عطاءات العلممعلمي

التعقيب على تفسير سورة الفيل للفراهي

التعقيب على تفسير سورة الفيل للفراهي

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: التعقيب على تفسير سورة الفيل للفراهي
المؤلف: عبد الرحمن بن يحيى المُعَلِّمي اليماني (1313 – 1386 هـ)
المحقق: مجموعة من الباحثين منهم المدير العام للمشروع علي بن محمد العمران
الناشر: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1434 هـ
عدد الأجزاء: 25
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

رسالة في التعقيب

على تفسير سورة الفيل للمعلِّم عبد الحميد الفراهي

تأليف
عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي

تحقيق
محمد أجمل أيوب الإصلاحي

(مقدمة 8/1)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(مقدمة 8/2)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذه رسالة قيمة للشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله، تعقّب فيها ما ذهب إليه العلامة المعلِّم عبد الحميد الفَراهي رحمه الله في تفسير سورة الفيل.
وإذا كان المعلمي رحمه الله من العلماء المشهورين، وقد عرفه أهل العلم بتحقيقاته البارعة ومؤلفاته النفيسة، وقد ترجم ترجمة مفصلة في مقدمة هذا المشروع، فإن المعلِّم رحمه الله ــ على عبقريته وجلالة قدره ــ ظل مغمورًا في البلاد العربية إلى عهد قريب، إذ لم يقف أهل العلم فيها على مؤلفاته التي صدرت في الهند أيام الاحتلال الإنجليزي، وبعضها بعد الاستقلال، ثم نفدت قبل أن تصل إلى أيدي القراء العرب، إلا نسخًا قليلة متفرقة سقطت في أيدي بعض العلماء والباحثين، فأشادوا بها، وأفادوا منها. ومن ثَمّ لما أخرجتُ كتابه “مفردات القرآن” صدَّرْته بترجمة مفصلة بعض التفصيل (1)، ومقتضى المقام أن أقتصر هنا على إيراد لُمَع من سيرته.
_________
(1) انظر: مفردات القرآن (طبعة دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1422)، ترجمة المؤلف (11 – 41). وبالعربية قد ترجم له العلامة السيد سليمان الندوي في آخر كتاب “إمعان في أقسام القرآن” (طبعة السلفية بالقاهرة)، وصاحب نزهة الخواطر (الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام) طبعة الهند (8/ 248 – 249). ويراجع للتفصيل كتاب “ذكر فراهي” بالأردية للدكتور شرف الدين الإصلاحي، الذي صدر من الدائرة الحميدية في الهند في 840 صفحة، و”مختصر حيات حميد” بالأردية طبعة الدائرة الحميدية.

(مقدمة 8/5)


(1) ترجمة المعلِّم رحمه الله:
هو عبد الحميد بن عبد الكريم، حميد الدين، أبو أحمد، الأنصاري، الفراهي. ولد صبيحة يوم الأربعاء سادس جمادى الآخرة سنة 1280 في الهند، في قرية من أعمال “أعظَمْ كَرْهْ” أحد الأضلاع الشرقية من الإقليم الشمالي المسمى الآن “أُتَّرَبَرَدِيش” (1).
اشتهر في الهند بلقبه “حميد الدين”، ولعله سُجل بهذا الاسم عندما التحق بالتعليم الرسمي، فكان يوقع به في المكاتبات والأوراق الرسمية، ولكنه آثر أن يكتب اسمه في أول كتبه العربية: “المعلم عبد الحميد الفراهي”. أما “الفراهي” فنسبة معربة إلى قريته. وأما لقب “المعلم” فيظهر لي أنه لما كانت العلماء ورثة الأنبياء، ومن وراثة النبوة تعليم الكتاب والحكمة، وكان تدبر كتاب الله عز وجل ودراسة ما فيه من الأحكام والحكم ثم تعليمه للناس هو عمود حياة الفراهي العلمية، وذلك حظه من وراثة النبوة= اتخذ لنفسه لقب “المعلم”.
ولد رحمه الله في بيت علم ودين وشرف، وقرأ القرآن الكريم في منزله على مؤدبه الأول الشيخ أحمد علي وحَفِظه. ثم أخذ اللغة الفارسية في منزله
_________
(1) الجمهورية الهندية مقسمة إلى ولايات، وكل ولاية إلى “أضلاع” جمع ضلع، وهو من مصطلحات العهد الإسلامي في الهند وما زال رائجًا حتى الآن، وضلع “أعظم كره” هو الذي ينتسب إليه الأعظميون في الهند. وكل ضلع يشتمل على مدن صغيرة وقرى، ومن المدن التابعة لضلع “أعظم كره”: “مبارك فور” التي ينتسب إليها المباركفوريون.

(مقدمة 8/6)


أيضًا عن مؤدبه الثاني الشيخ محمد مهدي. ثم انتقل من قريته إلى مدينة “أعظم كره”، ودَرَس فيها اللغة العربية والكتب المتداولة في الفنون المختلفة على ابن عمته العلامة المؤرخ الأديب شِبْلي النعماني (ت 1332)، وكان من أشهر أعلام الهند في القرن الماضي.
ثم رحل إلى مدينة “لَكْنَؤُو” عاصمة الإقليم الشمالي، وحضر دروس العلامة الفقيه المحدث الشيخ عبد الحي اللَّكْنَوي (ت 1304)، وأخذ المعقولات عن الشيخ فضل الله بن نعمة الله الأنصاري (ت 1312).
ثم سافر إلى مدينة “لاهور” عاصمة البنجاب، وتلمذ لأديب العربية وشاعرها وشارح الحماسة والمعلقات الشيخ فيض الحسن السَّهَارَنْفُوري (ت 1304)، وهو من شيوخ العلامة شبلي النعماني أيضًا، فقرأ عليه كتب الأدب العربي وبعض كتب المعقولات.
وبعدما تخرج في العلوم الشرعية والأدبية والمعقولات، وهو ابن عشرين سنة، اتجه إلى دراسة اللغة الإنجليزية والعلوم الحديثة، فالتحق بالمدرسة الثانوية، ثم كلية عَلِيكَرْهْ التي صارت فيما بعد جامعة، وهي الآن من أشهر جامعات الهند. وقد أعفي في الكلية من مادتي العربية والفارسية لطول باعه فيهما، بل كُلّف ترجمة كتابين من العربية إلى الفارسية ليقرَّر تدريسهما في كليته هو. وقد اعتنى بدراسة الفلسفة الحديثة، وحصل على درجة الامتياز فيها. وبعدما نال شهادة البكالوريوس، درس القانون (الحقوق) سنتين، ولكنه لم يكمل دراسته لكراهية الاشتغال بمهنة “الوكالة”، وكلمة الوكالة هي المستعملة في الأردية حتى الآن للمحاماة، والمحامي يسمى وكيلًا.

(مقدمة 8/7)


وبدأ الفراهي حياته الوظيفية سنة 1314 بتعيينه مدرسًا في “مدرسة الإسلام” بمدينة “كراتشي” وكانت مدرسة حكومية مرموقة، وأقام فيها أكثر من تسع سنوات. ثم عُيّن سنة 1324 أستاذًا مساعدًا للغة العربية في كلية عليكره. وبعد سنتين عُيّن أستاذًا للعربية بجامعة “إلاهاباد”، ودرّس فيها ست سنوات إلى أن استعارت وظيفته دولة حيدراباد الدكن ليكون مديرًا لدار العلوم الشرقية فيها، فرحل إليها سنة 1332. وأمضى خمس سنوات هناك، ثم استقال وعاد إلى وطنه سنة 1337.
وقد زاره الدكتور تقي الدين الهلالي المراكشي رحمه الله سنة 1342، وطلب إليه أن يكتب له ترجمته، فكان مما كتب: “ولما كانت هذه المشاغل تمنعني عن التجرد لمطالعة القرآن المجيد، ولا يعجبني غيره من الكتب التي مللت النظر في أباطيلها، غير متون الحديث وما يعين على فهم القرآن، تركت الخدمة، ورجعت إلى وطني، وأنا بين الخمسين والستين من عمري. فيا أسفا على عُمُرٍ ضيَّعتُه في أشغال ضرُّها أكبر من نفعها! ونسأل الله الخاتمة على الإيمان” (1).
فانقطع إلى تدبر القرآن الكريم، وتأليف كتبه في علوم القرآن، بالإضافة إلى الإشراف على “مدرسة الإصلاح” التي قد أسستها جمعية إصلاح المسلمين سنة 1327، ورسم لها الفراهي بعد عودته من حيدراباد منهجًا دراسيًّا فريدًا لتعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية. وكان رئيسًا لمؤسسة دار المصنفين في مدينة أعظم كره التي قد أسسها مع العلامة السيد سليمان الندوي وغيره من تلامذة العلامة شبلي النعماني بعد وفاة شيخهم سنة
_________
(1) مجلة الضياء، المجلد الثاني، العدد السابع، ص 260.

(مقدمة 8/8)


1332، وهي أشهر مجمع علمي في شبه القارة الهندية، وقد أخرجت كتبًا نفيسة كثيرة باللغة الأردية في السيرة والتاريخ والتراجم والأدب.
وتوفي رحمه الله في تاسع عشر جمادى الآخرة سنة 1349 على إثر عملية جراحية.
وكان رحمه الله في أخلاقه مثالًا للسلف الصالح، فقد أجمع الذين جالسوه وعاشروه من شيوخه ومعاصريه على ورعه، وزهده في الصيت والسمعة، وتجنبه فضول القول وسفاسف الأمور. وكان غاية في اتباع السنة، والمحافظة على الصلوات، والغيرة على الدين، والحمية لشعائر الإسلام. وكان راتبه عاليًا، فيذهب جزء كبير منه في الإنفاق على الأقارب وذوي الحاجات، وقسم منه لشراء الكتب المطبوعة في مصر وأوربا.
وقد انفرد المعلِّم رحمه الله من بين معاصريه من علماء الهند بأنه أول مَن تلقَّى الثقافة الغربية من موردها، فأتقن اللغة الإنجليزية، ودرس العلوم الحديثة فيها، ثم حاضر بها وألّف، فله رسالة مطبوعة باللغة الإنجليزية في الرد على عقيدة النصارى في الشفاعة والكفارة. ومعرفته للغة الإنجليزية قد فتحت له بابًا واسعًا للاطلاع على كل ما صدر فيها مما يهمّه من كتب الأدب والشعر والبلاغة والفلسفة وتاريخ اليهود والنصارى وما كتبه المستشرقون عن القرآن الكريم والعلوم الإسلامية.
وقد تعلم اللغة العبرانية يوم كان أستاذًا في كلية عليكره، فنظر في صحف أهل الكتاب المتداولة وقرأها بالعبرانية. وقد أعانه ذلك على الكشف عن تحريفاتهم وتفسير بعض الإشارات الواردة في القرآن الكريم في الرد على اليهود مما يخفى على غير المطلع على كتبهم.

(مقدمة 8/9)


وفي دراسة الفلسفة والمنطق لم يقتصر الفراهي على التراث العربي، بل كان يتابع ما يصدر في الغرب من أحدث المطبوعات في الفلسفة والمنطق، ويقرؤها قراءة بحث ونقد ومقارنة. ومن ثم كان أعلم الناس بمضرة كتب الفلسفة وانحرافات الفلاسفة القدماء والمُحدَثين. اقرأ ما قاله في ذكر أحد الأسباب السبعة التي بعثته على تأليف كتابه “حجج القرآن”:
“والثاني: ما تعلق بالذين معظم همهم المعقول من المنطق والفلسفة، فإنهم قد ابتلوا بعقليات سافلة زائغة عن طريق الفطرة والهدى، مفضية إلى الحيرة وصريح العمى، كما لا يخفى على من نظر في خزعبلات المتفلسفين العاشين عن نور الوحي والكتاب. ولذلك حذَّر السلف من الاشتغال به، ولكن أبى الناس إلا النظر فيه، والولوع به، والإخلاد إليه؛ ثم بعد التجربة عرفوا مضارها. فمنهم من أبطل بعض أباطيلها، وأبقى بعضها محسنًا به ظنه كأبي حامد رحمه الله، فإنه بيّن تهافت ما في إلهيات اليونانيين، ولكنه هو الذي أدخل منطقهم في الإسلام، فكان كمن قتل الأفعى وربّى أولادها. وكذلك اتخذ أخلاقياتهم، وبنى عليها كتابه “ميزان العمل”، فلم يخرج عن اتباع الفلاسفة مع غلوه في ردهم. وأما ابن مسكويه والطوسي وأمثالهما فهم مجاهرون بتقليد اليونانيين في الأخلاقيات. ومنهم من انتبه لأكثر من ذلك كابن تيمية رحمه الله، فردّ على المنطقيين ردًّا طويلًا، ودل على زيغ نهج المتكلمين … ” (1).
ولكن الكتاب الذي ملك عليه عقله وقلبه هو كتاب الله الذي كان ألذ كتاب وأحبه إليه. وقد بدأ تدبره أيام طلبه في كلية عليكره، وانكشف له
_________
(1) حجج القرآن (20). والجدير بالذكر أن الفراهي قد نسخ بيده كتاب “الرد على المنطقيين” لشيخ الإسلام ونسخته هذه محفوظة في مكتبة “دار المصنفين” بأعظم كره.

(مقدمة 8/10)


حينئذ نظام بعض السور، وظل القرآن هو المحور لجهوده الفكرية والعلمية. وقد اجتهد في الحصول على جميع أنواع المعارف التي تعين على فهم القرآن، وسخَّر كل الوسائل التي تُيسر الوصول إلى تلك الغاية.
وقد أقام على هذا التدبر المتصل لكتاب الله ودراسته العميقة إلى آخر حياته، وخطط لتأليف اثني عشر كتابًا في علوم القرآن غير تفسيره الذي سماه “نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان”، وبعض مقدمات التفسير التي أفردها لتوسع مباحثها. ولكن المؤسف أن معظم مشروعاته العلمية لم تكتمل لأسباب منها: طريقته في التأليف (1)، وأعمال علمية معترضة، وأشغال إدارية، وأمراض مزمنة.
وأكبر ميزة لكتاباته أنها نتائج الفكر، فهي تحمل مناهج جديدة وأفكارًا مبتكرة ونظرات دقيقة، وفيها غذاء للعقل والقلب معًا، ثم إنها كما قال العلامة أبو الكلام آزاد رحمه الله (ت 1377): “تشتمل على مقاليد العلوم” (2).
وقد اختار لمؤلفاته في علوم القرآن وغيره اللغة العربية لأنه ألّفها لعلماء العالم الإسلامي، وكان يرى أن لغة العالم الإسلامي هي العربية لا غير.
ومن مؤلفاته في التفسير وعلوم القرآن التي أكملها ونشرها في حياته: الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، وإمعان في أقسام القرآن، وتفسير السور الآتية: الذاريات، والتحريم، والقيامة، والمرسلات، وعبس، والشمس، والتين، والعصر، والكوثر، والكافرون، والمسد.
_________
(1) انظر شرحها في ترجمته في صدر “مفردات القرآن” (31).
(2) انظر “ذكر فراهي” للدكتور شرف الدين الإصلاحي (536).

(مقدمة 8/11)


وكان للمعلم رحمه الله منهج خاص في التفسير يقوم على دعامتين: الكشف عن نظام السور والآيات، وتفسير القرآن بالقرآن، ولذلك سمى تفسيره “نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان”. ولكن الحقيقة أن الأصل الأصيل هو تفسير القرآن بالقرآن، لأن مرجعه في الكشف عن نظام السور ورباط الآيات أيضًا هو القرآن لا غير، وقد انكشف له نظام بعض السور أول ما انكشف من داخل القرآن لا من خارجه. وكان يرى أن مراعاة النظام تقلل من الاحتمالات العديدة التي ينقلونها في تأويل الآيات، وتقرِّب إلى التأويل الصحيح الموافق للسياق.

(2) تفسير سورة الفيل:
قد ترك المعلِّم رحمه الله بعد وفاته مسودات كثيرة، أخرج تلامذته منها كتاب مفردات القرآن، وفاتحة نظام القرآن (وهي مقدمة تفسيره) وجمهرة البلاغة، وكلها كتب ناقصة. والمسودة الوحيدة التي كانت شبه كاملة هي مسودة تفسير سورة الفيل، فنشروها سنة 1354، وكانت طبعة حجرية بالخط الفارسي اشتملت على 43 صفحة.
وكانت النية أن ينشر تفسير سورة الفيل كاملًا في ذيل هذا الكتاب، لأنه قد نفد قبل زمن طويل، وليكون الأصل أيضًا بين يدي القارئ مع نقده (1). ولكن تبين أن ذلك سيضاعف حجم الكتاب، فرأينا أن نكتفي هنا بإعطاء صورة من كتاب المعلِّم رحمه الله.
يحتوي هذا التفسير على الفصول الآتية:
في تفسير كلمات السورة.
_________
(1) كتبت هذا قبل سنتين. وقد صدرت أخيرًا مجموعة تفسير الفراهي “نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان” عن دار الغرب الإسلامي، وتفسير سورة الفيل ضمن المجموعة (ص 717 – 775).

(مقدمة 8/12)


في تعيين المخاطب بهذه السورة.
عمود السورة وربطها بالتي قبلها والتي بعدها.
بيان ما فضل الله به هذا البيت وأهله على سائر المعابد وذويه.
أمور مهمة مما يتعلق بتقديس مسجد وحفظه.
إجمال القصة حسب ما نص عليه القرآن.
النظرة الأولى، وهي فيما زعموا من سبب مجيء أبرهة وفرار أهل مكة وما جرى بينه وبين عبد المطلب.
النظرة الثانية، وهي في رمي أصحاب الفيل بالحجارة، وكونها من الآيات العظام.
النظرة الثالثة، وهي فيما كان من أمر الطير التي أرسلت على أصحاب الفيل.
الاستدلال بكلام العرب على أن الرمي كان من السماء والريح.
في أكل الطير أصحاب الفيل تصديق لبشارة عظيمة في نبينا – صلى الله عليه وسلم -.
أسباب صارفة عن التأويل الراجح.
بيان معنى الرمي بالحجارة، وتمهيد للنظر في أصل رمي الجمار بمنى.
أصل سنة رمي الجمار.
أثر هذا التأويل في القلوب عند عمل رمي الجمار.
قد انفرد المعلِّم رحمه الله ــ مثل غيره من أفذاذ العلماء وكبار الأئمة ــ بمسائل ومذاهب في علوم العربية والتفسير وغيره، لكنه ــ كما قال الذهبي

(مقدمة 8/13)


في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية ــ لم يكن ينفرد بالتشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق (1)، بل يستدل على ما يذهب إليه بالمعقول والمنقول، ويخطئ كغيره ويصيب، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
ومما انفرد به رحمه الله تفسيره لسورة الفيل، إذ ذهب إلى أن العرب لم يتخلوا عن بيت الله، بل نافحوا عنه، وقاتلوا جيش أبرهة بما استطاعوا وبما تيسر لهم، وهو أنهم رموهم بحجارة من سجيل، ولكن رميهم هذا لم يكن ليدفع ذلك الجيش الجرار، فأرسل الله سبحانه عليهم حاصبًا أهلكهم، كما أهلك به الأمم الطاغية الأخرى، وكانت تلك آية عظيمة من آيات الله.
وقد شبَّه رمي العرب جيش أبرهة بالحجارة ورمي الله إياهم بالحاصب في الوقت نفسه بما وقع في غزوة بدر إذ أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشًا، ثم قال: شاهت الوجوه، ثم نفحهم بها وقال لأصحابه: شدّوا. فلم يبق كافر إلا شغل بعينه كما جاء في سورة الأنفال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} … فكان هناك رميان: رمي من النبي – صلى الله عليه وسلم – رأوه ورمي من الله تعالى لم يروه ولكن رأوا أثره ولذلك جاء النفي والإثبات معًا … وكما نسب الله الرمي في بدر إلى نفسه في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فهكذا هاهنا نسب إلى نفسه أنه جعلهم كعصف مأكول، فلا شك أنها كانت من الآيات البينات، فإن منافحة قريش كانت أضعف من أن يفل هذا الجيش، فكيف يحطمهم حتى صاروا كعصف مأكول؟ ” (تفسير سورة الفيل ص 20).
_________
(1) انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (540).

(مقدمة 8/14)


واستدل في ذلك أيضًا بكلام العرب الذين شهدوا الواقعة، وذكروا في شعرهم ما رأوه من “جنود الإله بين ساف وحاصب”. وأيد ذلك أيضًا بقول ذي الرمة:
وأبرهةَ اصطادت صدورُ رماحنا … جهارًا وعُثنونُ العجاجةِ أكدَرُ
تنحَّى له عمرٌو فشكَّ ضلوعَه … بنافذةٍ نجلاءَ والخيلُ تَضْبِرُ
فقال: “فصرح بأنه طعنه رجل من قومه وبأنه كان في يوم ذي غبار كثير مرتفع إلى السماء، وذلك بأن الله أرسل عليهم ريحًا حاصبًا فحصبتهم” (ص 17).
وقوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} عند المعلِّم رحمه الله حكاية حال ماضية، والضمير المستتر في (ترمي) للخطاب راجع إلى الخطاب العام في (ألم تر) أي كنت ترميهم أيها المخاطب، ولكن رميك لم يكن ليغني شيئًا، فالله سبحانه هو الذي جعلهم كعصف مأكول. وأما الطير فأرسلت عنده لأكل الجثث، وأيد ذلك بما ورد في كلام الشعراء وما فهمه من بعض الروايات. ثم ذهب إلى أن رمي الجمرات في الحج تذكار لرمي جيش أبرهة، وخصص لبيان ذلك الفصول الثلاثة الأخيرة.
والأمور التي بعثت الفراهي رحمه الله على هذا التفسير أهمها فيما يظهر لي من خلال كلامه أمران:
الأول: أن بيت الله كان أعز شيء عند العرب ولا سيما عند قريش، وكل شرفهم وفخارهم منوط به، والأمم مهما كانت من الذلّ والضعة لا ترضى بإهانة معابدها، بل تضحي بنفسها ونفيسها في الدفاع عنها، فكيف يتخلى العرب عن بيت الله، ويفرِّطون في محاربة العدو القادم لهدمه ويفرُّون إلى

(مقدمة 8/15)


شعف الجبال، وهم الذين يضرب المثل بإقدامهم وبسالتهم وأنفتهم وحمايتهم للجار، وقد نشبت الحروب المتطاولة لأدنى سبب من ذلك.
والثاني: الرواية التي وردت في لقاء عبد المطلب لأبرهة تعظِّم أبرهة، وتصفه بالحلم، وتلصق كل مهانة وذل بعبد المطلب سيد قريش. فبدا للمعلم رحمه الله أن الرواية مما وضعه أعداء العرب.
ثم وجد بعض الشعراء الذين شهدوا الواقعة يذكرون السافي والحاصب، فتأكد عنده أن الله تعالى أرسل عليهم الرياح الذاريات وأمطر عليهم الحجارة كما فعل بقوم لوط وغيرهم.
ورأى في كلام العرب أيضًا ذكر الطير التي كانت تصحب الجيوش لتأكل القتلى كما قال النابغة:
إذا ما غزوا بالجيش حلَّق فوقهم … عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصائب
وفهم من قول سعيد بن جبير: “إن الطير كانت خضرًا لها مناقير تختلف عليهم” أنها كانت تأكلهم، فذهب إلى ما ذهب في تفسير السورة.
ولما صدر تفسير المعلِّم رحمه الله هذا تعرض للرد والتعقيب، مع الاعتراف بجلالة قدره، وغزارة علمه، وتورعه وتقواه (1). غير أن بعض شيوخنا لما تصدى لنقد هذا التفسير أنكر شجاعة العرب أصلًا، وزعم أنها من أكاذيب الشعراء والأخباريين، وكأنه ــ غفر الله له ــ قاس شعراء الجاهلية على الشعراء المتأخرين من العرب وشعراء الفارسية والأردية المولعين بالغلو والإغراق في المدح والافتخار.
_________
(1) انظر: قصص القرآن للشيخ محمد حفظ الرحمن (3: 361)، وتفهيم القرآن للأستاذ أبي الأعلى المودودي (6: 471).

(مقدمة 8/16)


(3) تعقيب المعلمي رحمه الله:
صدر تفسير سورة الفيل للمعلم رحمه الله سنة 1354 كما سبق، وكان المعلمي رحمه الله حينئذ في حيدراباد، وقد ذهب إليها بعد سنة 1345، وغادرها سنة 1371. وقد عرفت في ترجمة المعلِّم رحمه الله أنه عاش في حيدراباد خمس سنوات (1332 – 1337)، وكان عميدًا لدار العلوم، ومعدودًا من الشخصيات العلمية المرموقة، ولما غادر حيدراباد ترك وراءه أصدقاء وتلامذة، وثناء وافرًا، ولسان صدق عليًّا في مجالس العلم ودوائر الحكم، لما أوتي من فضائل علمية وعملية قلما تجتمع في شخص واحد، ولما تحلى به من الورع والزهد وغنى النفس مع علو منصبه وراتبه.
فكان من الطبيعي أن يسمع الشيخ المعلمي رحمه الله في حيدراباد باسم المعلِّم رحمه الله ونعوته وفضائله، وقد وقف على بعض مؤلفاته، واستفاد منها، وعرف عبقريته، كما ذكر في مطلع رسالته هذه.
ومن ذلك أنه لمَّا تكلَّم في كتاب العبادة له على حقيقة القسم قال: “وألَّف الأستاذ حميد الدين الفراهي الهندي رسالةً سمَّاها “الإمعان في أقسام القرآن” أجاد فيها. وسألخِّص هاهنا ما استفدته منها ومن غيرها وما ظهر لي” (ص 821). وانظر أيضًا (ص 826).
وللمعلمي رحمه الله رسالة في بيان ارتباط الآيات في سورة البقرة، أحال فيه على كتاب الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، فقال في موضع: “وقد حقق هذا البحث المعلِّم عبد الحميد الفراهي في كتاب الرأي الصحيح، فانظره”. وفي موضع آخر، وهو يذكر ارتباط الآية (144)، وصفه بأنه “كتاب نفيس”.

