هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى_2
هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى_2
http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى [آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (16)]المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 – 751) حققه: عثمان جمعة ضميرية راجعه: محمد أجمل الإصلاحي – سعود بن عبد العزيز العريفي – عبد الله بن محمد القرني الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) – دار ابن حزم (بيروت) الطبعة: الرابعة، 1440 هـ – 2019 م (الأولى لدار ابن حزم) عدد الصفحات: 451 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
طوراف (1) يوسيف” تفسيره: وحش ردي أكله، افتراسًا افترس يوسف (2) .
وفي التوراة: “ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا” (3) فهذا الذي حرمته التوراة من الطريفا، وهذا نزل عليهم وهم في التِّيْه، وقد اشتدَّ قَرَمُهُم (4) إلى اللَّحم فمنعوا من أكل الفريسة والميتة.
ثم اختلفوا في خرافات وهذيانات تتعلق بالرئة، وقالوا: ما كان من الذبائح سليمًا من هذه الشروط فهو “دخيا” (5) ، وتفسيره: طاهر، وما كان خارجًا عن ذلك فهو: “طريفا”، وتفسيره: نجس حرام.
ثم قالوا: معنى قوله في التوراة: “لحم فريسة في الصحراء لا تأكلوه، للكلب ألقوه” يعني: إذا ذبحتم ذبيحةً، ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها، بل بيعوها على مَنْ ليس من أهل مِلَّتكم. قالوا: ومعنى قوله: “للكلب ألقوه” أي: لمن ليس على مِلَّتكم فهو الكلب، فأطعِمُوه إيَّاه بالثمن (6) .
فتأمَّل هذا التحريفَ والكذبَ على الله وعلى التوراة وعلى موسى، وكذلك (7) كذبهم الله على لسان رسوله في تحريم ذلك فقال في السورة
__________
(1) في “ب، ص”: “طوارف”. وفي “إفحام اليهود”: “طارف طوارف يوسف”.
(2) سفر التكوين: (37/ 33).
(3) سفر الخروج (22/ 31).
(4) في “ب”: “قومهم” وهو تحريف. والقَرَم: شدة الشهوة إلى اللحم.
(5) في “ب”: “دوحنيا”.
(6) انتهى ما نقله بتصرف عن “بذل المجهود في إفحام اليهود” ص (183 – 194).
(7) في “د”: “ولذلك”.
(1/309)
المدنية التي خاطب فيها أهل الكتاب: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [النحل: 114 – 115].
وقال في سورة الأنعام: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 145 – 146]. فهذا تحريم زائد على تحريم الأربعة المتقدمة.
وقال في سورة النحل وهي بعد هذه السورة نزولًا: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: 118]. فهذا المحرَّم عليهم بنصِّ التوراة ونصِّ القرآن.
فلما نظر “القرَّاؤون” منهم -وهم أصحاب عنان (1) وبنيامين- إلى هذه المُحَالات الشنيعة والافتراء الفاحش والكذب البارد على الله وعلى التوراة وعلى موسى وأنَّ أصحاب “التلمود والمشنا” (2) كذَّابون على الله وعلى التوراة وعلى موسى، وأنهم أصحاب حَماقَاتٍ ورَقَاعاتٍ، وأنَّ أتباعهم ومشايخهم يَزْعُمون أنَّ الفقهاء منهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة من هذه المسائل وغيرها يوحي الله إليهم بصوت يسمعونه: “الحق في
__________
(1) في “ب”: “عايان” وفي هامشها إشارة إلى نسخة أخرى: “عانان”، وهي كذلك في “إفحام اليهود” للسموأل، ص (195).
(2) في “ب، ج”: “الجمارا والمشنا”.
(1/310)
هذه المسألة مع الفقيه فلان” ويسمون هذا الصوت (1) : “بث قول”.
فلما نظر القَرَّاؤون إلى هذا الكذب المحال قالوا: قد فسق هؤلاء، ولا يجوز قَبُول (2) خبرِ فاسقٍ ولا فتواه، فخَالَفُوهم في سائر ما أصَّلوه من الأمور التي لم ينطق بها نصُّ التوراة. وأما تلك التُّرَّهَات التي ألَّفها فقهاؤهمِ الذين يسمونهم “الحخاميمِ” في علم الذباحة ورتَّبوها ونسبوها إلى الله فاطَّرَحَها القراؤون كلَّها وألغوْها، وصاروا لا يحرِّمون شيئًا من الذبائح التي يتولَّون ذبحها البتَّة، ولهم فقهاء أصحاب تصانيف إلا أنهم يبالغون في الكذب على الله، وهم أصحاب ظواهر مجردة، والأولون أصحاب استنباط وقياسات.
والفرقة الثانية يقال لهم: “الربَّانِيُّون” وهم أكثر عددًا، وفيهم الحخاميم (3) الكذابون على الله الذين زعموا أنَّ الله كان يخاطب جميعهم في كل مسألة بالصوت الذي يسمونه: “بث قول”.
وهذه الطائفة أشدُّ اليهود عداوة لغيرهم من الأُمم، فإن الحخاميم أوْهَمُوهم بأنَّ الذبائح لا يحلُّ منها إلا ما كان على الشروط التي ذكروها، فإنَّ سائر الأمم لا تعرف هذا، وأنه شيء خُصُّوا به ومُيِّزوا بهم عمَّن سواهم. وأنَّ الله شرَّفهم به كرامةً لهم، فصار الواحد منهم ينظر إلى مَنْ ليس على نِحْلَتِه كما ينظر إلى الدَّابّة، وينظر إلى ذبائحه كما ينظر إلى الميتة.
__________
(1) في “د”: “الأصوات”.
(2) ساقطة من “ج”. وفي “بذل المجهود”: “الحاخاميم”.
(3) في “غ، ص”: “الخحاميم”.
(1/311)
وأما “القرّاؤون” فأكثرهم خرجوا إلى دين الإسلام، ونَفَعَهم تمسُّكُهم بالظواهر، وعدمُ تحريفها إلى أن لم يَبْق منهم إلا القليل؛ لأنهم أقرب استعدادًا لقبول الإسلام لأمرين:
(أحدهما) إساءةُ ظنِّهم بالفقهاء المفترين على الله وطعنهم عليهم.
(والثاني) تمسكهم بالظواهر، وعَدَمُ تحريفِها وإبطالِ معانيها.
وأما أولئك “الربَّانِيّون” فإنَّ فقهاءهم وحخاميمهم (1) حصروهم في مثل سَمِّ الخِيَاط بما وضعوا لهم من (التشديدات والآصار و) (2) الأغلال المضافة إلى الآصار والأغلال التي شرعها الله عقوبةً لهم، وكان لهم في ذلك مقاصد:
(منها): أنهم قصدوا بذلك مبالغتهم في (3) مضادَّة مذاهب الأمم حتى لا يختلطوا بهم، فيؤدي اختلاطُهم بهم إلى موافقتِهِم والخروجِ من السبت واليهودية.
(والقصد الثاني): أنَ اليهود مُبَدَّدُون (4) في شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها كما قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف: 168].
وما من جماعة منهم في بلدة إلا إذا قَدِمَ عليهم رجلٌ من أهل دينهم
__________
(1) في “غ، ص”: “خحاميمهم”.
(2) ما بين القوسين ساقط من “غ، ص”.
(3) ساقطة من “غ، ص”.
(4) في “ب”: “يشدِّدون”، وفي الحاشية إشارة إلى نسخة أخرى كما في المتن.
(1/312)
من بلاد بعيدة، يُظْهِرُ (1) لهم الخشونةَ في دينه والمبالغةَ في الاحتياط، فإن كان من فقهائهم شرع في إنكار أشياء عليهم يوهِمُهم قلَّةَ دينِهِم وعِلْمِهم، وكلَّما شدَّد عليهم قالوا: هذا هو العالم. فأعلمُهم أعظمُهم تشديدًا عليهم، فتراه أول ما ينزل عليهم لا يأكل (2) من أطعمتهم وذبائحهم، ويتأمل سكين الذبَّاح، ويشرع في الإنكار عليه ببعض أمره، ويقول: لا آكل إلا من ذبيحة يدي، فتراهم معه في عذاب، ويقولون: هذا عالِمٌ غريب قَدِم علينا. فلا يزال ينكرُ عليهم الحلال ويشدِّدُ عليهم الآصار والأغلال ويفتحُ لهم أبواب المكر والاحتيال. وكلما فعل هذا قالوا: هذا هو العالم الربَّاني والحخيم الفاضل.
فإذا رآه رئيسهم قد مشى حاله، وقُبِل بينهم مقالُه وَزَنَ نفسه معه، فإذا رأى أنه ازدرى به وطعن عليه: لم يقبل منه، فإنَّ الناس في الغالب يميلون مع الغريب، وينسبه أصحابه إلى الجهل وقلة الدين، ولا يصدقونه لأنهم يرون القادم قد شدَّد عليهم وضيَّق، وكلَّما كان الرجل أعظم تضييقًا وتشديدًا كان أفْقَه (3) عندهم، فينصرف عن هذا الرأي فيأخذ في مدحه وشكره، فيقول: لقد عظَّم الله ثواب فلان؛ إذْ قوَّى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة وشيَّد أساسه وأحكم سياج الشرع. فيبلغ القادِمَ قولُه فيقول: ما عندكم أفقه منه، ولا أعلم بالتوراة، وإذا لقيه يقول: لقد زيَّن الله بك أهل بلدنا، ونعش بك هذه الطائفة!!
وإن كان القادم عليهم حَبْرًا من أحبارهم؛ فهناك ترى العجب
__________
(1) في “ب”: “وظهر”.
(2) في “ب”: زيادة “ولا يشرب” في الحاشية.
(3) في “غ، ص”: “أفقد”.
(1/313)
العجيب من الناموس الذي تراه يعتمده والسنن التي يُحْدِثها، ولا يعترض عليه أحد، بل تراهم مُسَلِّمين له، وهو يحتلب درَّهم ويحتلب دِرْهمَهم (1) ، وإذا بلغه عن يهوديٍّ طعن عليه صبر عليه حتى يرى منه جلوسًا على قارعة الطريق يوم السبت، أو يَبلُغَه أنه اشترى مِن مسلم لبنًا أو خمرًا، أو خرج عن بعض أحكام “المشنا والتلمود” = فحرمه بين ملأ اليهود وأباحهم عِرْضه، ونَسَبه إلى الخروج عن اليهودية، فيضيقُ به البلد على هذه الحال، فلا يسعه إلا أن يُصْلِح ما بينه وبين الحَبْر بما يقتضيه الحال، فيقول لليهود: إن فلانًا قد أبصر رُشْدَه، وراجع الحقَّ، وأقلع عمَّا كان فيه، وهو اليوم يهوديٌّ على الوضع، فيعودون له بالتعظيم والإكرام (2) !!.
وأذكر لك مسألة من مسائل شَرْعِهم المبدَّلِ أو المنسوخِ تُعْرَفُ بمسألة “البياما والحالوس” (3) وهي أن عندهم في التوراة: إذا أقام أخَوان في موضع واحدٍ ومات أحدهما ولم يُعْقِب ولدًا، فلا تصير امرأة الميت إلى رجل أجنبيٍّ، بل حموها (4) ينكحها، وأولُ ولدٍ يُولِدها يُنْسَب إلى أخيه الدارج، فإن أبى أن ينكحها خرجت متشكية إلى مشيخة قومه قائلة: قد أبى حَمُوْي (5) أن يستبقي اسمًا لأخيه في بني إسرائيل، ولم يُرِدْ نكاحي. فيُحْضِرُه ويكلِّفه أن يقف ويقول: ما أردتُ نكاحها، فتتناول
__________
(1) يستحلب درّهم ويحتلب: يستجلبه.
(2) انتهى ما نقله عن “بذل المجهود” للسموأل، ص (195 – 200).
(3) في “ب، ج، د”: “الجالوس” بالمعجمة. وفي “بذل المجهود” للسموأل: “الحالوص”.
(4) في “ب، غ، ص”: “ابن حموها”.
(5) في “غ، ص”: “ابن حموي”.
(1/314)
المرأة نعله فتخرجه من رِجْله وتمسكه بيدها وتبصق في وجهه وتنادي عليه: كذا فَلْيُصْنَع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه. ويُدْعَى فيما بعد بالمخلوع النعل، وينتبز بَنُوه بهذا اللقب (1) .
وفي هذا كالتَّلْجِئَةِ له إلى نكاحها، لأنه إذا علم أنه قد فرض على المرأة وعليه ذلك فربما استَحْيَا وخَجل من شَيْل نعله مِنْ رجْله والبصْق في وجهه ونَبْزِه باللَّقَب المُسْتَكْرَهِ الذي يبقى عليه وعلى أَولاده عَارُه، ولم يجد بُدًّا من نكاحها؛ فإن كان من الزهد فيها والكراهة لها بحيث يرى أنَّ هذا كلَّه أسْهَلُ عليه من أن يُبْتَلى بها، وهان عليه هذا كله في التخلُّص منها: لم يُكْرَه على نكاحها.
هذا عندهم في التوراة؛ ونشأ لهم من ذلك فرع مرتَّبٌ عليه وهو: أنْ يكون مريدًا للمرأة (2) مُحِبًّا لها، وهي في غاية الكراهة له، فأحدثوا لهذا الفرع حكمًا في غاية الظلم والفضيحة؛ فإذا جاءت إلى الحاكم أحضروه معها ولقَّنُوها أن تقول: إنّ حَمُوْي (3) لا يقيم لأخيه اسمًا في بني إسرائيل، ولم يُرِدْ نكاحي، وهو عاشق لها -فيلزمونها بالكذب عليه وأنها أرادته فامتنع، فإذا قالت ذلك ألزمه الحاكم أن يقوم ويقول: ما أردتُ نكاحها. ونكاحُها غايةُ سُؤْله وأمنيتُه، فيأمرونه بالكذب عليها- فيخرج نعله من رجله إلا أنه لا مَسْك (4) هنا (ولا ضرب) (5) ، بل يُبْصَق
__________
(1) العهد القديم، سفر التثنية: (25/ 5 – 10).
(2) في “ع”: “للموات”.
(3) في “غ، ص”: “ابن حموي”.
(4) في “غ”: “لا شك”.
(5) ساقط من “غ، ص”.
(1/315)
في وجهه ويُنَادى عليه: هذا جزاء من لا يبني بيت أخيه (1).
فلم يَكْفِهم أن كذبوا عليه حتى أقاموه مقام الخزي وألزموه بالكذب والبصاق في وجهه والعتاب على ذَنْبٍ جرَّه غيره، كما قيل:
وَجُرْمٍ جَرَّهُ سُفَهَاءُ قَوْمٍ … وحَلَّ بِغَيْرِ جَارِمِهِ العَذَابُ (2)
أفَلَا يستحي من تعيير المسلمين مَنْ هذا شَرْعُه ودِيْنُه؟!.
فصل
ولا يستبعد اصطلاح الأمة الغضبيَّة على المُحَال واتِّفاقُهم على أنواع من الكفر والضلال، فإنَّ الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها، وأَخْذِ بلادها: انطمستْ حقائقُ سالفِ أخبارِها، ودَرَسَتْ معالِمُ دينها وآثارها، وتعذَّر الوقوف على الصواب الذي كان عليه أوَّلُوها وأسْلَافُها، لأنَّ زوال الدولة عن الأمة إنما يكون بتتابعِ (3) الغارات، وخراب البلاد وإحراقِها وجلاءِ أهلها عنها، فلا تزال هذه البلايا متتابعةً عليها إلى أن تستحيلَ رسومُ دياناتها، وتضمحلَّ أصولُ شرعها، وتتلاشى قواعدُ دِيْنها. وكلَّما كانت الأمة أقْدَمَ واختلفتْ عليها الدول المُتَناوِلَةُ لها بالإذلال والصَّغَار كان حظُّها من اندراس دينها أَوْفَرَ. وهذه
__________
(1) سفر التثنية: (25/ 7 – 10). وانظر: “بذل المجهود في إفحام اليهود” للسموأل ص (179 – 181).
(2) البيت لأبي الطيب المتنبي، الديوان ص (954) يقول: كم جرم جناه السفهاء فعمَّ عقابُه القبيلة كلها. والبيت استشهد هنا به أيضًا السموأل بن يحيى المغربي في الموضع السابق، ص (181).
(3) في “غ”: “تتتابع” وفي “ب”: “شايع الامارات”.
(1/316)
الأمة الغضبيَّة أوْفَرُ الأمم حظًّا من ذلك؛ فإنها أقدم (1) الأمم عهدًا، واستولتْ عليها سائِرُ الأمم من الكندانيين والكَلْدانِيِّيْن والبَابِليِّين والفُرْس واليُونَان والنَّصارى.
وما من هذه الأمم أمةٌ إلا وقصدتِ استئصالهم وإحْراقَ كتبهم وتَخْريبَ بلادهم، حتى لم يَبْقَ لهم مدينةٌ ولا جيش ولا حِصْنٌ إلا بأرض الحِجَاز وخَيْبَر، فأعزَّ ما كانوا هناك.
فلما قام الإسلام واستعلن الربُّ تعالى من جبال فاران صادَفَهم تحت ذِمَّة الفُرْس والنَّصارى، وصادف هذه الشرذمةَ بخَيْبَرَ والمدينةِ فأذاقهم الله بالمسلمين -من القتل والسبي وتخريب الديار- ذَنُوبًا مثل ذَنُوبِ أصحابهم، وكانوا من سِبْطٍ لم يصبهم الجلاءُ، فكتبَ الله عليهم الجلَاءَ وشَتَّتهم ومزَّقَهم بالإسلام كلَّ مُمَزَّقِ.
ومع هذا فلم يكونوا مع أمةٍ من الأمم أطْيَبَ منهم مع المسلمين ولا آمَنَ؛ فإنَّ الذي نالهم من النَّصارى والفُرْس وعُبَّاد الأصنام: لم يَنَلْهُم من المسلمين مثلُه. وكذلك الذي نالهم مع ملوكهم العُصَاة الذين قتلوا الأنبياء وبَالَغُوا في طلبهم وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سَدَنَةً للأصنام لتعظيمها وتعظيم رُسُومها في العبادة، وبنوا لها البيَعَ والهياكل وعَكَفُوا على عبادتها وتركوا لها أحكام التوراة وشَرْع موسىَ أزمنةً طويلة وأعصارًا متصلة.
فإذا كان هذا شأنهم مع ملوكهم، فما الظنُّ بشأنهم مع أعدائهم، أشد الأعداء عليهم، كالنصارى الذين عندهم أنَّهم قتلوا المسيح وصلبوه
__________
(1) في “غ، ص”: “من أقدم”.
(1/317)
وصَفَعُوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشَّوْك على رأسه، وكالفُرْس والكَلْدَانِيِّين وغيرهم؟!
وكثيرًا ما منعهم ملوك الفرس من الخِتَان وجعلوهم قُلْفًا، وكثيرًا ما منعوهم من الصلاة؛ لمعرفتهم بأنَّ مُعْظَم صلاتهم دعاءٌ على الأمم بالبَوَار وعلى بلادهم بالخراب إلا أرض كنعان، فلما رأوا أنَّ صلاتهم هكذا منعوهم من الصلاة، فرأت اليهود أنَّ الفُرْس قد جَدُّوا في منعهم من الصلاة، فاخترعوا أدعيةً مزجوا بها (1) صلاتَهم سَمَّوها “الخزانة”، وصاغوا لها ألحانًا عديدةً وصاروا يجتمعون على تلحينها وتلاوتها.
والفرق بين الخزانة والصلاة: أنَّ الصلاة بغير لَحْنٍ، ويكون المصلِّي فيها وَحْدَه، والخزانة بلَحْنٍ يشاركه غيره فيه، فكانت الفُرْس إذا أنكروا ذلك عليهم قالت اليهود: نحن نُغَنِّي وننوح على أنفسنا، فيُخَلُّون بينهم وبين ذلك.
وجاءت دولة الإسلام فأَمِنُوا فيها غاية الأَمْن، وتمكَّنوا من صلاتهم في كنائسهم، واستمرَّت الخزانة سُنَّةً فيهم في الأعياد والمواسم والأفراح وتعوَّضوا بها عن الصلاة.
والعجب أنهم -مع ذَهابِ دولتِهم وتفرُّق شَمْلهم، وعلمهم بالغضب الممدود المستمرِّ عليَهم ومَسْخِ أسلافهم قردةً لِقَتْلِهم (2) الأنبياء، وعدوانهم في السبت، وخروجهم عن شريعة موسى والتوراة، وتعطيلهم لأحكامها -يقولون في كل يومٍ في صلاتهم: “محبةِ الدهر”:
__________
(1) في “غ”: “من جوابها”.
(2) في “غ”: “وقتلهم”.
(1/318)
أحِبَّنا يا إلهنا! يا أبانا! أنت أبونا منقذنا! ويُمثّلون أنفسهم بعناقيد العنب، وسَائرَ الأمم بالشَّوْك المحيط بالكَرْم لحِفْظِه، وأنَّهم سيقيم اللهُ لهم نبيًّا من آل داود إذا حرَّك شفتيه بالدعاء ماتَ جميعُ الأمم، ولا يبقى على وجه الأرض إلا اليهود (1). وهو بزعمهم المسيح الذي وُعِدُوا به، وينبِّهون الله بزعمهم من رقدته في صلاتهم، وينخونه ويحمونه، تعالى الله عن إفكهم وضلالهم علوًّا كبيرًا!!
وضلالُ هذه الأمة الغضبيَّة وكَذِبُها وافتراؤها على الله ودينه وأنبيائه لا مَزِيدَ عليه.
وأما أكلُهم الرِّبا والسُّحْت والرّشَا، واستبدادُهم دون العالم بالخُبْث (2) والمكر والبَهْت، وشدَّةِ الحرص على الدنيا، وقسوة القلوب، والذل والصَّغار، والخِزي، والتحيُّل على الأغراض الفاسدة، ورمي البرآء بالعيوب، والطعن على الأنبياء: فأرْخَصُ شيءٍ عندَهم، وما عيَّرُوا به المسلمين -مما ذكروه ومما لمِ يذكروه- فهو في بعضهم وليس في جميعهم، ونبيُّهم وكتابُه ودينُه وشرْعُه بريءٌ منه، وما عليه من
معاصي أمته وذنوبهم، فإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.
فصل
وإن كان المعَيِّرُ للمسلمين من أمة الضلال وعُبَّاد الصليب والصُّوَر المدهونة في الحيطان والسقوف، فيقال له (3):
__________
(1) الإصحاح الثامن عشر من سفر التثنية، الفقرة (15 – 19).
(2) في “غ”: “بالحنث”.
(3) لا يزال الكلام على الوجه الخامس من جواب المسألة السادسة وهذا التفريع =
(1/319)
ألا يستحي مَنْ أصْلُ دينه الذي يدين به: اعتقادُه أنَّ رب السموِات والأرض تبارك وتعالى نزل عن كرسيِّ عظمته وعرشه، ودخل في فرْجِ امرأة تأكل وتشرب وتبول وتتغوَّط وتحيض، فَالْتَحَمَ ببطنها، وأقام هناكَ تسعةَ أشهر يتلبَّط بين نَجْوٍ (1) وبَوْلٍ ودمِ طمثٍ، ثم خرج إلى القِمَاط والسَّرير، كلَّما بكى ألقَمَتْه أمُّه ثَدْيَها، ثم انتقل إلى المكتب بين الصبيان، ثم آلَ أمرُه إلى لَطْمِ اليهود خَدَّيْه، وصَفْعِهِم قَفَاه، وبَصْقِهم في وجهه، ووضْعِهِم تاجًا من الشوك على رأسه والقصبةَ في يده، استخفافًا به وانتهاكًا لحرمته؟!
ثم قربوه من مركبٍ خُصَّ بالبلاء راكبُه، فشدُّوه عليه وربطوه بالحبال، وسَمَروا يديه ورجليه، وهو يصيح ويبكي ويستغيث من حَرِّ الحديد وألم الصَّلْب، هذا وهو الذي خلق السموات والأرض، وقسم الأرزاق والآجال، ولكن اقتضتْ حكمتُه ورحمتُه أن يمكِّن أعداءه من نفسه لينالوا منه ما نالوا فيستحقوا بذلك العذابَ والسَّجْنَ في الجحيم (2) ، ويَفْدِي أنبياءه ورسله وأولياءه بنفسه (3) فيخرجهم من سجن إبليس، فإنَّ روح آدم وإبراهيم ونوح وسائر النبيين عندهم كانت في سجن إبليس في النار حتى خلصها من سجنه بتمكينه أعداءه من صلبه!!!.
ما قولهم في “مريم”؛ فإنهم يقولون: إنها أمُّ المسيح ابن الله في
__________
= تابع لما سبق ص (302).
(1) ما يخرج من البطن.
(2) في هامش “ب”: “جهنم”.
(3) ساقطة من “د”.
(1/320)
الحقيقة، ووالدتُه في الحقيقة، لا أمَّ لابنِ الله إلا هي، ولا والدة له غيرها، ولا أب لابنها إلا الله، ولا ولد له سواه، وإن الله اختارها لنفسه ولولادة (1) ولده وابنه من بين سائر النساء، ولو كانت كسائر النساء لما ولدت إلا عن وطء الرجال لها، ولكن اختصَّتْ عن النساء بأنها حبلت بابن الله، وولدت ابنه الذي لا ابن له في الحقيقة غيره، ولا والد له سواه، وأنها على العرش جالسة عن يسار الربِّ -تبارك وتعالى- والدِ ابْنِهَا، وابْنُها عن يمينه.
والنَّصارى يَدْعُونَها ويسألونَها سَعَةَ الرِّزق، وصحةَ البدن، وطولَ العُمُر، ومغفرةَ الذنوب، وأن تكون لهم عند ابِنها ووالدِه -الذي يعتقد عامتهم أنه زوجها، ولا ينكرون ذلك عليهم- سورًا وسَنَدًا وذُخْرًا وشفيعًا وركنًا، ويقولون في دعائهم: يا والدة الإله اشفعي لنا! وهم يعظِّمونها ويرفعونها على الملائكة وعلى جميع النبيِّيْن والمرسلين. ويسألونها ما يُسْأل الإله من العافية والرزق والمغفرة!!
حتى إن “اليَعْقُوبِيَّة” (2) يقولون في مناجاتهم لها: يا مريم يا والدة الإله، كوني لنا سورًا وسندًا وذخرًا وركنًا!!
“والنَّسْطُوريَّة” (3) يقولون: يا والدة المسيح كوني لنا كذلك! ويقولون لليعقوبيَّة: لا تقولوا يا والدة الإله، وقولوا: يا والدة المسيح،
__________
(1) في “غ، ص”: “وأولاده”.
(2) فرقة من النصارى منسوبة إلى أحد دعاتها وهو يعقوب البرادعي. انظر: “الملل والنحل” للشهرستاني، ص (241 – 243).
(3) أتباع نسطور الحكيم من النصارى، وهو الذي تصرَّف بالأناجل بحكم رأيه، انظر: “الملل والنحل” ص (239 – 241).
(1/321)
فقالت لهم اليعقوبية: المسيح عندنا وعندكم إلهٌ في الحقيقة، فأيُّ فَرْقٍ بيننا وبينكم في ذلك؟ ولكنكم أردتم مصالحة المسلمين ومقاربتهم (1) في التوحيد.
هذا؛ والأوقاح الأرجاس من هذه الأمة تعتقد أنَّ الله -سبحانه- اختار مريم لنفسه ولولده، وتخطَّاها كما يتخطَّى الرجلُ المرأة.
قال النَّظَّامُ (2) -بعد أن حكى ذلك عنهم (3) -: وهم يُفْصِحون بهذا عند من يثقون به.
وقد قال ابن الإخشيد (4) هذا عنهم في “المعونة”، وقال: إليه يشيرون، ألا ترون أنهم يقولون: مَنْ لم يكِن والدًا يكون عقيمًا، والعُقْم آفَةٌ وعَيْبٌ. وهذا قول جميعهم وإلى المُبَاضعَةِ يشيرون.
ومَنْ خَالَطَ القوم وطاولهم وبَاطَنَهم عرف ذلك منهم، فهذا كفرهم وشركهم بربِّ العالمين ومَسَبَّتُهم له.
ولهذا قال فيهم (5) أحد الخلفاء الراشدين: أهِيْنُوهم ولا تَظْلِموهم، فلقد سبُّوا الله مسبَّةً ما سبَّه إياها أحدٌ من البشر (6) .
__________
(1) في “غ، ج، ب”: “مقارنتهم”.
(2) إبراهيم بن سيار بن هانئ من أئمة المعتزلة.
(3) ساقطة من “غ، ص”.
(4) أبو بكر أحمد بن علي من المعتزلة أيضًا، توفي سنة (326). وكتابه “المعونة” ذكره ابن النديم في “الفهرست” أثناء ترجمته له.
(5) ساقطة من “د”.
(6) لم أجده في شيء من كتب الآثار، وأخرج نحوه الطبراني في “مسند الشاميين”: (2/ 127). وقال القرافي في “الفروق” في الفرق (119): ويروى =
(1/322)
وقد أخبر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – عن ربِّه في الحديث الصحيح أنه قال: “شَتَمَنِي ابنُ آدمَ ولم يَكُنْ له ذلك، وكذَّبنَي ابنُ آدمَ ولم يكُنْ له ذلك، أمَّا شَتْمُه إيَّايَ فقوْلُه: اتَّخذَ اللهُ وَلَدًا، وأنا الأحَدُ الصَّمَدُ الذي لم يُوْلَدْ ولمِ يَكُنْ له كُفُوًا أحدٌ، وأمَّا تَكْذِيْبُه إيَّايَ فقولُه: لن يُعِيْدَنِي كما بَدَأنِي، ولَيْسَ أوَّلُ الخَلْقِ بأَهْوَنَ عليَّ من إعَادَتِهِ” (1).
فلو أتى الموحِّدون بكل ذنب، وفَعَلُوا كلَّ قبيحٍ وارتكَبُوا كلَّ معصيةٍ ما بلغتْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ في جَنْبِ هذا الكُفْرِ العظيمِ بربِّ العَالمِيْنَ، ومَسَبَّتِهِ هذا السّبَّ، وقَوْلِ العَظَائِم فيه.
فما ظنُّ هذه الطائفة بربِّ العالمِيْنَ أن يفعلَه بهم إذا لَقُوه {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106].
ويسألُ المسيحَ على رؤوس الأشْهَادِ وهم يسمعون: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فيقول المسيح مكذِّبًا لهم ومتبرئًا منهم: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 116 – 117].
فصل
فهذا أَصْلُ ديِنهِم وأساسُهُ الذي قام عليه، وأما فُروعُه وشرائعه فهم مخالفونَ للمسيح في جميعها، وأكثر ذلك بشهادتهم وإقرارهم، ولكن
__________
= عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في “الجواب الصحيح” وغيره بلفظ آخر دون عزو.
(1) أخرجه البخاري بنحوه في التفسير، سورة الإخلاص: (8/ 739).
(1/323)
يُحِيْلُون على البَتَاركَة والأسَاقِفَةِ، فإنَّ المسيح -صلوات الله وسلامه عليه- كان يتديَّنُ بالطهارة، ويغتسل من الجنابة، ويُوجِب غسل الحائض. وطوائفُ النَّصارى عندهم أنَّ ذلك كلَّه غَيرُ واجَبٍ، وأنَّ الإنسانَ يقوم مِنْ على بَطْن المرأةِ ويبول ويتغوَّط، ولا يَمَسُّ ماءً ولا يَسْتَجْمِرُ، والبَولُ والنَّجْو يَنحدِرُ على ساقه وفَخِذِه ويصلِّي كذلك وصلاتُه صحيحةٌ تامةٌ، ولو تغوَّط وبَالَ وهو يصلِّي لم يضره، فضلًا عن أنْ يَفْسُوَ أو يَضْرَطَ!!
ويقولون: إنَّ الصلاةَ بالجنابة والبول والغائط أفْضَلُ من الصلاة بالطهارة، لأنها حينئذٍ أبْعَدُ من صلاة المسلمين واليهود، وأقْرَبُ إلى مخالفة الأُمَّتَيْن، ويستفتح الصلاةَ بالتَّصْليب بين عَيْنَيْه.
وهذه الصلاة ربُّ العالمين بريءٌ منها. وكذلك المسيحُ وسائِرُ النبيِّيْنَ، فإن هذه بالاستهزاء أشْبَهُ منها بالعبادةِ. وحاشى المسيحَ أنْ تكونَ هذه صلاته أو صلاة أحد من الحَوَارِيِّيْن، والمسيحُ كان يقرأ في صلاته ما كان الأنبياءُ وبنو إسرائيل يقرؤونه في صلاتهم من التوراة والزبور.
وطوائف النصارى إنما يقرؤون في صلاتهم كلامًا قد لَحَّنه لهم الذين يتقدَّمون ويُصلُّون بهم، يجري مجرى النَّوْح والأغاني. فيقولون: هذا قُدَّاس فلان، وهذا قُدَّاس فلانٍ، يَنْسِبُونه إلى الذين وضعوه، وهم يُصلُّون إلى الشرق. وما صلَّى المسيح إلى الشرق قط، وما صلى -إلى أن توفاه الله- إلا إلى بيت المقدس، وهي قبلةُ داودَ والأنبياءِ قَبْلَه، وقِبْلةُ بني إسرائيل.
والمسيحُ اخْتَتَنَ وأوجب الخِتَانَ، كما أوجبه موسى وهارون
(1/324)
والأنبياء قبل المسيح.
والمسيحُ حرَّم الخِنْزير، ولَعَن آكِلَه، وبالغ في ذَمِّه -والنصارى تُقِرُّ بذلك- ولَقِيَ الله لم يَطْعَمْ مِنْ لحمِه بوزن شعيرة، والنَّصارى تتقرَّبُ إليه بأكله.
