجري، ليونس السامرائي.
– علماء نجد خلال ثمانية قرون، للبسَّام، دار العاصمة.
– عيون الأخبار، لابن قتيبة، دار الكتب العلمية.
– فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر، دار الريان للتراث.
– فضائل الصحابة، للإمام أحمد، تحقيق وصيّ الله عباس، جامعة أم القرى.
– فهرس مكتبة برلين.
– قصص لا تثبت، ليوسف العتيق، دار الصميعي.
– قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة، للسيوطي، المكتب الإسلامي، ط 1، 1405.
– الكامل في ضعفاء الرجال، لأبي أحمد بن عدي، دار الكتب العلمية.
– كشف الأستار عن زوائد البزار، للهيثمي، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1403.
– المجروحين، لابن حبان، دار الوعي بحلب، ط 2، 1402.
– مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، نشر مؤسسة المعارف.
– مجموع الفتاوى، لابن تيمية، جمع ابن قاسم، تصوير عالم الكتب.
– المحلّى، لابن حزم الظاهري، تحقيق أحمد شاكر، دار التراث.
– المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل، لبكر أبو زيد، دار العاصمة، ط 1، 1417.
– المرشد الوجير إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، لأبي شامة المقدسي، تحقيق طيار آلتي قولاج، دار صادر.
– المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، مصورة عن دائرة المعارف العثمانية.
– مسند الإمام أحمد، المكتب الإسلامي.
– مسند أبي داود الطيالسي، مصورة الطبعة الهندية.
(1/134)
– مصنّف عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق الأعظمي، المكتب الإسلامي.
– المطالب العالية (المسندة)، لابن حجر، دار الوطن.
– معالم السنن، للخطابي، مع مختصر المنذري، تحقيق الفقي وأحمد شاكر.
– المعجم الأوسط، للطبراني، تحقيق الطحان، دار المعارف الرياض.
– المعجم الصغير، للطبراني، دار الكتب العلمية.
– المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، مكتبة ابن تيمية.
– معجم المؤلفين، لعمر كحالة، مكتبة المثنَّى.
– معرفة الصحابة، لأبي نعيم، تحقيق العزّازي، دار الوطن.
– المغني، لابن قدامة، تحقيق الحلو والتركي، توزيع وزارة الأوقاف بالمملكة.
– مغني المحتاج، للشربيني.
– المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، للعليمي، دار صادر، ط 1.
– الموضوعات، لابن الجوزي، المكتبة السلفية بالمدينة.
– ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق البجاوي.
– النهي عن سب الأصحاب، للمقدسي، مكتبة العروبة الكويت، ط 1.
-الهداية، لأبي الخطاب الكلوذاني، تحقيق إسماعيل الأنصاري، ط 1، 1390.
– الوفيات، لابن رافع السلامي، تحقيق صالح عباس ورفاقه، مؤسسة الرسالة.
(1/135)
http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم [آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (7)]اختصره: محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي (ت 778) المحقق: علي بن محمد العمران راجعه: محمد أجمل الإصلاحي الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الصفحات: 135 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (7)
مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول – صلى الله عليه وسلم –
لشيخ الإسلام ابن تيمية
اختصره
العلامة محمد بن على بن محمد البعلي الحنبلي ت (778)
تحقيق
علي بن محمد العمران
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم – دار ابن حزم
(1/1)
راجع هذا الجزء
محمد أجمل الإصلاحي
(1/3)
مقَدّمةُ التَّحقيق
نحمدك اللهم على ما أنعمتَ به علينا من بِعْثة هذا النبي الأُمِّي الخاتم، الرؤوف الرحيم، قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، فاللهم إنا نشهد أنه أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، وقام في أمته أصدق قيام:
فما حملتْ من ناقةٍ فوقَ رحلها … أبرَّ وأوفى ذمةً من محمد
فَتَرَكَنا على طريقٍ سويٍّ، ومحجَّة بيضاء، وصراطٍ مستقيم، فاجْزِه اللهمّ خير ما جزيتَ نبيًّا عن أُمته.
ثم نحمدك على ما يسَّرت على يديه من الهدى بعد الضلال، والنور بعد الظلام، والرَّشَد بعد الغواية، والعلم بعد الجهالة، والرِّفعة بعد الذلة، والتبصُّر بعد العماية.
أما بعد؛ فمن واجبات الدين المتحتِّمات تعزير نبيِّنا وتوقيره ومحبته وطاعة أمره، بل لا يكمل إيمانُ المرء حتى يكون هو “أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين”. كما أوجب علينا أيضًا أحكامًا أخرى في عقوبة من سبَّه أو أهانه أو استهْزَأ به، أو خالف أمره، أو ابتدع طريقة غير طريقته = حمايةً لجنابه الكريم، وتقديسًا لذاته الشريفة، وتنزيهًا لعِرْضه النقي، وصيانة لجاهه العَلِيّ، وحِياطة للشريعة التي جاء بها.
وهذه الأَحكام جميعها بيَّنها العلماءُ في بحوث مستفيضة في مصنفاتهم الفقهية في (أبواب الردة) وفي كتب العقائد، وفي مصنفاتٍ
(1/5)
مستقلة. وكان من أعظم هذه التصانيف – إن لم يكن أعظمها مطلقًا – كتاب “الصارم المسلول على شاتم الرسول – صلى الله عليه وسلم -“، لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية (728) – رحمة الله عليه – وكان تصنيفه له عام 693 لحادث اقتضى ذلك (1).
وقد نثر – رحمه الله – كنانته في جميع مباحث الكتاب ومسائله؛ فحقق وحرَّر، وناقش ودلَّل، وتوسَّع في نقل المذاهب واستطرد، وأتى بما أعجز العلماء عن الدفع والرد، فرجَّح واختار واحتج، فحدِّث عن البحر ولا حرج.
ولعل في الحادثة المشار إليها قريبًا التي اقتضت تأليف الكتاب حافزًا قويًّا لهذا التوسُّع والاستطراد.
وعليه؛ فالكتاب بحاجة إلى شيءٍ من التهذيب والانتقاء حتى يتسنَّى لعموم الناس الانتفاع به والإفادة منه بأقرب طريق، وذلك بتقريب مسائله، وإبراز مقاصده، وتقليل صفحاته (2).
فاعتنى بهذا الأمر الشيخُ العلامةُ الفقيه محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي المتوفى سنة (778). والبعليُّ أدرك من حياة شيخ الإسلام بضع عشرة سنة على أقل تقدير، بل تتلمذ لمن توفي قبله مثل اليونيني ت (726)، إلا أن الجزم بأنه أخذ عنه أو لقيه بعيد، ولئن فاته ذلك إلا أنه قد أخذ عن تلاميذ شيخ الإسلام مثل ابن القيم وابن عبد الهادي – كما سيأتي – فهو سليل تلك المدرسة المباركة.
__________
(1) انظر الخبر مفصلًا في “الجامع لسيرة شيخ الإسلام”: (ص/ 344 – 345).
(2) ومما يؤيد هذه الحاجة: أن الدكتور صلاح الصاوي قد اختصر الكتاب، ولم أقف عليه.
(1/6)
وللبعلي – أيضًا – عنايةٌ خاصة بكتب شيخ الإسلام واختصارها، فقد اختصر أربعة من كتبه هي “الفتاوى المصرية”، و”الصارم”، و”الاقتضاء”، و”إبطال التحليل” كما سيأتي في ذكر مصنفاته.
وقد وقفت – بحمد الله – على مجموعٍ نفيس يضمُّ هذه المختصرات بخط مؤلفه، فكان من المحفِّزات على صرف شيءٍ من الوقت للعناية بها، فبدأت بهذا المختصر، وثنَّيتُ بمختصر “الاقتضاء” المسمَّى: “المنهج القويم في اختصار الصراط المستقيم”. وثلَّثت بـ “مختصر الإبطال” المسمَّى: “شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل”، أما “مختصر الفتاوى” فهو مطبوع وإن كان بحاجة إلى مُعَارضته بأصل مؤلفه.
وقد قدمت له بمقدمة لخَّصْتُ فيها فصلًا في تكفير السابّ والمستهزئ بالله أو رسوله، والرد على شُبه المرجئة وأتباعهم، وترجمتُ للمؤلف، وعرّفت بالكتاب وعملي فيه، أسأل الله أن ينفع بهذا المختصر كما نفع بأصله، وأن يكتب الأجر للجميع، مؤلفه ومختصره والمُعْتني به، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
عليُّ بن محمد العمران
19/ 2/ 1421
في مكة المكرمة حرسها الله تعالى
ص. ب (2928)
(1/7)
فصل: في كفر الساب والمستهزئ بالله أو رسوله والرد على المرجئة وأتباعهم
من المسائل المهمة التي حرَّرها شيخ الإسلام في “الصارم” مسألة السبّ (سبّ الله أو رسوله) وأنه كُفْرٌ ظاهرًا وباطنًا، سواءٌ اعتقدَ السابُّ تحريم ذلك أو استحلاله، أو كان ذاهِلًا عن اعتقاده.
قال شيخ الإسلام: “وهذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة، القائلين بأن الإيمان قولٌ وعمل”.
ثم ذكر بعض نصوصهم في إثبات ذلك، ثم أجابَ عن شُبَه من قال: إنما يكفر مُسْتحلُّ السبِّ، وبيَّن أن هذا قول الجهميَّة الإناث والمرجئة القائلين بأن الإيمان هو مجرَّد التصديق بالقلب وإن لم يُقارنه قولُ اللسان، ولم يقتضِ عملَ القلبِ والجوارحِ.
ولأهمية هذه المسألة، ولانزلاق بعض العصريين فيها، ومتابعتهم لقول أهل البدع من المرجئة والكرّامية، وعدم فهمهم لمذهب أهل السنة والجماعة بسبب هوًى أو شبهة = نلخِّص ما ذكره الشيخ في الأصل – إذ اختصره المصنّف – لعل الله أن ينفع به من شاء من عباده.
قال الشيخ ما ملخصه مع بعض التصرُّف (1): وهذا موضع لا بدَّ من
__________
(1) البحث في “الصارم”: (3/ 960 – 976).
(1/8)
تحريره، ويجب أن يُعْلَم أن القولَ بأن كفر السابِّ في نفس الأمر إنما هو لاستحلالِه السبَّ زلةٌ منكرةٌ وهفوةٌ عظيمةٌ … وإنما أوقع من وقع في هذه المهواة ما تلقَّوْه من كلامِ طائفةٍ من متأخري المتكلِّمين الذين ذهبوا مذهبَ الجهمية الأولى …
وليس الغرض استيفاء الكلام، وإنما الغرضُ التنبيهُ على ما يخصُّ هذه المسألة، وذلك من وجوه:
أحدها: أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء: “أنه إن كان (أي: السابّ) مُسْتحلًّا كفر وإلا فلا”، ليس لها أصلٌ، وإنما نقلَها القاضي (يعني: أبا يعلى) من كتاب بعض المتكلمين الذين حكَوْها عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريًا في أُصولهم، أو بما سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يُعَدّ قولُه قولًا … فلا يظن ظانٌّ أن في المسألةِ خلافًا يجعلُ المسألةَ من مسائل الخلافِ والاجتهاد، وإنما ذلك غلط، لا يستطيع أحدٌ أن يحكيَ عن واحدٍ من الفقهاء وأئمة الفتوى هذا التفصيلَ أَلْبتةَ.
الوجه الثاني: إذا كان سبب الكفر هو الاستحلالُ، فلا فرقَ في ذلك بين سبِّ النبيَّ وبين قذفِ المؤمنين والكذبِ عليهم والغيبةِ لهم، إلى غير ذلك من الأقوال المعلوم تحريمها، فإن من فعل شيئًا من ذلك مُسْتحلًا كَفَر.
الوجه الثالث: إذا كان ذلك كذلك، فلا أثر إذن للسَّبِّ في التكفير وجودًا وعدمًا، فالمؤثِّر – على ما زعموا – هو الاعتقادُ والاستحلالُ. وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء؛ إذ أجمعوا على كفر السابّ استحلّ أو لم يستحلّ.
(1/9)
الوجه الرابع: أن يقال: إذا كان المكفِّر هو اعتقاد حِلِّ السبِّ، فليس في مجرَّد السبِّ استحلالٌ، فينبغي – على قولهم – ألا يُكفَّر، خاصةً إذا قال: أنا أعرفُ أنه حرامٌ، لكن قلتُه عبثًا ولعبًا، أو غيظًا وسَفَهًا (1).
فيقال لهم: ما تقولون في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}. فإن قالوا: لا يكفرون، قلنا: هذا خلاف نص القرآن، وإن كفَّرتموهم، فهو تكفير بلا مُوْجِب إذا لم يُجعل نفسُ السبِّ مكفِّرًا، وكذا في قوله: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} كفَّرهم بذلك القول الذي صدر منهم، ولم يقل: قد كذبتم في قولكم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
فتبيَّن أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة (أي: السب) في نفسها كفر، استحلَّها صاحبُها أو لم يستحلَّ، والدليل عليه جميع ما قدمنا في المسألة الأولى (2) من الآيات والأحاديث، فإنها أدلة بيّنة على أن نفس أذى الله ورسوله كُفْر، مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجودًا وعدمًا.
ثم ذكر الشيخ – رحمه الله – منشأ هذه الشبهة عند المتكلمين أو من حذا حذوهم، فذكر شبهتين:
1 – أنهم رأوا أن الإيمان هو التصديق، وأن اعتقاد صدقه (أي: الرسول) لا يُنافي السبَّ والشتم، فإن الإنسان قد يهينُ من يعتقد وجوب
__________
(1) أو سوء تربية، على قول البعض.
(2) في “الصارم”: (2/ 58 – 378)، و”المختصر”: (ص / 31 – 77).
(1/10)
إكرامه، كما يترك ما يعتقد وجوب فعله، ثم رأوا أن الأمة قد كفَّرت السابّ، فقالوا: إنما كَفر لأن سبَّه دليل أنه لا يعتقد أنه حرام، واعتقاد حلِّه (أي: السبّ) تكذيب للرسول فكَفَر بالتكذيب لا بالإهانة، والإهانةُ دليل التكذيب، فإذا فُرِض أنه في نفس الأمر ليس بمكذِّب كان في نفس الأمر مؤمنًا، وإن كنَّا نحكم عليه بالظاهر. فهذا مأْخَذ المرجئة والكرّامية.
2 – وللجهمية مأْخَذٌ آخر، وهو أنه (أي: الساب) قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فإذا كان فيه التعظيم والتوقير للرسول لم يقدح إظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن.
وجواب الشبهة الأولى من وجوه:
الأول: أن الإيمان أصله تصديق القلب، وهذا التصديق لا بد أن يُوْرث حالًا له وعملًا، وهو تعظيمُ الرسول وإجلالُه ومحبتُه، وذلك أمر لازم كالتألُّم والتنعُّم عند الإحساس بالمؤلم والمنعم، كالنُّفْرة والشهوة عند الشعور بالملائم والمنافي. وإن لم تحصُل هذه الحال لم ينفع ذلك التصديق شيئًا. وإنما يمنع حصوله وجودُ المعارِض من حَسَد الرسول أو التكبُّر أو نحوه، بل يكون ذلك المعارِض موجبًا لعدم المعلولِ الذي هو حال القلب، فيزول التصديق الذي هو العلَّة، فيذهب الإيمان بالكلية من القلب، وهذا الموجب لكفر من حَسَد الأنبياء أو تكبَّر عليهم.
الثاني: أن يقال: كلامُ الله خَبَر وأَمْر، فالخبر يستوجب التصديق، والأمر يستوجب الانقياد والاستسلام، فإن حصل التصديق والانقياد حصلَ أصلُ الإيمان في القلب وهو الطمأنينة والإقرار.
(1/11)
فإذا تقرَّر ذلك؛ فالسبُّ إهانة واستخفاف، ومُحالٌ أن يُهينَ القلب أو يستخف بمن انقاد له وخَضَع واستسلم، فإذا حصل في القلب استخفافٌ واستهانة امتنع أن يكون فيه إيمان. وهذا بعينه كفر إبليس، إذ هو لم يُكذِّب خبرًا، ولكنه لم ينقد للأمر بل استكبر عن الطاعة.
قال شيخ الإسلام: وهذا موضع زاغ فيه خلقٌ من الخَلَف!
فإذا تقرَّر أنه لا بدَّ من اجتماع التصديق بالخبر والانقياد للأمر الذي هو موجبُ التصديق ومقتضاه وثمرتُه، فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذِّب له أو ممتنع عن الانقياد لربِّه، وكلاهما كفر صريح. ومن استخفَّ به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقادًا لأمرِه، فالانقياد إجلال وإكرام والاستخفاف إهانة وإذلال، وهما ضِدان، فمتى حصل في القلب أحدُهما انتفى الآخر، فَعُلِمَ أن الاستخفاف والاستهانة والسبّ تنافي الإيمان منافاة الضدِّ للضدِّ.
الثالث: التفريق بين من يفعلُ الذنبَ تشهِّيًا من غير معاندة أو جحودٍ أو استكبار، وبين من يفعله جُحودًا ومعاندةً.
ثم الامتناعُ والإباءُ من الفعل إما لخللٍ في اعتقاد حِكْمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفةٍ من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدِّق به تمرُّدًا أو اتباعًا لغرض النفس، وحقيقته كفرٌ. هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكلِّ ما أخبر به ويصدِّق بكلِّ ما يصدِّق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويُبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومُشْتهاه، ويقول: أنا لا أقرُّ بذلك ولا ألتزمه، وأُبغض هذا الحق وأنفر عنه. فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلومٌ بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع، بل عقوبته أشد.
(1/12)
أما إهانةُ الرجل من يعتقد وجوب كرامته كالوالدين ونحوهما؛ فلأنه لم يُهن من كان الانقياد له والإكرام شرطًا في إيمانه، وإنما أهان من إكرامه شرطٌ في بره وطاعته.
وجانب الله ورسوله إنما كَفَر فيه؛ لأنه لا يكون مؤمنًا حتى يصَدِّق تصديقًا يقتضي الخضوعَ والانقياد، فحيثُ لم يقتضِه لم يكن ذلك التصديقُ إيمانًا.
أما جواب الشبهة الثانية فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يلزم على قولهم هذا أن من تكلَّم بسائر أنواع الكفر والتكذيب والجحود يجوز أن يكون مؤمنًا في نفس الأمر! وهذا لا يقوله إلَّا من خلعَ رِبْقة الإسلام من عُنقه.
ثانيها: أن الذي عليه أهل السنة والجماعة أن ما في القلب من المعرفة لا ينفع العبدَ ما لم يتكلَّم بالإيمان، فالقولُ من القادر عليه شرطٌّ في صحة الإيمان، فأهل السنة مطبقون أن الإيمان قولٌ وعملٌ.
ثالثها: قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106].
فالمعنى: أن من تكلّم بكلمة الكفر فعليه غضبٌ من الله وله عذابٌ عظيم، وأنه كافر بذلك إِلا من أُكْرِه وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرًا من المُكْرَهين فإنه كافرٌ أيضًا، فصار كلُّ من تكلَّم بالكفر كافرًا إلا من أُكْرِه، فقال بلسانه كلمةَ الكفر، وقلبُه مطمئن بالإيمان.
(1/13)
إذن فلم يُرد بالكفر هنا اعتقادَ القلب، لأن ذلك لا يُكْرَه عليه الرجل، وإنما يُكره على القول فقط.
ومثله قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] فبيّن أنهم كفار بالقول.
وأخيرًا اعلم بأن الإيمان وإن قيل: هو التصديق، فالقلب يُصدِّق بالحق، والقول يصدق ما في القلب، والعمل يصدِّق القولَ، والتكذيب بالقول مُسْتلزم للتكذيب بالقلب، ورافعٌ للتصديق الذي كان في القلب، إذ أعمال الجوارح تؤثر في القلب كما أن أعمال القلب تؤثِّر في الجوارح، فأيهما قامَ به كُفْر تعدَّى حكُمه إلى الآخر (1).
انتهى ملخَّصًا، وفيه غُنْية لمن ألقى السمعَ وهو شهيد، والحمد لله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء وما ربك بظلَّامٍ للعبيد.
* * *
__________
(1) راجع لمزيد من التأصيل والاستدلال، والمناقشة والرد، وتفصيل ما أُجْمِل كتابَ “الإيمان الأوسط” لشيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -.
(1/14)
• ترجمة المؤلِّف (1)
* اسمه ومولده ونشأته
هو: محمد بن علي بن محمد (2) بن عمر بن يَعْلى البَعْلي الحنبلي، بدر الدين أبو عبد الله، الشهير بابن أسبا سلار (3).
هذا أتم سياق لنسبه، ساقه ابنُ حجر في “الدرر”.
وزاد في “الإنباء”: “اليونيني” نِسبةً إلى “يُونين” ويقال: “يونان”، وهي إحدى قرى بعلبكّ.
__________
(1) * مصادر ترجمته
“معجم ابن ظهيرة – إرشاد الطالبين”: (ق/ 138)، “الدرر الكامنة”: (4/ 84)، “إنباء الغمر”: (1/ 223)، “تاريخ ابن قاضي شُهْبة”: (1/ 242)، “المنهج الأحمد”: (5/ 146 – 147)، “مختصره”: (2/ 558 – 559)، “الجوهر المنضَّد”: (ص/ 144)، “شذرات الذهب”: (6/ 254 – 255)، “السحب الوابلة”: (3/ 1016 – 1017)، “الأعلام”: (6/ 286)، “معجم المؤلفين”: (11/ 46)، “التسهيل”: (مخطوط).
(2) غيَّره الزركلي في “الأعلام” إلى “أحمد”، وقال: إنه رآه بخطه كذلك! أقول: الزركلي متثبِّت في هذه القضايا، إلا أنني رأيتُ اسمه بخطه الواضح الذي لا لَبْس فيه هكذا: “محمد بن علي بن محمد الحنبلي” انظر المجموع الخطي الذي اعتمدنا عليه في إخراج هذا المختصر: (ق/ 20 ب، 143 أ، 177 أ).
(3) تعددت التحريفات في هذا اللقب؛ ففي “الدرر”: “اسبهادر”، و”الإنباء”: “اسلار”، وفي “السحب”: “الباسلار”، وفي “إرشاد الطالبين”: “المعروف بابن أفهلار”، ويشبه هذا التركيب لقب “اسْفَهْسِلار” ومعناه: مُقَدَّم العسكر، وهو مركب من لفظ فارسي، وهو “أسْفَه” ومعناه مقدَّم، ولفظ تركي وهو “سلار” ومعناه عَسْكَر، فلعله مصحف عنه، انظر “صبح الإعشى”: (6/ 7).
ثم وجدت البرزالي قد قال – كما نقله عنه ابن رافع في وفياته: 1/ 404 – : “اسفاسلار بقلعة بعلبك” فالله أعلم.
(1/15)
ووقع في “الجوهر المنضد”: “محمد بن حسن … ” ولقبه: “شمس الدين”! وهذا خلاف ما أجمعت عليه مصادر ترجمته، ولعله تحريف إما من ناسخ الكتاب أو مؤلِّفه، بدليل ما نقله المؤلفُ نفسُه عن ابن قاضي شُهْبَة في “تاريخه”.
قال ابنُ المَبْرَد: “”اسْبَا سلار” اسمٌ أعجمي ذكره الشيخ تقي الدين الجُراعي في “شرح التسهيل” مثل بهاء الدين ونحوه” اهـ
ولد المؤلف بالشام في مدينة بَعْلَبَكّ كما قال ابن ظهيرة، ولم ينص أحدٌ على تاريخ ولادته إلا الحافظ ابن حجر، فإنه قال في “إنباء الغمر”: “ولد سنة أربع عشرة وسبع مئة”.
وتوجَّه أبو عبد الله للطلب مبكِّرًا؛ إذ أخذ عن الشيخ المحدِّث المؤرِّخ قطب الدين أبي الفتح اليونيني، بَلَدِيِّه، المتوفى سنة (726)، بل أكثر عنه، فإن صحَّ ما قاله الحافظ ابن حجر في تاريخ ولادته، فإنه يكون قد لازم اليونينيَّ وهو دون العاشرة!
وقد سمَّى لنا ابنُ ظهيرة بعضَ مرويَّاته عن اليونيني، فذكر “جزء مطَيَّن” عن ابن رواح، و”جزءًا من حديث ابن زبر” قال: وغيرهما.
كما سمع – أيضًا – من جماعة من شيوخ بلده وغيرهم، فسمع من الحجَّار المُسْنِد المتوفى (730)، وتفقَّه بابن عبد الهادي ت (744)، وابن القيم ت (751) وكتب بخطِّه كثيرًا من العلم.
ويبدو أنه بدأ بسماع الأجزاء والعوالي ليدرك عُلوِّ الأسانيد ومشايخ الرِّواية، على طريقة العلماء في ذلك، ثم توجَّه إلى الفقه، فتفرَّغ له فَبَرَع فيه. وقد أثنى عليه العلماء – كما سيأتي – ووصفوه بالإمامة في الفقه
(1/16)
والفتوى، وتصدَّر لذلك، فأقْرَأ ببلده – بعلبكّ – بالجامع، بل أصبح عالمَ الحنابلة هناك وشيخَهم، وعليه مدار الفتوى، فسمعَ منه الكثيرُ من الفضلاء، وحدَّث، وممن أخذ عنه ابن ظهيرة (1) وغيره.
وَوُصِف بأنه “مُفيد النوريَّة” (2).
* صفاتُه وثناءُ العلماء عليه.
وُصف بأنه: طويل الروح، حسن الشكل، طوال، يخضِبُ بالحِنَّاء، فاضل، كثير الاستحضار، حسن العبارة.
ومن ثنائهم عليه:
قال ابن ظهيرة (817) – تلميذه -: “الإمام العلّامة، شيخ الحنابلة ببعلبكّ … وكان إمامًا عالمًا، عليه مدار الفتوى ببلده”، ومثله قال ابنُ حجر.
وقال ابنُ قاضي شُهْبة (851): “الشيخ الإمام العالم المفتي”.
وقال ابن المَبْرَد (909): “الشيخ الإمام العالم العلامة الفقيه الزَّكي المحصِّل”.
وقال مجير الدين العُلَيمي (928): “الشيخ الإمام العالم العلامة البارع الناقد المحقق … أحد مشايخ المذهب”، ومثله ابن العماد (1089) وابن حميد (1295) في “السحب”.
__________
(1) ذكره في معجم شيوخه “إرشاد الطالبين”.
(2) انظر عن المدرسة النورية “الدارس”: (1/ 99). ومصطلح “المفيد” عند المحدثين في مرتبة دون الحافظ وفوق المسْنِد.
(1/17)
* مصنَّفاته.
1 – ” التسهيل” (1)
مختصر في الفقه على الفتوى – في مذهب الحنابلة -، عبارته وجيزة مفيدة، وفيه من الفوائد ما لا يوجد في غيره من المطوَّلات، أثنى عليه العلماء. قاله العُليمي.
وقال ابن المَبْرَد “وهو قولٌ واحدٌ في مذهب أحمد، لم يذكر فيه خلافًا إلا في باب صلاة الجماعة، فإنه جمع مسائل وأطلق فيها الخلاف (2) ” اهـ
والكتاب طبع عام 1413 بتحقيق د. عبد الله الطيار، ود. عبد العزيز الحجيلان، عن نسخته الوحيدة المُصورة بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، المجلوبة من بعض جمهوريات السوفيت – سابقًا -، ويعود الفضل لاكتشافها للأستاذ عبد الرحمن العثيمين، على ما ذكر في هامش “الجوهر” و”السحب”، وذكر هناك أيضًا أن صديقه سليمان التويجري يعمل عليه.
ووهم الزركلي في “الأعلام” إذ جعل “التسهيل” هو نفسه مختصر الفتاوى المصريَّة وتَبِعَه عمر رضا كحالة في “معجمه” – كعادته -!
2 – شفاء العليل في اختصار “إبطال التحليل” لابن تيمية.
منه نسخة بخط المؤلِّف في المجموع الذي اعتمدنا عليه (ق/ 143 أ – 176 أ) انتهى من كتابته في التاسع والعشرين من صفر سنة سبع مئة وخمس وخمسين.
ومنه نسخة أخرى في مكتبة برلين رقم 4665 في 23 ورقة، كُتبت سنة 1100، انظر “فهرس المكتبة”: (4/ 178).
__________
(1) تحرّف في بعض المصادر إلى “الترتيل”! و”السرقيل”!
(2) هناك مسائل أخرى ذكر فيها الخلاف، انظر مقدمة تحقيق “التسهيل”: (ص/ 25).