(مقدمة 8/17)


ولم يتفق له لقاء المعلِّم رحمه الله، وأنّى له ذلك، وهو مقيم في حيدراباد في جنوبي الهند، والمعلم مقيم في وطنه في شمالي الهند، وبينهما مسافة شاسعة جدًّا! ولو أراد المعلمي رحمه الله ذلك لما تحمَّل راتبه القليل نفقات مثل هذه الرحلة الطويلة الشاقَّة.
فلما طبع تفسير سورة الفيل، ووصلت نسخه إلى حيدراباد، وقف عليه الشيخ المعلمي رحمه الله، ورأى أن الدلائل التي احتج بها المعلِّم رحمه الله أضعف من أن تقوم بما ذهب إليه في تفسير السورة، فعزم على تعقبه ونقده بمنهجه العلمي الرصين، فقال في مقدمة رسالته:
“أما بعد، فإني قد كنت وقفت على بعض مؤلفات العلامة المحقق المعلِّم عبد الحميد الفراهي ــ تغمده الله برحمته ــ كالإمعان في أقسام القرآن، والرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، وتفسير سورة الشمس؛ وانتفعت بها وعرفت عبقرية مؤلفها. ثم وقفت أخيرًا على تفسيره لسورة الفيل، فألفيته قد جرى على سنته من الإقدام على الخلاف إذا لاح له دليل، وتلك سيرة يحمدها الإسلام، ويدعو إليها أولي الأفهام. غير أن الخلاف هنا ليس لقول مشهور، ولا لقول الجمهور، ولكنه لقول صرح به الجماهير، ولم ينقل خلافه عن كبير ولا صغير … وقد بدا لي أن أتعقب المعلِّم رحمه الله وأشرح ما يتبين لي من وفاق أو خلاف”.
ترتيب الرسالة ومطالبها
أشار المعلمي رحمه الله في مقدمة الرسالة إلى المنهج الذي سلكه في ترتيبها أولًا، ثم ما بدا له من العدول عنه إلى منهج آخر، فقال: “وقد كنت جريت على ترتيب المعلِّم رحمه الله مساوقًا له، ثم رأيت الأولى أن أسلك

(مقدمة 8/18)


ترتيبًا آخر، فأبني رسالتي هذه على قسمين: الأول فيما يتعلق بالقصة رواية ودراية، الثاني: في تفسير السورة”.
أما القسم الأول فيشتمل على ثمانية فصول، وقد رقّمها رحمه الله بحروف الأبجد من الألف إلى الحاء دون أن يضع لها عناوين. وقد سبق أن رأينا أن تفسير المعلِّم رحمه الله يحتوي على 15 فصلًا، فالمعلمي رحمه الله تجاوز في هذا القسم الفصول الخمسة الأولى منها، وبدأ بالكلام على ما ورد في الفصل السادس وما بعده إلى الفصل الخامس عشر، إلَّا ما ذهب إليه المعلِّم رحمه الله في تفسير {تَرْمِيهِمْ} فإنه أخّره كما قال إلى القسم الثاني.
والفصول الخمسة المذكورة من تفسير المعلِّم رحمه الله منها فصلان نفيسان ــ وهما الرابع والخامس ــ في بيان ما فضّل الله به بيت الله وأهله على سائر المعابد وذويها، وأمور مهمة تتعلق بتقديس المسجد وحفظه، ولم يكن فيهما شيء ينقده المعلمي رحمه الله، فلم يتعرض لهما.
أما الفصول الثلاثة الأولى فهي في تفسير ألفاظ السورة وعمودها وارتباطها بما قبلها وما بعدها وتعيين الخطاب فيها. وقد خالف المعلمي رحمه الله بعض ما جاء فيها، ولكنه تكلم عليه عندما فسر هو السورة في القسم الثاني.
– عقد المعلِّم رحمه الله الفصل السادس بعنوان “إجمال القصة حسب ما نص عليه القرآن”، وقال:
“إن قصة أصحاب الفيل لها إجمال وتفصيل، أما مجملها فهو الذي نص عليه القرآن، وأما تفصيلها فأخذوها من الروايات المختلفة المتفاوتة

(مقدمة 8/19)


في الصحة والضعف، والمفسرون يذكرون تفاصيل القصص من غير بحث عما ثبت وعما لم يثبت، وهذا ربما يعظم ضرره، وربما يصرف عن صحيح التأويل. فلا بد أولًا من الفرق بين المنصوص وبين المأخوذ من الروايات، ثم لا بد ثانيًا من التمييز بين ما ثبت وبين ما لم يثبت” (ص 15).
ثم نظر المعلِّم رحمه الله في الروايات ثلاث نظرات: الأولى فيما زعموا من سبب مجيء أبرهة ومما جرى بينه وبين أهل مكة، والثانية فيما كان من رمي أصحاب الفيل، والثالثة في أمر الطير. وافتتح النظرة الأولى بقوله:
“كل ما ذكروا من سبب مجيء أبرهة لغضبه على العرب ومن فرار أهل مكة ومما جرى بين أبرهة وعبد المطلب لم يثبت من جهة السند، فإن كل ذلك لا يجاوز ابن إسحاق، ومعلوم عند جهابذة أهل الحديث أنه يأخذ الروايات من اليهود وممن لا يوثق به. ثم يبطل هذه الأمور روايات أخر، ويبطله ما ثبت عندنا من عادات العرب. ومما يدل على كونها من أكاذيب الأعداء أنها ما تعمدت إلا غضاضة من العرب وحميتهم، وإهانة لرئيسهم عبد المطلب القرشي، وتنويهًا بحسن خلق أبرهة الحبشي ومسبة على من هيجه على هدم الكعبة، وبسطًا لعذره إذا انتصر لكنيسته. فلم يترك الكذابون شيئًا من الذلة والمنقصة والعار والشنار إلا نسبوها إلى العرب وقريش ورئيسها، فلا نكتفي هاهنا بإرسال القول فيها بل نذكر لك الوجوه التي تدل على كذب هذه الروايات” (ص 16).
ثم ذكر سبعة وجوه تدل عنده على كذب الرواية، والسادس منها أنهم زعموا أن أبرهة كان رجلًا حليمًا، وإنما هيجه أحد بني فقيم إذ دخل كنيسته

(مقدمة 8/20)


ونجّسها. وعلّق المعلِّم رحمه الله على ذلك بأنه يبطل “هذه الرواية سائر أحوال أبرهة وتعصبه في دينه … ” (ص 18).
بدأ الشيخ المعلمي رحمه الله رسالته بنقد هذا الوجه السادس، فذكر في الفصل الأول (ألف) أن ابن إسحاق لم ينفرد بقصة تقذير الكنيسة، وأنه ليس فيها ما يُعدّ غضاضة من العرب أو عذرًا لأبرهة، غير أن القضية لم تثبت من جهة الرواية.
– وقد استدل المعلِّم رحمه الله في الوجه الثاني بما ورد في القصة أن أبرهة أكرم عبد المطلب غاية الإكرام، لكن لما كلمه عبد المطلب في إبله قال له أبرهة: أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه، فلا تكلمني فيه! وعلق المعلِّم عليه قائلًا: “فهل يمكن أن يترك عبد المطلب التكلم في أمر البيت بعدما رأى وسمع من أبرهة ما يستيقن به أنه لو سأله الانصراف عن هدم البيت لفعل، ثم إنه لم يترفع عن المجيء إليه والسؤال لإبله” (ص 17).
تكلم المعلمي رحمه الله على هذا الوجه في الفصل الثاني (ب) وقال: “ليس في القصة ما يحصل به الاستيقان بل ولا الظن … ” وذكر احتمالات أخرى تكون سببًا لما جرى بينهما، وأخيرًا لم يستبعد أن في القصة مبالغة في تصوير احترام أبرهة لعبد المطلب.
والوجوه الأخرى التي تدل عند المعلِّم رحمه الله على كذب الرواية، ومنها ما استدل به على وقوع القتال بين العرب وأبرهة، قد تكلم عليها المعلمي رحمه الله في الفصلين (ج، د)، وردّها، وكشف عن وهم المعلِّم رحمه الله في بعضها. ثم ذكر هو عدة أدلة على أن أهل مكة لم يقاتلوا أبرهة، ومنها:

(مقدمة 8/21)


“أن كل من له إلمام بأخبار العرب يعرف شدة حرصهم على رواية أخبار أيامهم وحفظها وتردادها في الأسمار وتقييدها بالأشعار … وبين أيدينا أخبارهم في حرب البسوس وحرب داحس وغير ذلك نجدها مروية بتفصيل بأسماء فرسانهم وخيلهم وقاتلهم ومقتولهم، وكيف كان القتال، وكم استمر، إلى غير ذلك من الجزئيات … فكيف يعقل مع هذا أن يكونوا قاتلوا أبرهة، وقتلوه في المعركة، ثم لا يوجد لذلك في أخبارهم وأشعارهم أثر؟ … ” (ص 30 – 31).
– وقد ذهب المعلِّم رحمه الله إلى أن الطير أرسله الله تعالى لتطهير ناحية مكة من جيف القتلى، وقال: إن النظر في الروايات يكشف عن فريقين متباينين في تصوير هذه القصة، ثم ذكر مواضع الاختلاف، ورجح ما نسبه إلى الفريق الأول، وأيَّده مستدلًّا بكلام العرب على أن الرمي كان من السماء والريح.
استعرض المعلمي رحمه الله الروايات المذكورة، وأثبت أن الرواة ليسوا فريقين مختلفين، وإنما وقع الاختلاف في بعض الأمور الجزئية، ورمي الطير قد أشار إليه الفريقان معًا، بل لم ينفه أحد قبل المعلِّم رحمه الله. ثم أورد من مخطوطة كتاب “المنمق” لابن حبيب (1) شعرًا فيه تصريح برمي الطير كقول نفيل بن حبيب الذي شهد الواقعة:
_________
(1) قد استنسخت دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد نسخة من كتاب “المنمق” بعد اللتيا والتي من أصله الفريد المحفوظ في مكتبة ناصر حسين الشيعي بمدينة (لكنَؤُو). وذلك سنة 1932 م، بعد وفاة المعلِّم رحمه الله بسنتين. وقد رجع الشيخ المعلمي رحمه الله إلى هذه النسخة التي ظلت محفوظة في خزانة الدائرة إلى أن نشرته سنة 1384=1964 م.

(مقدمة 8/22)


حتى رأينا شعاع الشمس يستره … طيرٌ كرَجْلِ جرادٍ طار منتشرِ
يرميننا مقبلاتٍ ثم مدبرةً … بحاصب من سواء الأفق كالمطر
وكان المعلِّم رحمه الله قد استدل بما جاء في رواية سعيد بن جبير أنها “طير خضر لها مناقير صفر تختلف عليهم” بأنها أكلت جثث الموتى، فردّ عليه المعلمي رحمه الله بأن الجملة (تختلف عليهم) صفة للطير، وليست صفة للمناقير، والمقصود باختلافها مجيئها وذهابها.
– عقد المعلمي رحمه الله الفصل السابع (ز) لبيان ما يكون ــ فيما يظهر له ــ باعثًا للمعلِّم رحمه الله على إنكار رمي الطير. وذكر ثلاثة أمور: الأول أن يتهيأ له دعوى أن قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} للخطاب، فيستدل بذلك على أن أهل مكة قاتلوا. والثاني ما ذكره المعلِّم رحمه الله بقوله: “من ينظر في مجاري الخوارق يجد أن الله تعالى لا يترك جانب التحجب في الإتيان بها، كما هي سنته في سائر ما يخلق، لأن حكمته جعلت لنا برزخًا بين عالمي الغيب والشهادة، وسنَّ لنا التشبث بالأسباب مع التوجه إلى ربها، ليبقى مجال للامتحان والتربية لأخلاقنا”.
وعلق المعلمي رحمه الله على ذلك بقوله: “تحقيق هذا البحث يستدعي النظر في حكمة الخلق، وقد أشار إليها الكتاب والسنة، وتكلم فيها أهل العلم، وأوضحتُ ذلك في بعض رسائلي، وألخص ذلك هنا”.
وهذا بحث نفيس، ذكر فيه المعلمي رحمه الله أن الخوارق كلها لا يكون فيها حجاب، بل منها ما يكون مكشوفًا لحكمة تقتضي ذلك، ومن ذلك الآيات القاضية التي تقترحها الأمم المعاندة على أن يعاجلها العذاب إن لم تؤمن. ومن ذلك الآيات التي يقع بها العذاب، فإنها ليست لإقامة حجة

(مقدمة 8/23)


فيناسبها الحجاب. ودلل على أن الرمي في واقعة الفيل لم يكن لإقامة حجة، وإنما كان آية عذاب. ومثل ذلك لا يستدعي الحجاب، بل كان هناك مانعان من الحجاب والتسبب والمباشرة.
والأمر الثالث الذي يرى المعلمي رحمه الله أنه قد يكون باعثًا على إنكار رمي الطير “أن بعض فلاسفة الإفرنج وكُتَّابهم وأذنابهم من الملحدين ينكرون الخوارق، ويسخرون منها، ويعدّون ذكرها في القرآن برهانًا على اشتماله على الكذب. وعلماء المسلمين شديدو الغيرة على القرآن، والحرص على تبرئته عن المطاعن، فقد يحمل بعضهم ذلك على أن يتأول بعض النصوص القرآنية، ويحمله على معنى لا ينكره القوم”.
ثم قال: “لست أقول: إن المعلِّم رحمه الله تعالى ممن يمكن أن يختار تأويلًا يعلم ضعفه، ولكن قد لا يبعد أن تكون شدة غيرته على القرآن، وحرصه على دفع الطعن عنه، مما قرّب ذاك التأويل إلى فهمه”.
وهنا أريد أن أضيف أن المعلِّم رحمه الله لم يكن من ذلك الصنف من العلماء الذين يتأثرون بكلام الإفرنج والملحدين، بل كان من العلماء الراسخين، ولم يزده تضلعه من الإنجليزية ودراسته للعلوم الحديثة إلا استقامة ورسوخًا، كما شهد بذلك أصدقاؤه ومعارفه. وهو الذي قال في خطبة تفسيره:
“فكأني نذرت نذرًا: أن أتمسك بآيات الله ونظامها، فلا أجاوز عنها شبرًا … مجتنبًا غلوًّا في الدين، فلم أكن متخذ الباطنية بطانةً، ولا الظاهرية ظهرًا. مفارقًا من لم يفرق بين سنّة الله وسنن المخلوقات، فكذّب ببينات القرآن، وحرّف آياته زورًا ومكرًا. قائلًا للمبتدعة كلّهم: حِجْرًا، وللملحدين جميعهم: بَهْرا” (1).
_________
(1) انظر: “نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان” للفراهي، طبعة دار الغرب الإسلامي (12).

(مقدمة 8/24)


والمقصود بالبينات هنا: المعجزات، فلم يكن رحمه الله ممن يضيق صدره، وينتفخ سحره بها. وانظر إلى قوله في فصل بعنوان “مغالطة من أنكر بالمعجزات”:
“وأخطأ من ظنّ أن الطبائع من سنة الله … وهذا الخطأ منهم انجر إلى عثرةٍ كبيرةٍ، وهي أن خرق عادات الأشياء محال، فأنكروا بصريح القرآن والكتب السماوية، وحرفوا النصوص الواضحة إلى الأباطيل الفاضحة” (1).
وقال في موضع آخر: “ظنوا أن المراد من سنة الله طبائع الخلق كلها، فالنار مثلًا لا بد أن تحرق الإنسان … وعلى هذا أنكروا المعجزات. وغرَّهم أقوال من سمى هذه الطبائع سنة الله، وأول من استعمل كلمة (سنة الله) في هذا المعنى هم أصحاب رسائل إخوان الصفاء … ” (2).
ومن هنا لما سُئل المعلِّم رحمه الله يوم كان طالبًا في كلية عليكره ترجمة تفسير السيد أحمد خان مؤسس الكلية (1232 – 1315)، وقد أوّل فيه جميع الآيات التي ذكر فيها الخوارق= أبى قائلًا: “لن أشارك في نشر هذا الإثم” (3).
– وقد ذهب المعلِّم رحمه الله إلى أن رمي الجمرات في الحج تذكار لرمي أصحاب الفيل، سواء كان الرمي من العرب أو من الطير وقال: “ولم أجد في صحاح الأخبار ذكرًا في سبب سنة رمي الجمار، فلو ثبت فيه شيء
_________
(1) القائد إلى عيون العقائد (161).
(2) القائد إلى عيون العقائد (165).
(3) ذكر فراهي (119).

(مقدمة 8/25)


من طريق الخبر لأخذنا به، وقرَّت به العينان، ولكنه لم يثبت، وأمر الدين ليس بهيّن، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : “كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع”، فعمدنا إلى طريق الاستنباط، فإن المستنبط من الصحيح الثابت أولى بالصواب من الصريح الذي لم يثبت”. ثم ذكر أمارات ووجوهًا تبين أن مناسبة رمي الجمار لرمي أصحاب الفيل أظهر من مناسبته لرمي الشيطان.
تكلم المعلمي رحمه الله على هذه المسألة في الفصل الثامن (ح)، وذكر بعض الروايات الجيدة التي وردت في رمي الجمار، ورجح أن تعرض الشيطان لإبراهيم كان ليصده عن معرفة المناسك والإتيان بها.
وذكر أن ما جاء في بعض روايات الابتلاء بالذبح أن الشيطان تعرض لإبراهيم فلم يجده من وجه يثبت، فإن صح فهي قصة أخرى غير هذه. ثم تناول الشيخ الأمارات والوجوه التي ذكرها المعلِّم رحمه الله بنقد مفصل.
أما القسم الثاني من الرسالة فرتبه المعلمي رحمه الله على مقدمة وبابين. المقدمة في عمود السورة وربطها بالتي قبلها والتي بعدها، ورجح أن عمودها ــ يعني موضوعها، وهو من مصطلحات المعلِّم رحمه الله ــ تهديد العصاة الذين ألهاهم التكاثر عن الآخرة، بينما يرى المعلِّم رحمه الله أن عمودها هو الامتنان على قريش.
وجعل عنوان الباب الأول: “في تفسير السورة على ما أفهم وفاقًا لأهل العلم”، وفسر السورة آية آية، وتحت كل آية فصول رقّمها بالعدد لا بحروف الجمّل كما فعله في القسم الأول. وفسر الآية الأولى في ثمانية فصول أولها عن دلالة الاستفهام في الآية، فبيّن أصل معنى الاستفهام والمعاني الأخرى المجازية، وتكلم عليها كلامًا حسنًا.

(مقدمة 8/26)


والفصل الثالث تحت هذه الآية في الخطاب فقال: “اتفق المفسرون ــ فيما أعلم ــ على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن الآلوسي أشار إلى احتمال خلاف ذلك … واختار المعلِّم رحمه الله تعالى أولًا عموم الخطاب، قال: (فاعلم أن الخطاب هنا متوجه إلى جميع من رأى هذه الواقعة أو أيقن بها من طريق تواتر الحكاية ممن رآها). وأطال في تقريره”.
وعقب على ذلك بقوله: “أرى أن المعلِّم رحمه الله تعالى أجاد باختيار هذا الوجه، وإن لم يُنقل عمن تقدم … وهو مع ذلك الأوفق بما يقتضيه المقام من تقرير الواقعة، وبيان ظهورها واشتهارها، والإبلاغ في الوعيد والتهديد والامتنان”.
وهكذا فسر المعلمي رحمه الله سورة الفيل كاملة، وبيّن في أثناء تفسيره ما خالف فيه المعلِّم رحمه الله.
– وخصص الباب الثاني من هذا القسم للبحث مع المعلِّم رحمه الله فيما ذهب إليه في تفسير قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} وقال: “قد نبهت في مقدمة هذا القسم الثاني وأثناء الباب الأول منه على مواضع مما خالفت فيه المعلم، ووجهت ذلك بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. وأخرت الكلام في {تَرْمِيهِمْ} لطوله. وأرى أن أقدم فوائد وقواعد ينبني عليها البحث معه، فهاكها”.
وهي ست عشرة فائدة وقاعدة تتعلق بمسائل الحال، والاستئناف البياني، وجواز وضع الماضي موضع المضارع، ووقوع المجاز وإنكاره. وقد سقط منها ثلاث فوائد كاملة وهي: 11، 12، 13 مع جزء من أول الفائدة 14، إذ وقع في النسخة خرم (ص 17 – 30) ذهب بأربع عشرة صفحة.

(مقدمة 8/27)


وقد استغرقت هذه الفوائد الصفحات (143 – 182)، وبدأ البحث من (ص 183)، ولكن قال في حاشية الصفحة (189): “انظر الفائدة الـ من الذيل” (كذا). ونحوه في (ص 198) قال: “انظر الفائدة العاشرة من الفوائد الآتية في الذيل”، وكذلك الحاشية التي تليها. وقد زاد المؤلف هذه الحواشي فيما بعد، فالظاهر أنه بدا له عند مراجعة ما كتبه أن يؤخر الفوائد السابقة إلى آخر الرسالة، ولكن ذلك كان يقتضي التعديل في مقدمة القسم الثاني وتقديم الفصل التالي للفوائد عليها.
ومع أن جملة الكلام على المسألة قد تمت، ولكن يظهر أن المؤلف رحمه الله لم يكمل رسالته، إذ لم يختمها بكلمة تدل على الفراغ منها.
– أما أسلوب المعلمي رحمه الله في مناقشته وتعقبه، فهو أسلوب علمي هادئ رصين، لا تهجم فيه، ولا تجريح، ولا اتهام. فهو يحترم المنقود، ويحسن الظن به، ويلتمس له العذر، ويتحرى النصفة.

(4) نسخة الرسالة:
النسخة التي بين أيدينا هي مصورة من فُليم (ميكروفلم) محفوظ في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم 3557 ف، وعنوانها: “رسالة في التعقيب على المعلِّم عبد الحميد الفراهي”، وقد رقمت صفحاتها فبلغت 116 صفحة، وقد تجاوز الترقيم ورقتين بعد الصفحة الخامسة عشرة، لأنهما ليستا جزءًا من هذه الرسالة. وقد سقطت في التصوير الصفحتان 34 و 35، فنسختهما من الأصل المخطوط.
ورقم الأصل 4645، وهو دفتر فيه ستون ورقة وقد جلّد معه دفتر آخر،

(مقدمة 8/28)


والترقيم المتسلسل بلغ 82 ورقة. وتشتمل النسخة على عدة رسائل أولها هذه الرسالة. وهذه مبيضة وبخط المؤلف. وكتب في صفحة الغلاف بخط آخر: “رسالة في التفسير وتفسير قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} الآية”. وتبدأ رسالتنا في الورقة الثانية/أ، ورقمت بالمرسام برقم 1، وقد استغرقت أوراق الدفتر الأول.
وهي مبيضة كما قلنا، ولكن ظل المؤلف رحمه الله يأخذها بالحذف والإضافة والتعديل والاستدراك والإلحاق. فقد ضرب على الصفحات 47، 48، 109، 116 كاملة، وعلى نصف الصفحة 46، وكذلك على نصف الصفحة 49. ونجد إلحاقات طويلة في الصفحتين 74 – 75. وانظر ص 27، 28، 29، 57، 58.
هذه النسخة تشتمل على القسم الأول ومن القسم الثاني على المقدمة والباب الأول فقط. فلا يوجد فيها الباب الثاني الذي تكلم المؤلف رحمه الله فيه على تفسير {تَرْمِيهِمْ}. وكنا نظن أن هذا الباب إما أن المؤلف رحمه الله لم يتمكن من كتابته، أو أنَّه قد كتبه ولكنه ضاع، فإن الأستاذ عبد الله بن عبد الرحمن المعلمي لم يذكر في معجمه إلا نسخة واحدة وذكر رقم فُلَيمها 3557 ف (1). فلما صدر أخيرًا الفهرس المختصر لمخطوطات المكتبة رأيت فيه ذكر نسخة أخرى برقم 4785 تفسير، وأنها مختلفة الأسطر في دفترين (2). فراجعتها في المكتبة، والدفتران من مشتريات حيدراباد. والدفتر الأول منهما
_________
(1) معجم مؤلفي مخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف (460).
(2) الفهرس المختصر لمخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف (1/ 543).

(مقدمة 8/29)


يشتمل على مسودة التعقيب (وهي في 46 صفحة من أولها) ومسائل أخرى. وفي الدفتر الثاني ظفرنا بمبيضة الباب الثاني من القسم الثاني وهي في 66 صفحة، فاكتملت الرسالة بحمد الله.
ولعل المفهرس السابق ظن أن ما في الدفترين كليهما مسودة بيَّضها المؤلف في النسخة السابقة، فاكتفى بتصويرها، ولم يدر أن التي أهملها تتضمن جزءًا مهمًّا من الرسالة. فطلبت إلى المسؤولين أن يتفضلوا بتصوير الباب الثاني من هذه النسخة. وجزى الله خير الجزاء الدكتور محمد بن عبد الله باجودة مدير مكتبة الحرم المكي الشريف، والشيخ محمد بن سيد أحمد مطيع الرحمن مدير قسم المخطوطات فيها على استجابتهما لطلبنا، ثم إتاحة الفرصة لمراجعة الأصول أكثر من مرة.
هذه المبيضة أيضًا بخط المؤلف، وهي كالمبيضة الأولى في الحذف والإضافة والاستدراك والتعديل، والتقديم والتأخير فأشبهت المسودة.
ومن منهج المؤلف في الإحالات أنه يذكر اسم الكتاب في الحاشية فإذا كان في مجلدين أو أكثر يتبعه رقم المجلد ورقم الصفحة بين القوسين، وإلا يذكر رقم الصفحة بعد حرف الصاد دون قوسين. وقد ترك أحيانًا بعد اسم الكتاب بياضًا بين قوسين، ليكمل الإحالة على المجلد والصفحة فيما بعد. وقد يذكر رقم المجلد ويترك رقم الصفحة، وخاصة في الإحالة على سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف لعلمه بوجود المبحث المذكور في المجلد الأول.
وفي تخريج الآيات التزم الشيخ الإحالة على اسم السورة ثم رقمها

(مقدمة 8/30)


ورقم الآية كليهما مثل: “سورة الطلاق (65/ 1) “.
وفي الصلاة والسلام على النبي – صلى الله عليه وسلم – التزم ذكر آله: “صلى الله عليه وآله وسلم”. والجدير بالذكر أنه التزم هذه الصيغة في النقول التي يوردها من كلام غيره، وكذلك التزمها في الأحاديث التي نقلها مع أنها لم ترد فيها هذه الصيغة.

(5) طريقة العمل في نشر هذه الرسالة
سرت في تصحيح هذه الرسالة والتعليق عليها على المنهج الآتي:
1 – سُلِّمت إليّ للتصحيح نسخة منقولة من مصورة المبيضة، فقرأتها وقابلتها على المصورة. وقد وجدت فيها ورقة ناقصة، فسافرت إلى مكة المكرمة، وزرت مكتبة الحرم المكي الشريف في 29/ 3/1428، ونسخت الورقة من الأصل المحفوظ في المكتبة. ثم اكتشفت نسخة الباب الثاني من القسم الثاني، فصورتها من المكتبة، وكانت مواضع كثيرة لم تظهر في الصورة، فزرت المكتبة مرة أخرى في 17/ 11/1429، وصححت تلك المواضع واستدركتها من الأصل.
2 – أُثبتت تعليقات المؤلف في أماكنها وخُتمت بكلمة [المؤلف] بين حاصرتين. وحاولت أن لا أعلق إلا عند الضرورة، وإذا زدت ضمن تعليق المؤلف مصدرًا أو طبعة غير التي أحال عليها هو وضعت الزيادة بين حاصرتين.
3 – الطريقة المتبعة في تخريج الآيات في كتب المشروع أن يذكر اسم السورة ورقم الآية بعد الآية في داخل النص، وكان المؤلف رحمه الله قد

(مقدمة 8/31)


خرجها في الحاشية وذكر بعد اسم السورة رقمها أيضًا كما سبق، ولكنه لما لم يلتزم هذه الطريقة في كتبه الأخرى بل كان أحيانًا يقتصر على رقم السورة ورقم الآية، أو اسم السورة ورقم الآية= تقرَّر أن يكون تخريجها في جميع كتبه على الطريقة المتبعة في المشروع.
4 – في بعض الإحالات لم يذكر المؤلف رقم الصفحة أو رقم المجلد ورقم الصفحة كليًّا، فتركتها كما هي، لأن الطبعة التي اعتمدها ليست بين يدي، وزدت بين حاصرتين طبعة أخرى مع رقم المجلد والصفحة.
5 – لم يضع المؤلف رحمه الله عنوانًا لهذه الرسالة، وقد سماه المفهرس في خانة عنوان المخطوط: “رسالة في التعقيب على المعلِّم عبد الحميد الفراهي”. وبهذا العنوان ذكره الأستاذ عبد الله بن عبد الرحمن المعلمي في معجمه (1). وكذا في الفهرس الجديد الذي صدر قريبًا لمخطوطات مكتبة الحرم المكي (2). وقد اخترت هذا العنوان مع زيادة: “تفسير سورة الفيل” للتوضيح.
وفي الأصل كتب في صفحة العنوان: “رسالة في التفسير”. وفي الدفتر الأول من المسودة كتب في ورقة صغيرة: “رسالة في الرد على العلامة المحقق المعلِّم عبد الحميد الفراهي في تفسير سورة الفيل لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي”. وفي هذا الدفتر نفسه كتب بعضهم فيما بعد: “بحث في تفسير سورة الفيل”. وهذا الكاتب نفسه كتب في الدفتر الثاني: “بحث في تفسير سورة الفيل والرد على عبد الحميد”. وكل أولئك اجتهاد
_________
(1) معجم مؤلفي مخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف (460).
(2) الفهرس المختصر لمخطوطات مكتبة الحرم المكي الشريف (1/ 543).

(مقدمة 8/32)


من المفهرسين أخذًا من مضمون الرسالة، وليس شيء منها بخط المعلمي رحمه الله.
هذا، وقد وقفت على فُلَيم الرسالة برقم 4645 ف في مكتبة الحرم المكي الشريف سنة 1418، وكانت حينئذ في مقرها الموقت في شارع المنصور، ثم علمت أن أحد الباحثين معنيّ بنشرها، فانتظرت نشرته. ولما تقرر نشر مؤلفات المعلمي رحمه الله ضمن هذا المشروع المبارك، وارتبطت به، وُكل إليّ إخراجها، وكان من فضل الله وتوفيقه أن أوقفنا على باب من الرسالة لم يكن معروفًا من قبل، وهو الباب الثاني من القسم الثاني، ويبلغ نحو الربع من صفحات الرسالة، وبإضافته اكتملت الرسالة في جملتها، والحمد لله، ولم يبق فيها غير خرم واحد مقداره أربع عشرة صفحة، كما سبقت الإشارة إليه.
وبعد، فقد فرغت من تحقيق الكتاب وتحرير هذه المقدمة في سلخ شعبان سنة 1430، ثم شُغلت بأعمال أخرى. وبأخرة عثر أخي الشيخ علي العمران على عشر صفحات (21 – 30) من الخرم المذكور ضمن مجموع برقم 4706، وقد وردت فيه الصفحات (27 – 30) قبل (21 – 26) لأن الذي رتَّب الأوراق لم يعرف طريقة المؤلف في كتابة الرقم (2)، فظنَّه (3)، فلما ظنَّ أنَّ (21) هو (31) وضع (ص 27 – 30) قبل (ص 21).
هذه الصفحات تضمنت فائدتين: الثالثة عشرة، وقد استغرقت النصف الأول من (ص 21)، ثم بدأت الفائدة الرابعة عشرة.