والمسيحُ ما شرع لهم هذا الصَّومَ الذي يصومونه قط، ولا صامه في عُمُره مرة واحدة، ولا أحدٌ من أصحابه، ولا صام صَوْمَ العَذَارى في عمره، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه، ولا حرَّم فيه ما يحرِّمونه، ولا عطَّل السَّبتَ يومًا واحدًا حتى لقي الله، ولا اتَّخذ الأحدَ عيدًا قط، والنصارى تقرّ أنه رَقَى مريم المجدلانيَّة فأخرج منها سبع شياطين، وأنَّ الشياطين قالت له: أين نأوي فقال لها: اسْلُكِي هذه الدابَّة النجسة – يعني الخِنْزِيْرَ (1) .
فهذه حكايةُ النَّصارى عنه، وهم يَزْعُمون أنَّ الخنزير من أطهر الدواب وأجْمَلِها.
والمسيحُ سار في الذَّبائح والمناكِحِ والطَّلاقِ والمواريثِ والحدودِ سِيْرَةَ الأنبياءِ قَبْلَه.
وليس عند النَّصارى على مَنْ زنى أو لاطَ (2) أو سَكِر حدٌّ في الدنيا أبدًا، ولا عذابٌ في الآخرة، لأن القُسَّ والرَّاهِبَ يَغْفِرُه لهم، فكلَّما أذْنَبَ أحدُهم ذَنْبًا أهدى للقَسِّ هديةً، أو أعطاه درهمًا أو غيره ليغفر له به! وإذا زَنَتِ امرأةُ أحدِهم بَيَّتَها عند القسَّ ليطيِّبَها له، فإذا انصرفتْ من
__________
(1) انظر إنجيل لوقا: (8/ 2 – 3).
(2) في “غ”: “يلوط”.
(1/325)
عنده وأخبرت زوجها أنَّ القَسَّ طيَّبَها؛ قَبَّل ذلك منها وتَبرَّك به!!.
وهم يُقِرُّون أن المسيح قال: “إنما جئتكم لأعمل بالتوراة وبوصايا الأنبياء قَبْلي، وما جئتُ ناقضًا بل مُتَمِّمًا، ولأَنْ تقعَ السماءُ على الأرض أيْسَر عند الله مِنْ أن أنْقُضَ شيئًا من شريعة موسى، ومن نقض شيئًا من ذلك يدعى ناقضًا في مَلَكُوت السماء” (1) .
وما زال هو وأصحابه كذلك إلى أن خرج من الدنيا.
وقال لأصحابه: “اعملُوا بما رأيتموني أعملُ، وارضَوْا من الناس بما أرْضَيْتكم به، (ووَصُّوا الناس بما وَصَّيْتكم به) (2) ، وكونوا معهم كما كنتُ معكم، وكونوا لهم كما كنتُ لكم” (3) .
وما زال أصحاب المسيح بعده على ذلك قريبًا من ثلاثمائة سنة، ثم أخذ القومُ في التغيير والتبديل والتقرُّب (4) إلى الناس بما يَهْوَوْنَ، ومكايدةِ (5) اليهود ومناقضتهم بما فيه تَرْكُ دين المسيح والانْسِلاخُ منه جملةً.
فرأوا اليهودَ قد قالوا في المسيح: إنَّه ساحرٌ مجنونٌ مُمَخْرِقٌ، وَلَدُ زِنْيَةٍ، فقالوا: هو إلهٌ تامٌّ، وهو ابنُ الله!! ورأوا اليهود يَخْتَتِنُون فتركوا الخِتَانَ!! ورأوهم يبالغون في الطهارة فتركوها جملة!! ورأوهم يتجنبون مؤاكلة الحائض ومُلامَسَتَها ومخالطتَها (6) جملةً فجامَعُوها! ورأوهم
__________
(1) إنجيل متى: (5/ 17 – 20).
(2) ما بين القوسين ساقط من “ص، غ”.
(3) إنجيل متى: (23/ 3 – 6).
(4) في “ج”: “التقريب”.
(5) في “ب، ج”: “وما يكره” وفي “غ”: “وما تلذه”.
(6) ساقطة من “غ، ص”.
(1/326)
يحرِّمون الخنزيرَ، فأباحوه وجَعَلُوه شِعَارَ دينِهِم، ورأوهم يحرِّمون كثيرًا من الذبائح والحيوان؛ فأباحوا ما دون الفِيل إلى البعوضة، وقالوا: كُلْ ما شئتَ (ودع ما شئتَ) (1) لا حَرَجَ، ورأوهم يستقبلون بيت المقدس في الصلاة فاستقبلوا هم الشرق، ورأوهم يحرِّمون على الله نَسْخَ شريعةٍ شَرَعَها، فجوَّزوا هم لأساقفتهم (2) وبتاركتهم أن يَنْسَخُوا ما شاؤوا، ويحلِّلوا ما شاؤوا، ويحرّموا ما شاؤوا، ورأوهم يحرِّمون السَّبت ويحفظونه فحرَّموا هُمُ الأحدَ وأحلُّوا السَّبت -مع إقرارهم بأنَّ المسيح كان يعظِّم السبت ويحفظه-، ورأوهم يَنْفِرُونَ من الصَّليب، فإنَّ (3) في التوراة “ملعون من تعلَّق بالصليب” (4) -والنصارى تقر بهذا- فعبدوا هم الصَّليبَ.
كما أنَّ في التوراة تحريم الخنزير نصًّا فتعبَّدُوا هم بأَكْلِه، وفيها الأمر بالختان فتعبُّدوا هم بتَرْكه – مع إقرار النصارى بأنّ المسيح قال لأصحابه (5) : “إنما جئتَكم لأعمل بالتوراة ووصايا الأنبياء قَبْلي، وما جئت ناقضًا بل متمِّمًا، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض (شيئًا من) (6) شريعة موسى” (7) .
فذهبت النصارى تنقُضُها شريعةً شريعةً في مكايدة اليهود
__________
(1) ساقطة من “غ، ص”.
(2) في “غ، ص”: “لأسقفتهم”.
(3) في “ب، ج”: “وإن”.
(4) سفر التثنية: (21/ 23).
(5) ساقطة من “ب”: وفي “ج”: “لا أصحابه”.
(6) ساقط من “غ، ص”.
(7) إنجيل متى: (5/ 17).
(1/327)
ومُغَايَظَتهم، وانْضَاف (1) إلى هذا السبب ما في كتابهم -المعروف عندهم بـ”أفركسيس” (2) -: أنَّ قومًا من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأَتَوا أَنْطَاكِيَةَ وغيرها من الشَّام (3) فدَعَوا النَّاس إلى دين المسيح الصحيح، فَدَعَوْهُم إلى العمل بالتوراة وتحريم (4) ذبائح مَنْ ليس من أهلها، وإلى الختان وإقامة السَّبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرَّمته التوراة، فَشَقَّ ذلك على الأُمم واستثقلوه، فاجتمع النَّصارى ببيت المقدس وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليحبِّبُوهم إلى دين المسيح ويدخلوا فيه، فاتَّفق رأيُهم على مُدَاخَلةِ الأُمم والتَّرْخيصِ لهم والاختلاطِ (5) بهم، وأَكْلِ ذبائحهم، والانحطاطِ في أهوائهم، والتَّخلُّقِ بأخلاقهم وإنشاءِ شريعةٍ تكونُ بين شريعةِ الإنجيل وما عليه الأمم، وأنشؤوا في ذلك كتابًا.
فهذا أحد مجامعهم الكبار.
وكانوا كلَّما أرادوا إحْدَاث شيء اجتمعوا مجمعًا وافترقوا فيه على ما (6) يُرِيْدون إحْدَاثه إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع لهم أكْبَرُ منه في عهد قسطنطين الرُّوميِّ ابن هيلانة الحرَّانِيَّة الفندقية، وفي زمنه بُدِّل دين المسيح، وهو الذي شادَ (7) دِينَ النَّصارى المبتَدَعَ وقام به
__________
(1) في “ب، ج”: “يضاف”.
(2) في “ب، ج”: “بأقراكسيس”، وفي “غ”: “بأقراكشيش”. والمقصود به أعمال الرسل من العهد الجديد.
(3) في “ب، ج”: “بلاد الشام”.
(4) سقط من “ب”. وفي “ج”: “تحرم”.
(5) في “ج”: “الاختلاء”.
(6) في “غ، ص”: “كما .. ” وفي “ب، ج”: “عما”.
(7) في “غ، ص”: “أساد”.
(1/328)
وقَعدَ، وكان عدَّتُهم زهاء أَلْفَي رجلٍ، (فقرَّروا تقريرًا) (1) ثم رفضوه ولم يرتضوه.
ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانيةَ عَشَر رجلًا منهم -والنصارى يسمُّونهم الآباء- فقرَّروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم، لا يتمُّ لأحدٍ منهم نصرانيَّةٌ إلا به، ويسمُّونه “سنهودس” وهي “الأمانة”!! ولفظها: “نؤمن بالله الأب الواحد خالق ما يُرَى وما لا يُرى، والربُّ الواحد اليسوع المسيح ابن الله بِكْر أبيه وليس بمصنوع، إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ، من جوهر أبيه، الذي بيده (2) أتقنت العوالم وخلق كل شيء، الذي من أَجْلِنا -مَعْشَرَ الناس- ومِنْ أجْل خلاصنا نزل من السماء وتجسَّد من روح القدس ومن مريم البَتُول، (وحَبِلَتْ به مريم البتول) (3) وولدته، وأُخِذ وصُلِب، وقُتِل أيام فيلاطس (4) الرومي، ومات ودفن، وقام (5) في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مُسْتَعدّ للمجيء تارةً أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء.
ونؤمن (6) بالربِّ الواحد رُوح القُدُس روحِ الحقِّ الذي يخرج من أبيه روح محبته (7) ، وبمعموديةٍ (8) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعةٍ واحدة
__________
(1) في “غ، ص”: “فقدروا تقديرًا”.
(2) في “ج”: “يده”.
(3) ساقط من “ج”.
(4) في “ص، ج”: “قتلاطس”.
(5) في “غ”: “وأقام”.
(6) في “ب، ج”: “ويؤمن”.
(7) في “ج”: “محييه” وفي “ب”: “يحييه”.
(8) في “غ، ص”: “لمعبودية”.
(1/329)
قديسيَّة سليحية جاثليقية، وبقيام أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين”.
فصرَّحوا فيها بأن المسيح ربٌّ وأنه ابن الله، وأنه بِكْره ليس له ولد غيره، وأنه ليس بمصنوع؛ أي: ليس بعبد مخلوق بلَ هو ربٌّ خالق، وأنه إله حقٌّ اسْتُلَّ ووُلِد من إلهٍ حقٍّ، وأنه (مساوٍ لأبيه) (1) في الجوهر، وأنه بيده أتْقِنَتِ العوالم، وهذه اليد التي أتْقِنَت العوالم بها عندهم هي التي ذاقت حرَّ المسامير -كما صرَّحوا به في كتبهم-.
وهذه ألفاظهم: قالوا: “وقد قال القدوة عندنا: إنَّ اليد التي سمرها اليهود في الخشبة هي اليد التي عجنت (2) طين آدم وخلقته، وهي اليد التي شبرت السماء، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى”! قالوا -وقد وصفوا صنيع اليهود به- وهذه ألفاظهم: “وإنهم لطموا (3) الإله (4) وضربوه على رأسه”.
قالوا: وفي بشارة الأنبياء به: أن الإله تحبل به امرأة عذراء وتَلِدُه ويُؤخَذ ويُصْلب ويُقْتل!.
قالوا وأما “سنهودس” دون الأمم (5) ، قد اجتمع عليه سبعمائة من الآباء وهم القدوة فيه (6) : “إنَّ مريم حبلت بالإله وولدته وأرضعته وسقته وأطعمته”.
__________
(1) في “ص”: “تشاء ولايته”.
(2) في “غ”: “عجت”.
(3) في “غ”: “لظلموا”.
(4) في “ب”: “الآلهة”.
(5) هكذا في الأصول. ولم يظهر لي معناه ولعل فيه سقطًا أو تصحيفًا.
(6) في “غ، ص، ب”: “وفيه”.
(1/330)
قالوا: وعندنا أن المسيحَ ابنُ آدم، وهو ربُّه وخالِقُه ورازِقُه، (وابنُ ولدِه إبراهيم وربُّه وخالقُه ورازقُه)، وابنُ إسرائيلَ وربُّه وخالقه ورازقه، وابن مريم وربُّها وخالِقُها ورازقُها.
قالوا: وقد قال علماؤنا، ومن هو القدوة عند جميع طوائفنا: “اليسوع (1) في البدء ولم يزل كلمة، والكلمة لم تزل الله، والله هو الكلمة، فذاك الذي ولدته مريم وعاينه (2) الناس وكان بينهم هو الله وهو ابن الله وهو كلمة الله” (3) .
هذه ألفاظهم.
قالوا (4) : فالقديم الأزليُّ خالق السموات والأرض هو الذي عاينه الناس بأبصارهم ولمسُوه بأيديهم، وهو الذي (5) حبلت به مريم وخاطب الناس من بطنها حيث قال للأعمى: (أنت مؤمن بالله؟ قال الأعمى:) (6) ومن هو حتى أوْمِنَ به؟ قال: هو المخاطب لك (7) . فقال: آمنت بك، وخرَّ ساجدًا. قالوا: فالذي حبلت به مريم هو الله وابن الله وكلمة الله (8) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من “غ، ص”.
(2) في “ب، ج”: “أيسوع”.
(3) في “ج”: “عاتبه”.
(4) إنجيل يوحنا: (1/ 1 – 5).
(5) ساقط من “غ، ص، د”.
(6) ما بين القوسين ساقط من “غ، ص”.
(7) في “د”: “لك، ابن مريم”.
(8) انظر: إنجيل يوحنا: (9/ 35).
(1/331)
وقالوا (1) : وهو الذي ولد ورَضِع وفُطِم، وأُخذ وصُلب وصفع، وكُتِّفت يداه، وسُمِرَ، وبُصِق في وجهه، ومات ودُفِن، وذاق أَلَمَ الصَّلْب والتَّسمير والقتل، لأجل خلاص النصارى من خطاياهم.
قالوا: وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة بنبيٍّ ولا عَبْدٍ صالح، بل هو ربُّ الأنبياء وخالقُهم، وباعثُهم، ومُرْسِلُهم، وناصرُهم، ومؤيِّدهم، وربُّ الملائكة.
قالوا: وليس مع أمه بمعنى الخلق والتدبير واللطف (2) والمعونة، فإنه لا يكون لها بذلك مزية على سائر الإناث ولا الحيوانات. ولكنه معها بحَبَلِها به واحتواءِ بطنها عليه، فلهذا فارَقَتْ (إنَاث جميع الحيوانات) (3) وفارق ابنُها جميع الخلق (4) ، فصار الله وابنه الذي نزل من السماء وحبلت به مريم وولدته: إلهًا واحدًا، ومسيحًا واحدًا، وربًّا واحدًا وخالقًا واحدًا، لا يقع بينهما فرق، ولا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه، لا في حَبَلِ ولا في ولادةٍ، ولا في حالِ نومٍ ولا مرضٍ، ولا صَلْبٍ ولا موتٍ، ولا دَفنٍ، بل هو متَّحدٌ به في حال الحبل، فهو في تلك الحالَ مسيحٌ واحد، وخالقٌ واحد، وإله واحدٌ وربٌّ واحد، وفي حال الولادة كذلك، وفي حال الصلب والموت كذلك.
قالوا: فمنا مَنْ يُطْلِق في لفظه وعبارته (5) حقيقةَ هذا المعنى فيقول:
__________
(1) في “ب، ج”: “فقالوا”.
(2) من “د” فقط.
(3) في “غ، ص”: “جميع إناث الحيوان”.
(4) في “غ”: “الحق”.
(5) في “غ، ص، ب”: “عبادته”.
(1/332)
مريم حبلت بالإله، (وولدت الإله) (1) ، ومات الإله. ومنا من يمتنع من هذه العبارة لبشاعة لفظها ويعطي معناها وحقيقتها، ويقول: مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة، وولدت المسيح في الحقيقة، وهي (2) أمُّ المسيح في الحقيقة، والمسيح إلهٌ في الحقيقة، وربٌّ في الحقيقة، وابنُ اللهِ في الحقيقة، وكلمةُ اللهِ في الحقيقة، لا ابنَ للهِ في الحقيقة سِواهُ، ولا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو.
قالوا: فهؤلاء (3) يوافقون في المعنى قَوْلَ مَنْ قال: حبلت بالإله، وولدت الإله، وقتل الإله، وصلب ومات ودفن، وإن منعوا اللفظ والعبارة.
قالوا: وإنما مَنَعْنَا هذه العبارة (4) التي أطْلَقَها إخوانُنا، لئلا يتوهم علينا، إذا قلنا: حبلت بالإله، وولدت الإله، وألم الإله (ومات الإله) (5) = أنَّ هذا كله حل ونزل بالإله الذي هو أب، ولكنا نقول: حلَّ هذا كله ونزل بالمسيح، والمسيح عندنا وعند طوائفنا إلهٌ تام مِنْ إلهٍ تام من جوهر (6) أبيه، فنحن وإخوانُنا في الحقيقة شيءٌ واحد لا فرق بيننا إلا في العبارة فقط.
قالوا: فهذا حقيقة ديننا وإيماننا، والآباءُ والقدوةُ قد
__________
(1) ساقط من “غ، ص”.
(2) ساقط من “ج”.
(3) في “ج”: “فيها ولاي”.
(4) في “غ، ج”: “العبادة”.
(5) ساقط من “غ، ص”.
(6) في “غ، ص”: “جواهر”.
(1/333)
قالوه (1) قَبْلَنا وسَنُّوه لنا، ومهَّدوه، وهم أعلم بالمسيح منَّا.
ولا تختلف المثلِّثةُ عُبَّاد الصليب من أولهم إلى آخرهم: أنَّ المسيح ليس بنبيٍّ ولا عبدٍ صالح، ولكنه إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ من جوهر أبيه، وأنه إلهٌ تام من إله تام، وأنه خالقُ (2) السموات والأرضين، والأولين والآخرين ورازقُهم ومُحْييهم ومُمِيتُهم، وباعثُهم من القبور، وحاشِرُهم ومحاسبهم، ومثيبهم ومعاقبهم.
والنَّصارى تعتقد أنَّ الأب انخَلَع من مُلْكه كله وجَعَلَه لابنه، فهو الذي يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويدبِّر أمر السموات والأرض. ألا تراهم يقولون في أمانتهم: “ابنُ الله وبكْر أبيه، وليس بمصنوع -إلى قولهم- بيده أتقنت العوالم وخلق كل شَيء -إلى قولهم- وهو مستعدٌّ للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء” ويقولون في صلواتهم ومناجاتهم: “أنت أيها المسيح اليسوع تحيينا وترزقنا وتخلق أولادنا وتقيم أجسادنا وتبعثنا وتجازينا”؟!.
وقد تضمن هذا كلُّه تكذِيْبَهُم الصَّريحَ للمسيحِ، وإنْ أَوْهَمَتْهُمْ ظُنُونُهمُ الكاذبةُ أنهم يصدِّقونه؛ فإنَّ المسيح قال لهم: “إنَّ الله ربي وربُّكم، وإلهي وإلهكم” (3) فشهد على نفسه أنه عبدٌ لله مربوبٌ مصنوع، كما أنهم كذلك، وأنه مثلهم في العبودية والحاجة والفاقة إلى الله، وذكر أنَّه رسول الله إلى خلقه كما أرسل (4) الأنبياء قبله، ففي إنجيل يوحنا أن
__________
(1) في “ب، غ”: “قالوا”.
(2) في “ج”: “خلق”.
(3) إنجيل يوحنا: (20/ 18).
(4) في “ج”: “أرسلت”.
(1/334)
المسيح قال في دعائه: “إن الحياة الدائمة إنما تجب للناس بأن يشهدوا أنك أنتَ اللهُ الواحدُ الحقُّ وأنك أرسلتَ اليسوعَ المسيحَ” (1) . وهذه حقيقة شهادة المسلمين أنْ لا إله إلا الله وأَنَّ محمدًا رسول الله. وقال لبني (2) إسرائيل: “تريدون قتلي وأنا رجلٌ قلت لكم الحقَّ الذي سمعتُ اللهَ يقولُه” (3) .
فذكر ما (4) غايَتُه أنَّه رجل بلَّغهم ما قاله الله، ولم يقلْ: وأنا إله، ولا ابن الإله، (على معنى التوالد) (5) .
وقال: “إني لم أجيء لأعمل بمشيئة نفسي ولكن بمشيئة مَنْ أرسلَني” (6) وقال “إنَّ الكلام الذي تسمعونه مني (ليس من تلقاء نفسي) (7) ، ولكن من الذي أرسلني، والويل لي إنْ قلتُ شيئًا من تلقاء نفسي، (ولكن بمشيئةِ مَنْ أرسلني) (8) .
وكان يواصل (9) العبادة من الصلاة والصوم ويقول: “ما جئت
__________
(1) إنجيل يوحنا: (17/ 3 – 4).
(2) في “ج”: “النبي”.
(3) إنجيل يوحنا: (8/ 40).
(4) ساقطة من “ب، غ، ص”.
(5) ساقط من “ب، ج، ص، غ”.
(6) إنجيل يوحنا: (7/ 16 – 19).
(7) في “ب، ج”: “ليس هو لي”.
(8) ساقط من “ب، ج”. والنص في إنجيل يوحنا: (5/ 30).
(9) في “ج”: “يوصل”.
(1/335)
لأُخْدَم إنما (1) جئت لأَخْدُمَ” (2) فأنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله اللهُ بها وهي منزلة الخدام.
وقال: “لست أدينُ العِبَاد بأعمالهم ولا أحاسِبهم (3) بأعمالهم، ولكن الذي أرسلني هو الذي يَلي ذلك منهم” (4) .
كل هذا في الإنجيل الذي بأيدي النصارى (5) .
وفيه أن المسيح قال: “يا ربّ قد علموا أنك قد أرسلتني، وقد ذكرت لهم اسمك” (6) (فأخبر أنَّ الله) (7) ربُّه، وأنه عبده ورسوله.
وفيه: “أنَّ الله الواحد ربُّ كلِّ شيء، أرسل من أرسل من البشر إلى جميع العالَم ليُقْبِلوا إلى الحق”. وفيه أنه قال: “إنَّ الأعمال التي أعمل (8) هي الشاهدات لي بأنَّ الله أرسلني إلى هذا العالَم” (9) .
وفيه: “ما أبعدني وأتعبني إن أحدثت (10) شيئًا من قِبَل نفسي، ولكن
__________
(1) ساقط من “غ، ص”.
(2) إنجيل متى: (23/ 11).
(3) في “ج”: “أحاسبهم حسابهم”.
(4) انظر: إنجيل يوحنا: (5/ 30).
(5) ساقط من “ب، ج”.
(6) إنجيل يوحنا: (5/ 36 – 37).
(7) في “غ”: “فأخبره”.
(8) في “غ، ص”: “أعملني” وفي “ج”: “أعملها”.
(9) إنجيل يوحنا: (7/ 17 – 18).
(10) في “ج”: “حدث”.
(1/336)
أتكلَّمُ وأجيبُ بما علَّمني ربي” (1) . وقال: “إن الله مسحني وأرسلني، وأنا عبد الله، (وإنما أعبدُ الله) (2) الواحدَ ليومِ الخلاصِ” (3) .
وقال: “إنَّ الله -عز وجل- ما أكل ولا يأكل، وما شرب ولا يشرب، ولم ينم ولا ينام، وما ولد له، ولا يولد، وما رآه أحد، وما يراه أحد إلا مات” (4) .
وبهذا يظهر لك سرُّ قوله تعالى في القرآن: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]. تذكيرًا للنَّصارى بما قال لهم المسيح.
وقال في دعائه لما سأل ربَّه أن يحيي الميت: “أنا أشكرك وأَحْمَدُك؛ لأنك (5) تُجيب دعائي في هذا الوقت وفي كل وقت، فأسألك أنْ تُحْيِى هذا الميت ليعلم بنو إسرائيل أنَّك أرسلتني وأنك تجيب دعائي” (6) .
وفي الإنجيل أنَّ المسيح حين خرج من السامريَّة ولحق بجِلْجَال (7)
__________
(1) إنجيل يوحنا: (7/ 17).
(2) في “ج”: “أنا عبد”.
(3) إنجيل لوقا: (4/ 18).
(4) المواضع السابقة.
(5) في “غ، ص”: “أنك”، وفي “ج”: “أنا أنت”.
(6) إنجيل يوحنا: (11/ 42 – 43).
(7) كلمة عبرية معناها متدحرج. ولها عدة معاني، منها أنها اسم قرية. انظر: “قاموس الكتاب المقدس”، ص (262).
(1/337)
قال: “لم يُكْرَمْ أحدٌ من الأنبياء في وطنه” (1) فلم يزد على دعوى النبوة.
وفي إنجيل لوقا: “لم يُقْبَل (2) أحدٌ من الأنبياء في وطنه فكيف تقبلونني” (3) .
وفي إنجيل مرقس (4) : “أنَّ رجلًا أقبل إلى المسيح وقال: أيها المعلِّم الصالح (5) أيُّ خيرٍ أعملُ لأنالَ الحياةَ الدائمة؟ فقال له المسيح: لِمَ قلتَ صالحًا؟ إنما الصالح الله وحده، وقد عرفتَ الشروطَ؛ لا تَسْرِقْ، ولا تَزْنِ (6) ، ولا تَشْهَدْ بالزُّور، ولا تَخُنْ، وأكْرِمْ أباكَ وأمَّكَ” (7) .
وفي إنجيل يوحنَّا أن اليهود لما أرادوا قَبْضَه رفع بصرَه إلى السماء وقال: “قد دَنَا الوقتُ يا إلهي فشرِّفْني لديك، واجعلْ لي سبيلًا أن أملِّك كلَّ من مَلَّكْتني الحياةَ (الدائمة، وإنما الحياة) (8) الباقية أن يؤمنوا بك إلهًا واحدًا، وبالمسيح الذيِ بعثتَ، وقد عظَّمتُك على أهل الأرض، واحتملت الذي أمَرْتَنِي به فشَرِّفْنِي” (9) فلم يدَّع سوى أنه عبد مرسل مأمور مبعوث.
__________
(1) إنجيل لوقا: (4/ 24).
(2) في “غ، ص”: “يقتل … تقتلونني”.
(3) إنجيل لوقا: (4/ 24 – 25).
(4) في “ب، ج، ص”: “مرقش”.
(5) ساقطة من “غ”.
(6) في “ج”: “لا تزني”.
(7) إنجيل مرقس: (10/ 17 – 22).
(8) ساقط من “ص”.
(9) إنجيل يوحنا: (17/ 1 – 5).
(1/338)
وفي إنجيل متى (1) : “لا تنسبوا أباكم الذي على الأرض فإنّ أباكم الذي في السماء وحده، ولا تَدْعُوا معلِّمين؛ فإنما معلِّمُكم المسيح وحده” (2) .
والأب في لغتهم الربُّ المربِّي، أي: لا تقولوا إلهكم وربكم في الأرض، ولكنه في السماء، ثم أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه ومالكه وهو أنَّ غايته أنه (3) يعلِّم في الأرض، وإلههم هو الذي في السماء.
وفي إنجيل لوقا حين دعا الله فأحيا ولد المرأة فقالوا: “إن هذا النبي لعظيم، وإن الله قد تفقد أمته” (4) .
وفي إنجيل يوحنا: أنَّ المسيح أعلنَ صوته في البيت وقال لليهود: “قد عرفتموني وموضعي، وله آتِ من ذاتي، ولكن بعثني الحقُّ وأنتم تجهلونه، فإن قلتُ: إني أجهله، كنت كاذبًا مثلكم، وأنا أعلم (وأنتم تجهلونه) (5) أني منه وهو بعثني” (6) فما زاد في دعواه على ما ادَّعاه الأنبياء، فأمسكتِ المثلَّثةُ قوله: “إني منه” وقالوا: إله حق من إله حق.
وفي القرآن: {رَسُولٌ مِنَ اللهِ} [البينة: 2]، وقال هود: {وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ} [الأعراف: 67]. وكذلك قال صالح! ولكن أمة الضلال
__________
(1) ساقط من “ج”.
(2) إنجيل متى: (23/ 9 – 10).
(3) ساقطة من “ج”.
(4) إنجيل لوقا: (7/ 16).
(5) زيادة من “ص”.
(6) إنجيل يوحنا: (7/ 28 – 30).
(1/339)
-كما أخبر الله عنهم- يَتَّبِعون (1) المتشابه ويردُّون المُحْكَمَ.
وفي الإنجيل أيضا أنه قال لليهود وقد قالوا له: نحن أبناء الله، فقال: “لو كان الله أباكم لأَطَعْتُمُوني لأني رسولٌ منه خرجت مقبلًا ولم أقبل من ذاتي ولكن هو بعثني، لكنكم لا تقبلون وصيتي وتعجزون عن سماع كلامي، إنما أنتم أبناء الشيطان (2) وتريدون إتمامَ (3) شهواتِه” (4) .
وفي الإنجيل أن اليهود أحاطت به وقالت له: إلى متى تُخْفِي أمرك؟ إن كُنْتَ المسيح الذي ننتظره فأَعْلِمْنَا بذلك (5) ولم تقل: إنْ كُنْتَ الله أو ابنَ الله، فإنّه لم يدَّع (6) ذلك، ولا فَهِمَه عنه أحدٌ من أعدائِه ولا أتباعِه.
وفي الإنجيل أيضا: إنَّ اليهود أرادوا القبض عليه فبعثوا لذلك الأعوان (7) ، وأن الأعوان رجعوا إلى قوادهم، فقالوا لهم: لِمَ لَمْ تأخذوه؟ فقالوا: ما سمعنا آدميًّا أنصف منه، فقالت اليهود: وأنتم أيضًا مخدوعون، أترون أنه آمَنَ به أحدٌ من القوَّاد أو من رؤساء أهل الكتاب؟ فقال لهم بعض أكابرهم: أَتَرَوْنَ كتابَكم يحكمُ على أحدٍ قبل أن يسمع منه؟ فقالوا له: اكشف الكتب ترى أنه لا يجيء من جلجال نبيٌّ (8) فما
__________
(1) في “ج”: “يبتغون”.
(2) في “ب، ج”: “الشياطين”.
(3) في “ج”: “آثام”.
(4) إنجيل يوحنا: (8/ 41 – 47).
(5) إنجيل يوحنا: (10/ 23).
(6) في “ج”: “يدعى”.
(7) في “ج”: “أعوانًا”.
(8) إنجيل يوحنا: (7/ 45 – 47).
(1/340)
قالت اليهود ذلك إلا وقد أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربُّه ومالكه أنه نبيٌّ، ولو علمت من دعواه الإلهية لذكرتْ ذلك له، وأنْكَرَتْهُ (1) عليه، وكان أعظم أسباب التنفير (2) عن طاعته، لأنَّ كذبه كان يُعْلم بالحسِّ والعقل والفطرة واتفاق الأنبياء.
ولقد كان يجب لله سبحانه -لو سبق في حكمته أنه يبرز لعباده، وينزل عن كرسي عظمته، ويباشرهم بنفسه- أن (لا يَدْخُل في فرج) (3) امرأة، ويقيمَ في بطنها بين البولِ والنَّجْو والدمِ عِدَّةَ أشهر. وإذْ قد فعل ذلك (لا يخرج صبيًّا صغيرًا، يرضع ويبكي، وإذْ قد فعل ذلك) (4) ، لا يأكل مع الناس ويشرب معهم وينام. وإذْ قد فعل ذلك فلا يبول ولا يتغوَّط ويمتنع من الخرأة إذْ هي مَنْقَصَة ابْتُلِيَ بها الإنسانُ في هذه الدار لنقصه وحاجته.
وهو -تعالى- المختصُّ بصفات الكمال، المنعوتُ بنعوت الجلال الذي ما وسعته سمواته ولا أرضه، وكرسيُّه وسع السموات والأرض، فكيف وسعه فرج (5) امرأة. تعالى الله رب العالمين!! وكلُّكم متفقون على أن المسيح كان يأكل ويشرب ويبول ويتغوَّط وينام.
فيا مَعْشَرَ المثلِّثة وعُبَّاد الصليب! أخْبِرُونا مَنْ كان الممسك للسموات والأرض حين كان ربُّها وخالقها مربوطًا على خشبة
__________
(1) في “ج”: “وأنكرت”.
(2) في “ج”: “التعبير”، وفي “غ، ص”: “النقير”.
(3) في “ج”: “يدخل في بطن”.
(4) ما بين القوسين ساقط من “ص، غ”.
(5) في “ج”: “بطن”.
(1/341)
الصليب (1) وقد شدت يداه ورجلاه بالحبال، وسمرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السموات والأرض خلوًا من إلهها وفاطرها وقد جرى عليه هذا الأمر؟!.
أم تقولون: استخلفَ على تدبيرها غيرَه، وهبط عن عرشه لِرَبْطِ نفسه على خشبة الصَّليب، ولِيذوقَ حرَّ المسامير، ولِيوجِبَ اللعنة على نفسه حيث قال في التوراة: “ملعونٌ ملعونٌ من تعلَّق بالصليب” (2) أم تقولون: كان هو المدبِّر لهما في تلك الحال، فكيف وقد مات ودفن؟!.
أم تقولون -وهو حقيقة قولكم-: لا ندري، ولكن هذا في الكتب وقد قاله الآباء وهم القدوة، والجواب عليهم؟!.