(1/18)
3 – “القواعد النورانية مختصر الدرة المضيَّة من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية”
هكذا سمَّاه مؤلِّفه بخطه، وهو مطبوع بعنوان “مختصر الفتاوى المصرية”، طبَعَه حامد الفقي، ثم عبد المجيد سليم شيخ الأزهر، عن نسخة دار الكتب.
ومنه نسخة بخطِّ المؤلف، ضمن المجموع المتقدِّم (ق/ 21 أ – 142 ب)، فإعادة إخراجه على هذه النسخة له أهميته، وخاصَّة أن فيه بعض الزيادات التي ظهرت لي أثناء المعارضة.
وتقدم ما وهم فيه الزركلي عند رقم (1).
* مختصر الفتاوى المصرية = القواعد النورانية.
4 – “مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول – صلى الله عليه وسلم -” لابن تيمية.
وهو كتابنا هذا، وسيأتي الحديث عنه.
5 – “المنهج القويم في اختصار الصراط المستقيم” لابن تيمية.
منه نسخة بخط المؤلف ضمن المجموع السابق (ق/ 177 أ – 21 ب) ولم يحدد فيه تاريخ انتهائه.
وقد عملت على إخراجه وسيطبع قريبًا إن شاء الله تعالى.
* وفاته
أجمع من ترجم له أنه توفي في ربيع الأول سنة سبع مئة وثمانية وسبعين، إلا ابن العماد في “الشذرات” فإنه جعله في وفيات سنة سبع وسبعين وسبع مئة، ولا يُعْلَم مستنده في ذلك!
* * *
(1/19)
• التعريف بالكتاب، وعملي فيه
الكتاب مختصرٌ للصارم، وهو تَبَعٌ لأصله، والأصلُ بناه مؤلفهُ على أربع مسائل هي:
الأولى: في وجوب قتل من سبّ النبي – صلى الله عليه وسلم -.
الثانية: في وجوب قتل الساب الذمي.
الثالثة: في وجوب قتله وعدم استتابته مسلمًا كان أو كافرًا.
الرابعة: في بيان السبّ والفرق بينه وبين الكفر.
وكان جلُّ عمل المؤلف هو الحذف والانتخاب، مع المحافظة على عبارات شيخ الإسلام، وعدم التصرّف فيها إلا بما يقتضيه الاختصار من ترابط الكلام وانسجامه.
فمثلًا يسوق شيخ الإسلام الدليلَ من رواياته المتعددة ويذكرها بألفاظها، كما في قصة كعب بن الأشرف: (2/ 145 – 188) فاستغرقت نحو أربعين صفحة، بينما اقتصر في المختصر على موضع الشاهد منها في صفحة واحدة، انظر ص/ 54.
وقُلْ مثل ذلك في اختلافات الفقهاء والتوسع في سَرْدها، والخلاف بين أصحاب المذهب الواحد، واعتراضاتِ كلٍّ، وغيرها، فقد أجرى المؤلف عليها يدَ الاختصار والانتقاء.
(1/20)
فكان الاختصار في نحو الخُمُس مقارنةً بالطبعة القديمة، وفي نحو العُشر على الطبعة الجديدة.
ومما ينبغي ملاحظته أن المؤلف كان عَجِلًا في اختصاره، ولأجل ذلك ربما سقطت عليه نصف الكلمة أو آخر حرفٍ منها، كما في (ص/ 43, 49, 62، 66 وغيرها). وأحيانًا يحصل له وهم في فهم كلام المؤلف – مع قِلته – مثل دمج حديثٍ في آخر، أو إغفال ما لا يستقيم النص بدونه من كلام المؤلف، مثل (ص/ 39، 54، 74 وغيرها).
كما تتضح عجلته عند مقارنة خطه في هذه المختصرات، وخطه في آخر المجموع للرسالتين في طواف الحائض، والماء المائع … إذ نجد الفرق واضحًا جليًّا في الوضوح والإعجام والنَّقْط … وغير ذلك.
وكان عملي يتلخص فيما يلي:
1 – نسختُ المخطوط وقابلته مرة أخرى.
2 – علقتُ عليه باختصار؛ تخريجًا لأحاديثه وعزوًا لنقوله … وغيرها مما يكمِّل فوائده.
3 – أصلحت ما سها فيه المختصِر من إسقاطٍ أو تغيير أو نحوه؛ فرأبْتُ صدعَه وجَبَرتُ كسرَه، وليس هذا من التَّسَوُّر على أصل المؤلِّف في شيءٍ، إذ قد علمنا غرضَه، وهو محاكاةُ أصلِه، فلا التفاتَ إلى سهو البصر أو طغيان القلم، وقد أذكر نصَّ كلام الشيخ في الحاشية، لمزيد البيان.
4 – قابلتُ النصَّ بأصله المختصَرِ منه، معتمدًا في ذلك الطبعةَ التي حقَّقها الشيخان محمد الحلواني ومحمد شودري (الطبعة الأولى،
(1/21)
1417، رمادي للنشر)، وهي أجود طبعة للكتاب، ولا يُضيرها ما وقع فيها من سهو أو خطأ (1)، إذ المحقق الذي لا يخطئ لم يولد إلى الآن.
وقد استفدت من عملهما في الكتاب، وإن لم أتابعهما فيه، بل زدْتُه فوائد، خاصة في الحكم على الأحاديث، وعزو بعض النقول.
* * *
__________
(1) وقد نبَّهت على ما لا بد منه في الهامش.
(1/22)
• وصف النسخة الخطِّية
هي نسخة ضمن مجموع يحتوي على (230 ق) كله بخط مؤلفه وناسخه: محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي، وهذه محتوياته على الترتيب:
1 – مختصر الصارم المسلول (1 ب – 20 ب).
2 – مختصر الفتاوى المصرية (21 أ – 142 ب).
3 – مختصر إبطال التحليل (143 أ – 176 أ).
4 – مختصر الصراط المستقيم (177 أ – 210 ب).
5 – فصلٌ في طواف الحائض والجنب والمحدث، لشيخ الإسلام (1) (211 أ – 221 ب).
6 – الزيت اليسير إذا وقعت فيه نجاسة، لشيخ الإسلام (2) (222 أ – 229 أ).
كان هذا المجموع في ملك الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ت (1233) صاحب “تيسير العزيز الحميد” كما هو مثبتٌ بخطه في آخر المجموع، وإن حاول بعضُهم طمسَه، ثم آل
__________
(1) وهو في “مجموع الفتاوى”: (26/ 176 – 218).
(2) وهو في “مجموع الفتاوى”: (21/ 488 – 512).
(1/23)
إلى مكتبة أحد آل العسَّافي (1)، ثم استقرَّ أخيرًا في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض إهداءً، وهو محفوظ فيها برقم 8959/ 1/ خ.
والنسخة بحالة جيدة إلا أن التآكل قد أتى على بعض الأسطر الأخيرة بسبب الرطوبة، ومقاسها 19 × 13,5، وعدد الأسطر متفاوت، وخطُّها تدويني عديم الإعجام، قليل النَّقْط، وتبدو عجلة المؤلف واضحة في اختصاره كما تقدم. وعلى هوامشها أثر مقابلة وتصحيح واستدراك. ولم تخل من بعض الأخطاء التي لا يعرى منها بشر.
وأخيرًا أُسدي الشكر للصديق الأستاذ عبد الرحمن بن حسن الزير على ما اجتهد وبذل في تصوير هذا المجموع وإرساله.
والحمد لله حقَّ حمده. وصلاةً وسلامًا على رسوله.
* * *
__________
(1) لم أعرف من هو، ومن آل العسافي ممن ذُكر بالعلم: محمد بن حمد بن محمد بن صالح بن سليمان العسَّافي (1311 – 1388)، انظر: “تاريخ علماء بغداد في القرن الرابع عشر”: (ص/ 573) للسامرائي، و”علماء نجد”: (5/ 521) للبسَّام. فلعلَّه هو.
(1/24)
ورقة عنوان المجموع بخط المؤلف
(1/25)
الورقة الأولى من مختصر الصارم
(1/26)
الورقة الأخيرة من مختصر الصارم
(1/27)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم فنِعْم الهاد، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادةً تبرِّئُ قائلَها من الإلحاد.
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله أكرم العِباد، أرسله بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كُلِّه ولو كره أهلُ العِناد، فله الفضيلة والوسيلة والمقام المحمود ولواء الحَمْد الذي تحته كلُّ حمَّادٍ، صلى الله عليه وعلى آله أفضل الصلوات وأطيبها وأحسنها وأزكاها، صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم التناد.
وبعد؛ فإن الله أرسل نبيَّه محمدًا – صلى الله عليه وسلم – وهدانا به، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وآتانا ببركةِ رسالته ويُمْنِ سفارته خيرَ الدنيا والآخرة، والمتعرِّض (1) لجنابِه الرفيع يجب بيانُ حكمه وما يجب عليه من النَّكال.
والمقصودُ هنا بيانُ الحكم الشرعي الذي يُفْتَى به ويُقْضَى، ويجبُ على كلِّ أحدٍ القيامُ بما أمكن منه، واللهُ هو الهادي إلى سواءِ السبيل، وهو مرتَّب على أربعة (2) مسائل:
المسألة الأولى: في أنّ السَّابَّ يُقتل سواء كان مسلمًا أو كافرًا.
__________
(1) هكذا قرأتُها.
(2) كذا، وفي أصله: “أربع”.
(1/29)
الثانية: أنه ينبغي قتله وإن كان ذمِّيًّا.
الثالثة: في حكمه إذا تاب.
الرابعة: في بيان السّبِّ ما هو.
* * *
(1/30)
المسألة الأولى (1): أنّ من سبَّه – صلى الله عليه وسلم – من مسلم وكافر فإنه يجب قتلُه
هذا مذهب عامة العلماء، قال ابنُ المنذر (2): “أجمع عوامُّ العلماء على أنّ على من سبَّه القتل، قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق والشافعي. وحُكِيَ عن النعمان: لا يُقتل الذِّمِّي”.
وحكى أبو بكر الفارسي (3) – من أصحاب الشافعي – إجماعَ المسلمين على قتل من سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم -، كما أنَّ حكم من سبَّ غيرَه الجلد.
وهذا الإجماع محمولٌ على إجماع الصدر الأوَّل من التابعين والصحابة – قاله شيخ الإسلام – أو (4) أنه أراد إجماعَهم على وجوب قتله إذا كان مسلمًا، وكذلك قَيَّده القاضي عِياض (5).
__________
(1) “الصارم”: (2/ 13).
(2) في “الأوسط”: (2/ 682) و”الإشراف”: (2/ 244)، و”الإقناع”: (2/ 584). وانظر “الإجماع”: (ص/ 76) له.
(3) هو: أحمد بن الحسين بن سهل، أحد أئمة الشافعية ت (350)، له مصنفات، منها كتاب “الإجماع” وهذا النقل منه، انظر “فتح الباري”: (12/ 293).
(4) لم تظهر الهمزة بسبب الرطوبة.
(5) في: “الشفا بتعريف حقوق المصطفى – صلى الله عليه وسلم -“: (2/ 386 – مع شرح الملا علي القاري).
(1/31)
وقال إسحاق بن راهويه: أجمع المسلمون أنّ من سبَّ الله أو سبَّ رسوله، أو دفع شيئًا مما أنزل الله، أو قتل نبيًّا: أنه كافر، وإن كان مُقِرًّا بكلِّ ما أنزله الله.
قال الخطَّابي (1): “لا أعلم أحدًا اختلف في وجوبِ قتله”.
وقال محمد بن سُحْنُون: أجمعَ العلماء أنَّ شاتم الرسول [المتنقِّص له] (2) كافر، ومن شكَّ في كفره كَفَر.
وتحريرُ القول: أنَّ السَّابَّ المسلم يُقْتَل بلا خِلافٍ، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وإن كان ذِمِّيًّا قُتِل – أيضًا – عند مالك وأهل المدينة، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث، نصَّ عليه أحمد في مواضع متعدِّدة.
نقله (3) حنبل وأبو الصقر (4) والخلّال وعبد الله وأبو طالب: أنه يُقتل مسلمًا كان أو كافرًا، قيل لأحمد: فيه حديث (5)؟ قال: نعم، أحاديث، منها حديث الأعمى الذي قَتَل المرأةَ حين سمعها تشتم النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – (6)، وحديث حُصَين (7).
__________
(1) في “معالم السنن”: (6/ 199).
(2) غير بيِّنةٍ في الأصل بسبب الرطوبة، والاستدراك من “الصارم”.
(3) غير واضحة بسبب الرطوبة.
(4) هو: يحيى بن يزداد الوراق أبو الصقر، ورَّاق الإمام، له مسائل عنه، انظر: “طبقات الحنابلة”: (2/ 542).
(5) في أصله: “أحاديث”.
(6) سيأتي ص/ 53.
(7) يرويه عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه مرَّ براهبٍ فقيل: إن هذا سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: لو سمعته لضربتُ عُنقَه، إنا لم نُعْطِهم العهد على أن يسبُّوا نبيَّنا. =
(1/32)
قال (1): ولا يُستتاب، رواه أبو بكر في “الشافي” (2)، فلا خلاف عنه أنه يُقتل، وأنه ينتقض عهدُه.
وذكر القاضي (3) روايةً في الذِّمِّي: أنه لا ينتقض عهده، وتبعه جماعة من الأصحاب، كالشريف، وابن عقيل، وأبي الخطَّاب، والحُلْواني (4)، ذكروا في جميع الأعمال التي فيها غضاضة على [المسلمين وآحادهم في نفسٍ] (5) أو مال أو دِيْن، مثل سبِّ الرسول:
__________
أخرجه مسدَّد في “مسنده – كما في المطالب رقم 2047″، والحارث بن أبي أسامة في “مسنده – كما في البغية رقم 510” واللفظ له، والخلَّال في “الجامع رقم 732 – أحكام أهل الملل”.
كلهم من طريق حصين بن عبد الرحمن السلمي عن رجل لم يُسمَّ – وعند الخلال: شيخ – أن ابن عمر به. وفي رواية الحارث: “حصين أن ابن عمر” بدون واسطة. وحصين لم يسمع من ابن عمر، انظر: “تهذيب التهذيب”: (2/ 381).
(1) أي: الإمام أحمد.
(2) هو: أبو بكر عبد العزيز بن جعفر المعروف بغلام الخلال ت (363)، انظر “طبقات الحنابلة”: (3/ 213). وكتابه “الشافي” في الفقه يقع في ثمانين جزءًا على ما ذكره أبو يعلى فيما نقله الخطيب عنه في “تاريخه”: (10/ 459).
(3) هو: أبو يعلى ابن الفراء شيخ الحنابلة، وإذا أُطلِق “القاضي” عندهم فهو المراد. وسيرِدُ ذكره كثيرًا.
(4) الشريف هو: أبو جعفر عبد الخالق بن عيسى الهاشمي ت (470)، وابن عقيل هو: أبو الوفاء صاحب “الفنون” ت (513)، وأبو الخطاب هو: محفوظ بن أحمد الكَلْوذاني ت (510)، والحُلْواني هو: محمد بن علي أبو الفتح ت (505).
(5) ما بين المعكوفين هنا وما سيأتي مُتآكل في الأصل، والإكمال من “الصارم”: (2/ 22، 24)، ومكان النقط لم نتبين وجه إكماله.
(1/33)
روايتين، مع اتفاقهم على أن المذهبَ انتقاضُه بذلك، [ …… روايتين].
ثم هؤلاءِ كلُّهم ذكروا أنَّ سابّ الرسول يُقْتل وإن كان ذِمِّيًّا، وأن عهده ينتقض.
قال شيخ الإِسلام: [وهذا أقرب من تلك الطريقة، وعلى الرواية التي تقول: لا ينتقض العهدُ بذلك، فانما ذلك] إذا لم يكن مشروطًا عليهم، فإن كان مشروطًا؛ ففيه وجهان:
أحدهما: [ينتقض، قاله الخِرَقي، وصححه الآمدي.
والثاني: لا ينتـ]ــقض، قاله القاضي.
والذي عليه عامة [المتقدِّمين من أصحابنا ومن تبعهم من المتأخرين] إقرار نصوصه على حالها، وقد نصَّ على أن سابَّ الرسول يُقتل وينتقض عهده، وكذا من جسَّ على المسلمين، أو زنى بمسلمةٍ، أو قتل مسلمًا، أو قَطَع الطريقَ، ونصَّ على (1) أن قَذْفَ المسلم أو سَحْره لا يكون نقضًا للعهد.
قال شيخ الإسلام: وهذا هو الواجبُ تقريرُ نصوصِه، فلا يخرَّج منها شيءٌ، للفرق بين نصوصه (2).
__________
(1) “ونص على” ملحقة في الهامش، ومكان اللحق بعد “أو قتل مسلمًا” وهو سبق قلمٍ إذ عليه يكون قطع الطريق لا ينقض العهد، وهو خلاف ما في أصله.
(2) النص في “الصارم”: (2/ 25): “وهذا هو الواجب؛ لأن تخريج إحدى المسألتين =
(1/34)
وأما الشافعي؛ فالمنصوص عنه أنه ينتقض العهد به، وأنه يُقتل (1)، وأما أصحابه فذكروا فيما إذا ذَكَر اللهَ أو رسولَه أو كتابَه بسوءٍ: وَجْهَين، ومنهم من فرَّق بين أن يكون مشروطًا أو لا، ومنهم من حكى هذه الوجوه أقوالًا، والمنصور في كتب الخلاف عنه: أَن سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – ينقضُ العهدَ، ويوجبُ القتلَ.
وأما أبو حنيفة وأصحابه؛ فقالوا: لا ينتقض العهد بالسبِّ، ولا يُقتل بذلك لكن يُعَزّر على إظهار المنكرات، ومن أصولهم: أن ما لا قتلَ فيه عندهم، مثل القتل بالمثقَّل، والجِماع في غير القُبُل إذا تكرر، للإمام أن يقتلَ فاعلَه، وله أن يزيد على الحدِّ المقَدَّر إذا رأى المصلحةَ، ويحملوا (2) ما جاء عن النبيّ وأصحابه من القتل في مثل هذه الجرائم، على أنه رأى المصلحةَ في ذلك، ويسمونه: القتلَ سياسةً.
وحاصله: أن له أن يُعزِّر بالقتل في الجرائم التي تغلَّظت بالتَّكْرَار، وأفتى أكثرهم بقتل مَن أكثر مِن سبِّ الرسول مِن أهل الذِّمة، وإن أسلمَ، قالوا: يُقتل سياسةً.
[الأدلة على وجوب قتل الساب]والدليلُ على وجوب قتل السَّابِّ لله أو رسوله أو دينه أو كتابه، ونقض عهده بذلك – إن كان ذِمِّيًّا -: الكتابُ والسنةُ وإجماعُ الصحابة والتابعين والاعتبار.
__________
= إلى الأخرى وجعل المسألتين على روايتين مع وجود الفرق بينهما نصًّا واستدلالًا، أو مع وجود معنى يجوز أن يكون مستندًا للفرق غير جائزٍ” اهـ.
(1) انظر “الأم”: (4/ 208 – 211).
(2) كذا، وفي أصله: “يحملون”.
(1/35)
أما الكتاب، فمواضع (1):
أحدها: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [التوبة: 29] فأمرَ بقتالهم إلى أن يُعطوا الجزية وهم صاغرون، فلا يجوز تركهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية، ومعلومٌ أن إعطاءهم الجزية من حين بذلها والتزامها إلى حين تسليمها وإقباضها، وإذا كان الصَّغَار حالًّا لهم في جميع المدَّة، فمن سبَّ الله ورسوله فليس بصاغرٍ؛ لأنَّ الصاغِرَ: الحقيرُ، وهذا فِعْل متعزِّزٍ مُرَاغِم.
قال أهل اللغة: الصَّغَار: الذُلُّ والضَّيْم.
الموضع الثاني: قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} إلى قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} الآية [التوبة: 7 – 12]. نفى سبحانه أن يكون لهم عهد إلا ما داموا مستقيمين لنا، فعُلِمَ أن العهدَ لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيمًا، ومعلومٌ أنَّ مجاهرتَنا بالوقيعة في ربِّنا ونبيِّنا وكتابِنا ودينِنا يقدح في الاستقامة، كما لو حاربونا، بل ذلك أشدّ علينا إن كنا مؤمنين، فإنه يجب علينا أن نبذلَ دماءَنا وأموالنا حتى تكون كلمة الله هي العُلْيا، ولا يُجْهَر في ديارنا بشئٍ من أذى الله ورسوله، يوضِّحه قوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8] أي: كيف يكون لهم عهدٌ ولو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرَّحِمَ ولا العهد! فعُلِمَ أن من كانت حالُه أنه إذا ظَهَرَ لم يرقُبْ ما بيننا وبينه من العهد، لم يكن له عهد، ومن جاهَرَنا بالطعن في ديننا كان ذلك دليلًا
__________
(1) “الصارم”: (2/ 32 – 57).
(1/36)
على أنه لو ظَهَر لم يرقُبْ العهدَ، فإنه مع وجود الذِّلَّة يفعل هذا، فكيف يكون مع العِزَّة!؟ وهذا بخلاف من لم يُظْهِر لنا مثل هذا الكلام.
الموضع الثالث: قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12].
وهذه الآية تدل من وجوهٍ:
أحدها: أن مجرَّد نكث الأيمان مقتضٍ للمقاتلة، وذِكْره الطعنَ في الدين تخصيصًا له بأنه من أقوى الأسباب الموجبةِ للقتال، أو ذَكَره على سبيل التوضيح وبيان سبب القِتال، أو لأنه (1) أوجبَ القتالَ في هذه الآية بقوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}، وبقوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 13]، فيفيد ذلك أن من لم يصدر منه إلّا مجرَّد نكث اليمين جاز أن يُؤَمَّن ويُعاهد، فأمّا من طعن في الدين فإنه يتعيَّن قتالُه، وهذه كانت سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، كان يَنْدُرُ (2) دماءَ من آذى اللهَ ورسولَه وطعن في الدين.
فإن قيل: هذا يفيد أن من طعن في الدين ونكثَ عهدَه يجب قتالُه، أما من طعن في الدين فقط، فمفهوم الآية أنه وحدَه لا يوجِبُ هذا الحكم؛ لأنه عَلَّقَ الحكمَ على صفتين، فلا يجب وجوده عند وجود إحداهما.
قلنا: لا ريبَ أنه لا بُدَّ أن يكون لكلِّ صفةٍ تأثير في الحكم؛ إذ لا يجوز تعليقه بصفةٍ عَدِيمة التأثير، ثم قد تكون كلُّ صفةٍ مستقلة بالتأثير، كما [يقال]: يُقتل زيد لأنه مرتد زانٍ، وقد يكون مجموعُ الجزاء مرتبًا على
__________
(1) في بعض نسخ “الصارم”: “ولأنه” وعليه فالكلام، مستأنَف.
(2) أي: يُسقطها ويُهدرها.
(1/37)
المجموع، ولكل وصف تأثير في البعض، كقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية [الفرقان: 68] وقد تكون تلك الصِّفات متلازمة كلٌّ منها لو فُرِضَ تجرُّده لكان مؤثِّرًا مستقلًا أو مشتركًا، فيذكر إيضاحًا وبيانًا للموجب، كما يقال: “كفروا بالله وبرسوله”، و”عصى اللهَ ورسولَه”، وقد يكون بعضها مستلزمًا للبعض من غير عكس، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} الآية [آل عمران: 21] وهذه الآية من أيِّ الأقسام فُرِضت كان فيها دلالةٌ (1)؛ لأن أقصى ما يقال: إن نقض العهد هو المبيح للقتال، والطعن في الدين مؤكِّد له وموجبٌ له، فنقول: إذا كان الطَّعن يُغَلِّظ قتال من ليس بيننا وبينه عهد ويوجبه، فأن يوجِب قَتْل من بيننا وبينه ذِمَّة – وهو ملتزم للصَّغَار – أولى.
الوجه الثاني: أن الذِّمِّي إذا سبَّ الرسول أو سبَّ اللهَ أو عابَ الإسلام علانيةً، فقد نكث يمينَه وطعن في ديننا؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يُعاقَب على ذلك ويؤدَّب، فعُلِمَ أنه لم يُعاهَد عليه، فيجب قتله بنصِّ الآية، وهذه دلالة قويَّة حسنة، فإنه قد وُجِد منه نكثُ يمينِه وطعنٌ في الدين. والقرآنُ يُوجِب قتلَ من نكثَ وطعنَ في الدين.
الوجه الثالث: أنه سمَّاهم “أئمة الكفر”؛ لطعنهم في الدين، وثانيًا علَّل ذلك بأنهم لا أيمان لهم، فهو يشمل جميع الناكثين الطاعنين.
وإمامُ الكفر هو الداعي إليه، وإنما صار إمامًا (2) في الكفر لأجل
__________
(1) في الأصل: “دلا” وهو سهوٌ.
(2) في الأصل “إما” وهو سهوٌ.
(1/38)
الطعن فيه، ودعوته إلى خلافه، وهذا شأن الإمام، فكلُّ طاعن في الدِّين فهو إمامٌ في الكفر، فيجب قتاله لقوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}.
الوجه الرابع: أنه قال: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13] فجعل همَّهم بإخراج الرسول من المُحضِّضات على قتالهم، وذلك لما فيه من الأذى له. وسبُّه أغلظُ من الهمِّ بإخراجه، لأنه عفى عام الفتح عن الذين همُّوا بإخراجه، ولم يعف عمَّن سبَّه.
الخامس: قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)} الآية [التوبة: 14]، فأمر – سبحانه – بقتال النَّاكثين الطاعنين في الدين، فضَمِنَ أنَّا إذا فعلناه عذَّبهم وأخزاهم ونَصَرَنا عليهم، وشفَى صدورَ المؤمنين الذين تأذَّوا من نقضهم، وأذهبَ غيظَ قلوبهم، فدلَّ على أن الناكث الطاعن مستحقٌ لذلك كله، والسَّابُّ للرسول ناكث طاعن فيستحق القتل.
السادس: أن قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14، 15] دليلٌ على أنَّ شفاء الصدور من ألمِ النَّكْثِ والطعنِ، وذهابَ الغيظِ الحاصل [أمرٌ مقصود للشارع] (1)، فمن سبَّ الرسول، فإنه يغيظ المؤمنين ويُؤْلمهم أكثر من سَفْك دمائهم وأَخْذ مالهم، فإن هذا يُثير الغضب لله ورسوله (2).
__________
(1) ما بين الحاصرتين من “الصارم”: (2/ 46) ليتم الكلام، إذ بدونها يختلّ المعنى.
(2) ثم ذكر شيخ الإسلام أن هذا الغيظ لا يذهب إلا بقتل السابِّ وذلك لأربعة أوجه … وذكرها.
(1/39)
الموضع الرابع (1): قوله سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [التوبة: 63]، فإنه يدل على أن أذى النبي – صلى الله عليه وسلم – مُحَادَّة لله ولرسوله؛ لأنه قال هذه الآية عقيب قوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: 61]وسبب نزول الآية عِتابه – صلى الله عليه وسلم – لمن كان يسبُّه من المشركين المنافقين.
الموضع الخامس: قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]. وهذه توجب قتل من آذى الله ورسوله، ونحن لم نعاهدهم على أن يؤذوا الله ورسوله، يوضِّح ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ لِكَعْبِ بن الأشْرفِ، فإنّه قد آذى الله ورسوله” (2).
* * *
__________
(1) من الأدلة على وجوب قتل السابِّ.
(2) سيأتي الحديث ص/ 54، وهو في “الصحيحين”.
(1/40)
فصل (1)
وأما الآيات الدالة على كفر الشاتم وقتله إذا لم يكن معاهدًا، وإن كان مُظهرًا للإسلام فكثيرة، مع [أنه مُجْمَعٌ عليه] (2).
منها: قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)} إلى قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 61 – 63]، فعُلِمَ أنَّ إيذاء رسول الله محادّة لله ولرسوله؛ لأن ذِكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذِكر المحادَّة؛ فيجب أن يكون داخلًا فيه، فيدل على أنَّ الإيذاء والمحادّة كفر؛ لأنه أخبر أن له نارَ جهنَّم خالدًا فيها (3)؛ بل المحادة هي المعاداة وذلك كُفْر ومُحاربة، فيكون المؤذي لرسول الله كافرًا عدوًّا لله ورسوله محاربًا لله ورسوله.
وفي الحديث: أن رجلًا كان يسبُّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “مَن يَكْفِيني عَدُوِّي” (4).
__________
(1) “الصارم”: (2/ 58).
(2) متآكل في النسخة والإكمال من “الصارم”.
(3) قال الشيخ: “ولم يقل: “هي جزاؤه” وبين الكلامين فرقٌ” اهـ.