(مقدمة 8/33)


ويلحظ الناظر في هذه الصفحات:
1 – أن الفائدة الرابعة عشرة قد تمت في السطر السادس من (ص 24) وترك المؤلف سائر الصفحة فارغًا.
2 – موضوع هذه الفائدة: الفرق بين الجملتين الحاليتين في قولك: “جئتَ تسرع”، و”جئتَ وأنت تسرع”.
3 – بدأت (ص 25) برقم (14) مرة أخرى، وكان من قبل رقم (11)، فغيَّره المؤلف، ثم كتب: “تقرير المجاز في استعمال ما هو للحال فيما هو ماضٍ أو مستقبل”. وهذا بحث طويل مستقل لا علاقة له بالفائدة السابقة، ثم هو الوحيد الذي وضع المؤلف له عنوانًا، وإن لم يكتبه بخط بارز في وسط الصفحة.
4 – استمرَّ هذا المبحث إلى آخر (ص 30) وتلاه في أول (ص 31) من الأصل: “فمن أمثلتهم المشهورة … “. وهذه أمثلة المجاز المذكور.
وقد يقال: لعل المؤلف كتب أولًا رقم (14) ثم غيَّره إلى (11)، والصفحات الأربع الضائعة تتضمن الفائدة الثانية عشرة فقط.
أستبعد ذلك لأن إحالة المؤلف على الفائدة (11) تدل على أن موضوعها ليس استعمال ما هو للحال فيما هو ماضٍ أو مستقبل. (انظر ص 198). ثم إحالاته رحمه الله على الفائدة الرابعة عشرة تصدق على الفائدة الواردة في (ص 21 – 24) ومبحث “تقرير المجاز … ” جميعًا (انظر ص 199، 206). ومن ثم رأينا إبقاءهما كما وردا في الأصل إلى أن يأذن الله بالعثور على الصفحات الأربع الباقية من الخرم (17 – 20).

(مقدمة 8/34)


أسأل الله سبحانه أن ينفع بهذه الرسالة، وأن يتغمد برحمته الناقد والمنقود، وأن يجزل لهما المثوبة على اجتهادهما في تدبر كتابه الحكيم، وأن يكتبهما في أهل القرآن: أهل الله وخاصته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الرياض
محمد أجمل أيوب الإصلاحي
سلخ رجب 1433

(مقدمة 8/35)


نماذج مصورة من الأصل

(مقدمة 8/37)


الورقة الأولى من المخطوط الأول

(مقدمة 8/39)


الورقة الثانية من المخطوط الأول

(مقدمة 8/40)


الورقة الأولى من المخطوط الثاني

(مقدمة 8/41)


الورقة الأخيرة من المخطوط الثاني

(مقدمة 8/42)


رسالة في التعقيب

على تفسير سورة الفيل للمعلِّم عبد الحميد الفراهي

تأليف
عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي

تحقيق
محمد أجمل أيوب الإصلاحي

(8/1)


[ص 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أنزل الكتاب قرآنًا عربيًّا غير ذي عوج، وندب إلى تدبره، واتباع ما فهم منه، ولم يجعل في الدين من حرج.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فإني قد كنت وقفتُ على بعض مؤلفات العلامة المحقق المعلِّم عبد الحميد الفراهي ــ تغمده الله برحمته ــ كـ”الإمعان في أقسام القرآن” (1)، و”الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح” (2)، و”تفسير سورة
الشمس” (3)؛ وانتفعتُ بها، وعرفتُ عبقرية مؤلفها.
ثم وقفتُ أخيرًا على تفسيره لسورة الفيل (4)، فألفيتُه قد جرى على
_________
(1) صدرت طبعته الأولى سنة 1329 هـ من المطبعة الأحمدية في (عليكره)، والثانية من المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1349 هـ. وصدر أخيرًا من دار القلم بدمشق سنة 1415 هـ.
(2) صدرت طبعته الأولى سنة 1338 هـ من مطبعة معارف في (أعظم كره). وصدر أخيرًا من دار القلم بدمشق سنة 1420 هـ.
(3) طبع سنة 1326 هـ في مطبعة (فيض عام) في (عليكره).
(4) طبع بعد وفاة المؤلف في مطبعة معارف في (أعظم كره) سنة 1354 هـ.

(8/3)


سنته، من الإقدام على الخلاف إذا لاح له دليل. وتلك سيرة يحمدها الإسلام، ويدعو إليها أولي الأفهام؛ غير أن الخلاف هنا ليس لقولٍ مشهورٍ، ولا لقول الجمهور، ولكنه لقولٍ صرّح به الجماهير، ولم ينقل خلافه عن كبير ولا صغير.
ومثل هذا القول إن جاز خلافه في بعض المواضع، فإنه لا يكفي للإقدام على الخلاف فيه لائحة دليل، ولا رائحة تعليل؛ بل لا يغني فيه إلا حجة تزداد وضوحًا بتكرار النظر، ولا تلين لتأويل مقبول “حتى يلين لضرس الماضغ الحجر” (1). [ص 2]إذا عضّ الثِّقافُ بها اشمأزّتْ … ووَلَّتْه عَشَوزَنةً زَبُونا
عَشَوزَنةً إذا انقلبتْ أرنَّتْ … تشُجُّ قَفا المثقِّف والجَبينا (2)
وقد تدبرتُ ما ذكره المعلِّم من الدلائل، فلم أرها كذلك، ولا قريبًا من ذلك إلا في بعض الفروع. وقد بدا لي أن أتعقب المعلِّم رحمه الله، وأشرح ما يتبين لي من وفاقٍ أو خلافٍ. وأسأل الله تعالى التوفيق.
هذا، وقد كنت جريت على ترتيب المعلِّم رحمه الله مساوقًا له، ثم
_________
(1) شطر سائر ضمَّنه الفرزدق وغيره. ولعل قائله عبد الله بن الزَّبِير الأسدي، وصدر بيته في الإمتاع والمؤانسة (3/ 104):
ولا ألينُ لغير الحقِّ أتبعُه
وانظر: مجموعة المعاني (1/ 236)، والتمثيل والمحاضرة (70).
(2) البيتان من معلقة عمرو بن كلثوم. انظر: جمهرة أشعار العرب (1/ 403)، وشرح القصائد السبع الطوال (404).

(8/4)


رأيت الأولى أن أسلك ترتيبًا آخر، فأبني رسالتي هذه على قسمين:
الأول: فيما يتعلق بالقصة رواية ودراية.
الثاني: في تفسير السورة.

(8/5)


القسم الأول
[فيما يتعلق بالقصة رواية ودراية]

(8/7)


(ألف)
قال ابن إسحاق: “ثم إن أبرهة بنى القُلَّيس (1) بصنعاء، فبنى كنيسةً لم يُر مثلُها … ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيتُ لك أيها الملك كنيسةً لم يُبن مثلُها لملك كان قبلك، ولستُ بمنتهٍ حتى أصرف إليها حجَّ العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من النَّسَأة … حتى أتى القُلَّيس، فقعد فيها … فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف لَيَسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه” (2).
أنكر المعلِّم قضية القعود في الكنيسة، وذكر قول أهل العلم: إن ابن إسحاق يأخذ عن اليهود وعمن لا يوثق به، وجزم بأن القصة من أكاذيب الأعداء، قصدوا بها عيب العرب، واختلاق عذر لأبرهة (3).
[ص 3] قال عبد الرحمن: قد جاء عن الواقدي وابن الكلبي ما يشهد لقضية تقذير الكنيسة (4). وليس في ذلك ما يعدّ عيبًا للعرب، ولا عذرًا لأبرهة؛ لأن فعل رجل واحد لعله لا يدري ما النصرانية، وإنما علم أن ذلك الحبشي بنى بيتًا يضارّ به بيت الله عزَّ وجلَّ، لا يُعدّ ذنبًا لجميع العرب. ولو أذنب جميع العرب لما كان ذلك ذنبًا لبيت الله تعالى. ولكن القضية لم تثبت من جهة الرواية. فالله أعلم.
_________
(1) معرب “كليسا”، وهي الكنيسة. [المؤلف](2) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف. [المؤلف]. انظر: السيرة طبعة السقا (1/ 43 – 45).
(3) راجع تفسير سورة الفيل (ص 16). [المؤلف](4) راجع طبقات ابن سعد (1/ 1/55 – 56) [طبعة صادر (1/ 91)]، وتاريخ ابن جرير (2/ 110) [المؤلف] طبعة دار المعارف (2/ 131).

(8/9)


(ب)
ذكر ابن إسحاق أن أبرهة أرسل يستدعي سيد أهل مكة وشريفها، فذهب إليه عبد المطلب، قال: “فأذن له أبرهة. قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم، فلما رآه أبرهة أجلَّه وأعظمه وأكرمه عن أن يجلس (1) تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك … فقال: حاجتي أن يردَّ عليّ الملكُ مائتي بعير أصابها لي” (2).
قال المعلم: “فهل يمكن أن يترك عبد المطلب التكلم في أمر البيت بعد ما رأى وسمع من أبرهة ما يستيقن به أنه لو سأله الانصراف عن هدم البيت لفعل، ثم إنه لم يترفع عن المجيء إليه، والسؤال لإبله” (3).
قال عبد الرحمن: ليس في القصة ما يحصل به الاستيقان، بل ولا الظن، فلعل عبد المطلب [ص 4] رأى أن غرض أبرهة من إظهار احترامه أن يستميله ليرضى بهدم البيت، فيقول أبرهة للعرب: إنما هدمته برضا أهله. وقد يكون عبد المطلب صمم على التوكل على الله عزَّ وجلَّ، ولم يستجز أن يكدِّر توكله بسؤال ذلك الحبشي في شأن البيت. وقد يكون رأى أن ترك السؤال في شأن البيت أبلغ في تخويف أبرهة، إذ يقول في نفسه: ما ترك هذا الشريف السؤال في شأن البيت إلا لشدة وثوقه بحماية الله عزَّ وجلَّ له، وإنما
_________
(1) في السيرة طبعة السقا: “يجلسه”.
(2) هامش الروض الأنف. [المؤلف]. طبعة السقا (1/ 49).
(3) (ص 17). [المؤلف]

(8/10)


يحصل له الوثوق بسوابق قد جرّبها وعرفها.
وفي سياق القصة ما يؤيد هذا، فإن فيها: “قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنتَ أعجبتَني حين رأيتك، ثم قد زهدتُ فيك حين كلَّمتني أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك … ؟ قال له عبد المطلب: إني أنا ربُّ الإبل، وإنّ للبيت ربًّا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك! “.
أما سؤال عبد المطلب ردَّ إبله، فلم يكن شحًّا بالمال، وإنما كان أراد أن يقلِّدها، ويجعلها هديًا. ففي رواية الواقدي: “فلما قبضها قلَّدها النعال، وأشعرها، وجعلها هديًا، وبثّها في الحرم، لكي يصاب منها شيء، فيغضب ربّ الحرم” (1).
وقد جاء في رواية: أن أبا مسعود الثقفي كان بمكة، وكان شيخًا كبيرًا قد كُفَّ بصرُه، وله رأي وتجربة، فقال له عبد المطلب: ماذا عندك من الرأي؟ فهذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك. فقال أبو مسعود لعبدالمطلب [ص 5]: اعمد إلى مائة من الإبل، فقلِّدها نعلًا، واجعلها لله، ثم ابثثها في الحرم، فلعل بعض السودان يعقر منها شيئًا، فيغضب رب البيت فيأخذهم (2).
فلعل هذه المشورة كانت قبل أن يُستدعى عبد المطلب إلى أبرهة، وكان الحبشة قد استاقوا الأموال، فلم يكن عنده إبل، فلما استدعاه أبرهة عزم أن يسأل ردّ إبله ليعمل ما أشار به أبو مسعود. والله أعلم.
_________
(1) طبقات ابن سعد (1/ 1/56). [المؤلف] طبعة صادر (1/ 92).
(2) سيرة ابن هشام بهامش الروض. [المؤلف]. هذه الإحالة سهو. وانظر للرواية المذكورة: تفسير البغوي (4/ 688).

(8/11)


هذا، ولا يبعد أنه وقع في حكاية القصة مبالغة في تصوير احترام أبرهة لعبد المطلب. وقد قال ابن إسحاق بعد ما تقدم: “وكان ــ فيما يزعم بعض أهل العلم ــ قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة، حين بعث إليه حُناطةَ، يعمَرُ بن نُفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذٍ سيد بني بكر، وخويلدُ بن واثلة الهذلي، وهو يومئذٍ سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم أكان ذلك، أم لا” (1).
وأخرج الحاكم في “المستدرك” بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا؟ ما عناك؟ … ألّا بعثت إلينا فنأتيك بكل شيء أردت؟ فقال: أُخبِرتُ بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمِنَ، فجئتُ أخيف أهله. فقال: إنا نأتيك بكل شيء تريد، فارجع. فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه. [ص 6] فتخلّف عبد المطلب، فقام على جبل، فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، ثم قال: … (الأبيات الدعائية محرفة). فأقبلت مثلُ السحابة من نحو البحر حتى أظلّتهم طيرٌ أبابيلُ التي قال الله عزَّ وجلَّ: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}. قال: فجعل الفيل يعِجُّ عجًّا {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} “.
قال الحاكم: “هذا حديث صحيح الإسناد”، وقال الذهبي في “تلخيص المستدرك”: “صحيح” (2).
_________
(1) سيرة ابن هشام بهامش الروض. [المؤلف]. ط السقا (1/ 50).
(2) المستدرك (2/ 535) [3974]. [المؤلف]

(8/12)


وسيأتي في فصل (هـ) رواية أخرى عن ابن عباس، قال الحافظ: إن سندها حسن.
(ج)
قال ابن إسحاق: “فلما نزل أبرهة المغمّس بعث رجلًا من الحبشة يقال له: الأسود بن مفصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل تهامة … فهمّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك وبعث أبرهةُ حُناطةَ الحميري إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفها، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت … فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك منه طاقة (1). هذا بيت الله الحرام … فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرُّز في شَعَف الجبال والشعاب؛ تخوفًا عليهم من معرة الجيش … وانطلق هو ومن معه إلى شَعَف الجبال، فتحرزوا فيها … ” (2).
[ص 7] اشتد نكير المعلِّم رحمه الله تعالى على هذه القصة، وردّها بأمور:
الأول: أنها لم تثبت من جهة الرواية.
الثاني: أن ابن إسحاق كان يأخذ عن كل أحد.
الثالث: “ورود خلاف ذلك بروايات أخرى”.
الرابع: ما عرف عن العرب من النجدة والحمية.
_________
(1) “منه طاقة” كذا في أصول السيرة، وفي تاريخ الطبري (2/ 133): “من طاقة”. نبه عليه في حاشية طبعة السقا (1/ 48).
(2) سيرة ابن هشام بهامش الروض. [المؤلف]. ط السقا (1/ 48 – 52).

(8/13)


الخامس (1): أن العلم بأن البيت بيت الله يقتضي الدفاع عنه، لا إسلامه.
السادس: أن أهل السير يروون أن القبائل قاتلت أبرهة في طريقه، فكيف جبنت قريش ومن معها، وهم أهل البيت وشرفه.
السابع: أن أهل السير يذكرون أن قدوم أبرهة كان في موسم الحج. وأيده المعلِّم بقول قائلهم، وقد ذكره ابن إسحاق في هذه القصة:
اللهمَّ أخْزِ الأسودَ بن مقصود … الآخذَ الهجمةِ فيها التقليدْ
يعني: فقوله: “فيها التقليد” يصرح بأن الإبل كانت مقلَّدة، وإنما تُقلَّد إذا كانت هديًا، وإنما يُساق الهدي في موسم الحج.
وأيده أيضًا بأن القرآن ذكر كيد أصحاب الفيل، والكيد: هو المكر، والتدبير الخفي. وإنما يتحقق ذلك بقدومهم في الأشهر الحرم رجاءَ أن لا يقاتلهم العرب، لأنهم كانوا يحرمون القتال في الأشهر الحرم؛ وبعزمهم على دخول مكة حين يخليها أهلها مشتغلين بالحج، وعلى أن يكون هجومهم أيام التشريق، والعربُ حينئذٍ إما واقفون بمنى، أو مسرعون إلى أوطانهم. فإذا ثبت أن قدوم أبرهة كان في الموسم، فالعرب حينئذٍ مجتمعون للحج، فكيف يقاتل بعض قبائلهم في الطريق، ولا يقاتل جميعهم عند البيت؟
الثامن: “أنهم عابوا [ص 8] ثقيفًا لفرارهم عن حماية الكعبة، كما قال ضِرار بن خطّاب:
وفرّت ثقيفُ إلى لاتها … بمنقلَب الخائبِ الخاسر
_________
(1) في الأصل: “الرابع” كرّره سهوًا، ومشى عليه في الترقيم بعده، فأصلحناه.

(8/14)


والروايات متفقة على موافقة ثقيف بأبرهة، ورجم قبر أبي رِغال الثقفي الذي صار دليلًا لجيشه. فلو فرّت العرب كلُّها مثل ثقيف لما عابوا ثقيفًا، ولا لعنوا رئيسها أبا رِغال، وظنّوا لعله كان قد أُكرِه”.
هذا خلاصة ما ذكره المعلِّم في هذا المعنى (1).

قال عبد الرحمن: لم ينفرد ابن إسحاق بذكر ما يدل على عزم قريش أن لا يقاتلوا، فقد وافقه الواقدي عن شيوخه (2)، وغيره، ودل حديث ابن عباس الذي تقدم عن “المستدرك” أنهم كانوا لا يرون فائدة للدفاع.
وأما ورود روايات أخرى مخالفة، فلم أقف على شيء منها، إلا ما في “السيرة الحلبية”: “ويقال: إن عبد المطلب جمع قوّته وعقد راية، وعسكر بمنى … ثم ركب عبد المطلب لما استبطأ مجيء القوم إلى مكة ينظر ما الخبر، فوجدهم قد هلكوا” (3).
وما أكثر ما في تلك السيرة من الأباطيل محكية بـ”يقال”، و”قيل”!

وأما نجدة العرب وحميتهم فحق، ولكن لكل شيء حد. كان أبرهة ملكًا مسلّطًا باليمن، [ص 9] وقد تناول ملكه غير اليمن من بلاد العرب، فقد جاء أنه طلع نجدًا، وتناول أطراف العراق.
“قال أبو عمرو الشيباني: كان أبرهة حين طلع نجدًا أتاه زهير بن جناب، فأكرمه أبرهة، وفضّله على من أتاه من العرب، ثم أمّره على ابني وائل: تغلب
_________
(1) ص (16 – 19). [المؤلف](2) طبقات ابن سعد (1/ 1/55 – 56). [المؤلف]. ط صادر (1/ 92).
(3) السيرة الحلبية (1/ 79 و 80). [المؤلف]

(8/15)


وبكر، فوليهم … ” (1).
وقال ابن قتيبة: “زهير بن جناب هو من كلب، جاهلي قديم، ولما قدمت الحبشة تريد هدم الكعبة بعثه ملكهم إلى أرض العراق، ليدعو من هناك إلى طاعته … ” (2).
وقال أبو حاتم السجستاني: “قال الشرقي بن قطامى … قال: وقال المسيّب بن الرَّفِل الزهيري من ولد زهير بن جناب:
وأبرهةُ الذي كان اصطفانا … وسوَّسَنا وتاجُ الملك عالي
وقاسَمَ نصفَ إمرته زهيرًا … ولم يك دونه في الأمر والي
وأمّره على حيَّيْ معدٍّ … وأمَّره على الحيّ المُعالي
على ابني وائل لهما مهينًا … يردُّهما على رغم السِّبالِ
بحبسهما بدار الذلّ حتّى … ألمّا يهلكان من الهزالِ (3)
وفي قصيدة للنَّمِر بن تَولَب:
أتى حصنَه ما أتى تُبّعًا … وأبرهةَ الملِكَ الأعظما (4)
_________
(1) الأغاني (21/ 64). [المؤلف]. ط الثقافة (18/ 303).
(2) الشعر والشعراء (ص 85). [المؤلف]. ط شاكر (379) مع اختلاف يسير في اللفظ.
(3) كتاب المعمرين (ص 28 – 29). [المؤلف]. وانظر: معجم الشعراء للمرزباني (300).
(4) شواهد المغني للسيوطي (ص 66)، وفي الشرح (ص 77): “أبرهة ملك الحبشة”. [المؤلف]. وانظر: الاختيارين (284)، وشرح أبيات المغني 1/ 391.

(8/16)


وقال لبيد:
لو كان حيٌّ في الحياة مخلَّدًا … في الدهر أدركه أبو يكسومِ
والحارثان كلاهما ومحرّقٌ … أو تُبَّعٌ أو فارسُ اليحمومِ (1)
وقد اكتُشِفَت أخيرًا نقوش على سدّ مأرب كُتبت بأمر أبرهة الأشرم، وفيها نعته بأنه: “ملك سبأ ورَيدان وحضرموت ويمنات وعرب النجاد وعرب السواحل” (2).
[ص 10] كان أبرهة بهذه المكانة، ومن ورائه الحبشة، وكان جيشه الذي ساقه إلى مكة ستين ألفًا على ما جاء في شعر ابن الزِّبَعْرَى:
ستون ألفًا لم يؤوبوا أرضَهم … ولم يعِشْ بعد الإياب سقيمُها (3)
ولعل الفرسان منهم عشرة آلاف على الأقل. ومعهم الفيلة، وهي ثلاثة عشر فيلًا، على ما قيل (4).
وفي “الخصائص الكبرى” للسيوطي: “وأخرج أبو نعيم عن وهب قال: كانت الفيلة معهم، فشجع منها فيل، فحُصِب” (5).
وفي “دلائل النبوة” لأبي نعيم في قصة نسب فيها إلى عبد المطلب
_________
(1) البيان والتبيين للجاحظ (1/ 220). [المؤلف]. ط هارون (1/ 267)، وانظر: ديوان لبيد (108).
(2) دائرة المعارف الإسلامية (1/ 61).
(3) سيرة ابن هشام بهامش الروض. [المؤلف] ط السقا (1/ 58).
(4) طبقات ابن سعد (1/ 1/57). [المؤلف] ط صادر (1/ 92).
(5) الخصائص (1/ 43). [المؤلف]

(8/17)


شعرًا يحمد الله تعالى به، وفيه:
أنت منعتَ الجيش والأفيالا (1)
ويرى كُتّاب الإفرنج كما في “دائرة المعارف الإسلامية” وغيرها: أن أبرهة كان مزمعًا في سيره ذلك غزو فارس مددًا للروم.
وعلى هذا، فلا بد أن يكون استعداده عظيمًا.
هذا، والعرب يومئذٍ متمزقون، والكثير منهم في طاعة أبرهة، حتى كان معه فريق منهم في جيشه، كما جاء في شعر أمية بن أبي الصلت أو أبيه يذكر الفيل:
حوله من ملوك كندة أبطا … لٌ ملاويثُ في الحروب صقورُ (2)
وقد انخذلت ثقيف كما يأتي، والذين قاتلوا أبرهة في طريقه غُلبوا واستسلموا.
وعامة أهل الأخبار يذكرون أن قدوم أبرهة كان في نصف المحرم، فالذين حجّوا [ص 11] من العرب قد عادوا إلى أوطانهم. وإن صح ما ادعاه المعلِّم أن قدوم أبرهة كان في أيام الحج، فلا بد أن يكون الحاجّ عامئذٍ قليلًا؛ لأنّ الكثير من العرب في طاعة أبرهة، ومن حجّ منهم فإنهم يحجّون على عادتهم في الأشهر الحرم، غير مستعدّين لقتال. وانضاف إلى ما تقدم تأثّم العرب من القتال في الأشهر الحرم.
_________
(1) دلائل النبوة (ص 44). [المؤلف](2) سيرة ابن هشام (1/) [المؤلف]. ط السقا (1/ 60).

(8/18)


هذا، والمقاتلة يومئذٍ من قريش ومن حولها إنما يجتمع منهم بضعة آلاف، بأسلحة رثّة، والخيل فيهم قليلة.
وقد أعلن أبرهة على ما جاء في الروايات أنه لا يريد قتالهم، وإنما يريد هدم البيت؛ وكان لهم وثوق بالله عزَّ وجلَّ أن يحمي بيته. ثم لعلهم يقولون: هب أن الله تعالى مكَّنه من هدم البيت، فكان ماذا؟ يعود أبرهة، فنعيد بناءه أحسن مما كان.
وفوق هذا، فقد كانت حياة قريش موقوفة على التجارة، ويرون أن مقاتلة أبرهة تضرُّهم من الجهتين؛ إما أن يغلبوا، وإما أن تنقطع تجارتهم إلى اليمن والحبشة والشام. أما اليمن والحبشة فظاهر، وأما الشام فلأنها كانت يومئذٍ تابعة للروم، وقد عرفوا الارتباط بين الروم والحبشة.
إذا أمعنت النظر فيما تقدم عرفت أنه لا بُعد في إحجام قريش عن قتال أبرهة، وأنه لا عار يلزمهم لذلك، ولا غضاضة، ولا منافاة لما عرف منهم من النجدة والحمية.
[ص 12] وأما قوله: إن العلم بأن البيت بيت الله إنما يقتضي الدفاع عنه، لا إسلامه.
فجوابه: أنه قد يصحب العلمَ بأنه بيت الله وثوقٌ متمكنٌ بحفظ الله له، فإذا حصل هذا الوثوق ضعفت داعية القتال. وقد تكون قوة العدو عظيمة جدًّا، بحيث تقتضي العادة أنه لا فائدة للقتال إلا هلاك المدافع. وتلك حال قريش كما تقدم، فقد رأوا أن ذلك العدو أكثر منهم عددًا وعدةً. أما العدد فلعله أكثر منهم بعشرة أضعاف أو أزيد، وأما العدة فلعله أكثر منهم بمائة

(8/19)


ضعف؛ فرأوا أنه ليس من العقل ولا الشجاعة الإقدام على قتاله. وهم مع ذلك واثقون بحماية الله تعالى لبيته، فكأنهم قالوا: لا نرى أن الله عزَّ وجلَّ يكلفنا القتال في هذه الحال، وعندنا وثوق بأنه سيحمي بيته، فإن حماه وكفانا الأمر فهو على كل شيء قدير، وإن مكنهم من هدمه أمكننا أن نعيد بناءه.
وأما ما روي أن القبائل قاتلت أبرهة في طريقه، فإنما جاء في تلك الروايات التي ينكرها المعلم، وإنما ذكروا قبيلتين:
الأولى: رجل من أقيال اليمن، يقال له: ذو نفر.
والثانية: قبيلة خثعم.
وقتال هؤلاء لا يستغرب، لأنهم ليسوا مجتمعين في بلد يخافون خرابه، ولا لهم تجارة يخافون انقطاعها. على أن هاتين القبيلتين لم تلبثا أن غُلبتا، واستسلم رؤساؤهما، وذلك مما يزهِّد غيرهما في القتال.

وأما قدوم أبرهة، فالمشهور أنه كان في النصف الثاني من المحرم (1). وما احتج به المعلِّم على أنه كان في أيام الحج لا حجة فيه.
أما قول شاعرهم:
الآخذ الهجمة فيها التقليد
[ص 13] فقد كانوا يقلّدون غير الهدي، كانوا يقلدون البُهْم من لحاء شجر الحرم، يحمونها بذلك من النهب والسرقة، فإن العرب كانت
_________
(1) قال السهيلي: “كانت قصة الفيل في أول المحرّم … ” الروض الأنف (1/ 270).