فنقول (لكم: وإلا يا) (3) معاشر المثلِّثة عُبَّاد الصليب! ما الذي دلَّكم على إلهية المسيح؟ فإن كنتم استدللتم عليها بالقبض (4) من أعدائه عليه وسَوْقِه إلى خشبة الصليب وعلى رأسه تاج من الشوك، وهم يبصقون في وجهه ويصفعونه، ثم أركبوه ذلك (5) المركب الشنيع، وشَدُّوا يديه ورجليه بالحبال، وضربوا فيها المسامير، وهو يستغيث، ويقلق ثم فاضت نفسه وأودع ضريحه، فما أصحَّه (6) من استدلالٍ عند أمثالكم ممَّنْ هم أضل من الأنعام، وهم عار على جميع الأنام!!.
__________
(1) في “ج”: “الصلب”.
(2) سفر التثنية: (21/ 23).
(3) في “د، ص”: “لكم وللآباء”.
(4) في “ب، ص”: “بالقبض عليه”.
(5) ساقطة من “ب، ج”.
(6) في “د”: “أقبحه”.
(1/342)
وإن قلتم: إنما استدللنا على كونه إلهًا بأنه لم يولد من البشر، ولو كان مخلوقًا لكان مولودًا من البشر. فإن كان هذا الاستدلال صحيحًا فآدم إله المسيح، وهو أحقُّ بان يكون إلهًا منه، لأنه لا أمّ له ولا أب، والمسيح له أم، وحواء أيضًا اجعلوها إلهًا خامسًا لأنها لا أمّ لها، وهي أعجب من خَلْق المسيح؟!
والله سبحانه قد نوعَّ خلق آدم (1) وبنيه إظهارًا لقدرته، وأنه يفعل ما يشاء، فخلق آدم لا مِنْ ذكَرٍ ولا من أنثى، وخلق زوجه حواء من ذكر لا من أنثى، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر، وخلق سائر النوع (2) من ذكر وأنثى.
وإن قلتم: استدللنا على كونه إلهًا بأنه أحيا الموتى، ولا يحييهم إلا الله فاجعلوا موسى إلهًا آخر، فإنه أتى من ذلك بشيء لم يأتِ المسيحُ بنظيره ولا ما يقاربه، وهو جَعْلُ الخشبة حيوانًا (3) عظيمًا ثعبانًا (4) ، فهذا أبلغ وأعجب من إعادة الحياة إلى جسمٍ كانت فيه أولًا. فإن قلتم: هذا غير إحياء الموتى! فهذا اليسع النبيُّ أتى بإحياء الموتى، وهم (5) يُقِرُّون بذلك، وكذلك إيليا (6) النبيُّ أيضًا أحيا صبيًّا بإذن الله، وهذا موسى قد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه، وفي كتبكم من ذلك كثير عن
__________
(1) في “ج”: “الشيخ”.
(2) في “ج”: “الأنواع”.
(3) ساقط من “ج، ب”.
(4) في “غ، ص”: “بعبادنا”.
(5) في “غ”: “وهو وهم”.
(6) في “ب، ج”: “إلياس”.
(1/343)
الأنبياء والحواريين: فهل صار أحد منهم إلهًا بذلك؟!!
وإن قلتم: جعلناه إلهًا للعجائب التي ظهرت على يديه؛ فعجائب موسى أعجب وأعجب، وهذا إيليا النبيُّ بارك على دقيقِ العجوز ودُهْنِها فلم يَنْفَدْ ما في جرابها من الدقيق وما في قارورتها من الدهن سَبْعَ سنين (1) !!.
وإن جعلتموه إلهًا لكونه أَطْعَمَ من الأرغفة اليسيرة آلافًا من الناس (2) ؛ فهذا موسى قد أطعم أمته أربعين سنةً من المَنِّ والسَّلْوى!! وهذا محمد بن عبد الله قد أطعم العَسْكَرَ كلَّه من زادٍ يسير جدًّا حتى شبعوا وملأوا أوعيتهم (3) ، وسقاهم كلَّهم من ماءٍ يسيرٍ لا يملأ اليد (4) حتى ملأوا كلَّ سقاء في العسكر، وهذا منقول عنه بالتواتر (5) !!.
وإن قلتم: جعلناه إلهًا لأنه صاح بالبحر فسكنت أمواجه؛ فقد ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق اثني عشر طريقًا، وقام الماء بين الطرق كالحيطان، وفجَّر من الحجر الصَّلْد اثني عشر عينًا سارحة!!.
وإن جعلتموه إلهًا لأنه أبرأ الأكْمَهَ والأبرصَ؛ فإحياءُ الموتى أعجب من ذلك، وآياتُ موسى ومحمدٍ -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-
__________
(1) انظر: “سفر الملوك الأول”: (17/ 11 – 16).
(2) انظر: إنجيل يوحنا: (6/ 9 – 10).
(3) أخرجه مسلم في الإيمان: (1/ 57).
(4) في “ج”: “يعم اليد” وفي “غ، ص”: “يغير”.
(5) أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة الحديبية: (5/ 260) (الطبعة المنيرية). وانظر: “نظم المتناثر من الحديث المتواتر” للكتاني، ص (212 – 213).
(1/344)
أعْجَبُ من ذلك!!.
وإن جعلتموه إلهًا لأنه ادَّعى ذلك؛ فلا يخلو: إما أن يكون الأمر كما تقولون عنه، أو يكون إنما ادَّعى العبوديةَ والافتقارَ وأنه مربوبٌ مصنوع مخلوق، فإن كان كما ادَّعيتم عليه فهو أخو المسيح الدجَّال، وليس بمؤمن ولا صادق، فضلًا عن أن يكون نبيًّا كريمًا، وجزاؤه جهنم وبئس المصير، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29].
وكل من ادَّعى الإلهيَّة من دون الله فهو من أعظم أعداء الله كفرعون ونمرود وأمثالهما من أعداء الله، فأخرجتم (1) المسيح عن كرامة الله ونبوَّته ورسالته، وجعلتموه من أعظمِ أعداءِ الله، ولهذا كنتم أشدَّ الناس عداوةً للمسيح في صورة مُحِبٍّ مُوالٍ!! ومن أعظم ما يُعْرَفُ به كذب المسيحِ الدجَّال أنَّه يدَّعي الإلهيَّة، فيبعث اللهُ عَبْدَهُ ورسولَه مسيحَ الهدى ابنَ مريم فيقتله، ويُظْهِر للخلائق أنه كان كاذبًا مفتريًا. ولو كان إلهًا لم يقتل، فضلًا عن أن يُصْلَب ويُسَمر ويُبْصَقَ في وجهه!!.
وإن كان المسيح إنما ادَّعى أنه عبدٌ ونبيٌّ ورسولٌ، كما شهدت به الأناجيل كلُّها ودلَّ عليه العَقْلُ والفِطْرَةُ وشهدتم أنتم له بالإلهيَّة -وهذا هو الواقع (2) – فلم تأتوا على إلهيَّتِهِ ببيِّنة غير تكذيبه في دعواه، وقد ذكرتم عنه في أناجيلكم في مواضعَ عديدةٍ ما يصرِّح بعبوديته وأنه مَرْبُوبٌ مخلوقٌ، وأنه ابنُ البَشَرِ، وأنّه لم يدَّعِ غير النبوة والرسالة، فكذَّبْتُمُوه في
__________
(1) في “غ”: “فأخرتم”.
(2) في “ب، ج”: “قول الواقع”.
(1/345)
ذلك كلِّه وصدَّقْتُم من كَذَبَ على الله وعليه (1)!!.
فصل
وإن قلتم: إنما جعلناه إلهًا لأنه أخبر بما يكون بعده من الأمور.
فكذلك عامَّةُ الأنبياءِ، وكثيرٌ (2) من الناس: يخبر عن حوادثَ في المستقبلِ جزئية، ويكون ذلك كما أخبر به، ويقع من ذلك كثير للكُهَّان والمنجِّمِيْنَ والسَّحَرَةِ!!.
فصل
وإن قلتم: إنما جعلناه إلهًا لأنه سمَّى نفسَهُ ابنَ الله في غير موضع من الإنجيل كقوله: “إني ذاهبٌ إلى أبي” (3)، وإني “سائل أبي” (4)، ونحو ذلك، وابن الإله إلهٌ.
قيل: فاجعلوا أنفسكم كلَّكم آلهة فإنَّ في الإنجيل في غير موضع أنه سمَّاه “أباه، وأباهم” كقوله: “أذهب إلى أبي وأبيكم” وفيه: “ولا تسبوا (5) أباكم على الأرض، فإنَّ أباكم الذي في السماء وحده” (6).
وهذا كثير في الإنجيل. وهو يدلُّ على أنَّ الأب عندهم الرب!!
__________
(1) في “ب”: “ورسوله”.
(2) في “غ، ص”: “بل، وكثير .. “.
(3) إنجيل يوحنا: (20/ 17).
(4) إنجيل يوحنا: (17/ 9).
(5) في “ص”: “تنسبوا”.
(6) إنجيل متى: (23/ 9).
(1/346)
وإن جعلتموه إلهًا لأنَّ تلاميذه ادَّعَوا ذلك له، وهم أعْلَمُ الناس به، كذبْتُم (1) أناجيلَكم التي بأيديكم، فكلُّها صريحةٌ -أظهر صراحةٍ- بأنهم ما ادَّعَوا له إلا ما ادَّعاه لنفسه من أنه عَبْدٌ.
فهذا “متى” يقول في الفصل التاسع من إنجيله محتجًّا بنبوة إشَعْيَا في المسيح عن الله عز وجل: “هذا عبدي الذي اصطفيتُه، وحبيبي الذي ارتاحت نفسي له” (2) ، وفي الفصل الثامن من إنجيله: “إني أشكرك يا رب”، “ويا رب السموات والأرض” (3) .
وهذا “لوقا” يقول في آخر إنجيله: “إنَّ المسيحَ عَرَضَ له ولآخرَ من تلاميذه في الطريق ملكٌ وهما محزونان. فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونَيْن؟ فقالا (4) : كأنك غريبٌ في بيت المقدس، إذْ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر يسوع النَّاصريِّ؛ فإنه كان رجلًا نبيًّا قويَّا تقيًّا في قوله وفعله، عند اللهِ وعند الأمةِ (5) ، أخذوه وقتلوه” (6) ، وهذا كثير جدًّا في الإنجيل!.
وإن قلتم: إنما جعلناه إلهًا لأنه صَعِدَ إلى السماء، فهذا أخنوخ (7)
__________
(1) في “ب، ج”: “كذبتكم”.
(2) إنجيل متى: (12/ 18).
(3) إنجيل متى: (8/ 25).
(4) في “ب، ج”: “فقال”.
(5) في “ج”: “أمته”.
(6) إنجيل لوقا، (24/ 15 – 21).
(7) إدريس عليه السلام.
(1/347)
وإلياس قد صَعِدَا (1) إلى السماء وهما حيَّان مكرمان لم تَشُكْهُما (2) شوكةٌ، ولا طمع فيهما طامع. والمسلمون مجمعون على أنَّ محمدًا – صلى الله عليه وسلم – صَعِدَ إلى السماء وهو عبد محض، وهذه الملائكة تَصْعَد إلى السماء، وهذه أرواح المؤمنين تصعد إلى السماء بعد مفارقتها الأبدان، ولا تخرج (3) بذلك عن العبوديَّة، وهل كان الصُّعُود إلى السماء مخرجًا عن العبودية بوجه من الوجوه؟!!.
وإن جعلتموه إلهًا لأن الأنبياء سَمَّتْه إلهًا وربًّا وسيِّدًا ونحو ذلك. فلم يزل كثيرٌ من أسماء الله -عز وجل- تقع على غيره عند جميع الأممِ وفي سائر الكتب، وما زالت الرومُ والفُرْس والهندُ والسُّرْيَانِيُّون والعِبْرَانِيُّون والقِبْطُ وغيرهم يُسمُّون (4) ملوكهم آلهةً وأربابًا. وفي السفر الأول من التوراة: “أن بني الله دخلوا على بنات الناس ورأوهنَّ بارعاتِ الجمال فتزوجوا منهنَّ” (5) ، وفي السفر الثاني من التوراة في قصة المخرج من مصر: “إني جعلتك إلهًا لفرعون” (6) ، وفي المزمور الثاني والثمانين لداود: “قام الله لجميع الآلهة” (7) . هكذا في العبرانية، وأما من نقله إلى السُّريانيَّة فإنه حرَّفه فقال: “قام الله في جماعة الملائكة” وقال في هذا المزمور وهو يخاطب قومًا بالروح: “لقد ظننت أنكم آلهة
__________
(1) في “ج”: “صعدوا”.
(2) في “غ”: “يشكهما”.
(3) في “ب”: “يخرج”.
(4) ساقط من “ج”، وفي “غ”: “يسمو”.
(5) سفر التكوين: (6/ 1 – 2).
(6) سفر الخروج: (7/ 1).
(7) انظر: المزامير، المزمور (82).
(1/348)
وأنكم أبناء الله كلكم” (1).
وقد سمَّى الله -سبحانه- عبده بالمَلِك، كما سمَّى نفسه بذلك، وسماه بالرؤوف الرحيم كما سمَّى نفسه بذلك، وسمَّاه بالعزيز وسمى نفسه بذلك (2). واسمُ الربِّ واقعٌ على غير الله تعالى في لغة أمة التوحيد، كما يقال: هذا ربُّ المنزل، ورب الإبل، وربُّ هذا المتاع. وقد قال إشَعْيَا: “عرف الثَّورُ مَنِ اقتناه، والحمار مربط ربِّه، ولم (3) يعرف بنو إسرائيل” (4).
وإن جعلتموه إلهًا لأنه صنع من الطين (كهيئة الطير) (5)، أي صورةَ طائرِ، ثم (6) نفخ فيها فصارت لحمًا ودمًا وطائرًا حقيقةً، ولا يفعل هذا إلا الله.
قيل: فاجعلوا موسى بن عمران إلهَ الآلهةِ؛ فإنه ألقى عصًا فصارت ثعبانًا عظيمًا، ثم أمسكها بيده فصارت عصًا كما كانت.
فصل
وإن قلتم: جعلناه إلهًا لشهادة الأنبياء والرسل له بذلك، قال عزرا -حيث سباهم بختنصر إلى أرض بابل إلى أربعمائة واثنين وثمانين
__________
(1) المزامير، (82).
(2) في “غ، ص”: “كذلك”.
(3) في “ب، ج”: “ولو لم”.
(4) سفر إشعياء: (1/ 1).
(5) ما بين القوسين ساقط من “ب، ج، ص”.
(6) في “ج”: “لما”.
(1/349)
سنة-: “يأتي المسيح ويخلِّص الشعوب والأمم” (1) وعند انتهاء هذه المدة أتى المسيح، ومن يطيق تخليص الأمم والشعوب (2) غير الإله التام؟!
قيل لكم: فاجعلوا جميع الرسل آلهةً، فإنهم خلَّصوا الأمم من الكفر والشِّرْك، وخلَّصوهم من النار بإذن الله وحده (3) .
ولا شكَّ أن المسيح خلَّص مَنْ آمن به واتَّبَعَه من ذُلِّ الدنيا وعذاب الآخرة، كما خلَّص موسى بني إسرائيل من فرعونَ وقومه، وخلَّصهم بالإيمان بالله واليوم الآخر، من عذاب الآخرة، وخلَّص اللهُ سبحانه بمحمدِ بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – -عبدِه ورسوله- من الأمم والشعوب ما لم يخلِّصه نبيٌّ سواه. فإنْ وجبت بذلك الإلهيَّة لعيسى فموسى ومحمد (4) أحقُّ بها منه!!
وإن قلتم: أَوْجَبْنَا له بذلك الإلهيَّة لقول إِرْمِيَاء النبيِّ عن ولادته: “وفي ذلك الزمانِ يقومُ لداودَ ابنٌ، وهو ضوء النُّور، يملك الملك، ويقيمُ الحقَّ والعدل في الأرض، ويخلِّص مَنْ آمن به من اليهود ومن بني إسرائيل ومن غيرهم، ويبقى بيتُ المَقْدِس (من غير مقاتل) (5) ، ويسمى الإله” (6) .
__________
(1) العهد القديم، سفر دانيال: (9/ 25).
(2) ساقط من “ب، ج، ص”.
(3) في “ب، ج”: “الواحد القهار”.
(4) ليست في “ص، غ”.
(5) في “ب، ج”: “بغير مقابل”.
(6) انظر: سفر إشعياء: (9/ 6 – 7).
(1/350)
فقد تقدم أن اسم الإله في الكتب المتقدمة وغيرها قد أطلق على غيره وهو بمنزلة الربِّ والسيِّد والأب، ولو كان عيسى هو الله لكان أجلَّ من أن يُقَال ويسمى: الإله، وكان يقول: وهو الله؛ فإن الله سبحانه لا يُعْرَف بمثل هذا.
وفي هذا الدليل (1) -الذي جعلتموه به إلهًا- أعظمُ الأدلة على أنه عبدٌ وأنه ابنُ البشَر، فإنه قال: “يقوم لداودَ ابنٌ” فهذا الذي قام لداود هو الذي سُمِّي بالإله. فَعُلِم أن هذا الاسم لمخلوقٍ مصنوعٍ مولودٍ، لا لربِّ العالمين وخالقِ السموات والأرضين.
وإن قلتم: إنما جعلناه إلهًا من جهة قول إشَعْيَا النبيِّ: “قُلْ لصِهْيَونَ يفرح ويتهلَّل، فإن الله يأتي ويخلِّص الشعوب، ويخلِّص مَنْ آمن به، ويخلِّص مدينةَ بيت المقدس، ويُظْهِر الله ذراعه الطاهر فيها لجميع الأمم المتبدِّدين، ويجعلهم أمةً واحدة، ويبصر (2) جميع أهل الأرض خلاص الله لأنه يمشي معهم وبين أيديهم ويجمعهم إله إسرائيل” (3) .
قيل لهم: هذا يحتاج “أولًا” إلى أن يعلم أن ذلك في نبوة إشَعْيَا بهذا اللفظ بغير تحريفٍ للفظه، ولا غَلَطٍ في الترجمة، وهذا غير معلوم. وإن ثبت ذلك لم يكن فيه دليل على أنه إلهٌ تامٌّ، وأنه غير مصنوع ولا مخلوق، فإنه نظير ما في التوراة من قوله: “جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران” (4) ، وليس في هذا ما يدل
__________
(1) ساقط من “د”.
(2) في “ب، ج”: “ينصر”.
(3) إشعياء: (40/ 9 – 11).
(4) سفر التثنية: (33/ 2).
(1/351)
على أنَّ موسى ومحمدًا إلهان، والمراد بهذا: مجيء دينِه وكتابِه وشرعِه وهداهُ ونورِهِ.
وأما قوله: “ويظهر ذراعه الطاهر لجميع الأمم المبددين” ففي التوراة مثل هذا، وأبلغ منه في غير موضع.
وأما قوله: “ويبصر (1) جميع أهل الأرض خلاص الله لأنه يمشي معهم ومن بين أيديهم”، فقد قال في التوراة في السفر الخامس لبني إسرائيل: “لا تهابوهم ولا تخافوهم؛ لأن الله ربكم السائر بين أيديكم وهو محارب عنكم” (2) .
وفي موضع آخر قال موسى: “إن الشعب هو شعبك، فقال: أنا أمضي أمامك، فقال: إنْ لم (3) تمضِ أنت أمامنا وإلا فلا تُصْعِدْنَا من هاهنا، فكيف أعلم أنا وهذا الشعب أني وجدت نعمة كذا إلا بسيرك معنا؟ ” (4) .
وفي السفر الرابع: “إني (5) أصعدتُ هؤلاء بقدرتك فيقولون لأهل هذه الأرض الذي سمعوا منك، الله فيما بين هؤلاء القوم يرونه عينًا بعين، وغمامك تغيم (6) عليهم، ويعود غمامًا يسير بين أيديهم نهارًا، ويعود نارًا ليلًا” (7) .
__________
(1) في “ب، ج”: “ينصر”.
(2) سفر التثنية: (1/ 29).
(3) ساقطة من “ج”.
(4) سفر الخروج: (33/ 13 – 15).
(5) في “ب، ج”: “إن”.
(6) في “ج، ص”: “يقيم”.
(7) سفر العدد: (14/ 14).
(1/352)
وفي التوراة أيضًا: “يقول الله لموسى: إني آتٍ إليك في غلظ الغمام لكي يسمع القوم مخاطبتي لك” (1) .
وفي الكتب الإلهية وكلام الأنبياء (من هذا كثير) (2) .
وفيما حكى خاتم الأنبياء عن ربِّه -تبارك وتعالى- أنه قال: “ولا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتى أُحِبَّه، فإذا أحْبَبْتُهُ وكنتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بهِ، ويَدَهُ التي يَبْطِشُ بها، ورجْلَه التي يمشي بها، فبي يَسْمَعُ، وبي يُبْصِر (3) ، وبي يَبْطِشُ، وبي يَمْشِي” (4) .
وإن قلتم: جعلناه إلهًا لقول زكريا في نبوته: “افرحي يا بنت صِهْيَوْن لأني آتيك وأحلُّ فيك وأتراءَى، وتؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة، ويكونون له شعبًا (5) واحدًا، ويحل هو فيهم، ويعرفون (6) أني أنا الله القويُّ الساكن فيك، ويأخذ الله في ذلك اليوم المُلْكَ من يهودا ويملك عليهم إلى الأبد” (7) .
قيل لكم: إن وجبت (8) له الإلهية بهذا فَلْتَجِبْ (9) لإبراهيم وغيره
__________
(1) سفر الخروج: (19/ 9).
(2) في “ج”: “في كثير من هذا”.
(3) “وبي يبصر” ليست في “ص، غ”، وليست في البخاري.
(4) أخرجه البخاري في الرقاق، باب التواضع: (11/ 340 – 341).
(5) في “ج”: “شيعًا”.
(6) في “غ، ص”: “يعرفني”.
(7) العهد القديم، زكريا: (2/ 10 – 13).
(8) في “غ”: “أوجبتم”.
(9) في “ب، ج”: “فليجب”.
(1/353)
من الأنبياء، فإن عند أهل الكتاب -وأنتم معهم- أنَّ الله تجلَّى لإبراهيم واسْتَعْلَنَ له وتراءى له.
وأما قوله: “وأحل فيك” لم يرد سبحانه بهذا حلول ذاته -التي لا (1) تَسَعُهَا السمواتُ والأرض- في بيت المقدس، وكيف تحلُّ ذاته في مكانٍ يكون فيه مقهورًا مغلوبًا مع شرار الخلق؟! كيف (2) وقد قال: “ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك”؟!.
أفَتَرَى عَرَفُوا (3) قوّتَه بالقبض عليه، وشدِّ يديه بالحبال، ورَبْطِهِ على خشبة الصليب، ودقِّ المسامير في يديه ورِجْلَيه، ووضع تاج الشوك على رأسه وهو يستغيثُ ولا يُغَاث؟! وما كان المسيح يدخل بيت المقدس إلا وهو مغلوب مقهورٌ مُسْتَخْفٍ في غالب أحواله، ولو صحَّ مجيء هذه الألفاظ صحةً لا تُدْفَع، وصحَّتْ ترجمتها كما ذكروه لكان معناها: أنَّ معرفة الله والإيمان به وذكره ودينه وشرعه حل في تلك (4) البقعة. وبيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح بعد رفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك.
وجماع الأمر: أنَّ النبوات المتقدمة والكتبَ الإلهيَّةَ لم تنطق بحرفٍ واحد يقتضي أنْ يكون ابنُ البشر إلهًا تامًا؛ إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ، وأنه غير مصنوعِ ولا مربوبٍ (5) ، بل لم يخصَّه إلا بما خُصَّ
__________
(1) في “ج”: “لم”.
(2) ساقطة من “ج”.
(3) في “غ، ص”: “بموفق”، وفي “د”: “يمزقوا”.
(4) في “ب”: “ذلك”.
(5) ساقطة من “د”.
(1/354)
به (1) أخوه وأَوْلى الناس به محمد بن عبد الله في قوله: إنه (2) عَبْدُ اللهِ ورسولُهُ وكلمَتُهُ ألقاها إِلى مَرْيَمَ وروحٌ منه.
وكُتُبُ الأنبياءِ المتقدِّمةُ وسائِرُ النبوات مُوَافِقةٌ لما أخبر (3) به محمد – صلى الله عليه وسلم -، وذلك كلُّه يصدِّق بعضُه (4) بعضًا، وجميع ما تستدل به المثلِّثة عُبَّاد الصليب على إلهية المسيح من ألفاظ وكلمات في الكتب؛ فإنها مشتركة بين المسيح وغيره، كتسميته: ابنًا، وكلمةً، ورُوْحَ حقٍّ، وإلهًا. وكذلك ما أُطلق من حلول روح القدس فيه وظهور الرب فيه أو في مكانه.
وقد وقع في نظير شركهم وكفرهم طوائف من المنتسبين إلى الإسلام، واشتبه عليهم ما يَحُل في قلوب العارفين من الإيمان به ومعرفته ونوره وهداه، فظنُّوا أنَّ ذلك نَفْسُ ذاتِ الربِّ، وقد قال تعالى: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعَلَى} [النحل: من الآية 60].
وقال: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27]، وهو ما في قلوب ملائكته وأنبيائه وعباده المؤمنين من الايمان به ومعرفته ومحبته وإجلاله وتعظيمه، وهو نظير قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137].
وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3].
__________
(1) في “د، ج، ص”: “خصه”.
(2) في “د”: “هو”.
(3) في “ص”: “خبَّر”.
(4) في “ج”: “بعضهم”.
(1/355)
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 84].
فأولياء الله يعرفونه ويحبونه، ويُجلُّونه، ويقال: هو في قلوبهم، والمراد: مَحَبَّتُه ومعرفته، والمَثَلُ الأعَلى في قلوبهم، لا نَفْسُ ذاته، وهذا أمرٌ يعتاده الناس في مخاطباتهم ومحاوراتهم، يقول الإنسان لغيره: أنت في قلبي، ولا زلتَ في عيني، كما قال القائل:
وَمِنْ عَجَب أنِّي أَحِنُّ إلَيْهِمُ … وأَسْألُ عَنْهُمْ مَنْ لَقِيْتُ وَهُمْ مَعِي
وتَطْلُبُهُمْ عَيْنِي وهُمْ في سَوَادِهَا (1) … وَيَشْتَاقُهُمْ قَلْبِي وَهُمْ بَيْنَ أَضْلُعِي (2)
وقال آخر في المعنى (3) :
خيالُكَ في عَيْنِي وذِكْرُكَ في فَمِي … وَمَثْواكَ في قَلْبِي (4) فَأَيْنَ تَغِيْبُ (5)
وقال آخر (6) :
ساكن في القلب يعمره … لست أنساه فأذكره
وقال آخر:
__________
(1) في “ب، غ”: “سوائها”.
(2) نسبهما ابن الأبَّار لمهيار الديلمي بتغيير في البيت الثاني، ونسبهما بعضهم للقاضي الفاضل. وانظر: “المدهش” لابن الجوزي: (2/ 629).
(3) “في المعنى” من “ج” فقط. وفي “غ، ص”: “وقال الآخر”.
(4) في “د”: “عيني”.
(5) البيت لأبي الحكم ابن غلندو الإشبيلي، ذكره ياقوت في “معجم الأدباء”: (3/ 1194).
(6) البيت في “المدهش” (2/ 514).
(1/356)
إن قلت (1): غبت فقلبي لا يصدقني … إذ أنت فيه -فدتك النفس- لم تغب
أو قلت: ما غبت قال الطرف: ذا كذب … فقد تحيرت بين الصدق والكذب
وقال الآخر:
أحن إليه وهو (2) في القلب ساكن … فيا عجبًا ممن (3) يحن لقلبه
ومَنْ غَلُظَ طَبْعُه وكثف (4) فهمه عن فهم مثل هذا لم يكثر عليه أن يفهم من ألفاظ الكتب أن ذات الله سبحانه تحل في الصورة البشرية وتتحد بها وتمتزج بها، تعالى الله عما يقول الكافرون علوًّا كبيرًا.
فصل
وإن قلتم: أوجبنا (5) له الإلهيَّة من قول إشَعْيَا: “مِنْ أعجبِ الأعاجيب أن ربَّ الملائكة سيولد من البشر” (6).
قيل لكم: هذا مع أنه يحتاج إلى صحة هذا الكلام عن إشَعْيَا، وأنه لم يحرف بالنقل من ترجمة إلى ترجمة، وأنه كلام منقطع عما قبله وبعده ببينة = فهو دليل على أنه مخلوق مصنوع، وأنه (7) ابن البشر مولود منه، لا من الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد؟!
__________
(1) في “غ”: “قلتم”.
(2) ساقطة من “غ”.
(3) في “ب، ج”: “لمن”.
(4) في “د”: “كشف”.
(5) في “غ، ص”: “أوحينا”.
(6) انظر: إشعياء: (7/ 14).
(7) في “ب”: “فإنه”.
(1/357)
فصل
وإن قلتم: جعلناه إلهًا من قول مَتَّى في إنجيله: “إنَّ ابن الإنسان يُرْسِلُ ملائكته ويَجْمَعُونَ كلَّ الملوك فيلقونهم في أتُّون النار” (1).
قيل: هذا كالذي قبله سواء، ولم يُرِد أنَّ المسيح هو ربُّ الأرباب، ولا أنه خالق الملائكة، (وحاشى لله أن يطلق عليه أنه ربُّ الملائكة، بل) (2) هذا من أقبح الكذب والافتراء؛ بل ربُّ الملائكةِ أوصى الملائكةَ بحفظ المسيح وتأييده (3) ونصره بشهادة لوقا النبيِّ القائل عندهم: “إنَّ الله يوصي (4) ملائكته بك ليحفظوك” (5)، ثم بشهادة لوقا: “إنَّ الله أرسل له ملكًا من السماء ليُقَوِّيَه” (6).
هذا الذي نطقت به الكتب، فحرَّف (7) الكذَّابون على الله وعلى مسيحه ذلك، ونسبوا إلى الأنبياء أنهم قالوا: هو رب الملائكة. وإذا شهد الإنجيل واتفاق الأنبياء والرسل أنَّ الله يوصي ملائكته بالمسيح ليحفظوه: عُلِمَ أن الملائكة والمسيح عبيدُ (8) الله مُنَفِّذون لأمره، ليسوا أربابًا ولا آلهة.
__________
(1) إنجيل متى: (24/ 30).
(2) ما بين القوسين ساقط من “ج”.
(3) في “غ، ص”: “تأديبه”.
(4) في “غ، ص”: “موصٍ”.
(5) إنجيل لوقا: (4/ 10 – 11).
(6) إنجيل لوقا: (22/ 43).
(7) في “ج”: “فتحرَّف”.
(8) في “ب، ج”: “عند”.
(1/358)
وقال المسيح لتلامذته: “مَنْ قَبلَكُم (1) فقد قَبلَني، ومن قَبلَني فقد قَبِل مَنْ أرسلني” (2). وقال المسيحَ لتلامذته أيضًا: “من أنكرَني قُدَّام الناس أَنكرْتُه قدام ملائكة الله” (3). وقال للذي ضرب عَبْدَ رئيسِ الكهنة: “أغمِدْ سيفك ولا تظنَّ أني لا أستطيع أن أدعوَ الله الأبَ فيقيم لي أكثر من اثني عشر من الملائكة” (4). فهل يقول هذا من هو رب الملائكة وإلههم وخالقهم؟!.
فصل
وإن أوجبتم له الإلهيَّة بما نقلتموه عن إشَعْيَا: “تخرج (5) عصا من بيت نبي، وينبت (6) منها نور، ويحلُّ فيه روح القدس، روح الله، روح الكلمة والفهم، روح الحيل والقوة، روح العلم وخوف الله، وبه يؤمنون وعليه يتوكلون، ويكون لهم التاج والكرامة إلى دهر الداهرين” (7).
قيل لكم: هذا الكلام -بعد المطالبة بصحة نقله عن إشَعْيَا، وصحة الترجمة له باللسان العربي وأنه لم تحرِّفه التراجم- هو حُجَّةٌ على المثلَّثة عُبَّاد الصليب، لا لهم؛ فإنَّه لا يدل على أنَ المسيح خالق السموات والأرض؛ بل يدلُّ على مثل ما دلَّ عليه القرآن، وأنَّ المسيح أُيِّد بروح
__________
(1) في “غ، د، ص”: “قتلكم … قتلني … “.
(2) إنجيل متى: (10/ 40).
(3) إنجيل متى: (10/ 33).
(4) إنجيل متى: (26/ 53 – 54).
(5) في “ب، ج”: “يخرج”.
(6) في “د”: “ويخرج”.
(7) سفر إشعياء: (11/ 1 – 2).
(1/359)
القدس؛ فإنه قال: ويحل فيه روح القدس روح الله، روح الكلمة والفهم، روح الحيل والقوة، روح الفهم (1) وخوف الله. ولم يقل: تحل فيه حياة الله، فضلًا عن أن يحلَّ الله فيه ويتحد به ويتخذ حجابًا من ناسوته. وهذه روح تكون مع الأنبياء والصديقين.
وعندهم في التوراة: “أنَّ الذين كانوا يعملون في قبة الزمان حلَّت فيهم روح الحكمة” (2) ، وروح الفهم والعلم: هي ما يحصل به الهدى والنصر والتأييد.
وقوله: “هي (3) روح الله” لا تدلُّ على أنها صفته، فضلًا عن أن يكون هو الله!! وجبريل يسمى: روح الله، والمسيح اسمه: روح الله.