(4) أخرجه عبد الرزاق في “المصنف”: (5/ 237، 307) عن عكرمة مولى ابن عباس مرسلًا، وفيه رجلٌ لم يُسَمَّ، وأخرجه أبو نعيم في “الحلية”: (8/ 45) من طريق إبراهيم بن أدهم عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس = فذكره. قال أبو نعيم عقبه: “غريب من حديث إبراهيم لم نكتبه إلا من هذا الوجه” اهـ. وأخرجه أيضًا عبد الرزاق: (5/ 307) ومن طريقه ابن حزم في “المحلى”: (11/ 413) من طريق سِماك بن الفضل أخبرني عروة بن محمد – هو السعدي – عن رجلٍ من بلقين … بنحوه، وكان القاتل هنا خالد بن الوليد، وفي الأول الزبير بن العوام.
والحديث احتج به عليٌّ بن المديني، وصححه ابن حزمٍ قال: “هذا حديث مسندٌ صحيح”. أقول: وفيه عروة بن محمد السعدي لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الحافظ في “التقريب”: “مقبول”.
(1/41)
وأيضًا قوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، فإذا كان من يُوادِد المحادّ ليس بمؤمن، فكيف بالمحاد نفسِه؟!
وقيل: إن سبب نزولها أن أبا قُحافة شتم النبي – صلى الله عليه وسلم -، فأراد أبو بكرٍ قتلَه (1)، فثبتَ أن المحادَّ كافر حلال الدَّم.
الدليل الثاني (2): قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا} إلى قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة: 64 – 66]، وهذا نصٌّ أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفرٌ صريح، فدلَّت الآية أنَّ كلَّ مُتَنَقِّصٍ رسولَ الله جادًّا أو هازلًا (3) = فقد كفر.
الدليل الثالث (4): قوله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] واللَّمز: العَيْب والطَّعْن.
وقال: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ … } الآية [التوبة: 61]، فدل على أنَّ كل من لمزه وآذاه كان منهم، فلما أخبر أنَّ الذين يلمزون النبي ويؤذونه من المنافقين ثبت أنه دليل على النفاق.
الدليل الرابع (5): قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65]، أقسم – سبحانه – بنفسه أنهم لا
__________
(1) أخرجه ابن المنذر من طريق ابن جُرَيج حُدِّثتُ أن أبا قحافة … الخبر. انظر: “الدر المنثور”: (6/ 274)، و”أسباب النزول”: (ص/ 478) للواحدي. وقيل في سبب نزولها غير ذلك.
(2) “الصارم”: (2/ 70).
(3) رسمت في الأصل “هزلًا”.
(4) “الصارم”: (2/ 75).
(5) نفسه: (2/ 80).
(1/42)
يؤمنون حتى يُحكِّموه في الخصومات التي بينهم، ثم لا يجدوا في نفوسهم ضِيقًا من حكمه، بل يُسلِّموا تسليمًا لحكمه ظاهرًا وباطنًا.
وقال قبل ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} إلى قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء: 60, 61]، فبيَّن أن من دُعِيَ إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله، فصدَّ عن رسوله، كان منافقًا، مع قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، فمن تولَّى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه، فهو منافق وليس بمؤمن، بل المؤمن من يقول: سمِعْنا وأطَعْنا.
وإذا ثبت النفاقُ بمجرَّد الإعراض عن حكم الرسول، فكيف بالتنقُّص والسَّبِّ ونحوه؟!
الدليل الخامس (1): قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الآية [الأحزاب: 57]، فَقَرَنَ أذاه بأذاه، كما قرن طاعته بطاعتِه، فمن آذاه فقد آذى الله، وقد جاء ذلك منصوصًا عنه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم، يوضِّحه أنه جعل محبةَ الله ورسوله، وإرضاءَ الله ورسوله، وطاعةَ الله ورسوله شيئًا واحدًا، وجعل شِقَاقَ الله ورسوله [و] (2) محادَّة الله ورسوله، وأذى الله ورسوله، ومعصيةَ الله ورسوله، شيئًا واحدًا، ففي ذلك بيانٌ لتلازم الحَقَّيْن، وأن جهةَ الله ورسوله جهةٌ واحدة؛ فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاع الرسول فقد أطاع
__________
(1) “الصارم”: (2/ 85).
(2) سقطت سهوًا من المؤلِّف.
(1/43)
الله؛ لأنه واسطة بين الله وبين الخلق، ليس لأحدٍ منهم طريق غيره، وقد أقامه مُقامَ نفسِه في أمره ونهيه، وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن نفرِّق (1) بين الله ورُسُلِه في شئٍ من هذه الأمور.
وأيضًا: فإنه فرَّق بين أذى الله ورسوله، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعلَ هذا قد احتمل بهتانًا وإثمًا مُبِينًا، وجعل على ذلك لعنته في الدنيا والآخرة، وأعدَّ له العذاب المهين، ومعلومٌ أن أذى المؤمنين قد يكون فيه الجَلْد فيكون من كبائر الإثم، وليس فوقه إلا الكفر والقتل.
وأيضًا: فإنهم (2) لعنهم، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ولا يُطرَد من رحمته في الدنيا والآخرة إلا الكافر، فلا يكون محقون الدم، بل مباحه؛ لأن حَقْنَه رحمةٌ عظيمة، يؤيده قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} [الأحزاب: 61].
يؤيده: أنَّ سائر من لعنه الله في كتابه؛ إمَّا كافر أو مُباح الدم.
فإن قيل: يَرِد عليك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23] مع أنَّ مجرَّد القذف ليس بكفر.
فجوابُه من وجوه:
أحدها: أن هذه الآية نزلت في عائشة – رضي الله عنها – قاله ابن
__________
(1) في “الصارم”: “يُفَرَّق” والرسم والمعنى يحتمل الضبطين.
(2) كذا، والأصح: “فإنه” كما في “الصارم”.
(1/44)
عباسٍ (1) وغيره، ففي قذفها طعنٌ وأذىً للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فإن زِنى امرأةِ الرَّجلِ يؤذيه. ولهذا ذهب أحمد – في روايةٍ عنه – إلى أن من قذف امرأةً غير محصنةٍ كالأمَةِ والذِّمِّية، ولها زوجٌ أو ولد محصن حُدَّ لقذفها، لما يلحقه من العار بولدها وزوجها المحصَنَيْن، فتكون هذه الآية خاصة بمن قذف أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم -، فإن من يقصد عيبَ النبيِّ بعيبِ أزواجه فهو منافق، فأما من رَمَى امرأةً من المسلمين فهو فاسق، كما قال تعالى، أو يتوب، ويكون الألف واللام في قوله: {يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}، عهديَّة راجعة إلى معهودٍ وهم أزواج الرسول – صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الكلام في قصة الإفك، أو يُقْصَر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك؛ لأن أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – مشهود لهنَّ بالإيمان، وهنَّ أُمهات المؤمنين، وهنَّ أزواجه في الدنيا والآخرة.
وقال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} [النور: 11] فعُلِمَ أن الذي يرمي أمهات المؤمنين يعيب بذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وتولّى كِبْر الإفك، وهذه صفة المنافق ابن أُبَيٍّ. فرميهنَّ نفاق مُبيح للدم إذا قصد به أذى النبي – صلى الله عليه وسلم -، أو أُوذِيْنَ بعد العلم بأنهنَّ أزواجه في الآخرة، فإنه ما بغت امرأةُ نبيٍّ قطُّ.
ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم – فيما ثبت عنه في “الصحيحين” (2): “مَنْ يَعْذِرُني مِن
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم – وصححه – وابن مردويه، كما في “الدر المنثور”: (5/ 64). وفي سند الحاكم سعيد بن مسعود (هو المروزي) ذكره ابن حبان في “الثقات”: (8/ 271)، ووقع فيه “يروي عن يزيد بن مروان”! وهو تحريف عن “يزيد بن هرون”.
(2) البخاري رقم (2637، 4141 وغيرها)، ومسلم رقم (2770) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(1/45)
رجلٍ قد بلغني أذاهُ في أهل بيتي فوالله ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا … ” الحديث.
وفيه: فقال سعد بن مُعاذ: “أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عُنُقَه” ولم ينكر النبي – صلى الله عليه وسلم – على سعدٍ استيماره في ضرب أعناقهم.
ولا يَرِدُ على ذلك مِسْطح وحسَّان وحَمْنَة، وإن كانوا في أهل الإفك، فإنهم لم يُرْموا بنفاقٍ، ولم يقتل النبي أحدًا في ذلك السبب، بل اخْتُلف في جلدهم، فإنهم لم يقصدوا أذى النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولا ظهر منهم دليل أذاه، بخلاف ابن أُبَيٍّ الذي إنما كان قصده أذاه.
وأيضًا: لم يكن قد ثبت عندهم أن أزواجه في الدنيا هنَّ أزواجه في الآخرة، وكان وقوع ذلك منهنَّ ممكنٌ عقلًا، ولذلك توقَّف النبي – صلى الله عليه وسلم – في القصَّة.
الوجه الثاني: أن الآية عامة، وقد رُويَ من غير وجهٍ أنّ قذف المحصنات من الكبائر (1)، ثم قد يقال (2): هي في مشركيِّ العرب من أهل مكة، فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله مهاجرةً قذفها المشركون من أهل مكة، فيكون ذلك فيمن قذف المؤمنات قذفًا يصدُّهُنَّ به عن الإيمان، ويقصد ذمَّ المؤمنين لِيُنَفِّر الناس عن الإسلام، كما فعل كعب بن الأشرف.
__________
(1) جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها في “الصحيحين” عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: “اجتنبوا السبعَ الموبقات … ” وعدَّ منها قذف المحصنات. البخاري رقم (2766) ومسلم رقم (89).
(2) هو قول أبي حمزة الثمالي الكوفي التابعي.
(1/46)
وعلى هذا؛ فمن فعل ذلك فهو كافر، وهو بمنزلةِ من سبَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -.
وقد يقال: هي عامَّة مُطلقًا؛ ولكن قوله: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23] هو مبنيٌّ للمفعول، فلم يُسَمَّ اللاعِن من هو، فيجوز أن يكون اللاعن غيرُ الله من الملائكة والناس، وجاز أن يلعنهم الله في وقتٍ، أو يلعن بعضَهم دون بعضٍ، ويلعنُهم بعضُ خَلْقِه في وقتٍ. واللهُ إنَّما يلعن من كان قذفه طعنًا في الدين، وأما لعنةُ خلقِه بعضهم لبعضٍ فقد تكون بمعنى الدعاء عليهم، وقد يكون بمعنى أنهم يُبْعِدونهم عن رحمة الله، ويؤيده أن الرجلَ إذا قذفَ زوجته تلاعَنا، وكذلك قوله: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} (1) [آل عمران: 61] فمما يُلْعن به القاذف أن يُجْلَد وتُرَد شهادتُه ويُفَسَّق، فإنه عقوبة له، وإقصاءٌ عن مواطن الأمن والقبول، وهي من رحمة الله، وهذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا والآخرة، فإن لعنةَ اللهِ تُوجِبُ زوال النصر عنه من كلِّ وجهٍ، وبُعده عن أسباب الرحمة.
يؤيده أنه قال هنا: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} [الأحزاب: 57]، ولم يجئ العذاب المُهين في القرآن إلا للكافرين، كقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} (2) [البقرة: 90].
__________
(1) في “الصارم”: (2/ 108) العبارة هكذا: “ويؤيد هذا أن الرجل إذا قَذَف امرأتَه تلاعَنا، وقال الزوج في الخامسة: “لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين” فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبًا في القذف أن يلعنه الله، كما أمر الله رسوله أن يُباهِل من حاجَّه في المسيح بعد ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين، فهذا مما يُلْعن به القاذف، ومما يُلْعن به … “.
(2) وفي آياتٍ أُخرى كثيرة.
(1/47)
وأما قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]؛ فهي فيمن جحد الفرائض واستخفَّ بها، على أنه لم يذكر أنه أعدَّه له. والعذاب إنما أُعِدَّ للكافرين، فإنَّ جهنمَ لهم خُلِقت؛ لأنهم لا بُدَّ لهم من دخولها (1) وما هم منها بمُخْرَجين.
وأما أهل الكبائر من المؤمنين فيجوز ألا يدخلوها إذا غُفِر لهم، وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بَعْد حين.
الدليل السادس: قوله – سبحانه -: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية [الحجرات: 2].
فوجه الدلالة: أنه – سبحانه – نهاهم عن رفع أصواتهم فوقَ صوتِهِ، وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعضٍ، لأن ذلك قد يُفْضي إلى حُبوط العمل وصاحبه لا يشعر، وما يُفْضي إلى حبوط العمل يجبُ تركُه غايةَ الوجوب، والعملُ يحبطُ بالكفر لقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] ولا تحبط الأعمال بغير الكفر، لأن من مات مؤمنًا لا بُدَّ له من دخول الجنة، ولو حبط عملُه كلُّه لم يدخلها، نعم قد يبطل بعضُها بوجود ما يفسده، كالمنِّ والأذى.
وإذ ثبتَ أن رفعَ الصوت والجهر به يُخاف منه أن يكفر صاحبُه وهو
__________
(1) سها المؤلف في كتابتها، ثم حاول إصلاحها ولم يتبيَّن مراده، فاجتهدت في إصلاحها.
(1/48)
لا يشعُر؛ لأن فيه سوء أدب واستخفاف وهو لا يشعر به؛ فكيف بمن يسبُّه ويستخفُّ به ويؤذيه مع قصده له وتعمُّده لذلك؟! فهو كافر بطريق الأَوْلى.
الدليل السابع: قوله – سبحانه -: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} إلى قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63].
فأمر من يخالف أمره أن يحذر الفتنة وهي الرِّدَّة والكفر، لقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193].
قال الإمام أحمد (1): “الفتنة الشرك، لعلَّه إذا (2) ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شئٌ من الزيغ فيُهْلِكَه” وجعل يتلو هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65].
قال (3): فأَتعجَّبُ من قومٍ عرفوا الإسنادَ وصحتَه ويذهبون إلى رأي فلان أو فلان، قال: فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] تدري ما الفتنة؟ الكفر، فيدعون الحديثَ وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي.
وإذا كان المخالف (4) لأمره قد حُذِّر من الكفر أو العذاب الأليم، وإفضاؤه إلى الكفر إِنَّما هو لما قد يقترنُ به من استخفافٍ بحقِّه كما
__________
(1) في رواية الفضل بن زياد.
(2) في الأصل: “أن إذا” وهو سبق قلم.
(3) أي الإمام أحمد في رواية أبي طالب أحمد بن حميد المشكاني.
(4) في الأصل: “المخالفة” والمثبتُ هو الصواب كما في “الصارم”: (2/ 117).
(1/49)
فعل إبليس، فكيف بمن عمل ما هو أعظم من ذلك من السبِّ والانتقاص ونحوه؟!
وهذا باب واسعٌ مع أنه بحمد لله مُجْمَعٌ عليه.
الدليل الثامن (1): أنه – سبحانه – قال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا … } [الأحزاب: 53]. فحرَّم على الأمَّة أن تنكح أزواجه من بعده؛ لأنه يؤذيه، وجَعَله عظيمًا عند الله، ثم إن من نكح أزواجه أو سرارِيْه عقوبته القتل جزاءً له بما انتهك من حُرمته، فالشَّاتِم له أولى، والدليل على ذلك ما رواه مسلم في “صحيحه” (2) عن أنسٍ أن رجلًا كان يتَّهم بأُمِّ ولد النبي – صلى الله عليه وسلم -، فأمر عليًّا أن يضربَ عُنُقَه، فأتاه عليٌّ فإذا هو في رَكيٍّ (3) يتبرَّد، فقال له: اخرج، فتناول يده فأخرجه، فإذا هو مَجْبُوب ليس له ذَكَر، فكفَّ عليٌّ، ثم أتى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال له: إنه مجبوب ما له ذَكَر.
وكذلك لما تزوَّج رسول الله قَيْلَةَ (4) بنت قَيْس أخت الأشعث، ومات قبل أن يدخل بها وقبل أن تَقْدَم عليه (5)، وقيل: إنه خيَّرها بين
__________
(1) “الصارم”: (2/ 120).
(2) رقم (2771).
(3) الرَّكِي: البئر.
(4) وقيل: اسمها “قُتَيْلَة”.
(5) أخرجه أبو نعيم في “معرفة الصحابة”: (6/ 3245) عن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما -. وقال الحافظ عن سنده في “الإصابة”: (4/ 394): “موصول قوي الإسناد”.
(1/50)
أن يضرب عليها الحجاب وتكون من أمهات المؤمنين، وبين أن يطلِّقها فتنكح من شاءت، فاختارت النكاحَ، فتزوَّجها عكرمةُ بعد رسول الله، فبلغ أبا بكرٍ فَهَمَّ بقتلهما حتى قال له عمر: ما هي من أمهات المؤمنين، فتركها (1).
* * *
__________
(1) أخرجه ابن جرير في “تفسيره”: (10/ 327) عن عامر الشعبي مرسلًا. وانظر “المستدرك”: (4/ 38)، و”الإصابة”: (4/ 393)، و”تفسير ابن كثير”: (3/ 513).
(1/51)
فصلٌ (1)
وأما السنة فأحاديث:
الحديث الأول: ما رواه الشعبي عن عليًّ أن يهوديَّةً كانت تشتم النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – وتقع في؛ فخنقها رجلٌ حتى ماتت، فأبطل رسول الله دمها.
رواه أبو داود (2) وابن بطَّة (3)، واستدلّ به أحمد (4)، ورُوِيَ أن الرجل كان أعمى (5)، وهو حديث جيِّد، وهو متَّصل؛ لأن الشعبي رأى عليًّا (6)، ولو كان مرسلًا فهو حجة وفاقًا؛ لأن الشعبي صحيح المراسيل عندهم، ليس له مرسل إلا صحيح (7).
وهذا صريحٌ في جواز قتله؛ لأجل شَتْم النبي – صلى الله عليه وسلم -، وهو
__________
(1) “الصارم”: (2/ 125).
(2) رقم (4362).
(3) في “سننه” كما ذكر شيخ الإسلام، وهذا الكتاب ذُكر في ترجمته في “طبقات الحنابلة”: (3/ 270) وهو في عداد المفقود.
(4) في رواية ابنه عبد الله، على ما ذكره الخلال عنه في “جامعه”: (2/ 341).
(5) أخرجه الخلال في “الجامع”: (2/ 341 – أهل الملل … ) من مرسل الشعبي.
(6) انظر “جامع التحصيل”: (ص/ 204)، و”تحفة التحصيل”: (ق 168/ ب) ووقعت رواية الشعبي عن علي في “صحيح البخاري”: (6812)، وردَّ هذا بعضُهم، وجزم الدارقطني أنه لم يسمع منه غير ذاك الحديث، انظر “فتح الباري”: (12/ 121).
(7) ذكره العجلي، وقرنَه ابن المديني بابن المسيب في قوة المراسيل، انظر “شرح علل الترمذي”: (1/ 543) لابن رجب.
(1/52)
دليل (1) على قتل الذَّمَّي والمسلم والمسلمة إذا سبَّا بطريق الأوْلَى.
الحديث الثاني (2): ما روى ابنُ عباسٍ: أن أعمى كانت له أمُّ ولدٍ تشتم النبي – صلى الله عليه وسلم – وتقع فيه، فأخَذَ المِغْوَلَ (3) ووضعه في بطنها واتَّكأ عليه فقتلها، ثم ذُكر ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فأهْدَر دَمَها، رواه أبو داود والنسائي (4)، واستدلَّ به أحمد (5).
فهذه القصَّة يمكن أن تكون هي الأولى، فتكون يهودية، وهو قول القاضي أبي يعْلَى وغيره، جعلوا كلا الحديثين واقعة واحدة، ويمكن أن تكون هذه قضية أخرى.
قال الخطَّابي (6): “فيه أنَّ سابَّ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – يُقْتَل؛ لأنّ السبَّ ارتداد”، فهذا دليل أنه اعتقد أنها مسلمة، وليس في الحديث دليل على ذلك، بل الظاهر أنها كافرة، فإن في الحديث أن سيّدها كان ينهاها مرارًا (7) ولو كانت مرتدةً لَما جاز وطؤها وإبقاؤها مدةً طويلةً … (8)
__________
(1) تكررت في الأصل.
(2) “الصارم”: (2/ 140).
(3) حديدة دقيقة، وقيل: سيف دقيق ماضٍ له قفا.
(4) أخرجه أبو داود رقم (4361)، والنسائي: (7/ 107)، والدارقطني: (3/ 112) من طريق أبي داود، والحاكم: (4/ 354)، والبيهقي: (7/ 60).
كلهم من طريق عثمان الشحَّام عن عكرمة عن ابن عباس به، والحديث صححه الحاكم، وقال ابن حجر في “بلوغ المرام”: (2/ 138): رواته ثقات.
(5) انظر “الجامع”: (2/ 341 – أهل الملل … ) للخلال.
(6) “معالم السنن”: (6/ 199 – مع المختصر).
(7) في الأصل: مرار.
(8) هنا كلمة لم تحرر لي.
(1/53)
الحديث الثالث: ما احتج به الشافعيُّ أن الذِّمي إذا سبَّ قُتل، وهو قصة كعب بن الأشرف اليهودي، وقصَّته مشهورة معلومة (1)، قال فيها رسول الله: “مَن لكعبِ بن الأشرافِ فإنه قد آذى الله ورسولَه”؟ فقام محمد بن مَسْلَمة فقالَ: يا رسول الله! أتحب أن أقتله؟ قال: “نعم”، قال: فأذن لي [أن أقول شيئًا] (2)، فأذن له، فأتاه فقال: إن هذا الرجل قد أراد الصدقةَ وعنَّانا، فلما سمعه كعبٌ قال: وأيضًا والله لَتَمَلُّنَّه … الحديث، فقتلوه.
وهو متفق عليه، وكان كعبٌ قد هجا النبىَّ – صلى الله عليه وسلم – فندبَ رسول الله إلى قتلِه، فأتى أصحابُ كعبٍ رسولَ الله فقالوا: إنه قد اغْتِيْل وهو سيدنا، فقال رسول الله: “إنه لو قرَّ كما قرَّ غيرُه لما أوذي (3)، لكنه نال منَّا الأذى وهجانا بالشِّعر، ولم يفعل هذا أحدٌ منكم إلا كان السيف”.
فذلَّت يهودُ وحَذِرَت من يوم قَتْل كعب بن الأشرف.
وكان كعبٌ معاهدًا، فلما سبَّ نقض عهده، وقال فيه: “فإنه قد آذى الله ورسولَه”، فكل من آذى الله ورسولَه قُتِل، والسبُّ أذًى لله ورسوله باتفاق المسلمين، فيكون موجِبًا للقتل.
الحديث الرابع (4): ما رُوي عن عليًّ – رضي الله عنه – قال: قال
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (2510)، ومسلم رقم (1801)، وغيرهم من حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -.
(2) زيادة متعيَّنة.
(3) في “الصارم”: (2/ 152): ” … كما قرَّ غيرُه ممن هو على مثل رأيه، ما اغتيل … “.
(4) “الصارم”: (2/ 188).
(1/54)
رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من سبَّ نبيًّا قُتِلَ، ومن سبَّ أصحابه جُلِد”، رواه أبو محمد الخلَّال، وأبو القاسم الأزَجِيُّ، وأبو ذرًّ الهروي.
وظاهره قتله من غير استتابة؛ لكن فيه عبد العزيز بن الحسن بن زبَالَة وهو ضعيف، قاله شيخ الإسلام (1).
الحديث الخامس: ما روى عبد الله (2) عن أبي بَرْزَة قال: أغلظَ رجلٌ لأبي بكر الصديق، فقلتُ: أقتله؟ فانتهرني وقال: ليس هذا لأحدٍ بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. رواه النسائي (3).
وفي رواية: أن رجلًا شتم أبا بكرٍ، فذكره، رواه أبو داود في “سننه” (4)، بسند صحيح.
وقد استدلَّ به جماعاتٌ من العلماء على قتل سابِّ الرسول، منهم: أبو داود، وإسماعيل بن إسحاق، وأبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم.
__________
(1) “الصارم”: (2/ 191) فقال بعد أن ذكر أن ابن زبَالَة يرويه بسندٍ مسلسل بالهاشميين: “وفي القلب منه حَزَازة، فإن هذا الإسناد الشريف قد رُكَّب عليه متون منكرة” اهـ وحكم عليه الذهبي بالنكارة في “الميزان”: (3/ 341) في ترجمة ابن زبالة.
وله متابعةٌ – لا يُفرح بها – يرويها عبيد الله العمري عن ابن أبي أويس عن الهاشميين. أخرجه الطبراني في “الأوسط”: (5/ 35 – 36)، و”الصغير”: (1/ 393). والعمري متهم بالكذب.
(2) هو: عبد الله بن قدامة بن عَنَزَة أبو السَّوَّار العنبري، ثقة من رجال التهذيب.
(3) “السنن”: (7/ 108 – 109) وسنده صحيح.
(4) رقم (4363)، وكذا النسائي: (7/ 110 – 111) من طريق عبد الله بن مطرَّف بن الشخِّير عن أبي برزة به.
(1/55)
وهذا الحديث يُفِيد أنَّ من سبَّه في الجملة أُبِيح قتلُه، وهو عامٌّ في المسلم والكافر.
الحديث السادس (1): قصة العَصْماء بنت مروان، ما رُويَ عن ابن عباس قال: هَجَت امرأةٌ من خَطْمَةَ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “مَنْ لي بها”؟ فقال رجلٌ من قومها: أنا يا رسول الله، فنهض فقتلها، فأخبر النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: “لا يَنْتَطِحُ بها عَنْزَان (2) “، وقصتها مبسوطة عند بعض أهل المغازي، وكان الرجل عُمَير بن عَدِي، فامتدحَه حسَّان بأبياتٍ (3):
بني وائلِ وبني واقفٍ … وخَطْمَةَ دونَ بني الخزرجِ
متى ما دعت أختُكم ويحها … بُعُولَتها والمنايا تجي
فهزَّت فتًى ماجدًا عِرقُه … كريمَ المداخِلِ والمَخْرجِ
فضرَّجَها مِن نجيع الدِّما … قُبيل الصباح ولم تخرجِ
فأوْرَدَكَ اللهُ بردَ الجِنا … ن جَذلانَ في نَعمةِ المولِجِ
وكان قتلها لخمس ليالٍ بقين من رمضان مرجِعَ رسول الله من بَدْر، وذكر هذه القصة أصحاب السِّيَر، مثل ابن سعد والعسكري وأبو
__________
(1) “الصارم”: (2/ 195).
(2) أخرجه الواقدي في “المغازي”: (1/ 172 – 173) بسندٍ منقطع، وتبعه ابنُ سعد: (2/ 27) وغيره. وأخرجه ابن عدي في “الكامل”: (6/ 145)، والخطيب في “تاريخ بغداد”: (13/ 99) من طريق محمد بن الحجَّاج أبي إبراهيم الواسطي، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس به.
وفي إسناده محمد بن الحجاج الواسطي، اتهمه غير واحدٍ بالكذب والوضع.
(3) “الديوان”: (1/ 449)، و”سيرة ابن هشام”: (2/ 637).
(1/56)
عبيد في “الأموال” (1) والواقدي وغيرهم، وهي مشهورة، وأنها قُتِلت لسبِّها النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -.
الحديث السابع (2): قصة أبي عَفَك اليهودي، ذكره أهل المغازي والسير (3)، وكان من شأنه هِجاء النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، حتى خرج إلى بدرٍ وظفَّره الله بمن ظفَّره، فحسدَه وهجاه وذمَّ من اتّبعَه، أعظم ما فيها قوله:
فيسلبهم أمرَهُم راكبٌ … حرامًا حلالًا لِشَتَّى معًا
قال سالم بن عُمير: عليَّ نذرٌ أن أقتله، وذكر محمد بن سعد (4) أنه كان يهوديًّا. لكنه من رواية أهل المغازي، لكنه يصلح أن يكون عاضدًا ومؤكِّدًا ومؤيدًا بلا تردُّد.
الحديث الثامن: حديث أنس بن زُنَيم الدِّيلي، وهو مشهور عند أهل السِّيَر، ذكره ابن إسحاق والواقدي (5) وغيرهما، أنه هجا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؛ فسمعه غلام من خُزَاعة فشجَّه، وكان قد نَدَر رسول الله دَمَه، أي: أهدره، فلمَّا بلغه ذلك جاء إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مُعْتذرًا ومدحه في قصيدةٍ أوَّلُها:
أأَنتَ الذي تُهْدَى مَعَدٌّ بأمره … بل اللهُ يهديها وقال لكَ أشهدِ
__________
(1) (2/ 194 رقم 485).
(2) “الصارم”: (2/ 211).
(3) رواه الواقدي في “المغازي”: (1/ 174)، وانظر “سيرة ابن هشام”: (4/ 635 – 636).