(8/20)


لاحترامها الحرم تتجنب نهب الإبل وسرقتها إذا كانت مقلَّدة بلحاء شجر الحرم، يرون أنها في حماية الحرم.
جاء معنى ذلك عن جماعة من السلف في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} [المائدة: 2] وراجع “تفسير ابن جرير” (1).
وأما ما قدمته أن عبد المطلب قلّد الإبل وجعلها هديًا، فجعلُ الإبل هديًا لا يختص بأيام الحج، ولا ندري هل كان النحر عندهم مختصًّا بأيام النحر والتشريق؟ فإن كان كذلك فلا مانع من جعل الإبل هديًا في المحرم على أن لا تنحر إلا في أيام الحج القادم.
وأما ما ذكره القرآن من كيد أصحاب الفيل، فالكيد هو التدبير المحكم الذي يكون فيه غرابة. قال الله تعالى في آل فرعون في شأن موسى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [المؤمن: 25].
وقال في قصة إبراهيم: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 97 ــ 98].
وقال سبحانه في هذه القصة: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70].
_________
(1) (6/ 32) و (7/ 47) [المؤلف]. ط شاكر (9/ 468). والمذكور في الموضع الثاني (11/ 94) غير المقصود.

(8/21)


سمى قتل أولاد من آمن كيدًا؛ لأنه تدبير محكم غريب، إذ من شأنه بحسب العادة أن يصدّ عن الإيمان، ويردّ إلى الكفر، ولم يكن قتل الأطفال معروفًا قبل.
[ص 14] وسمى الإلقاء في النار العظيمة كيدًا، لأنه تدبير محكم غريب، إذ من شأنه بحسب العادة أن يُهلك من يلقى في النار، ولم يكن مثل ذلك معروفًا قبل.
فيكفي في تقرير كيد أبرهة سَوقُه الفيلة، وقدومُه في المحرم. أما سوق الفيلة فهو تدبير محكم غريب، إذ من شأنه إدخال الرعب في قلوب العرب، إذ لم يكونوا يعرفون قتال الفيلة، وأكثرهم لم يرها قط. ولهذا طلب أبرهة من النجاشي فيله الأعظم ــ كما سيأتي ــ ليكون أبلغ في الإرهاب.
وأما قدومه في المحرم، فلأن من شأن العرب أن يتأثموا من القتال في المحرم، ويكون قدومه بعد قفول من يحج تلك السنة، فلا يبقى بمكة إلا أهلها.
ويكفي في تضليل الله تعالى لكيدهم حبسُه الفيل، فإن حبسه من شأنه أن يصدّهم عن التقدم؛ إذ يعلمون أن ذلك آية من آيات الله، فإن لم ينزجروا وقع الاختلاف والاختلال فيهم. وقد كان الأمر كذلك، فلما أصرّوا عذبهم الله عزَّ وجلَّ. وسيأتي بسط الكلام في تفسير السورة، إن شاء الله تعالى.
وأما ما ذكره من عيبهم ثقيفًا لفرارها عن حماية الكعبة، ورجمهم قبر رئيسها أبي رِغال، فلم يثبت عيب منهم لثقيف على ذلك. وإنما اغترّ المعلِّم ببيت ضِرار بن الخطّاب:

(8/22)


وفرّت ثقيفُ إلى لاتها … بمنقلَب الخائب الخاسر
وسبب اغتراره رحمه الله أن ابن هشام ساق القصة عن ابن إسحاق إلى أن ذكر وصول أبرهة إلى الطائف، وقول ثقيف له: “أيها الملك إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد. قال ابن إسحاق: [ص 15] يعنون اللات”. ثم ذكر إرسالهم معه أبا رِغال يدلّه. ثم قال ابن إسحاق: “واللات: بيت لهم بالطائف، كانوا يعظّمونه نحو تعظيم الكعبة”.
فكمل ابن هشام تفسير “اللات” فقال: قال ابن هشام: “وأنشدني أبو عبيدة النحوي لضِرار بن الخطّاب الفهري … ” فذكر البيت. ثم قال: “وهذا البيت في أبيات له. قال ابن إسحاق: فبعثوا معه أبا رِغال يدلّه على الطريق إلى مكة … ” (1).
فمقصود ابن هشام إنما هو الاستشهاد على ما ذكره ابن إسحاق أن اللات كانت لثقيف، فظن المعلِّم أن البيت قيل في شأن ثقيف في قصة الفيل، وليس الأمر كذلك، وإنما هو في فرار ثقيف في حرب الفجار التي كانت بين قريش وسائر كنانة، وبين ثقيف وسائر قيس عيلان. وذلك بعد أن بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع عشرة أو خمس عشرة، أو عشرين سنة.
والقصة مذكورة في “السيرة” (2) مختصرة، وهي مبسوطة في “الأغاني” (3)،
_________
(1) راجع سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف. [المؤلف]. ط السقا (1/ 47).
(2) أيضًا. [المؤلف]. ط السقا (1/ 184 – 187).
(3) (19/ 73 – 82). [المؤلف]. ط الثقافة (22/ 75).

(8/23)


وفيها: عن أبي عبيدة قال: لما هزمت قيس لجأت إلى خباء سبيعة … وقال ضِرار بن الخطّاب الفهري:
ألم تسأل الناس عن شأننا … ولم يُثبتِ الأمرَ كالخابرِ
غداةَ عكاظَ إذ استكملت … هوازنُ في كفّها الحاضر
إلى أن قال:
فلما التقينا أذقناهمُ … طعانًا بسمر القَنا العائرِ
ففرّت سُلَيمٌ ولم يصبروا … وطارت شَعاعًا بنو عامرِ
[ص 16] وفرّت ثقيفُ إلى لاتها … بمنقلَب الخائبِ الخاسر
فأما أبو رِغال، فلم يكن رئيس ثقيف (1)،
وإنما في القصة أنه كان رجلًا منهم. وإنما رجمت العرب قبره لأنه ــ كما يظهر من سياق القصة ــ خرج طائعًا، على أنه لم يثبت أنه كان دليل أصحاب الفيل. بل قد قيل: إنه كان قبل ذلك بزمان، حتى قيل: إنه كان في عهد صالح النبي عليه السلام. وقد بسط ذلك في “معجم البلدان” (2)، وسيأتي ترجيح ذلك، والدليل عليه في الكلام على رمي الجمار، فصل (ح).
_________
(1) لعل المعلِّم رحمه الله أخذه من قول أمية بن أبي الصلت:
وهم قتلوا الرئيس أبا رغال … بنخلة إذ يسوق بها الظعينا

كذا في الحيوان (6/ 156) ومروج الذهب (2/ 79). ولكن المقصود هنا أبو رِغال القديم الذي قتله قسيّ بن منبّه، وهو ثقيف جدّ قبيلة أميّة.
(2) (4/ 263 – 264). [المؤلف]. ط بيروت (3/ 53 – 54). وقد رجح ياقوت قول ابن إسحاق، وفيه أن مسعود بن معتّب قال لأبرهة: ” … ونحن نبعث معك من يدلّك عليه، فتجاوز عنهم، وبعثوا معه بأبي رِغال رجل منهم يدلّه على مكة … “. وانظر: (5/ 161).

(8/24)


(د)
لو اقتصر المعلِّم رحمه الله تعالى على دعوى أن أهل مكة كانوا مستعدين لقتال أبرهة إذا حاول دخول مكة، فكفاهم الله عزَّ وجلَّ، لكان الأمر قريبًا، وأمكن أن يجاب عما تقدم، وأن يتأول ما جاء في الروايات بأنهم أظهروا أنهم لا يريدون قتالًا لأغراض دعت، وهم في نفس الأمر عازمون على القتال. ولكنه لم يقتصر، بل زعم أن أهل مكة قاتلوا أبرهة، وقتلوه في المعركة، واستدل على ذلك بأمور:
الأول: الوجوه التي تقدمت في الفصل السابق، وقد علمت حالها. ولو استحال عزمهم على عدم القتال لم يلزم من ذلك أنه وقع قتال، فإن الله عزَّ وجلَّ عذّب أصحاب الفيل قبل أن يصلوا إلى مكة.
الدليل الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ في السورة: {تَرْمِيهِمْ} زاعمًا أن معناه: ترميهم أيها المكي، أو نحو ذلك. وهذه دعوى سيأتي ردّها في تفسير السورة، إن شاء الله تعالى.
[ص 17] الدليل الثالث: ما أبداه من المناسبة لرمي الجمار، وسيأتي تزييفها.
الرابع ــ وهو أشبه أدلته ــ قول ذي الرمة:
وأبرهةَ اصطادت صدورُ رماحنا … جهارًا وعُثنونُ العَجاجةِ أكدرُ
تنحّى له عمروٌ فشكَّ ضلوعَه … بنافذةٍ نجلاءَ والخيلُ تَضبِرُ
والبيتان في “ديوان ذي الرمة” المطبوع بأوربا (1).
_________
(1) بيت (40 و 41)، قصيدة (30). [المؤلف]. ط مجمع دمشق (637).

(8/25)


وعلى الديوان تفسير لبعض القدماء، وفيه: “أبرهة بن الصباح ملك من ملوك حمير”.
وفي آخر الديوان صورة سند روايته، وفيه من طريق أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن خُرَّزاذ النَّجَيرَمي قال: “قرأته على أبي الحسين علي بن أحمد المهلّبي قال: قرأته على أبي العباس أحمد بن محمد بن ولّاد، [عن أبيه] (1) عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، عن أبي نصر أحمد بن حاتم … وقال أبو يعقوب: وقرأته أيضًا على أبي القاسم جعفر بن شاذان القُمّي، عن أبي عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد، عن أبي العباس ثعلب، عن أبي نصر … وقرأت على ابن شاذان الشعر مجردًا عن التفسير”.
قال عبد الرحمن: وهذه العبارة الأخيرة تدل أنه في الطريق الأولى سمع الشعر مع التفسير (2)، وذلك يدل أن التفسير متناقل، وفي أثناء التفسير ما يدل على ذلك، [ص 18] غاية الأمر أن المفسر الأخير جمع ما نقل عمن قبله، وزاد من عنده.
وأبو نصر أحمد بن حاتم هو صاحب الأصمعي وراوية كتبه، والمذكورون في السند كلهم من أئمة اللغة والأدب، توجد تراجمهم في “بغية الوعاة”، وغيره.
هذا، وقصة الفيل مشهورة، وديوان ذي الرمة مشهور، وعامة علماء الأخبار علماء بالشعر، فلولا أنهم علموا أن أبرهة ذي الرمة غير صاحب الفيل، لما سكتوا عن بيانه.
_________
(1) زيادة لازمة من طبعة مجمع دمشق (4). وانظر ص (1658).
(2) انظر تعليق محقق الديوان في مقدمته (58) على العبارة الأخيرة. [المؤلف].

(8/26)


وقد كان جماعة من أئمة الأخبار يسمعون شعر ذي الرمة من فيه، وكانوا أحرص شيء على تلقف الأخبار، والاستشهاد عليها بما يتعلق بها من الشعر، كما مرّ في سيرة ابن هشام في واقعة الفيل. وكما ترى في “الأغاني” في قصة حرب يوم جبلة كما يأتي، وكذلك في قصة الحرب يوم الكلاب، وذكر أبياتًا لذي الرمة من هذه القصيدة نفسها تتعلق بيوم الكلاب (1).
ولعل العلماء سألوا ذا الرمة عن أبرهة هذا، فأجابهم بأنه ملك من ملوك حمير، وحكى لهم إشاعة مجملة لم يجدوا لها أصلًا، ولا رأوا لنقلها فائدة. والله أعلم (2).
واعلم أن التسمي بأبرهة معروف في اليمن قديمًا، فقد عدوا في ملوكهم أبرهة ذا المنار ابن الرائش، وكان قبل بلقيس، فإنها بلقيس ابنة الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش (3).
وزعموا أن “أبرهة” كلمة حبشية، معناها: الأبيض (4). والأقرب أنها كلمة [ص 19] حميرية، فإنهم استعملوها قديمًا كما عرفت.
_________
(1) راجع الأغاني (15/ 69 – 75). [المؤلف]. ط الثقافة (16/ 262).
(2) في معجم البكري (461): قال المخبل السعدي يفخر بنصرتهم أبرهة بن الصباح ملك اليمن، وكانت خندف حاشيته:
ضربوا لأبرهة الأمور محلُّها … حُلُبانُ فانطلقوا مع الأقوالِ
ومحرّق والحارثان كلاهما … شركاؤنا في الصهر والأموالِ
(3) راجع مروج الذهب بهامش نفح الطيب (1/ 573)، وفي غيره من الكتب ما يخالفه. [المؤلف].
(4) انظر: التيجان (136)، والاشتقاق لابن دريد (532). وفي المعجم الجعزي المقارن (103 – 104) أن معنى أبره: أنار، أضاء، وضّح.

(8/27)


والمادة مستعملة في العربية، وفي “القاموس”: “وبَرِه كسمع بَرَهًا: ثاب جسمه بعد علة، وابيضّ جسمه، وهو أبره” (1).
وقد تجيء في العربية أفعَلة بالتاء، قالوا: أرملة، وقالوا للحيّة: أسوَدة، ولعل لغة حمير كانت تتسع في ذلك.
فأما الأشرم أبو يكسوم فاسمه “أبراهام”. وفي “دائرة المعارف الإسلامية” في ترجمة الأشرم: “أبرهة هو أبراهام باللغة الأثيوبية” (2). يعني الحبشية.
ولم يخف هذا عن العرب، فقد ذكر ابن عبدربه أبرهة بن الصباح رجلًا من حمير أدرك الإسلام، فقال: “أبرهة بن الصباح، كان ملك تهامة، وأمه ريحانة بنت إبراهيم الأشرم، ملك الحبشة” (3).
وقد ذكر أهل الأخبار في ملوك حمير: أبرهة بن الصباح. زاد بعضهم: “بن وليعة بن مرثد”، قيل: إنه ملك خمسًا وثلاثين سنة، وقيل: ثلاثًا وسبعين، وقيل: ثلاثًا وتسعين. ثم ملك بعده رجل اختلفوا في اسمه قيل: سبع عشرة سنة، وقيل: سبعًا وخمسين، وقيل: تسعًا وثمانين. ثم ملك لخيعة سبعًا وعشرين، وقيل: تسعًا وعشرين، أو ثلاثين، وقيل: أربعًا وثمانين، ثم ملك ذو نواس، قيل: ثمانيًا وستين، وقيل: ثمانين، وقيل: مائتين وستين، وانتهى ملكه باستيلاء الحبشة على اليمن، فملك فيهم أرياط، ثم أبرهة الأشرم أبو يكسوم (4).
_________
(1) القاموس، مادة “ب ر هـ”. [المؤلف]. والحبشية كالحميرية أخت العربية.
(2) دائرة المعارف الإسلامية (1/ 61). [المؤلف].
(3) العقد الفريد (2/ 71). [المؤلف]. لم أجده في العقد.
(4) راجع مروج الذهب (1/ 575 – 576 و 587)، والتيجان لابن هشام (ص 300)، وصبح الأعشى (5/ 24)، والمعارف لابن قتيبة (ص 213)، وما بعدها، وغيرها. [المؤلف].

(8/28)


والذي يهمنا من هذا إنما هو القدر المشترك، وهو أن أبرهة بن الصباح [ص 20] ملك من ملوك اليمن قبل استيلاء الحبشة بمدة.
وقد وجدت آخرين يقال لكل منهم: أبرهة بن الصباح. أحدهم جد أبرهة بن شرحبيل، ففي أسماء الصحابة: أبرهة بن شرحبيل بن أبرهة بن الصباح بن شرحبيل بن لهيعة بن مرثد الخير … (1).
ويحتمل أن يكون هو الأول.
والثاني: أبرهة بن الصباح، ذكره في الإصابة عقب أبرهة بن شرحبيل. قال: وما أدري هو جد الذي قبله، أو غيره. ثم ظهر لي أنه غيره، فقد ذكره ابن الكلبي فقال: إنه كان ملك تهامة، وأمه بنت أبرهة الأشرم الذي غزا الكعبة (2).
وقد خلط جماعة من المؤلفين كل واحد من هؤلاء بالآخر، بل خلط بعضهم، فسمى الأشرم: أبرهة بن الصباح، وزعم أنه حميري.
الثالث: كندي متأخر، كان من أصحاب أبي حمزة الخارجي، قتل معه بمكة سنة (130) (3).
والذي عناه ذو الرمة هو الأول المعدود في الملوك، أو جد أبرهة بن شرحبيل، إن كان غيره، أو آخر من أقيال اليمن، فإنهم كثير. وقد كانت
_________
(1) الإصابة رقم (14). [المؤلف].
(2) أيضًا رقم (15). [المؤلف]. وانظر: نسب معدّ واليمن الكبير (542).
(3) راجع الأغاني (20/ 109). [المؤلف]. ط الثقافة (23/ 143).

(8/29)


الحرب متواصلة بين نزار واليمن، قد يكون أحد الأباره قتل في بعضها، وقدم العهد، فلم يصل إلينا من خبر القصة إلا بيت ذي الرمة. وقد لا يكون قتل، وإنما أصابته طعنة، وقد يكون المقتول أو المطعون آخر، فأشيع أنه أبرهة، ووصلت هذه الإشاعة [ص 21] إلى ذي الرمة.

هذا، ومن الأدلة على أن أهل مكة لم يقاتلوا أبرهة الروايات الثابتة عن علماء الأخبار كابن إسحاق، والواقدي، وابن الكلبي، وغيرهم. معها رواية ابن عباس التي تقدمت عن “المستدرك” وصححها الحاكم والذهبي، وروايته الأخرى التي رواها ابن مردويه وحسنها ابن حجر في “شرح البخاري”، وستأتي.
ومنها: أن كل من له إلمام بأخبار العرب يعرف شدة حرصهم على رواية أخبار أيامهم، وحفظها، وتردادها في الأسمار، وتقييدها بالأشعار. ولا يكاد يقتل رجل منهم قتيلًا إلا قال في ذلك شعرًا، وإلا افتخرت به قبيلته في أشعارها. ولا يكاد يُقتَل منهم قتيل إلا يُرثى بعدَّة مراثٍ.
وبين أيدينا أخبارهم في حرب البسوس، وحرب داحس، وغير ذلك. نجدها مروية بتفصيل بأسماء فرسانهم وخيلهم، وقاتلهم ومقتولهم، وكيف كان القتال، وكم استمر، إلى غير ذلك من الجزئيات.
وإن شئت فراجع قصة يوم شِعْب جَبَلَة في “الأغاني”، فإنك ترى العجب من التفصيل الذي يخيل إليك أن القصة كتبت في ذلك اليوم، وقد كانت تلك الحرب قبل المولد النبوي بتسع عشرة سنة على ما في “الأغاني” (1).
_________
(1) (10/ 33 – 45). [المؤلف]. ط الثقافة (11/ 125 – 152).

(8/30)


نعم، إن العصبية قد تلاعبت بكثير من الأخبار، ولكن سلطانها على بعض الجزئيات، كالاختلاف فيمن أشار بدخول الشعب، وفيمن قتل لَقيط بن زُرارة، ونحو ذلك. وأصل القصة وأكثر جزئياتها متفق عليها. وترى في تلك القصة نموذجًا من [ص 22] أشعارها في وقائعهم.
فكيف يعقل مع هذا أن يكونوا قاتلوا أبرهة، وقتلوه في المعركة، ثم لا يوجد لذلك في أخبارهم وأشعارهم أثرٌ؟ مع أن ذلك لو وقع لكان أعظم واقعة تعهدها العرب في أرضها، فإنه لا يعهد في أيامها قبل الإسلام ملك أجنبي غزاها في قلب بلادها بجيش عظيم، وفيلة عديدة، فقاتلوه، وقتلوه في المعركة، وهزموا جنده. فلو وقع ذلك لكان أحق الوقائع بأن تتواتر أخباره، وتكثر أشعارهم فيه، وافتخارهم به، وتنازعهم في القاتل من هو، ورثاء قتلاهم، وغير ذلك.
ومن الأدلة أن جماعة من التابعين وأتباعهم حكوا القصة، وأعلنوا بها، مصرّحين بأن أهل مكة أحجموا عن القتال، وتحرزوا بشَعَف الجبال، ولم يقع قتال ألبتة، فلا يقوم أحد من العرب يرد عليهم، ويبين خلاف ما قالوه. فهب أن العرب تركوا عادتهم في نقل الأخبار، وتقييدها بالأشعار، وكثرة الافتخار؛ أفلم يكن لهم من غيرتهم وحميتهم، والحرص على ردِّ الباطل عنهم، ما يحملهم على أن يصرخوا في وجوه الحاكين لما تقدم عندهم، قائلين: كذبتم، بل قاتل العرب أبرهة، وقتلوه في المعركة، وجرى كيت وكيت.
ومن الأدلة: أن تجارة قريش إلى اليمن والحبشة لم تزل مستمرة، ولو كانوا قاتلوا أبرهة، وقتلوه، لانقطع متجرهم إلى اليمن والحبشة.

(8/31)


ومن الأدلة: أنهم قد قالوا أشعارًا في الواقعة، ترى طرفًا منها في سيرة ابن هشام، [ص 23] وليس فيها أمر القتال ولا قتل، بل كلها ثناء على الله عزَّ وجلَّ في حمايته بيته ومنها قول طالب بن أبي طالب:
ألم تعلموا ما كان في حرب داحسٍ … وجيشُ أبي يكسومَ إذ ملؤوا الشِّعْبا
فلولا دفاعُ الله لا شيءَ غيرُه … لأصبحتمُ لا تمنعون لكم سِرْبا (1)
ومن الأشعار طرف في “المنمق” لابن حبيب، وليس فيها أثر للقتال.
(هـ)
ذهب المعلِّم ــ عفا الله عنه ــ إلى أن الطير لم ترم أصحاب الفيل، وإنما أرسلها الله عزَّ وجلَّ لأكل جثث موتاهم؛ كيلا يتغير الهواء بجيفهم. واضطرّه ذلك إلى دعوى أن قول الله تعالى في السورة: {تَرْمِيهِمْ} خطابٌ، أي ترميهم أيها المكي. وتصرّف في الروايات المصرحة برمي الطير بردّ بعضها، وتغليط بعضها، وحاول الاحتجاج على أن لم ترمهم، وعلى أنها أكلت جثثهم.
فأما الكلام على قول الله سبحانه: {تَرْمِيهِمْ} فسيأتي في تفسير السورة.
وأما الروايات، فزعم أن الرواة فريقان مختلفان: فريق في روايته ستة أمور، وفريق في روايته خمسة أمور. ورجح ما نسبه إلى الفريق الأول، ثم ساق بعض الروايات من “تفسير ابن جرير”، ثم ذكر أشعارًا للجاهليين تتعلق بالقصة، واستخلص منها أربعة أمور، يؤيد بها ما نسبه إلى الفريق الأول.
_________
(1) سيرة ابن هشام (1/ 59)، (2/ 26).

(8/32)


[ص 24] قال عبد الرحمن: تدبرت تلك الروايات والأشعار، وقابلتها بما ذكر المعلِّم أنه لخصه منها، فرأيت فرقًا كبيرًا. ولإيضاح ذلك أسوق الأمور التي ذكر المعلم، وأذكر مع كل أمر ما يوافقه من الروايات التي في “تفسير ابن جرير”، فإن ذكرتُ غيرها نبّهتُ عليه.

الأمور التي نسبها المعلِّم إلى الفريق الأول:
1 – “أن الطير كانت جوارح كبارًا”.
لم أره صريحًا، ولكن في رواية ابن عباس: “كانت طيرًا لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب”.
وفي رواية عكرمة: “كانت طيرًا خضرًا، خرجت من البحر، لها رؤوس كرؤوس السباع، كانت ترميهم بحجارة معها، قال: فإذا أصاب أحدهم خرج به الجدري”.
2 – “أن لها لونًا وشكلًا كذا وكذا”.
مر في رواية عكرمة: “كانت طيرًا خضرًا”. وجاء في رواية سعيد بن جبير: “طير خضر، لها مناقير صفر، تختلف عليهم”.
وفي “مصنف ابن أبي شيبة”: “ثنا أبو أسامة عن محمد بن إسماعيل عن سعيد بن جبير قال: أقبل أبو يكسوم صاحب الحبشة، ومعه الفيل، فلما انتهى إلى الحرم برك الفيل، فأبى أن يدخل الحرم. قال: فإذا وُجِّه راجعًا أسرع راجعًا، وإذا أريد على الحرم أبى، فأرسل عليهم طير صغار بيض، في أفواهها حجارة أمثال الحمص لا تقع على أحد إلا هلك”.
والسند صحيح على شرط مسلم.

(8/33)


وعن عبيد بن عمير: “هي طير سود بحرية، في مناقرها وأظفارها الحجارة”.
وعن قتادة: “هي طير بيض خرجت من قبل البحر، مع كل طير ثلاثة أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقاره، لا يصيب شيئًا إلا هشمه”.
وفي رواية ابن إسحاق: “وأرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف. مع كل طير ثلاثة أحجار: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، مثل الحمص والعدس، لا يصيب أحدًا منهم إلا هلك، وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين … فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل”.
3 – “وأنها أكلت أصحاب الفيل”.
استنبطه المعلِّم من الأمر الأول، ومن قول سعيد بن جبير: ” تختلف عليهم”. وسيأتي ما فيه قريبًا، إن شاء الله تعالى.
[ص 25] 4 – وأن الحجارة أصابتهم من كل جانب”.
لم أره في شيء من الروايات.
5 – “وأنها أحدثت الجدري بإصابتها أجسامهم”.
مرت رواية عكرمة في الأمر الأول، وقال الحافظ ابن حجر في “الفتح”: “وأخرج ابن مردويه بسند حسن عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصِّفاح ــ وهو بكسر المهملة ثم فاء ثم مهملة موضع خارج مكة من جهة طريق اليمن ــ فأتاهم عبد المطلب فقال: إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحدًا. قال: لا نرجع حتى نهدمه، فكانوا لا يقدّمون

(8/34)


فيلهم إلا تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل، فأعطاها حجارة سوداء، فلما حاذتهم رمتهم، فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك أحد منهم جلده إلا تساقط لحمه” (1).
وعن الحارث بن يعقوب بلغه: “أن الطير التي رمت الحجارة كانت تحملها بأفواهها، فإذا ألقتها نفِط لها الجلد”.
وعن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس حدَّث “أن أول ما رئيت الحصبة والجدري في أرض العرب في ذلك العام”.
وعن عثمان بن أبي سليمان وعبد الرحمن بن البيلماني وعطاء بن يسار وأبي رزين العقيلي وابن عباس رضي الله عنهما ــ دخل حديث بعضهم في بعض ــ: ” … فأقبلت الطير من البحر أبابيل، مع كل طائر ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره. فقذفت الحجارة عليهم، لا تصيب شيئًا إلا هشمته، وإلا نفط ذلك الموضع. فكان ذلك أول ما كان الجدري، والحصبة، والأشجار المرة. فأهمدتهم الحجارة. وبعث إليه سيلًا أتيًّا، فذهب بهم، فألقاهم في البحر. قال: وولّى أبرهة ومن بقي معه هُرّابًا … ” أخرجه ابن سعد عن الواقدي (2).
6 – “وأنهم أهلكوا حينًا فحينًا في فرارهم حتى تساقطوا على كل منهل”.
_________
(1) فتح الباري، كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين. [المؤلف]. (12/ 207).
(2) الطبقات (1/ 55 – 56). [المؤلف]. ط صادر (1/ 91 – 92).

(8/35)


تقدم ذلك في رواية ابن إسحاق في الأمر الثاني، ونحوه في رواية الواقدي عن أشياخه في الأمر الخامس.
وقال ابن إسحاق: “حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن عائشة [ص 26] قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس” (1).
قال عبد الرحمن: عبد الله بن أبي بكر وعمرة من الثقات الأثبات، مخرج حديثهما في الصحيحين.
وفي الأشعار التي ذكرها ابن إسحاق (2): قول ابن الزبعرى يذكر أصحاب الفيل:
ستون ألفًا لم يؤوبوا أرضَهم … ولم يعِشْ بعد الإياب سقيمُها
وقول أبي قيس:
فولَّوا سراعًا هاربين ولم يَؤُبْ … إلى أهله ملْجَيشِ غيرُ عصائب
وقول ابن قيس الرقيات:
كاده الأشرمُ الذي جاء بالفيـ … ــــــل فولَّى وجيشُه مهزومُ
الأمور التي نسبها المعلِّم إلى الفريق الثاني:
1 – و 2 – “أن الطير كانت ترميهم بالحجارة، وأنها حملت هذه الحجارة بمناقيرها وأظافيرها”.
_________
(1) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف (1/). [المؤلف]. ط السقا (1/ 57).
(2) أيضًا (1/). [المؤلف]. ط السقا (1/ 58).