والمضاف إلى الله إذا كان ذاتًا قائمة بنفسها فهو إضافة مملوك إلى مالك كبيت الله، وناقة الله، وروح الله، وليس المرادَ به: بيتٌ يسكنُه، ولا ناقةٌ يركَبُهَا، ولا روحٌ قائمة به، وقد قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. فهذه الروح أيَّد بها عبادَهُ المؤمنين.
وأما قوله: [وبه يؤمنون وعليه يتوكلون] فهو عائد إلى الله لا إلى العصا التي نبتت (4) من بيت النبوة.
__________
(1) في “د”: “العلم”. وهي التي سبقت في الصفحة السابقة.
(2) سفر الخروج: (31/ 2).
(3) ساقطة من “ص”. وهي ليست في النص المنقول آنفًا.
(4) في “ب، ج”: “تنبت”.
(1/360)
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في قوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29]، (فهو عائد إلى الله) (1) وقال موسى لقومه: {يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84]، وهو كثير في القرآن، وقد أخبر أنه أيده بروح العلم وخوف الله، فجمع بين العلم والخشية. وهما الأصلان اللذان جمع القرآن بينهما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].
وفي قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية” (2) وهذا شأن العبد المحض، وأما الإله الحق وربُّ العالمين فلا يلحقه خوف ولا خشية ولا يعبد غيره، والمسيح كان قائمًا بأوراد العبادات لله أتَمَّ القيام!!.
فصل
وإنْ أوجبتم له الإلهيَّة بقول إشَعْيَا: “إنَّ غلامًا وُلِدَ لنا وإننا أعطيناه كذا وكذا، ورياستُه على عاتقيه وبين منكبيه، ويُدعى اسمه ملكًا عظيمًا عجيبًا إلهًا قويًّا مسلَّطًا رئيسًا، قوي السلامة في كل الدهور، وسلطانه كامل ليس له فناء” (3).
قيل لكم: ليس في هذه البشارة ما يدلُّ على أن المراد بها المسيح بوجه من الوجوه، ولو كان المراد بها المسيح لم يدلَّ على مطلوبهم.
__________
(1) ساقط من “ب، ج، ص”.
(2) أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين: (9/ 175) (الطبعة المنيرية).
(3) سفر إشعياء: (9/ 6 – 7).
(1/361)
أما المقام الأول: فدلالتها على محمد بن عبد الله أظهر من دلالتها على المسيح، فإنه هو الذي رياستُه على عاتِقَيْه (1) وبين منكبيه من جهتين:
من جهةِ: أنَّ خاتم النبوة على بعض كتفيه (2) ، وهو من أعلام النبوة التي أخبرت به الأنبياء، وعلامة ختم ديوانهم، ولذلك كان في ظهره.
ومن جهةِ: أنَّه بُعِث بالسيف الذي يتقلَّد به على عاتقه ويرفعه -إذا ضرب به- على عاتقه. ويدلُّ عليه قوله: “رئيس مسلَّط قويُّ السلامة” وهذه صفة محمد – صلى الله عليه وسلم – المؤيَّدِ المنصورِ، رئيس السلامة، فإنَّ دينه الإسلام، ومن اتبعه سَلِمَ (3) مِنْ خِزْي (4) الدنيا ومن عذاب الآخرة، ومن استيلاءِ عدوّه عليه. والمسيحُ لم يسلَّط على أعدائه كما سُلِّط محمد – صلى الله عليه وسلم – بل كان أعداؤه مسلَّطين (5) عليه قاهرين له حتى عملوا به ما عملوا عند المثلِّثةِ عُبَّاد الصليب.
فأين مطابقة هذه الصفات للمسيح بوجه من الوجوه؟! وهي مطابقة لمحمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – من كل وجهٍ، وهو الذي سلطانُه كاملٌ، ليس له فناء (إلى آخر الدهر.
فإن قيل: إنكم لا تَدْعونَ محمدًا إلهًا، بل هو عندكم عبدٌ محض؟) (6) .
__________
(1) في “ج”: “عاتقه”.
(2) في “ج”: “أكتافه”.
(3) في “ج”: “يسلم”.
(4) في “د”: “جزاء”.
(5) في “ج”: “متسلطين”.
(6) ما بين القوسين ساقط من “ب”.
(1/362)
قيل لهم: نعم واللهِ، إنه لكذلك (عبدٌ محضٌ لله، والعبودية أجلُّ مراتبه) (1)، واسم “الإله” من جهة التراجم جاء، والمراد به السيِّد المطاع لا الإله المعبود الخالق الرازق.
فصل
وإن أوجبتم له الإلهية من قول إشَعْيَا – فيما زعمتم: “ها هي العذراء تحبل وتلد ابنًا يدعى اسمه عَمَانُويل” (2) وعمانويل كلمة عبرانية تفسيرها بالعربية: “إلهنا معنا” فقد شهد له النبيُّ أنه إله.
قيل لكم: بعد ثبوت هذا الكلام وتفسيره – لا يدلُّ على أن العذراء ولدت ربَّ العالمين وخالق السموات والأرَضِيْن؛ فإنه قال: تلد ابنًا، وهذا دليل على أنه ابنٌ من جملة البنين، ليس هو رب العالمين.
وأما قوله: “ويدعى اسمه عمانويل” فإنما يدل على أنه يسمى بهذا الاسم كما يسمِّي الناسُ أبناءَهم بأنواعٍ من الصفات والأسماء والأفعال والجُمَل المركَّبة من اسمين أو اسم وفعل، وكثيرٌ من أهل الكتاب يُسَمُّون أولادهم: عمانويل.
ومن علمائكم من يقول: المراد بالعذراء هاهنا غير مريم، ويذكر في ذلك قصة، ويدل على هذا: أن المسيح لا يعرف اسمه “عمانويل”، وإن كان ذلك اسمه، فكونُه (3) يُسمَّى: إلهنا معنا، أو بالله حسبي، أو الله وحده، ونحو ذلك (لا يدل على أنه إله) (4).
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من “ب، ج، غ”.
(2) سفر إشعياء: (7/ 15).
(3) في “ج”: “فيكون”.
(4) ساقط من “ص، ب، ج”.
(1/363)
وقد حرَّف بعضُ المُثَلِّثة عُبَّاد الصليب هذه الكلمة وقال: معناها “الله معنا”. وردَّ عليهم بعض من أنصف (1) من علمائهم، وحكَّم رشده على هواه، وهداه الله للحق، وبصَّره مِنْ عماه وقال: أهذا هو القائل: “أنا الرب، ولا إله غيري، وأنا أحي وأميت وأخلق وأرزق” (2)؟ أم هو القائل لله: “إنك أنت الإله الحقُّ وحدك الذي أرسلت اليسوع المسيح” (3)؟!
قال: والأول باطل قطعًا، والثاني هو الذي شهد به الإنجيل، ويجب تصديق الإنجيل وتكذيب مَنْ زعم أنَّ المسيح إله معبود.
قال: وليس المسيح مخصوصًا بهذا الاسم، فإن “عمانويل” اسم تسمِّي به النصارى واليهود أولادهما.
قال: وهذا موجود في عصرنا هذا، ومعنى هذه التسمية بينهم: شريف القدر.
قال: وكذلك السُّرْيَانُ يُسمُّون أولادهم “عمانويل”، والمسلمون وغيرهم يقولون للرجل: الله معك. فإذا سُمِّي الرجل بقوله: “الله معك” كان هذا تَبرُّكًا بمعنى هذا الاسم!!.
فصل
وإن أوجبتم له الإلهيَّة بقول حَبقُّوقَ -فيما حكيتموه عنه-: “إنَّ الله في الأرض يتراءى ويختلط مع الناس ويمشي معهم” (4)، ويقول إِرْمِيَا
__________
(1) في “ب، ج”: “اتصف”.
(2) سفر التثنية: (32/ 39 – 40).
(3) إنجيل يوحنا: (17/ 3 – 4).
(4) حبقوق: (3/ 5).
(1/364)
أيضًا بعد هذا: “الله يظهر في الأرض وينقلب (1) مع البشر” (2) .
قيل لكم: هذا -بعد احتياجه إلى ثبوت نبوة هذين الشخصين أولًا، وإلى ثبوت هذا النقل عنهما، وإلى مطابقة الترجمة من غير تحريف. وهذه ثلاث مقامات (3) يعزُّ عليكم إثباتها- لا يَدلُّ (4) على أنَّ المسيح هو خالق السموات والأرض، وأنه إله حق ليس بمخلوق ولا مصنوع؛ ففي التوراة ما هو من هذا الجنس وأبلغ، ولم يدلَّ ذلك على أن موسى إله ولا أنه خارج من جملة العبيد!.
وقوله: “يتراءى” (5) مثل قوله: تجلَّى، وظهر، واستعلن، ونحو ذلك من ألفاظ التوراة وغيرها من الكتب الإلهية. وقد ذكر في التوراة “أن الله تجلَّى وتراءَى لإبراهيم وغيره من الأنبياء” ولم يدل ذلك على الإلهيَّة لأحدٍ منهم، ولم يزل في عرف الناس ومخاطبتهم أن يقولوا: فلان معنا، وهو بين أظهرنا ولم يمت. إذا كان عمله وسُنَّتُه وسيرته بينهم، ووصاياه يُعْمل بها بينهم. وكذلك يقول القائل لمن مات والده: ما مات من خلَّف مثلك، وأنا والدك. وإذا رأوا تلميذًا لعالم تعلَّم عِلْمَه قالوا: هذا فلان باسم أُستاذه. كما كان يقال عن عكرمة: هذا ابن عباس، وعن أبي حامدٍ: هذا الشافعيُّ. وَإِذا بعث الملك نائبًا يقوم مقامه في بلد قال الناس: جاء المَلِك، وحكم الملك، ورسم الملك.
__________
(1) في “ب، ج”: “يتقلب”.
(2) إرميا: (14/ 9).
(3) في “ب، ج”: “مقالات”.
(4) في “ب”: “تدل”.
(5) في “ج”: “يتزايى”.
(1/365)
وفي الحديث الصحيح (1) الإلهيِّ: “يقولُ الله -عز وجل- يَوْمَ القِيَامَةِ: عبدي! مَرِضتُ فلم تَعُدْنِي، فيقولُ: يا ربِّ كيف أَعُودُكَ وأنتَ ربُّ العالمِيْنَ؟! قال: أما إنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فلم تَعُدْهُ، أمَا لو عُدْتَه لوَجَدْتَنِي عندَه. عَبْدِي! جُعْتُ فلم تُطْعِمْنِي، فيقول: ربِّ كيف أُطْعِمُك وأنت ربُّ العالمين!! قال: أما علمتَ أنَّ عبدي فلانًا اسْتَطْعَمَكَ فلم تُطْعِمْهُ، أما لو أطْعَمْتَه لوجدتَ ذلك عندي. عَبْدِي! اسْتَسْقَيْتُكَ فلم تَسْقِنِي، فيقولُ: ربِّ كيف أَسْقِيْك وأنتَ ربُّ العالمين؟! فيقول: أما إنَّ عبدي فلانًا عَطِشَ فَاسْتَسْقَاكَ فلم تَسْقِهِ، أما لو سَقَيْتَهُ لوجَدْتَ ذلك عندي” (2).
وأبْلَغُ من هذا (3): قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]. ومن هذا قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
فلو استحلَّ المسلمون ما استحللتم، لكان اسْتِدْلَالُهم (4) بذلك على أن محمدًا إله من جنس استدلالكم لا فرق بينهما (5)!!.
فصل
وإن أوجبتم له الإلهيَّة بقوله في السفر الثالث من أسفار الملوك: “والآن يا ربَّ إله إسرائيل ليتحقق كلامك لداود، لأنه حقٌّ أن يكون أنه
__________
(1) في “ج”: “الشريف”.
(2) أخرجه مسلم في البر والصلة، باب فضل عيادة المريض: (4/ 1989).
(3) في “ج”: “ذلك”.
(4) في “د”: “استدلالكم”.
(5) ساقطة من “ص، غ”.
(1/366)
سيسكن الله مع الناس على الأرض، اسمعوا أيتها الشعوب كلُّكم، ولْتُنْصِتِ الأرضُ وكلُّ مَنْ فيها، فيكون الربُّ عليها شاهدًا، ويخرج من موضعه، وينزل، ويطأ على مشارق الأرض في شأن خطيئة بني يعقوب” (1) .
قيل لكم: هذا السفر يحتاج فيه أولًا إلى أن يثبت أن الذي تكلَّم به نبيٌّ، وأن هذا لفظه، وأنَّ الترجمة مطابقةٌ له. وليس ذلك بمعلوم.
وبعد ذلك: فالقول في هذا الكلام (كالقول في نظائره (2) مما ذكرتموه وما لم تذكروه، وليس في هذا الكلام) (3) ما يدلُّ على أن المسيح خالقُ السمواتِ والأرض، وأنه إلهٌ حقٌّ غير مصنوعٍ ولا مخلوقٍ، فإن قوله: “إن الله سيسكن مع الناس في الأرض” هو مثل كونه معهم، وإذا صار في الأرض نوره وهداه ودينه ونبيه كانت هذه سكناه، لا أنه بذاته المقدَّسةِ نَزَلَ عن عرشه وسكن مع أهل الأرض، ولو قُدِّر -تقدِيْرَ المُحَالَات- أنَّ ذلك واقعٌ: لم يلزم أن يكون هو المسيح، فقد سكن الرُّسل والأنبياء قَبْلَه وبعده، فما الموجب لأن يكون المسيح هو الإله دون إخوانه من المرسلين؟! أترى ذلك للقوة والسلطان الذي كان له وهو في الأرض، وقد قلتم: إنه قُبض عليه وفُعِل به ما فُعِل من غاية الإهانة والإذلال والقهر، فهذا ثمرة سكناه في الأرض مع خلقه.
فإن قلتم: سُكْنَاه في الأرض: هو ظهوره في ناسوت المسيح، قيل لكم: أمَّا الظهور الممكن المعقول، وهو ظهور محبته ومعرفته ودينه
__________
(1) سفر الملوك الأول: (8/ 25 – 27).
(2) ساقط من “د”.
(3) في “ب”: “نظيره”.
(1/367)
وكلامه، فهذا لا فرق فيه بين ناسوت المسيح وناسوت سائر الأنبياء والمرسلين، وليس في اللفظ على هذا التقدير ما يدلُّ على اختصاصه بناسوت المسيح، وأما الظهور المستحيل الذي تأباه العقول والفِطَر والشرائع وجميع النبوات، وهو ظهور ذات الرب في ناسوت مخلوقٍ من مخلوقاته واتحادُه به، أو امتزاجُه واختلاطُه: فهذا محالٌ عقلًا وشرعًا، فلا يمكن أن تنطق به نُبوَّةٌ أصلًا.
بل جميع النبوات مِنْ أولها إلى آخرها متَّفِقةٌ على أصول:
(أحدها): أنَّ الله -سبحانه وتعالى- قديمٌ واحدٌ لا شريك له في ملكه، ولا نِدَّ ولا ضدَّ، ولا وزير ولا مُشِير، ولا ظهير، ولا شافع إلا من بعد إذنه.
(الثاني): أئَه لا والِدَ له ولا وَلَد، ولا كُفُؤَ ولا نسيب -بوجهٍ من الوجوه- ولا زوجةَ.
(الثالث): أنه غنيٌّ بذاته؛ فلا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خَلْقُه بوجهٍ من الوجوه.
(الرابع): أنه لا يتغيَّر ولا تعرض له الآفات؛ من الهَرَم (1) والمرض والسِّنَةِ والنَّوم والنِّسيان والنَّدمِ والخوفِ والهمِّ والحَزَنِ، ونحو ذلك.
(الخامس): أنه لا يُمَاثِل (2) شيئًا من مخلوقاته، بل ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
__________
(1) في “ج”: “الهموم، وفي “غ، ص”: “الدم”.
(2) في “ب”: “يمثل”.
(1/368)
(السادس): أنه لا يَحُلُّ في شيء من مخلوقاته ولا يَحُلُّ في ذاته شيء منها، بل هو بَائِنٌ (1) عن خلقه بذاته، والخلق بَائِنُونَ عنه.
(السابع): أنه أعظم من كلِّ شيءٍ، وأكبرُ من كلِّ شيءٍ، وفوقَ كلِّ شيء، وعَالٍ على كلِّ شيء، وليس فوقه شيء البتَّةَ.
(الثامن): أنه قادر (2) على كلِّ شيء؛ فلا يعجزه شيء يريده، بل هو الفعَّال لما يريد.
(التاسع): أنه عالمٌ بكل شيء؛ يعلم السِّرَّ وأخفى، ويعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} [الأنعام: 59] ولا مُتَحرِّكَ إلا وهو يعلمه على حقيقته.
(العاشر): أنه سميعٌ بصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنُّنِ الحاجات، ويرى دبيب النَّمْلة السوداء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، فقد أحاط سَمْعُه بجميع المسموعات، وبَصَرُهُ بجميع (3) المُبْصَرَات، وعلمُه بجميع المعلومات، وقدرتُه بجميع المقدورات، ونفذت مشيئتُه في جميع البَرِيَّات، وعمت رحمتُه جميعَ المخلوقاتِ، ووسع كرسيُّه الأرضَ والسمواتِ.
(الحادي عشر): أنه الشَّاهد الذي لا يغيب، ولا يستخلف أحدًا على تدبير ملكه، ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه
__________
(1) في “ج”: “كائن”.
(2) في “غ، ص”: “قدر”.
(3) في “غ، ص”: “لجميع”.
(1/369)
عليها أو يستعطفه (1) عليهم ويسترحمه لهم.
(الثاني عشر): أنه الأبديُّ الباقي الذي لا يضمحلُّ ولا يتلاشى ولا يعدم ولا يموت.
(الثالث عشر): أنه المتكلِّم المكلِّم الآمر الناهي، قائلُ الحقِّ، وهادي السبيل، ومرسل الرسل، ومنزلُ الكتب، والقائمُ على كلِّ نفس بما كسبت من الخير والشر، ومجازي المحسنِ بإحسانِه، والمسيءِ بإساءتِه.
(الرابع عشر): أنه الصادق في وعده وخبره، (فلا أصْدَقَ منه قيلًا) (2) ، ولا أصدق منه حديثًا، وهو لا يُخْلِف الميعادَ.
(الخامس عشر): أنَّه -تعالى- صَمَدٌ بجميع معاني الصَّمَدِيَّة، فيَسْتَحِيْلُ عليه ما يناقض صَمَدِيَّتَهُ.
(السادس عشر): أنَّه قُدُّوس سلام، فهو المُبَرَّأُ من كلِّ عيبٍ وآفةٍ ونَقْص.
(السابع عشر): أنَّه الكامل الذي له الكمالُ المُطْلَق من جميع الوجوه.
(الثامن عشر): أنه العَدْلُ الذي لا يجور ولا يَظْلِم، ولا يخاف عبادُه منه ظلمًا.
فهذا ممَّا اتفقت عليه جميع الكتب والرسل، وهو من المُحْكَمِ الذي
__________
(1) في “ج”: “يستعطف”.
(2) ساقط من “غ، ص”.
(1/370)
لا يجوز أن تأتيَ شريعةٌ بخلافه، ولا يخبرَ نبيٌّ بخلافه أصلًا، فَتَرَك المُثلِّثة عُبَّادُ الصليب هذا كلَّه، وتمسَّكوا بالمتشابهِ من المعانى، والمُجْمَلِ من الألفاظ، وأقوالِ من ضلُّوا من قَبْلُ، وأضَلُّوا كثيرًا وضلُّوا عن سواء السبيل.
وأصولُ المثلِّثة ومقالتُهم في ربِّ العالمين تخالِفُ هذا كلَّه أشدَّ المخالفة وتبايِنُه أعْظَمَ المبايَنَةِ.
فصل
في أنه لو لم يظهر محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – لبطلت نبوة سائر الأنبياء.
فظهورُ نبوته تصديقٌ لنبواتهم، وشهادةٌ لها بالصدق (1)، فإرسالُه من آيات الأنبياء قَبْلَه. وقد أشار -سبحانه- إلى هذا المعنى بعينه في قوله: {بَلْ جَاَءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37]. فإن المرسلين بشَّروا به وأخبروا بمجيئه، فمجيئه هو نفس (صدق خبرهم) (2)، فكان مجيئه تصديقًا لهم؛ إذْ هو تأويل ما أخبروا به. ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر: إنَّ تصديقَه المرسلين شهادتُه بصِدْقِهم (3) وإيمانُه بهم، فإنه صدَّقهم بقوله ومجيئه، فشهد بصِدْقِهم بنفس مجيئهِ، وشهد بصدقهم (4) بقوله.
ومثلُ هذا: قول المسيح: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
__________
(1) في “ب، ج”: “بالتصديق”.
(2) في “ج”: “صدقهم”.
(3) في “ب، ج”: “بتصدقيهم”.
(4) في “ج”: “بنفس مجيئه”.
(1/371)
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، فإن التوراة لما بشَرتْ به وبنبوته كان نَفْسُ ظهورِه تصديقًا لها، ثم بشَّر برسولٍ يأتي مِن بعده؛ فكان ظهورُ الرسول (1) المبشَّر به تصديقًا له، كما كان ظهوره تصديقًا للتوراة. فعادة الله في رسله أنَّ السابق يبشِّر باللَّاحِقِ، واللَّاحِقِ يصدِّق السابقَ.
فلو لم يظهر (2) محمد بن عبد الله ولم يبعث: لَبَطَلَتْ نبوةُ الأنبياء قبله.
والله سبحانه لا يخلف وَعْدَه ولا يكْذِبُ خَبَرُه. وقد كان بشَّر إبراهيمَ وهَاجَرَ بشاراتٍ بيِّناتٍ، ولم نرها تَمَّتْ ولا ظهرتْ إلا بظهور رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقد بُشِّرت به هاجر من ذلك بما لم تبشَّر به امرأةٌ من العالمين غير مريم ابنة عمران بالمسيح، على أنَّ مريم بُشِّرت به مرةً واحدة، وبُشِّرت هاجر بإسماعيل مرتين، وبُشِّر به إبراهيم مرارًا، ثم ذكر الله -سبحانه- هاجر (3) بعد وفاتها كالمخاطِب لها على ألسنة الأنبياء.
ففي التوراة: “إن الله تعالى قال لإبراهيم: قد أجبتُ دعاءك في إسماعيل، وباركتُ عليه، وكبَّرته، وعظَّمته (جدًّا جدًّا، وسيلد ابنًا عظيمًا، وأجعل له أمة عظيمة”) (4) (5) .
هكذا في ترجمة بعض المترجمين وأما في الترجمة التي ترجمها اثنان وسبعون حبرًا من أحبار اليهود فإنه يقول: “وسيلد اثني عشر أمةً من
__________
(1) في “ج”: “الرسل”.
(2) في “غ، ص”: “يكن”.
(3) ليست في “ج”.
(4) ما بين القوسين ساقط من “ب، ج”.
(5) سفر التكوين: (17/ 18 – 20).
(1/372)
الأمم” (1) . وفيها: “لما هربت هاجر من سارة تراءى لها مَلَك الله، وقال: يا هَاجَرُ (أمةَ سارة!) (2) مِنْ أين أقبلت؟ وإلى أين تذهبين؟! قالت: هربت من سيدتي. فقال لها الملك: ارجعي إلى سيدتك واخضعي لها، فإني سأكثِّر ذريَّتك وزَرْعَك حتى لا يُحْصَون كثرةً، وها أنت تحبلين وتلدين ابنًا تسمِّينه إسماعيل، لأنَّ الله قد سمع بذلك خشوعك، وهو يكون عين الناس، وتكون يَدُه فوق الجميع، ويَدُ الجميعِ مبسوطةٌ إليه بالخضوع، ويكون مَسْكَنُه على تُخُوم جميع إخوته” (3) .
وفي موضع آخر قصة إسكانها وابنها إسماعيل في بَرِّيَّة فاران، وفيها: “فقال لها المَلَكُ: يا هاجر ليفرح روعك فقد سمع الله تعالى صوت الصبيِّ، قومي فَاحْمِلِيْه وتمسَّكي به؛ فإن الله جاعِلُه لأمةٍ عظيمةٍ، وإنّ الله فتح عليها. فإذا ببئر ماء، فذهبتْ وملأت المزادة (4) منه وسقت الصبيَّ منه، وكان الله معها ومع الصبي حتى تربَّى، وكان مسكنه (5) في بَرِّيَّةِ فَارَانَ” (6) .
فهذه أربع بشارات خالصة (7) لأم إسماعيل؛ نزلت اثنتان منها على إبراهيم، واثنتان على هاجر.
__________
(1) التكوين: (17/ 20).
(2) ساقط من “ج”.
(3) سفر التكوين: (16/ 7 – 12).
(4) في “ب، ج” تصحفت إلى: “المرأة”.
(5) في “غ، ص”: “يسكنه”.
(6) سفر التكوين: (11/ 17 – 20).
(7) في “ج”: “خاصة”.
(1/373)
وفي التوراة أيضًا بشارات أُخَر بإسماعيل وولده وأنهم أمة عظيمة جدًّا، وأن نجوم السماء تُحْصَى ولا يُحْصَون (1) ، وهذه البشارة إنما تمت بظهور محمد بن عبد الله وأمته.
فإن بني إسحاق كانوا لم يزالوا مطرودين مُشَرَّدِينَ خَوَلًا للفراعنة والقِبْط حتى أنقذهم الله بنبيِّه وكليمه موسى بنِ عِمْرَانَ، وأورثهم أرض الشام فكانت كرسيَّ مملكتهم، ثم سَلَبَهم ذلك وقطَّعهم في الأرض أممًا مسلوبًا عِزُّهم ومُلْكهم؛ قد أخذتهم سيوف السودان، وعَلَتْهُمْ (2) أعلاج الحمران حتى إذا ظهر النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – تَمَّت تلك النبوات، وظهرتْ تلك البشارات بعد دهر طويل، وعلت بنو إسماعيل على من حولهم فَهَشَمُوهُمْ هَشْمًا، وطحنوهم طحنًا، وانتشروا في آفاق الدنيا، ومدَّت الأمم أيْدِيَها إليهم بالذلِّ والخضوع، وعَلَوْهم عُلُوَّ الثريا فيما بين الهند والحبشة والسُّوس الأقصى وبلاد التُّرْك والصَّقَالِبَة والخَزَر، وملكوا ما بين الخافقين وحيث ملتقى أمواج البحرين، وظهر ذِكْرُ إبراهيم على ألسنة الأمم كلها، فليس صبيٌّ من بعد ظهور النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ولا امرأةٌ، ولا حرٌّ ولا عَبْد، ولا ذكرٌ ولا أنثى إلا وهو يعرف إبراهيم وآلَ إبراهيم.
وأما النصرانية – وإن كانت قد ظهرتْ في أممٍ كثيرة جليلة؛ فإنه لم يكن لهم في محلِّ إسماعيل وأمه هاجر سلطانٌ ظاهر، ولا عِزٌّ قاهرٌ البتَّة، ولا صارت أيدي هذه الأمة فوق أيدي الجميع، ولا امتدَّت إليهم أيدي الأمم بالخضوع.
__________
(1) في “غ، ص”: “تحصى”.
(2) في “ص”: “غلبهم”.
(1/374)
وكذلك سائر ما تقدَّم من البشارات التي تفيد (1) بمجموعها العِلْم القطعيَّ بأنَّ المراد بها: محمدُ بنُ عبد الله – صلى الله عليه وسلم – وأمَّتُه، فإنَّه لو لم يقع تأويلها بظهوره – صلى الله عليه وسلم – لبطلتْ تلك النبوَّات.
ولهذا لما علم الكُفَّار من أهل الكتاب أنَّه لا يمكن الإيمانُ بالأنبياء (2) المتقدِّمين إلا بالإيمان بالنبيِّ الذي بشّروا به قالوا: نحن في انتظاره ولم يجئ بعد، ولما عَلِمَ بعضُ الغلاة في كفره وتكذيبه منهم: أنَّ هذا النبيَّ في ولد إسماعيل، أنكروا أن يكون لإبراهيم ولدٌ اسمه إسماعيل، وأن هذا لم يخلقه الله!
ولا يكثر على أمة البَهْتِ وإخوانِ القرود وقَتَلَةِ الأنبياء مثلُ ذلك، كما لم يكثر على المثلِّثة عُبَّاد الصليب -الذين سبُّوا رب العالمين أعظم مسبَّة- أن يطعنوا في ديننا وينتقصوا نبينا – صلى الله عليه وسلم -.
فصل
ونحن نبيِّن أنهم لا يمكنهم أن (3) يُثْبِتُوا للمسيح فضيلةً ولا نبوةً ولا آيةً ولا معجزة إلا بإقرارهم أنَّ محمدًا رَسول الله، وإلا فمع تكذيبه لا يمكن أن يثبت للمسيح شيءٌ من ذلك البتَّة.
فنقول: إذا كفرتم -مَعَاشِرَ المثلِّثة عُبَّادَ الصَّليب- بالقرآن وبمحمد – صلى الله عليه وسلم -، فمن أين لكم أن تُثْبِتُوا لعيسى فضيلةً أو معجزةً؟! ومَنْ نقل إليكم عنه آيةً أو معجزة؟! فإنكم إنما تبعتم مَنْ بعده بنَيِّفٍ على مائتين وعَشَراتٍ
__________
(1) في “ب”: “يقيد”.
(2) في “ج”: “إلا بالأنبياء” وهو خطأ.
(3) ساقطة من “ج”.
(1/375)
من السنين، أُخْبِرْتُم عن منام رُئي فأسرعتم إلى تصديقه. وكان الأَوْلى لمن كفر بالقرآن أن ينكر وجود عيسى في العالم؛ لأنه لا يَقْبَل قَوْلَ اليهود فيه، ولاسيَّما وهم أعظم أعدائه الذين رَمَوه وأمَّه (1) بالعظائم، فأخبارُ المسيح والصليب إنما شيوخُكم فيها اليهود، وهم فيما بينهم مختلفون في أمره أعْظَمَ اختلافٍ، وأنتم مختلفون معهم في أمره!
فاليهود تزعم أنَّهم حين أخذوه حَبَسُوه في السجن أربعين يومًا، وقالوا: ما كان لكم أن تحبسوه أكثر من ثلاثة أيام ثمَّ تقتلوه (2) إلا أنَّه كان يعضده أحد قواد الروم، لأنه كان يُدَاخِلُه في صناعة الطبِّ عندهم.
وفي (الأناجيل التي) (3) بأيديكم: “أنَّه أُخِذ صبح يوم الجمعة وصُلِبَ في الساعة التاسعة من اليوم بعينه” (4) . فمتى تتوافقون مع اليهود في خبره. واليهود مجمعون (5) أنَّه لم يظهر له معجزة ولا بَدَتْ منه لهم آيةٌ غير أنَّه طار يومًا وقد هموا بأخذه فطار على أثره آخر منهم، فَعَلاه في طيرانه، فسقط إلى الأرض بزعمهم؟!
وفي الإنجيل الذي بأيديكم -في غير موضع- ما يشهد أنَّه لا معجزةَ له ولا آية!! فمن ذلك أن فيه منصوصًا: “أن اليهود قالوا له يومًا: ماذا تفعل حتى تنتهي به إلى أمر الله تعالى؟ فقال: أمر (6) الله أن تؤمنوا
__________
(1) ساقط من “غ، ص”.
(2) في “ج”: “قتلوه”.
(3) في “ج”: “الإنجيل الذي”.
(4) إنجيل متى: (27/ 45).
(5) في “غ”: “مجمعة”.
(6) في “غ، ص”: “أمن”.
(1/376)
بمن بعثه، فقالوا له: وما آيَتُكَ التي تُرِيْنَا ونؤمن بك، وأنت تعلم أن آباءنا قد أكلوا المنَّ والسَّلوى بالمفاوز؟ قال: إن كان أطعمكم موسى خبزًا فأنا أطعمكم خبزًا سماويًّا” (1) يريد: نعيم الآخرة. فلو عرفوا له معجزةً ما قالوا ذلك.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم أن اليهود قالت له: “ما آيتك التي نُصَدِّقك بها؟ قال: اهدموا البيت أبْنِيه لكم في ثلاثة أيام” (2) .
فلو كانت اليهود تعرفُ له آيةً لم تَقُلْ هذا. ولو كان قد أظهر لهم معجزةً لذكَّرهم بها حينئذ.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم أيضًا: “أنهم جاءوا يسألونه (آية فقذفهم) (3) ، وقال: إن القبيلةَ الفاجرةَ الخبيثةَ تطلب آيةً فلا تُعْطَى ذلك” (4) .
وفيه أيضًا: “أنهم كانوا يقولون له -وهو على الخشبة بظنِّكم-: إن كنت المسيح فأنْزِلْ نَفْسَك فنؤمن بك – يطلبون منه بذلك آية. فلم يفعل” (5) .
فإذا كفرتم -مَعَاشِرَ المثلِّثة عُبَّادَ الصليب- بالقرآن لم يتحقَّقْ لعيسى ابنِ مريمَ آيةٌ ولا فضيلةٌ، فإنَّ أخباركم عنه وأخبار اليهود لا يلتفت إليها
__________
(1) إنجيل يوحنا: (6/ 29 – 30).
(2) إنجيل يوحنا: (2/ 18 – 20).
(3) في “ج”: “أنَّه يصدقهم”.
(4) إنجيل متى: (16/ 4).
(5) إنجيل مرقس: (15/ 2 – 5).
(1/377)
لاختلافكم في شأنه أشد الاختلاف وعدم تيقنكم (1) لجميع أمره.