(4) “الطبقات”: (2/ 28).
(5) “سيرة ابن هشام”: (2/ 424) مختصرًا، و”مغازي الواقدي”: (2/ 782 – 791).
(1/57)
فما حملتْ مِن ناقةٍ فوقَ رَحْلِها … أبرَّ وأوفى ذِمةً من محمدِ
تَعَلَّم رسولَ الله أنك مُدْركي … وأنَّ وعيدًا منك كالأخذِ باليدِ
تَعَلَّم رسولَ الله أنك قادِرٌ … على كلَّ سَكْنٍ من تَهامٍ ومُنجدِ (1)
ونُبَّي رسولُ الله أني هجوتُه … فلا رفعَتْ سَوْطي إليَّ إذن يدي (2)
سوى أنني قد قلتُ يا ويحَ فِتْيَةِ … أُصِيْبوا بنحسٍ يوم طَلْقٍ وأسعُدِ
فإنيَ لا عِرضًا خرقتُ (3) ولا دمًا … هرقتُ ففكِّر (4) عالمَ الحقَّ واقصِدِ
فلما بلغ رسول الله قصيدتَه واعتذارَه، وكلَّمه فيه نوفل بن معاوية الدَّيلي وشَفَع فيه، وكان قد شجَّه بعضُ بني خُزاعة، فقال رسول الله: “قد عفوتُ عنه”، قال نوفَل: فِداك أبي وأُمِّي، ثم قَدم واعتذر، وقال: إنهم قد كذبوا عليه (5).
فوجه الدلالة: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان قد صالح قريشًا عشر سنين،
__________
(1) كذا بالأصل، و”مغازي الواقدي”، وفي “السيرة”:
* على كلِّ صَرْمٍ مُتْهِمِين ومُنْجِد *
والسَّكْن: أهل الدار. والصرم: البيوت المجتمعة.
(2) في “السيرة”:
ونبَّوا رسولَ الله أني هجوتُه … فلا حملت سوطي إليَّ إذن يدي
(3) في “السيرة”: ” … لا دينًا فتقت”.
(4) في “السيرة”: “تبيَّن”.
(5) هذا تصرُّف من المختصر، وإلا فقد أنشد في القصيدة نفسها:
تعلَّم بأن الرَّكب ركبَ عُويمرٍ … هم الكاذبون المخلِفُو كلّ موعِدِ
(1/58)
ودخل فيهم خزاعة وبنو بكر (1)، ثم إن هذا الرجل المعاهد هجا رسول الله – على ما قيل عنه – وشجَّه ذلك الرجل، فلولا أنهم علموا أن هجاء النبي – صلى الله عليه وسلم – من المعاهد مما يوجِبُ الانتقامَ منه لم يفعلوا ذلك.
ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم – هَدر دمَه لذلك، وهذا نصٌّ في أنَّ المعاهد الهاجي يباح دمُه، ثم إنه أسلم في شعره، ولهذا عدُّوه من الصحابة، وقوله: “تعلَّم رسولَ الله” دليل على إسلامه، ومع ذلك فانكر أنه هجاه، وردَّ شهادة الذين شهدوا عليه، فإنهم أعداؤه، وبينهم حروب وقتال، فلو لم يكن ما فعله مُبِيحًا لدمه، لما احتاج إلى فعل شئٍ من ذلك.
ثم إنه بعد إسلامه واعتذاره وتكذيبه المُخْبِريْن ومدحِه لرسول الله، طلبَ العفوَ منه عن إهدارِ دمه، والعفوُ إنما يكون مع جواز العقوبة على المذنب (2)، فعُلِمَ أنه كان له أن يُعاقبه بعد مجيئه مسلمًا معتذرًا، وإنما عفا عنه حلمًا وكرمًا، مع أن العهد كان عهد هُدْنة ليس عهد جِزْية، والهادن المقيم ببلده يُظهر ببلده ما شاء، فلا ينتقض عهدُه حتى يُحارب، فعُلِمَ أن الهجاءَ من جنس الحِراب وأغلظ منه، وأن الهاجي لا ذِمَّةَ له.
الحديث التاسع (3): قصة ابن أبي سَرْحٍ، وهي مما اتفق عليها أهلُ العلم، واستفاضت عندهم استفاضةً تُغني عن رواية
__________
(1) فخزاعةُ في عهده – صلى الله عليه وسلم -، وبنو بكر في عهد قريش.
(2) في “الصارم”: “الذنب”.
(3) “الصارم”: (2/ 219).
(1/59)
الآحاد (1)، وذلك أن يومَ فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله بايع عبدَ الله، فرفع رأسه فنظر إليه، ثلاثًا، كلُّ ذلك يأبى، فبايعه بعد الثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: “أما كان فيكم رجلٌ رشيدٌ يقومُ إلى هذا حين رآني كففتُ يدي عن بيعته فيقتله”، فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أوْمأت إلينا بعينك؟ فقال: “إنه ما يَنْبَغي لنبيٍّ أنْ تكون له خائنةُ الأعْيُن” رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح، والنسائيُّ كذلك.
وكان قد ندر (2) رسول الله دَمَه، وكان أخا عثمان من الرَّضاعة، فشَفَع له إلى رسول الله فتركه، وكان ابن أبي سَرْح هذا قد أسلم ثم ارتدَّ ولحق بالمشركين، وكان يكتب لرسول الله الوحيَ، وكان لما رجع إلى المشركين يقول لهم: إني لأصرِّفه كيف شئت، إنه ليأمرني أن أكتب له الشئَ، فأقول له: كذا أو كذا، فيقول: نعم، وذلك أن رسول الله كان يقول: “عليم حكيم”، فيقول: أو أكتبُ: “عزيز حكيم” فيقول له: “نعم كلاهما سواء” (3).
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم (2683، 4359)، والنسائي: (7/ 105 – 106)، والحاكم: (3/ 45)، والبيهقي: (7/ 40) كلهم من طريق أحمد بن المفضل حدثنا أسباط بن نصر الهَمْدَاني زعم السُّدي عن مصعب بن سعد عن أبيه به.
والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه شيخ الإسلام والألباني، انظر “السلسلة الصحيحة” رقم (1723).
(2) في الأصل: “ند” وهو سهو.
(3) انظر “السيرة”: (2/ 409) لابن هشام.
(1/60)
وقيل (1): إن فيه نزلت: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ … } الآية [الأنعام: 93]فوجه الدلالة: أنه افترى على رسول الله أنه كان يُتَمِّم له الوحي ويكتب ما يريد ويقرّه رسول الله على ذلك، وهذا نوع من أنواع السبِّ.
وكذلك لما افترى عليه كاتب آخر مثل ذلك، قَصَمه الله وعاقبه بأن أماتَه، وكلما دفنوه تلفظه الأرض (2).
فهذا من أوضح الدلالة أن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه.
فإباحة دم ابن أبي سَرْح بعد مجيئه تائبًا مسلمًا، وقول رسول الله: “هلَّا قتلتموه” ثم عَفوه عنه بعد ذلك = دليلٌ على أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان له أن يقتله وأن يعفو عنه، وهو دليلٌ على أنَّ له أن يقتل من سبَّه، وإن تاب وعاد إلى الإسلام.
وصحَّ (3) أن ابن أبي سَرْح كان قد رجعَ إلى الإسلام قبل الفتح، وقال لعثمان: “إن جُرْمي عظيم، وقد جئتُ تائبًا” (4)، ثم جاء به إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد الفتح، وهدوء الناس بعدما تاب، فأراد النبي – صلى الله عليه وسلم – من
__________
(1) انظر “تفسير الطبري”: (5/ 268)، و”أسباب النزول”: (ص/ 254)، و”الدر المنثور”: (3/ 55 – 56).
(2) أخرج القصة البخاري رقم (3617)، ومسلم رقم (2781) من حديث أنسٍ – رضي الله عنه -.
(3) لم يجزم شيخ الإسلام في “الصارم”: (2/ 235) بصحته، بل قال: “رُوِيَ عن عكرمة … ” وقال: “وذكر آخرون أن ابن أبي سرح رجع إلى الإسلام”.
(4) في رواية الواقدي لقصته في “المغازي”: (2/ 855).
(1/61)
المسلمين أن يقتلوه حينئذٍ، وتربَّص زمانًا ينتظر قتلَه، ويظن أن بعضهم سيقتله، وهذا أوضح دليلٍ على جوازِ قتلِه بعد إسلامه.
واعلم أن افتراء ابن أبي سَرْح والكاتب الآخر النصراني على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، بأنه كان يتعلَّم منهما افتراءٌ ظاهر، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يُكَتِّبه إلا ما أنزله الله عليه، ولا يأمره أن يُثْبِت قرآنًا إلا ما أوحاه الله ولا يتصرَّف به (1) كيف شاء، بل يتصرف كما يشاء الله تعالى.
ثم اختلف أهل العلم؛ هل كان رسول الله أقرَّه على أن يكتب شيئًا غير ما ابتدأه النبي – صلى الله عليه وسلم – بإكتابِه، وهل قال له شيئًا؟ على قولين:
أحدهما: أن النصرانيَّ وابنَ أبي سرح افتريا ذلك كلَّه، وأنه لم يصدر منه إقرارٌ على كتابةِ غيرِ ما (2) قاله أصلًا، وإنما هما افتريا ذلك لينفِّروا الناسَ عنه.
والقول الثاني: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له شيئًا، فيقول له ويُمْلي عليه: “سميعًا بصيرًا”، فيكتب: “سميعًا عليمًا”، فيقول له: “دعه” (3)، ونحو ذلك.
ويكون كل واحد من الحرفين قد نزل، فيقول له: اكتب كذا وإن شئت كذا، فكلٌّ صواب، وقد جاء مصرَّحًا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “أُنْزِلَ
__________
(1) في مطبوعة “الصارم”: “ولا ينصرف له” وما في المختصر أصح.
(2) في “الأصل”: “على كتابة ما غير ما … “! وهو سهو.
(3) أخرجه أحمد: (3/ 245 – 246)، من طريق ثابتٍ عن أنسٍ، وأخرجه بنحوه في (3/ 120 – 121) وابن حبان “الإحسان”: (2/ 62) من طريق حميد عن أنسٍ. وصححه شيخ الإسلام (2/ 242).
(1/62)
القرآنُ على سبعةِ أحْرُفِ كلُّها شافٍ كافٍ، إن قلتَ: “عزيز حكيم” أو “غفور رحيم” فهو كذلك ما لم تَخْتم آيةَ رحمةٍ بعذاب أو آيةَ عذابٍ برحمةٍ” (1).
فالأحاديث تدلُّ على أن من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن أن تُخْتم الآية الواحدة بعدَّة أسماء من أسماء الله تعالى على سبيل البدل، يُخَيَّر القارئُ في القراءة بأيِّها شاء، فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يُخَيّره أن يكتب ما شاء من تلك الحروف، وربَّما قرأها النبيُّ بحرفٍ، فيقول له: أو كذا وكذا لكثرة ما سمعه منه يُخَيِّر بحرفَيْن، فيقول له: “نعم كلاهما سواء”؛ لأن الآية نزلت بالحرفين معًا، فيقرّه على ذلك، ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يُعارض النبيَّ بالقرآن في كلِّ رمضان، وكانت العرضة الآخرة على حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ به الناس اليوم، وهو الذي جمع عثمانُ والصحابةُ عليه الناسَ.
ورُوِيَ فيها وجه آخر (2): أنه كان يقول للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: أكتب “تعملون” (3) أو “تفعلون”؟ فيقول له: “اكتب أيَّ ذلك شئت”.
فيوفّقه الله للصواب من ذلك، فيكتب أحب الحرفين إلى الله إن كان
__________
(1) هذا الحديث معدود من الأحاديث المتواترة واتفق على تخريجه أصحاب الصحاح والسنن المسانيد، وفي بعض طرقه ألفاظ وزيادات، واللفظ المذكور ملفَّق من عدة روايات. انظر: “قطف الأزهار”: (ص/ 163)، و”المرشد الوجيز”: (ص/ 77 – 95) لأبي شامة.
(2) أخرجه الإمام أحمد في “الناسخ والمنسوخ” – كما في الصارم: (2/ 245) وساق سندَه – وابن أبي حاتم – كما في الدر المنثور: (3/ 55) – مختصرًا، وسنده مع إرساله ضعيف جدًّا.
(3) في “الأصل”: “تعلمون” سبق قلمٍ.
(1/63)
كلاهما منزّلًا، أو يكتب ما أنزله الله فقط، وكان هذا التخيير من النبي – صلى الله عليه وسلم – توسِعَةً في المُنَزَّل، وثقة في (1) الله بحفظ القرآن، وعلمًا بأنه لا يكتب إلا ما أنزل، وليس هذا بمنكرٍ في كتابٍ تولَّى الله حفظه، وضمن أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلْفِه.
وذكر بعضهم وجهًا ثالثًا: أنه ربما كان يسمع من النبي – صلى الله عليه وسلم – الآية حتى لم يبق منها إلا كلمة أو كلمتان، فيستدّل بما قرأ منها على باقيها، كما يفعله الفَطِن الذكيُّ، فيكتبه ثم يقرأه على النبي – صلى الله عليه وسلم – فيقول: “كذاك أُنْزلَ”، كما اتفق مثل ذلك لعمر بن الخطاب في قوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (2) [المؤمنون: 14].
قال شيخ الإسلام: والقول الأول أشبه الأقوال.
الحديث العاشر (3): حديث القَيْنتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبيّ – صلى الله عليه وسلم -، ومولاة بني هاشم (4).
__________
(1) كذا استظهرت، والكلمتان غير محررتين في النسخة، وفي الصارم: “أو ثقة بحفظ الله … “.
(2) أخرجه الطيالسي في مسنده: (ص/ 9 رقم 41)، وابن أبي حاتم وابن مردوية وابن عساكر – كما في الدر المنثور: (5/ 12) – عن أنسٍ أن عمر قال: وافقت ربي في أربع فذكر هذه الآية منها.
وأخرجه الطبراني في “الكبير”: (11/ 439) وابن مردوية – كما في الدر: (5/ 14) – عن ابن عباس، وفي سنده مقال، انظر “مجمع الزوائد”: (9/ 71).
(3) “الصارم”: (2/ 249).
(4) انظر “مغازي الواقدي”: (2/ 859)، و”سيرة ابن هشام”: (2/ 409 – 410).
(1/64)
وذلك مشهور مستفيض عند أهل السير، فأمر رسول الله بقتل قَيْنَتين لابن خَطَل تُغنِّيان بهجاء رسول الله، فَقُتِلت إحداهما وكمنت الأخرى حتى اسْتُؤمن لها.
ذكره محمدُ بن عائذ، وابنُ إسحاق، وعبدُ الله بن حزم.
وقيل: كانت القينتان لابن خطل، فأمر رسول الله بقتلهما معه، وحديثهما مما اتفق عليه علماء السير واستفاض.
ووجه الدلالة: أن تعمد قتل المرأة لمجرَّد الكفر الأصلي لا يجوز بالإجماع، وقد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله أنه نهى عن قتل النساء والصبيان (1).
فعُلِم أن أمره بقتل هاتين المرأتين إنما كان لأجل الهجاء الذي كانتا تُغنِّيان به، فمن هجاه وسبَّه وجبَ قتله بكلِّ حال.
الحديث الحادي عشر (2): أنه – صلى الله عليه وسلم – دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه، جاء رجلٌ فقال: ابن خَطَلٍ متعلِّق بأستار الكعبة، فقال: “اقتلوه”.
وهذا مما استفاض نقلُه، وهو في “الصحيحين” (3)، وأنه قُتِل، وكان جُرْمه: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – استعمله على الصدقة، وأصْحَبه رجلًا يخدمه
__________
(1) منها: ما أخرجه البخاري رقم (3014)، ومسلم برقم (1744) من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه نهى عن قتل النساء والصبيان بعد أن رأى امرأةً مقتولة في بعض المغازي.
(2) “الصارم”: (2/ 264).
(3) البخاري رقم (1846)، ومسلم رقم (1357) من حديث أنسٍ – رضي الله عنه -.
(1/65)
فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعامًا، فقتله، ثم خاف أن يُقْتَل فارتدَّ واستاق إبل الصدقة، وأنه كان يهجو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويأمر جاريتيه تغنيان بذلك (1)، فله ثلاث جرائم مبيحة لدمه: قتل النفس، والرِّدة، والهجاء.
فلا يمكن قتله أنه كان بالقِصاص (2)؛ لأنه كان ينبغي أن يُسَلَّم إلى أولياء القتيل الذي قتله من خُزاعة؛ إما أن يقتلوه، وإما أن يعفوا عنه، أو يأخذوا (3) الدِّيَة.
ولم يُقتل لمجرّد الردة – أيضًا – لأن المرتَدَّ يُستتاب، وإذا اسْتَنْظَرَ أُنْظِر، وهذا ابن خَطَل قد فرَّ إلى البيت عائذًا به، طالبًا للأمان، تاركًا للقتال، مُلْقيًا للسلاح، وقد أمر النبىُّ بعد علمه بذلك بقتله، وليس هذا سنة من يُقْتَل لمجرَّد الرِّدة، فثبت أنه إنما كان لأجل الهجاءِ والسَّبِّ.
الحديث الثاني عشر: أنَّ النبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – أمر بقتل جماعةٍ لأجل سبِّه – صلى الله عليه وسلم -، وقَتَل جماعةً لأجل ذلك، مع كَفِّه عمن هو بمنزلتهم في كونه كافرًا حربيًا؛ فمن ذلك ما تقدم عن ابن المسيب أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر يوم فتح مكة بقتل ابن الزِّبَعْرَى (4).
__________
(1) انظر: (ص/ 64).
(2) كذا بالأصل، وهو واضح المعنى.
(3) بالأصل: “يأخذ” بالإفراد، وأصلحناه ليتحد السياق.
(4) ذكره ابن سعد في “الطبقات”: (2/ 141)، قال شيخ الإسلام في “الصارم”: (2/ 267): “وسعيد بن المسيّب هو الغاية في جودة المراسيل، ولا يضره أن لا يذكره بعض أهل المغازي – أي ابن الزِّبَعْرى – ومن أثبت الشيء وذكره حجة على من لم يُثبته” اهـ.
(1/66)
وذكر ابن إسحاق قال (1): لما قَدِم رسولُ الله المدينةَ منصرفًا عن الطائف كتب بُجِير بن زُهَيْر إلى أخيه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله قد قتلَ رجالًا (2) بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقيَ من شعراء قريش ابن الزِّبَعْرى وهُبيرة بن أبي وَهْب قد هربوا في كلِّ وجهٍ، فهرب ابن الزِّبَعْرى إلى نجران، ثم قدم على رسول الله مسلمًا وله أشعار حسنة في التوبة والاعتذار، فأهدر دمه للسَّبِّ مع أمانِه لجميع أهل مكة إلا من كان جرمه مثله.
ومن ذلك عبد الله بن أبي أُمية بن المغيرة، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطَّلب، قصَّته في هجائه للنبي مشهورة (3)، وكان أخاه من الرضاعة أرضعته حليمة، فاهدر دمَه لجل أذاه وهجائه له ولأصحابه، حتى جاء واعتذر وأسلم وجعل يتشفَّع بعمه العباس وبَعلِيٍّ وبكلِّ أحدٍ، ثم دخل عليه وأنشَده في إسلامه واعتذاره حتَّى رقَّ له فقال:
لعمرك إني يومَ أحملُ رايةً … لتغْلِبَ خيلُ اللاتِ خيلَ محمدِ
لكالمدْلِجِ الحيرانِ أظلمَ ليلُه … فهذا أواني حين أُهدى وأهْتدي
هدانِىَ هادٍ غيرُ نفسي ودلَّني … على الله من طرّدتُ كلَّ مطرَّدِ
__________
(1) انظر “السيرة النبوية”: (2/ 501) لابن هشام.
(2) وقع في الأصل: “رجلًا” وهو سهو.
(3) انظر “المغازي”: (2/ 806 – 810) للواقدي، و”السيرة”: (2/ 400 – 401) والأبيات فيه.
(1/67)
وذكر باقي الأبيات.
وفي روايةٍ (1) قال: فطلبنا الدخول على رسول الله، فأبى، فكلَّمته أم سلمة زوجته – لعبد الله بن أبي أمية وأبي سفيان بن الحارث – فقالت: يا رسول الله! صِهْرك وابن عمتك وابن عمك وأخوك، وقد جاء الله بهما مُسلِمَين، لا يكونان أشقى الناس بك، وقد عفوتَ عمن هو أعظم جرمًا منهما، وأنت أحقُّ الناس عفوًا عن جُرمه. فقال: “هتكَ عِرضي لا حاجة لي به”، فلما بلغ الخبر لأبي سفيان – وكان معه [ابنه] (2) – فقال: والله ليقبلنَّ مني أو لأذهبنَّ أنا وابني حتى نموت في البرِّيَّة (3) جوعًا وعطشًا، وأنت أحلم الناس وأكرم الناس. فرقَّ رسول الله حينئذٍ، فأَذِنَ ودخلا (4) فأسلما، وكانا حَسَني الإسلام. قُتِل عبد الله بن أبي أُمية بالطائف، ومات أبو سفيان بالمدينة في خلافة عمر.
فوجه الدلالة: أنه ندر دم أبي سفيان بن الحارث دون غيره من صناديد قريش الذين كانوا أشدَّ تأثيرًا بالجهاد واليد والمال (5)، وليس له سبب سوى السَّبِّ والهجاء، ثم جاء مسلمًا، وهو يُعرض عنه، وكان من شأنه أن يتألَّف الأباعدَ فكيف بعشيرته!؟ كلُّ ذلك بسبب هَتْك عِرضه كما فسَّره في الحديث (6).
__________
(1) للواقدي في “المغازي”: (2/ 810).
(2) سقطت من الأصل، والاستدراك من “المغازي” و”الصارم”.
(3) كذا استظهرتها.
(4) في الأصل: “ودخل”! والمثبت الصواب.
(5) كذا بالأصل، وفي “الصارم”: (2/ 275): “أشد تأثيرًا في الجهاد باليد والمال”. وهو أصح.
(6) إذ قال: “هو الذي هتكَ عِرْضي، فلا حاجة لي بهما”، “المغازي”: (2/ 810).
(1/68)
وكذلك أمر يوم الفتح بقتل ستة سماهم: ابن أبي سَرْح، وابن خَطَل، والحويرث، ومِقْيَس، وعكرمة، وهبَّار (1).
فمثل [هذا] مشهور عن هؤلاء، وقد رواه الأئمة (2)، وأكثر ما فيه أنه مرسل، والمرسل إذا روي من جهاتٍ مختلفة لا سيما ممن له عناية بهذا الأمر كان كالمسنَد؛ بل بعض ما يشتهر عند أهل المغازي أقوى مما يُروى بالإسناد الواحد.
وكذلك عُقبة بن أبي مُعَيْط قُتِل صبرًا فقال: يا معشر قريش مالي أُقتل من بينكم صبرًا؟ فقال رسول [الله]: “بكفرك وافترائك على رسول الله” (3).
وكذلك النضر بن الحارث قتلَه عليٌّ صبرًا لسبِّه لرسول الله (4).
ففي هذا بيان أن السبَّ أوجبَ قتلَ هذين من بين أُسارى بدرٍ، وأمر بقتل من كان يهجوه بعد الفتح من قريشٍ وسائرِ العرب.
وكذلك جنّيٌّ سبَّ وهجا فقتلَه عِفْريتٌ من الجنّ كان قد أسلم، فأخبر به رسولُ الله الناسَ (5).
__________
(1) انظر “المغازي”: (2/ 825). وجاءت رواياتٌ أخرى في تعيين من أمر بقتلهم، جمعهم الحافظ من متفرقات الروايات في “الفتح”: (7/ 604 – 605).
(2) أصحاب المغازي؛ كالزهري وابن عقبة وابن إسحاق والواقدي والأموي.
(3) بهذا اللفظ أخرجه البزار “الكشف: 2/ 320” من حديث ابن عباسٍ، وقد تفرد به يحيى بن سلمة بن كهيل، وهو ضعيف. وقصة قتله مشهورة أخرجها أصحاب المغازي.
(4) انظر “المغازي”: (1/ 106 – 107) للواقدي.
(5) انظر “الصارم”: (2/ 291 – 292).
(1/69)
وكذلك أبو رافع بن أبي الحقيق اليهودي، وقصته مشهورة في “الصحيح” (1).
فكل هذه الأحاديث دالَّة على أن من كان يهجوه ويؤذيه فإنه يقتل ويحض عليه الناس.
الحديث الثالث عشر (2): ما رُوي من حديث أبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي، ورواه أبو أحمد بن عدي في “الكامل” (3) قال: كان حيٌّ من بني ليث من المدينة على مِيْلَين، وكان رجلٌ قد خطبَ منهم في الجاهلية فلم يزوِّجوه، فأتاهم عليه حُلَّة، فقال: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كساني هذه الحُلَّة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم، ثم نزل على تلك المرأة التي كان يحبُّها، فأرسلوا إلى رسول الله، فقال: “كذبَ عَدُوُّ الله”، ثم أرسل رجلًا فقال: “إنْ وَجَدْتَه فاقْتُلْه، وإن وجَدْتَه ميِّتًا فأحْرِقه في النار”، ثم قال: “من كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتبَوَّأ مَقْعَدَه مِنْ النَّار”.
وإسناده على شَرْط الصحيح، لا يُعلم له عِلَّة (4).
__________
(1) البخاري رقم (3022، 3023، 4038).
(2) “الصارم”: (2/ 323).
(3) (4/ 53 – 54)، وقد ساق ابن عدي القصة على أنها من مناكير صالح بن حيان القرشي الكوفي، وقال عقبها: “وهذه القصة لا أعرفها إلا من هذا الوجه” أي: من طريق حجاج الشاعر، حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا علي بن مُسْهِر، عن صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه به.
(4) هذا وهم من شيخ الإسلام – رحمه الله – منشؤه عدم التمييز بين صالح بن حيان القرشي – وهو الراوي هنا – وبين صالح بن حيّ ويقال: حيان الثقة، وقد بيَّن هذا الوهم قديمًا الإمام الذهبي في “سير النبلاء”: (7/ 373 – 374) فقال: “وقد كان شيخنا أبو العباس اعتمد في كتاب “الصارم المسلول” له على حديث لصالح بن =
(1/70)
وله شاهدٌ (1)، وفيه: ثم قال: “لا تحرِّقه، فإنه لا يعذِّب بالنارِ إلا ربُّ النار”.
وللناسِ في هذا الحديث قولان:
أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمَّد الكذبَ على رسول الله ومِن هؤلاء من قال: يكفُر بذلك، قاله جماعةٌ، منهم أبو محمد الجويني.
ووَجْه ذلك: أنَّ الكذبَ عليه كذبٌ على الله، ولهذا قال: “إنَّ كذبًا عَلَيَّ ليس ككذبٍ على أحَدِكُم” (2)، فإن ما أمر به الرسول فقد أمر الله به، يجبُ اتباعُه كما يجب اتباع أمر الله، فإن الكاذب عليه كالمكذِّب له.
يوضِّحه أن تكذيبه نوع من الكذب، فإن مضمون تكذيبه الإخبار عن خبره أنه ليس بصدق، وذلك إبطالٌ لدين الله. وأيضًا فإن الكاذبَ (3) عليه يُدْخِل في دينه ما ليس منه عمدًا (4)، ويزعم أنه يجب على الأمة
__________
= حيّان هذا وقوَّاه، وتمَّ عليه الوهم في ذلك” اهـ وانظر أيضًا “الميزان”: (3/ 7).
(1) رواه المُعَافَى النهرواني في “الجليس الصالح”: (1/ 182 – 183): ومن طريقه ابن الجوزي في “الموضوعات”: (1/ 83)، وفي سنده داود بن الزبرقان وهو متروك.
وللحديث شواهد أخرى ضعيفة لا يرتقي بها إلا درجة القبول، قال الذهبي: “لم يصح بوجهٍ”. وانظر “قصص لا تثبت”: (4/ 13 – 24) للعتيق.
(2) أخرجه البخاري رقم (1291)، ومسلم رقم (4) من حديث المغيرة – رضي الله عنه -.
(3) في الأصل “الكاب” وهو سهو.
(4) في الأصل “عمد”.
(1/71)
التصديق بذلك.
وهو – أيضًا – استهزاء واستخفاف به؛ لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به، بل وقد لا يجوز الأمرُ بها، وهذا نِسبة [له] إلى السَّفَة، أو أنه يُخبر بأشياء باطلة، وهذا نسبة له إلى الكذب، وهو كفر صريح.
وبالجملة؛ فمن تعمَّد الكذب على الله، فهو كالمتعمِّد لتكذيب الله وأسوأ حالًا، فكذلك الكذب على رسوله كالتكذيب له.