(8/36)


تقدم ذلك في رواية عكرمة في الأمر الأول من أمور الفريق الأول، وفي روايته عن ابن عباس في الأمر الخامس، وفي رواية سعيد بن جبير وعبيد بن عمير وقتادة وابن إسحاق في الأمر الثاني.
وفي رواية عن قتادة: “كانت مع كل طير ثلاثة أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقاره، فجعلت ترميهم بها”.
وتقدم في رواية الحارث بن يعقوب والواقدي عن أشياخه في الأمر الخامس.
وعن سعيد بن أبي هلال “بلغه أن الطير التي رمت بالحجارة أنها طير تخرج من البحر”.
وتقدم في الأمر الثاني قول سعيد بن جبير: “كانت طيرًا خضرًا لها مناقير صفر، تختلف عليهم”. فالمعلِّم رحمه الله تعالى حملها على [ص 27] معنى أنها تختلف على جثث موتاهم، تأكل منها. ولم يقنع حتى زعم أنها صريحة في ذلك؛ لأنه يجعل الضمير المستتر في ” تختلف” للمناقير، أي: تختلف مناقيرها عليهم.
قال عبد الرحمن: الضمير للطير، كما هو الظاهر. ومعنى الاختلاف هنا ــ كما لا يخفى على من يعرف طرفًا من اللغة ــ إنما هو أن يجيء بعضها، ثم يذهب ويخلفه غيره، وهكذا. فيصح أن يقال: وضع الأمير طعامًا فظل الناس يختلفون عليه، ويصح أن يقال: ظلت طياراتنا تختلف على جيش العدو. وبالقرينة يفهم من الأول الأكل، ومن الثاني الرمي.
والظاهر من كلمة سعيد بن جبير إرادة الرمي؛ لأن الاختلاف مجمل كما علمت، فإنما يترك تفسيره لظهوره. والظاهر إنما هو الرمي لظهور دلالة

(8/37)


القرآن عليه، واشتهاره بين الرواة، كما علمت. بخلاف أكل الجثث، فإنه لم يصرح به في شيء من الروايات، بل ولا دلّت عليه رواية من الروايات دلالة قوية، بل ولا أعلم أحدًا قبل المعلِّم ذكر أن تلك الطير أكلت جثثهم.
والاختلاف بالمعنى المذكور إنما يظهر نسبته إلى الطير، لأنها هي التي يجيء بعضها، ثم يذهب، ويخلفه غيره؛ لا إلى مناقيرها، كما قال المعلم. على أنه قد ثبت حمل الطير الحجارة، ورميها عن سعيد بن جبير نفسه، كما تقدم في الأمر الأول في رواية ابن أبي شيبة، وسندها على شرط مسلم.
وقد تقدم أواخر فصل (ب) حديث ابن عباس الذي صححه الحاكم والذهبي، وفيه: “فأقبلت مثلُ السحابة من نحو البحر حتى أظلّتهم طير أبابيل التي قال الله عزَّ وجلَّ: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}، قال: فجعل الفيل يعِجُّ عجًّا، {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}.
ولا يخفى دلالة هذا على أن الطير رمتهم بالحجارة. بل وتقدم في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول رواية عكرمة عن ابن عباس، وفيها التصريح بحمل الطير الحجارة، ورميهم بها. وتقدم عن الحافظ ابن حجر أن سنده حسن.
وفيما ذكره ابن إسحاق (1) قول ابن قيس الرقيات ــ وهو تابعي ــ يذكر البيت:
كاده الأشرمُ الذي جاء بالفيـ … ـل فولّى وجيشُه مهزومُ
واستهلّت عليهم الطيرُ بالجَنْـ … ـــدَلِ حتّى كأنه مرجومُ
_________
(1) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف (1/). [المؤلف]. ط السقا (1/ 61).

(8/38)


[ص 28] وفي “المنمَّق” لابن حبيب (1) في قصيدة لعمرو بن الوحيد بن كلاب:
سطا الله بالحُبشان والفيل سطوةً … أرى كلَّ قلب واهيًا فهو خائفُ
ويومُ ذباب السيف كان نذيرَه … ويومٌ على جنب المغمَّس كاسفُ
أُميرَ لهم رَجْلٌ من الطير لم يكن … نفاقًا لها من الحجارة واكفُ (2)
كأنّ شآبيبَ السماء هُوِيّةً … وقد أُشعلت بالمُجْلِبين النَّفانفُ
تدقُّهم من خلفِهم وأمامِهم … وعارضَهم فوجٌ من الريح قاصفُ
إلى أن قال:
وكان شفاءً لو ثوى في عِقابها … نُفَيلٌ وللآجال آتٍ وصارفُ
قال: فأجابه نفيل بن حبيب الخثعمي فقال:
ماذا ترى في عِقابي لو ظفرتَ به … يا بن الوحيد من الآيات والعبرِ
قِلْنا المغمَّسَ يومًا ثم ليلتَه … في عالجٍ كثُؤاج النِّيب والبقرِ
حتى رأينا شعاعَ الشمس تستره … طيرٌ كرَجْلِ جرادٍ طار منتشرِ
يرميننا مقبلاتٍ ثم مدبرةً … بحاصبٍ من سَواء الأفق كالمطر
وفي القصيدة ذكر الريح أيضًا.
وفي “السيرة” وغيرها أبيات لنفيل، فيها:
حمدتُ الله إذ عاينتُ طيرًا … وخفتُ حجارةً تُلقَى علينا
_________
(1) ص (77 – 78).
(2) في المطبوعة: “أميرهم رجل”، وفيها أيضًا: “نِقافًا”، وهو الصواب.

(8/39)


هكذا هو في “السيرة” و”تاريخ ابن جرير” وغيرها: “خفت” (1). ووقع في “تفسير الخازن”: “وحصب” (2)، وكذا أورده المعلم (3).
وعلى كلٍّ، فإن كانت الرواية “تلقي” بكسر القاف، فهو صريح في رمي الطير، وإن كانت “تلقى” بفتح القاف، فهو ظاهر في رمي الطير أيضًا؛ لأنه إنما حمد الله على معاينة الطير، لأن الفرج كان بواسطتها، وأوضح ذلك بتعقيبه ذكر معاينة الطير بإلقاء الحجارة.
وفي كلام المعلِّم ما قد يكون فيه جواب عن هذا، فإنه قال (ص 27): “إن شاعرهم ربما يصف جيشًا عظيمًا، فيذكر أن الطير تصحبه، لعلمها بكثرة القتلى” وذكر قول النابغة (4):
إذا ما غزَوا بالجيش حلّق فوقهم … عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصائب
وقول أبي نواس (5):
_________
(1) السيرة (1/ 53)، تاريخ ابن جرير (2/ 136) عن ابن اسحاق.
(2) تفسير الخازن (4/ 293).
(3) لعل المعلِّم رحمه الله نقل من الحيوان للجاحظ (7/ 199)، وكذا في المروج (2/ 129). وفي رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق: “وقذف حجارة ترمى” (سيرة ابن إسحاق: 41). وفي المنمق: “وسفي حجارة تسفى”.
(4) ديوانه (42). وصلة البيت بعده:
يُصاحِبنَهم حتى يُغِرنَ مُغارَهم … من الضَّاريات بالدماء الدَّواربِ
تراهنّ خلفَ القوم خُزْرًا عيونُها … جلوسَ الشيوخ في ثياب المرانبِ
جوانحَ قد أيقنَّ أنّ قبيله … إذا ما التقى الجمعان أوّلُ غالبِ
لهنَّ عليهم عادةٌ قد عرفنَها … إذا عُرِّض الخطّيُّ فوق الكواثبِ
(5) ديوانه (431).

(8/40)


تتأيّا الطيرُ غُدوتَه … ثقةً بالشِّبْع من جَزَرِهْ
قال عبد الرحمن: هذا الشعر، وما يشبهه كقول [أبي تمام] (1):
وقد جُلِّلتْ عِقْبانُ أعلامه ضحىً … بعِقْبان طيرٍ في الدماء نواهلِ
أقامت مع الرايات حتى كأنها … من الجيش إلّا أنّها لم تقاتل
إنما ذكر فيه أن الطير تصحب الجيش الغالب. فمعاينة نفيل الطير على جيش أصحاب الفيل يقتضي على هذا أن يدلّه على أن ذلك الجيش غالب، أو قل: إنما يدل على أنه يتوقع أن يقع قتل كثير منه، أو من عدوه، أو قل ــ وهو الحق ــ: لا يدل على شيء، فإن الطير ــ إن صدق الشعراء ــ إذا رأت [ص 29] الجيش الذي اعتادت أنها إذا رأته لم يلبث أن يكون مقتلة عظيمة، حلّقت فوقه، ومعلوم أنه لا يلزم من تحليقها فوق الجيش أن يقع قتال، فقد بان أن رؤية نفيل تحليق الطير على أصحاب الفيل لا يقتضي ــ وحده ــ أن يستبشر نفيل. فظهر أنه إنما استبشر وحمد الله تعالى لما رآها ترميهم بالحجارة. وقد صرح بذلك في قصيدته الأخرى، كما نقلناه من “المنمق”.
ويأتي في الأمر الثالث روايات أخرى فيها ذكر رمي الطير، وهي وإن كانت ضعيفة، فإنها تؤيد الروايات السابقة فيما وافقتها فيه. ويأتي في تفسير السورة مزيد لذلك إن شاء الله تعالى.
3 – “وأن هذه الحجارة نفذت في أجسام الراكبين، حتى نفذت في أجسام الفيل”.
_________
(1) زيادة مني، وفي الأصل بياض. وانظر ديوان أبي تمام (3/ 82). وفيه: “وقد ظلّلت”.

(8/41)


ليس في “تفسير ابن جرير” شيء من ذلك، فلأذكر بعض ما وقفت عليه في غيره.
قد تقدم في الأمر الثاني من أمور الفريق الأول أثر عبيد بن عمير، أخرجه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران، وعن أبي كريب عن وكيع، كلاهما عن سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد.
وأخرجه أبو نعيم من طريق الواقدي عن قيس بن الربيع عن الأعمش بنحوه، وزاد: “فجاءت حتى صفّت على رؤوسهم، وصاحت، وألقت ما في أرجلها ومناقيرها. فما على الأرض حجر وقع على رجل منهم إلا خرج من الجانب الآخر، إذا وقع على رأسه خرج من دبره” (1).
وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش، وزاد فيه: “ولا يقع على شيء من جسده إلا خرج من الجانب الآخر. وبعث الله ريحًا شديدةً، فضربت الحجارة، فزادها شدةً، فأهلكوا جميعًا”.
[ص 30] ونسب البغوي بعض هذا الكلام إلى ابن مسعود قال: “قال ابن مسعود: صاحت الطير، ورمتهم بالحجارة، فبعث الله ريحًا، فضربت الحجارة فزادتها شدة، فما وقع من حجر على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره” (2). كذا قال.
وأخرج أبو نعيم من طريق ابن وهب: “أخبرني ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن عثمان بن المغيرة بن الأخنس … ” (3). فساق القصة مطولة،
_________
(1) دلائل النبوة (ص 45). [المؤلف].
(2) تفسير البغوي بهامش الخازن (7/ 246). [المؤلف].
(3) دلائل النبوة (ص 43 – 44). [المؤلف].

(8/42)


وفيها: “وخرجت عليهم طير من البحر، لها خراطيم كأنها البلس (1)، شبيهة بالوطاويط، حمر وسود … فرمتهم بحجارة مدحرجة كالبنادق، تقع في رأس الرجل، وتخرج من جوفه”.
وفيما ذكره البغوي عن مقاتل: ” … وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى يقع في دماغه، ويخرق الفيل والدابة، ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه” (2).
قال عبد الرحمن: أما الزيادة في أثر عبيد بن عمير، فالواقدي
متروك (3)، وقيس ضعيف (4)، وأبو معاوية والأعمش مدلسان.
وأما نسبة بعض ذلك الكلام إلى ابن مسعود، فلا أدري ما مستنده. وأما رواية ابن لهيعة عن عقيل عن عثمان، فابن لهيعة ضعيف ويدلس (5). نعم،
_________
(1) كذا في الدلائل. والبلَسَ: ثمر كالتين، والتين نفسه. والبُلُس: العدس. وفي سيرة ابن هشام (1/ 53): ” … طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان”. وفي المجموع المغيث (1/ 185): “في حديث ابن عباس: بعث الله الطير … كالبلسان”. وفي شرح السيرة للخشني (18): “والخطاطيف والبَلَشون: ضربان من الطير”. والبلشون: مالك الحزين (الحيوان للدميري (3/ 713) عن ابن برّي). والظاهر أن البلسان بالمهملة لغة فيه كالبلشان بالمعجمة والبلزان بالزاي. انظر معجم الحيوان لمعلوف (20، 125). أما “البلس” في الدلائل فلعله تحريف “البلسان”. هذا، وقال عبّاد بن موسى في شرح البلسان: “أظنها الزرازير” كما في المجموع المغيث، ومنه في النهاية لابن الأثير (1/ 152) وأراه بعيدًا.
(2) تفسير البغوي بهامش الخازن (7/ 344). [المؤلف].
(3) راجع تهذيب التهذيب (9/ 363 فما بعدها). [المؤلف].
(4) أيضًا (5/ 391 فما بعدها). [المؤلف].
(5) أيضًا (5/ 373 فما بعدها). [المؤلف].

(8/43)


ذكروا أن ما رواه ابن وهب عن ابن لهيعة قوي، وهذا بالنسبة إلى التخليط الذي عرض له، فأما التدليس فلم يزل [ص 31] يدلس أولًا وآخرًا. وعثمان بن المغيرة لم أجده، وأراه عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس، وثّقه ابن معين، وليّنه ابن المديني والنسائي (1).
وبالجملة، فسند هذه الرواية متماسك، ولكن في متنها تخليط، ومخالفة لعامة الروايات. ومع ذلك فعثمان بن محمد بن المغيرة من أتباع التابعين، ولم يسند القصة إلى من فوقه. وأما مقاتل فكان مجازفًا فيما يحكيه (2).
4 – “ولا بد أنهم هلكوا حيث كانوا”.
-ظاهر هذه العبارة أن هذا استنتاج من الأمر الثالث، وفيه نظر؛ إذ ليس في الحكاية أن الحجارة أصابت كل واحد منهم، ولا فيها أن كل من أصابته إنما وقعت على وسط رأسه. وإنما فيها أن كل من أصابته في موضع نفذت من الجانب الآخر. وعلى هذا، فلعل بعضهم لم تصبه، وبعضهم أصابته في ذراعه أو كفه أو قدمه، وهذان القسمان لا يلزم فيهما الهلاك العاجل.
فلا يكون في هذه الرواية مخالفة لما تقدم في الأمر السادس من أمور الفريق الأول. وما وقع من الزيادة في رواية عبيد بن عمير: “فأهلكوا جميعًا” ليس فيه أنهم أهلكوا جميعًا في مكانهم ذلك.
5 – “وأن سيلًا جاء، فذهب بجثث القتلى”.
_________
(1) تهذيب التهذيب (7/ 125). [المؤلف].
(2) أيضًا (10/ 279 فما بعد).

(8/44)


جاء هذا في رواية ابن سعد عن الواقدي عن أشياخه، كما تقدم في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول.
وفي “مصنف ابن أبي شيبة” عن أبي أسامة قال: فحدثني أبو مكين عن عكرمة قال: “فأطلقهم من السماء، فلما جعلهم الله كعصف مأكول أرسل الله غيثًا، فسال بهم حتى ذهب بهم إلى البحر”.

[ص 32] الأمور التي لخصها من الأشعار:
1 – “ذكروا الطير، وحصب الحجارة معًا، لكنهم لم ينسبوا الحصب إليهم”. كذا والمراد: إليها، أي إلى الطير.
ومن الأشعار التي ذكرها المعلِّم واستنبط منها هذه الأمور أبيات لأبي قيس بن الأسلت، وليس فيها تصريح بالطير، وإنما فيها الحاصب، وهو قوله:
فأرسل من فوقهم حاصبًا … يلفُّهمُ مثلَ لفِّ القَزَمْ
هكذا في السيرة (1)، وسياق الأبيات يشهد لذلك بالصحة، والضمير المستتر في “أرسل” يعود على الله عزَّ وجلَّ.
وذكر المعلِّم هذا البيت بلفظ: “فأُرسل من ربهم حاصبٌ … ” (2) وذكر أبياتًا أخرى له، وليس فيها تصريح بالطير، وإنما فيها:
فلما أجازوا بطنَ نعمان ردَّهم … جنودُ الإله بين سافٍ وحاصب
_________
(1) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف. [المؤلف]. ط السقا (1/ 58).
(2) كذا في كتاب الحيوان ط الحميدية التي اعتمد عليها المعلِّم رحمه الله.

(8/45)


وذكر أبيات نفيل، وفيها:
حمدتُ الله إذ عاينتُ طيرًا … وحَصْبَ حجارةٍ تُلقَى علينا
وقد تقدم في الأمر الأول والثاني من أمور الفريق الثاني أن الذي في السيرة وأكثر الكتب: “وخفت حجارة”.
2 – “بل نسبوه إلى سافٍ وحاصبٍ”.
إنما جاء في قول أبي قيس: “بين سافٍ وحاصب”، وقوله: “فأرسل من فوقهم حاصبًا”، وقد مرَّ.
فأما قول نفيل: “وحصب حجارة”، [ص 33] فالرواية: “وخفت حجارة”، كما مرّ (1).
قال: “والحاصب يستعمل للهواء والريح الشديدة التي ترمي بالحصباء … وفي حديث علي رضي الله عنه قال للخوارج: أصابكم حاصب. وقال أهل اللغة في تفسيره: أي عذاب من الله، وأصله: رُميتم بالحصباء من السماء”.
قال عبد الرحمن: لا خلاف بين أهل اللغة أن لفظ: “حاصب” اسم فاعل من حصبه: أي رماه بالحصباء. فيحمل في بيتي أبي قيس على الطير، لأنها جند من جنود الله حصب أصحاب الفيل، فهو حاصب. ولا يمكن حمله على الريح، فإن قوله: “جنود الإله بين سافٍ وحاصب” ذكر فيها جندين: أحدهما سافٍ، وهو الريح، وآخر حاصب، فهو غير الريح؛ إذ لو
_________
(1) انظر تعليقنا في (ص 40).

(8/46)


كان إياها لكان السافي هو الحاصب، فهو جند واحد سافٍ حاصب، فلا معنى لجعله جندين، أو جنودًا.
والمعلِّم رحمه الله تعالى يحاول تفسير الحاصب برمي من الهواء بقدرة الله عزَّ وجلَّ بدون أن يكون هناك رامٍ محسوس. وهذا قد يحتمله اللفظ، ولكن قد تكاثرت الروايات برمي الطير، وهو ثابت بظاهر القرآن إن لم نقل بنصّه، واتفق عليه الناس قبل المعلم، فالحمل عليه هو المتعين.
وقد تقدم عن “المحبّر” (1) في قصيدة نفيل بن حبيب الذي شهد الواقعة قوله:
حتى رأينا شعاعَ الشمس يستُره … طيرٌ كرَجْلِ جَرادٍ طار منتشرِ
يرميننا مقبلاتٍ ثم مدبرةً … بحاصبٍ من سواء الأفق كالمطر
3 – “ثم إنهم نسبوه إلى سافٍ، ومحال أن يحمل هذا اللفظ على الطير … “.
في هذا إشارة إلى صحة حمل الحاصب على الطير، وهو المتعين كما مر. فأما السافي فظاهر أنه الريح التي تسفي التراب. [ص 34] ولا مانع من اجتماع رمي الطير وسفي الريح كما ذكر في بعض الروايات والأشعار.

الجمع أو الترجيح فيما اختلفت فيه الروايات:
1 – اختلفت الروايات في صفة الطيرو لونها. وقد جمع بعض أهل العلم بين ذلك. قال الخازن: “ووجه الجمع بين هذه الأقاويل في اختلاف أجناس هذه الطير أنه كانت فيها هذه الصفات كلها. فبعضها على ما حكاه
_________
(1) سهو، والمقصود: المنمَّق.

(8/47)


ابن عباس، وبعضها على ما حكاه غيره، فأخبر كلُّ واحد بما بلغه من صفاتها” (1).
وإيضاح ذلك أن الطير كانت كما قال الله عزَّ وجلَّ: {أَبَابِيلَ}، وفسّرها أهل العلم بأنها كانت جماعات. فعن ابن مسعود قال: “فِرَق”، وعن أبي سلمة: “الزُّمَر”، وعن إسحاق بن عبد الله: “الأقاطيع”، وعن مجاهد: “شتّى متتابعة مجتمعة”، وعن ابن زيد: “المختلفة تأتي من هاهنا، وتأتي من هاهنا، أتتهم من كل مكان” (2). فوصف كلُّ رجل الفرقة التي جاءت من ناحيته، وحكى كلُّ من الرواة ما سمعه.
ومع إمكان الجمع لا محلّ للترجيح، على أننا إن رجّحنا رواية ابن عباس: “لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب”، مع قول عكرمة: “لها رؤوس السباع”، لم يلزم من ذلك أنها من جوارح الطير، لوجهين: الأول أن جوارح الطير المعروفة كالعقبان والنسور معروفة عند العرب، فلو كانت منها لما احتاج العرب أن ينعتوها، بل كانوا [ص 35] يذكرونها باسمها المعروف.
الثاني: أن الراجح في اللون قول عكرمة وسعيد بن جبير ــ وروايتهما من الروايات التي يرجحها المعلِّم ــ إنّها كانت خُضْرًا، وليس في سباع الطير وجوارحها ما لونه أخضر.
_________
(1) تفسير الخازن (7/ 246). [المؤلف].
(2) راجع لأسانيد هذه الآثار مع آثار أخرى: تفسير ابن جرير (30/ 164 – 165). [المؤلف].

(8/48)


وبهذا تعلم سقوط قول المعلِّم رحمه الله (ص 27): “فجلب العقبان والرخم والقشاعم من صحارى إفريقية”.
2 – في رواية عكرمة، والحارث بن يعقوب، ويعقوب بن عتبة وما يوافقها ــ كما تقدّم في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول ــ أن الحجارة أثّرت في أصحاب الفيل الجدريَّ ونحوه. وقد يوافقها أثر عائشة الذي تقدم في الأمر السادس أنها رأت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين، فإنّ العمى كثيرًا ما يكون عن الجدري.
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس التي تقدمت في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول أنها أصابتهم الحكّة: “فكان لا يحكّ أحد منهم جلده إلا تساقط لحمه”. والجمع بينه وبين ما تقدم أنه أصابهم الجدري والحصبة والحكّة، فكل منهم ابتلي بداء من الأدواء الجلدية.
وفي رواية قتادة: “لا يصيب شيئًا إلا هشمه”، وفي رواية ابن سعد عن الواقدي عن أشياخه، وهي ملفّقة من رواياتهم: “لا تصيب شيئًا إلا هشمته، وإلا نفط ذلك الموضع”.
وفي الروايات التي ذكرناها في الأمر الثالث من أمور الفريق الثاني أن الحجارة كانت إذا أصابت موضعًا من الجسد نفذت من الجانب الآخر.
قال عبد الرحمن: رواية التجدير وما في معناه من الحصبة والحكّة والنفط أرجح. والجمع بينها وبين الهشم ممكن بأن يقال إنها كانت لشدّة وقعها تجرح الموضع الذي تقع فيه، فإن وقعت على الرأس هشمت، ثم يتقرّح ذلك الموضع، ويكون الجدري ونحوه، وهذا موافق للعادة في تلقيح الجدري ونحوه. فيقرب في النظر أن تكون تلك الحجارة ملطخة بمادة

(8/49)


مَرَضيّة قوية، فكانت الحجارة تجرح، فتتصل المادة [ص 36] بالدم، فينشأ المرض. والله أعلم.
فأما روايات النفوذ ففيها مقال كما تقدم، ومع ذلك فالجمع ممكن، فيقال: منهم من أصابه الحجر في رأسه فنفذ من الجانب الآخر، فأقعصه. ومنهم من أصابه في ذراعه، أو كفه، أوقدمه، ونحو ذلك، فنفذ من الجانب الآخر. ولا يلزم من ذلك الموت حالا، ولكن تقرح مدخل الحجر ومخرجه فكان الجدري ونحوه. ولعل منهم من لم يصبه حجر، ولكن جُدِر بالعدوى العادية. ولعل بعضهم سلم فنجا، وبعض من جُدِر لم يمت، كالرجلين اللذين رأتهما أم المؤمنين بمكة.
3 – عامة الروايات التي وصفت الحجارة بيّنت أنها كانت حصىً صغارًا نحو الحمص.
وشذّت رواية ذكرها الألوسي في تفسيره أنها كانت كبارًا، منها ما هو كالإبل البوارك (1). وهذه الرواية غلط، كأن راويها سمع من ينعت {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82، الحجر: 74] في قصة قوم لوط، فتوهم أن ذلك في قصة أصحاب الفيل، أو توهم أن ذلك الكبر لازم لكل حجارة من سجيل.
وذكر ابن إسحاق (2) قصيدة لامرأة تعظ ابنها، وفيها:
والفيلُ أُهلِكَ جيشُه … يُرمَون فيها بالصخورْ
_________
(1) روح المعاني (9/). [المؤلف]. ط دار إحياء التراث (30/ 237).
(2) سيرة ابن هشام. [المؤلف]. ط السقا (1/ 26).

(8/50)


وأخشى أن يكون هذا البيت مدرجًا في القصيدة، وأنها قيلت قبل قصة الفيل. فإن صح فإنما اطلقت على تلك الحصى صخورًا تجوزًا، نظرًا إلى أنها أثرت في أصحاب الفيل من الهلاك ــ ولو بعد مدة ــ ما لو كانت صخورًا لما زادت.

[ص 37] استنتاج المعلم:
قال (ص 23): “فالرواية عن عكرمة وابن عباس تخبر بأن الطير كانت جوارح كبارًا، كالعقبان والرخم. وفي رواية ابن جبير تصريح بأنها كانت تأكلهم، وليس في هذه الروايات أنها حملت الحجارة. ثم نجد رواية عن قتادة وعبيد بن عمير أنها حملت الحجارة في أظفارها ومناقيرها، ولا تذكر صفة تدل على كونها جوارح. وأما الروايات التي جمعت الأمرين، فليس إلا من إدخال بعض الرواية في بعض، فإن الرواة ربما كانوا يلفقون، وصرح به ابن جرير في تاريخه حيث بدأ هذه القصة بقوله: دخل حديث بعضهم في [حديث] (1) بعض”.
قال عبد الرحمن: حاصل كلامه أنه يستنتج من رواية الفريق الأول أن الطير أكلت جثث أصحاب الفيل، ومن رواية الفريق الثاني أنها حملت الحجارة ورمتهم بها.
فأما النتيجة الأولى فلا تثبت. أما بالنظر إلى رواية ابن عباس وعكرمة، فقد تقدم الكلام في الأمر الأول من أمور “الجمع أوالترجيح” وهَبْ أن ذلك الشكل يدل على أن تلك الطير تشبه الجوارح المعروفة كالعقبان، فمن أين لنا أنها أكلت جثث القوم؟
_________
(1) ما بين الحاصرتين زيادة من تفسير سورة الفيل.

(8/51)


وأما بالنظر إلى رواية سعيد بن جبير، فقد تقدم الكلام عليها في الأمر الأول والثاني من أمور الفريق الثاني.
وأما النتيجة الثانية فحقٌّ، وهي ثابتة عن هؤلاء الثلاثة الذين جعلهم فريقًا أول. فقد ثبتت عن ابن عباس كما تقدم في الأثر الذي صححه الحاكم والذهبي، وهو في آخر فصل (ب)، وفي الأثر الذي حسنه الحافظ ابن حجر، تقدم في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول؛ وعن سعيد بن جبير كما تقدم في الأمر الثاني من أمور الفريق الأول، وعن عكرمة، فإن لفظ روايته: “كانت طيرًا … كانت ترميهم بحجارة معها، فإن أصاب [ص 38] أحدهم خرج به الجدري”.
والرواية التي حسّنها الحافظ ابن حجر هي من رواية عكرمة عن ابن عباس.
والمعلِّم ــ عفا الله عنَّا وعنه ــ حكى رواية عكرمة، وحذف منها قوله: “كانت ترميهم … “، ثم أشار إلى ذلك بقوله: “وأما الروايات التي جمعت الأمرين … “.
فقد اتضح بحمد الله عزَّ وجلَّ أن الرواة ليسوا فريقين مختلفين، وإنما وقع الاختلاف في بعض الأمور الجزئية. وقد قدمنا ذلك مع الجمع والترجيح.