وكذلك (2) اجتمعت اليهود على أنَّه لم يدَّع شيئًا من الإلهية التي نسبتم إليه أنَّه ادَّعاها، وكان أقصى مرادهم أن يدَّعي ذلك فيكون أبلغ في تسلطهم عليه، وقد ذُكر السبب في استفاضة ذلك عنه، وهو أن أحبارهم وعلماءهم لما مضى وبقي ذكره خافوا أن تصير عامتهم إليه إذْ كان على سنن تقبله قلوب الذين لا غرض لهم، فشنعوا عليه أمورًا كثيرة، ونسبوا إليه دعوى الإلهيَّة تزهيدًا للناس في أمره.
ثم إنَّ اليهود عندهم من الاختلاف في أمره ما يدلُّ على عدم تيقُنِهم (3) بشيء من أخباره؛ فمنهم من يقول: إنه كان رجلًا منهم ويعرفون أباه وأمه ويَنْسُبُونه لزانية (4) ! -وحاشاه وحاشى أمَّه الصدِّيقة الطاهرة البَتُول التي لم يَقْرَعْها فَحْلٌ قط قاتلهم الله أنَّى يُؤْفَكُونَ- ويسمُّون أباه الزاني البنديرا الرُّوميَّ، وأمَّه مريم المَاشِطَة، ويزعمون أنَّ زوجها يوسف بن يهودا وجد البنديرا عندها على فراشها، وشعر (5) بذلك، فهَجَرَها وأنْكَرَ ابنها.
ومن اليهود من رغب عن هذا القول وقال: إنما أبوه يوسف بن يهودا الذي كان زوجًا لمريم، ويذكرون أن السبب في استفاضة اسم الزنيم عليه (6) : أنه بينما هو يومًا مع معلِّمه يهشوع بن برخيا وسائر التلاميذ
__________
(1) في “ج”: “يقينكم”.
(2) في “ب، ج”: “ولذلك”.
(3) في “ج”: “يقينهم”.
(4) في “ب، ج”: “لزنية”.
(5) في “غ”: “وسعد”.
(6) أي على عيسى عليه السلام.
(1/378)
(في سفر، فنزلوا) (1) موضعًا، فجاءت امرأةٌ من أهله وجعلت تبالغ في كرامتهم، فقال يهشوع: ما أحسن هذه المرأة؟! يريد أفعالها، فقال عيسى -بزعمهم-: لولا عَوَرُ (2) في عينها، فصاح يهشوع وقال له: يا ممزار -ترجمته: يا زَنِيم- أتَزْنِي بالنَّظر؟! وغضب غضبًا شديدًا، وعاد إلى بيت المقدس وحرَّم اسمه ولعنه في أربعمائة قرن، فحينئذ لحق ببعض (3) قُوَّاد الروم وداخله بصناعة الطبِّ، فَقَوِيَ بذلك على اليهود وهم يومئذ في ذِمَّة قيصر تباريوش (4) ، وجعل يخالف حكم التوراة ويستدرك عليها ويُعْرض عن بعضها إلى أن كان من أمره ما كان.
وطوائف من اليهود يقولون غير هذا، ويقولون: إنه كان يلاعب الصِّبْيان بالكرة، فوقعت لهم بين جماعة من مشايخ اليهود، فضَعُف الصِّبْيان عن استخراجها من بينهم حياءً من المشايخ، فقَوِي عيسى وتخطَّى رقابهم وأخذها، فقالوا له: ما نظنُّك إلا زَنِيمًا.
ومن اختلاف (5) اليهود في أمره: أنهم يسمُّون أباه -بزعمهم- الذي كان خَطَب مَرْيمَ: يوسفَ بنَ يهودا النجَّار. وبعضهم يقول: إنما هو يوسف الحدَّاد. والنَّصارى تزعم أنها كانت ذاتَ بَعْلٍ وأنَّ زَوْجَها يوسفُ بنُ يعقوب. وبعضهم يقول: يوسف بن هالي (6) . وهم يختلفون أيضًا في آبائه وعددهم إلى إبراهيم، فمن مُقِلٍّ ومن مُكْثِر.
__________
(1) في “د”: “فنزلوا في سفر”.
(2) في “ب، ج”: “عمش”، وفي “غ، ص”: “عمى”.
(3) ساقطة من “ب”.
(4) في لوقا: “طباريوس”.
(5) في “د”: “أخلاق”.
(6) في “د”: “آل”.
(1/379)
فهذا ما عند اليهود، وهم شيوخكم في نقل الصَّلْب وأمره، وإلا فمن المعلوم: أنَّه لم يحضُرْه أحد من النصارى، وإنما حضره (1) اليهود، وقالوا: قتلناه وصَلَبْنَاه، وهم الذين قالوا فيه ما حكيناه عنهم، فإنْ صدَّقْتُموهم في الصَّلْب فَصَدِّقُوهم في سائر ما ذكروه، وإن كذَّبْتُموهم فيما نَقَلُوه عنه فما الموجب لتصديقِهم في الصَّلْب وتكذيبِ أصْدَقِ الصَّادقين الذي قامت البراهينُ القطعيَّة على صِدْقه أنهم ما قتلوه وما صلبوه، بل صانه الله وحماه وحفظه، وكان أكرم على الله وأوْجَهَ عنده من أن يَبْتَلِيَه بما تقولون أنتم واليهود.
وأما خبر ما عندكم أنتم؛ فلا نعلم أمةً من الأمم (2) أشدَّ اختلافًا في معبودها ونبيِّها ودينها منكم. فلو سألتَ الرَّجلَ وامرأتَه وابنته وأمَّه وأباه عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر.
ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدِّين لتفرَّقوا عن أحدَ عَشَر مذهبًا مع اتِّفاق فِرَقِهمُ المشهورةِ (3) اليومَ على القول بالتثليث وعبادة الصليب، وأنَّ المسيح ابنَ مريمَ ليس بعبد صالح ولا نبيٍّ ولا رسولٍ، وأنه إلهٌ في الحقيقة، وأنه هو خالق السموات والأرض والملائكة والنبيِّيْن، وأنه هو الذي أَرْسَل الرُّسل، وأظهر على أيديهم المعجزات والآيات، وأنَّ للعالم إلهًا هو أبٌ والدٌ لم يزل، وأنَّ ابنه نزل من السماء وتجسَّم من روح القُدُس ومن مريم، وصار هو وابنها النَّاسُوتِيُّ (4) إلهًا واحدًا، ومسيحًا
__________
(1) في “د”: “حضرهم”.
(2) ساقط من “ب، غ، ص”.
(3) في “غ، ص”: “المشهودة”.
(4) في “ج”: “السوي”.
(1/380)
واحدًا وخالقًا واحدًا، ورازقًا واحدًا، وحبلت به مريم وولدته، وأُخِذ وصُلِب وأَلِمَ ومات ودُفِن، وقام بعد ثلاثة أيام وصَعِدَ إلى السماء. وجلس عن يمين أبيه.
قالوا: والذي ولدته مريم وعَايَنَهُ الناسُ وكان بينهم: هو الله، وهو ابن الله، وهو كلمة الله، فالقديمُ الأَزَليُّ خالق السموات والأرض هو الذي حبلت به مريم، وأقام هناك تسعةَ أشهرٍ، وهو الذي وُلِدَ ورَضَع وفُطِم، وأكل وشَرِب، وتغوَّط، وأُخِذ وصُلِب وشُدَّ بالحبال وسُمِرَتْ يداه.
ثم اختلفوا: فقالت اليعقوبية -أتباع يعقوب البَرَادعيِّ ولقب بذلك لأنَّ لباسه كان من خرق بَرَادِع الدوابِّ يَرْقَعُ بعضَها ببعضٍ ويلبسها-: إنَّ المسيح طبيعةٌ واحدة منَ طبيعتين: “إحداهما” طبيعة الناسوت، “والأخرى” طبيعة اللاهوت.
وأنَّ هاتين الطبيعتين تَرَكَّبتَا فصار إنسانًا واحدًا، وجوهرًا واحدًا، وشخصًا واحدًا. (فهذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد) (1) هو المسيح، وهو إلهٌ كلُّه، وإنسانٌ كلُّه، وهو شخص واحد، وطبيعة واحدة من طبيعتين.
وقالوا: إنَّ مريم ولدتِ اللهَ، وإنَّ الله -سبحانه- قُبِضَ عليه وصُلِب، وسُمِرَ ومات، ودُفِنَ ثم عاش بعد ذلك.
وقالت “الملكية” (2) -وهم الروم نسبة إلى دين الملِك لا إلى رجل
__________
(1) ساقط من “ج”.
(2) في “غ، ص”: “الملكائية”.
(1/381)
يدعى ملكانا (1) هو صاحب مقالتهم كما يقوله بعض من لا علم له بذلك-: إنَّ الابن الأزَلِيَّ الذي هو الكلمةُ تجسَّدت من مريم تجسُّدًا كاملًا كسائر أجساد الناس، ورُكِّبت في ذلك الجسد نفسًا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنسانًا بالجسد والنفس اللَّذَيْن هما من جوهر الناس، وإلهًا بجوهر اللَّاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناس مثل إبراهيمَ وموسى وداود، وهو شخص واحدٌ لم يزد عدده، وثبت له جوهر اللَّاهوت كما لم يزل، وصحَّ له جوهر الناسوت الذي لَبِسَه ابنُ مريم، وهو شخص واحد -لم يزد عدده- وطبيعتان، ولكلِّ واحدةٍ من الطبيعتين مَشِيئةٌ كاملة، فله بلاهوته مشيئةٌ مِثْلُ الأب، وله بناسوته مشيئةٌ كمشيئة إبراهيم وداود.
وقالوا: إن مريم ولدت “المسيح”، وهو اسم يجمع اللَّاهوتَ والنَّاسوتَ، وقالوا: إن الذي مات هو الذي ولدته مريمُ، وهو الذي وقع عليه الصلب والتسمير والصَّفْع والرَّبْطُ بالحبال (2) . واللَّاهوتُ لم يمت، ولم يَأْلَمْ ولم يُدْفَن.
قالوا: وهو إلهٌ تام بجوهر لَاهُوتِهِ، وإنسانٌ قائم بجوهر نَاسُوتِه، وله المشيئتان: مشيئة اللَّاهوت، ومشيئة النَّاسوت. فَأَتَوا بمثل ما أتى به اليعقوبيةُ من أنَّ مريم ولدت الإلهَ إلا أنهم -بزعمهم- نزَّهوا الإله عن الموت.
وإذا تدبَّرت قولهم وجدتَهُ -في الحقيقة- هو قولُ اليعقوبيَّة مع تنازعهم فيه وتناقضهم فيه، فاليعقوبية أطْرَدُ لكفرهم لفظًا ومعنىً.
__________
(1) في “غ، ص”: “ملكايا”.
(2) في “غ”: “بالجبل”.
(1/382)
وأما النَّسْطُوريَّة: فذهبوا إلى القول بأنَّ المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة وأنَّ طبيعة اللاهوت لما وجدت بالناسوت صار لهما إرادة واحدة، واللَّاهوت لا يقبل زيادةً ولا نقصانًا، ولا يمتزج بشيء. والنَّاسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيحُ -بذلك- إلهًا وإنسانًا، فهو الإله بجوهر اللَّاهوت الذي لا يَقْبل الزيادة والنقصان، وهو إنسانٌ بجوهر (1) النَّاسوت الذي يقبل الزيادة والنقصان. وقالوا: إنَّ مريم ولدت المسيح بناسوته وإنَّ اللاهوت لم يفارقه قط.
وكلُّ هذه الفِرَق استَنْكَفَتْ أن يكونَ المسيحُ عَبْدَ اللهِ، وهو لم يستنكف من ذلك، ورغبت به عن عبوديةِ الله، وهو لم يرغب عنها، بل أعْلى منازلِ (2) العبوديةِ عبوديةُ الله، ومحمدٌ وإبراهيمُ خيرٌ منه، وأعْلَى منازِلهما تكميلُ مراتب العبوديَّة، فاللهُ رَضِيَهُ أنْ يكونَ له عبدًا فلم ترض المثلِّثة بذلك.
وقالت الأَرْيُوسيَّة منهم -: وهم أتباع أريوس- إنَّ المسيح عبد الله كسائر الأنبياء والرسل، وهو مَرْبُوبٌ مخلوقٌ مصنوع، وكان النَّجاشِيُّ على هذا المذهب. وإذا ظَفِرَت، المثلِّثة بواحدٍ من هؤلاء قتلتْه شَرَّ قِتْلة، وفعلوا به ما يُفْعَل بمن سبَّ المسيح وشتمه أعْظَمَ سبٍّ.
والكلُّ من تلك الفرق الثلاث؛ عَوَامُّهم لا تفهم مقالةَ خَوَاصِّهم على حقيقتها، بل يقولون: إنَّ الله تخطَّى مريم كما يتخطَّى الرجلُ المرأةَ، وأحْبَلَها فولدت له ابنًا، ولا يعرفون تلك الهذيانات التي وضعها
__________
(1) في “ص”: “كجوهر”.
(2) في “ص”: “منازله”.
(1/383)
خواصُّهم، فهم يقولون: الذي تُدَنْدِنُون حولَه نحن نعتقده بغير حاجة منا إلى معرفة الأقانيم الثلاثة من الطبيعتين والمشيئتين، وذلك للتهويل والتطويل، وهم يُصَرِّحون بأنَّ مريم والدةُ الإله، والله أبوه، وهو الابن. فهذا الزوج، والزوجة، والولد.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88 – 95].
فهذه أقوال أعداء المسيح من اليهود والغَالِيْنَ فيه من النَّصارى المثلِّثة عُبَّاد الصليب.
فبعث اللهُ محمدًا – صلى الله عليه وسلم – بما أزال الشُّبْهةَ في أمره وكشف الغُمَّة، وبرَّأ المسيح وأمَّه (1) من افتراء اليهود وبَهْتِهم وكَذِبهم عليهما، ونزَّه ربَّ العالمين وخالق المسيحِ وأمَّه مما افتراه عليه المثلِّثة عُبَّادُ الصليب الذين سَبُّوه أعظم السَّبِّ، فأنزَل المسيحَ أخاه بالمنزلة التي أنزله الله بها، وهي أشرف منازله، فآمن به وصدَّقه، وشهد له بأنّه عَبْدُ الله ورسولُه وروحُه وكلمتُه ألقاها إلى مريم العذراء البَتُولِ الطاهرةِ الصدِّيقة سيدةِ نساء العالمينَ في زمانها، وقرَّر معجزاتِ المسيح وآياتِه، وأخبر عن ربِّه تعالى بتَخْليد مَنْ كَفَرَ بالمسيح في النار، وأن ربَّه تعالى أكْرَمَ عَبْدَه ورسولَه ونزَّهه وصانه أن ينال إخوانُ القِرَدَةِ منه ما زعمتْه النَّصارى أنهم نالوه منه؛ بل رفعه إليه مؤيَّدًا منصورًا لم يَشُكْهُ أعداؤه بِشَوْكةٍ، ولا نالته أيديهم
__________
(1) في “غ، ص”: “واحد”.
(1/384)
بأذى، فرفعه إليه وأسكنه سماءه، وسيُعِيْده إلى الأرض ينتقم به من مسيحِ الضَّلال وأتباعِه، ثم يَكْسرُ به الصَّليبَ، ويقتلُ به الخِنْزيرَ، ويُعْلِي به الإِسلامَ، ويَنْصُر به مِلَّةَ أخيه وأولى الناس به محمدِ بن عبد الله -عليهما أفضل الصلاة والسلام-.
فإذا وضع هذا القَوْل في المسيح في كِفَّة وقَوْلُ عُبَّاد الصليب المثلِّثة في كِفَّة تبيَّن لكلِّ من له أدنى مُسْكَةٍ من عَقْلٍ ما بينهما من التفاوت، وأنَّ تفاوتَهما كتفاوتِ ما بينه وبين قول المغضوب عليهم فيه، وبالله التوفيق.
فلولا محمد – صلى الله عليه وسلم – لما عَرَفْنَا أنَّ المسيح ابنَ مَرْيَمَ -الذي هو رسول الله وعبده وكلمته وروحه- موجودٌ أصلًا؛ فإنَّ هذا المسيح الذي أثْبَتَهُ اليهود مِن شِرَار خلق الله ليس بمسيح الهُدى.
والمسيح الذي أَثْبَتَه النَّصارى من أبْطَلِ الباطل، لا يمكن وجوده في عقلٍ ولا فطرةٍ، ويستحيل أن يدخل في الوجود أعْظَمَ استحالةٍ، ولو صحَّ (1) وُجُودُه لبطلتْ أدلةُ العقول، ولم يَبْقَ لأحدٍ ثقةٌ بمعقولٍ أصلًا؛ فإنَّ استحالة وُجُودِه فوقَ استحالةِ جميع المُحَالات، ولو صحَّ ما يقولون (2) لَبَطَلَ العالَم واضمحلَّتِ السمواتُ والأرض، وعُدِمَتِ الملائكةُ والعَرْشُ والكرسيُّ، ولم يكن بعثٌ ولا نُشُورٌ، ولا جَنَّةٌ ولا نارٌ.
ولا يستعجب من إطباق أُمَّة الضَّلال -الذين شهد الله أنهم أضلُّ من الأنعام- على ذلك، فكلُّ باطلٍ في الوجود يُنْسَبُ إلى أمةٍ من الأمم. فإنها مُطْبِقَةٌ عليه، وقد تقدم ذِكْرُ إطباقِ الأمم العظيمة -التي لا يحصيها
__________
(1) في “ب، ج”: “أمكن”.
(2) في “غ، ص”: “يقول”.
(1/385)
إلا الله- على الكفر والضلال بعد معاينةِ الآياتِ البَيِّنَاتِ، فَلِعُبَّادِ الصَّليب أسْوَةٌ بإخوانهم من أهل الشِّرْك والضَّلال!.
فصل
في ذكر استنادهم في دينهم إلى أصحاب المجامع الذين كفَّر بعضُهم بعضًا، (ولعن بعضهم بعضًا) (1)، وتَلَقِّيْهِم أُصولَ دينهم عنهم.
ونحن نذكر الآن الأمر كيف ابتدأ، وتوسط، وانتهى، حتى كأنك تراه عِيَانًا (2).
كان الله سبحانه قد بشَّر بالمسيح على ألسنة أنبيائه، من لَدُنْ موسى إلى زمن (3) داود ومَنْ بَعْدَه من الأنبياء. وأكْثَرُ الأنبياء تبشيرًا به: داود. وكانت اليهود تنتظره وتصدِّق به قبل مبعثه، فلما بُعث كفروا به بغيًا وحسدًا، وشرَّدُوه في البلاد، وطَرَدُوه وحَبَسُوه (4)، وهَمُّوا بقتله مرارًا إلى أن أجمعوا على القبض عليه وعلى قَتْله، فصانه اللهُ وأنقذَه من أيديهم ولم يُهنْهُ بأيديهم، وشُبِّه لهم أنهم صَلَبُوه ولم يَصْلِبُوه، كما قال تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ
__________
(1) ساقط من “غ، ص”.
(2) انظر: “الجواب الصحيح” لابن تيمية: (4/ 183) وما بعدها، فقد لخص المصنف هذا الفصل من كلامه، ومما نقله ابن تيمية رحمه الله عن المؤرخ ابن البطريق في كتابه “نظم الجوهر” أو: “التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق”: (1/ 86) وما بعدها.
(3) في “ب، ج”: “لدن”.
(4) في “ج”: “حسدوه”.
(1/386)
مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 156 – 158].
وقد اخْتُلِف في معنى قوله: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}. (فقيل: المعنى ولكن شُبِّه للذين صلبوه بأن ألقي شبهه على غيره فَصَلَبوا الشَّبَهَ.
وقيل: المعنى) (1) ولكن شُبِّه للنَّصارى، أي: حصلت لهم الشبهة في أمره، وليس لهم علم بأنّه ما قُتِل وما صُلِبَ، ولكن لما قال أعداؤه: إنهم قتلوه وصلبوه واتَّفق رَفْعُه من الأرض وقعتِ الشبهةُ في أمره، وصدَّقهم النصارى في صلبه لِتَتِمَّ الشَّناعةُ عليهم، وكيف ما كان فالمسيح -صلوات الله وسلامه عليه- لم يُقْتَل ولم يُصْلب يقينًا لا شكَّ فيه.
ثم تفرَّق الحَوَارِيُّون في البلاد -بعد رَفْعِه- على دينه ومنهاجه يَدْعُون الأمم إلى توحيد الله ودينه، والإيمان بعبده ورسوله ومسيحه، فدخل كثير من الناس في دينه ما بين ظَاهرٍ مشهور ومختفٍ مَسْتورٍ، وأعداءُ الله -اليهود- في غاية الشدة (2) والأذى لأصحابه وأتباعه، ولَقِيَ تلاميذ المسيح وأتباعُه من اليهود ومن الروم شِدَّةً شديدةً؛ من قَتْلٍ وعذابٍ، وتشريد وحبس، وغير ذلك، وكان اليهود في زمن المسيح في ذمَّة الروم، وكانوا ملوكًا عليهم، وكَتَب نائبُ الملِكِ ببيت المقدس إلى الملك يُعْلِمُه بأمر المسيح وتلاميذه، وما يفعل من العجائب الكثيرة من إبراء الأكْمَهِ والأَبْرَصِ وإحياء الموتى، فهمَّ أنْ يُؤْمِنَ به ويَتَّبِعَ دينه فلم يُتَابِعْهُ أصحابه، ثم هلك ووَلِيَ بعده ملكٌ آخر، فكان شديدًا على
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من “ص”.
(2) في “غ، ص”: “الشرور والشدة”.
(1/387)
(تلامذة المسيح) (1) .
ثم مات وَوَلِيَ بعده آخر، وفي زمنه كتب “مرقس” إنْجِيْلَه بالعبرانيَّة، وفي زمانه صار إلى الإسكندرية، فدعا إلى الإيمان بالمسيح، وهو أول شخص جعل بَتْرَكًا على الإسكندرية، وصَيَّر (2) معه اثني عَشَرَ قسِّيسًا -على عدة نقباء بني إسرائيل في زمن موسى- وأمَرَهُمْ إذا مات البَتْرَكُ أن يختاروا من الاثني عشر واحدًا يجعلونه مكانه، ويضع الاثْنَا عَشَر أيْدِيَهُم على رأسه ويبرِّكونه، ثم يختارون رجلًا فاضلًا قسيسًا يصيِّرونه تمام العِدَّة.
ولم يزل أمر القوم كذلك إلى زمن قسطنطين. ثم انقطع هذا الرسم واصطلحوا على أن ينصِّبوا البَتْركَ من أيِّ بلد كان من أولئك القسِّيسيْنَ أو من غيرهم، ثم سَمَّوه “بابا” (3) ومعناه: أبو الآباء. وخرج “مرقس” إلى بَرْقَةَ يدعو الناس إلى دين المسيح.
ثم ملك آخر فأهاج على أتْبَاع المسيح الشَّرَّ والبلاءَ، وأخَذَهُمْ بأنواع العذاب، وفي عصره كتب “بطرس” -رئيسُ الحَوارِيِّيْن- إنجيلَ مرقس عنه بالرُّوميَّة، ونسبه إلى مرقس.
وفي عصره كتب لوقا “إنجيله” بالرُّوميَّة لرجل شريف من عظماء الروم، وكتب له “الأبركسيس” الذي فيه أخبار التلاميذ (4) . وفي زمنه
__________
(1) في “غ، ص”: “تلامذته”.
(2) في “ج”: “جعل”.
(3) في “غ، ص”: “يا باس”.
(4) وهو المسمى أيضًا: “أعمال الرسل” مطبوع ضمن العهد الجديد. انظر: “محاضرات في النصرانية” للشيخ محمد أبو زهرة، ص “49”، “الجواب =
(1/388)
صُلِب “بطرس”، وزعموا أنَّ بطرس قال له: إن أردت أن تَصْلِبَنِي فَاصْلِبْني مُنَكَّسًا لئلا أكون مِثْلَ سيِّدي المسيح فإنَّه صُلِبَ قائمًا، وضرب عنق بولس بالسيف، وأقام بطرس بعد صعود المسيح اثنتين وعشرين سنة، وأقام “مرقس” بالإسكندريَّة وبَرْقَةَ سبع سنين يدعو الناس إلى الإيمان بالمسيح، ثم قُتِلَ بالإسكندريَّة وأُحْرِق جسدُه بالنار.
ثم استمرَّتِ القياصرةُ ملوك الروم على هذه السيرة إلى أن مَلَكَ مِصْرَ قَيْصَرٌ يسمى “طيطس” (1) ، فخرَّب بيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة بعد أن حاصرها، وأصاب أهلَها جوعٌ عظيم، وقَتَلَ مَنْ كان بها من ذكر وأنثى حتى كانوا يَشُقُّون بطون الحُبَالى ويضربون بأطفالهنَّ الصُّخورَ، وخرَّب المدينة وأضْرَمَ فيها النار، وأُحْصِي القتلى على يده فَبَلغُوا ثلاثةَ آلافِ ألفٍ.
ثم مَلَكَ ملوك آخرون؛ فكان منهم واحدٌ شديد على اليهود جدًّا فبلَّغوه أن النصارى يقولون: إن المسيح مَلِكُهم وأنَّ مُلْكَهُ يدوم إلى آخر الدهر، فاشتدَّ غضبُه وأمَرَ بقتل النصارى وأن لا يبقى في مُلْكِه (2) نصرانيٌّ. وكان “يوحنا” صاحب الإنجيل هناك فهرب، ثم أمر المَلِك بإكرامِهِمْ وتَرْكِ الاعتراض عليهم.
ثم ملك بعده آخرُ فأثار على النصارى بلاءً عظيمًا، وقتل بتركَ أنطاكية برومية، وقَتَلَ أُسْقُفَّ بيت المقدس وصَلَبَهُ، وله يومئذ مائة وعشرون سنة، وأمر باستعباد النَّصارى فاشتدَّ عليهم البلاءُ إلى أن
__________
= الصحيح”: (4/ 189).
(1) “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 99).
(2) في “ب، ج”: “مملكته”.
(1/389)
رَحِمَتْهُمُ الرُّومُ. وقال له وزراؤُه: إنَّ لهم دينًا وشريعةً وإنه لا يَحِلُّ استعبادُهم، فكفَّ عنهم، وفي عصره كتب يوحنا إنجيله بالروميَّة، وفي ذلك العصر رجع اليهود إلى بيت المقدس، فلما كثروا وامتلأت منهم المدينة عَزَمُوا على أن يملِّكوا منهم ملكًا. فبلغ الخَبَرُ قَيْصَرَ فوجَّه إليهم جيشًا فقتل منهم من لا يُحْصَى.
ثم ملك بعده آخر، وأخذ الناسَ بعبادةِ الأصنام، وقتل من النصارى خَلْقًا كثيرًا، ثم ملك بعده ابنُه، وفي زمانه قُتِلَ اليهود ببيت المقدس قتلًا ذريعًا، وخُرِّب بيت المقدس. وهربَ اليهودُ إلى مِصْرَ والشَّامِ والجبال والأغْوَار، وتقطَّعوا في الأرض. وأمر المَلِكُ أن لا يسكنَ بالمدينة يهوديٌّ، وأن يُقْتَلَ اليهودُ ويُسْتأصَلُوا، وأن يَسْكُنَ المدينة اليُونَانِيُّونَ، وامتلأت بيت المقدس من اليونانِيِّين، والنصارى ذِمَّةٌ تحت أيديهم، فرَأَوْهُمْ يأتون إلى مَزْبَلَةٍ هناك فَيُصَلُّون فيها، فمنعوهم من ذلك، وبنوا على المزبلة هيكلًا (باسم “الزهرة”) (1) ، فلم يمكن النصارى بعد ذلك قِربانُ ذلك الموضع، ثم هلك هذا الملك، وقام بعده آخر، فنصَّب (2) يهودا أسْقُفًّا على بيت المقدس.
قال ابن البطريق (3) : فمن يعقوب أُسقُفِّ بيت المقدس الأوّل إلى يهودا أسْقُفِّهِ هذا كانت الأساقفة الذين على بيت المقدس كلهم مختونين (4) .
__________
(1) في “الجواب الصحيح”: “على اسم”.
(2) في “غ، ص”: “قصَّه”.
(3) “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 103) وانظر: “الجواب الصحيح”: (4/ 195) وما بعدها.
(4) في “ص”: “مجونين”، وفي “د”: “مجبوبين”.
(1/390)
ثم وَلِيَ بعده آخر، وأثار على النصارى بلاء شديدًا وحربًا طويلًا ووقع في أيامه قَحْطٌ شديدٌ كاد الناس أن يَهْلَكُوا فسألوا النصارى أن يَبْتَهِلُوا إلى إلههم، فَدَعَوا وابتهلوا إلى الله فمطروا (1) وارتفع عنهم القَحْطُ والوَبَاءُ.
قال ابن البِطْرِيْق (2) : وفي زمانه كتب بترك الإسكندرية إلى أُسْقُفّ بيت المقدس وبترك أنطَاكِيَة وبترك رومية في كتاب فصح النَّصارى وصومهم وكيف يستخرج من فصح اليهود، فوضعوا فيها كتبًا (3) على ما هي اليوم.
قال: وذلك أن النصارى كانوا بعد صعود المسيح إذا عيَّدوا عِيْدَ الغِطَاس من الغد يصومون أربعين يومًا، (ويفطرون كما فعل المسيح، لأنه لما اعتمد بالأردن خرج إلى البريَّة فأقام بها أربعين يومًا) (4) ، وكان النَّصارى إذا أفصح اليهود عيَّدوا هم الفصح، فوضع هؤلاء البتاركة حسابًا للفصح ليكون فِطْرُهُمْ يوم الفصح، وكان المسيح يُعَيِّد مع اليهود في عيدهم، واستمرَّ على ذلك أصحابُه إلى أن ابتدعوا تغيير الصوم فلم يصوموا عَقِيْبَ الغِطَاس، بل نقلوا الصوم إلى وقتٍ لا يكون عِيْدُهم مع اليهود.
ثم مات ذلك الملك وقام بعده آخر، وفي زمنه كان “جالينوس” وفي زمنه ظهرت الفُرْس وغلبت على بَابِل وآمِد وفارس. وتملَّك أردشير
__________
(1) ساقطة من “ج”.
(2) انظر: “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 104).
(3) في “ب، ج”: “كتابًا”.
(4) ساقط من “ص، غ”.
(1/391)
ابن بابك في إصطخر، وهو أول ملكٍ مَلَك على فارس في المدة الثانية.
ثم مات قيصر وقام (1) بعده آخر، ثم آخر وكان شديدًا على النصارى عذَّبهم عذابًا عظيمًا (2) ، وقتل خَلْقًا كثيرًا منهم، وقتل كلَّ عالم فيهم، ثم قتل من كان بمصر والإسكندرية من النصارى، وهَدَم الكنائس، وبنى بالإسكندرية هيكلًا وسمّاه هيكل الآلهة (3) .
ثم قام بعده قيصر آخر، ثم آخر وكانت النصارى في زمنه في هدوء وسلامة، (وكانت أُمُّه تحبُّ النّصارى) (4) .
ثم قام بعده آخر فأثار على النصارى بلاء عظيمًا، وقتل منهم خَلْقًا كثيرًا، وأخذ الناسَ بعبادة الأصنام، وقتل من الأساقفة خلقًا كثيرًا، وقتل (5) بترك أنطاكية فلما سمع بترك بيت المقدس بقتله هرب وترك الكرسي، ثم هلك، وقام بعده آخر، ثم آخر.
وفي أيام هذا ظهر “ماني” الكذَّاب، وزعم أنَّه نبيٌّ، وكان كثير الحِيَل والمَخَارِيْقِ، فأخذه بهرام ملك الفرس فشقَّه نصفين، وأخذ من أتباعه مائتي رجلٍ، فغرس رؤوسهم في الطِّين مُنَكَّسِيْن حتى ماتوا.
ثم قام من بعده فيلبس فآمن بالمسيح، فوثب عليه بعض قُوَّاده فقتله.
__________
(1) في “ب، ج”: “وملك”.
(2) في “ب، ج، د”: “شديدًا”.
(3) وهو بيت الأصنام.
(4) في “د”: “وكانت تحت ذمة. أي تحت أيدي الروم”.
(5) في “د” زيادة: “وقتل كل عالم فيهم”. وليست في “الجواب الصحيح”.
(1/392)
ثم قام بعده “دانقيوس (1) ” (-ويسمى دقيانوس-) (2) فلقي النصارى منه بلاءً عظيمًا، وقَتَل منهم ما لا يُحْصَى، وقَتَل بترك رومية، وبنى هيكلًا عظيمًا، وجعل فيه الأصنام، وأمر أن يُسْجَد لها ويُذْبَح لها، ومن لم يفعل قُتِل، فقتل خلقًا كثيرًا من النصارى، وصُلِبوا على الهيكل، واتخذ من أولاد عظماء المدينة سبعة غلمان (3) فجعلهم خاصَّته وقدَّمهم على جميع مَنْ عنده، وكانوا لا يسجدون للأصنام، فأُعْلِم الملك بخبرهم فحبسهم ثم أطلقهم، وخرج إلى مخرج له، فأخذ الفتيةُ كلَّ ما لهم فتصدَّقوا به، ثم خرجوا إلى جبل عظيم فيه كهف كبير فاختفوا فيه، وصبَّ الله عليهم النعاس فناموا كالأموات، وأمر الملك أن يُبْنَى عليهم بابُ الكهف ليموتوا، فأخذ قائدٌ من قواده صفيحة من نحاس فكتب (4) فيها أسماءهم وقصتهم وما تمَّ مع دقيانوس وصيَّرها في صندوق من نحاس، ودفنه داخل الكهف وسدَّه. ثم مات الملك (5) .