قال شيخ الإسلام (1): “واعلم أن هذا القول في غاية القوة” – وذكر له أدلة لا يمكن دفعها قوَّةً وكثرةً (2) – ثم قال: “لكن يتوجَّه أن يُفرَّق بين الذي يكذب عليه مشافهةً، وبين الذي يكذب عليه بواسطة، مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا، فإن هذا إنما كذبَ على ذلك الرجل، فأما إن قال: هذا الحديث صحيح، أو ثبت عنه أنه قال ذلك عالمًا بأنه كَذِب، فهذا قد كذبَ عليه.
أما إذا افتراه ورواه روايةً ساذَجَةً؛ ففيه نظر.
وأما من روى حديثًا وهو يعلم أنه كذب؛ فهو حرام، لكن لا يكفر، إلا أن ينضمَّ إلى روايته ما يوجب الكفر؛ لأنه صادق في أن شيخه حدَّثه به، وعلى هذا؛ فمن سبَّه فهو أولى بالقتل ممن كذب عليه، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – قد أمر بقتل الذي كذبَ عليه من غير استتابة، فكذلك السَّابّ وأولى.
__________
(1) “الصارم”: (2/ 333).
(2) ما بين المعترضتين من كلام المختَصِر.
(1/72)
والقول الثاني: أن الكاذب عليه تُغَلَّظ عقوبته ولا يكفر ولا يجوز قتلُه، لأن موجبات الكفر والقتل معلومة، وليس هذا منها، فلا يجوز أن يثبت ما لا أصل له. ومن قال هذا فلا بُدَّ أن يقيِّد كلامه بأنه لم يكن الكذِبُ عليه متضمِّنًا لعيبٍ ظاهر، فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلامًا يدلُّ على نقصِه وعيبِه دلالةً ظاهرةً، مثل حديث: عَرَق الخيل (1)، ونحوه من التُّرَّهات، فهذا مستهزِئٌ به استهزاءً ظاهرًا، ولا ريب أنه كافر حلال الدم. ذكر ذلك شيخ الإسلام.
فهذا الرجل كذبَ عليه كذبًا يتضمَّن عَيْبَه وانتقاصَه؛ لأنه زعم أنه حكَّمه في دماء قومٍ وأموالهم، وأذن له أن يبيتَ حيث شاء من بيوتهم، ليبيت عند تلك المرأة ويفجر بها.
ومن زعمَ أنه حلَّل المحرَّمات، فقد انتقصَه وعابَه، فثبت أن الحديث نصٌّ في قتل الطاعن على كلا القولين، وهو المطلوب، أما على الأوَّل؛ فلأنه كافر، وأما على الثاني؛ فلأنه طاعن، ويؤيد الأول أنهم لو ظهر لهم طعنٌ وسبٌّ لبادروا إلى الإنكار عليه.
الحديث الرابع عشر (2): حديث الأعرابيِّ الذي قال للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – لما أعطاه: ما أحسنتَ ولا أجملتَ، فأراد المسلمون قتلَه، فقال: “لو قَتَلْتُموه لدخلَ النَّارَ” (3).
__________
(1) حديث موضوع مُخْتَلَق، أخرجه ابن الجوزي في “الموضوعات”: (1/ 105) وقال عقبة: “هذا حديث لا يشك في وضعه، وما وضع مثل هذا مسلم” اهـ.
(2) “الصارم”: (2/ 339).
(3) أخرجه البزار “الكشف: 3/ 159 – 160” وأبو الشيخ في “أخلاف النبي”: (1/ 472 رقم 177)، وفيه إبراهيم بن الحكم شديد الضعف.
(1/73)
فيدلُّ على أن من آذاه إذا قُتِل دخل النار، وذلك لكفره وجواز قتلِه، وإلا كان يكون شهيدًا. وفي هذا الحديث أنه – صلى الله عليه وسلم – عفى عنه؛ لأنه كان له أن يعفو عمَّن آذاه.
ومن ذلك قول الذي قال له حين قَسَم غنائمَ حُنين: إن هذه قِسْمة ما أُرِيْد بها وجهُ الله، فقال عمر: دعني أضربُ عُنُقَ هذا المنافق.
والحديث في “الصحيح” (1)، وإنما منعه لئلَّا يتحدَّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، كذا قاله – صلى الله عليه وسلم -.
ومن ذلك قول عبد الله بن أُبَي: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، فقال عمر: دعني أضربُ عُنُقَه، فقال: إذَن [تُرْعَد] (2) له أُنوْفٌ”. وكان ذلك والإسلام ضعيف، فخاف أن ينفر الناس عن الإسلام (3).
وكذلك قوله: “مَنْ يَعْذِرُني في رجل بلغَ أذاه في أهل بيتي؟ ” [قال سعد بن معاذ: أنا أْعذِرُك، إن كان من الأوس ضربت عنقَه] (4)، ولم ينكر عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – (5).
__________
(1) “صحيح مسلم” رقم (1063) من حديث جابر – رضي الله عنه -.
(2) في “الأصل”: “ترغم” وهو خطأ، والصواب ما أثبتُّ كما في “الصارم” و”مغازي الواقدي”: (2/ 418)، و”السيرة النبوية”: (2/ 293)، وهذه اللفظة ليست في الصحيح، والمعنى: تنتصر له وتحامي عنه.
(3) أخرجه البخاري رقم (3518)، ومسلم رقم (2584) من حديث جابر – رضي الله عنه -.
(4) زيادة لا بد منها، ليستقيم السياق والاستدلال، وهي في الأصل: (2/ 342).
(5) القصة مشهورة، رواها البخاري رقم (4141)، ومسلم رقم (2770) من حديث =
(1/74)
الحديث الخامس عشر: قال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في “مغازيه” عن الشعبي (1): لما افتتح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكةَ دعا بمال العُزَّى فنثره بين يديه، ثم دعا رجلًا قد سمَّاه فأعطاه منها، ثم دعا أبا سفيان بن حرب فأعطاه منها، ثم دعا سعيد بن حُرَيث (2) فأعطاه، ثم دعا رهطًا من قريش فأعطاهم، فجعل يُعطي الرَّجلَ القِطعة من الذَّهب فيها خمسون مثقالًا وسبعون، فقام رجلٌ فقال: إنك لبصير حيث تضع التِّبْر، ثم قال الثانية، فأعرض عنه، ثم قام (3) الثالثة فقال: إنك لتحكم وما نرى عدلًا، فقال: “وَيْحَكَ إذًا لا يَعْدِلُ أحدٌ بعدي”، ثم دعا رسول الله أبا بكر فقال: “اذْهَبْ فاقْتُلْه”، فذهب فلم يَجِدْه، فقال: “لو قتلْتَه لرَجَوْتُ أن يكونَ أوَّلَهم وآخِرَهم”.
فهذا نصٌّ في قتل مثل هذا الطاعن على رسول الله مِن غير استتابة، وهذه قصةٌ أخرى غير قصَّة غنائم حُنين، ولا قصَّة الذهب الذي بعثه عليٌّ، وكان هَدْم (4) العُزَّى عقيب الفتح سنة ثمانٍ، وحُنين بعد ذلك في ذي القَعْدة، وحديث علي سنة عشرٍ.
__________
= عائشة – رضي الله عنها -.
(1) قال شيخ الإسلام في “الصارم”: (2/ 344): “وهذا الحديث مرسل، ومخرجه عن مجالد – هو ابن سعيد – وفيه لين؛ لكن له ما يؤيد معناه” اهـ.
(2) كذا، وفي “الصارم”: “الحارث”. وليس في الصحابة من يقال له “سعيد بن حريث” إلا واحد أسلم قبل الفتح وشهد الفتح وعمره خمسة عشر عامًا؛ فيبعد أن يكون هو، ولعل صوابه “ابن الحارث” وهو ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – انظر “السِّيَر”: (1/ 202)، و”الإصابة”: (2/ 45).
(3) في “الأصل”: “قال” وهو سهو.
(4) في “الأصل”: “هذا” وهو سهو.
(1/75)
وتقدم أن عمر قتلَ الرجل الذي لم يرضَ بحكم النبي – صلى الله عليه وسلم – (1)، ونزل القرآن بتقرير ذلك، وجُرمه أسهل من جُرم هذا.
وفي “الصحيحين” (2) حديث الذي لمزه في قسمة الذهبيَّة التي أرسل بها عليٌّ، وقال: “يخرج من ضِئْضِئ هذا قومٌ يتلون كتابَ الله رَطْبًا لا يُجاوِزُ حناجرَهم يَمْرُقون من الدِّين كما يمرقُ السَّهْم من الرَّميَّةِ، يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهلَ الأوْثانِ، لئن أدركتُهم لأقتلنَّهم قَتْلَ عادٍ”.
وقال: “سيخرجُ قومٌ في آخر الزمان حِداث (3) الأسنان، سُفَهاء الأحلام، يقولون من خيرِ قولِ البريَّة، لا يُجاوِز إيمانُهم حناجِرَهم، يمرقون من الدين كما يمرق السَّهم من الرَّمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنَّ في قتلهم أجرًا لمن قتلَهم يوم القيامةِ” (4).
فهذه الأحاديث كلُّها دليل على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بقتل طائفةِ هذا الرجل العائب عليه، وأخبر أن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم، وقال: “هم شرُّ قَتْلَى تحتَ أديمِ السَّماءِ” (5) فرتَّب القتل على مروقهم من الدين،
__________
(1) لم يتقدم في المختصر شيءٌ، وقد تقدم في أصله: (2/ 82) والقصة عند ابن أبي حاتم وابن مردوية كما في “الدر المنثور”: (2/ 322) بسندٍ فيه ابن لهيعة، وأخرجه دُحيم في “تفسيره” من وجهٍ آخر كما في “الدر” أيضًا.
(2) البخاري رقم (3344)، ومسلم رقم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -.
(3) في “الأصل”: “حديث” والمثبت من “الصارم”.
(4) أخرجه البخاري. رقم (3611)، ومسلم رقم (1066) من حديث علي – رضي الله عنه -.
(5) أخرجه أحمد: (5/ 250)، وابنه في “السنة”: (2/ 643)، والترمذي رقم (3000)، وابن ماجه رقم (176).
(1/76)
فعُلِمَ أنه الموجِب لقتلهم لما غَلَوا فيه حتى مرقوا، وهم أصناف، وكان هذا أولهم قد خرج في زمنه – صلى الله عليه وسلم – فعاب قَسْمه.
فكلُّ من عاب شيئًا من سنَّته فحكمه كحكمهم، فمن زعم أنه يَجُورُ في قَسمه فهو مكذَّب له، ولا يجب اتباعه عنده، وهو مناقض لما تضمَّنته الرسالة من أمانته ووجوب طاعته، وزوال الحرج عن النفس من قضائه بقوله وفعله، فإن الله قد أوجبَ طاعتَه والانقيادَ لحكمه، وأنه لا يَحِيْف على أحدٍ، فمن طَعَنَ في هذا فقد طعن في صحَّةِ تبليغه، وذلك طَعْن في الرِّسالة، وهذا من أقبح الكفرِ وأشنعِه.
* * *
(1/77)
فصلٌ (1)
وأما إجماع الصحابة – رضي الله عنهم -؛ فقد نُقِل ذلك عنهم في قضايا متعدِّدة منتشرة مستفيضة، ولم يُنكرها أحدٌ منهم = فصارت إجماعًا.
قال شيخ الإسلام: واعلم أنَّه لا يمكن ادَّعاء إجماع الصحابة على مسألةٍ فرعيَّةٍ بأبلغَ من هذه الطريق.
فمن ذلك ما ذكره سيفُ بن عُمر التميمي (2) قال: رُفِعَ إلى المُهَاجِر (3) امرأتان مُغَنِّيَتَان، غنت إحداهما بشتم النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ [فـ]ــقطع يدها وَنزعَ ثناياها، وغنَّت الأخرى بهجاء المسلمين؛ فقطع يدها ونزع ثنيَّتها.
فكتب إليه أبو بكرٍ: بلغني الذي سِرْت به في المرأة التي غنَّت بشَتْم النبي – صلى الله عليه وسلم -، فلولا ما قد سبقتني فيها لأَمَرْتُك بقَتْلِها؛ لأن حدَّ الأنبياء ليس يُشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلمٍ فهو مرتدٌّ، أو معاهد فهو محارب غادِر.
وكتب إليه في التي تغنَّت بهجاء المسلمين: أما بعد فإنه بلغني أنك قطعتَ يدَ امرأةٍ تغنَّت بهجاء المسلمين ونزَعْت ثنيَّتَّها، فإن كانت ممن
__________
(1) “الصارم”: (2/ 378).
(2) في كتاب “الردة والفتوح”.
(3) هو: المهاجر بن أبي أمية المخزومي، أخو أم سلمة أم المؤمنين، شهد بدرًا، وبعثه أبو بكر لقتال المرتدين جهة اليمن. “الإصابة”: (3/ 465).
(1/78)
تدعي الإسلام فأدبٌ وتَقْدمه دون المُثلَة، وإن كانـ[ـــــت] ذِمِّية فلَعَمْري لَمَا صفحت عنه من الشِّرك، أعظم، ولو كنتُ تقدمتُ إليك في مثل هذا لبلغت مكروهك، فاقبل الدَّعَة وإياك والمُثْلَة في الناس، فإنها مأثَم ومَنْفَرة إلا في قِصاصٍ.
وذكر هذه القصة غير سيف (1)، وهذا يوافق ما تقدَّم عنه: أنه من شتم النبي – صلى الله عليه وسلم – كان له أن يقتله، وليس ذلك (2) لأحدٍ بعده، وهذا صريح في وجوب قتل من سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – من مسلمٍ ومعاهد، وإن كانت امرأةً، وأنه يُقتل بدون استتابةٍ، بخلاف من سبَّ الناس، وأن قتلها (3) حدٌّ للأنبياء، كما أن جَلد من سبَّ غيرهم حدٌ له، وإنما لم يأمره بقتْلِها؛ لأنه اجتهد فيها وعمل لها حدًّا، فكَرِهَ أبو بكر أن يجمعَ عليها حدَّين، ويُحْتمل أنها أسلمت أو تابت فقبِل المُهَاجِر توبتَها قبل كتابِ أبي بكرٍ، وهو محلُّ اجتهادٍ سبق فيه حكمٌ فلم يُغيِّرْه أبو بكرٍ؛ لأن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد.
وروى حَرْبٌ في “مسائله” (4) عن ليث عن مجاهد قال: أُتي عمر – رضي الله عنه – برجلٍ سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – فقتله ثم قال: من سبَّ الله أو رسولَه أو أحدًا من أنبيائه فاقتلوه.
__________
(1) كالطبري في “التاريخ”: (2/ 305 – 306)، لكنها من طريق سيفٍ أيضًا. وسندها فيه انقطاع مع ضعف سيف بن عمر.
(2) في الأصل “لذلك”! وهو سبق قلم.
(3) كذا بالأصل وبعض نسخ الصارم، وفي أخرى: “قتله”.
(4) “مسائل حرب للإمام أحمد” لا تزال مخطوطة لم تطبع بعدُ.
(1/79)
وقال مجاهد عن ابن عباس: أيُّما مسلمٍ سبَّ الله أو رسوله أو أحدًا من الأنبياء، فقد كذَّب برسول الله، وهي رِدَّة، يُستتابُ فإن تابَ وإلا قتل، وأيُّما معاهدٍ سبَّ أحدًا من الأنبياء، فقد نقض العهد فاقتلوه.
وروى حَرْب (1) – أيضًا – أن عمر قال للنَّبَطيّ الذي كتب له كتابًا حين دخل الشام، وكان قد وقع منه شيءٌ فقال: … (2) لم أُعْطِك الأمان فتُدْخِل علينا في ديننا (3)، لئن عُدْتَ لأضربنَّ عُنُقَك (4).
فهذا عمر – رضي الله عنه – بمحضرٍ من الصحابة من المهاجرين والأنصار يقول لمن عاهده: إنَّا لم نُعْطك العهد على أن تُدْخِل علينا في ديننا، وحلف لئن عاد ليضربنَّ عُنقَه، فَعُلِمَ بذلك إجماع الصحابة – رضي الله عنهم – على أن أهل العهد ليس لهم أن يُظهروا الاعتراض علينا في ديننا، وأن ذلك مُبِيْح لدمائهم.
وإن من أعظم الاعتراض سبَّ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به.
ورُوِيَ عن ابن عمر: أنه مَرَّ براهبٍ، فقيل له: هذا يسبُّ النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن عمر: لو سمعته لقتلْتُه (5).
__________
(1) لعله في “مسائله” للإمام أحمد.
(2) هنا ثلاث كلمات لم أتبين وجهها، والكلام يستقيم بدونها.
(3) العبارة في الأصل: ” … فقال: … لم أعطك لتدخل علينا في ديننا، لم أعطك الأمان لتدخل علينا في ديننا … “! وهي قَلِقَة. وما أثبته أوضح، وهو بنحوه في “الصارم”.
(4) وأخرجه – أيضًا – المعافى النهرواني في “الجليس الصالح”: (3/ 305 – 307)، وابن عساكر في “تاريخه”.
(5) تقدم تخريجه ص/ 32 – 33.
(1/80)
وذكر هذا الحديث غير واحدٍ، وتقدم حديثُ صَبِيْغ مع عمر (1)، وحديث ابن عباسٍ في شأن عائشة وأزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – خاصة (2).
وبخبر خالد بن الوليد: أنه قتل امرأةً سبَّت النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، رواه أحمد (3).
وذكر ابن المبارك بسنده أن غَرَفة بن الحارث الكِنْدي – وكانت له صحبة – سمع نصرانيًّا شتم النبي – صلى الله عليه وسلم -، فضربه فدَقَّ أنْفَه، فرُفِع إلى عَمْرو (4) بن العاص، فقال: إنا قد أعطيناهم العهد، فقال غَرَفة: معاذ الله أن نُعطيهم العهد على سبَّ الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فقال له عمرو: صَدَقتَ (5).
فهذه أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ – رضي الله عنهم -.
* * *
__________
(1) لم يتقدم في هذا “المختصر” شيء وإنما تقدم في “الصارم”: (2/ 356) وقال شيخ الإسلام هناك: “رواه الأموي وغيره بإسناد صحيح” اهـ.
والقصة أخرجها الدارمي في “السنن” رقم (146)، والآجري في “الشريعة” رقم (152، 153)، واللالكائي رقم (1136 – 1138)، وابن بطة في “الإبانة” رقم (308، 309) وغيرهم، وهي قصة مشهورة صححها غير واحد من أهل العلم، وانظر “الإصابة”: (2/ 198) في ترجمة صَبِيْغ.
(2) تقدم (ص/ 44 – 45).
(3) رواه من طريقه الخلال في “الجامع”: (2/ 342 – أهل الملل) عن عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن سماك بن الفضل عن رجلٍ من بلقين به.
وأخرجه البيهقي في “الكبرى”: (8/ 202 – 203) عن ابن مهدي به. وفي سنده من لم يُسَمَّ. وانظر (ص/ 41 – هامش 4).
(4) في الأصل: عُمر، وهو سهو. بدليل ما بعدها.
(5) أخرجه البخاري في “التاريخ الكبير”: (7/ 110)، وأبو يعلى في “مسنده” كما في “المطالب العالية”: (رقم 2048 – مسندة)، والبيهقي في “الكبرى”: (9/ 220)، وصحح البوصيري إسناده (5/ 215).
لكن رواية أبي يعلى فيها: أن غَرَفة قتل النصراني، وبقية المصادر فيها أنه دقّ أنفه.
(1/81)
وأمَّا الاعتبار، فمن وجوه:
أحدها: أن عيب ديننا وشتم نبينا مجاهدة لنا ومحاربة؛ فكان نقضًا للعهد كالمحاربة باليد وأوْلَى.
يُبَين ذلك قوله: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) [التوبة: 41]، والجهاد في النفس يكون باللسان كما يكون باليد.
الوجه الثاني: أنا وإن أقررناهم على ما يعتقدونه من الكفر، فهو إقرار على ما يُضْمِرونه من العداوة، وأما إظهار السبِّ لله ولرسوله ودينه؛ فهو محاربة تنقض العهدَ.
الوجه الثالث: أنَّ مطلق العهد الذي بيننا وبينهم يقتضي أن يكفُّوا عن إظهار الطعن والشتم، كما يقتضي الإمساك عن سفك الدماء، بل السبّ أعظم من سفك الدماء، لأنا نبذل المال والنفسَ على أن نعزِّر الرسول ونعظَّمه ويعلو الدين (2)، وهم يعلمون ذلك من ديننا فإذا خالفوه انتقض عهدُه.
الوجه الرابع: أن العهد الذي عاهدهم عليه عمر – رضي الله عنه – قد بيَّن فيه ذلك وشَرَطَه عليهم، كما روى ذلك حَرْب بإسنادٍ صحيح عن عبد الرحمن بن غَنْم (3).
__________
(1) وقع في الأصل: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}! ولا توجد آية بهذا النظم، ولعله سبق قلم.
(2) كذا قرأت العبارة، وهي في “الصارم”: (2/ 392): ” … ونبذل الأموال في تعزير الرسول وتوقيره ورفع ذكره وإظهار شرفه وعلو قدره … “.
(3) في كتاب عمر – رضي الله عنه – حين صالح نصارى الشام.
(1/82)
الوجه الخامس: أن العقد مع أهل الذّمة على أن تكون الدار لنا تجري فيها أحكام الإسلام، وعلى أنهم أهل صَغَارٍ وذِلَّةٍ، على هذا عُوهِدوا وصُولحوا، فإظهار شتم الرسول والطعن في الدين يُنافي كونهم في صَغَارِ وذِلَّةٍ.
الوجه السادس: أن الله فرض علينا تعزير رسوله وتوقيره ونصره ومنعه وإجلاله وتعظيمه، وذلك يُوْجِب صونَ عِرضِه بكلِّ طريقٍ.
الوجه السابع: أن نصر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرضٌ علينا؛ لأنه من التعزير، وهو من أعظم الجهاد، وقد قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]، بل نصر آحاد المسلمين واجب، فكيف بِنَصْر سيِّد ولد آدم – صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الثامن: أن الكفار قد عُوهِدوا على أن لا يُظهروا شيئًا من المنكرات المختصَّة بدينهم، فمتى أظهروا شيئًا منها عوقبوا؛ فكذلك إذا أظهروا سبَّ الرسول استحقوا عقوبة ذلك، وهي القتل.
الوجه التاسع: أنه لا خِلاف بين المسلمين أنهم ممنوعون من إظهار السبَّ، وأنهم يُعاقَبون عليه إذا فعلوه بعد النَّهْي، فَعُلِمَ أنهم لم يُقَرُّوا عليه، وإذا فعلوا ما لم يُقَرُّوا عليه من الجِنايات استحقوا عقوبته بالاتفاق، وسبُّ غيرِ الرسول يوجبُ جَلْدَهم، فكذلك سبُّ الرسول يوجب قتلَهم.
الوجه العاشر: أن القياس الجلي يقتضي أنهم متى خالفوا شيئًا مما عُوهِدُوا عليه انتقض عهدُهم، كما ذهب إليه طائفةٌ من الفقهاء، وإذا لم يفوا بما عُوهِدُوا عليه انفسخَ عقدُهم كما ينفسخ البيع وغيره إذا لم
(1/83)
يفِ أحد المتعاقدين بما شَرَطَه، والحكمة ظاهرة؛ فإنه إنما التزمَ ما التزمَه بشرطِ أن يلتزم الآخر بما التزمه، فإذا لم يلتزم له الآخر صار هذا غير ملتزم، فإن الحكم المعلَّق بشرطٍ لا يثبت عند عدمه باتفاق العقلاء.
إذا تبيَّن ذلك، فإن كان المعقود عليه حقًّا للعاقد، له أن يَبْذله بدون الشرط، لم ينفسخ العقد بفواته، بل له فسخه، كما إذا شرَط رهنًا في البيع.
وإن كان حقًّا لله أو لغيره ممن يتصرَّف له بالولاية؛ لم يَجُز إمضاء العقد، بل ينفسخ بفوات الشرط، أو يجب فسخُه، كما إذا شَرَطَ الزوجةَ حُرة مسلمة فبانت وثنيَّة.
وعقد الذِّمة ليس حقًّا للإمام؛ بل هو حق لله ولعامة المسلمين، فإن خالفوا شيئًا مما شُرِط عليهم فقد قيل: يجب على الإمام فسخ العقد، وفَسْخُه: أن يُلْحِقَه بمأمَنِه ويُخرجه من دار الإسلام، وهذا ضعيف؛ لأن الشرط حقٌّ لله، فينفسخ العقد بفواته من غير فسخٍ، وهنا شروط (1) الذمة حق لله.
ولو فُرِض جواز إقرارهم بلا شرط، فإنما ذاك فيما لا ضرر فيه على المسلمين، فأما ما يضرُّ بالمسلمين، فلا يجوز إقرارهم عليه بحال، ولو فُرِض إقرارهم على ما يضرُّ المسلمين في أنفسهم وأموالهم فلا يجوز إقرارهم على إفساد (2) دين الله والطعن على كتابه ورسوله.
ومقتضى عقد الذِّمة أن لا يُظهروا سبَّ الرسول، كما أن سلامة
__________
(1) وقع في الأصل سهوًا: “شر”!
(2) في الأصل: “فساد” والمثبت من “الصارم”.
(1/84)
المبيع من العيوب، وحلول الثمن، وسلامة المرأة والزوج من الموانع، وإسلام الزوج وحُرِّيته = من مُوْجب العقدِ المطلقِ ومقتضاه، فإن موجب العقد هو ما يظهر عُرْفًا وإن لم يُتَلَفَّظ به. والإمساك عن الطعن والسبّ مما يُعْلَم أن المسلمين يقصدونه بعقد الذِّمة، ويطلبونه كما يطلبون الكفَّ عن مقاتلتهم وأَوْلَى، فإنه من أكبر المؤذيات.
فإن قيل (1): أهل الذمة قد أقررناهم على دينهم، ومنه استحلال السبِّ، فإذا قالوا ذلك لم يقولوا غير ما أقررناهم عليه.
قلنا: ومن دينهم استحلال قتال المسلمين وأخذ أموالهم ومحاربتهم بكلِّ طريق، ومع هذا فليس لهم أن يفعلوا ذلك بعد العهد، ومتى فعلوا نُقِضَ عهدهم، وذلك لأنا وإن كنَّا نُقِرُّهم على أن يعتقدوا ما يعتقدونه ويخفوا (2) ما يخفونه، فلم نقرّهم على أن يُظْهِروا ذلك ويتكلموا به بين المسلمين، ونحن لا نقول بنَقْض عهد السابّ حتى نسمَعَه أو يشهد به المسلمون، فمتى حصل ذلك كان قد أظهروه (3).
ولو أقررناهم على دينهم لأقْررناهم على هدم المساجد، وإحراق المصاحف، وقتل العلماء والصالحين، فإنهم يدينون بذلك، ولا خِلافَ أنهم لا يُقَرُّون على شيءٍ من ذلك أَلبتةَ.
* * *
__________
(1) انظر “الصارم”: (2/ 448).
(2) في الأصل: “يخفون”، وهو خطأ.
(3) كذا، وفي “الصارم”: “أظهره وأعلنه”. وهو أصح.
(1/85)
المسألة الثانية (1): أنه يتعيَّن قتلُه، ولا يجوز استرقاقُه، ولا المنُّ عليه، ولا فداؤه
أما إن كان مسلمًا فبالإجماع؛ لأنه نوع من المرتدّ أو من الزنديق، والمرتدُّ يتعيَّن قتلُه وكذا الزنديق، وسواء كان رجلًا أو امرأةً، وإن كان معاهدًا يتعين قتله – أيضًا -، سواء كان رجلًا أو امرأة عند عامة الفقهاء من السلف ومن تبعهم، وقد تقدَّم قول (2) ابن المنذر: “أجمع عوامُّ أهل العلم على أن على من سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – القتل، وممن قاله: مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي. وحُكِي عن النعمان: لا يُقْتَل الذِّمِّي”، وهذا اللفظ دليل على وجوب قتلِه عند عامة العلماء، ولقتله مأخذان:
أحدهما: انتقاض عهده.
والثاني: أنه حدٌّ من الحدود، وهو قول فقهاء الحديث.
قال ابن راهوية: إن أظهروا السَّبَّ قُتِلُوا، وأخطأ من قال: “ما هم
__________
(1) “الصارم”: (2/ 467).
(2) انظر ما تقدم ص/ 31.