تحرير البحث:
مقصود المعلِّم رحمه الله أن يثبت أن الطير أكلت جثث الهلكى، وأنها لم ترم بالحجارة. فحقّ الكلام أن يقال: إن الرواية عن بعض الصحابة والتابعين بدون نظر إلى أشخاص الرواة جاءت بأمرين: أحدهما: أن الطير

(8/52)


أكلت جثث الموتى، والآخر: أنها رمت أصحاب الفيل بالحجارة. ثم يثبت الأول، ويرد الثاني. وقد حاول المعلِّم ــ رحمه الله ــ ذلك.
أما الأول: فبادعاء أن رواية سعيد بن جبير صريحة في الأكل، وأن رواية ابن عباس التي ذكرها ابن جرير تُشعر به، ويوافقها جزء من رواية عكرمة، وأكد ذلك بقوله (ص 23): “الإخبار بشكل الطير ولونها، وأن مناقيرها الصفر كانت تختلف عليهم، لا يكون إلا برؤية العين”.
قال عبد الرحمن: قد علمت أن رواية سعيد بن جبير ظاهرة في الرمي، وأن الضمير في ” تختلف عليهم” إنما هو للطير، لا لمناقيرها. وعلمت أن رواية ابن عباس والجزء الذي أخذه المعلِّم من رواية عكرمة إنما تدل على أن في شكل تلك الطير ما يشبه شكل الجوارح، وأن ذلك [ص 39] لا يقتضي الأكل. ثم علمت أنها جاءت عن ابن عباس رواية مصحَّحة ظاهرة في الرمي، وأخرى محسَّنة صريحة فيه، وأن رواية سعيد بن جبير ظاهرة فيه، وصحت عنه رواية مصرحة به، وأن الجزء الأخير من رواية عكرمة مصرح بالرمي.
وعلى هذا، فلا بد للمعلم من أحد أمرين:
إمّا أن يقول: إن ابن عباس وعكرمة لم يفهما مما ذكروه من وصف الطير ما يقتضي أكلها للجثث.
وإمّا أن يقول: إنهما فهما ذلك، ولكن لم يريا فيه مخالفة لكون الطير رمت بالحجارة.
فإن اختار الأول، قيل له: كفى بذلك ردًّا لما زعمتَه من أن تلك الصفة تُشعر بالأكل.

(8/53)


وإن اختار الثاني، بقي عليه أن يثبت الأكل بحجة واضحة، وأنى ذلك!
ويكفي في رده أن أهل العلم من لدن الصحابة إلى الآن لم يذكروه. وهَبْ أنه أقام عليه حجة واضحة، فإنه لا ينافي ما قامت عليه الحجج الواضحة من رميها بالحجارة، وسيأتي تمام هذا إن شاء الله تعالى.
وأما الثاني، فقال المعلِّم (ص 23): “وأما الإخبار بحملها الحجارة في مناقيرها وأظفارها، فقصارى أمره أن يكون إما ممن رأى نزول الحجارة من السماء، وظن من بعيد أنها تأتي من الطير، أو ممن ظن أن الضمير في قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} يرجع إلى الطير، فروى القصة حسبما فهم من تأويل الآية”.
وقال في موضع آخر (ص 32) (1): “ويمكن أيضًا أن بعض الشاهدين أنفسهم لم يفهموا إلا أن الطير رمتهم، فذكروا حسبما ظنوا. وعذرهم بيّن، فإن رمي أهل مكة لم يكن جديرًا بما رأوا من الآثار على الأعداء، فأيقنوا برمي من السماء، ولم يروا في السماء إلا طيرًا أبابيل، فنسبوا هذا الرمي إليهن”.
قال عبد الرحمن: حاصل الاحتمال الأول أن الطير حلّقت عليهم، ثم رُجموا، وهي محلّقة. وهذا موافق لما دل عليه القرآن، كما يأتي أن إرسال الطير كان قبل الرمي، وموافق لما أطبقت عليه الروايات، ومنها قول نفيل:
حمدتُ الله إذ عاينتُ طيرًا … وخفتُ حجارةً تُلقَى علينا
_________
(1) في الأصل: “ص 23″، وهو سهو.

(8/54)


[ص 40] وقد يلزم المعلِّم أن يقول: إن نفيلًا ممن اشتبه عليه الأمر، وإن لم يكن بعيدًا، بل كان مع أصحاب الفيل، ولهذا خاف أن يقع عليه بعض الحجارة.
وعلى هذا الاحتمال مناقشات:
الأول: أن يقال: وما فائدة إرسال الله عزَّ وجلَّ للطير قبل نزول العذاب؟
فإن قيل: على ما جرت به عادة الطير من التحليق فوق الجيوش، على ما تقدم في الأمر الأول والثاني من أمور الفريق الثاني.
قلت: تلك الطير العادية التي اعتادت من رؤية الجيش أن تكون مقتلة، وهذه طير غريبة كما يعلم من صفاتها، وعظَّم الله تعالى شأنها بذكر أنه أرسلها.
وإن قيل: لتكون حجابًا لرمي الله عزَّ وجلَّ ــ على ما يأتي في فصل (ز) ــ قلت: إذا صححت جعلَها حجابًا، فاجعل الرمي منها، واسترح من العناء والتعسف، ومخالفة الناس جميعًا، وغير ذلك مما يلزمك.
الثاني: أن مثل هذا الاحتمال إنما يلجأ إليه إذا امتنع الظاهر، ورمي الطير بأمر الله عزَّ وجلَّ ليس بممتنع.
وسيأتي ذكر شبهة المعلِّم في امتناعه، وردّها. وحسبك أنها لم تخطر ببال أحد من الصحابة والتابعين وسائر أهل العلم من جميع الفرق حتى أثيرت أخيرًا، على ما يأتي.
الثالث: أن رمي الطير ثابت بدلالة القرآن، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وأما الاحتمال الثاني، وهو أن يكون “ممن ظن أن الضمير في قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} يرجع إلى الطير”، فسياق الروايات يأباه، على أنه يقتضي

(8/55)


أن أهل العلم من الصحابة والتابعين، وهلم جرًّا إلى عهد المعلِّم لم يفهموا من قول الله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} إلا أن المعنى ترميهم الطير، فمخالفتهم كلهم [ص 41] في هذا الفهم إما أن لا تجوز ألبتة، وإما أن تجوز بشرط أن تقوم حجة قاهرة تلجئ إلى مخالفتهم. وليس للمعلم حجة إلا الشبهة التي سلف ذكرها، وسيأتي ردّها إن شاء الله تعالى.
وفوق ذلك، فإن أول السورة يردّه، فإن معناه ــ كما يعترف به المعلِّم ــ: “قد علمت أيها المخاطب، أي كلّ من يصلح أن يخاطب {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} علمًا مساويًا لعلم المشاهد”. فكيف يجوز أن يقال هذا، وعامة الذين شاهدوا الواقعة وغيرهم ممن قرب منهم لا يعلمون أصل الكيفية، بل يجهلونه جهلًا مركبًا، يرون أنه كان يرمي الطير، والواقع أنه لم يكن رمي من الطير؟
قال المعلِّم (ص 24): “ثم كأن بعض من أخذ بهذا الرأي تفطن لما فيه من الإشكال، فإن جثث الفيلة والقتلى ملأت ناحية بطحاء مكة، فكيف أمكن لأهل هذه البقاع أن يسكنوها؟ ففزعوا إلى رأي آخر، وهو أن الله تعالى أرسل سيلًا فطهر الأرض. ولا يخفى أن السيل الذي يذهب بجثث هذه الأفيال وهذا الجند الكثيف لا يترك سكان هذه البطحاء … ثم … وجدوا إشكالًا آخر، وهو أن الحجارة النازلة من مناقير الطير وأظافيرها تنزل مستقيمة، فكيف تصيب الفيل مع أن جسمه حتى رأسه محفوف بالراكبين، فزعموا أن الحجارة نفذت الراكبين … ثم لا بد لهم أن يفرضوا أن الحجارة أصابت جند أبرهة، وأهلكه على مكانه، وأن ينسبوا الإهلاك إلى محض جراحات الحجارة. ولكن رواية الفريق الأول تصرح بأن من أصابته

(8/56)


الحجارة رمي بالحصبة … وجعلوا يتساقطون على كل منهل. فتبين أن كل ما ذهب إليه الفريق الثاني ليس إلا ما يتفرع على رأي رمي الطير”.
قال عبد الرحمن: أما رمي الطير فقد أثبته الفريقان معًا كما علمت، بل لم ينفه أحد من المسلمين قبل المعلِّم رحمه الله. ولا يلزم من إثباته أن تملأ الجثث بطحاء مكة أولًا، لأن رمي أصحاب الفيل كان بعيدًا عن مكة، كما يأتي.
ثانيًا: لأن الروايات الثابتة التي تثبت رمي الطير لم تقل: إنّ [ص 42] الحجارة أصابت الفيلة وجميع أفراد الجيش، فأقعصتهم. بل الأثبت منها يقول: إنها من أصابته نَفِط موضعُ إصابتها، وكان الجدري والحصبة والحكّة، وذكر بعضها الهشم. ولا يلزم منه هلاك الفيلة وهلاك الجيش كلّه في محلّه. وبعض الروايات التي فيها نظر ذكرت النفوذ، ولم تقل: إنها أصابت الفيلة، ولا إنها أصابت جميع أفراد الجيش، ولا إن كل من أصابته إنما أصابته في رأسه، فيلزم أن يموت للحال.
وأما أنها كانت تصيب البيضة فتخرقها، وتخرق الراكب والمركوب، وتغوص في الأرض، فإنما رأيت هذا في كلام مقاتل، وهو مجازف لا يعتدّ بقوله. ولا يلزم من رد قوله ردُّ جميع الروايات التي أثبتت رمي الطير. غاية ما يلزم أن يكون جماعة من أصحاب الفيل هلكوا في موضعهم، وفرّ الباقون يتساقطون على كل منهل، كما ذكره ابن إسحاق.
وعليه، فلا إشكال؛ لأن الذين هلكوا في موضعهم قد لا يكونون كثيرًا، بحيث يتغير هواء مكة، مع بُعدها عنهم.

(8/57)


وخبر السيل لم ينفرد به الواقدي، فقد جاء عن عكرمة كما تقدم. ولا مانع من صحته، ويكون سيلًا متوسطًا، لا يطمي على مكة، مع أن في الروايات: أن أهل مكة قد كانوا تحرزوا بشعف الجبال، فلعل السيل جاء قبل نزولهم، ولأهل مكة عادة بنزول السيول. وهب أنه لم ينزل سيل، فقد عرفت أن الذين هلكوا من الجيش في مكانهم إنما هم بعضهم، فلعلهم كانوا قليلًا بحيث إن أهل مكة استطاعوا أن يحفروا لهم الحفر، ويواروهم فيها. فإن كان لا بد من أكل الطير، فالطير المعروفة في بلاد العرب كالعقبان والرخم والنسور تكفي لأكل جثث الذين هلكوا في ذلك الموضع.
وقد كانت في الجاهلية والإسلام [ص 43] وقائع عظيمة، هلك فيها ألوف من الناس، ولم يمتنع سكنى البلاد المجاورة لها، ولا أرسل الله تعالى طيرًا غريبة، وذلك كحرب الكلاب، وذي قار، واليرموك، والقادسية.
وهَبْ أنه ثبت أن تلك الطير التي أرسلها الله تعالى أكلت من جثث الهلكى، فمن أين يلزم من ذلك أنها لم ترمهم؟ بل نقول حينئذٍ: إن الله تعالى أرسلها لعذاب أصحاب الفيل، بأن ترميهم بالحجارة، كما اقتضته السورة، وصرحت به معظم الروايات، وأطبق عليه الناس، ففعلتْ ما أُرْسِلَت له، ثم بقيت حتى أكلت جثث الموتى. وكان ذلك من الله عزَّ وجلَّ إتمامًا للنعمة على أهل مكة بتعجيل التنظيف، ومكافأةً منه سبحانه للطير التي أطاعته، فأطعمها من صيدها. ولم يتعرض القرآن ولا الروايات لأكل تلك الطير من الجثث، لأنه أمر عادي. والله أعلم.

(8/58)


(و)
الباعث للمعلم ــ رحمه الله ــ على دعوى أن أهل مكة قاتلوا أهل الفيل أمران:
الأول: استبعاده أن ينكُلوا عن القتال دون البيت، مع مالهم فيه من حسن الاعتقاد، وما لهم به من الشرف، وما عُرفوا به من الغيرة والنجدة. وقد تقدم الكلام على هذا في فصل (ج).
الثاني: استشعاره ــ فيما يظهر ــ أن اعتقاد نكول قريش عن القتال قد يؤدي إلى عيبهم، وقد يتخذه بعض الكفار والملحدين ذريعة إلى عيب خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم قومه.
وقد خفي هذا عن بعض أهل العلم في عصرنا [ص 44] لا يزال يكرر في مواعظه أن العرب كانوا على غاية من الجبن، أرعبتهم دابة ــ يعني الفيل ــ فأسلموا بيت الله، وهو رأس دينهم وشرفهم. ويتفنن في هذا المعنى، ومقصوده إثبات أنّ الإسلام هو الذي أكسبهم الشجاعة. وكان عليه أن يدع هذا البحث لمخالفته الواقع، وضعف النتيجة التي يحاولها منه، ولأنّه سرعان ما يسري في النفوس عيب الأمة إلى عيب كل فرد منها، فيجرُّ ذلك إلى عيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتخذه الكفار والملحدون ذريعة إلى ذلك.
فكأن المعلِّم رحمه الله حاول اقتلاع هذا الأمر من أصله. وأنا أقول: إن الحق أعز وأظهر من أن يضطرّ المنتصر له إلى الخروج عنه من جهة أخرى. وقد قدمت في فصل (ج) ما فيه أوضح العذر لأهل مكة في كفّهم عن قتال أبرهة. فمن تعامى عن ذلك وأبى إلا أن ينسبهم إلى الجبن، فهو وما اختار لنفسه!

(8/59)


(ز)
والباعث له ــ فيما يظهر ــ على إنكار رمي الطير أمور:
الأول: أن يتهيأ له دعوى أن قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} للخطاب فيستدل بذلك على أن أهل مكة قاتلوا.
الثاني (1): ما ذكره بقوله (ص 20): “من ينظر في مجاري الخوارق يجد أن الله تعالى لا يترك جانب التحجب في الإتيان بها، كما هي سنته في سائر ما يخلق؛ لأن حكمته جعلت لنا برزخًا بين عالمي الغيب والشهادة، وسنّ لنا التشبث بالأسباب مع التوجه إلى ربها، ليبقى مجال [ص 45] للامتحان والتربية لأخلاقنا”.
قال عبد الرحمن: تحقيق هذا البحث يستدعي النظر في حكمة الخلق، وقد أشار إليها الكتاب والسنة، وتكلم فيها أهل العلم، وأوضحتُ ذلك في بعض رسائلي (2)، وألخص ذلك هنا:
إن الله تبارك وتعالى جواد حميد، اقتضى جوده أن يجود بالكمال إلى الحد الممكن، فاقتضى ذلك أن يخلق خلقًا يكون محلًّا للكمال. وعلم أنه لا يكون للمخلوق كمال يعتدّ به إذا خُلق مجبورًا على الخير، أو غير ممكَّن من العمل، أو مسهَّلًا له عملُ الخير بأن لا تكون فيه مشقة ألبتة. فخلق تبارك وتعالى الخلق قابلين للكمال وضده، مختارين ممكَّنين، عليهم في الخير مشقة وكلفة، و {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
_________
(1) الأمر الثالث سيأتي في (ص 79).
(2) انظر: كتاب “العبادة” (ص 56 وما بعدها) بعنوان “حجج الحقِّ شريفة عزيزة كريمة”.

(8/60)


وقضاؤه وقدره من وراء ذلك، فلا منافاة بينه وبين الاختيار والتمكن، خلافًا للجبرية وللقدرية من المعتزلة وغيرهم.
ثم أمرهم بالخير، ونهاهم عن الشر، فانحصر كمالهم في طاعته. وعليه قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وأُسّ الكمال ورأس العبادة معرفة الحق، فلو جعل سبحانه حجج الحق مكشوفةً لما كان في معرفتها مشقة. فلا تكون عبادة ولا كمالًا. فلم يكن بدّ أن يكون دون حجج الحقّ حجاب، فلا تدرك إلا بكلفة ومشقة.
مثال ذلك: معرفة الله عزَّ وجلَّ. الطريق العام فيها هو الاستدلال بالأثر على المؤثر، وللآثار أسباب حسية فهي الحجاب. [ص 46] فإذا نظرنا إليها، وعرفنا ما هي عليه من الإتقان، ومطابقة الحكمة، كانت تلك حجة على أن لها خالقًا حيًّا عليمًا قديرًا حكيمًا.
ثم ننظر، فنجد منها ما هو عارض، يسميه بعضهم اتفاقيًّا، ولكننا إذا أمعنّا النظر وجدناه على وفق العدل والحكمة والإحسان، فتكون هذه حجة.
ومنها: ما يتسلسل، فإذا مشينا مع سلسلته انتهينا إلى حلقة لا نجد بعده حلقة، إلا أن نربطها بإرادة الرب وقدرته، وهذه حجة.
وإن أبينا إلا أن نفرض حلقات أخرى تشبه هذه الحلقات الكونية، فمهما فرضنا لا بد أن تنتهي الحلقات إلى حلقة لا يكون وراءها إلا إرادة الرب وقدرته، وهذه حجة.
فمن كان قلبه عامرًا بحب الحق، فإنه تكفيه حجة من هذه الحجج أو غيرها، يتقبلها بقبول حسن، فيمدّه الله عزَّ وجلَّ باليقين من حيث لا يشعر.

(8/61)


ومن كان دون هذا إلا أنه محب للحق في الجملة، فإنه إذا لم تقنعه الحجة حفظها، وضمّها إلى غيرها، فيستفيد من المجموع اليقين، أو ما يقرب منه، فيقبله، ويكمل الله تعالى له اليقين بفضله.
ومن استحوذ عليه الباطل لا تقنعه الحجة وحدها، فيتشكك فيها، ثم يطرحها نسيًا منسيًّا، فإذا عرضت له الأخرى فكذلك. فإذا حاولت إحدى الحجج أن تغلب هواه، وتضطره إلى الإيمان بوجود الخالق، فزعت نفسه إلى التفكر في الخالق قائلة: [ص 46] وما هو؟ وكيف هو؟ وأين هو؟ فيتخبط في هذا العماء بدون اهتداء بالأدلّاء ــ وهم الأنبياء ــ لسابق سوء ظنه بهم، فلا يحصل إلا على الحيرة.
وربما يكون قد تقدمه من يرى أنه أعلم منه، ولم يؤمن، فيهاب خلافه. أو يكون قد سبق منه ومن الذين ينسبهم إلى العقل والعلم عيب للعامة التي تؤمن بالله عزَّ وجلَّ، واستهزاء منها، وسخرية بها، وحكم عليها بأن أساس جهلها وأوهامها وخرافاتها هو الإيمان، فيأنف أن يعود إلى مساواتها.
وقد تشعر نفسه أنه إذا آمن بالله عزَّ وجلَّ ألجمها وكبحها عن كثير من شهواتها، فهي تعارضه في ذلك، وتغالطه، ولا تألو جهدًا في صرفه عنه إلى أسباب أخرى. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
[ص 49] (1) وأما قول المعلم: “وسن لنا التشبث بالأسباب”، وقوله: “تربية لأخلاقنا”، فإنه أصل آخر، حاصله: أنه كما جعل الله تعالى الأمور الدنيوية مبنية في الظاهر على الأسباب الحسية، سترًا لحجج الحق كما علمت، فإنه شرع لعباده أن يتشبثوا بالأسباب، وذلك لوجوهٍ:
_________
(1) الصفحتان (47، 48) وأكثر من نصف ص 49 مضروب عليها.

(8/62)


منها: أن الله عزَّ وجلَّ لو أغنى المؤمنين عن الأسباب لكان ذلك كشفًا لحجج الحق، وهو خلاف الحكمة كما علمت.
ومنها: أن العمل بالأسباب تحت الإذن الشرعي كله خير موجب للكمال، بقدر ما فيه من المشقة، فتوسيع دائرة الأعمال تهيئة لأسباب الكمال.
[ص 50] ومنها: أن الله تبارك وتعالى قد آتى العبد قدرة، وأمره أن يستعملها فيما ينفعه. فإن أحب أن لا يستعملها في مصالحه الدنيوية، فإن كان الباعث له على ذلك هو الإخلاد إلى البطالة، فالبطالة خلّة سوء، لا يرضاها الله تعالى لعباده الذين خلقهم ليكملوا. فإن كان مع ذلك يطلب حوائجه من ربه عزَّ وجلَّ فتلك حماقة، يعطل ما آتاه الله عزَّ وجلَّ، ويطلب ما عنده. وإن كان الباعث له هو التفرغ للصلاة والصيام فهو جهل. اسْعَ في مصالحك الدنيوية داخل الحدود الشرعية، حافظًا لحدود الله تعالى، مجتنبًا للحرام والشبهات، يكن لك أجران: أجر الساعي على نفسه، والعابد لربه. بل هي أجور كثيرة، لعل صلاة النافلة وصيامها لا تُعْشِرُها.
بل إذا تشاغل عن السعي في ضرورياته الدنيوية بصلاة النفل وصيامه كان تاركًا لما أمر به، متشاغلًا بما لم يؤمر به، فلعله لا أجر له ألبتة. بل لعله لا يسلم من الإثم، وحسبك من ذلك أنه بدعة مخالف لما جرى عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والراسخين في العلم ممن بعدهم.
ومنها: أن في ذلك ضرب مثل للعباد. يقال لهم: إذا كان ربكم أجرى العادة على أنه لا تُنال المنافع الدنيوية إلا بالسعي لها، هذا مع هوان الدنيا عليه، فمن باب أولى أن تكون المنافع الأخروية لا تُنال إلا بالسعي لها، فاجتهدوا في العمل، ولا تغرنّكم الأماني.

(8/63)


واعلم أن الشريعة أبلغت في هذا الأمر حتى ألزمت المكلف إذا عجز عن السبب العادي أن يعمل ما يشبهه، وبينت أنه لا يستحق الإغاثة من الله عزَّ وجلَّ إلا بذلك. فمن هذا [ص 51] قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكُفُّوا صبيانكم … وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا، وأَوكُوا قِرَبَكم، واذكروا اسم الله، وخَمِّروا آنيتكم، واذكروا اسم الله … “.
وفي رواية: “فإن الشيطان لا يحُلّ سقاءً، ولا يفتح بابًا، ولا يكشف إناءً، فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودًا، ويذكر اسم الله، فليفعل” (1).
ولا يخفى أن إغلاق الباب، وإيكاء السقاء، وعرض عود على الإناء، ليس بمانعٍ طبعي للشيطان، وإنما يمنعه الله عزَّ وجلَّ؛ لتعوذ المؤمن بذكر اسمه ومع ذلك شرط للإعاذة أن يعمل الإنسان ما يقدر عليه مما من شأنه أن يمنع في الجملة، وإن كان ليس بمانع طبعي للشيطان.
ومن ذلك حديث: “إذا صلى أحدكم فليصلِّ إلى سترة، وليدنُ منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته” (2).
وفيه: “إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا، فليخطط خطًّا، ثم لا يضره ما مر أمامه” (3).
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء .. إلخ. [المؤلف]. (2012).
(2) المستدرك (1/ 251). [المؤلف]. (922).
(3) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الخط إذا لم يجد عصًا. [المؤلف]. (689).

(8/64)


وفيه: “إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين”. وفي رواية: “إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره … ” (1).
أحاديث السترة وقطع الصلاة تدل أن المقصود من السترة منع الشيطان الجني من المرور. وإيضاح ذلك وبيان وجهه، له موضع آخر. والمقصود هنا: أن الجدار والعصا [ص 52] أمام المصلي ليس من شأنها أن تمنع الشيطان عن المرور منعًا طبيعيًّا، وإنما الذي يمنعه الله عزَّ وجلَّ بقدرته، فشرط الله عزَّ وجلَّ لمنعه أمرين: التعوذ، مع فعل الإنسان ما يقدر عليه مما من شأنه أن يمنع في الجملة، على نحو ما مرّ.
ولهذا إذا تعوذ الإنسان ونصب السترة، ثم ترك إنسانًا يمرّ بين يديه مرّ الشيطان معه؛ لأن المصلي قد قصّر فيما يقدر عليه من منع المارّ.
وهناك شواهد أخرى على هذا الأصل، وهو أن على الإنسان أن يسعى ويجتهد في جلب النفع، ودفع الضرر بالأسباب العادية أو ما يشبهها. فإذا فعل ذلك، والتجأ إلى ربه، أغاثه الله. وإن قصّر فيما يقدر عليه، لم يستحق أن يغيثه. وفيما ذكر كفاية. والله الموفق.
وبقي أمر ثالث، لم ينبه عليه المعلِّم رحمه الله. وهو أن الله عزَّ وجلَّ إذا أظهر معجزة لنبيٍّ جعل لذلك النبي صلة بها، ليعلم الناس أنها معجزة له.
فهذه ثلاثة أمور:
1 – الحجاب.
2 – بذل الوسع من الأسباب العادية.
3 – بيان أن هذا الخارق معجزة لهذا النبي.
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي. [المؤلف]. (506).

(8/65)


وقد ذكر المعلِّم لتثبيت ما أصّله شواهد، وذكر أن قصة الفيل نظيرها. قال: “الأول: ما وقع في غزوة بدر، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشًا، ثم قال: شاهت الوجوه. ثم نفحهم بها، وقال لأصحابه: شدّوا. فلم يبق كافر إلا شغل بعينه، كما جاء في سورة الأنفال: {وَمَا رَمَيْتَ [ص 53] إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
فجعل الله تعالى رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم سببًا ظاهرًا لما رماهم حتى شغل كل واحد منهم بعينه. فكان هناك رميان: رمي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأوه. ورمي من الله تعالى لم يروه، ولكن رأو أثره، ولذلك جاء النفي والإثبات معًا … “.
قال: “والثاني: … في سفر الخروج (ص 9: 8 – 11) (1): ثم قال الرب لموسى وهارون: خذا ملء أيديكما من رماد الأتّون، وليُذَرِّه موسى نحو السماء أمام عيني فرعون، ليصير غبارًا على كل أرض مصر؛ فيصير على الناس، وعلى البهائم دماملَ طالعةً ببثور … “.
قال: “والثالث: … في سفر الخروج (ص 10: 12 – 15): ثم قال الرب لموسى: مُدَّ يدك على أرض مصر لأجل الجراد، ليصعد على أرض مصر، ويأكل كلَّ عشب الأرض … وأكل جميع عشب [الأرض] (2)، وجميع ثمر الشجر الذي تركه البرَد … “.
_________
(1) في الأصل: “ص 5 … “، والصواب ما أثبتنا من تفسير سورة الفيل.
(2) ما بين الحاصرتين ساقط من تفسير سورة الفيل. وقد زدناه من الترجمة العربيّة للتوراة.