ثم قام بعده قيصر آخر، وفي زمنه جعل في أنطاكية بتركًا يسمى “بولس الشمشاطي” (6) وهو أول من ابتدع في شأن المسيح اللاهوت والناسوت، وكانت النصارى قبله كلمتُهم واحدة؛ أنَّه عبدٌ رسولٌ مخلوق مصنوع مربوب، لا يختلف فيه اثنان منهم. فقال بولس هذا
__________
(1) في “الجواب الصحيح”: “داقنوس”.
(2) ساقط من “غ، ص، ب”.
(3) في “د”: “علماء”.
(4) ساقطة من “د”.
(5) انظر: “الجواب الصحيح”: (4/ 203 – 204). وراجع “تفسير البغوي”: (3/ 7 – 16)، “تفسير ابن كثير”: (3/ 76) وما بعدها.
(6) في “ب، غ، ص”: “السمساطي” وفي “تاريخ ابن البطريق”: “السميساطي”.
(1/393)
-وهو أول من أفسد (دين النصارى) (1) -: إن سيدنا المسيح خَلَقَ من اللَّاهوت إنسانًا كواحد منا في جوهره، وأن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصْطُفِي ليكون مخلِّصًا للجوهر الإنسيِّ صَحِبَتْه النعمةُ الإلهيَّة فحلَّت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي ابن الله. وقال: إن الله جوهرٌ واحدٌ وأُقْنُومٌ واحدٌ (2) .
قال سعيد بن البِطْرِيْق (3) : وبعد موته اجتمع ثلاثة عشر أُسْقُفًّا في مدينة أنطاكية ونظروا في مقالة “بولس”، فأوجبوا عليه اللَّعْن، فلعنوه ولعنوا من يقول بقوله، وانصرفوا.
ثم قام قيصر آخر فكانت (4) النصارى في زمنه يُصَلُّون في المطامير والبيوت فزعًا من الروم، ولم يكن بترك الإسكندرية يظهر خوفًا أن يقتل، فقام بارون بتركًا فلم يزل يداري الروم حتى بني بالإسكندرية كنيسة (5) .
ثم قام قياصرة أُخَر، منهم اثنان تملَّكا على الروم إحدى وعشرين سنة فأثارا على النصارى بلاءً عظيمًا وعذابًا أليمًا وشدة تجلُّ عن الوصف من القتل والعذاب، واستباحة الحريم والأموال، وقتل ألوف مؤلَّفة من النصارى، وعذَّبوا مار جرجس أصناف (6) العذاب، ثم قتلوه.
وفي زمنهما ضربت عنق بطرس بترك الإسكندرية، وكان له
__________
(1) في “د”: “النصارى وأفسد دينهم”.
(2) انظر: “ابن البطريق”: (1/ 114)، “الجواب الصحيح”: (4/ 204 – 205).
(3) انظر: “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 112 – 124).
(4) في “د”: “فكادت”.
(5) في “الجواب الصحيح”: “كنيسة حنا، ومار مريم”.
(6) في “ج”: “أنواع”.
(1/394)
تلميذان (1) ، وكان في زمنه “أريوس” يقول: إن الأب وحده الله الفرد الصمد، والابن مخلوق مصنوع، وقد كان الأب إذْ لم يكن الابن، فقال بطرس لتلميذَيْه: إن المسيح لعن أريوس فاحذرا أن تقبلا قوله، فإني رأيت المسيح في النوم مشقوق الثوب، فقلت: يا سيدي! من شقَّ ثوبَك؟ فقال لي: أريوس فاحذروا أن تقبلوه أو يدخل معكم الكنيسة.
وبعد قتل بطرس بخمس سنين صيَّر أحد تلميذيه بتركًا على الإسكندرية فأقام ستة أشهر ومات، ولما جرى على أريوس ما جرى أظهر أنه قد رجع عن مقالته، فقبله هذا البترك، وأدخله الكنيسة، وجعله قسيسًا.
ثم قام قيصر آخر فجعل يتطلب النصارى ويقتلهم حتى صبَّ الله عليه النَّقِمَة فهلك شَرَّ هلكة.
ثم قام بعده قيصران: (أحدهما) مَلَك الشام وأرض الروم وبعض الشرق، (والآخر) روميةَ وما جاورها، وكانا كالسِّباع الضارية على النصارى، فَعَلَا بهم من القتل والسَّبي والجلاء ما لم يفعله بهم مَلِكٌ قبله، وملك معهما “فسطس” (2) أبو قسطنطين، وكان ديِّنًا (3) يبغَض الأصنام محبًّا للنصارى، فخرج إلى ناحية الجزيرة والرُّها، فنزل في قرية من قرى الرُّهَا فرأى هناك امرأة جميلة يقال لها “هيلانة”، وكانت قد تنصَّرت على يدي أُسْقُفّ الرُّهَا وتعلَّمت قراءة الكتب، فخطبها قسطنطين من أبيها، فزوَّجه إياها، فحبلت منه وولدت قسطنطين، فتربّى بالرُّها،
__________
(1) في “غ”: “تلميذ”.
(2) في الأصل “قسطنطين” والمثبت من “الجواب الصحيح” عن ابن البطريق. وهو الصواب. والله أعلم.
(3) في “ب، ج”: “مبغضًا”.
(1/395)
وتعلَّم حكمة اليونان، وكان جميل الوجه قليل الشرِّ مُحبًّا للحكمة.
وكان “عليانوس” (1) -ملك الروم حينئذ- رجلًا (فاجرًا، شديد البأس، مبغضًا للنصارى جدًّا، كثير القتل فيهم، مُحبًّا للنساء، لم يترك للنصارى بنتًا جميلة) (2) إلا أفسدها، وكذلك أصحابه، وكان النصارى في جهد جهيد معه، فبلغه خبر قسطنطين وأنه غلامٌ هادٍ، قليلُ الشّرِّ، كثيرُ العِلْم. وأخبره المنجِّمون والكهنة أنه سيملك مُلْكًا عظيمًا، فهمَّ بقتله. فهرب قسطنطين من الرُّها، ووصل إلى أبيه فسلَّم إليه الملك، ثم مات أبوه، وصبَّ الله على “عليانوس” أنواعًا من البلاء حتى تعجب الناس مما ناله، ورَحِمَهُ أعداؤه مما حلَّ به، فرجع إلى نفسه وقال: لعل هذا بسببِ ظلم النصارى. فكتب إلى جميع عُمَّاله أن يُطْلِقُوا (3) النصارى من الحبوس، وأن يكرموهم ويسألوهم أن يَدْعُوا له في صلواتهم، فوهب الله له العافيةَ، ورجع إلى أفضل ما كان عليه من الصحة والقوة، فلما صحَّ وقوي رجع إلى شَرٍّ مما كان عليه من الصحة (4) ، وكتب إلى عماله أن يقتلوا النصارى ولا يَدَعُوا في مملكته نصرانيًّا، ولا يسكنوا له مدينة ولا قرية، فكان القتلى يحملون على العجل ويُرْمى بهم في البحر والصحاري.
وأما قيصر الآخر، الذي كان معه، فكان شديدًا على النصارى، واستعبد من كان برومية من النصارى، ونَهَبَ أموالَهم، وقتل رجالَهم
__________
(1) في “الجواب الصحيح”: “علانيوس”.
(2) ساقط من “غ، ص”.
(3) في “ج” تصحفت إلى: “يقتلوا”.
(4) ساقط من “ب، ج”.
(1/396)
ونساءَهم وصبيانَهم.
فلما سمع أهل رومية بقسطنطين، وأنه مبغض للشر محبٌّ للخير، وأن أهل مملكته معه في هدوء وسلامة: كتب رؤساؤهم إليه يسألونه أن يخلِّصهم من عبودية ملكهم، فلما قرأ كتبهم اغتمَّ غمًّا شديدًا، وبقي متحيرًا لا يدري كيف يصنع!
قال سعيدُ بنُ البِطْريقِ (1) : فظهر له نِصْفَ النهار في السماء صليبٌ من كوكب مكتوبًا حوله: بهذا تغلب. فقال لأصحابه: رأيتم ما رأيتُ؟ قالوا: نعم. فآمن حينئذ بالنصرانية، فتجهَّز لمحاربة قيصر المذكور، وصنع صليبًا كبيرًا من ذهب وصيَّره على رأس البَنْد (2) ، وخرج (3) بأصحابه فأُعطِي النصر على قيصر، فقتل من أصحابه مقتلةً عظيمة، وهرب الملك (ومَنْ بقي من أصحابه) (4) ، فخرج أهل رومية إلى قسطنطين بالإكليل الذهب، وبكل أنواع اللهو واللعب، فتلقَّوه وفرحوا به فرحًا عظيمًا، فلما دخل المدينة أكرم النصارى وردَّهم إلى بلادهم بعد النفي والتشريد، وأقام أهلُ رومية سبعة أيام يُعَيّدون (5) للملك وللصليب.
فلما سمع عليانوس جَمَع جموعَه وتجهَّز (للقتال مع) (6) قسطنطين،
__________
(1) انظر: “ابن البطريق”: (1/ 119)، “الجواب الصحيح”: (4/ 212 – 213).
(2) هو العَلَم الكبير.
(3) في “غ”: “عرَّج”.
(4) ساقط من “د”.
(5) في “د”: “يعبدون”.
(6) في “د”: “لقتال”.
(1/397)
فلما وقعت العين في العين انهزموا وأخَذَتْهُمُ السيوف، وأفلت عليانوس فلم يزل من قرية إلى قرية حتى وصل إلى بلدة، فجمع السَّحَرَة والكَهَنَةَ والعرَّافِيْنَ الذين كان يحبُّهم (ويَقْبَل منهم) (1) ، فضرب أعناقهم لئلا يقعوا في يد قسطنطين.
وتنصَّر قسطنطين، وأمر ببناء الكنائس، وأقام (2) في كل بلد، (وأن يُخرج) (3) من بيت المال الخراجُ فيما تعمل به أبنية الكنائس، وقام بدين النصرانية حتى ضرب بِجِرَانِه في زمانه، فلما تمَّ له خمس عشرة سنة من ملكه حاجَّ النصارى في أمر المسيح واضطربوا، فأمر بالمجمع في مدينة نيقية وهي التي رتبت فيها “الأمانة” بعد هذا المجمع -كما سيأتي- فأراد أريوس أن يدخل معهم فمنعه بترك الإسكندرية، وقال: إن بطرسًا قال لهم: إنَّ الله لعن أريوس فلا تَقْبَلُوه ولا تُدْخِلوه الكنيسة.
وكان على مدينة أَسْيُوط من عمل مصر أُسْقُفّ يقول بقول أريوس فلعنه أيضًا، وكان بالإسكندرية هيكل عظيم على اسم زُحَل (4) ، وكان فيه صنم من نحاس يسمى ميكائيل، وكان أهل مصر والإسكندرية في اثني عشر يومًا من شهر هتور وهو تشرين الثاني يعيِّدون لذلك الصنم عيدًا عظيمًا، ويذبحون له (الذبائح الكثيرة.
فلما ظهرت النصرانية بالإسكندرية أراد بُتْركُها أن يكسر الصنم
__________
(1) في “ج”: “وأمر”.
(2) ساقط من “ب، ج”.
(3) ساقط من “ص، ب، غ”.
(4) في “ب، ج”: “رجل”.
(1/398)
ويبطل الذبائح له) (1) ، فامتنع عليه أهلها، فاحتال عليهم بحيلة، وقال: لو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله لكان أَوْلى؛ فإن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر! فأجابوه إلى ذلك، فكسر الصنم وجعل منه صليبًا، وسمى الهيكل كنيسة ميكائيل، فلما منع بترك الإسكندرية (أريوس من دخول الكنيسة ولعنه، خرج أريوس) (2) مستعديًا عليه ومعه أسقفان فاستغاثوا إلى قسطنطين.
وقال أريوس: إنه تعدى عليَّ وأخرَجَنِي من الكنيسة ظلمًا. وسأل الملك أن يشخص بترك الإسكندرية (يناظره قُدَّام الملك، فوجَّه قسطنطين برسول إلى الإسكندرية) (3) ، فأشخص البترك وجمع بينه وبين أريوس ليناظره.
فقال قسطنطين لأريوس: اشرح مقالتك.
قال أريوس: أقول: إنَّ الأب كان إذْ لم يكن الابن، ثم إنه أحدث الابنَ فكان كلمةً له إلا أنه مُحْدَثٌ مخلوق، ثم فوَّض الأمر إلى ذلك الابن المسيح المسمى كلمة، فكان هو خالق السموات والأرض وما بينهما، كما قال في إنجيله إذ يقول: “وهب لي سلطانًا على السماء والأرض” فكان هو الخالق لهما بما أعطي من ذلك. ثم إن الكلمة تجسَّدت من مريم العذراء ومن روح القدس فصار ذلك مسيحًا واحدًا،
فالمسيح الآن معنيان: كلمة وجسد إلا أنهما جميعًا مخلوقان.
__________
(1) ساقط من “غ، ص”.
(2) ما بين القوسين ساقط من “ج”.
(3) ما بين القوسين ساقط من “ج، غ، ص”.
(1/399)
فأجابه عند ذلك بترك الإسكندرية، وقال: تخبرنا الآن أيما أوجب علينا عندك: عبادة مَنْ خَلَقَنَا أو عبادة من لم يخلقنا؟
قال أريوس: بل عبادة مَنْ خَلَقَنا.
فقال له البترك: فإن كان خالقنا الابن كما وصفت، وكان الابن مخلوقًا، فعبادة الابن المخلوق أوجب (1) من عبادة الأب الذي ليس بخالق، بل تصير عبادة الأب الذي خلق الابن كفرًا، وعبادة الابن المخلوق إيمانًا، وذلك من أقبح الأقاويل.
فاستحسن الملك وكلُّ مَنْ حضر مقالة البترك، وشنع عندهم مقالة أريوس، ودارت بينهما أيضًا مسائل كثيرة، فأمر قسطنطينُ البَتْركَ أن يكفِّر أريوس وكلَّ من قال بمقالته.
فقال له: بل يوجِّه الملك بشخص للبتاركة (2) والأساقفة حتى يكون لنا مجمعٌ، ونصنع فيه قضيةً، ويكفِّر أريوس، ويَشْرَح الدِّين، ويوضِّحه للناس (3) .
فبعث (4) قسطنطينُ الملكُ إلى جميع البلدان فجمع البتاركة والأساقفة فاجتمع في مدينة نيقية بعد سنة وشهرين (5) ألفان وثمانية
__________
(1) صحفت في “غ، ص” إلى “روحت”.
(2) في “غ، ص”: “للمشاركة”.
(3) انظر: “الجواب الصحيح”: (4/ 214 – 220).
(4) انظر: “الجواب الصحيح”: (4/ 220) وما بعدها، “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 114) وما بعدها.
(5) في “د”: “شهر”.
(1/400)
وأربعون أُسْقُفًّا، فكانوا مُخْتَلِفِي الآراء، (مختَلفِي الأديان) (1) .
فمنهم من يقول: المسيح ومريم إلهان من دون الله وهم المريمانية (2) .
ومنهم من يقول: المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى لإيقاد الثانية منها.
ومنهم من كان يقول: لم تحبل مريم لتسعة أشهر، وإنما مرَّ نور في بطن مريم كما يمرُّ الماء في الميزاب، لأنَّ كلمة الله دخلت من أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها. وهذه مقالة “ألبان” (3) وأشياعه.
ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطُفي ليكون مخلِّصًا للجواهر الإنسية، صحبته النعمة الإلهية فحلَّت منه بالمحبة والمشيئة فلذلك سمي ابن الله، ويقولون: إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد (4) يسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس وهذه مقالة بولص وأشياعه.
ومنهم من كان يقول: ثلاثة آلهة لم تزل (5) ؛ صالح وطالح وعدل
__________
(1) ساقط من “د”.
(2) في “ج”: “المريانية”.
(3) في “غ”: “اليان” بالمثناة. وهي عند ابن البطريق أيضًا.
(4) ساقط من “غ، ص”.
(5) ساقط من “ج”.
(1/401)
بينهما. وهذه مقالة مرقيون وأشياعه.
ومنهم من كان يقول: ربنا هو المسيح. وهي مقالة ثلاثمائة وثمانية عشر (1) أسقفًا.
قال ابن البطريق (2) : ولما سمع قسطنطين الملك مقالتهم عجب من ذلك وأخلى لهم دارًا وتقدَّم لهم بالإكرام والضيافة، وأمرهم أن يتناظروا فيما بينهم لينْظُرَ من معه الحقُّ فيتَّبِعه، فاتَّفقَ منهم ثلاثمائة (وثمانية عشر) (3) أسقفًّا على دينٍ واحد ورأي واحدٍ.
وناظروا بقية الأساقفة المختلفين ففَلَجُوا عليهم في المناظرة، وكان باقي الأساقفة مختلِفِي الآراء والأديان، فصنع الملك للثلاثمائة (والثمانية عشر) (4) أسقفًّا مجلسًا عظيمًا وجلس في وَسْطِه، وأخذ خاتمه وسيفه (5) وقضيبه فدفع ذلك إليهم، وقال لهم: قد سلَّطْتُكم اليومَ على المملكة، فاصنعوا ما بَدَا لكم، وما ينبغي لكم أن تُضَيِّعوا (6) ما فيه قَوَامُ الدِّين وصلاحُ الأمة. فباركوا على الملك وقلَّدوه سيفه، وقالوا له: أظْهِرْ دين النصرانية وذُبَّ عنه، ووضعوا له أربعين كتابًا فيها السنن والشرائع، وفيها ما يصلح أن يعمل به الأساقفة، وما يصلح للملك أن يعمل بما فيها.
__________
(1) في “ج”: “وأربعون”. وصححت في هامش “ب” إلى (313).
(2) “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 126).
(3) في “ج” “ثلاثة”.
(4) في “ج”: “الثمانية وأربعون”.
(5) ساقطة من “ج”.
(6) في “غ، ب، ج”: “تصنعوا”.
(1/402)
وكان رئيسُ القومِ والمجمعِ والمقدَّمُ فيه بتركَ الإسكندرية وبتركَ أنْطَاكِيَة وأُسقُفَّ بيت المقدس.
ووجه بترك رومية من عنده رجلين، فاتَّفق الكلُّ على لعن أريوس وأصحابه، ولعنوه وكلَّ من قال بمقالته، ووضعوا الأمانة، وقالوا: إنَّ الابن مولود من الأب قبل كون الخلائق، وإن الابن من طبيعة الأب غيرُ مخلوقٍ، واتَّفقوا على أن يكون فِصْحُ النصارى يومَ الأحد، ليكون بعد فصح اليهود، وأن لا يكون فصح اليهود مع فِصْحِهِم في يومٍ واحد، ومنعوا أن يكون للأُسْقُفّ زوجة، وذلك أن الأساقفة منذ وقت الحواريين إلى مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر (1) كان لهم نساء، لأنهم كانوا إذا صيَّروا واحدًا أُسقفًّا وكانت له زوجة ثبتت معه ولم تتنحَّ عنه ما خلا البتاركة فإنهم لم يكن لهم نساء، ولا كانوا أيضًا يصيِّرون أحدًا له زوجةٌ بتركًا.
قال: وانْصَرَفوا مكرَّمين محظوظين، وذلك في سبعة عشر سنة (2) من ملك قسطنطين الملك. وسنَّ قسطنطين الملك بعد ذلك ثلاث سُنن:
إحداها: كَسْرُ الأصنام وقَتْلُ كلِّ من يعبدها.
الثانية: أن لا يثبت في الديوان إلا أولاد النصارى، ويكونوا هم الأمراء والقواد.
والثالثة: أن يقيم للناس جمعة (3) الفصح، والجمعة التي بعدها لا
__________
(1) في “ج”: “ثمانية وأربعين”.
(2) ساقطة من “ج، د”.
(3) في “د”: “جمعهم”.
(1/403)
يعملون فيها عملًا، ولا يكون فيها حرب (1) .
وتقدَّم قسطنطين إلى أُسْقُفِّ بيت المقدس أن يطلب موضع المقبرة والصليب ويبني الكنائس، ويبدأ ببناء القيامة (2) ، فقالت هيلانة أمه: إني نذرت أن أسير إلى بيت المقدس، وأطْلُبَ المواضع المقدَّسة وأبنيها. فدفع إليها الملكُ أموالًا جزيلة، وسارت مع أُسقف بيت المقدس، فبَنَتْ كنيسةَ القيامة في موضع الصليب، وكنيسةَ قسطنطين (3) .
ثم اجتمعوا بعد هذا مجمعًا عظيمًا ببيت المقدس، وكان معهم رجل دسَّه بترك القسطنطينية وجماعة معه ليسألوا بترك الإسكندرية، وكان هذا الرجل لما رجع إلى الملك أظهر أنه مخالف لأريوس، وكان يرى رأيه ويقول بمقالته، فقام الرجل وقال: (إن أريوس لم يقل) (4) إن المسيح خلق الإنسان ولكن قال: به خلقت الأشياء، لأنه كلمة الله التي بها خلقت السموات والأرض، وإنما خلق الله الأشياء بكلمته، ولم تخلق الأشياء كلمته كما قال المسيح في الإنجيل: “كل بيده كان ومن دونه لم يكن شيء” وقال: “به كانت الحياة، والحياة (5) نور البشر” وقال: “العالم به يكون” (6) .
فأخبر أن الأشياء به تَكَوَّنت.
__________
(1) في “د”: “حرث”.
(2) في “د”: “القبابة”. وفي “ص”: “القمامة”.
(3) انظر: “الجواب الصحيح”: (4/ 226).
(4) ساقط من “ج”.
(5) ساقطة من “غ، ج”.
(6) إنجيل يوحنا: (1/ 1 – 3).
(1/404)
قال ابن البطريق (1) : فهذه كانت مقالة أريوس ولكن الثلاثمائة (وثمانية عشر) (2) أسقفًّا تعدَّوا عليه وحرَّفوه (3) ظلمًا وعدوانًا، فردَّ عليه بترك الإسكندرية، وقال: أما أريوس فلم تكذب عليه الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًّا ولا ظلموه لأنه إنما قال: الابن خالق الأشياء دون الأب، وإذا كانت الأشياء إنما خلقت بالابن دون أن يكون الأب لها خالقًا فقد أعطى أنه ما خلق منها شيئًا، وفي ذلك تكذيب قوله: “الأب يخلق، وأنا أخلق” (4) وقال: “إن أنا لم أعمل عمل أبي فلا تصدقوني” (5) ، وقال: “كما أن الأب يحيي من يشاء ويميته كذلك الابن يحيي من يشاء ويميته” (6) قالوا: فدلَّ على أنه يحيي ويخلق، وفي هذا تكذيب لمن زعم أنه ليس بخالق، وإنما خُلِقت الأشياءُ به دون أن يكون خالقًا.
وأما قولك: إنَّ الأشياء كُوِّنت به؛ فإنَّا لما قلنا: لا شك أنَّ المسيح حيٌّ فَعَّال (7) ، وكان قد دلَّ بقوله: “إني أفعل الخلق والحياة” = كان قولك: به كُوِّنَتِ الأشياء إنما هو راجع في المعنى إلى أنه كوَّنَها وكانت به مكوَّنة، ولو (8) لم يكن ذلك لتناقض القولان.
__________
(1) “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 131).
(2) في “ب” صححت إلى “الثلاثة عشر”.
(3) في “ص”: “جرموه”.
(4) إنجيل يوحنا: (5/ 17).
(5) إنجيل يوحنا: (5/ 36).
(6) إنجيل يوحنا: (5/ 21).
(7) في “ج”: “فقال”.
(8) ساقطة من “ج”.
(1/405)
قال: وأما قول (من قال من) (1) أصحاب أريوس: إن الأب يريد الشيء فيكونه الابن والإرادة للأب، والتكوين للابن؛ فإنَّ ذلك يفسد أيضًا إذْ (2) كان الابن عنده مخلوقًا، فقد صار حظ المخلوق في الخلق أوفى من حظ الخالق فيه، وذلك أن هذا أراد وفعل، وذاك أراد ولم يفعل، فهذا أوفر حظًّا في فعله من ذلك. ولابد لهذا أن يكون في فعله لما يريد ذلك بمنزلة كل فاعل من الخلق لما يريد الخالق منه، ويكون حكمه كحكمه في الخير (3) والاختيار، فإن كان مجبورًا: فلا شيء له في الفعل. وإن كان مختارًا: فجائزٌ أن يُطَاعَ، وجائزٌ أن يعصى، وجائز أن يثاب وجائز أن يعاقب. وهذا أشنع في القول.
وردَّ عليه أيضًا وقال: إن كان الخالق إنما خَلَق خَلْقَهُ بمخلوق -والمخلوقُ (4) غيرُ الخالق بلا شكٍّ- فقد زعمتم أنَّ الخالق يفعل بغيره، والفاعلُ بغيره محتاجٌ إلى متمِّمٍ ليفعل به، إذْ كان لا يتم له الفعل إلا به، والمحتاج إلى غيره منقوصٌ، والخالقُ متعالٍ عن هذا كلِّه (5) .
قال: فلما دَحَضَ (6) بتركُ الإسكندرية حُجَجَ أولئك المخالفين، وظَهَر لمن حضر بطلانُ قولِهم، وتحيَّروا (7) وخجلوا فوثبوا على بترك الإسكندرية فضربوه حتى كاد يموت، فخلَّصه من أيديهم ابنُ أختِ
__________
(1) ساقط من “غ، ص”.
(2) في “ج”: “فإن”.
(3) في “ب، ج”: “الجبر”.
(4) في “غ، ب، ص”: “المقول”.
(5) في “د”: “هذه الكلمة”.
(6) في “غ”: “رخص”.
(7) في “ب”: “تجبروا”.
(1/406)
قسطنطين، وهرب بَتْركُ الإسكندرية، وصار إلى بيت المقدس من غير حضور أحدٍ من الأساقفة، ثم أصلح دهن الميرون وقدَّس الكنائس ومسحها بدهن الميرون، وسار إلى الملك فأعلمه الخبر فصرفه إلى الإسكندرية.
قال ابن البطريق (1) : وأمر المَلِكُ أن لا يسكن يهوديٌّ ببيت المقدس، ولا يجوزَ بها، ومن لم يَتَنَصَّرْ قُتِل، فظهر دينُ النَّصرانيَّة، وتنصَّر من اليهود خَلْق كثير (2) . فقيل للملك: إن اليهود يتنصَّرون من خوف القتل، وهم على دينهم. فقال: كيف لنا أن نعلم ذلك منهم؟ فقال بولس البترك: إن الخنزير في التوراة حرامٌ، واليهودُ لا يأكلون لحم الخنزير، فَأْمُرْ أن تُذْبَح الخنازيرُ ويُطْبَخَ لحومها، ويطعم منها اليهود، فمن لم يأكل منه عُلِم أنه مقيمٌ على (دين اليهوديَّة) (3) . فقال الملك: إذا كان الخنزير في التوراة حرامًا فكيف يحلُّ لنا أن نأكلَه ونُطْعِمَه الناس؟ فقال له بولس: إنَّ سيدنا المسيح قد أبطل كلَّ ما في التوراة، وجاء بنواميس أُخَر، وبتوراةٍ جديدة، وهو الإنجيل، وفي إنجيله: “إن كل ما يدخل البطن فليس بحرام ولا نجس، وإنما ينجِّس الإنسان ما يخرج من فيه” (4) .
وقال بولس: إنَّ بطرس رئيسَ الحَوَارِيِّيْنَ بينما هو يصلي في ست
__________
(1) “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 33 – 134)، “الجواب الصحيح”: (4/ 226 – 227).
(2) ساقط من “غ، ص”.
(3) في “ج”: “دينه أي اليهودية”.
(4) إنجيل متى: (15/ 17 – 18).
(1/407)
ساعات من النهار وقع عليه سُبَاتٌ، فنظر إلى السماء قد تفتَّحَتْ، وإذا زادٌ قد نزل من السماء حتى بلغ الأرض، وفيه كلُّ ذي أربع قوائم على الأرض من السباع والدواب وغير ذلك من طير (1) السماء، وسمع صوتًا يقول له: يا بطرس قم فَاذْبَحْ وكُلْ.
فقال بطرس: يا ربّ ما أكلت شيئًا نجسًا قطُّ ولا وسخًا قط، فجاء صوتٌ (ثانٍ: كلُّ) (2) ما طهَّره الله فليس بنجس. وفي نسخة أخرى: ما طهَّره الله فلا تنجِّسْه أنت، ثم جاءه الصوت بهذا ثلاث مرات.
ثم إن الزاد ارتفع إلى السماء فتعجب بطرس وتحيَّر فيما بينه وبين نفسه (3) .
فأمر الملك أن تُذْبَحَ الخنازير وتُطْبخَ لحومها وتقطَّعَ صغارًا، وتُصَيَّر على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم أحدِ الفِصْحِ، وكلُّ مَن خرج من الكنيسة يُلْقَمُ لُقْمَةً من لحم الخنازير، فمن لم يأكل منه يقتل. فقُتِل لأجل ذلك خلقٌ كثير.
ثم هَلَك قسطنطين وقام (4) بعده أكبر أولاده واسمه قسطنطين، وفي أيامه اجتمع أصحاب أريوس ومن قال بمقالته إليه فحسَّنوا له دينهم ومقالتهم، وقالوا: إنَّ الثلاثمائة وثمانيةَ عَشَرَ (5) أُسْقُفًّا الذين كانوا اجتمعوا بنيقية قد أخطأوا وحادوا عن الحقِّ في قولهم: إن الابن متفق مع
__________
(1) في “ب”: “طيور”.
(2) في “ج”: “بأن يأكل” وفي “ص”: “بأن كُلْ”.
(3) انظر: “أعمال الرسل”: (11/ 1 – 10).
(4) في “د”: “وولي”.
(5) في “ج”: “وأربعون”.
(1/408)
الأب في الجوهر. فَأْمُرْ أن لا يقالَ هذا فإنَّه خطأ. فعزم الملك على فعله، فكتب إليه أُسْقُفّ بيت المقدس أن لا يقبل قَوْلَ أصحابِ أريوس؛ فإنهم حائدون عن الحق وكُفَّار، وقد لعنهم الثلاثُمائة وثمانيةَ عشر (1) أُسقفًّا، ولَعَنُوا كلَّ من يقول بمقالتهم. فَقَبِلَ قَوْلَه.
قال ابن البِطْرِيْقِ (2) : وفي ذلك الوقت أُعلنت (3) مقالةُ أريوس على قسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية، وفي ثاني سنة من مُلْك قسطنطين هذا صار على أنطاكية بترك أريوسيٌّ، ثم بعده آخر مثله.
قال (4) : وأما أهل مصر والإسكندرية وكان أكثرهم أريوسيين ومنانيين فغلبوا على كنائس مصر فأخذوها، ووثبوا على بترك الإسكندرية ليقتلوه فهرب منهم واستخفى.
ثم ذكر جماعةً من البتاركة والأساقفة من طوائف النصارى وما جرى لهم مع بعضهم بعضًا، (وما تعصبت به كلُّ طائفةٍ لبتركها حتى قَتَل بعضُهم بعضًا) (5) ، واختلف النصارى أشدَّ الاختلاف، وكثرت مقالاتهم، واجتمعوا عدة مجامع، (كلُّ مجمعٍ) (6) يَلْعَنُ فيه بعضُهم
__________
(1) في “ج”: “وأربعون”.
(2) انظر: “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 135 – 136)، “الجواب الصحيح”: (4/ 232) وما بعدها.
(3) في “ب، ج، ص”: “غلبت”.
(4) في “د”: “قال ابن البطريق”. وانظر: (1/ 136) من “التاريخ”، “الجواب الصحيح”: (4/ 235).
(5) ما بين القوسين ساقط من “د”.
(6) ساقط من “د”.
(1/409)
بعضًا. ونحن نذكر بعض مجامعهم بعد هذين المجمعين.
فكان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنةً من المجمع الأول بنيقية، فاجتمع الوزراء والقُوَّاد إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فسدت وغلبت عليهم مقالة أريوس ومكدونيس، فَاكْتُبْ (1) إلى جميع الأساقفة والبتاركة أن يجتمعوا ويوضِّحوا دين النصرانية. فكتب الملك (2) إلى سائر بلاده، فاجتمع في قسطنطينية مائة وخمسون أُسْقُفًّا، فنظروا وبحثوا في مقالة أريوس فوجدوها: أن روح القدس مخلوق
ومصنوع ليس بإله (3) .
فقال بترك الإسكندرية: ليس روح القدس عندنا غير روح الله، وليس روح الله غير حياته، فإذا قلنا: إن روح الله مخلوق، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة. وإذا قلنا: إن حياته مخلوقة، فقد جعلناه غير حيٍّ، وذلك كفرٌ به فَلَعَنُوا جميعُهم مَن يقولُ بهذه المقالة، ولَعَنُوا جماعةً (4) من أساقفتهم وبتاركتهم كانوا يقولون (5) بمقالاتٍ أُخَر لم يرتضوها، وبَيَّنوا أنَّ روح القدس خالق غير مخلوق، إلهٌ حقّ (من إلهٍ حقٍّ) (6) من طبيعة الأب والابن، جوهر واحد وطبيعة واحدة. وزادوا في الأمانة التي وضعتها الثلاثمائة والثمانية عشر (7) : ونؤمن بروح القدس
__________
(1) في “ج، ص”: “فكتب”.
(2) ساقطة من “غ، ص”.
(3) انظر: “الجواب الصحيح”: (4/ 238 – 239).
(4) في “ص”: “جميعًا”.
(5) ساقطة من “ب”.
(6) ساقط من “غ، ص”.
(7) في “ج”: “والثمانية وأربعون”.
(1/410)
الربِّ (1) المحيي الذي من الأب (2) منبثق الذي مع الأب والابن، وهو مسجود له (3) وممجَّد.