(1/86)
فيه من الشرك أعظم من سبِّ النبي – صلى الله عليه وسلم -“. قال إسحاق: يقتلون، لأنه نقض للعهد، وكذلك فعلَ عمر بن عبد العزيز فلا شُبْهة في ذلك، وقد قتل ابنُ عمر الراهبَ الذي سبَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال: “ما على هذا صالحناهم” (1)، وكذلك نصَّ الإمام أحمد على وجوب قتله وانتقاض عهده، وتقدم بعض نصوصه (2)، وكذلك نصَّ عامة أصحابه، ذكروه بخصوصه في مواضع، وذكروه – أيضًا – في جملة ناقضي العهد.
ثم المتقدِّمون وطوائف من المتأخرين (3) قالوا: يتعيَّن قتله وقتل غيره من ناقضي العهد، كما دلَّ عليه كلام أحمد.
وذكر طوائفُ منهم أن الإمام يُخيَّر فيمن نقضَ العهدَ من أهل الذَّمة، كما يُخَيَّر في الأسير (4)، فدخلَ هذا السابُّ في عموم الكلام؛ لكن المحققون منهم كالقاضي (5) وغيره قيَّد ذلك بغير السابِّ، وأما السابُّ فيتعيَّن قتله. فإما أن لا يُحْكَى في تعيُّن قتلِه خلافٌ؛ لكون الذين أطلقوا في موضعٍ قيدوه في موضع آخر: بأن السابَّ يتعيَّن قتلُه، فهو غير داخلٍ في العموم، أو يُحْكَى فيه وجهٌ ضعيف؛ لأن الذين قالوا به في موضعٍ نصوا على خلافه في موضعٍ آخر.
واختلف أصحاب الشافعي – أيضًا – فمنهم من قال: يتعين قتلُه، ومنهم من ذكر الخلاف، وقال: هو كغيره (6)، والصحيحُ جواز قتله،
__________
(1) ص (32 – 33).
(2) انظر ص/ 32 – 34.
(3) أي: من الحنابلة.
(4) بين الاسترقاق والقتل والمنّ والفداء.
(5) أبو يعلى الفرَّاء.
(6) أي: من الناقضين للعهد.
(1/87)
قالوا: ويكون كالأسير يجب على الإمام أن يفعل فيه الأصلح.
وكلام الشافعي يقتضي أن الناقض حكمه حكم الحربي، وفي موضعٍ أمر بقتله عينًا من غير تخيير (1).
وأما أبو حنيفة (2): فلا تجيءُ هذه المسألة على أصلِه، إذ أصله: لا ينتقض عهد أهل الذمة إلا أن يكونوا أهل شوكة ومَنَعَة، فيمتنعون بذلك على الإمام فلا يمكنه إجراء أحكامنا عليهم.
ومذهب مالك: لا ينتقض عهدهم إلا أن يخرجوا ممتنعين مِنَّا، مانعين للجزية من غير ظلمٍ أو يلحقوا بدار الحرب، لكن مالكًا يوجب قتل سابِّ الرسول عينًا، وقال: إذا اسْتَكْرَه الذِّميُّ مسلمةً على الزِّنا قُتِل إن كانت حُرَّة، وإن كانت أمَةً عُوقِبَ العقوبة الشديدة.
فشاتم الرسول (3) يتعيَّنُ قتلُه كما نصَّ عليه الأئمة، أما على قول من [يقول] (4): يتعيَّن قتل كلِّ من نقضَ العهد وهو في أيدينا، أو: يتعيَّن قتل كل ناقضٍ للعهد بما فيه ضررٌ على المسلمين وأذى، كما ذكرناه من مذهب الإمام أحمد، وكما دلّ عليه كلام الشافعي، أو يقول: يتعين قتل من نقض العهد بسَبِّ الرسول وحده، كما ذكره القاضي، وكما ذكره طائفةٌ من أصحاب الشافعي، وكما نصَّ عليه عامة الذين ذكروه في نواقض العهد، وذكروا أن الإمام يتخَيَّر فيمن نقض العهد
__________
(1) انظر كتاب “الأُم”: (4/ 208 – 211).
(2) انظر “الصارم”: (2/ 496).
(3) انظر “الصارم”: (2/ 510).
(4) من “الصارم”.
(1/88)
على سبيل الإجمال، فإنهم ذكروا في مواضع أُخَر أنه يقتل من غير تخيير فظاهر.
وأما على قول من يقول: إن كل ناقضٍ للعهد يتخيَّر فيه الإمام؛ فقد ذكرنا أنهم قالوا: إنه يستوفي منه الحقوق كالقتل والحدِّ والتعزير؛ لأن عقد الذِّمة على أن تجري أحكامنا عليهم، وهذه أحكامنا، ثم إذا استوفينا فالإمام مخيَّر فيه، كالأسِيْر.
وعلى هذا القول؛ فيمكنهم القول بقتل السابِّ حدًّا من الحدود، كما لو نقض بزنى أو قطع طريق، فإنه يقتل بذلك إن أوجب القتل، بل قد يقتل الذميُّ حدًّا من الحدود وإن لم ينتقض عهدُه، كما لو قَتَل ذِمٍّيًا، ومذهب مالك يمكن توجيهه على هذا الوجه إن كان فيهم من يقول: لم ينتقض عهدُه.
وبالجملة؛ فالقول بأن الإمام يتخيَّر فيه إنما يدلُّ عليه عموم [كلام] (1) بعض الفقهاء أو إطلاقه، وكذلك قولهم: إنه يُلْحق بدار الحرب.
وأخْذُ المذاهب من الإطلاقات يجرُّ إلى غلطٍ عليهم، بل لا بد من أخذ ذلك من كلامهم المفسّر، وبالجملة؛ فإن تقرَّر في هذا خلاف فهو ضعيف نقلًا وتوجيهًا، والدليل على تعيُّن قتله ما قدَّمناه من أقوال الصحابة والتابعين والسنن والآيات (2).
* * *
__________
(1) في “الأصل”: “يدل على عموم بعض الفقهاء … ” والمثبت من “الصارم” وبه يستقيم السياق.
(2) انظر “الصارم”: (2/ 512 – 541).
(1/89)
المسألة الثالثة (1): أنَّه يُقْتل ولا يُسْتتَاب سواءٌ كان مسلمًا أو كافرًا
قال الإمام أحمد (2): كلُّ من شتم النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – مسلمًا كان أو كافرًا فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا يُستتاب.
مع نصِّه أنه مرتدٌ إن كان مسلمًا، وأنه ناقضٌ للعهد إن كان ذِمِّيًّا.
وكذلك أطلق غالب أصحابه أنه يُقتل ولم يذكروا استتابة، حتى فيمن قذفَ أمَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – أطلقوا قتله ولم يذكروا استتابة.
مع أنَّ له في قتل المرتدِّ غير السابِّ هل يجب استتابتُه أم يُسْتحبُّ؛ روايتان منصوصتان.
فلو تابَ من السبِّ بأن يُسلِم أو يعود إلى الذِّمة إن كان كافرًا ويُقْلِع عن السبِّ، فقال القاضي وغيره (3): لا تُقبل توبةُ من سبَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المعرَّة تلحق الرسول، وكذلك قال ابنُ عقيل، وهو حقٌّ آدمي لم يُعْلَم إسقاطُه.
__________
(1) “الصارم”: (3/ 551).
(2) في رواية حنبل، انظر “الجامع للخلال”: (2/ 339 – أهل الملل).
(3) وهو منصوص عن أحمد.
(1/90)
قال عامة الأصحاب: لا تُقبل توبته بل يُقتل ولو تاب، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إن كان مسلمًا يُستتاب؛ فإن تابَ وإلا قُتِل.
وإن كان ذميًّا؛ فقال أبو حنيفة: لا ينتقض عهدُه، واختلف أصحابُ الشافعي فيه.
قال الشريف في “الإرشاد” (1) – وهو ممن يُعْتَمد نقلُه -: “من سبَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قُتِل ولم يُسْتتب (2)، ومن سبَّه من أهل الذِّمة قُتِل وإن أسلم”.
وقال أبو علي بن البناء في “الخصال” (3): “من سبَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – وجبَ قتلُه، ولا تقبل توبتُه. وإن كان كافرًا فأسلم؛ فالصحيح من المذهب أنه يُقْتَل – أيضًا – ولا يُستتاب”.
ومذهب مالكٍ كمذهبنا، وعامة هؤلاء لم يذكروا خلافًا في وجوب قَتل المسلم والكافر، وأنه لا يسقط بالتوبة من إسلام وغيره.
وقال القاضي في “الجامع الصغير” (4): “من سبَّ النبيَّ قُتِل ولم تُقْبَل توبته، فإن كان كافرًا فأسلم ففيه روايتان”.
وكذلك ذكر أبو الخطاب فيمن سبَّ أُمَّه لا تُقْبَل توبتُه، وإن كان كافرًا فروايتان.
__________
(1) (ص/ 468).
(2) في الأصل: “يُستتاب” والتصويب من “الصارم”.
(3) هو كتاب “الخصال والأقسام” لأبي علي بن البناء ت (471)، يوجد منه الجزء الرابع في مكتبة الموسوعة الفقهية بالكويت رقم (293/ 1).
(4) حقق رسالة بجامعة الإمام. انظر: (المدخل المفصَّل: 2/ 809).
(1/91)
وحكى بعض أصحابنا روايةً أن المسلم تُقْبَل توبته – أيضًا – في رواية (1) بأن يُسْلِم ويرجع عن السبِّ، كذا ذكره أبو الخطاب في “الهداية” (2)، ومن احتذى حَذْوَه من المتأخرين، فتلخَّص أن الأصحاب حَكَوا في توبة السابِّ ثلاث روايات:
– لا تُقْبل، وهي المنصورة.
– تقبل.
– الثالثة: الفرق بين الكافر والمسلم، فتقبل توبة الكافر دون المسلم، وتوبة الذَّمِّي إذا قلنا تُقْبَل هو أن يُسْلِم، فأما إن أقلع وطلب عقد الذمة ثانيًا (3) لم يُعْصَم روايةً واحدة كما تقدم.
وعلى قولنا يخيَّر فيه كالأسير، فتُشْرع استتابته بالعَوْد إلى الذِّمة؛ لكن لا تجب هذه الاستتابة رواية واحدة، وعلى الرواية التي ذكرها أبو الخطاب فإنه إن أسلم الذمي سقط عنه القتل، وعلى قول من يقول: تجِب دعوة كل كافرٍ قد تجب استتابة الذِّمي (4).
وذكر السَّامري (5): أن توبة المسلم على روايتين، وتوبة الكافر لا
__________
(1) يعني عن الإمام أحمد. وفي العبارة شيء بسبب تكرار كلمة “رواية” ولو اقتصر على أحدهما لكفى.
(2) (2/ 110).
(3) يحتمل رسمها أيضًا: “تائبًا” وما أثبتُّ موافق للصارم: (3/ 563) وهو الأوفق.
(4) “الصارم”: (3/ 569 – 570).
(5) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحنبلي ت (616)، “ذيل الطبقات”: (2/ 121).
(1/92)
تُقْبَل، عكس ما ذكره الأصحاب من الفرق، وليس الأمر كذلك، بل فيه خلل، وإلَّا فلا رَيْب أنَّا إذا قبلنا توبة المسلم بإسلامه فتوبة الذِّمي بإسلامه أَوْلَى. ذكره شيخ الإسلام (1).
ثم قال: وقد يُوجَّه ما ذكره السَّامري بأن يقال: السبُّ قد يكون غلطًا من المسلم لا اعتقادًا، فنقبل توبته إذ هو عَثْرة لسان أو قِلَّة (2) علم، والذِّمي سبُّه أذًى مَحْض لا ريب فيه فإذا وجب عليه الحدُّ لم يسقط بإسلامه كسائر الحدود.
فتلخَّص (3) أنهما لا يُستتابان في المنصوص المشهور، فإن تابا لم تقبل توبتهما في المشهور – أيضًا -، وحُكِي عنه في الذِّمي إذا أسلم سقط عنه القتل وإن لم يُسْتتب، وحُكِي عنه أن المسلم يستتاب وتُقبل توبته، وخُرِّج عنه في الذمي أنه يستتاب، وهو بعيد.
واعلم أنه لا فرق بين سبِّه بالقذف وغيره، نصَّ عليه، وذكره عامَّةُ أصحابه، وأكثر العلماء.
وفرَّق الشيخ أبو محمد (4) بين القذف والسبِّ، فذكر الروايتين في المسلم وفي الكافر في القَذْف، ثم قال: “وكذلك سبه بغير القذف، إلَّا
__________
(1) “الصارم”: (3/ 564 – 565).
(2) في الأصل: “قلمه” وهو تحريف.
(3) “الصارم”: (3/ 570).
(4) هو موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة، صاحب “المغني” ت (620).
(1/93)
أنه يسقط بالإسلام” (1)، وسيأتي تحرير ذلك (2).
وأما مذهب مالك، فإنه يُقتل السَّابُّ ولا يُستتاب – أيضًا – والمشهور من مذهبه: أنه لا يقبل توبة المسلم إذا سبَّ، وحكمه حكم الزنديق، ويُقْتَل عندهم حدًّا لا كفرًا إذا أظهر التوبة، ورُوي عنه أنه جعله رِدَّة، قال أصحابُه: فعلى هذا يُستتاب، فإن تاب نُكِّلَ، وإن أبى قُتِلَ.
وأما الذميُّ إذا سبَّ ثم أسلم، فهل يدرأ عنه إسلامُه القتلَ؛ على روايتين، ذكرهما عبد الوهَّاب (3) وغيره (4).
وأما مذهب الشافعي (5)؛ فلهم في السابِّ وجهان:
أحدهما: هو كالمرتدِّ إذا تاب سقط عنه القتل.
والثاني: أن حدَّه القتل بكلِّ حال.
وذكر الصيدلاني (6) قولًا ثالثًا: أن السابَّ بالقذف يقتل للرِّدة، فإن تاب زال القتل، وجُلِد ثمانين للقذف، وبغير القذف يُعزَّر بحسَبِه.
__________
(1) انظر: “المغني”: (12/ 405).
(2) انظر ما سيأتي في المسألة الرابعة.
(3) هو: القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي ت (422)، انظر: “تاريخ بغداد”: (11/ 31)، و”ترتيب المدارك”: (7/ 220 – 227).
(4) انظر “الشفا”: (2/ 488).
(5) انظر “روضة الطالبين”: (10/ 332)، و”مغني المحتاج”: (4/ 141).
(6) هو: أبو بكر محمد داود بن محمد الصيدلاني الشافعي ت (427)، انظر “طبقات السبكي”: (4/ 148).
(1/94)
ثم ذكر (1) أدلَّة من قال لا تُقْبَل توبته وما يعارضها وأجاب عن المعارض، واستدلَّ على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، بأدلَّةٍ لا يمكن أحدًا دفعها، مقدارها ثمان كراريس بالبلدي، فليُطالع هناك (2).
* * *
__________
(1) هذا من كلامِ المختصِر إلى نهاية الفقرة.
(2) ذكر شيخ الإسلام في “الصارم” سبعًا وعشرين طريقة من طرق الاستدلال على تحتُّم قتل الذمى والمسلم السابَّ. (3/ 709 – 862).
ثم أجاب عن حُجج المخالفين واعتراضاتهم، وهي خمس وعشرون. (3/ 864 – 940).
(1/95)
المسألةُ الرَّابِعَة (1): في بيان السبِّ المذكور، والفرق بينه وبين مجرَّد الكُفْر
وقبل ذلك لا بد من تقديم مقدمة، وذلك أن نقول:
سبُّ الله أو سبُّ رسوله كفرٌ ظاهرًا وباطنًا، سواء اعتقد السَّابُّ أنه محرَّم أو كان مستحلًّا أو كان ذاهلًا عن اعتقادٍ، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
وقد قال إسحاق بن راهوية – وهو أحد الأئمة يُعْدَلُ بالشافعي وأحمد -: “قد أجمع المسلمون أنَّ مَنْ سبَّ اللهَ، أو سبَّ رسولَهُ، أو دفع شيئًا مما أنزل الله، أو قتلَ نبيًّا = أنه كافر وإن كان مقِرًّا بكل ما أنزل الله” (2).
وبذلك قال سُحْنون، وقال: ومن شكَّ في كفره كفَر، ونصَّ على ذلك غيرُ واحد من الأئمة؛ أحمد والشافعي وغيره، قال: “كلُّ من هَزَل بشيءٍ من آيات الله فهو كافر” (3).
__________
(1) “الصارم”: (3/ 955).
(2) وحكى نحوه عن إسحاقَ المروزيُّ في “تعظيم قدر الصلاة”: (2/ 930).
(3) انظر “الشفا”: (2/ 393).
(1/96)
وكذلك قال أصحابُنا وغيرهم: من سبَّ الله أو رسولَه كفر إن كان مازحًا أو جادًّا، وهذا هو الصواب.
وقال القاضي (1): من سبَّ الله أو رسولَه فإنه يكفر سواءٌ استحلَّه أو لم يستحلَّه، فإن قال: لم استحلّ ذلك، لم يُقبل منه في ظاهر الحكم، روايةً واحدة، وكان مرتدًّا، وإنما يُحْكَم بكفره ظاهرًا، أما في الباطن، فإن كان صادقًا؛ فهو مسلم كما قلنا في الزنديق.
وذكر القاضي عن الفقهاء أن سابَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – إن استحلَّه كفر، وإن لم يستحلَّه فَسَق ولم يكفر كسابِّ الصحابة، وحُكِيَ عن بعض أهل العراق فيمن سبَّ الرسولَ يُجْلَد، فأنكر ذلك مالكٌ وردَّ فُتْياه (2).
وحكى ابنُ حزمٍ أن بعض الناس لم يُكفِّر المستَخِفّ به (3).
وذكر القاضي عِياض (4) – بعد أن ردَّ هذه الحكاية عن بعض فقهاء العراق والخلاف الذي ذكره ابن حزمٍ – بما نقله من الإجماع عن غير واحدٍ، وحملَ الحكايةَ على أن أُولئك لم يشتهروا بالعلم، وتأوَّل الفُتيا على وجوه.
__________
(1) أبو يعلى في كتابه “المعتمد في أصول الدين” كما في “الصارم” وهو في عداد المفقود والمطبوع مختصر منه، وليس فيه النقل.
(2) انظر “الشفا”: (2/ 411).
(3) انظر “المحلّى”: (12/ 431).
(4) “الشفا”: (2/ 411).
(1/97)
قال شيخ الإسلام: والحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه إن كان مُستحلًّا كفر وإلا فلا، ليس لها أصل، وإنما نقلها القاضي (1) من كتاب بعض المتكلِّمين الذين حكوها عن الفقهاء، وهي كَذِب ظنُّوها جاريةً على أصولهم، فلا يظن ظانٌّ أن في المسألة خِلافًا، إنما ذلك غَلَط (2).
فصلٌ (3)
ثم نعود إلى مقصود المسألة فنقول:
قد ثبت أن كلَّ سبٍّ وشَتْمٍ يُبيح الدمَ فهو كفر، وإن لم يكن كل كفرٍ سبًّا، ونحن نذكر عبارات العلماء.
قال الإمام أحمد (4): “من شتم الرسول أو تنقَّصه مسلمًا كان أو كافرًا فعليه القتل، ولا يُستتاب”.
وقال: من ذكر شيئًا يُعرِّض بذكر الربِّ فعليه القتل (5).
وقال أصحابُنا: التعرُّض لسبِّ الله وسبِّ رسوله رِدَّةٌ كالتصريح (6)،
__________
(1) يعني: أبا يعلى.
(2) ثم ذكر شيخ الإسلام في هذا الموضع: (3/ 960 – 976) شُبَه المرجئة والكرَّامية والجهمية القائلين: إن مجرد السب والاستهزاء … ليس بكفر، بل لا بُدَّ معه من الاستحلال. وأجاب عن هذه الشبه بما لا مزيد عليه. وقد لخَّصْنا كلامَه في مقدمة التحقيق (ص/ 8 – 14) فأغنى عن إعادته هنا.
(3) “الصارم”: (3/ 977).
(4) انظر ما تقدم ص/ 90.
(5) في رواية حنبل، كما في “الجامع”: (2/ 339 – أهل الملل) للخلال.
(6) انظر “الإنصاف”: (10/ 333).
(1/98)
ولا يختلف أصحابُنا أن قذف أمِّه هو من جُملة سبِّه الموجِبِ للقتل وأغْلَظ.
وقال القاضي عِياض (1): “كلُّ من سبَّه أو عابَه أو ألحقَ به نقصًا في نفسِه أو نَسَبِه أو دينِه أو خَصْلَةٍ من خِصاله، أو عرَّضَ به، أو شبَّهه بشيءٍ على طريق السبِّ له والإزراء عليه، أو الغض منه والعَيْب له = فهو سابٌّ له يُقْتَل، تصريحًا كان أو تلويحًا. وكذلك من لعنه، أو تمنَّى مضرَّةً له، أو دعا عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذمِّ، أو عَيَّبَه في جهته (2) العزيزة بِسُخْفٍ من الكلام، وهُجْرٍ ومُنْكرٍ من القول وزورٍ، أو عيَّره بشيءٍ مما يجري من البلاء والمحنة عليه، أو غَمَصَه (3) ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة (4) لديه.
قال: وهذا كلُّه إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من أصحابه [و] هلُمَّ جرَّا”.
وقال مالك: من سبَّه قُتل ولم يُستتب، قال ابن القاسم: أو شتمه أو عابه أو تنقَّصَه قُتِل؛ كالزنديق (5).
وذكر بعضُ المالكية أن من دعا على نبيٍّ بشيءٍ من المكروه قُتِلَ بلا استتابة (6).
__________
(1) “الشفا”: (2/ 392 – بشرح القاري).
(2) في الأصل: “جهه” والإصلاح من “الصارم” و”الشفا”.
(3) أي: حقره.
(4) في الأصل: “المعهود”، وهو سهو.
(5) انظر “الشفا”: (2/ 395).
(6) ذكره في “الشفا”: (2/ 396). والذي في “الصارم” و”الشفاء”: “وذكر بعض المالكية إجماع العلماء على أن … “.
(1/99)
وذكر عياضٌ (1) أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بدون استتابةٍ في قضايا:
منها: رجلٌ سمع قومًا يتذاكرون صفةَ النبيِّ؛ إذ مرَّ بهم رجلٌ قبيح الوجه واللحية، فقال: تريدون تعرفون صِفَتَه؟ هي صفة هذا المارِّ.
ومنها: رجلٌ قال: النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – كان أسود.
ومنها: رجلٌ قيل له: “لا وحق رسول الله”! فقال: فعلَ اللهُ به كذا.
ومنها: عَشَّارٌ (2) قال: أَدَّ، واشْكُ إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – (3).
ومنها: متفقَّهٌ كان يُسميه في أثناء مناظرته: “اليتيم” و”خَتَن حَيْدرة”، ويزعم أن زهدَه لم يكن قصدًا، ولو قَدَر على الطيَّبات لأكلها وأشباه هذا.
قال الشافعي: كلُّ تعريض فيه استهانة فهو سبٌّ.
وقال أبو حنيفة وأصحابُه – فيمن تنقَّضه، أو بَرئ منه، أو كذَّبه -: إنه مرتدٌّ.
فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقُّصَ به كفر مُبِيح للدم، وهم في استتابته على ما تقدَّم من الخلاف، ولا فرقَ
__________
(1) في “الشفا”: (2/ 397 – 398).
(2) هو الذي يأخذ المكوس – الضرائب -.
(3) أي أنه غير مبالٍ باطلاع النبي – صلى الله عليه وسلم – على أخذه المكس.
(1/100)
في ذلك بين أن يقصد عيبه أو لا يقصده أو يَهْزِل أو يمزح، فهذا كله سواء، فإن الرجل يتكلَّم بالكلمة ما يُلْقي لها بالًا يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرقَيْن (1).
ومن قال ما هو سبٌّ وتنقُّصٌ له فقد آذى الله ورسولَه، وهو مأخوذٌ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه أذًى وإن لم يقصِد أذاهم، ألم تسمع إلى قوله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ … } الآية [التوبة: 65].
فمن شاجَرَ غيره وبحث معه في حكم وحَرَجَ (2) لذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتَّى أفحشَ في منْطِقِه؛ فهو كافرٌ بنصِّ التنزيل؛ لقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } الآية [النساء: 65]. ولا يُعْذر هذا بأن مقصوده ردُّ الخصم.
ومن هذا الباب: قول القائل: “هذه قِسْمَةٌ ما أُرِيْدَ بها وَجْهُ اللهِ” (3)، وقول الآخر: “اعْدِل فإنَّك لم تَعْدِل” (4)، وقول ذلك الأنصاري: “أنْ كان ابنَ عَمَّتِكَ” (5)؛ فإن هذا كفرٌ صريح، وإنما عَفَى عنه كما عَفَى عمَّن قال: “إنَّ هذه لقسمةٌ ما أريدَ بها وجهُ الله”، وعن الذي قال:
__________
(1) كما جاء في البخاري رقم (6477) عن أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن العبد ليتكلّم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق”.
(2) أي: ضويق حتى لجأ لذكره واضطر لذلك.
(3) تقدم ص/ 74.
(4) هو ذو الخويصرة، وقصته أخرجها البخاري رقم (6150)، ومسلم رقم (1062) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -، وجاء من رواية غيره أيضًا.
(5) يعني: الزبيرَ بنَ العوام في قِصَّة شِرَاجِ الحرة، أخرجها البخاري رقم (2362).
(1/101)
“اعْدِل”، وقد ذكرنا (1) عن عمر – رضي الله عنه – أنه قتل رجلًا لم يرضَ بحكم النبي – صلى الله عليه وسلم – فنزل القرآن بموافقته (2)، فكيف بمن طعن في حكمه!؟
وقد ذكر طائفةٌ – منهم ابنُ عقيل وأصحابُ الشافعي -: أنَّ هذا كان عقوبته التعزير، ثم منهم من قال: لم يُعَزِّره؛ لأنه غير واجب، ومنهم من قال: عَفَى عنه؛ لأنَّ الحقَّ له. ومنهم من قال: عاقبَه بأن أمرَ الزُّبيرَ أن يسقي ثم يحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، وهذه كلُّها أقوالٌ رديَّة، ولا يستريب من تأمَّل أن هذا كان يستحق القتل.
فإن قيل: ففي روايةٍ صحيحة أنه كان من أهل بدرٍ، ولا يقال عن بدريٍّ: إنه كفر.
فيقال: هذه الزيادة ذكرها أبو اليَمَان عن شُعيب ولم يذكرها أكثر الرواة، فهي وهم (3). كما وقع في حديث كعب وهلال بن أميَّة (4) أنهما من أهل بدرٍ، ولا يختلفُ أهل المغازي والسِّيَر أنهما لم يشهدا بدرًا (5)،
__________
(1) لم يتقدم شيءٌ في “المختصر”، وإنما هو في أصله: (2/ 85).
(2) هذه القصة أخرجها إسحاق بن راهويه في “تفسيره”، وابن دُحَيم في “تفسيره” وابن جرير: (4/ 162)، وابن أبي حاتم في “تفسيره”.
وانظر “الصارم”: (2/ 81 – 85)، و”فتح الباري”: (5/ 46)، و”الدر المنثور”: (2/ 322). ومال إلى تقويتها ابن تيمية وابن حجر.
(3) لم يجزم ابن تيمية بأنها وهم وعبارته: “فيمكن أنها وهم”.
(4) كذا وقع هنا ومثله في الأصل: 3/ 987 وفي العبارة سقط صوابه: “كما وقع في حديث كعب [بشأن مرارة بن الربيع] وهلال بن أمية”. فلا بد من هذه الزيادة لأن كعبًا صرح بأنه لم يشهد بدرًا، لكن جاء في حديثه أن مرارة وهلالًا من أهل بدرٍ.
(5) انظر الخلاف في ذلك في “فتح الباري”: (7/ 361 – 362، 724 – 725)، و”زاد =
(1/102)
ولذلك لم يذكره ابنُ إسحاق في روايته عن الزهري (1)؛ لكن الظاهر صحتها.
فنقول حينئذٍ: ليس في الحديث أن هذه القِصَّة كانت بعد بدرٍ؛ فلعلَّها كانت قبل بدرٍ، وسُمَّي الرجلُ بدريًا؛ لأن ابن الزبير حدَّثَ بالقِصَّة بعد أن صار الرجلُ بدريًّا. ولو كانت بعد بدرٍ فقد تاب قائلها واستغفر، فإن التوبةَ تجبُّ ما قبلها (2).