(8/66)


قال عبد الرحمن: هذه الشواهد لا تناسب الأصل الأول، وهو الحجاب، وإنما الحجاب ما يستر الحجة، فيشبّه على الناظر حتى يحقق النظر، ويخلص للحق، فتنكشف له بقدر إخلاصه واجتهاده. ورمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكف من الحصباء لا يستر تلك الحجة، إذ لا يتوهم عاقل أن رمي الإنسان بملء كفٍّ يكفي عادة لأن يبلغ إلى كل فرد من أفراد جيش العدو مع تباعد بعضهم، ثم يملأ عيونهم. ولا يتوهم عاقل أن ملء كفين من الرماد يذرّه رجل نحو السماء يكفي عادة لأن يصير غبارًا على أرض مصر كلها. ولا يتوهم عاقل أن مدّ الإنسان يده سبب [ص 54] عادي لمجيء الجراد. فالمناسب في هذه الشواهد إنما هو الأمر الثالث، وهو أن يعلم أن ذلك الخارق معجزة لذلك النبي، وقد يناسب الأمر الثاني وهو بذل الوسع في التسبب.
فإن قلت: فإن المعجزات من حجج الحق، فكيف جاءت مكشوفة.
قلت: أما المعجزات التي في هذه الشواهد فلا أراها مكشوفة، ولكن الحجاب فيها غير ما ظنه المعلِّم من الرمي باليد، والإشارة بها. وإنما الحجاب في قصة بدر هو توهم الاتفاق، فيقول الملحد: رمى محمد بملء يده من التراب والحصى، فصادف أن هبت ريح شديدة سفت التراب. وأما في قضيتي موسى، فهو ما كانوا يتوهمونه من السحر.
ولكن ليس الخوارق كلها كذلك، بل منها ما يكون مكشوفًا لحكمة تقتضي ذلك، من ذلك ما يطلع الله تعالى النبي عليه وحده كإحياء الطير لإبراهيم عليه السلام، والإسراء والمعراج بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلم يكن المقصود بذلك إقامة حجة حتى تقتضي الحكمة حجابًا،

(8/67)


وإنما المقصود تطييب نفس إبراهيم عليه السلام، وتطييب نفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتكريمه. وذلك لا يدعو إلى الحجاب، بل ينافيه.
وقد يحصل شيء من ذلك لغير الأنبياء تبعًا، كما شاهده الصحابة من البركة في الماء، والطعام؛ وما سمعوه من تسبيح الطعام، وحنين الجذع، وغير ذلك.
وقد يكون منه ما في قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60].
ومن ذلك الآيات القاضية التي تقترحها الأمم المعاندة على أن يعاجلها العذاب [ص 55] إن لم تؤمن، فإنه لا يترك لهم مهلة للنظر، حتى تقتضي الحكمة حجابًا، ولو جعل حجاب لما حصل مقترحهم، فمن ذلك ما يروى أن قريشًا اقترحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فأوحى الله إليه: إن شئت أصبح الصفا ذهبًا، فإن لم يؤمنوا عذّبتُهم. فقال: لا، بل أنتظر بهم، أو كما قال (1).
ومما يشبهه اقتراح الحواريين على عيسى نزول مائدة من السماء فقال الله تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115].
_________
(1) راجع مسند أحمد (1/ 242 , 258) [2166، 2333]، والمستدرك (2/ 362) [3225، 3379]. [المؤلف].

(8/68)


ومن ذلك الآيات التي يقع بها العذاب، فإنها ليست لإقامة حجة، فيناسبها الحجاب.
وقد تجتمع عدة أسباب كما في فلق البحر لموسى عليه السلام، قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء: 61 ــ 66].
فكان في فلق البحر تطييب لنفس موسى وهارون ومن معهما من المؤمنين، ونجاة لهم، وإقامة حجة على من كان في قوم موسى من المرتابين، وإقامة للحجة القاضية على فرعون وقومه وتهيئة عذاب لهم.
[ص 56] ولعل وراء ما ذكرت أسبابًا أخرى تقتضي أن لا يكون دون المعجزة حجاب. والله أعلم.
ولننظر الآن في قصة الفيل:
الرمي في واقعة الفيل لم يكن المقصود منه إقامة حجة، لا على أهل مكة، ولا على الحبشة. أما أهل مكة فإنهم لم يُقصدوا بها، وكانوا مصدّقين بقدرة الله عزَّ وجلَّ، وحرمة البيت. وأما الحبشة فكانوا يعلمون قدرة الله تعالى، ويرى المعلِّم أنهم كانوا يعرفون حرمة البيت.
ثم قد أقام الله تبارك وتعالى عليهم الحجة بحبسه الفيل، كما تقدم في رواية ابن عباس وغيره. قال ابن إسحاق: “فبرك الفيل، فضربوا رأسه

(8/69)


بالطَّبَرْزِين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقِّه، فبزغوه بها ليقوم فأبى. فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول. ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك. ووجهوه إلى المشرق، ففعل مثل ذلك. ووجهوه إلى مكة، فبرك. فأرسل الله عليهم الطير … ” (1).
وقد ذكر ذلك في أشعارهم، وذكرها المعلم (2). منها قول أبي قيس:
ومن صنعه يوم فيل الحبو … ش إذ كلَّما بعثوه رَزَمْ
محاجنُهم تحت أقرابه … وقد شرَّموا أنفَه فانخرَمْ
وقد جعلوا سوطَه مِغولًا … إذا يمّموه قفاه كَلَمْ
فولى وأدبر أدراجه … وقد باء بالظلم مَن كان ثَمْ
فأرسل من فوقهم حاصبًا … فلفَّهم مثلَ لفِّ القَزَمْ
تحضُّ على الصبر أحبارُهم … وقد ثأجوا كثُؤاج الغنمْ
[ص 57] وقول أبي الصلت أو ابنه أمية:
إنَّ آياتِ ربِّنا ثاقباتٌ … لا يماري فيهنَّ إلا الكفورُ
حَبَسَ الفيلَ بالمغمَّس حتى … ظلَّ يحبو كأنه معقورُ
لازمًا حلقةَ الجِرانِ كما قُطْـ … طِرَ من صخرِ كبكبٍ محدورُ (3)
_________
(1) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف (1/). [المؤلف]. ط السقا (1/ 52 – 53).
(2) زدت البيت الرابع والخامس من القطعة الأولى من السيرة، واتبعت رواية السيرة، وانظر الأشعار وشرح غريبها في الروض الأنف (1/). [المؤلف].
(3) في كتاب الحيوان 7/ 198: “قطِّر صخرٌ من كبكبٍ محدورُ”.

(8/70)


وقول المغيرة بن عبد الله المخزومي:
أنت حبستَ الفيل بالمغمَّسْ … حبستَه كأنه مكردَسْ
محتَبسٌ تزهق فيه الأنفسْ (1)
وأنشد المعلِّم لطفيل:
ترعى مذانبَ وسميٍّ أطاع له … بالجِزع حيث عصى أصحابَه الفيلُ (2)
وفي “الصحيح” في قصة الحديبية: “وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خَلَأت القَصْواء. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما خلأت القَصْواء، وما ذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألونني خُطَّةً يعظِّمون فيها حرماتِ الله إلا أعطيتُهم إياها. ثم زجرها فوثبت …. ” (3).
وفي “الصحيح” من حديث أبي هريرة: “أنه عام فتح مكة قتلت خزاعة رجلًا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليهم رسوله
_________
(1) رواية الأزرقي (156): “بمحبس”.
(2) في الأصل: “مذالف وسمي”، وكذا في تفسير سورة الفيل عن كتاب الحيوان طبعة الحميدية. وهو تحريف صوابه ما أثبتناه من ط هارون 7/ 197 والأزرقي (155). وفي الديوان (56): “منابت”.
(3) صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد … إلخ. [المؤلف]. (2731، 2732).

(8/71)


والمؤمنين … ” (1).
وقد تقدم في فصل (ج) ما روي عن وهب: “كانت الفيلة معهم فشجُع منها فيل فحُصِبَ”. وهذا يقتضي أن الفيلة كلها امتنعت عن التقدم إلى مكة إلا واحدًا منها فحصب، وقد تقدم هناك أنها كانت ثلاثة عشر فيلًا. [ص 58] فحبس الفيل على الصفة المذكورة آيةٌ، أقام الله تعالى بها الحجة على أبرهة، تؤكد له حرمة البيت ومكانه من ربه عزَّ وجلَّ. فلو اعتبر بها ورجع بجيشه عن قصد البيت لما أصابهم العذاب، ولكن لما أصرّوا رمتهم الطير، كما بينته القصة والأشعار، من أن الرمي كان بعد حبس الفيل بمهلة. والسورة تدل على ذلك، كما يأتي في تفسيرها إن شاء الله تعالى.
فاتضح بما تقدم أن الرمي لم يكن لإقامة حجة، وإنما كان آية عذاب، ومثل ذلك لا يستدعي الحجاب، كما تقدم.
فإن قيل: فإن فيه إقامة حجة على من تبلغه القصة، وهو لا يصدق بقدرة الله تعالى، أو بحرمة البيت.
قلت: الحجاب في حق هؤلاء أنهم لم يشاهدوا الواقعة، فيمكنهم التكذيب، وإنكار التواتر، وأن يتأولوا، كما فعل الناس بفلق البحر وغيرها. وقد فعلوا ذلك بهذه الآية نفسها، كما ترى، ويأتي له مزيد.
ولم يكن المقصود مما فعل الله تعالى بأصحاب الفيل إغاثة أهل مكة حتى تستدعي الخارقة تسببًا منهم، وإنما المقصود من ذلك حفظ البيت عن
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب الديات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين [6880]. صحيح مسلم، كتاب الحج، باب تحريم مكة [1355]. [المؤلف].

(8/72)


أن يهان، وعقوبة الحبشة، والإرهاص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإنه بُعث بتعظيم حرمات البيت والحرم، وتطهيره عما دنسه به المشركون من رجس الأوثان. وكان الله تعالى يرشّح عرب الحجاز للقيام بأعباء الإسلام، فاقتضت حكمته أن يبقَوا قَراحًا لم تطأهم ذِلّة، ولم تجأهم مَلَكة؛ لأن ذلك شرط عادي لقيامهم بالإسلام. ولهذا لما كان بنو إسرائيل على غير هذه الصفة لم يصلحوا لحمل الدين حتى حبسوا أربعين سنة في التِّيه، فنشأ منهم قرن صالح.
ولم يكن أهل مكة حين واقعة الفيل دون الحبشة في الكفر، فإن الحبشة نصارى أهل كتاب، وأهل مكة أهل شرك وأوثان.
ولم يكن ذلك الخارق معجزة ولا كرامة لأهل مكة، أو لواحد من أحيائهم حتى يحتاج إلى مباشرة منهم، كما في رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، ورمي موسى بالرماد، ومدّ يده للجراد.
فرمي الحبشة خارق لا يستدعي رميًا من أهل مكة ألبتة، فاندفع ما حاوله المعلِّم رحمه الله.
ثم أسوق عبارته في تطبيق واقعة الفيل على الشواهد الثلاثة التي ذكرها، وقد تقدمت.
[ص 59] طبقها على الشاهد الأول، وهو رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم بدر بقوله: “وكذلك في هذه السورة كانت قريش ترميهم بحجارة، ينفحونهم بها عن الكعبة، فجعلها الله حجابًا لما أرسل على أصحاب الفيل من الحجارة من السماء، وكما نسب الله تعالى الرمي في بدر

(8/73)


إلى نفسه في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، فهكذا ههنا نسب إلى نفسه أنه جعلهم كعصف مأكول. فلا شك أنها كانت من الآيات البينات، فإن منافحة قريش كانت أضعف من أن يفُلَّ هذا الجيش، فكيف يحطِّمهم حتى صاروا كعصفٍ مأكول؟ “.
قال عبد الرحمن: قد علمت أن فعل الله تعالى بأصحاب الفيل لا يحتاج إلى حجاب. وأزيدك ههنا أنه كان هناك مانع من الحجاب والتسبب والمباشرة، بل مانعان:
الأول: أنه لو قدر الله تعالى أن يكون منهم رمي، لكان ظاهر الأمر أنّ الله عزَّ وجلَّ نصرهم، وأعانهم، وأمدّهم بآية من آياته، وفي ذلك ما يُشعرهم بأنهم على حقٍّ يرضاه الله عزَّ وجلَّ ويحبّه. وإذًا لقالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ــ حين دعاهم إلى التوحيد، ونبذ الأوثان، وبيَّن لهم ما هم عليه وآباؤهم من الضلال والبهتان ــ: إن الله تبارك وتعالى أيَّدنا ونصرنا وأعاننا إذ رمينا أصحاب الفيل شيئًا من الرمي، فكثَّره الله تعالى حتى هزم ذلك الجيش العظيم، وحطّمه وكنا حينئذٍ على ما نحن عليه الآن من عبادة الأوثان وغيرها، فلولا أنَّ ذلك مرضي عند الله سبحانه لما صنع بنا ذلك. فلما لم يقدر الله عزَّ وجلَّ رميًا منهم، بل قدر ــ على ما جاء في الروايات ــ تأمين أبرهة لهم، ونكولهم عن القتال [ص 60] علموا أن الله عزَّ وجلَّ إنما فعل بأصحاب الفيل ما فعل حمايةً لبيته. وليس في ذلك ما يدل على رضا الله تعالى بشركهم، فلم يمكنهم أن يحتجوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
المانع الثاني: أن معيشة أهل مكة قائمة على تجارتهم إلى اليمن والحبشة والشام، كما هو مبين في تفسير سورة قريش، فلو وقع منهم رمي

(8/74)


وقتال لأبرهة لانقطعت تجارتهم من تلك الجهات، كما تقدم في فصل (ج). ولم يشأ الله عزَّ وجلَّ قطع متاجرهم؛ لأنه قد أجاب فيهم دعوة خليله إبراهيم عليه السلام، وهو يُعِدُّهم لبعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، ويريد أن يمتنَّ عليهم بذلك، كما جاء في سورة قريش. لهذه العلاقة ــ والله أعلم ــ أعقب الله تعالى هذه السورة بسورة قريش.
وأما قول المعلم: “وكما نسب الله تعالى الرمي إلى نفسه … “، فهذه محاولة فاشلة. يخاطب الله تعالى رسوله بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، فيصرح له بأن الأثر لم يكن لرميه، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون معه يعلمون أنه لا حول لهم ولا قوة إلا بالله، فكيف يعقل مع هذا أن يكون أهل مكة رموا الحبشة، فأمدّهم الله تعالى برمي من عنده، ثم يذكرهم بذلك بعد تكذيبهم لرسوله وكتابه، وفعلهم العظائم؛ فيذكر رميهم مثبتًا غير منفي، ويطوي ذكر رميه، فلا يصرح به؟ وهل هذا إلا عكس الحكمة؟
فإن الأمر الواضح الذي لا يخفى أن يقال: إذا اقتضت الحكمة التصريح بنفي رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإثبات رمي الله تعالى لإثبات أنه المؤثر في خطاب النبي صلى الله عليه وآله سلم، مع أنه ــ والمؤمنون معه ــ لا يرتاب في ذلك، فبالأولى والأحرى [ص 61] أنه إذا كان من أهل مكة رمي لأصحاب الفيل أن يصرح الله تعالى لهم بنفي رميهم، وإثبات رميه؛ فإنهم مشركون.
فإن قيل: فقد أشار إلى فعله بقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}، كما ذكره المعلم.

(8/75)


قلت: فإنّ في كلامه ما يردّ هذا، وأنه يرى أن جعلهم كعصف مأكول إنما هو نتيجة لأكل الطير. قال في الشاهد الثالث: “فكذلك أكلت هذه الطيور جثث تلك الملحدين فكانوا كعصف أكلته جراد موسى”.
فإن سلمنا أن هناك إشارةً ما، فهي إشارةٌ ضعيفةٌ؛ لاحتمال أن يكون المعنى: جعلهم كذلك برميكم إياهم، فإن المشركين كانوا مما يقولون نحو ذلك. تقاتل القبيلة عدوها فتغلبها، وتكثر فيها القتل، وتهزمها، ثم تقول الغالبة: قد قتل الله عدونا، وهزمهم، وأهلكهم. فمن ذلك قول بعض تيم الرباب لعبد يغوث، وقد قاتلوا قومه، فأثخنوا فيهم، وأسروه: جمعتَ أهل اليمن، وجئتَ لتصطلمنا، فكيف رأيتَ الله صنع بك؟ (1).
ومع ذلك فقد تقدم أن التصريح بالنفي في رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يبطل أن يكتفى في رمي المشركين ــ إن كان ــ بالإشارة.
وذكر المعلِّم في الشاهد الثاني أثر الرماد الذي ذرَّه موسى عليه السلام، وفيه: “فيصير على الناس وعلى البهائم دمامل طالعة ببثور”. ثم طبق عليها قصة الفيل: “فهكذا كان الأثر من الحجارة على أصحاب الفيل، فروي عن عكرمة أنه من أصابته أصابه جدري. وهكذا قول ابن عباس وسعيد بن [ص 62] جبير ولكن دمامل المصريين لم تكن مهلكة … “.
قال عبد الرحمن: قد تقدم قول عكرمة، ومن وافقه في شأن الجدري، وقول ابن عباس في الحكّة، ولم أجد ذلك عن سعيد بن جبير. ثم لا يلزم من تشابه الآيتين من وجه أو وجهين تشابههما من جميع الوجوه. فكما اختلفت الآيتان في أن الذي نثره موسى رماد، والذي جعله الله تعالى على
_________
(1) الأغاني (15/ 72). [المؤلف]. ط الثقافة 16/ 259.

(8/76)


أهل مصر غبار؛ وأثره فيهم دماميل غير مهلكة، والذي رمى به قريش ــ على دعوى المعلِّم ــ حجارة، والذي سلطه الله على أصحاب الفيل حجارة، وأثرها فيهم جدري مهلك = فما المانع من اختلافها في أنه كان من موسى ذرو للرماد، ولم يكن من أهل مكة فعل ما، وكان جعل الغبار بغير واسطة، ورمي أصحاب الفيل بواسطة الطير؟
وقد علمت أن حال موسى تناسب أن يكون منه فعل، ليعلم أن ما يكون عقب ذلك معجزة له، وللتسبب؛ وأن حال أهل مكة على خلاف ذلك.
وذكر في الشاهد الثالث ما وقع في آية موسى من مدّ يده بعصاه، وخروج الجراد، وأكله ما تركه البرد من العشب والثمر، ثم دعاء موسى في دفع الجراد: “فردَّ الربُّ ريحًا غربيّة شديدة جدًّا، فحملت الجراد وطرحته إلى البحر الأحمر”.
ثم طبق المعلِّم آية الفيل عليها بقوله: “فهكذا جاءت الطير من جهة البحر، ولم ير مثلها … وكما أكلت الجراد مما حطّمه البرد، فكذلك أكلت هذه الطيور جثث تلك الملحدين، فكانوا كعصف أكلته جراد موسى”.
قال عبد الرحمن: ليس من الواجب في آيات الله عزَّ وجلَّ أن تتشابه صورها، بل قد تتضاد، كأن تكون آية فيها إحياء ميت، وأخرى فيها إماتة حي. وقد تتشابه من وجهٍ، وتختلف من غيره، كما تقدم [ص 63] في آية الرماد مع آية الفيل. فكذلك هنا لا يلزم من مدّ موسى عليه السلام يده بعصاه في تلك أن يكون هنا فعل من أهل مكة. وقد علم مما تقدم أن الحكمة مختلفة، فهناك اقتضت الحكمة أن يكون من موسى عليه السلام فعل، وهنا اقتضت أن لا يكون من أهل مكة فعل، على ما سلف.

(8/77)


وكذلك لا يلزم من أكل الجراد ما أبقاه البرد من عشب مصر وغيرها أن تأكل الطير جثث من أهلكه الله تعالى من أصحاب الفيل بالحجارة، ولا أن يكون ما شبّه به ما صار إليه حال أصحاب الفيل من عصف مأكول أريد به ما أكلته جراد موسى.
وبالجملة، فإن كان في كلام المعلِّم رحمه الله في هذا الفصل استدلال، ففيما يتعلق بالحجاب، وما معه، وقد علمت الجواب. وأما ما بقي فإنما هي صناعة شعرية قد علمت حالها.
ويلحق بذلك ما ذكره المعلِّم رحمه الله تعالى مما وقع في مكاشفات يحيى، مما يراه المعلِّم رحمه الله ــ بحقٍّ ــ بشارةً بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه: “ثم رأيت السماء مفتوحة، وإذا فرس أشهب، والجالسُ عليه يُدعى أمينًا وصادقًا، وبالعدل يحكم ويحارب، وعيناه كلهب نار، وعلى رأسه تيجان كثيرة، وله اسم مكتوب ليس يعرفه إلا هو، وهو متسربل بثوب مغموس بدم … وجنود السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض، لابسين بزًّا أبيض نقيًّا. ومن فمه يخرج سيفٌ ماضٍ، لكي يضرب به الأمم، وهو سيرعاهم بعصا من حديد … ورأيت ملاكًا واحدًا واقفًا في الشمس، فصرخ بصوت عظيم قائلًا لجميع الطيور الطائرة في وسط السماء: هلمَّ اجتمعي إلى عشاء الله العظيم، لكي تأكلي لحوم ملوك، ولحوم قواد، ولحوم أقوياء، ولحوم خيل، [ص 64] والجالسين عليها، ولحوم الكلّ، حرًّا وعبدًا، وصغيرًا وكبيرًا” (1).
قال عبد الرحمن: الأنسب بسياق الكلام أن يكون ذلك العشاء مما
_________
(1) تفسير سورةالفيل (28 – 29).

(8/78)


يقتله المبشَّر به في سبيل الله، وقد كان كذلك. فكم قتل المسلمون في محاربتهم فارس والروم والترك وغيرهم من ملوك وقواد، وخيل وفرسان، أكلتهم طيور السماء! وذلك أنسب بالعشاء العظيم، فإنهم أضعاف أضعاف من هلك من أصحاب الفيل، وأنسب بجميع طيور السماء، فإن الطير الأبابيل كانت من نوع خاص لم يعرفه العرب.
على أننا قد بينا أنه لا مانع أن يكون الله عزَّ وجلَّ أطعم الطير الأبابيل من لحوم صيدها، ولم يصرح بذلك في القرآن والروايات؛ لأنه في نفسه أمر عادي. فإن ثبت ذلك لم يكن فيه ما ينفي ما دل عليه الكتاب والرواية، واتفق عليه الناس من رمي الطير.
الأمر الثالث (1) من البواعث على إنكار رمي الطير: أن بعض فلاسفة الإفرنج وكُتَّابهم وأذنابهم من الملحدين ينكرون الخوارق، ويسخرون منها، ويعدّون ذكرها في القرآن برهانًا على اشتماله على الكذب. وعلماءُ المسلمين شديدو الغيرة على القرآن، والحرص على تبرئته عن المطاعن، فقد يحمل بعضَهم ذلك على أن يتأول بعض النصوص القرآنية، ويحمله على معنى لا ينكره القوم.
ومتى لم يفحش التأويل فالخطأ فيه ــ إن شاء الله تعالى ــ مغفور، والباعث عليه أمرٌ محمودٌ؛ إلا أن الحقَّ أحقُّ أن يتبع، وأعزُّ من أن يُضطرَّ المنتصر له إلى ترك بعضه. فالواجب على أهل العلم أن يبحثوا عن مستند القوم في إنكار الخوارق، فيهدموه بالحجة والبرهان. [ص 65] فأما ترضّيهم بتأويل بعض النصوص، فخطلٌ من الرأي.
_________
(1) الأمر الثاني تقدّم في (ص 60).

(8/79)


{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]. {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].
لست أقول: إن المعلِّم رحمه الله تعالى ممن يمكن أن يختار تأويلًا يعلم ضعفه، ولكن قد لا يبعد أن تكون شدة غيرته على القرآن، وحرصه على دفع الطعن عنه، ممّا قرّب ذاك التأويل إلى فهمه.
ولذلك نظائر لا تنكر، فإننا نجد في علماء المذاهب الفقهية جماعة من الأكابر لا يُرتاب في علمهم ودينهم وورعهم، ومع ذلك ترى في انتصارهم لمذاهبهم العجب العجاب. فأما المتكلمون في العقائد فشأنهم أوضح.
فإن قلت: أما المعلِّم رحمه الله تعالى ففي كلامه ما يرد هذه التهمة، فإنه وإن أنكر رمي الطير، فقد أثبت ما هو أعظم، وهو الرمي من السماء.
قلت: أنا لم أجزم باتهامه رحمه الله، وإنما مقصودي تحذير أهل العلم من التساهل في هذا المعنى. على أنه قد يقال: يمكن أن يكون رأى إثبات الرمي من السماء أخفَّ من إثبات رمي الطير؛ لأنه إذا أثبت رمي الطير كان منصوصًا بالقرآن، فالمنكرون له يطعنون في القرآن. وأما الرمي من السماء فإنما [ص 66] قاله المعلِّم رحمه الله برأيه، وليس منصوصًا في القرآن؛ علمًا أن منكري الخوارق لا ينكرون أن تمطر السماء رملًا وحجارةً، وهو عندهم أمر عادي، ففي “دائرة المعارف” للبستاني تحت عنوان “الشهب الساقطة أي النيازك” ما لفظه:

(8/80)


“وقد نشرت جريدة إيزان الفلكية جدولًا للرجم … قالت: سقط أحدها في لوديانا … وسقط مجموع كثير من رجم حجرية، بلغ عددها (1300) حجر، ثقل واحد منها (160) ليبرة، وآخر (60) ليبرة، في بادوا سنة (1510 ب. م.). وانهمرت أمطار كبريتية … وأمطار نارية في كوسنوى في 4 ك 1 (ديسمبر) سنة (1717)، وأخرى من الرمل دامت (15) ساعة في الأتلانتيك في 6 نيسان (1719)، وأمطار شديدة من الحجارة في آدن في 24 تموز (يوليو) سنة (1790)، وفي فرنسا في 15 أيار (مايو) سنة (1864” (1).
هذا، وأساس الإلحاد إنما هو الارتياب في الله وملائكته ورسله، ومن شأن الخوارق أن تدفع هذا الارتياب، وهي الدليل العام على نبوة الأنبياء، ولا يعرف السواد الأعظم سواه. فمحاولة تأويلها مع أنه باطل في نفسه فهو من أعظم ما يروِّج الإلحاد، فعلى العالِم أن لا يرتكب هذه المفسدة العظيمة، لمصلحة متوهمة، وهي تخفيف سخرية الملحدين. وقد قلتُ:
ومَن يَرَ نصرَ الحقِّ في هَدْمِ بعضِه … فذاك أضرُّ من خَذُولٍ ومن خَصْمِ
ويُوشِكُ أن يختارَ تحطيمَ أُسِّه … فيا لكَ تشييدًا أضرَّ مِنَ الهَدْم
[ص 67] (ح)
استنبط المعلِّم رحمه الله مما اختاره من رمي العرب لأصحاب الفيل مناسبةً لرمي الجمار، وصاغ ذلك صياغة تصلح أن تكون استدلالًا على ما اختاره، قال: “قد دلّت الأمارات الكثيرة على أن رمي الجمار بمنى كان
_________
(1) دائرة المعارف للبستاني (10/ 607). [المؤلف].

(8/81)


تذكرة لرمي أصحاب الفيل، ولكن الروايات الضعيفة ضربت أسدادًا دونه” (1).
ثم ذكر بعض الروايات، ثم قال: “ولم أجد في صحاح الأخبار ذكرًا في سبب سنة رمي الجمار، فلو ثبت فيه شيء من طريق الخبر لأخذنا به، وقرّت به العينان، ولكنه لم يثبت، وأمرُ الدين ليس بهيّن، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّثَ بكل ما سمع” (2). فعمدنا إلى طريق الاستنباط، فإن المستنبط من الصحيح الثابت أولى بالصواب من الصريح الذي لم يثبت”.
قال عبد الرحمن: أما الأمارات، فستأتي. وأما الروايات فإنه ذكر بعضها، وكأنه لم يقف على الروايات الجيدة. فمنها: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن رمي الجمار فقال: “الله ربكم تكبرون، وملة أبيكم إبراهيم تتبعون، ووجه الشيطان ترمون” (3).
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنوي عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: يزعم قومك … قلت: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سعى بين الصفا والمروة، وأن ذلك سنة؟ قال: صدقوا، إن إبراهيم – صلى الله عليه وسلم – لما أري المناسك، عرض له شيطان عند المسعى [ص 68] فسابقه، فسبقه إبراهيم ثم انطلق به جبريل عليه السلام حتى أتى به منى، فقال: مناخ الناس هذا. ثم انتهى إلى جمرة العقبة، فعرض له
_________
(1) تفسير سورة الفيل (35).
(2) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه (5).
(3) حاشية إيضاح المناسك لابن حجر (177). [المؤلف].