وكان في تلك الأمانة “وبروح القدس” فقط، وبينوا أنَّ الابن والأب وروح القدس ثلاثةُ أَقَانِيم، وثلاثُ وجوهٍ، وثلاثُ خواصٍّ، وأنها وحدة (4) في تثليث، وتثليث في وحدة، وبيَّنوا أن جسد المسيح بنفسٍ ناطقة عقلية. فانفضَّ هذا الجمع وقد لَعَنوا فيه كثيرًا من أساقفتهم وأشياعهم (5) .
ثم بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع (6) كان لهم مجمع رابع على نسطورس. وكان رأيه أنَّ مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة، ولذلك (7) كان اثنان (8) :
أحدهما: الإله الذي هو موجود من الأب.
والآخر: إنسان وهو الموجود (9) من مريم، وأن هذا الإنسان الذي نقول (10) إنه المسيح متوحد مع ابن الإله، ويقال له: إله وابن الإله،
__________
(1) ساقطة من “د”.
(2) في “د”: “الإله”.
(3) في “ج”: “محمود وممجد”.
(4) في “ج”: “واحدة”.
(5) في “ب، ج”: “أتباعهم”.
(6) في “ج”: “الجمع”.
(7) في “ب، ج”: “وكذلك”.
(8) في “ب، ص، ج”: “ابنان”.
(9) في “الجواب الصحيح”: “مولود”.
(10) في “ج، غ، ب”: “يقال”.
(1/411)
ليس على الحقيقة ولكن موهبة (1) . واتفاق الاسمين على طريق الكرامة (2) .
فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد، فجرت بينهم مراسلات، واتفقوا على تخطئته، واجتمع منهم مائتا أسقف في مدينة أفسيس، (وهي مدينة دقيانوس) (3) . وأرسلوا إليه للمناظرة فامتنع ثلاث مرات، فأَجْمَعُوا على لعنه، فَلَعَنُوه ونَفَوْه، وبَيَّنوا (4) أن مريم ولدت إلهًا وأن المسيح إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ، وهو إنسان وله طبيعتان.
فلما لعنوا نسطورس، ومَنْ تعصَّب له بترك أنطاكية، فجمع الأساقفة الذين قدموا معه، ونَاظَرَهم وقَطَعَهم، فتقاتلوا وتلاعنوا وجرى بينهم شر فتفاقم أمرهم، فلم يزل الملك حتى أصلح بينهم. فكتب أولئك صحيفةً: أنَّ مريم القدِّيسةَ (5) ولدت إلهًا، وهو ربنا يسوع المسيح الذي هو مع الله في الطبيعة ومع الناس في الناسوت. وأقرُّوا بطبيعتين وبوجهٍ واحد وأُقنُوم واحد، وأنْفَذُوا لَعْنَ نسطورس. فلما لعنوه ونُفِي، سارَ إلى مصر وأقام في أخميم سبع (6) سنين ومات ودفن بها، وماتت مقالته إلى أن أحياها ابنُ صَرْمَا (7) مطران نصيبين، وبثَّها في بلاد المشرق، فأكثر نصارى المشرق والعراق نَسْطُورِيَّة. فانفضَّ ذلك المجمع الرابع أيضًا
__________
(1) في “غ”: “لوهنه”، وفي “ج”: “توهية”.
(2) في “الجواب الصحيح”: “واتفاق الاسمين والكرامة شبيهًا بأحد الأنبياء”.
(3) ساقطة من “ب، ج”.
(4) في “ب، ج”: “ثبتوا”.
(5) في “ج”: “القدسية”.
(6) في “ج”: “تسع”.
(7) في ابن البطريق: “برصوما”.
(1/412)
وقد أطبقوا على لعن نسطورس وأشياعه ومن قال بمقالته (1).
فصل
ثم كان لهم -بعد هذا المجمع (2) – مجمعٌ خامس، وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له أوطيسوس يقول: إنَّ جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا بالطبيعة. وإنَّ المسيح قبل التجسد من طبيعتين، وبعد التجسد طبيعة واحدة. وهو أول من أحدث هذه المقالة، (وهي مقالة) (3) اليعقوبية. فرحل إليه بعض الأساقفة فناظره وقَطَعَه ودَحَضَ حُجَّتَه، ثم صار إلى قسطنطينية فأخبر بَتْرَكَهَا بالمناظرة وبانقطاعه، فأرسل بتركُ القسطنطينيةِ إليه فاستحضره، وجمع جمعًا عظيمًا وناظره.
فقال أوطيسوس: إنْ قلنا: إنَّ للمسيح طبيعتين فقد قلنا بقول نسطورس، ولكنا نقول: إن المسيح طبيعة واحدة وأُقْنُوم واحد، لأنه (من طبيعتين كانتا قبل التجسُّد، فلما قَبِل التجسُّد زالت عنه وصار) (4) طبيعةً واحدة وأُقنومًا واحدًا.
فقال له بترك القسطنطينية: إنْ كان المسيح طبيعةً واحدةً، فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المُحْدَثَةُ، وإن كان القديم هو المحدَثُ (فالذي لم يزل هو الذي لم يكن، ولو جاز أن يكون القديم هو المحدَث) (5) لكان
__________
(1) انظر: “الجواب الصحيح”: (4/ 246 – 249). “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 158).
(2) ساقطة من “غ”.
(3) ساقطة من “ب، ج”.
(4) ساقط من “د”.
(5) ما بين القوسين ساقط من “د” لانتقال نظر الناسخ فيما يبدو.
(1/413)
القائم (1) هو القاعد والحار هو البارد، فأبى أن يرجع عن مقالته، فلعنوه.
فاستعدى إلى الملك وزعم أنهم ظلموه، وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة، فاستحضر الملكُ البتاركةَ والأساقفةَ (2) من سائر البلاد إلى مدينة أفسيس فَثَبَّت بتركُ (3) الإسكندرية مقالةَ أوطيسوس، وقطع بتاركة القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس وسائر البتاركة والأساقفة.
وكتب إلى بترك رومية وإلى جماعة الكهنة فحرمهم ومنعهم (4) من القربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيسوس، ففسدتِ الأمانةُ وصارت مقالة (5) أوطيسوس خاصَّةَ بمصر والإسكندرية، وهو مذهب اليعقوبية.
فافترق هذا المجمع الخامس وكلُّ فريقٍ يلعن الآخر ويَحْرِمُه ويَبْرَأ من مقالته (6) .
__________
(1) ساقط من “ج”.
(2) في “ج”: “الأسقفة”.
(3) في “غ، ص”: “بطرك”.
(4) في “ج”: “فحرموهم ومنعوهم”.
(5) في “ب، ج”: “المقالة مقالة … “.
(6) انظر: “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 179).
(1/414)
فصل
ثم كان لهم -بعد هذا- مجمعٌ سادس في مدينة خَلْقَدُونَ، فإنَّه لما مات الملك وَلِيَ بعده مرقيون، فاجتمع إليه الأساقفة من سائر البلاد فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع وقلة الإنصاف، وأن مقالة أوطيسوس قد غلبت على الناس وأفسدت دين النصرانية. فأمر الملك باستحضار سائر (1) البتاركة والمطارنة والأساقفة إلى مدينة خَلْقَدُونَ فاجتمع فيها ستمائة وثلاثون أُسْقُفًّا فنظروا في مقالة أوطيسوس وبترك الإسكندرية الذي قطع جميع البتاركة، فأفسد الجميعُ مقالتَهُما ولعنُوهُما.
وأثبتوا أن يسوع إلهٌ وإنسان في المكان مع الله باللاهوت وفي المكان معنا بالنَّاسوت، يُعْرَف بطبيعتين، (تام باللاهوت) (2)، وتام بالناسوت، ومسيح واحد. وثَبَّتوا أقوال الثلاثِمائةِ وثمانيةَ عَشَر (3) أُسْقُفًّا، وقبلوا قولهم بأن الابن مع الله في المكان، نور من نور، إله حق (من إله حق معروف بالطبيعتين، تام باللاهوت، وتام بالناسوت) (4) ولَعَنُوا أريوس.
وقالوا: إن روح القدس إله، وإن الأب والابن وروح القدس واحد بطبيعة واحدة وأقانيم ثلاثة، وثَبَّتوا قول المجمع الثالث في مدينة
__________
(1) ساقطة من “ج”.
(2) ساقط من “ص، ج”.
(3) في “ج”: “وأربعون”.
(4) ساقط من “غ، ص، ب”.
(1/415)
أَفْسُس (1) . أعني (2) المائتي أسقف على نسطورس.
وقالوا: إن مريم العذراء ولدت إلهًا ربنا اليسوع المسيح الذي هو مع الله بالطبيعة ومع الناسوت بالطبيعة، وشهدوا أن للمسيح طبيعتين وأقنومًا واحدًا، (ووجهًا واحدًا) (3) ولعنوا نسطورس وبترك الإسكندرية، ولعنوا المجمع الثاني الذي كان بأفسيس، ثم المجمع الثالث المائتي أسقف بمدينة أفسيس أول مرة، ولعنوا نسطورس.
(وبين نسطورس) (4) إلى مجمع خَلْقَدُون أحدٌ وعشرون سنة، فانفضَّ هذا المجمع وقد لعنوا من مُقَدَّميهم (5) وأساقفتهم مَنْ ذكرنا، وكفَّروهم وتبرأوا منهم ومن مقالاتهم.
__________
(1) كلمة يونانية معناها “المرغوبة” وهي عاصمة المقاطعة الرومانية آسيا. ثم دخلت في مملكة الأتراك العثمانيين بعد الفتح. انظر: “قاموس الكتاب المقدس” ص (92 – 93).
(2) ساقطة من “غ، ص، ب”.
(3) ساقط من “غ، ص”.
(4) ساقط من “ج”.
(5) في “ج، غ”: “مقدمتهم”.
(1/416)
فصل
ثم كان لهم -بعد هذا المجمع- مجمعٌ سابعٌ في أيام أنسطاس الملك، وذلك أنَّ سورس القسطنطيني كان على رأي أوطيسوس، فجاء إلى الملك فقال: إن المجمع الخلقدوني الستمائة وثلاثين قد أخطأوا في لعن أوطيسوس (وبترك الإسكندرية) (1)، والدينُ الصحيحُ ما قالاه، فلا يُقْبَل دينٌ من سواهما، ولكنِ اكْتُبْ إلى جميع عمالك (2) أن يلعنوا (3) الستمائةَ وثلاثين، ويأخذوا الناس بطبيعةٍ واحدة ومشيئةٍ واحدة وأُقنومٍ واحدٍ، فأجابه الملك إلى ذلك.
فلما بلغ ذلك إيليا بترك بيت المقدس جَمَع الرهبان ولعنوا أنسطاس الملك وسورس، ومن يقول بمقالتهما. فبلغ ذلك أنسطاس ونفاه إلى أيلة، وبعث يوحنا بتركًا على بيت المقدس، لأنَّ يوحنا كان قد ضمن له أن يلعن المجمع الخَلْقَدُونيّ الستمائة وثلاثين.
فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبان، وقالوا: إيَّاك أن تقبل من سورس، ولكن قَاتِلْ (4) عن المجمع الخَلْقَدُونيّ ونحن معك، فضَمِنَ لهم ذلك وخالف أمْر الملك، فبلغ ذلك الملك، فأرسل قائدًا وأمره أن يأخذ يوحنا بطرح المجمع الخَلْقَدُونِيّ، فإن لم يفعل ينفيه عن الكرسي.
فقدم القائد وطرح يوحنا في الحَبْس، فصار إليه الرهبان في الحبس
__________
(1) ليست في المخطوط، وأثبتها من المطبوعة.
(2) في “ج، ب”: “أعمالك”.
(3) من هنا حتى المجمع العاشر ساقط من “ص”.
(4) في “ج”: “قابل”.
(1/417)
وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك، فإذا حضر فَلْيُقِرَّ بلعنة مَنْ لَعَنهُ الرهبان ففعل ذلك، واجتمع الرهبان وكانوا عشرة آلاف واهب ومعهم بدرس وسابا (1) ورؤساء الديارات، فلعنوا أوطيسوس وسورس ونسطورس ومن لا يقبل المجمع الخَلْقَدُوني، وفزع رسول الملك من الرهبان، وبلغ ذلك الملك فهمَّ بنفي يوحنا، فاجتمع الرهبان والأساقفة فكتبوا إلى أنسطاس الملك أنهم لا (2) يقبلون مقالة سورس ولا أحد من المخالفين ولو أهريقت دماؤهم، وسألوه أن يكفَّ أذاه عنهم.
وكتب بترك رومية إلى الملك بقبح فعله، وبلَعْنه، فانفضَّ هذا المجمع أيضًا وقد تلاعنت فيه هذه المجموع على ما وصفنا!!.
وكان لسورس تلميذ يقال له: يعقوب يقول بمقالة سورس، وكان يسمى يعقوب البرادعي وإليه تنسب اليعاقبة فأفسد أمانة النصارى.
ثم مات أنسطاس، ووَلِيَ قسطنطين، فردَّ كلَّ من نفاه أنسطاس الملك إلى موضعه، واجتمع الرهبان وأظهروا كتاب الملك وعيَّدوا عيدًا حسنًا بزعمهم (3) ، وأثبتوا المجمع الخلقدوني بالستمائة وثلاثين أُسْقُفًّا، ثم ولي (4) ملك آخر وكانت اليعقوبية قد غلبوا على الإسكندرية وقتلوا بتركًا لهم يقال له: بولس، كان ملكيًّا، فعلم الملك، فأرسل قائدًا ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية، فدخل الكنيسة في (ثياب البترك) (5) ،
__________
(1) في “ج”: “شايا”.
(2) ساقطة من “غ”.
(3) ساقطة من “ب، ج”.
(4) ساقط من “ج”.
(5) في “ج”: “ثبات البتركة”.
(1/418)
وتقدَّم وقدَّس، فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه فانصرف.
ثم أظهر لهم من بعد ثلاثة أيام أنه قد أتاه كتاب الملك، وضرب الجرس ليجتمع الناس يوم الأحد في الكنيسة، فلم يَبْقَ أحدٌ بالإسكندرية حتى حضر (1) لسماع كتاب الملك، وقد جعل بينه وبين جنده علامة إذا هو فعلها وضعوا السيف في الناس، فَصَعِدَ المنبر وقال: يا مَعْشَرَ أهل الإسكندرية! إنْ رجعتم إلى الحقِّ وتركتم مقالة اليعاقبة وإلا لن تأمنوا أن يُرْسِل إليكم المَلِكُ من يسفكُ دماءَكم. فَرَموه بالحجارة حتى خاف على نفسه أن يُقْتَلَ، فأظهر العلامة، فوضعوا السَّيفَ على كلِّ مَنْ في الكنيسة، فقُتِل دَاخِلَها وخَارِجَها أممٌ لا تُحْصَى كثرةً (2) ، حتى خاض الجند في الدماء، وهرب منهم خلق كثير، وظهرت مقالة الملكية (3) .
__________
(1) ساقط من “ج”.
(2) في “ج”: “لكثرتها”.
(3) انظر: “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 191 – 200).
(1/419)
فصل
ثم كان لهم -بعد ذلك- مجمع ثامن، بعد المجمع الخلقدوني الذي لعن فيه اليعقوبية (1) بمائة سنة وثلاث سنين، وذلك أن أسقف مَنْبِج (-وهي بلدة شرقي حلب بالقرب منها، وهي مخسوفة الآن-) (2) كان يقول بالتناسخ وأن ليس قيامة، وكان أُسْقُفُّ الرُّها وأُسْقُفّ المَصِّيصَة وأُسْقُفٌّ آخر يقولون: إن جسد المسيح خيال غير حقيقة. فَحَشَرَهُم الملك إلى قسطنطينية، فقال لهم بَتْرَكُها: إن كان جسده خيالًا فيجب أن يكون فعله خيالًا، وقوله خيالًا، وكل جسدٍ يُعَاين لأحدٍ من الناس، أو فعلٍ، أو قولٍ فهو كذلك.
وقال لأسقف مَنْبِج: إن المسيح قد قام من الموت وأعْلَمَنا أنه كذلك يقوم الناس من الموت يوم الدينونة، وقال في إنجيله: “لن تأتي الساعة حتى إن كل من في القبور إذا سمعوا قول ابن الله يجيبون” (3)، فكيف تقولون ليس قيامة؟! فأوجب عليهم الخِزْيَ واللَّعْن.
وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه، واستحضر بتاركة البلاد، فاجتمع في هذا المجمع مائة وأربعة وستون أُسْقُفًّا، فلعنوا أسقف مَنْبِج وأسقف المَصِّيْصَة، وثبتوا على قول أسقف الرُّها، أن جسد المسيح حقيقةٌ لا خيال، وأنه إله تامٌّ، وإنسان تام معروف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين، أُقنوم واحدٌ، وثَبَّتوا المجامع الأربعة التي قبلهم بعد
__________
(1) في “ج”: “اليعاقبة”.
(2) ما بين القوسين ساقط من “ب، ج”.
(3) إنجيل يوحنا: (5/ 24 – 25).
(1/420)
“المجمع الخَلْقَدُوني، وأن الدنيا زائلة، وأن القيامة كائنة، وأن المسيح يأتي بمجد عظيم فيدين الأحياء والأموات كما قال الثلاثمائة والثمانيةَ عَشَر (1) .
__________
(1) في “ج”: “والثمانية وأربعون”. وفي “ص”: “كما قال الستمائة و … “.
وانظر: “تاريخ ابن البطريق”: (1/ 201 – 206).
(1/421)
فصل
ثم كان لهم مجمع تاسع في أيام معاوية بن أبي سفيان تلاعنوا فيه، وذلك أنه كان برومية راهبٌ قدِّيس يقال له: مقسلمس، وله تلميذان فجاء إلى قسطا الوالي فوبَّخه على قُبْح مذهبه وشناعة كُفْرِه. فأمر به قسطا فقُطِعَت يداه ورجلاه، ونُزِع لسانه. وفَعَل بأحد التلميذين مثله، وضرب الآخر بالسِّياط ونفاه.
فبلغ ذلك ملك قسطنطينية فأرسل إليه أن يوجِّه إليه من أفاضل الأساقفة ليعلم وجه هذه الحجة ومن الذي كان (1) ابتدأها لكيما يطرح جميعٍ الآباء القديسين كلَّ من استحق اللعنة، فبعث إليه مائةً وأربعين أُسْقُفًّا وثلاث شمامسة (2)، فلما وصلوا إلى قسطنطينية جمع الملك مائة وثمانية وستين أسقفًّا فصاروا ثلاثمائة وثمانية، وأسقطوا الشمامسة في البرطحة (3).
وكان رئيس هذا المجمع بَتْرَكَ قسطنطينية وبَتْرَك أنطاكية، ولم يكن (4) لبيت (5) المقدس والإسكندرية بترك، فلعنوا مَنْ تقدَّم من
__________
(1) ساقطة من “ج”.
(2) الشماس: هو خادم الكنيسة، ومرتبته دون القسيس. وكانت تستخدم للمسيح وخدمة الدين إلا أنها اختصت بالسبعة الرجال المشهود لهم المملوئين من الروح القدس والحكمة الذين تعينوا لخدمة الموائد. “قاموس الكتاب المقدس” ص (519).
(3) قال ابن البطريق 2/ 35: (وكذلك يذكرون في الدتبيِخهَ)، ولم يذكر البرطحة.
(4) ساقطة من “ب، ج”.
(5) في “ص”: “ببيت”.
(1/422)
القدِّيْسِيْنَ الذين خَالَفُوهم. وسمَّوهم واحدًا واحدًا وهم جماعة، ولعنوا أصحاب المشيئة (1) الواحدة.
ولما لعنوا هؤلاء جلسوا فلخَّصوا الأمانة المستقيمة -بزعمهم- فقالوا: “نؤمن بأنَّ الواحد من اللَّاهوت (2) الابن الوحيد الذي هو الكلمة الأزلية الدائم، المستوي مع الأب الإله في الجوهر. الذي هو ربُّنا اليسوع المسيح بطبيعتين تامتين، وفعلين ومشيئتين، في أُقْنوم واحدٍ ووجهٍ واحد، يعرف تامًّا بلاهوته تامًّا (3) بناسوته. وشهدت كما شهد مجمع الخلقدونية على ما سبق أن الإله الابن في آخر الأيام (اتَّحد مع) (4) العذراء السيدة مريم القديسة جسدًا إنسانًا بنفسين، وذلك برحمة الله تعالى مُحبِّ البشر، ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة ولا فصل، ولكن هو واحد يعمل بما يشبه الإنسانَ أن يعمله في طبيعته وما يشبه الإله أن يعمل في طبيعته الذي هو الابن الوحيد (5) والكلمة الأزلية المتجسدة (6) إلى أن صارت في الحقيقة لحمًا، كما يقول الإنجيل المقدس، من غير أن تنتقل عن محلِّها الأزليِّ، وليست بمتغيِّرة لكنها (7) بفعلين ومشيئتين وطبيعتين: إلهيٌّ، وإنسيٌّ، الذي بهما يكون القول الحق، وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها،
__________
(1) في “ص”: “المسببة”.
(2) في “ج”: “الثالوث”.
(3) في “ج”: “قائمًا”.
(4) في “ج”: “اتخذ من”.
(5) في “ب، ج”: “الواحد”.
(6) في “ج”: “المستجدة”.
(7) في “ج”: “لكن بفعلها الأزلي”.
(1/423)
مشيئتين (1) غير متضادَّتَيْن ولا متضارعتين، ولكن مع المشيئة الإنسية في المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء.
هذه شهادتهم وأمانة المجمع السادس من المجمع الخَلْقَدوني، وثبَّتوا ما ثبَّتَه الخمس مجامع التي كانت قبلهم، ولَعَنُوا من لَعَنُوه، وبين المجمع الخامس إلى هذا المجمع مائة سنة (2) .
__________
(1) في “ج”: “مشيئتين وطبيعتين”.
(2) انظر: “تاريخ ابن البطريق”: (2/ 34) وما بعدها.
(1/424)
فصل
ثم كان لهم مجمع عاشر (1) لما مات الملك ووَلِيَ بعده ابنُه، واجتمع فريق المجمع السادس وزعموا أنَّ اجتماعهم كان على الباطل، فجمع الملك مائة وثلاثين أُسْقُفًّا فَثبَّتوا قول المجمع السادس ولعنوا من لعنهم وخالفهم. وثبَّتوا قول المجامع الخمسة، ولعنوا من لعنوا (2) وانصرفوا (3).
فانقرضت هذه المجامع والحشود، وهم علماءُ النصارى وقدماؤهم وناقِلُو الدِّين إلى المتأخرين، وإليهم يستند مَنْ بعدهم.
وقد اشتملت هذه المجامع العشرة المشهورة على زهاءِ أربعةَ عَشَرَ ألفًا من الأساقفة والبتاركة والرهبان، كلُّهم يكفِّر بعضُهم بعضًا، ويلعنُ بعضُهم بعضًا. فدِيْنُهُم إنما قام على اللعنة بشهادة بعضهم على بعض، وكلٌ منهم لاعنٌ ملعونٌ.
__________
(1) هنا ينتهي السقط في “ص” الذي ابتدأ من المجمع السابع كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
(2) في “ج”: “لعنهم”.
(3) انظر: “تاريخ ابن البطريق”: (2/ 36 – 37).
(1/425)
فصل
فإذا كانت هذه حال المتقدِّمين (1) مع قرب زمنهم من أيام المسيح وبقاء أخيارهم فيهم، والدولةُ دولتهم والكلمةُ لهم، وعلماؤهم إذْ ذاك أوفرُ ما كانوا، واحتفالُهم بأمر دينهم واهتمامهم به كما ترى، ثم هم مع ذلك تائهون حائرون بين لاعنٍ وملعونٍ لا يثبت لهم قَدَمٌ، ولا يتحصَّل لهم قول في معرفة معبودهم. بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه وباح باللَّعن والبراءة ممَّن اتَّبع سواه.
= فما الظنُّ بحُثَالةِ (2) الماضين (3)، ونُفَايةِ الغَابِرين، وزُبَالةِ الحائرين، وذُرِّيَّة الضَّالين، وقد طال عليهم الأمد، وبَعُد العهد، وصار دينُهم ما يتلقَّونه (4) عن الرُّهْبان. وقوم إذا كشفت عنهم وَجَدْتَهم أشبَه شيءٍ بالأنعام، وإن كانوا في صُوَر الأنام، بل هم كما قال تعالى -ومن أصدق من الله قيلًا-: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44].
وهؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
ومن أمة الضلال بشهادة الله ورسوله عليهم، وأمة اللعن بشهادتهم على نفوسهم بلعن بعضهم بعضًا.
__________
(1) في “غ”: “المقدمين”.
(2) في “ب، ج، د”: “بحالة”.
(3) في “د”: “الباقين”.
(4) في “د”: “يلقونه”، وفي “ب، غ”: “يبلغونه”.
(1/426)
وقد لعنهم الله -سبحانه- على لسان رسوله في قوله – صلى الله عليه وسلم -: “لعن اللهُ اليهودَ والنَّصارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبيائهِمْ مَسَاجِدَ – يحذِّر ما فعلوه” (1) .
هذا، والكتابُ واحدٌ، والربُّ واحدٌ، والنبيُّ واحدٌ، والدعوى واحدةٌ، وكلُّهم يتمسك بالمسيح وإنجيله (2) وتلاميذه، ثم يختلفون فيه هذا الاختلاف المتباين!
فمنهم من يقول: إنه إله.
ومنهم من يقول: ابن الله.
ومنهم من يقول: ثالث ثلاثة.
ومنهم من يقول: إنه عبد.
ومنهم من يقول: إنه أُقْنُوم وطبيعة.
ومنهم من يقول: أُقْنومان وطبيعتان.
إلى غير ذلك من المقالات التي حَكَوْها عن أسلافهم، وكلٌّ منهم يكفر صاحبه. فلو أنَّ قومًا لم يعرفوا لهم إلهًا، ثم عرض عليهم دين النصرانية هكذا، لتوقَّفوا عنه وامتنعوا من قَبُوله.
فوازِنْ بينَ هذا وبينَ ما جاء به خَاتَمُ الأنبياء والرُّسل -صلوات الله
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور: (1/ 212) (الطبعة المنيرية)، ومسلم في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور … : (1/ 375).
(2) في “غ”: “والإنجيل”.
(1/427)
عليه وسلامه- تَعْلَمْ علمًا يضارعُ المحسوسات أو يزيد عليها: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
(1/428)
القسم الثاني في تقرير نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – بجميع أنواع الدلائل
(1/429)
فصل
في أنه لا يمكن الإيمان بنبيٍّ من الأنبياء أصلًا مع جحود نبوة محمدٍ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه من جحد نبوَّته فهو لنبوَّةِ غيره من الأنبياء أشدُّ جَحْدًا.
وهذا يتبيَّن بوجوه:
(أحدها) أن الأنبياء المتقدِّمين بشَّروا بنبوته، وأَمروا أُممهم بالإيمان به، فمن جحد نبوته فقد كذب الأنبياء قبله فيما أخبروا به، وخَالَفَهم فيما أَمروا وأَوْصَوا به من الإيمان به. والتَّصديقُ به لازمٌ من لوازم التصديق بهم، وإذا انتفى اللازم (1) انتفى مَلْزُومُه قطعًا.
وبيان الملازمة: ما تقدَّم من الوجوه الكثيرة التي تفيد بمجموعها القَطْعَ على أنه – صلى الله عليه وسلم – قد ذُكِر في الكتب الإلهيَّة على أَلْسُن الأنبياء. وإذا ثَبَتَتِ المُلَازمةُ فانتِفَاءُ اللازم موجِبٌ لانتفاء مَلْزُومِهِ.
(الوجه الثاني) أنَّ دعوة محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- هي دعوة جميع المرسلين قَبْلَه من أولهم إلى آخرهم، فالمكذبُ بدعوته مكذِّبٌ بدعوة إخوانه كلِّهم، فإنَّ جميع الرسل جاؤوا بما جاء به، فإذا كذبه المكذِّبُ فقد زعم أنَّ ما جاء به باطل. وفي ذلك تكذيبُ كلِّ رسولٍ أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله (2)، ولا يمكن أن يَعْتَقِد أنَّ ما جاء به صدق وأنه كاذبٌ مفترٍ على الله. وهذا في غاية الوضوح.
__________
(1) في “ج”: “الملزوم”.
(2) ليست في “غ”.
(1/431)
وهذا بمنزلة شهود شهدوا بحقٍّ فصدَّقهم الخَصْمُ وقال: هؤلاء كلُّهم شهودٌ عدول صادقون، ثم (شهد آخرُ) (1) على شهادتهم سواء، فقال الخصم: هذه الشهادة باطلةٌ وكَذِبٌ لا أصل لها. وذلك تكذيب بشهادة جميع الشهود قطعًا، ولا يُنْجيه من تكذيبهم اعترافُه بصحة شهادتهم وأنها شهادةُ حقٍّ (مع قوله) (2) إن الشاهد بها كاذبٌ فيما شهد به.
فكما أنه لو لم يظهر محمد – صلى الله عليه وسلم – لبطلت نُبُوات الأنبياء قبله، فكذلك (3) إن لم يُصَدَّقْ لم يمكن تصديقُ نبيٍّ من الأنبياء قبله.
(الوجه الثالث) أن الآيات والبراهين التي دلت على صحة نبوته وصدقه أضعافُ أضعافِ آيات (4) مَنْ قَبْلَه من الرسل، فليس لنبيٍّ من الأنبياء آيةٌ توجب (5) الإيمانَ به إلا ولمحمدٍ – صلى الله عليه وسلم – مثلُها أو ما هو في الدلالة مثلها، وإن لم يكن من جنسها فآياتُ نبوته أعظمُ وأكبر وأبْهَرُ وأدلُّ، والعِلْمُ بنَقْلها قطعيٌّ، لقُرْبِ العهد، وكثرةِ النَّقَلة، واختلافِ أمصارهم وأعصارهم، واستحالةِ تواطئهم على الكذب.
فالعِلمُ بآيات نبوته كالعِلْمِ بنفس وجوده وظهورِه وبَلَدِه، بحيث لا يمكن المكابرة في ذلك، والمكابِرُ فيه في غاية الوقاحة والبَهْت، كالمكابر في وجود ما يشاهده الناس ولم يشاهده (6) هو من البلاد
__________
(1) في “غ، ص”: “ثم الآخر شهد”.
(2) ساقط من “ب، ج، ص”.
(3) في “ج”: “فلذلك”.
(4) ساقط من “ج”.
(5) في “غ”: “يتوجب”.
(6) في “ج”: “يشهده”.
(1/432)
والأقاليم والجبال والأنهار.
فإن جاز القَدْحُ في ذلك كلِّه، فالقدحُ في وجود عيسى وموسى وآياتِ نبوتهما أَجْوَزُ وأجوز، وإن امتنع القَدْح فيهما وفي آيات نبوتهما فامتناعه في محمد – صلى الله عليه وسلم – وآيات نبوته أشدُّ.
ولذلك (1) لمَّا علم بعضُ علماءِ أهلِ الكتاب أنَّ الإيمان بموسى لا يتمُّ مع التكذيب بمحمد أبدًا = (كَفَر بالجميع) (2) ، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].
قال سَعِيْدُ بنُ جُبَيْرٍ: جاء رجل من اليهود، يقال له مالكُ بنُ الصَّيف، يخاصم النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أَنشُدكَ بالذي أنزل التوراةَ على موسى، أمَا تجدُ في التوراة أنَّ الله يبغض الحَبْرَ السَّمين؟! “-وكان حبرًا سمينًا- فغضب عدوُّ الله وقال: والله (ما أنزل الله) (3) على بشرٍ من شيء. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ولا موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فأنزل الله عز وجل {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (4) الآية
__________
(1) في “غ، ص”: “وكذلك”.
(2) في “غ” تصحفت إلى: “كفرنا بجميع”.
(3) ساقط من “غ”.
(4) أخرجه الطبري: (11/ 521 – 522)، والواحدي في “أسباب النزول” ص (253)، وابن هشام في “السيرة”: (1/ 547). وانظر “تفسير البغوي”: (2/ 43).
(1/433)
وهذا قول عكرمة (1) .
وقال محمد بن كعب: “جاء ناسٌ من اليهود إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -وهو محتب، فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحًا يحملها من عند الله -عزَّ وجلَّ- فأنزل الله عز وجل (2) : {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} الآية [النساء: 153] “.
وجاء رجلٌ من اليهود فقال: ما أنزل اللهُ عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحدٍ شيئًا، ما أنزل الله على بشير من شيء، فحلَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حُبْوته (3) ، وجعل يقول: ولا على أحد؟! (4) .
وذهب جماعةٌ، منهم مجاهد، إلى أنَّ الآية نزلت في مشركي قريش، فهم الذين جَحَدُوا أصل الرسالة، وكذَّبوا بالرسل، وأما أهلُ الكتاب فلم يجحدوا نبوة موسى وعيسى. وهذا اختيار ابن جرير (5) ، قال: وهو أوْلى الأقاويل بالصواب، لأنَّ ذلك في سياق الخبر عنهم، فهو أشبه من أن يكون خبرًا عن اليهود، ولم يَجْرِ لهم ذكر يكون هذا به متصلًا، مع ما في الخبر عن من أخبر الله عنه في هذه الآية من إنكاره أن
__________
(1) الطبري في الموضع السابق.
(2) انظر: “تفسير البغوي”: (1/ 617)، “الدر المنثور” للسيوطي: (2/ 726)، “أسباب النزول” للواحدي، ص (197).
(3) احتبى: جمع بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها. والاسم الحَبْوَةُ، والحُبْوَة.
(4) انظر المراجع السابقة.
(5) “تفسير الطبري”: (11/ 525).