فصلٌ (3)
إذا ثبت أنَّ كلَّ سبًّ تصريحًا أو تعريضًا موجبٌ للقتل، فالذي يجب أن يُعْتَنَى به: الفرق بين السبِّ الذي لا تُقبل منه التوبة والكفر الذي تُقبل منه التوبة، فنقول:
هذا الحكم قد نِيْطَ في الكتاب والسنة باسم أذى الله ورسوله، وفي بعض الأحاديث ذكر الشتم والسبّ، وكذلك ما في ألفاظ الصحابة والفقهاء من ذكر السبّ والشتم، والاسمُ إذا لم يكن له حدٌّ في اللغة، كاسم الأرض والسماء، ولا في الشرع كالصلاة والزكاة والكفر والإيمان، فإنه يُرْجَع في حدِّه إلى العُرْف، كالقَبْض والحِرْز، فيجب أن يُرْجَع في حدِّ الأذى والسبّ والشتم إلى العُرْف، فما عدَّه أهل العُرْف
__________
= المعاد”: (3/ 577)، فمال الحافظ الى شهودهما، ومال ابن القيم إلى عدمه، ولكلٍّ حجَّة ودليل.
(1) في “السيرة النبوية”: (2/ 534).
(2) وانظر “فتح الباري”: (5/ 44).
(3) كلمة “فصل” ليست في “الصارم”: (3/ 992).
(1/103)
سبًّا أو انتقاصًا أو عيبًا أو طعنًا ونحو ذلك فهو من السبّ، وما لم يكن كذلك [وهو كفر]، فهو كفر وليس بسبٍّ، [والمعتبر أن يكون سبًّا وأذًى للنبي – صلى الله عليه وسلم – وإن لم يكن سبًّا وأذًى لغيره] (1)؛ فعلى هذا كلُّ ما لو قيل لغير النبي – صلى الله عليه وسلم – أوجبَ تعزيرًا أو حدًّا بوجهٍ من الوجوه؛ فإنه من باب سبِّ النبي – صلى الله عليه وسلم – كالقذف واللعن وغيرهما.
وأما ما يختصّ بالقدح في النبوَّة؛ فإن لم يتضمَّن [إلا] مجرَّد (2) عدم التصديق بنبوته؛ فهو كفر محضٌ، وإن كان فيه استخفافٌ واستهانةٌ مع عدم التصديق؛ فهو من السبِّ.
وهنا مسائل اجتهاديَّة يتردَّد الفقهاء هل هي من السبِّ أو من الرِّدة المحضة، ثم ما ثبت أنه ليس بسبٍّ؛ فإنْ استسَرَّ به صاحبُه فهو زندقة حكمه حكم الزنديق، وإلا فهو مرتدٌّ محض، واستقصاء الأنواع والفرق بينها له موضعٌ آخر.
فصلٌ (3)
فأما الذمِّي فيجب التفريق بين مجرَّد كفره به وبين سبِّه، فإنَّ كفره به لا ينقض العهدَ ولا يُبِيْحُ دَمَ (4) المعاهد بالاتفاق، وأما سبُّه له فإنه ينقض العهدَ ويوجب القتلَ كما تقدم (5).
__________
(1) زيادة متعيِّنة من “الصارم”.
(2) في الأصل: “فإنه لم يتضمن مجرد” والإصلاح من “الصارم”.
(3) “الصارم”: (3/ 994).
(4) في الأصل: “الدم” سهو.
(5) ص/ 90 – وما بعدها.
(1/104)
قال القاضي: “عَقْد الذمة (1) يوجب إقرارهم على تكذيبه لا على سبِّه – صلى الله عليه وسلم -“.
فنقول: الآثار عن الصحابة وعن السَّلف كلها مطلقة فيمن شتم من مسلمٍ ومعاهدٍ لم يُفَصِّلوا بين شتمٍ وشتمٍ، ولا بين أن يكرر الشتم أو لا يكرره، أو يُظهره أو لا يظهره، وأعني بقولي: “لا يظهره”، أن لا يتكلَّم به في ملأٍ من المسلمين، وإلَّا فالحدُّ لا يُقَام عليه حتى يشهد مسلمان أنهما سمعاه يشتم أو يُقرُّ بالشتم، اللهم إلا أن يُفْرَض أنه شتمه في بيته خاليًا؛ فسمعه جيرانه المسلمون أو من استرقَ السمع منهم.
وقال مالك وأحمد: كل من شتمه أو تنقَّصَه مسلمًا كان أو كافرًا قتِل (2)، وكذلك أطلقه سائر أصحابنا: أنه إن تنقَّصَه قُتِلَ مسلمًا كان أو كافرًا.
وذكر القاضي وابنُ عقيل: أنَّ ما أبطل الإيمان أبطل الأمانَ إذا أظهروه، وطَرَد ابنُ عقيلٍ (3) هذا القياس في كلَّ ما ينقض الإيمان من التثْنِية والتثليث (4)، كقول النصارى: إن الله ثالث ثلاثة، ونحو ذلك: أن الذمي متى أظهرَ ما يعلم (5) من دينه من الشرك نقضَ العهدَ.
__________
(1) في “الصارم”: “الأمان”.
(2) انظر ما تقدم ص/ 90 – 91.
(3) في “الصارم”: “وطرد القاضي وابن عقيل … “.
(4) التثنية في عقيدة المجوس: اعتقاد التدبير والنفع والضُّر في (النور والظُّلمة).
والتثليث هي عقيدة النصارى: المعروفة في الأب والابن وروح القدس.
(5) في “الصارم”: “ما تعلمه”.
(1/105)
قال القاضي: وقد نصَّ على ذلك أحمد في رواية حنبل: “كل من ذكر شيئًا يعرِّض به الربّ فعليه القتل – مسلمًا كان أو كافرًا – وهذا مذهب أهل المدينة” (1).
وقال أحمد في رجلٍ يهودي سمع مؤذِّنًا يؤذِّن فقال: كذبتَ، فقال: يُقْتَل لأنه شتم (2).
وقال ابن القاسم فيمن سبَّه فقال: ليس بنبيٍّ، أو لم يُرْسَل، أو لم يَنْزل عليه قرآن وإنما هو شيءٌ قاله = يُقْتَل. وإن [قال]: إنه لم يُرْسَل إلينا وإنما أُرسِلَ إلى المسلمين، وإنما نبينا موسى أو عيسى = لا شيءَ عليهم (3).
ولو قال: دينه خيرٌ من ديننا = أُدِّب وسُجِن طويلًا وهذا قول محمد بن سُحْنُون، وذكره عن أبيه، ولهم قولٌ إذا سبَّه بالوجه الذي به كَفَرَ (4) لا يُقْتَل، وبغيره يُقتل إلا أن يُسْلِم (5).
وقال في اليهودي – إذا قال للمؤذَّن حين تشهده “كذبتَ” -: يُعَاقَب ويُسجن (6)، قد تقدم نصُّ الإمام أحمد في مثل هذه الصورة على القتل؛ لأنه شَتْم.
__________
(1) تقدم تخريجه ص/ 98.
(2) “الجامع”: (2/ 339 – أهل الملل).
(3) انظر “الشفا”: (2/ 485).
(4) في “الصارم”: “كفروا”.
(5) “الشفا”: (2/ 486).
(6) المصدر السابق.
(1/106)
وكذلك اختلف أصحاب الشافعيِّ في السبّ الذي ينتقض به عهدُ الذَّمي ويُقْتَل به إذا قلنا بذلك على وجهين:
أحدهما: ينتقض بمطلق السبِّ لنبينا والقدح في ديننا إذا أظهروه، وإن كانوا يعتقدون ذلك دينًا، وهذا قول أكثرهم.
والثاني: أنهم إن ذكروه بما يعتقدونه فيه دينًا (1) مِن أنه ليس برسولٍ والقرآن ليس بكلام الله؛ فهو كإظهارهم قولهم في المسيح ومعتقدهم في التثليث، قالوا: وهذا لا ينتقض العهدُ به بلا تردد، بل يُعَزَّر على إظهاره.
وأما إذا ذكروه بما لا يعتقدونه دينًا؛ كالطعن في نسبِه؛ فهو الذي قيل فيه: ينقض العهدَ، وهذا اختيار الصيدلاني وأبو المعالي (2) وغيرهما.
والأدلَّة تدلُّ على أن السبَّ بما يعتقدونه فيه دينًا وما لا يعتقدونه فيه دينًا سواء، وأنَّ مطلق السبَّ مُوجبٌ للقتل، وقد تقدم ذلك بما فيه كفاية. فإن الذين كانوا يهجونه ويعيبونه وينفَّرون عنه الناس إنما كان ذلك فيما يعتقدونه، ومع ذلك أمرَ بقتلهم.
وهذا الفرق متهَافِتٌ جدًّا (3).
وأيضًا: لو قلنا: لا يكون سبًّا إلا ما ليس دينًا لهم أمْكَنَ كلُّ من
__________
(1) تحرفت العبارة في “الصارم”: إلى: “أنهم إذا أظهروه، وإن كانوا يعتقدون فيه دينًا من أنه … ” وهو انتقال نظر من السطر الذي قبله.
(2) الصيدلاني تقدَّم، وأبو المعالي هو: إمام الحرمين الجويني ت (478).
(3) ذكر في الأصل ثلاثة وجوه للتهافت، وما ذكره المختصِر هو الثالث.
(1/107)
سبَّه أن (1) يقول: أنا اعتقده دينًا. وحينئذٍ فنقول:
التكلُّم في تمثيل سبَّه وذكر صفة (2) ذلك مما يثقُل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نَفُوهَ بذلك؛ لكن للحاجة إلى الكلام فنحن نفرض الكلام في أنواع السبِّ مطلقًا من غير تعيين، والفقيه يأخذ حظَّه من ذلك فنقول:
السبُّ نوعان: دعاءٌ وخبر، أما الدعاء: فمثل أن يقول القائل لغيره من الناس: لَعَنَه الله، قبَّحه الله، أخزاه الله، لا رَحِمه الله، لا رضي الله عنه، قطعَ اللهُ دابِره، فهذا سبٌّ للأنبياء ولغيرهم، وكذلك لو قال عن نبيٍّ: لا صلَّى الله عليه ولا سلَّم، أو: لا رفع الله ذكرَه، أو: مَحَى الله اسمه، ونحو ذلك من الدعاء بما فيه ضررٌ في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة، فهذه كلُّه إذا صدر من مسلمٍ أو من معاهدٍ فهو سبٌّ، فيُقْتَل المسلم بكلَّ حالٍ، والذميُّ يُقْتَل بذلك إذا أظهره.
فأما إن أظهرَ الدعاءَ له وأبطنَ الدعاءَ عليه إبطانًا يُعرف من لَحْن القول، بحيث يفهمه بعض الناس دون البعض، مثل قوله: “السام عليكم” إذا أخرجه مخرج التحية، وأظهر أنه يقول: “السلام”؛ ففيه قولان:
أحدهما: أنه من السبِّ الذي يُقْتَل به، وإنما كان عفو النبي – صلى الله عليه وسلم – عن اليهودي حين حيَّاه بذلك حالَ ضعف الإسلام، لمَّا كان مأمورًا بالعفو، وهذا قول طائفةٍ من المالكية والشافعية والحنبلية (3).
__________
(1) غير محررة في الأصل، وفي “الصارم” كما هو مثبت.
(2) “الصارم”: “صفته”!
(3) انظر “الشفا”: (2/ 415 – 416)، و”فتح الباري”: (12/ 293 – 294).
(1/108)
والقول الثاني: أنه ليس من السبِّ الذي ينقض العهد؛ لأنهم لم يُظهروا السبَّ ولم يجهروا به، وإنما أظهروا التحيَّة والسلام لفظًا وحالًا وحذفوا “اللام” حَذْفًا خفيًّا يَفْطُن له بعض السامعين، وقد لا يُفْطَن له (1)، ولهذا أُمِرْنا أن نردَّ عليهم، وجعل ذلك شرعًا باقيًا فينا، وهذا قول جماعةٍ من المتقدمين من أصحابنا وغيرهم.
ولا يقال: هذا دعاءٌ بالموت وهو حقٌّ ليس بسبٍّ. فإن الدعاء على المسلمين بالموت وترك الدين من أعظم السبِّ، كما أنَّ الدعاءَ بالصحة والسلامة كرامة.
النوع الثاني (2): الخبر، فكلُّ ما عدَّه الناسُ شتمًا وسبًّا أو تنقُّصًا، فإنه يجب به القتل كما تقدم، فإن الكفر ليس مستلزمًا للسبِّ، والكلمةُ الواحدةُ تكون في حالٍ سبًّا وفي حالٍ ليست بسبٍّ، فعُلِمَ أنه يختلف باختلاف الناس والأحوال والأقوال، وإذا لم يكن للسبِّ حدٌّ لغويٌّ ولا شَرْعي رُجِعَ فيه إلى العُرْف، فما كان سبًّا في عُرْف الناس حُمِل عليه كلام الصحابة والعلماء وإلا فلا، ونحن نذكر من ذلك أقسامًا فنقول:
لا شكَّ أن إظهار التنقُّص والاستهزاء به عند المسلمين سبٌّ؛ كالتسمية باسم الحمار والكلب، أو وصفه بالمسكنة والخِزْي والمهانة، والإخبار بأنه في العذاب وأنّ عليه آثام الخلائق، وكذلك إظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذَّب؛ مثل وصفه بأنه ساحر خادع محتالٌ، وأنه يضرُّ من اتبعه، فإن نَظَمَ ذلكَ شِعرًا فهو أبلغ في الشتم، فإنه يُحْفَظ.
__________
(1) في “الصارم”: (3/ 1007): “وقد لا يفطن له الأكثرون”.
(2) “الصارم”: (3/ 1009).
(1/109)
وأما إن أخبر عن معتقده بغير طعنٍ، مثل قوله: لست متَّبعه، لست مصدِّقه، أو: لا أُحبُّه، أو: لا أرضى به (1) ولا قرينةَ على تنقُّصه، فقد أخبر بمُعْتَقَدِه، وهو [يحصل لجهله] (2) أو لعناده وحسدِه وتقليد الأسلاف.
وإذا قال: “لم يكن رسولًا ولا هو نبيٌّ”؛ فهو تكذيب صريح، وكل تكذيب فقد تضمَّن نِسبته إلى الكذب ووصفه بأنه كذاب. لكن بين قوله: “ليس بنبي” وقوله “كذَّاب” فرقٌ من حيث أن هذا إنما تضمَّن التكذيب بواسطة علمنا أنه كان يقول: “إني رسول الله”، وليس من نَفَى عن غيره بعض صفاته نفيًا مجرَّدًا كمن نفاها عنه ناسبًا له إلى التكذيب في دعواها، والمعنى الواحد يؤدَّى بعباراتٍ بعضها يُعَدُّ سبًّا وبعضُها لا يُعَدُّ سبًّا.
* * *
__________
(1) في “الصارم”: “ولا أرضى دينه”.
(2) الكلمتان متآكلتان في الأصل، وانظر نحو ما أثبتُّ في “الصارم”.
(1/110)
فصلٌ فيمن سبَّ الله تعالى (1)
فإن كان مسلمًا وجبَ قتله بالإجماع (2)؛ لأنه كافر بل أسوأ حالًا منه.
ثم اختلف أصحابنا وغيرهم في قبول توبته، بمعنى أنه هل يُستتاب كالمرتَدّ ويسقط عنه إذا أظهر التوبة بعد رفعه إلى السلطان؟ على قولين:
أحدهما: أنه بمنزلة سابِّ الرسول فيه الروايتان، كالروايتين في سابَّ الرسول، هذه طريقة أبي الخطاب (3) ومن تَبِعَه من المتأخَّرين، ويدلُّ عليه كلام أحمد، وهو مذهب أهل المدينة (4).
وعلى هذه الطريقة؛ فظاهر المذهب أنه لا يسقط القتل بالتوبة بعد القدرة عليه كما ذكرنا في سابَّ الرسول.
وأما الرَّواية الثانية: فإنه يكون مرتدًّا، وبالرواية الأولى قال مالك والليث وابن القاسم= إنه يُقْتَل ولم يُسْتَتَب (5).
__________
(1) “الصارم”: (3/ 1017).
(2) انظر “الشفا”: (2/ 491).
(3) انظر “الهداية”: (2/ 110).
(4) انظر ما تقدم.
(5) انظر “الشفا”: (2/ 491).
(1/111)
والثاني: يُسْتتاب وتُقْبَل توبتُه بمنزلة المرتدَّ، وهذا قول القاضي والشريف (1) وابن البنَّاء وابن عقيل، مع قولهم: إن سابَّ الرسول لا يُستتاب وهو قول طائفةٍ من المدنيين، وكذا ذكره أصحاب الشافعي، قالوا: سبُّ اللهِ رِدَّة، وهذا مذهب أبي حنيفة.
فأمَّا مأْخَذ من استتاب السابّ لله ورسوله؛ فقالوا: هو رِدَّةٌ، ومن فرَّق قال: سبُّ الله كفرٌ محضٌ حقٌّ لله، وهو – سبحانه – علم منه أنه يُسْقِط حقَّه عن التائب ولا يلحقه غضاضة ولا مَعَرَّةٌ، وحُرْمته في قلوب العِباد أعظمُ من أن تهتكها جُرْأةُ أحدٍ، وبهذا يظهر الفرقُ بينه وبين الرسول، ولأنه حق آدميٍّ فلا يسقط بالتوبة.
وبالنظر إلى أنه حقٌّ لله، فما انتهكه من حُرْمة الله لا ينجبر إلا بالحدِّ فأشبه الزنا والسَّرقة والشرب.
فصلٌ (2)
وإن كان السابُّ لله ذِمِّيًّا؛ فهو كما لو سبَّ الرسول، وقد تقدَّم نصُّ أحمد أنه يُقتل مسلمًا كان أو ذِميًّا (3)، وكذلك أصحابنا وكذا مذهب مالكٍ وأصحابِه، وكذلك أصحاب الشافعي؛ لكن هنا مسألتان:
إحداهما: أن سبَّ اللهِ على قِسمين:
أحدهما: سبُّه بما لا يُتَدَيَّن به، بل هو استهانةٌ عند المتكلِّم وغيره، كاللعن، فهذا هو السبُّ بلا رَيْب.
__________
(1) أبو جعفر الحنبلي.
(2) “الصارم”: (3/ 1031).
(3) ص/ 90.
(1/112)
والثاني: أن يكون مما يُتديَّن به، ويعتقده تعظيمًا، مثل قول النصارى: له ولدٌ وصاحبة، فهذا مما اخْتُلِفَ فيه إذا أظهره الذمي؛ فقال القاضي وابن عقيل: ينتقض به عهدُه.
وقال مالك والشافعي: ما يتديَّن به ليس هو بسبٍّ، وهو ظاهر كلام أحمد، وذلك أن الكافر لا يقول ذلك سبًّا، بل هو عنده تعظيم.
المسألة الثانية: في استتابة الذمي:
فجمهور أصحابنا يقبلون توبته، وهذا المعروف من مذهب الشافعي، وكذا قال ابنُ القاسِم وغيره من المالكية: إنه يُسْتَتَاب، والمنصوص عن مالكٍ: أنه لا يُستتاب بل يُقتل، وهو ظاهر كلام أحمد.
وبالجملة؛ فالسبُّ ثلاثة (1) مراتب:
الأولى: ما يتديَّن به، كقول النصارى في عيسى ونحوه، فهذا حكمه حكم سائر أنواع الكفر، وقد ذكرنا الخلاف في انتقاض العهد بإظهاره (2)، وإذا قيل بانتقاض العهد به؛ فسقوط القتل عنه بالإسلام متوجِّه، وهو قول الجمهور.
المرتبة الثانية: أن يذكر ما يتديَّن به، وهو سبٌّ لدين المسلمين، كقول اليهوديِّ للمؤذِّن: “كذبتَ”، وكردِّ النصرانيِّ على عمر (3)، وكما لو
__________
(1) كذا بالأصل
(2) تقدم قريبًّا
(3) تقدم ص/ 90.
(1/113)
عاب شيئًا من أحكام الله؛ فهذا حكمه حكم سبِّ الرسول في انتقاض العهد به، وهو الذي عناه الفقهاء بقولهم: “ذَكَرَ اللهَ أو كتابَه بسوءٍ”.
وأما سقوط القتل بالإسلام؛ فهو كسبِّ الرسول.
المرتبة الثالثة: أنْ يسبَّه بما لا يتديَّن به، بل هو محرم في دينه كاللعن، فلا يظهر بينه وبين سبِّ المسلم فرقٌ، بل ربما كان أشدَّ، فإسلامه لا يجدِّد له اعتقادًا لتحريمه، بل هو فيه كالذِّمي إذا زنى أو قتل أو سرقَ ثم أسلم، فإذا قلنا: لا تُقْبَل توبة المسلم مِن سبِّ الله، فأَنْ لا تُقبل توبة الذميِّ أَوْلى، بخلاف سبِّ الرسول، ويُشْبِه ذلك زناه بمسلمةٍ (1).
وهذا القسم اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الذميَّ يُستتاب منه كالمسلم.
والثاني: لا يُستتاب، لكن إن أسلم لا يُقتل، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد وقول ابن القاسم.
والقول الثالث: أنه يُقتل بكلِّ حال، وهو ظاهر كلام مالك وأحمد، كما نقول يؤخذ منه حدُّ الزنا والسرقة؛ لأنه مُحرم عنده وعند المسلمين كذا هذا (2)، ويدل على ذلك أكثر الأدلَّة.
__________
(1) إذ هو محرَّم في دينه، مُضرٌ بالمسلمين، فإذا أسلم لم يسقط عنه.
(2) كذا بالأصل، والمعنى ظاهر.
(1/114)
فصلٌ (1)
فإن سبَّ موصوفًا بوصفٍ أو مسمًّى باسم، وذلك يقع على الله أو بعض رُسُلِه، لكن ظهر أنه لم يقصد ذلك ولم يُرِدْه، فهذا القول وشِبْهه حرام في الجملة، يُستتاب صاحبُه منه إن لم يعلم تحريمه، ويُعزَّر مع العلم تعزيرًا بليغًا، لكن لا يكفر ولا يُقتل.
مثاله: من سبَّ الدهر أو الزمان الذي فرَّق بينه وبين الأحبة، ويعتقد أن فاعل ذلك هو الدهر، وفاعله حقيقةً إنما هو الله – تعالى – فيقع السبُّ عليه من حيث لم يعتمده، وإلى هذا أشار – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “لا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فإنَّ اللهَ هو الدَّهْر” (2).
وكذلك: من سبَّ رجلًا وقال: يا ابن كذا وكذا إلى آدم، فقد أتى عظيمًا، مع أنه يدخل فيه نوحٌ وإدريس وشِيْث وغيرهم من النبيين، ومثل هذا العموم في هذه الحال لا يُقْصَد به الأنبياء.
وكذلك قال ابنُ أبي زيد فيمن قال: “لعن اللهُ العربَ وبني إسرائيل وبني آدم” لم يُرِد الأنبياء وإنما أراد الظالمين منهم= عليه الأدب بقدر اجتهاد السلطان (3)، وذهب قومٌ إلى قتله، وهذه مسألة الكرماني (4)،
__________
(1) “الصارم”: (3/ 1042).
(2) رواه مسلم رقم (2246) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
(3) انظر “الشفا”: (2/ 437).
(4) هي المتقدمة قريبًا في قول القائل: “يا ابنَ كذا وكذا إلى آدم … “. وانظر “الشفا”: (2/ 438).
(1/115)
وهو قياس أحد الوجهين لأصحابنا فيمن قال: “عصيتُ الله في كلِّ ما أمرني به (1) “.
فصلٌ (2)
والحكم في سائر الأنبياء كالحكم في نبينا – صلى الله عليه وسلم -، ولا يُعلم أن أحدًا فرَّق بين نبيٍّ ونبي، ولا ريب أن جُرْم سابِّه أعظم من سابِّ غيره.
فصلٌ (3)
فأما من سبَّ أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ فمن قذف عائشةَ بما برَّأها الله منه، فقد كفر، حَكَى الإجماعَ عليه غير واحدٍ (4).
وأما من سبَّ غيرها من أزواجه – صلى الله عليه وسلم -؛ ففيه قولان:
أحدهما: أنه كسبِّ واحدٍ من الصحابة على ما سيأتي.
والثاني:- وهو الصحيح – أن من قَذفَ واحدةً من أمهات المؤمنين؛ فهو كقذف عائشة (5).
__________
(1) انظر “الصارم”: (3/ 1045). و”المغني”: (13/ 464).
(2) “الصارم”: (3/ 1048). و”الشفا”: (2/ 545 وما بعدها).
(3) “الصارم”: (3/ 1050). و”الشفا”: (2/ 554 وما بعدها).
(4) ذكر في الصارم منهم: إسماعيل بن إسحاق.
(5) انظر ما تقدم.
(1/116)
فصلٌ (1)
فأما من سبَّ أحدًا من الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين -؛ فقد أطلق أحمد أنه يُنكَّلُ وتوقَّف عن كفره وقتلِه، بل قال: يُعاقَب ويُجْلَد ويُحْبَس حتى يموت أو يرجع عن ذلك، وهذا المشهور من مذهب مالك.
قال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا أوجب قتله (2).
وقال القاضي أبو يعلى: من سبَّ الصحابةَ مُستحِلًّا كفر، وإلَّا فَسَقَ، سواء كفَّرهم أو طعن في دينهم، على ذلك الفقهاءُ.
وقد قطع طائفةٌ من الفقهاء بقتل من سبَّ الصحابة، وكفَّروا الرافضة وصرَّح بذلك كثير من أصحابنا.
قال أبو بكر عبد العزيز في “المُقْنِع” (3) في الرافضي: إنْ سبَّ فقد كفر فلا يُزَوَّج.
ولفظ بعضهم: إن سبَّهم سبًّا يقدح في دينهم أو عدالتهم = كفر، ونصره القاضي، وإن كان سبًّا لا يقدح، مثل أن يسبَّ أبا أحدهم، أو يسبَّه سبًّا يقصد غيظَه لم يكفر.
__________
(1) “الصارم”: (3/ 1055)، و”الشفا”: (2/ 554).
(2) في “الإشراف على مذاهب أهل العلم”: (2/ 245).
(3) ذكره أبو يعلى وأثنى عليه، وقال: إنه في مئة جزء، كما في “تاريخ بغداد”: (10/ 459)، و”المدخل المفصل”: (2/ 808).
(1/117)
قال أحمد في الرجل يشتم عثمان: هذا زنديق، وقال في رواية حنبل: من شتم رجلًا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -: ما أُرَاه على الإسلام (1).
قال القاضي: فقد أطلق أحمدُ القولَ أنه يكفر بسبِّه لأحدٍ من الصحابة، وتوقف في رواية عبد الله وأبي طالب عن قتله، وكمالُ الحدِّ وإيجابُ التعزيرِ يقتضى أنه لم يحكم بكفره.
قال: فيحتمل حمل قوله – يعني قول أحمد -: “ما أُرَاه على الإسلام” على من استحلَّ سبَّهم، فإنه يكفر بلا خلافٍ، ويُحمل إسقاط القتل على غير المستحلِّ. ويُحتمل أن يُحْمَل على أن من سبَّ طعنًا في عدالتهم فيقتل، ومن سبَّ لا لطعنٍ فلا يُقتل، نحو قوله: كان فيهم قلَّة علم وقلَّة معرفةٍ بالسياسة والشجاعة، وفيهم شُحٌّ ومحبَّة الدنيا ونحوه.
قال: ويحتمل أن يُحْمَل كلامه على ظاهره فيكون في سابِّهم روايتان:
أحدهما: يكفر، والثانية: يفسق.
قال شيخ الإسلام: وعلى هذا استقرَّ قول القاضي، وغيره حَكَوا في تكفيرهم روايتين:
قال القاضي: ومن قذف عائشة بما برَّأها الله منه كَفَر بلا خلافٍ.
قال شيخ الإسلام: ونحن نرتِّب الكلامَ في فصلين:
أحدهما: في حكم سبهم مطلقًا.
والثاني: في تفصيل أحكام السابِّ.
أما الأول: فسبّ أصحابه – صلى الله عليه وسلم – حرامٌ بالكتاب والسنة.
__________
(1) أخرجه الخلال في “السنة”: (3/ 493 رقم 781).
(1/118)
أما الكتاب؛ فلأنه غِيْبة وقد قال: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ (1) الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58]، وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] وقد ثبت في الصحيح: “أنه لا يدخل النارَ أحدٌ بايعَ تحت الشجرة” (2).
وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار … } الآية [التوبة: 117]، وقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10].
فعُلِم أن الاستغفار لهم وطهارة القلب من الغِلِّ أمر يُحبه الله ويرضاه ويثني على فاعله، وذَكَرَ عدة آيات.
وأما السنة؛ ففي “الصحيحين” (3) قوله: “لا تسبُّوا أصحابي فوالذي نفسي بِيَدِه لو أنفق أحدُكم مثلَ أحدٍ ذَهَبًا ما بلغ مدَّ أحدِهم ولا نَصِيْفَه”.
وروى البَرْقاني (4): “لا تسبُّوا أصحابي، دَعُوا لي أصحابي”.
__________
(1) في الأصل: “يرمون” وهو خطأ.