(1/434)
يكون الله أنزل على بشر شيئًا (1) من الكتب، وليس ذلك مما تَدِيْنُ به اليهود، بل المعروف من دين اليهود الإقرارُ بصُحُف إبراهيمَ، وموسى، وزبور داود. والخبر من أول السورة إلى هذا الموضع خبرٌ عن المشركين من عَبَدَةِ الأوثان، وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} موصولٌ به غيرُ مفصولٍ عنه.
قلت: ويقوِّي قولَه، أنَّ السورة مكيةٌ، فهي خبرٌ عن زنادقة العرب المنكرين لأصل النبوة.
ولكن؛ بقي أن يقال: فكيف يحسن الردُّ عليهم بما لا يُقرُّون به من إنزال الكتاب الذي جاء به موسى؟ وكيف يقال لهم: “يَجْعَلُونَهُ قَرَاطيسَ يُبْدُوْنَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا”، ولاسيما على قراءة من قرأ بتاء الخطاب (2) ؟ وهل ذلك صالح لغير اليهود؟ فإنهم كانوا يخفون من الكتاب ما لا يوافق أهواءهم وأغراضهم، ويُبْدُون منه ما سواه، فاحتجَّ عليهم بما يُقِرُّون به من كتاب موسى، ثم وبَّخهم بأنهم خانوا الله ورسوله فيه، فأخْفَوا بعضه وأظهروا بعضه، وهذا استطراد من ذكر جَحْدِهم النبوة بالكلية، وذلك إخفاء لها وكتمان، إلى جحد بعض (3) ما أقرُّوا به من كتابهم بإخفائه وكتمانه، فتلك سجيَّةٌ لهم معروفةٌ لا تُنْكَر، إذْ مَنْ أخفى بعضَ كتابِه الذي
__________
(1) في “ج”: “نبيًّا” وهو تصحيف.
(2) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: “يجعلونه” و”يبدونها” و”يخفونها” بالياء جميعًا، لقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}. وقرأ الآخرون بالتاء، لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى}. انظر: “تفسير البغوي”: (2/ 44).
(3) ساقط من “ب، ج”.
(1/435)
يقرُّ بأنه من عند الله كيف لا يجحدُ أصلَ النبوَّة؟!
ثم احتج عليهم، بأنهم قد علموا بالوحي ما لم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم، ولولا الوحي الذي أنزله الله على أنبيائه ورسله لم يَصِلُوا إليه. ثم أمر رسوله أن يُجيب عن هذا السؤال، وهو قوله: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى}؟ فقال: {قُلِ اللَّهُ} أي: اللهُ الذي أنْزَلَه. أي: إن كفروا به وجحدوه فَصَدِّقْ به أنتَ وأقِرَّ به {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) }؟.
وجوابُ هذا السؤال أن يُقال: إن الله -سبحانه وتعالى- احتجَّ عليهم بما يُقِرُّ به أهلُ الكتابَيْنِ، وهم أولو العلم دون الأمم التي لا كتاب لها. أي: إنْ جَحَدْتُمْ أصْلَ النبوَّة، وأنْ يكونَ الله أنزل على بشرٍ شيئًا، فهذا كتابُ موسى يقرُّ به أهل الكتاب، وهم أعلمُ منكم، فاسألوهم عنه.
ونظائرُ هذا في القرآنِ كثيرةٌ؛ يستشهد -سبحانه- بأهل الكتاب على مُنْكِرِي النبوَّاتِ والتوحيدِ.
والمعنى: إنكم إن أنكرتُم أن يكونَ اللهُ أنزلَ على بشرٍ شيئًا، فمن أنزل كتاب موسى؟ فإنْ لم تعلموا ذلك فاسألوا أهل الكتاب. وأمَّا قولُه تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}، فمن قرأها بالياء فهو إخبارٌ عن اليهود بلفظ الغَيْبَةِ، ومن قرأها (بلفظ التاء) (1) للخطاب فهو خطابٌ لهذا الجنس الذين (2) فَعَلُوا ذلك. أي: تجعلونه يا مَنْ أُنزِلَ عليه كذلك.
__________
(1) في “ب”: “بالتاء”.
(2) في “ج، ص”: “الذي”.
(1/436)
وهذا من أعلام نبوته أنْ يُخْبِرَ أهلَ الكتاب بما (اعتمدوه في كتابهم) (1) ، وأنَّهم جعلوه قَرَاطِيْسَ وأبْدَوا بعضَه وأخْفَوا كثيرًا منه، وهذا لا يُعْلَم من غير جهتهم إلا بوحيٍ من الله.
ولا يلزم أن يكون (2) قولُه: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} خطابًا لمن حكى عنهم أنهم قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، بل هذا استطراد من الشيء إلى نَظِيْره وشِبْهِه ولَازِمِه (3) . وله نظائرُ في القرآن كثيرةٌ؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} إلى آخر الآية [المؤمنون: 12 – 14].
فاستطرد من الشخص المخلوق من الطين -وهو آدم- إلى النوع المخلوق من النطفة -وهو أولاده- وَأَوْقَعَ الضَّمِيْرَ على الجميعِ بلفظٍ واحدٍ.
ومثله قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 189 – 190]. إلى آخر الآيات.
ويشبه هذا: قولُه تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
__________
(1) ساقط من “ج”.
(2) ساقط من “ج”.
(3) في “ص”: “ولزومه”.
(1/437)
لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [الزخرف: 9 – 12]، إلى آخر الآيات.
وعلى التَّقْدِيْرَيْنِ: فهؤلاء لم يَتِمَّ لهم إنكارُ نبوَّةِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ومُكَابَرَتُهُم إلا بهذا الجحد والتكذيب العام، ورأوا أنَّهم إِنْ أقرُّوا ببعض النبوَّات وجحدوا نبوَّته: ظَهَرَ تَناقُضُهم وتَفْريْقُهم بين المتماثِلَيْن، وأنهم لا يمكنهم الإيمانُ بنبيٍّ وجَحْد نبوَّةِ مَنْ نُبُوَّتُه أظْهَرُ وآياتُها أكثَرُ وأعْظَمُ مِمَّن أقرُّوا به.
وأخبر -سبحانه- أنَّ مَنْ جَحَدَ أن يكونَ قد أرسَلَ رُسُلَه وأنْزَلَ كُتُبَه: لم يَقْدُرْه حقَّ قَدْرِه، وأنه نَسَبَهُ (1) إلى ما لا يَلِيقُ به، بل يتعالى ويتنزَّه عنه، فإنَّ في ذلك إنكارَ ديِنهِ (2) وإلهيَّتِه ومُلْكِه وحِكْمتِه ورحمتِه، والظنَّ السيئ به؛ أنه خَلَقَ خَلْقَه عبثًا باطلًا، وأنه خَلَّاهمِ سُدًى مُهْمَلًا، وهذا يُنَافِي كمالَهُ المقدَّسَ، وهو متعالٍ عن كلِّ ما يُنَافِي كمَالَهُ.
فمَنْ أنكرِ كَلامَهُ وتكليمَهُ وإرْسَالَه الرُّسلَ إلى خَلْقه، فما قَدَرَهُ حقَّ قدره، ولا عَرَفَهُ حقَّ معرفته، ولا عظَّمه حقَّ عَظَمَتِهِ، كما أنَّ مَنْ عَبَدَ معه إلهًا غيره لم يَقْدُرْه حقَّ قَدْرِهِ: مُعَطِّلٌ جاحدٌ لِصفاتِ كَمالِهِ ونُعُوتِ جَلَالِه وإرسال رسله وإنزالِ كُتُبه، ولا عظَّمه حقَّ عظمته.
__________
(1) ساقطة من “ج”.
(2) في “ب، ج”: “ربوبيته”.
(1/438)
فصل
ولذلك كان جَحْدُ نبوَّة خَاتَمِ أنبيائه ورُسُلِه، وتكذِيبُه: إنكارًا للربِّ -تعالى- في الحقيقة (1)، وجحودًا له، فلا يمكن الإقرارُ بربوبيَّتِه وإلهيَّتِه ومُلْكه، بل ولا بوجوده، مع تكذيبِ محمدِ بنِ عبدِ الله – صلى الله عليه وسلم -.
وقد أشرنا إلى ذلك في المناظرة التي تقدَّمتْ، فلا يُجَامعُ الكُفْرُ برسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، الإقرارَ بالربِّ -تعالى- وصفاته أصلًا، كما لا يجامع الكفرُ (2) بالمعاد، واليومِ الآخرِ (3) الإقرارَ بوجود الصَّانع أصلًا.
وقد ذكر -سبحانه- ذلك في مَوْضِعَيْن (من كتابه) (4) في سورة الرعد، في قوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد: 5].
والثاني في سورة الكهف، في قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 35 – 38].
فالرسولُ -صلوات الله عليه- إنما جاء بتعريفِ الربِّ -تعالى-
__________
(1) في “ج”: “حقيقة”.
(2) ساقط من “ب، ج”، وفي “د”: “جحد”.
(3) ساقطة من “ب”.
(4) ساقط من “ب، ج”.
(1/439)
بأسمائِهِ وصفاتهِ وأفعالِه، والتعريفِ (1) بحقوقِه (2) على عباده، فمَنْ أنكر رسالاتِه (3) فقد أنكرَ الربَّ الذي دعا إليه، وحُقوقَهُ التي أمَرَ بها. بل نقول: لا يمكن الاعترافُ بالحقائق -على ما هي عليه- مع تكذيب رسوله.
وهذا ظاهرٌ جدًّا لمن تأمَّل مقالاتِ أهلِ الأرض وأديانَهُمْ:
فإنَّ الفلاسفة؛ لم يمكنهم (4) الاعترافُ بالملائكةِ والجنِّ والمبدأ والمعادِ، وتفاصيلهما، وتفاصيلِ صفات الرب -تعالى- وأفعاله، مع إنكار النبوات، بل والحقائق المشاهَدَةِ -التي لا يمكن إنكارُها- لم يُثْبِتُوها ما علمه، ولا أثْبَتُوا حقيقةً واحدةً على ما هى عليه البتَّة. وهَذا ثمرةُ إنكارِهم النبوَّات، فسَلَبَهُم اللهُ إدراكَ الحقائق التي زعموا أنَّ عقولَهم كافيةٌ في إدراكها، فلم يُدْرِكُوا منها شيئًا على ما هو عليه، حتى ولا الماءَ ولا الهواءَ ولا الشمس ولا غيرها. فمَنْ تأمَّلَ مذاهبَهم فيها: عَلِمَ أنَّهم لم يُدْرِكُوها (5) وإنْ عَرَفُوا من ذلك بعضَ ما خَفِيَ على غيرهم.
وأما المجوس: فأضلُّ وأضلُّ.
وأما عُبَّادُ الأصنام: فلا عَرَفُوا الخالقَ، ولا عرفوا حقيقةَ المخلوقاتِ، ولا مَيَّزُوا بين الشياطين والملائكة وبين الأرواحِ الطيّبةِ والخبيثةِ، وبين أحْسَنِ الحَسَنِ وأقْبَحِ القبيح، ولا عَرفوا كمالَ النفس وما
__________
(1) في ” د”: “والعريف”.
(2) في “ج”: “لحقوقه”.
(3) في “ب، غ”: “رسالته”.
(4) في “ب، ج، غ”: “يمكنها”.
(5) في “ج، ب”: “يذكروها”.
(1/440)
تَسْعَدُ به ونَقْصَها وما تَشْقى به.
وأما النَّصارى: فقد عَرَفْتَ ما الذي أدركوه من مَعْبُودِهم وما وَصَفُوه به، وما الذي قَالُوه في نبيِّهِم، وكيف لم يُدْرِكوا حقيقتَهُ البتَّة، ووَصَفُوا اللهَ بما هو مِنْ أعظمِ العيوبِ والنَّقائصِ، ووصفوا عَبْدَهُ ورسولَه بما ليس له بوجهٍ من الوجوه، وما عرفوا اللهَ ولا رسولَه. والمعادُ الذي أقرُّوا به لم يُدْرِكُوا (1) حَقِيْقَتَهُ، ولم يؤمنوا بما جاءتْ به الرسل من حقيقتِهِ، إذْ لا أكْلَ عندهمِ في الجنة ولا شُرْبَ، ولا زوجةَ هناك، ولا حورَ عينٍ يلذُّ بهن الرجال كَلذَّاتهم في الدنيا، ولا عرفوا حقيقةَ أنفسِهِم وما تسعد به وتشقى. ومن لم يعرف ذلك فهو أجْدَرُ أن لا يعرف حقيقة شيءٍ كما ينبغي البته، فلا لأنْفُسِهِم عَرَفُوا، ولا لِفَاطِرهَا (2) وبارِئها، ولا لمن جعلَهُ الله سببًا في فَلاحِها وسعادتها، ولا للموجوداتِ وأنها جميعها فقيرةٌ مربوبة مصنوعةٌ -ناطقها وصامتها آدميها وجنيها وملكها- فكلُّ مَنْ في السموات والأرض عَبْدُه ومُلْكُه، وهو مخلوقٌ مصنوعٌ مربوبٌ، فقيرٌ من كلِّ وَجْهٍ. ومن لم يعرفْ هذا لم يعرف (3) شيئًا.
وأمَّا اليهودُ؛ فقد حكى الله لك عن جَهْل أَسْلافِهم وغَبَاوَتهم (4) وضَلالِهم ما يدلُّ على ما وراءه (5) من ظُلُماتِ الجهلِ التي بعضُهِا فوقَ بعضٍ. ويكفي في ذلك عبادتُهم العِجْلَ الذي صَنَعَتْهُ أيديهم من ذهَبٍ،
__________
(1) في “ص، غ”: “يذكروا”.
(2) في “ب، ج”: “لناظرها”.
(3) في “د”: “يكن”.
(4) في “ج”: “عداوتهم”، وفي “ب، ص”: “عبادتهم”.
(5) في “ج”: “رواه”.
(1/441)
ومِنْ غَبَاوَتهم (1) أنْ جعلوه على صورةِ أبْلَدِ (2) الحيوان وأقلِّه فَطَانةً الذي يُضْرَبُ المَثَلُ به في قِلَّة الفَهْم. فانظرْ إلى هذه الجهالةِ والغَبَاوةِ المتجاوزةِ للحدِّ كيف عَبَدُوا مع الله إلهًا آخر، وقد شاهدوا من أدلةِ التوحيد وعظمةِ الربِّ وجَلالِه ما لم يشاهِدْه سواهم؟!
وإذْ قد عزموا على اتخاذ إلهٍ دون الله فَاتَّخَذوه ونَبيُّهم حيٌّ بين أظْهُرِهِمْ لم ينتظروا موته!
وإذْ قد فَعَلُوا؛ (فلم يتَّخذوه من الملائكة المقرَّبِيْنَ، ولا مِنَ الأحياءِ الناطقين، بل اتَّخذوه من الجمادات!.
وإذْ قد فعلوا) (3) ؛ فلم يتَّخذوه من الجواهر العُلْوِيَّة كالشمس والقمر والنجوم، بل من الجواهر الأرْضِيَّة.
وإذْ قد فعلوا؛ فلم يتَّخِذوه من الجَواهر التي خُلِقَتْ فوق الأرض عاليةً عليها كالجبال ونحوها، بل من جواهرٍ لا تكون إلا تحت الأرضِ، والصخورُ والأحجارُ عاليةٌ (4) عليها!.
وإذْ قد فعلوا؛ فلم يَتَّخِذوه من (جَوْهرٍ يَسْتغني عن الصَّنْعَةِ) (5) وإدخالِ النار وتَقْليبهِ وجوهًا مختلفةً وضربِهِ بالحديد وسَبْكِهِ، بل مِنْ جَوْهرٍ يحتاج إلىَ نَيْل الأيدي له بضروبٍ مختلفةٍ، وإدخالِهِ النارَ،
__________
(1) في “ب، ج”: “عبادتهم”.
(2) في “غ، ص”: “أبله”.
(3) ما بين القوسين ساقط من “د”.
(4) في “ج، ص”: “غالبة”.
(5) في “د”: “الجواهر التي تستغني عن الصيغة”.
(1/442)
وإحراقِهِ (1) واستخراجِ خَبَثِهِ.
وإذْ قد فعلوا؛ فلم يَصُوغُوه على تمثالِ مَلَكٍ كريمٍ، ولا نبيٍّ مُرْسَلٍ، ولا على تمثالِ جوهرٍ عُلْويٍّ لا تناله الأيدي، بل على تمثالِ حيوانٍ أرضيٍّ!.
وإذْ قد فعلوا؛ فلم يصوغوه على تمثالِ أشرفِ الحيواناتِ وأقواها وأشدِّها امتناعًا من الضيم كالأسد والفيل ونحوهما، بل صاغوه على تمثال أبْلَدِ الحيوان وأَقْبَلِهِ للضيم والذلِّ، بحيث يحرث عليه الأرض، ويُسْقى عليه بالسَّواني والدواليب، ولا له قوةٌ يمتنع بها من كبيرٍ ولا صغيرٍ.
فأيُّ معرفةٍ لهؤلاء بمعبودِهم ونبيِّهم وحقائقِ الموجودات؟!!.
وحقيقٌ بمن سأل نبيَّه أن يجعل له إلهًا، فيعبد إلهًا مجعولًا بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات: أنْ لا يعرف حقيقةَ الإلهِ ولا أسماءَه وصفاتِهِ ونعوتَهُ ودِيْنَهُ، ولا يعرفَ حقيقةَ المخلوق (2) وحاجَتَهُ وفَقْرَهُ.
ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيِّهم: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] ولا قالوا له: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولا قتلوا نفسًا وطَرَحُوا المقتولَ على أبواب البُرَآءِ مِنْ قتله، ونبيُّهم حيٌّ بين أَظْهُرِهِم، وخَبَرُ السماءِ والوحيُ يأتيه صباحًا ومساءً، فكأنهم جوَّزوا أن يخفى هذا على الله (كما
__________
(1) ساقطة من “د”.
(2) في “ج”: “المخلوقات”.
(1/443)
يخفى على) (1) الناس!.
ولو عَرَفُوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له: “يا أبانا انتبه من رقدتك، كم تنام” (2) !!
ولو عَرَفوه لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه وقَتْلِهِم وحَبْسِهم ونَفْيِهم، ولَما تحيَّلُوا على تحليل محارمه وإسْقاطِ فرائضِه بأنواع الحِيَلِ. ولقد شهدتِ التوراةُ بعدم فَطانتِهم وأنهم من الأغبياء.
ولو عَرَفوه لما حَجَرُوا (3) عليه بعقولهم الفاسدةِ أنْ يأمرَ بالشيء في وقتٍ لمصلحةٍ ثم يزيلَ (4) الأمْرَ به في وقتٍ آخر، لحصولِ المصلحة وتبدُّلِه بما هو خيرٌ منه، وينهى عنه ثم يبيحه في وقتٍ آخرَ لاختلافِ الأوقاتِ والأحوالِ في المصالح والمفاسد، كما هو مشاهدٌ في أحكامه القَدَرِيَّة الكونيَّة التي لا يتمُّ نظام العالَمِ ولا مصلحتُه إلا بتبدِيْلِها (5) واختلافِها بحسب الأحوالِ والأوقاتِ والأماكنِ.
فلو اعتمد طبيبٌ أن لا يُغَيِّر الأدويةَ والأغذيةَ بحسب اختلافِ الزمان والأماكن والأحوال لأهْلَكَ الحَرْثَ والنَّسْل، وعُدَّ من الجهَّال، فكيف يحجر على طبيب القلوب والأديانِ أن تتبدَّل أحكامُه بحسب اختلاف المصالح؟! وهلَ ذلك إلا قَدْحٌ في حكمتِهِ ورحمتِه، وقدرته ومُلكِه التَّامِّ، وتدبيرِه لخَلْقِه؟!!.
__________
(1) ساقطة من “ج”.
(2) العهد القديم، المزامير: (78/ 65).
(3) في “غ”: “جحدوا”.
(4) ساقط من “ج”.
(5) في “ج”: “تقيد لها”.
(1/444)
ومن جهلهم بمعبودهم ورسولِه وأمرِه: أنهم أُمِرُوا أن يدخلوا باب المدينة التي فتحها الله عليهم سُجَّدًا ويقولوا: حِطَّة، فيدخلوا مُتَواضِعِيْنَ لله سائلين منه أن يَحُطَّ عنهم خَطَايَاهُمْ، فدخلوا يَزْحَفُون على أسْتَاهِهِم بَدَلَ السُّجُود لله، ويقولون: “هنطا سقمانا” أي حنطة سمراء. فذلك سجودهم وخشوعُهم (1) ، وهذا استغفارُهم واستقالتُهم (2) من ذنوبهم!!
ومن جهلهم وغباوتهم: أنَّ الله -سبحانه- أَرَاهُمْ من آياتِ قدرته، وعظيم سلطانِه، وصِدْق رسوله، ما لا مزيد عليه ثم أنزل عليهم -بعد ذلك- كتابَهُ وعَهِدَ إليهم فيه عَهْدَهُ وأمرَهُمْ أن يأخذوه بقوةٍ فيعبدوه بما فيه، كما خلَّصهم من عبودية فِرْعَون والقِبْط؛ فأَبَوا أنْ يَقْبَلُوا ذلك وامتَنعُوا منه، فَنَتَقَ الجبلَ العظيمَ فوق (3) رؤوسهم على قَدْرِهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوا أطْبَقْتُه عليكم. فَقَبِلُوه من تحت الجبل.
قال ابن عباس: رفع الله الجبلَ فوق رؤوسهم، وبعث نارًا من قبَل وجوههم، وأتاهم البحرُ من تحتهم، ونُودُوا: إن لم تقبلوا أَرْضَخْتكم بهذا، وأحْرَقْتكم بهذا، وأغْرَقْتكم بهذا، فقبلوه، وقالوا: سمعنا وأطعنا (4) . ولولا الجبل ما أطعناك. ولمَّا أمنوا -بعد ذلك- قالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}.
ومن جهلهم: أنهم شاهدوا الآياتِ ورأوا العجائب التي يُؤمِنُ على
__________
(1) في “ب، ج”: “خضوعهم”.
(2) في “ج”: “استغاثتهم”.
(3) في “ج”: “على”.
(4) في “ج”: “عصينا” وهو خطأ.
(1/445)
بعضها البَشَرُ، ثم قالوا بعد ذلك: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (1) [البقرة: 55].
وكان الله سبحانه قد أمر موسى أن يختار من خيارهم سبعين رجلًا لميقاته فاختارهم موسى وذهب بهم إلى الجبل، فلما دَنَا موسى من الجبل وَقَع عليه عمودُ الغمام حتى تغشَّى (2) الجبل، وقال للقوم: ادنوا. ودَنَا القومُ) (3) حتى إذا دخلوا في الحجاب وقعوا سُجَّدًا، فسمعوا الربَّ -تعالى- وهو يكلِّمُ موسى ويأمُرُه وينهاه ويعهد إليه، فلما انكشف الغَمامُ قالوا: لن نُؤمِنَ لك حتى نَرى الله جهرةً.
ومِنْ جهلهم: أنَّ هارون لما مات ودَفَنَهُ موسى قالت بنو إسرائيل لموسى: أنتَ قتلتَه، حَسَدتَّه على خُلُقِه ولِيْنِه، ومحبَّةِ إسرائيل له. قال: فاختاروا سبعين رجلًا، فوقفوا على (قبر هارونَ) (4) ، فقال موسى: يا هارون أَقُتِلْتَ أم مِتَّ، قال: بل متُّ، وما قَتَلَنِي أحدٌ!!
فحَسْبُك من جهالةِ أمةٍ وجفائِهم أنَّهم اتَّهموا نبيَّهم ونَسَبُوه إلى قَتْلِ أخيه، فقال موسى: ما قَتَلْتُه، فلم يصدِّقوه حتى أسمعهم كلامَه وبراءة أخيه مما رَمَوه به!!
ومِنْ جهلهم: أنَّ الله -سبحانه- شبههم في حَمْلِهِم التوراةَ وعَدَمِ الفقه فيها والعملِ بها بالحمار يحملُ أسْفَارًا. وفي هذا التشبيه من النِّداء على جهالتهم وجوهٌ متعددة:
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من “غ”.
(2) في “ج”: “غشى”.
(3) نهاية السقط في “غ”.
(4) في: “ج”: “قبره”.
(1/446)
(منها) أنَّ الحمار من أبْلَدِ الحيوانات التي يُضْرَبُ بها المَثلُ في البلادة (1) .
(و (منها) أنَّه لو حمل غير الأسفار من طعام أو علف أو ماء لكان له به شعورٌ بخلاف الأسفار) (2) .
و (منها) أنَّهم حُمِّلوها، لا أنهم حَمَلُوها طوعًا واختيارًا، بل كانوا كالمكلَّفين لما حملوه لم يرفعوا به رأسًا.
و (منها) أنهم حيث حملوها تكليفًا وقهرًا لم يَرْضَوا بها، ولم يحملوها رضًا واختيارًا، وقد علموا (3) أنهم لابُدَّ لهم منها، وأنهم إنْ حملوها اختيارًا كانت لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
و (منها) أنها مشتملةٌ على مصالحِ معاشِهم ومعادهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فإعراضُهم عن التزام ما فيه سعادتُهم وفلاحُهم إلى ضدِّه، من غايةِ الجهل والغَبَاوة وعدمِ الَفِطَانة.
ومِنْ جهلهم وقِفة معرفتهم: أنهم طلبوا، عِوَضَ المنِّ والسَّلوى -اللذين هما منْ أطيب الأطعمة وأنفعها وأوفقها للغذاء الصالح- البَقْلَ والقِثَّاءَ والثُّومَ والعَدَس والبَصَلَ، ومَنْ رضي باستبدال هذه الأغذية عوضًا عن المنِّ والسلوى لم يكثر عليه أن يستبدلَ الكُفْرَ بالإيمانِ، والضلالةَ بالهدى، والغضبَ بالرِّضى، والعقوبةَ بالرحمة. وهذه حالُ مَنْ لم يعرف ربَّه ولا كتابه ولا رسولَه ولا نَفْسَه.
__________
(1) في “غ”: “البلاد”.
(2) ما بين القوسين ساقط من “غ، ص”.
(3) ساقط من “غ”.
(1/447)
وأمَّا نقضُهم ميثاقَهم، وتبديلُهم أحكامَ التوراة، وتحريفُهم الكَلِمَ عن مواضعه، وأكلُهم الرِّبا وقد نهوا عنه، وأكلهُم الرِّشا، واعتداؤهم في السبت حتى مُسِخوا قِرَدةً، وقَتْلُهم الأنبياءَ بغير حقٍّ، وتكذيبُهُم عيسى ابن مريم رسول الله، ورَمْيُهُم له ولأُمِّه بالعظائم، وحِرْصُهم على قتله، وتفرُّدُهم دون الأمم بالخبث والبهت، وشِدَّةُ تكالبهم على الدنيا وحرصهم عليها، وقسوة قلوبهم، وحسدهم، وكثرة سحرهم (1) = فإليه النِّهايةُ.
وهذا وأضعافُه -من الجهل وفساد العقل- قليلٌ على من كذَّب رُسُلَ الله، وجَاهَرَ بمعاداتِهِ ومعاداة ملائكتِه وأنبيائِه وأهلِ ولايتِهِ.
فأيُّ شيء عَرَفَ من لم يَعْرفِ اللهَ ورُسُلَه؟! وأيُّ حقيقةٍ أدرك من فاتَتْهُ هذه الحقيقة؟! وأيُّ علمٍ أو عملٍ حصل لمن فاته العِلْمُ بالله، والعملُ بمرضاته، ومعرفةُ الطريقِ الموصلةِ إليه، ومآله بعد الوصولِ إليه؟!
فصل
فأهلُ الأرضِ كلُّهم في ظلمات الجهلِ والغيِّ (2) إلا من أَشْرَق عليه نورُ النبوة، كما في “المسند” وغيره من حديث عبدِ الله بنِ عَمْرو، عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنَّ الله خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمةٍ وألْقَى عليهم من نوره، فَمَنْ أصابَهُ من ذلك النُّور: اهتدى، ومَنْ أخطأه: ضَلَّ، فلذلك أقول: جَفَّ القَلم على عِلْمِ اللهِ” (3).
__________
(1) في “ص”: “سخرهم”.
(2) في “ج”: “البغي”.
(3) أخرجه الإمام أحمد: (2/ 176)، والترمذي في الإيمان، باب افتراق هذه =
(1/448)
ولذلك (1) بَعَثَ اللهُ رُسُلَه (لِيُخْرِجُوا النَّاسَ) (2) من الظُّلماتِ إلى النُّور، فمَنْ أجابهم: خرجَ إلى الفَضَاءِ والنُّورِ والضِّياءِ، ومَنْ لم يُجبْهم: بَقِيَ في الضِّيق والظُّلْمَةِ التي خُلِق فيها، وهي: ظلمة الطَّبْع، وَظلمة الجهلِ، وظلمة الهوى، وظلمة الغَفْلة عن نفسه وكمالها، وما تسعد به في معاشِهَا ومَعَادِهَا.
فهذه كلُّها (3) ظلماتٌ، خُلِقَ فيها العبد، فَبَعَثَ اللهُ رسلَه لإخراجه منها إلى نور (4) العِلْم والمعرفةِ والإيمان والهدى الذي لا سعادةَ للنفس بدونه البتَّة، فمن أخطاه هذا النورُ: أخطأه حظُّه وكمالُه وسعادتُه، وصار يتقلَّب في ظلماتٍ بعضُها فوق بعض، فمدخلُه ظلمةٌ، ومخرجُه ظلمةٌ، وقولُه ظلمةٌ، وعَمَلُه ظلمةٌ، وقَصْدُه ظلمةٌ، وهو متخبِّطٌ في ظلماتِ طبعِه وهواهُ وجهلِهِ، وقَلْبُه مظلمٌ، ووجهُه (5) مظلمٌ، لأنه يبقى على الظلمةِ الأصليَّةِ، ولا يناسِبُه من الأقوالِ والأعمالِ والإرادة والعقائد إلا ظلماتُها. فلو أشْرَقَ له شيءٌ من نور النبوَّة لكان بمنزلة إشراقِ الشمس على بصر (6) الخُفَّاش.
__________
= الأمة: (7/ 401) وقال: “هذا حديث حسن”، والحاكم: (1/ 30 – 31).
وقال: “هذا حديث صحيح تداوله الأئمة، وقد احتجا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة”. وقال الذهبي: “على شرطهما ولا علة له”، وصححه ابن حبان. انظر: “موارد الظمآن” للهيثمي، ص (449).
(1) في “ص، غ”: “وكذلك”.
(2) في “غ”: “للناس ليخرجوهم”.
(3) في “غ، ص”: “جميعها”.
(4) ساقط من “ص، د”.
(5) ساقط من “ج”.
(6) في “ب، غ، ج”: “بصائر”.
(1/449)
بَصَائِرُ أَعْشَاهَا النَّهارُ بِضَوئِهِ … وَلَاءمها قِطْعٌ من الليل مظلمُ
فصل
يَكَادُ نُورُ النبوَّة يُعْمِي تلك البصائر ويَخْطَفُها لشدَّتِه وضَعْفِها، فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها وملاءمتها إيَّاها.
والمؤمنُ: عَمَلُه نورٌ، وقولُه نورٌ، ومدخلُه نورٌ، ومخرجُه نورٌ، وقَصْدُه نورٌ، فهو يتقلَّب في النور في جميع أحواله. قال الله تعالى:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].
ثم ذَكَرَ حالَ الكُفَّار وأعمالَهم وتَقَلُّبَهُم (1) في الظُّلمات فقال:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 39 – 40].
والحمدُ للهِ أولًا وآخرًا، وباطنًا وظاهرًا، وصلَّى اللهُ على سيِّدِنا محمدِ خاتَمِ النبيِّينَ وعلى آلِه وصَحْبه أجمعينَ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ. والحمد لله رب العالمين (2).
__________
(1) في “د”: “تقلباتهم”.
(2) هذا ختام نسخة “د”. وفي “ص”: “تم الكتاب بعون الملك الوهاب”. وفي =
(1/450)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= “غ” “تم الكتاب بعون الله والحمد لله تعالى على التمام والصلاة والسلام على نبيه وأصحابه الكرام .. وكتب هذا الكتاب من سائر الخطاطين لأنه حرر من الكتاب من أوله إلى آخره. خطوط خط سنة أربع وأربعون ومائة وألف”.
وفي “ج”: تم الكتاب بحمد الله وعونه ولطفه وكرمه وحسن توفيقه كتابة، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين. وكان الفراغ من تحرير هذه النسخة المباركة في يوم السبت المبارك تاسع عشر من شهر رمضان المعظم على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التحية، على يد أفقر العباد إلى رحمة الله: قاسم بن محمد الرومي بلدًا والمصري موطنًا … “.
وفي “ب”: “تمَّ الكتاب المستطاب بعون الله الوهاب. كتبه الحقير الفقير إلى رحمة ربِّه القدير: مصطفى رشدي بن أحمد قليوزي، غفر ذنوبهما وستر عيوبهما الباري، في السنة خمس وسبعين ومائتين وألف. وأتمَّه في اليوم: إحدى وعشرين ربيع الأول في ليلة الجمعة، وعلى حساب أبجد سنة في غرعه في يوم كافي ليلها. سنة 1275. وأنا الفقير مصطفى رشدي وجدت قائلًا يقول: اعلم أن هذا الكتاب كتاب جليل، لكن لم ينتشر بين أهل التحصيل، لم أر ولم أسمع -مع فرط التتبع- أن أحدًا ملأ عينيه لسَنا برقه، أو كرع من حياض رياض تملكه فضلًا عن مطالعة مطالع غرره في غربه وشرقه. أحمد الله على توفيق كتابته ومطالعته من محض فضله وعنايته ونعمه”.
(1/451)