(2) أخرجه مسلم رقم (2496) من حديث أم مبشّر – رضي الله عنها -.
(3) أخرجه البخاري رقم (3673)، ومسلم رقم (2540) عن أبي سعيد – رضي الله عنه -.
(4) قال الحافظ في “الفتح”: (7/ 34): “أخرجه البرقاني في “المصافحة”” وحسَّنه هو والحافظ. وانظر “جزء لا تسبوا أصحابي” (ص/ 60) لابن حجر.
(1/119)
وقال: “إن الله اختارني واختار لي أصحابًا، جَعَلَ لي منهم وُزَرَاءَ وأنْصارًا وأَصْهَارًا، فَمَنْ سبَّهم فَعَلَيْه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أَجْمَعينَ لا يَقْبَل اللهُ منه يومَ القِيَامةِ صَرْفًا ولا عَدْلًا” (1).
وقال: “اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتَّخِذوهم غَرَضًا مِن بَعْدي، مَن أَحَبَّهم فقد أَحَبَّني، ومن أَبْغَضَهم فقد أَبْغَضَنِي، ومَن آذاهُم فَقَد آذَاني، ومَن آذاني فقد آذى اللهَ، ومَن آذى اللهَ فيوشِكُ أنْ يأْخُذَه” رواه الترمذي (2) وغيره (3).
وفي لفظٍ: “من سبَّ أصْحابي فقد سَبَّني، ومن سَبَّني فَقَدْ سَبَّ اللهَ” رواه ابن البناء (4).
__________
(1) أخرجه ابن أبي عاصم في “السنة”: (2/ 469)، والطبراني في “الكبير”: (17/ 140)، والخلال في “السنة”: (3/ 515 رقم 834)، والحاكم: (3/ 632) وغيرهم، كلهم من طريق محمد بن طلحة المدني عن عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة عن أبيه عن جده.
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال شيخ الإسلام: “هذا محفوظ بهذا الإسناد”. وضعفه الألباني في تخريج السنة بجهالة عبد الرحمن بن سالم، وسوء حفظ محمد بن طلحة، وله شاهد من حديث أنس أخرجه الخطيب في “تاريخه”: (2/ 99)، ومن حديث جابر أخرجه البزار “الكشف 3/ 288” قال الهيثمي في “المجمع”: (10/ 16): “رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف”.
(2) رقم (3862) وقال: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه” اهـ.
(3) أخرجه أحمد في “المسند”: (4/ 87)، وفي “فضائل الصحابة”: (1/ 49)، وابن أبي عاصم في “السنة”: (2/ 465)، وابن حبان كما في “الإحسان”: (16/ 244)، وغيرهم من حديث عبد الله بن مغفل – رضي الله عنه – والحديث إسناده ضعيف.
(4) كذا قال ابن تيمية، وأخرجه ابن عدي في “الكامل”: (4/ 210) بنحوه من حديث محاذ بن جبل؛ لكنه من طريق عبد الله بن خراش عن العوَّام بن حوشب، وأحاديثه عامتها مناكير. وزاد فيه بعد أصحابي: “وأصهاري”.
(1/120)
وقال: “لَعَنَ اللهُ مَنْ سَبَّ أصْحابي” رواه الزُّبيري (1).
وغير ذلك من السنة.
وإذا كان شتمهم بهذه المثابة، فأقل ما فيه التعزيرُ، وهذا مما لا نعلم فيه خِلافًا بين أهل الفقه والعلم من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – والتابعين لهم بإحسانٍ. وسائرُ أهل السنة والجماعة مجمعون على أن الواجبَ الثناءُ عليهم والاستغفار لهم والترحُّم عليهم، والترضِّي عنهم، واعتقاد محبتهم وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول.
فمن قال: لا يقتل بشتمهم لقوله: “لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مُسْلِمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ” (2) الحديث، ولأن بعضهم ربما سبَّ بعضًا (3) ولم يُكفَّر أحدٌ بذلك.
ومن قال: يُقتل السابُّ أو يكفر؛ فاحتجُّوا بأَشياء:
منها: قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ (4) … } الآية [الفتح: 29].
__________
(1) عن محمد بن خالد عن عطاء بن أبي رباح به، مرسلًا أخرجه اللالكائي: (7/ 1248). وأخرجه الترمذي رقم (3958) والبزار “الكشف: 3/ 293 – 294″، والطبراني في “الكبير”: (12/ 434)، واللالكائي: (7/ 1248)، والضياء في “النهي عن سب الأصحاب”: رقم (7) مرفوعًا عن ابن عمر، وهو من مفاريد سيف ابن عمر.
قال الترمذي: “هذا حديث منكر” اهـ أي: من هذه الطريق المرفوعة عن ابن عمر، وللحديث شاهدان من حديث أنسٍ وأبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري رقم (6878)، ومسلم رقم (1676) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -. وجاء من حديث جماعة من الصحابة.
(3) في الأصل: “بعض”.
(4) في الأصل: “آمنوا معه” وهو سبق قلم.
(1/121)
فمن غِيظَ بهم فقد شارك الكفَّار فيما أذلَّهم الله به وأخزاهم وكَبَتَهم، ومن شارك الكفار فيما كُبِتُوا به جزاءً لكفرهم فهو كافرٌ مثلهم؛ لأن المؤمن لا يُكْبَت جزاءً للكفر. يوضّحه أنه علّق الحكم بوصفٍ مشتق مناسبٍ؛ لأن الكفر مناسب لأن يُغاضَ صاحبُه، فإذا كان هو الموجب لأن يُغاظ صاحبه بأصحاب محمد، فكل من غاضَه اللهُ بهم فقد وُجدَ في حقَّه موجِبُ ذاك وهو الكفر، وهذا معنى قول الإمام أحمد “ما أُرَاهَ على الإسلام” (1) – يعني الرافضي -.
ومن ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: “من أَبْغَضَهم فقد أَبْغَضَني، ومن آذَاهم فَقَد آذاني، ومَنْ سَبَّهم فَعَليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ، لا يَقْبَل اللهُ مِنه صرفًا ولا عَدْلًا” (2)، وأذى الله ورسوله كُفْر، وبهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار الصحبة وأذى سائر المسلمين، وبين أذاهم بعد ثبوت الصحبةِ، فإن من كان على صحبته ومات عليها فإن أذاه أذى مصحوبه، قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: “اعتبروا الناسَ بأخْدَانِهم” (3)، كما قيل:
عن المرءِ لا تسألْ وسَلْ عن قريْنِه … فكُلُّ قريْنٍ بالمُقَارِنِ يَقْتَدي (4)
وقال مالك: هؤلاء قومٌ أرادوا قدح الرسول فما أمكنهم فقدحوا في أصحابه، حتى يقال: رجلُ سوءٍ كان له أصحاب سوءٍ.
قال ابن عمر: “لا تسبُّوا أصحابَ محمدٍ، فإن مُقَام أحدهم خير
__________
(1) كما تقدم ص/ 118.
(2) مضى تخريجه. ص/ 120.
(3) رواه ابن بطة في “الإبانة”: (2/ 439) تحقيق رضا نعسان.
(4) البيت لعدي بن زيد العِبَادي، انظر “عيون الأخبار”: (3/ 79)، و”بهجة المجالس”: (1/ 2/ 705).
(1/122)
[من] عملكم [كلِّه] ” (1).
وقال عليٌّ: “إنه لعهد عَهدَه إليَّ رسولُ اللهِ: أنَّه لا يُحِبُّك إلا مؤمنٌ ولا يُبْغِضُك إلا مُنَافقٌ” رواه مسلم (2).
وفي “الصحيحين” (3): “آية الإيمان حُبُّ الأنصارِ، وآيةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنْصارِ”.
وفيهما (4): ” [الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق] (5)، من أحبَّهم أحبَّه الله ومن أبغضهم أبغضه الله”.
فمن سبَّهم فقد زاد على بغضهم، فيجب أن يكون منافقًا، وإنما خصَّ الأنصار؛ لأنهم هم الذين تبوَّءُوا الدارَ والإيمانَ من قبل المهاجرين، وآووا رسولَ الله ونصروه ومنعوه، وبذلوا نفوسهم وأموالهم في إقامة دينه، وعادوا الأحمرَ والأسودَ من أجله، والمهاجرين واسَوْهم في الأموال، وكان المهاجرون قليلًا (6) غُرباءَ فقراءَ مستضعَفين. وأرادَ أن يُعَرِّف الناسَ قدْرَ الأنصارِ، لعلمه أن الناس يكثرون والأنصار يقلُّون، وأن الأمر سيكون في المهاجرين، فكلُّ من شارك الأنصار في نصر الله
__________
(1) رواه ابن ماجه في مقدمة السنن رقم (162)، والإمام أحمد في “الفضائل”: (1/ 57)، وابن أبي عاصم في “السنة”: (2/ 470 رقم 1006) وسنده صحيح.
(2) رقم (78).
(3) البخاري رقم (17)، ومسلم رقم (74) من حديث أنسٍ – رضي الله عنه -.
(4) البخاري رقم (3783)، ومسلم رقم (75) من حديث البراء – رضي الله عنه -.
(5) في الأصل: “آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغضهم … ” وهو تكرار للحديث السابق والتصويب من “الصارم” و”الصحيح”.
(6) في الأصل: “قيلًا” سبق قلم.
(1/123)
ورسوله بما أمكنه؛ فهو شريكهم في الحقيقة، فبُغْضُ من نصرَ اللهَ ورسولَه نِفَاقٌ، يدخل في ذلك كل الصحابة الذين نصروه، ومُبْغِضهم منافق كافر لما ذكرناه.
قال طلحةُ بن مصرِّف: “كان يقال: بُغض بني هاشم نفاق، وبُغْض أبي بكرٍ وعمر نفاق، والشاكُّ في أبي بكرٍ كالشاكِّ في السنة” (1).
قال عليُّ بن أبي طالب: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “يظهر في أمتي في آخر الزمانِ قومٌ يُسَمَّونَ الرافضةَ يَرْفُضون الإسلامَ” رواه عبد الله بن أحمد في “المسند” (2) عن كثير النَّوَّاء، عن إبراهيم بن الحسن عن أبيه عن جدِّه عن عليٍّ فذكره (3).
وهو في السنن (4) من وجوهٍ صحيحة، وكثيرٌ يضعَّف (5).
وروى أبو يحيى الحِمَّاني عن عليًّ قال: قال لي النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “يا علي! أنتَ وشِيْعَتكَ في الجنةِ، وإن قومًا لهم نَبْزٌ يقال لهم: الرافضةُ، إن أدركتَهم فاقتلهم فإنهم مشركون”. قال علي: ينتحلون حبَّ أهل البيتِ وليسوا كذلك، وآيةُ ذلك أنَّهم يشتمون أبا بكرٍ وعمر – رضي الله عنهما -. رواه عبد الله بن أحمد (6).
__________
(1) رواه أحمد في “الفضائل”: (2/ 968)، و”اللالكائي”: (7/ 1266)، وأخرجه الخلال في “السنة”: (1/ 290 رقم 353) بنحوه عن محارب بن دثار.
(2) (1/ 103) وهو من زوائده، وضعفه الشيخ أحمد شاكر رقم (808).
(3) وأخرجه عبد الله بن أحمد في “السنة”: (2/ 546)، وابن أبي عاصم: (2/ 460).
(4) غير بينة في الأصل، وفي “الصارم”: “السنة”.
(5) انظر “تهذيب التهذيب”: (8/ 411).
(6) في “السنة”: (2/ 547 – 548)، وابن عدي في “الكامل”: (7/ 213) وهو =
(1/124)
وفي لفظٍ: “يكون بَعْدنا قومٌ يَنْتَحِلُون مَوَدَّتنا يكذبون علينا، مارِقَةٌ، آيةُ ذلك أنَّهم يسبُّون أبا بكرٍ وعمرَ” (1).
ورواه البغوي (2)، وفيه: “أيْنَما أدْرَكتموهُم فاقْتُلُوهُم فإِنَّهم مُشْرِكُونَ”.
ورُوِي موقوفًا علَى علِيٍّ (3) ومرفوعًا.
ورواه ابنُ بطة (4) عن أنسٍ قال: قال رسول الله: “إنَّ الله اختارني واختارَ لي أصحابي، فجعلهم أنصاري وجعلهم أصهاري، وإنَّه سيجيءُ آخِرُ الزمانِ قومٌ ينتقصونهم، أَلا فلا تُواكِلوهم ولا تُشارِبُوهم، ألا فلا تُنَاكِحُوهُم، ألا فلا تُصَلُّوا معهم ولا تُصَلُّوا عليهم، عليهم حَلَّتِ اللعنةُ” (5) وفيه نظرٌ.
ورُوي أضعف من ذلك عن أبي هريرة (6)، لكن هذا مأثور عن الصحابة، فرُوي عن عليٍّ أنه بلغه أن عبد الله بن السوداء ينتقص أبا بكرٍ
__________
= منكرات أبي جناب الكلبي.
(1) رواه اللالكائي: (8/ 1454).
(2) كما ذكر شيخ الإسلام، وأخرجه اللالكائي – أيضًا -: (8/ 1456)، وفيه ما تقدم من الضعف.
(3) أخرجه اللالكائي: (8/ 1456).
(4) ليس فيما طبع من “الإبانة”.
(5) أخرجه الخلال في “السنة”: (2/ 483 رقم 769)، والعقيلي في “الضعفاء”: (1/ 126)، وابن حبان في “المجروحين”: (1/ 187). وهو خبر باطل كما قال ابن حبان.
(6) رواه ابن البناء بلفظ “لا تسبوا أصحابي فإن كفارتَهم القتل” كما في “الصارم”: (3/ 1099).
(1/125)
وعمر فهمَّ بقتلِه (1). وهذا محفوظٌ عن أبي الأحوص، ورواه النجَّاد وابن بطَّة واللالكائي (2) وغيرهم.
ومراسيل إبراهيم جِياد، ولا يُظْهِر عليٌّ أنه همَّ بقتل رجلٍ إلا وهو حلال قتله عنده، وإنما تركه خوف الفتنة، كما أمسك رسولُ الله عن قتل بعض المنافقين.
وقال عبد الرحمن بن أبْزَى: “لو سمعت رجلًا يسبُّ عمرَ لضربتُ عُنقه” (3)، وعبد الرحمن صحابيٌّ مشهور، كان عاملًا على مكة (4)، واستعمله عليٌّ على خراسان.
وقال علي: “لا يُفَضِّلُنِي أحدٌ على أبي بكرٍ وعمرَ إلا جَلَدْتُه جَلْد المفتري، خيرُ الناسِ بعد رسول الله أبو بكرٍ ثمَّ عمر” (5). رواه عبد الله بن أحمد وابن بطة وغيرهما، والآثار في ذلك كثيرة جدًّا.
__________
(1) أخرجه اللالكائي: (7/ 1264).
(2) تحرفت في الأصل إلى: “اللاكي”.
(3) أخرجه الخلال في “السنة”: (1/ 255) بنحوه.
(4) لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه -.
(5) هذان أثران عن علي – رضي الله عنه – جمعها المؤلف في سياقٍ واحد. الأثر الأول ينتهي عند قوله “المفتري” أخرجه أحمد في “الفضائل”: (1/ 83)، وعبد الله بن أحمد في “السنة”: (2/ 562).
والأثر الثاني قوله: “بلغني أن قومًا يفضلوني على أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – ولو كنت تقدمت في هذا لعاقبت فيه، ولكني أكره العقوبة قبل التقدم، ومن قال شيئًا من ذلك فهو مفترٍ، عليه ما على المفتري، خير الناس … ” إلى آخره. أخرجه أحمد في “الفضائل”: (1/ 336)، وابنه في “السنة”: (2/ 588) وغيرهما.
(1/126)
وروى الإمام أحمد (1) بإسنادٍ صحيح عن ابن أبي ليلى قال: تَدَارَوا (2) في أبي بكرٍ وعمر، فقال رجلٌ: عمر أفضل من أبي بكر، وقال الجارود (3): بل أبو بكرٍ أفضل منه. فبلغ عمر، قال: فجعل [يضربه] ضربًا بالدَّرَّة حتى شَغَر (4) برجليه، ثم أقبل إلى الجارود فقال: إليك عنَّي، ثم قال عمر: أبو بكر كان خير الناسِ بعدَ رسول الله في كذا وكذا، ثم قال: من قال غيرَ هذا أقمنا عليه حدَّ المفتري.
فإذا كان الخليفتان الراشدان عمر وعليٌّ – رضي الله عنهما – يجلدان لمن يُفَضِّل عليًّا على أبي بكرٍ وعمرَ، أو يُفضِّل عمر على أبي بكرٍ، وليس في ذلك سبٌّ = عُلِمَ أن عقوبة السبِّ عندهما فوقَ ذلك بكثير.
فصلٌ (5)
وتفصيل القول في ذلك:
أن من اقترن بسبَّه دعوى أن عليًّا إله، أو أنه نبيٌّ وأن جبريل غَلِطَ؛ فلا شكَّ في كفر هذا، بل لا شكَّ في كفر من توقَّف في تكفيره.
وكذلك من زعم أن القرآن نُقِصَ منه شيءٌ وكُتِم، أو أن له تأويلات
__________
(1) في “الفضائل”: (1/ 300)، وابنه في “السنة”: (2/ 579).
(2) أي: تماروا، وزنًا ومعنى.
(3) الجارود بن المعلَّى، سيد عبد القيس، أسلم عام الوفود، واستشهد في نهاوند، انظر “الإصابة”: (1/ 216).
(4) تحرك واضطرب.
(5) “الصارم”: (3/ 1107).
(1/127)
باطنة تُسْقِط الأعمالَ المشروعةَ، ونحو ذلك، وهذا قول القرامطة والباطنية، ومنهم التناسخيَّة، ولا خلاف في كفر هؤلاء كلِّهم.
وأما من سبَّهم سبًّا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم ببُخْل، أو جُبْن، أو قِلَّة علمٍ، أو عدم زُهْدٍ، ونحوه، فهذا يستحق التأديبَ والتعزيرَ، ولا يكفر، وعلى ذلك يُحمل كلام من لم يُكفَّرهم من العلماء.
وأما من لعنَ وقَبَّحَ مُطلقًا؛ فهذا محلُّ الخلاف، لتردُّد الأمر بَيْن لعنِ الغيظِ، ولعن الاعتقاد.
وأما من جاوزَ ذلك إلى أن زعم: أنهم ارتدُّوا بعد رسول الله إلا نفرًا قليلًا لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فَسَقوا؛ فلا ريب – أيضًا – في كفر قائل ذلك، بل من شكَّ في كفره فهو كافر.
وهؤلاء قد ظهرَ لله فيهم مَثُلات، وتواتر أن وجوههم تُمْسَخ خنازير في المحيا والممات (1).
وبالجملة؛ فمِنْ أصناف السَّابَّةِ من لا ريب في كفره، ومنهم من لا يُحْكم بكفره، ومنهم من يُتَرَدَّد فيه، وليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك، ولو تقصَّيناه، لطال جدًّا؛ لكن هذا بحسب (2) ما اقتضاه الحال، والله أعلم.
* * *
__________
(1) وانظر ما ذكره شيخ الاسلام في “منهاج السنة”: (1/ 485).
(2) ويحتمل أن تقرأ: “بحيث”.
(1/128)
اختصره كاتبه محمد بن علي بن محمد [في شهر الحجة سنة ثلاثين وسبع مئة، وحسبنا الله ونعم الوكيل (1)،] انتهى “مختصر الصارم المسلول” في شهر القعدة سنة ثلاثين وسبع مئة.
* * *
__________
(1) العبارة غير واضحة في الأصل، وهي مشكلة إذا نظرنا إلى التاريخين المدوّنين، ولعل أحدهما متأخر في كتابته عن الآخر، أو في العبارة تحريف لم أهتد إليه.
(1/129)
فهرس المراجع
– الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، لأبي عبد الله بن بطة العكبري، دار الراية.
– الإجماع، لأبي بكر بن المنذر، دار الكتب العلمية.
– الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرناووط، مؤسسة الرسالة.
– أخلاق النبي – صلى الله عليه وسلم -، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق الونيان، دار المسلم.
– الأرشاد، للشريف محمد بن أبي موسى الهاشمي، تحقيق د/ عبد الله التركي، مؤسسة الرسالة.
– إرشاد الطالبين (معجم شيوخ ابن ظهيرة)، مخطوط.
– أسباب النزول، للواحدي، تحقيق السيد أحمد صقر، دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن ط. 3, 1407.
– الإشراف على مذاهب أهل العلم، لأبي بكر بن المنذر، تحقيق محمد نجيب سراج الدين، دار الثقافة بقطر، ط، 1، 1406.
– الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، دار الفكر، 1389.
– الأعلام، للزركلي، دار العلم للملايين، ط، 8، 1409.
– الإقناع، لابن المنذر، تحقيق الجبرين، مكتبة الرشد، ط، 3، 1418.
– الأم، للإمام الشافعي، تصحيح محمد زهري النجار، مصورة دار المعرفة.
– إنباء الغمر بأبناء العمر، لابن حجر، مصورة عن الهندية.
– الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، تحقيق الفقي، ط 1، 1375.
– الأوسط، لابن المنذر، تحقيق صغير أحمد، دار طيبة.
– بَهجة المَجالس وأُنس المُجالس، لابن عبد البر، تحقيق الخولي، دار الكتب العلمية.
– تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، مصورة دار الكتب العلمية.
– تاريخ ابن قاضي شهبة، تحقيق عدنان درويش، المعهد الفرنسي للدراسات العربية.
– التاريخ الكبير، للإمام البخاري، دائرة المعارف العثمانية.
– تحفة التحصيل في أحكام المراسيل، لأبي زرعة العراقي، (مخطوط).
– ترتيب المدارك، للقاضي عياض، وزارة الأوقاف بالمغرب، ط، 2، 1403.
– التسهيل في تراجم الحنابلة، لابن عثيمين، (مخطوط).
(1/131)
– التسهيل في الفقه على مذهب أحمد، للبعلي الحنبلي، تحقيق الطيار، دار العاصمة ط، 2، 1417.
– تعظيم قدرة الصلاة، لمحمد بن نصر المروزي، تحقيق الفريوائي، دار الصميعي.
– تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، دار المعرفة.
– تقريب التهذيب، لابن حجر، طبعة دار الرشيد، ودار العاصمة.
– تهذيب التهذيب، لابن حجر، مصورة عن الهندية.
– الثقات، لابن حبان، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية.
– الجامع، لمحمد بن عيسى الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، دار الكتب العلمية.
– جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية.
– جامع التحصيل في أحكام المراسيل، للعلائي، تحقيق حمدي السلفي، مكتبة الرشد.
– الجامع (أحكام أهل الملل) للخلَّال، تحقيق السلطان، مكتبة المعارف الرياض.
– الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، ط 1، 1420.
– جزء لا تسبوا أصحابي، لابن حجر، تحقيق مشهور سلمان، ط 1، 1408.
– الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، للمعافي النهرواني، تحقيق الخولي وإحسان عباس، عالم الكتب.
– حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصفهاني، دار الريان والكتاب العربي، ط 5, 1407.
– الدارس في تاريخ المدارس، للنُّعيمي، تحقيق الحسيني، تصوير دار الثقافة الدينية.
– الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1411.
– الدر المنضد في تراجم أصحاب أحمد، للعليمي، تحقيق عبد الرحمن العثيمين، مكتبة التوبة.
– الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، لابن حجر، تحقيق كرنكو.
– ديوان حسان بن ثابت – رضي الله عنه – دار صادر، تحقيق د/ وليد عرفات.
– الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب الحنبلي، تحقيق الفقي، تصوير دار المعرفة.
– روضة الطالبين وعمدة المفتين، للنووي، المكتب الإسلامي.
– زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، مؤسسة الرسالة.
(1/132)
– السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، لابن حميد، تحقيق العثيمين وبكر أبو زيد، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1416.
– سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني، مكتبة المعارف.
– السنن لأبي داود، تحقيق الدعَّاس، دار الحديث، ط 1، 1388.
– السنن للنسائي، بحاشية السندي وشرح السيوطي – تصوير دار الريان.
– السنن، لابن ماجه، تحقيق عبد الباقي، دار الريان.
– السنن الكبرى، للنسائي، دار الكتب العلمية.
– السنن الكبرى، للبيهقي، مصورة دار المعرفة.
– السنن للدارمي، دار الريان.
– السنة لابن أبي عاصم، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي.
– السنة لعبد الله بن أحمد، تحقيق د/ محمد القحطاني، رمادي للنشر.
– السنة، للخلّال، تحقيق الزهراني، دار الراية.
– سير أعلام النبلاء، للذهبي، مؤسسة الرسالة، ط 6، 1409.
– السيرة النبوية، لابن هشام، مكتبة البابي الحلبي، ط 2، 1375.
– شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد، دار الفكر، 1408.
– شرح أصول اعتقاد أهل السنة، لأبي القاسم اللالكائي، تحقيق أحمد سعد حمدان، دار طيبة.
– شرح الشفا، للملا علي القاري، دار الكتب العلمية.
– شرح علل الترمذي، لابن رجب، تحقيق همام سعيد، مكتبة المنار الزرقاء، ط 1، 1407.
– الشريعة، لأبي بكر الآجرّي، تحقيق د/ عبد الله الدميجي، دار الوطن.
– الصارم المسلول على شاتم الرسول – صلى الله عليه وسلم -، لابن تيمية، تحقيق الحلواني وشودري، رمادي للنشر، ط 1, 1417.
– صبح الأعشى في صناعة الإنشا، للقلقشندي.
– صحيح مسلم، للإمام مسلم، ترقيم عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي.
– الضعفاء، للعقيلي، دار الكتب العلمية.
(1/133)
– الطبقات الكبرى، لابن سعد، دار صادر.
– طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، تحقيق د/ عبد الرحمن العثيمين.
– طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، تحقيق الطناحي والحلو.
– علماء بغداد في القرن الرابع عشر الهجري، ليونس السامرائي.
– علماء نجد خلال ثمانية قرون، للبسَّام، دار العاصمة.
– عيون الأخبار، لابن قتيبة، دار الكتب العلمية.
– فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر، دار الريان للتراث.
– فضائل الصحابة، للإمام أحمد، تحقيق وصيّ الله عباس، جامعة أم القرى.
– فهرس مكتبة برلين.
– قصص لا تثبت، ليوسف العتيق، دار الصميعي.
– قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة، للسيوطي، المكتب الإسلامي، ط 1، 1405.
– الكامل في ضعفاء الرجال، لأبي أحمد بن عدي، دار الكتب العلمية.
– كشف الأستار عن زوائد البزار، للهيثمي، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1403.
– المجروحين، لابن حبان، دار الوعي بحلب، ط 2، 1402.
– مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، نشر مؤسسة المعارف.
– مجموع الفتاوى، لابن تيمية، جمع ابن قاسم، تصوير عالم الكتب.
– المحلّى، لابن حزم الظاهري، تحقيق أحمد شاكر، دار التراث.
– المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل، لبكر أبو زيد، دار العاصمة، ط 1، 1417.
– المرشد الوجير إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، لأبي شامة المقدسي، تحقيق طيار آلتي قولاج، دار صادر.
– المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، مصورة عن دائرة المعارف العثمانية.
– مسند الإمام أحمد، المكتب الإسلامي.
– مسند أبي داود الطيالسي، مصورة الطبعة الهندية.
(1/134)
– مصنّف عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق الأعظمي، المكتب الإسلامي.
– المطالب العالية (المسندة)، لابن حجر، دار الوطن.
– معالم السنن، للخطابي، مع مختصر المنذري، تحقيق الفقي وأحمد شاكر.
– المعجم الأوسط، للطبراني، تحقيق الطحان، دار المعارف الرياض.
– المعجم الصغير، للطبراني، دار الكتب العلمية.
– المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، مكتبة ابن تيمية.
– معجم المؤلفين، لعمر كحالة، مكتبة المثنَّى.
– معرفة الصحابة، لأبي نعيم، تحقيق العزّازي، دار الوطن.
– المغني، لابن قدامة، تحقيق الحلو والتركي، توزيع وزارة الأوقاف بالمملكة.
– مغني المحتاج، للشربيني.
– المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، للعليمي، دار صادر، ط 1.
– الموضوعات، لابن الجوزي، المكتبة السلفية بالمدينة.
– ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق البجاوي.
– النهي عن سب الأصحاب، للمقدسي، مكتبة العروبة الكويت، ط 1.
-الهداية، لأبي الخطاب الكلوذاني، تحقيق إسماعيل الأنصاري، ط 1، 1390.
– الوفيات، لابن رافع السلامي، تحقيق صالح عباس ورفاقه، مؤسسة الرسالة.
(1/135)