(8/82)


شيطان، فرماه حتى ذهب. (ثم أتى به) (1) إلى الجمرة الوسطى، فعرض له شيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب. ثم أتى الجمرة القصوى، فعرض له شيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب. ثم أتى به جمعًا، فقال: هذا المشعر الحرام، ثم أتى به عرفة فقال: هذه عرفة … ” (2).
قال عبد الرحمن: أبو الطفيل صحابي، وأبو عاصم الغنوي وثَّقه ابن معين، وحماد بن سلمة إمامٌ، والحديث أخرجه ابن خزيمة في “صحيحه”، كما يعلم من “فتح الباري” (3).
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده من طرق عن حماد، زاد بعد ذكر الجمرة الوسطى: “وثم تلَّ إبراهيمُ إسماعيلَ للجبين … ” فذكر القصة، ثم قال: “قال: ثم ذهب به جبريل إلى الجمرة القصوى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب … ” (4).
_________
(1) الزيادة مني، والظاهر أنها سقطت، أو نحوها من الأصل. [المؤلف]. في المطبوع: “فرماه بسبع حصيات حتى ذهب به إلى الجمرة … “.
(2) مسند الطيالسي (ص 351). [المؤلف]. (2697).
(3) كتاب الحج، باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة. [المؤلف]. (3/ 503). قال الحافظ ابن حجر: “وروى ابن خزيمة والفاكهي من طريق أبي الطفيل قال: سألت ابن عباس عن السعي، فقال: لما بعث الله جبريل إلى إبراهيم ليريه المناسك عرض له الشيطان بين الصفا والمروة، فأمر الله أن يجيز الوادي” قلت: لم أجد ذكر المناسك وعرض الشيطان لإبراهيم في الحديث الذي رواه ابن خزيمة من طريق أبي الطفيل (2779). نعم ذكر هذا في حديث آخر من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (2967) وسينقله المصنف من المستدرك.
(4) مسند أحمد (1/ 297 و 298). [المؤلف]. (2707).

(8/83)


قال عبد الرحمن: يظهر لي أن قوله في هذه الرواية: “ثم تَلَّ إبراهيمُ … ” إلى آخر ما يتعلق بالذبح جملة معترضة، كأنه قال: “وهناك كان في وقت آخر كيت وكيت”. فتعليم المناسك كان في وقت غير وقت الابتلاء بالذبح، إما قبله بمدّة وإما بعده بمدة. والذي يدلّ على ذلك بقية الروايات مع ما ثبت في “الصحيح” أن إبراهيم عليه السلام عقب إتيانه بإسماعيل وأمه ــ وإسماعيلُ طفلٌ ــ دعا بقوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ … } [إبراهيم: 37].
[ص 69] وفي القصة تردد أمّ إسماعيل بين الصفا والمروة، وأن ذلك مبدأ السعي، وفيها أن إسماعيل كبر وتزوج، وأن إبراهيم جاءه ولم يجده ثم فارق إسماعيل زوجته، ونكح أخرى، فجاء إبراهيم فلم يجده، ثم بعد مدة جاء إبراهيم وبنى البيت (1).
ففي هذه القصة أن البيت كان محرمًا، مشروعًا احترامه من قبل مجيء إبراهيم بإسماعيل، وأن بعض المناسك تجدد بعد ذلك كالسعي، وأن إبراهيم إنما بنى البيت بعد أن صار إسماعيل رجلًا.
فتعليم المناسك يمكن أن يكون عند مجيء إبراهيم بإسماعيل، أو قبل ذلك، ويمكن أن يكون تأخر إلى بناء البيت، والابتلاء بالذبح كان بين ذلك.
وههنا دليل على أن تعليم المناسك إنما كان بعد بناء البيت، وهو قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا
_________
(1) راجع صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}. [المؤلف]. (3364).

(8/84)


وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127 ــ 128]، فقولهما: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} يدل أنهما لم يكونا قد علماها. والله أعلم.
وعلى كل حال، فليس في القصة أن تعرض الشيطان لإبراهيم كان ليصده عن الذبح، وإنما المفهوم منها أنه تعرض له ليصده عن معرفة المناسك، والإتيان بها. وهذا كما تعرض لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يصلي، ليقطع عليه صلاته (1).
فأما ما جاء في بعض روايات الابتلاء بالذبح أن الشيطان تعرض لإبراهيم، فلم أجده من وجهٍ يثبت. فإن صحّ فهي قصة أخرى غير هذه. والله أعلم.
وقد روي الحديث من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، أخرجه الحاكم في “المستدرك” من طريق أبي حمزة عن عطاء بن السائب عن سعيد، ولفظه: “جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، [ص 70] فذهب به ليريه المناسك، فانفرج له ثبير، فدخل منى، فأراه الجمار، ثم أراه عرفات، فنبغ الشيطان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الجمرة، فرمى بسبع حصيات حتى ساخ. ثم نبغ له في الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ. ثم نبغ له في جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ، فذهب”.
قال الحاكم: “صحيح الإسناد”. وقال الذهبي: “صحيح” (2).
_________
(1) راجع صحيح البخاري، أواخر كتاب الصلاة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة 1210 وصحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة. [المؤلف]. (541).
(2) المستدرك (1/ 477). [المؤلف]. (1754).

(8/85)


وأخرجه الإمام أحمد من طريق حماد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال “إن جبريل ذهب بإبراهيم إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات فساخ. ثم أتى الجمرة الوسطى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات، فساخ. ثم أتى الجمرة القصوى، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات، فساخ. فلما أراد إبراهيم أن يذبح ابنه إسحاق … ” (1).
قال عبد الرحمن: عطاء بن السائب اختلط بأخرة، وهذا من ذاك. فإنه جعل في الرواية الأولى الواقعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعروف أنها لإبراهيم عليه السلام. وذكر في الثانية أن الذبيح إسحاق، والصحيح أنه إسماعيل. وعكس فيهما ترتيب الجمرات، فبدأ بالقصوى، وبقية الروايات تبدأ بجمرة العقبة. فإنما يحتج من روايته بما يوافق بقية الروايات. والله أعلم.
[ص 71] وأخرج الحاكم في “المستدرك” الحديث من طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس رفعه قال: “لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض. ثم عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض. ثم عرض له عند الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض. قال ابن عباس: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم تتبعون”.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
_________
(1) مسند أحمد (1/ 306). [المؤلف]. (2794).

(8/86)


واقتصر الذهبي على علامة مسلم (1). والحديث أخرجه ابن خزيمة في “صحيحه”، وغيره (2).
قال عبد الرحمن: الحديث مصحح كما ترى، وله طرق وشواهد، وهو المشهور بين أهل العلم والعامة إلى زماننا هذا، والنظر لا يأباه على ما يأتي، فلا ينبغي الإعراض عن هذا كله إلى استنباط مدخول. والله أعلم.
أما الأمارات التي أشار إليها المعلِّم رحمه الله، فذكر أربعًا:
الأولى: أنه لم يجد في أشعار الجاهلية ذكرًا لرمي الجمار، قال: “فالأقرب أنه أمر جديد، ولم يكن إلا بعد واقعة الفيل. وأبقاه الإسلام لما فيه تذكار نعمة عظيمة، وآية بينة … ” (3).
[ص 72] الثانية: أن أصحاب الفيل رُمُوا بموضع رمي الجمرات، واحتجَّ بقول نفيل ــ وهو ممن شهد الوقعة ــ:
رُدَينةُ لو رأيتِ ولَنْ تَرَيه … لدى جَنْبِ المحصَّبِ ما رأينا
قال: “وفي “لسان العرب”: قال الأصمعي: المحصب حيث يرمى الجمار، وأنشد: (أقام ثلاثًا بالمحصَّب من منى) … ونجد هكذا في قول عمر بن أبي ربيعة: (نظرتُ إليها بالمحصَّب من منى) … ” (4).
_________
(1) المستدرك (1/ 466). [المؤلف]. (1713).
(2) راجع منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد (2/ 399). [المؤلف]. وانظر: صحيح ابن خزيمة (2967)، والمعجم الكبير (12291 – 12293).
(3) تفسير سورة الفيل (36).
(4) تفسير سورة الفيل (36).

(8/87)


الثالثة: مناسبة اسم الجمرة. قال: ” …. الجمرة: اسم لجماعة مستقلّة لم تنضمَّ إلى أحد من القبائل، لاعتمادها على قوتها وبأسها. فعلى هذا نقول: إن جيش أبرهة كانت أولى بهذا الاسم، فإنها جاءت مخالفة لجميع العرب، ولم تنضمّ إلى أحد من القبائل، والجمرات عند منى لما كانت علامة لهم سُمِّيت بذلك الاسم” (1).
الرابعة: أنه روي أن العرب رجموا قبر أبي رِغال، لأنه كان دليل أصحاب الفيل. قال: “فهذا نظير رجم أصحاب الفيل، وحمل الأمور على النظائر أولى. وإنما تُرِك رَجمُ قبر أبي رِغال لأن الإسلام ترفّع عن رجم القبور … ” (2).
قال عبد الرحمن: كلام المعلِّم رحمه الله تعالى في توجيه هذه الأمارات مبسوط، فمن شاء فليراجعه في رسالته، وإنما لخصت ما لا بدَّ منه، ودونك الجواب:

أما الأمارة الأولى: فهي أمارة ضعيفة، لا تصلح لبناء هذا الأمر العظيم المخالف للحجج الواضحة، على أنَّ في بيت نفيل ــ إن صح بلفظ: “لدى جنب المحصَّب”، وأن المراد بالمحصّب موضع رمي الجمار ــ ما يهدم هذه الأمارة. فإنه قاله في واقعة الفيل، إذ كان شاهدها، [ص 73] فأطلق حينئذٍ على موضع الجمرات اسم المحصب، والمحصَّب في الأصل مأخوذ من التحصيب، إما اسم مكان، أي المكان الذي يحصَّب فيه، وإما اسم مفعول، أي المكان الذي يحصّب. والتحصيب في المكان هو الحصب المتكرر فيه،
_________
(1) تفسير سورة الفيل (39).
(2) تفسير سورة الفيل (40).

(8/88)


والحصب هو الرمي بالحصباء، وتحصيب المكان هو حصبه كثيرًا، أي إلقاء الحصباء فيه، وفرشه بها، كما في أثر عمر أنه أمر بتحصيب المسجد (1).
والأول هو المتعين هنا، لأنه لم ينقل أن الناس نقلوا الحصباء إلى موضع الجمار، وفرشوه بها، ولا يظهر غرض لذلك. فالمحصب اتفاقًا اسم مكان حقيقي، فليكن اسم مكان صناعيًّا، لا اسم مفعول. وعبارة الأصمعي واضحة في ذلك، إذ قال: “المحصَّب حيث يُرمى الجمار” إذ الرمي هو الحصب.
فثبت بهذا أن رمي الجمار كان معروفًا قبل واقعة الفيل، حتى اشتهر اشتقاق اسم المكان منه، وصار علمًا مشهورًا، أو كالعلم، فاستعمله نفيل.
فإن قلت: فقد ذكروا أن الأبطح، وهو خيف بني كنانة يسمى “المحصب” أيضًا، وأنه سمي بذلك لكثرة الحصباء في أرضه.
قلت: لا أعرف لهذا وجهًا، والشيء إذا كثر بالمكان إنما يشتق له اسم على وزن مَفْعَلَة، كما قالوا: مأسدة، ومسبعة، ومبطخة. بل وقالوا: أرض محصبة، أي كثيرة الحصباء. فأما أن يشتق له منه اسم بوزن مُفعَّل، فلا أعرفه. وإطلاقهم على الأبطح “المحصَّب” يحتمل وجوهًا أخرى:
منها: أن يكون هذا الاسم في الأصل للموضع الذي يحصب فيه الجمار، ويدخل ما قارب موقع الجمار، كالأبطح. ثم لما اختصّ [ص 74] الأبطح باسم الأبطح، وخيف بني كنانة، توهم أن المحصب اسم مشترك للموضعين.
_________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 393).

(8/89)


ومنها: أن يكون أطلق على الأبطح “المحصب” تشبيهًا بالموضع الذي تحصب فيه الجمار في معنى غير الحصب، كما أطلق على النساء “القوارير” (1) تشبيهًا بالقوارير في معنى غير القرار.
فإن أبيت إلا اتباع من قال: إن الأبطح سمي محصبًا لكثرة الحصى فيه، فأنت وذلك، لكنه اشتقاق على خلاف القياس، فلا يجوز أن يحمل عليه تسمية موضع حصب الجمار، بل يتعين حمله على اسم المكان من التحصيب؛ لأن ذلك على وفق القياس.
وقد سلك ياقوت هذه الطريقة قال: “المحصب: … موضع بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب .. وحدّه من الحجون ذاهبًا إلى منى … وهذا من الحصباء التي في أرضه. والمحصب أيضًا موضع رمي الجمار بمنى، وهذا من رمي الحصباء” (2).

وأما الأمارة الثانية: ففي بعض الكتب كمعجم البلدان (المغمَّس) إنشاد بيت نفيل بلفظ: “لدى جنب المغمس”. ولعله الصواب، لموافقته ما تقدم في الأشعار من قول نفيل نفسه، وعمرو بن الوحيد، وأبي الصلت أو ابنه، والمغيرة بن عبد الله بن مخزوم. وعلى فرض صحة: “لدى جنب المحصب”، فجنب المحصب: ما يقرب منه، لا هو نفسه. والمشهور بين أهل الحجاز أن عذاب أصحاب الفيل كان بوادي محسِّر، وقال النووي
_________
(1) في حديث أنس رضي الله عنه أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يجوز عن الشعر والرجز … (6149) ومسلم في الفضائل، باب رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – للنساء (2323).
(2) معجم البلدان (7/ 395). [المؤلف].

(8/90)


ــ وقد ذكر وادي محسِّر ــ: “سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حَسَر فيه، أي أعيا، وكلّ عن المسير، وهو وادٍ بين منى والمزدلفة” (1).
قال ابن حجر الهيتمي في “حاشيته”: “قوله: لأن فيل أصحاب الفيل … الخ جزم به المحب الطبري، وشيخه ابن خليل، لكن نظر فيه الفاسي بقول ابن الأثير: إن الفيل لم يدخل الحرم”.
[ص 75] وفي “الحاشية” في بيان حكمة الإسراع في محسِّر: “وقيل ــ ومشى عليه المصنف فيما مر ــ: لأنه محل هلاك أصحاب الفيل … واعترض الثاني بأن نزول العذاب على أصحاب الفيل إنما كان بمحلٍّ محاذٍ لعرفة، يسمى المغمَّس ــ بفتح الميم الثانية، وقد تكسر ــ بل المعروف أن الفيل المذكور لم يدخل الحرم أصلًا، كما مر عن ابن الأثير” (2).
قال عبد الرحمن: أما الفيل فإنه حبس بالمغمس، كما في القصة عند ابن إسحاق في “السيرة”، و”منمق” ابن حبيب، و”تاريخ مكة” للأزرقي. وكذلك جاء في الأشعار كما تقدم في شعر أبي الصلت وابنه، وفي شعر المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، وفي شعر عمرو بن الوحيد بن كلاب، وفي جواب نفيل بن حبيب الخثعمي شاهد القصة، وغير ذلك.
والمغمس الذي حبس فيه الفيل عند حد الحرم في طريق الطائف، فإن الفيل لم يدخل الحرم، وقد بركت ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية دون الحرم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “حبسها حابس الفيل”. فمن الممتنع أن تحبس ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون
_________
(1) إيضاح المناسك (ص 146). [المؤلف].
(2) حاشية إيضاح المناسك (ص 151). [المؤلف].

(8/91)


الحرم، ويمكّن الفيل من دخول الحرم.
وقد تقدم في رواية سعيد بن جبير: “فلما انتهى إلى الحرم برك الفيل، فأبى أن يدخل الحرم”.
وفي القصة في “منمق” ابن حبيب (1): “ثم أقبلوا حتى إذا طعنوا في المغمس ليدخلوا الحرم … “.
قال عبد الرحمن: قد جاء ذكر المغمس في الروايات والأشعار، والظاهر أنه في حدود الحرم من طريق الطائف، لكن نقل السهيلي ــ وتبعه ياقوت ــ عن كتاب السنن لسعيد بن السكن: ” [أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس] ” (2).
كذا وقع عنده. وعليه فالمغمس أقرب إلى مكة من منى. ولا أدري ما صحة هذه الرواية، وعسى ــ إن صح سندها ــ أن يكون فيها خطأ من بعض الرواة في اسم المكان، أو في ذكر مكة، كأن يكون بدل مكة: “منى”، أو يكون أطلق مكة وأراد منى، أو يكون هذا موضعًا آخر غير مغمس الفيل، والله أعلم. فقد تقدم في فصل (هـ) في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول الرواية التي ذكر ابن حجر في “الفتح” أن سندها حسن، وهي عن عكرمة عن
_________
(1) المنمق (76).
(2) هنا في الأصل بياض، وما بين الحاصرتين من معجم البلدان (5/ 162). وقد وردت حاشية للمؤلف في ص (73) نصّها: “وقد جاء في ذكر ذاك الموضع ذكر الصفاح، والمبرك، وقبر أبي رِغال، ونعمان الأراك. وهذه كلها في حدود الحرم من طريق الطائف، فأما ما ذكره السهيلي، وتبعه ياقوت عن “سنن سعيد بن السكن” أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان … إن صح هذا، فهذا موضع آخر حتمًا”.

(8/92)


ابن عباس، وفيها: “أن أصحاب الفيل بلغوا الصفاح”. ومثله في “تفسير ابن جرير” عن قتادة. وظاهر سياقهم أن فيلهم حبس هناك، ورمتهم الطير هناك.
وهذا يوافق قول ابن حجر الهيتمي، فقد ذكر ياقوت أن الصفاح “موضع بين حنين وأنصاب الحرم، على يسرة الداخل إلى مكة من مُشاش” (1). وقال: ” … ويتصل بجبال عرفات جبال الطائف، وفيها مياه كثيرة أوشال وعظائم قني (2)، منها المشاش، وهو الذي يجري بعرفات، ويتصل إلى مكة” (3).
لكن قد يقال: ليست الرواية بصريحة أن القوم لم يجاوزوا الصفاح، فلعلهم جاوزوه إلى بطن محسر، لقول نفيل: “إلى جنب المحصب”.
نعم، تقدم في رواية سعيد بن جبير: “ومعه الفيل، فلما انتهى إلى الحرم برك الفيل، فأبى أن يدخل الحرم”. وفي القصة في “منمق” ابن حبيب: “ثم أقبلوا حتى إذا طعنوا في المغمس ليدخلوا الحرم … ” (4).
_________
(1) معجم البلدان (5/ 367). [المؤلف].
(2) كذا في معجم البلدان في رسم (المشاش)، و”عظائم” تحريف. وفي كتاب عرّام (نوادر المخطوطات 2/ 419) الذي نقل منه ياقوت: “كظائم فُقُر”، والفقُر والقنا واحد، وواحد الفقُر: فقير. كذا في كتاب عرام (2/ 413). والكظائم جمع كِظامة، قال أبو عبيد: سألت الأصمعي عن الكظامة وغيره من أهل العلم فقالوا: هي آبار تُحفر ويباعَد ما بينها، ثم يُخرق ما بين كل بئرين بقناة تؤدي الماء إلى التي تليها حتى يجتمع الماء إلى آخرهن. وإنما ذلك من عوز الماء، ليبقى في كل بئر ما يحتاج إليه أهلها للشرب وسقي الأرض، ثم يخرج فضلها إلى التي تليها، فهذا معروف عند أهل الحجاز. انظر: تهذيب اللغة (10/ 161).
(3) أيضًا (7/ 60). [المؤلف].
(4) المنمق (76).

(8/93)


وقال ياقوت: “لُبنان … تثنية لُبْن، جبلان قرب مكة، يقال لهما: لُبْن الأسفل، ولُبْن الأعلى، وفوق ذاك جبل يقال له: المبرك، به برك الفيل بعُرَنة، وهو قريب من مكة”. (7/ 320).
وقال: “مبرك: …. موضع بتهامة برك فيه الفيل لما قصد به مكة بعرنة، وهو بقرب مكة، عن الأصمعي”. (7/ 379) (1).
وبالجملة فالمشهور أنه بوادي محسر، ووادي محسر بجنب المحصب، وهو منى. وقد رأيت في شعر عمر بن أبي ربيعة ذكر وادي المغمس (2)،
فلعله كان يقال لمحسر، أو لموضع منه: “المغمس”، ثم اشتهر بمحسر. ولعل المغمس هو أعلى الوادي قريبًا من مزدلفة، والصفاح خارج الحرم. فما ادعاه المعلِّم أن أصحاب الفيل رموا عند الجمرات لا أصل له، ولا دليل، بل الدليل على خلافه، كما رأيت. والله أعلم.

وأما الأمارة الثالثة: وهي مناسبة اسم الجمرة، فالذين ذكروا جمرات العرب ذكروا أنها [ص 76] قبائل مخصوصة منهم، كل منها ذات نجدة وشدة ومنعة، لم تحالف غيرها. وجيش أبرهة ليسوا من تلك القبائل، ولا هم قبيلة، ولا كانوا خالصين، بل فيهم من الحبشة وكندة وحمير وخثعم وغيرهم، كما في كتب الأخبار، فلا وجه لتسميته جمرة.
_________
(1) “وقال ياقوت … ” إلى هنا ورد في حاشية الأصل (ص 73)، ولعل موقعه هنا.
(2) ديوانه (ص 32). [المؤلف]. وهو قوله:
ألم تسأل الأطلال والمتربعا … ببطن حليّات دوارس بلقعا
إلى السرح من وادي المغمس بُدِّلت … معالمه رملًا ونكباءَ زعزعا

وانظر: معجم ما استعجم (1249).

(8/94)


فالصواب هو المشهور: أنها سميت جمارًا باسم الحصى، فإن الحصى يقال لها: جمار، وقيل غير ذلك من وجوه الاشتقاق، والمقصود بيان أن ما ذكره المعلِّم لا وجه له.

وأما الأمارة الرابعة: فقد اختلف في أبي رِغال، كما تراه في “معجم البلدان” (1). وقد أخرج الحاكم في “المستدرك” من طريق عاصم بن عمر بن قتادة عن قيس بن سعد بن عبادة … فذكر الحديث، وفيه: “فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم … ولا تكن كأبي رغال. فقال سعد: وما أبو رغال؟ قال: مصدق بعثه صالح … ” فذكر القصة، وفيها قتل أبي رغال.
قال: “فأتى صاحب الغنم صالحًا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره، فقال صالح: اللهم العن أبا رغال … “.
قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. فتعقبه الذهبي قال: عاصم لم يدرك قيسًا (2).
قال عبد الرحمن: هذا التعقب مبني على قول خليفة بن خياط وغيره: إن قيسًا توفي آخر خلافة معاوية. وليس بمتفق عليه، فقد قال ابن حبان: إنه بقي إلى خلافة عبد الملك، وعلى هذا فسماع عاصم منه ممكن، لكن صحح الحافظ في “الإصابة” القول الأول (3). والله أعلم.
[ص 77] وعلى كل حال فهذا الحديث أحسن ما في الباب. وأكثر
_________
(1) (4/ 263 – 264). [المؤلف].
(2) المستدرك (1/ 398). [المؤلف]. (1450).
(3) راجع الإصابة رقم (7177). [المؤلف].

(8/95)


الحكايات في شأن أبي رِغال تدلُّ أنه قديم، وأشعارهم تدلّ على ذلك، وبعضها في “المعجم”.
وعلى هذا، فلم يُرجَم قبرُه لأنه حُصِبَ في حياته، وإنما رُجِمَ إشارةً إلى لعنه، فإن اللعن ــ كما قال الراغب ــ هو: “الطرد والإبعاد على سبيل السخط” (1). ويكنى عن اللعن بالرجم، كأنه مأخوذ من طرد الكلب، فإنه يكون في الغالب برجمه.
قال الراغب: “والشيطان الرجيم: المطرود عن الخيرات، وعن منازل الملأ الأعلى” (2). فرجم القبر إشارة إلى لعن صاحبه. إذ كأنه رجم له، ولهذا حسن قول جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه … كما ترمون قبر أبي رغال (3)
لم يرد بقوله: “فارجموه” ارجموا جسده، كما لا يخفى، وإنما أصل المعنى: فارجموا قبره، لكن حسن المجاز هنا، لما كان رجم القبر إنما هو إشارة إلى لعن صاحبه.
فتطبيق الجمار على هذا أن يقال: إنه هلك في مواضعها، أو رئي عندها من يستحق اللعن والسخط. والأول قد رده المعلِّم رحمه الله بحق، إذ قال: “إن الإسلام ترفع عن رجم القبور”، فتعين الثاني. ولا يمكن أن يكون من
_________
(1) مفردات الراغب (ل ع ن). [المؤلف].
(2) أيضًا (رج م). [المؤلف].
(3) سيرة ابن هشام. [المؤلف]. لم يرد في سيرة ابن هشام، وهو في معجم البلدان ط بيروت (3/ 53). وانظر ديوانه: (547).

(8/96)


أصحاب الفيل، وإلا لزم أن ترجم طريقهم كلها من اليمن إلى حيث بلغوا. فتعين أنه الشيطان كما جاءت به الروايات، واشتهر بين أهل العلم وغيرهم. وهو أحقّ بالرجم، لأن الله تبارك وتعالى سماه رجيمًا.
وذكر المعلِّم رحمه الله تعالى أربعة أوجه أخرى، يبين بها أن مناسبة رمي الجمار لرمي أصحاب الفيل أظهر من مناسبتها لرمي الشيطان (1).
الأول: قال: “من الثابت المتفق عليه أن النحر تذكار لسنة قربان إبراهيم بابنه، فلو كان أصل الرمي ــ كما زعموا ــ رمي الشيطان لكان النحر في اليوم الثالث أو الرابع … فلماذا يرجم الشيطان في اليوم الثاني والثالث، وقد طرده [ص 78] إبراهيم عليه السلام قبل ذلك، وقرب ابنه، واستراح من مكره؟
وأما أصحاب الفيل، فلما رموا أول يوم وأصيبوا وحبسوا عن التقدم، رجع الحجاج إلى رحالهم ومواقفهم بمنى، وشكروا الله ونحروا وكبروا. ثم لما لم ييأس أبرهة كل اليأس، وتشجع وأراد الخروج إلى مكة في اليوم الثاني، رمى الحجاج جيشه مرة أخرى، وهكذا في اليوم الثالث”.
الثاني: قال: “في اليوم الأول من أيام الرمي لا ترمى إلا الجمرة التي تلي العقبة، وهي أقرب الجمرات إلى مكة، ولا يتعرض في هذا اليوم للجمرتين الدنيا والوسطى. وهذا أحسن مطابقة بحال تقدم أصحاب الفيل إلى مكة في اليوم الأول، فإنهم لما أصيبوا في ذلك اليوم دخلهم الفشل، وتشجعت العرب، فمنعوهم وراء المقام الأول”.
الثالث: قال: “الجمرة التي ترمى في اليوم الأول هي أكبرهن. وهذا
_________
(1) تفسير سورة الفيل (37 – 38).

(8/97)


أحسن مطابقة بحال الجيش، فإنهم لما أصيبوا وضعفوا قل عدد المتقدمين منهم، وأما الشيطان فهو الذي تراءى لإبراهيم في اليوم الأول، فبعيد أن يكون علامته متفاوتة في الحجم”.
الرابع: قال: “بعد الرمي في اليوم الأول والثاني استقبال إلى الكعبة، ووقوف ودعاء طويل، ولا وقوف بعد الرمي في اليوم الثالث، فلو كان الرمي على الشيطان لم يكن هذا الاهتمام بالدعاء في اليومين، وتركه في الثالث. فإنَّ إبراهيم عليه السلام قد كان صمم العزم … وأما … جيش أبرهة فإنه كان جيشًا عظيمًا … فالتضرع إلى الله تعالى، وطلب النصر منه على [ص 79] هذا الجيش أقرب إلى المعقول … “.
قال عبد الرحمن: ينبغي أن تستحضر أن الجمار ثلاث: الدنيا إلى مكة ــ ويقال لها: جمرة العقبة، والجمرة الكبرى ــ ثم الوسطى، ثم القصوى، وهي أقربهن إلى جهة المزدلفة.
والمشروع ــ كما في كتب السنة وكتب الفقه وكتب المناسك ــ أن يقدم الحاج من مزدلفة يوم النحر فيرمي الجمرة الدنيا إلى مكة بعد طلوع الشمس، ولا يقف عندها للدعاء، ثم يرجع إلى داخل منى فينحر، ويحلق. فيحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ثم يذهب فيطوف بالبيت فيحل له النساء أيضًا، ثم يرجع فيبيت بمنى. فإذا أصبح أول أيام منى وزالت الشمس ذهب فرمى الجمرة القصوى، ويقف ويدعو، ثم الوسطى فكذلك، ثم الدنيا إلى مكة، ولا يقف للدعاء. ثم كذلك في اليوم الثاني في أيام منى، ثم الثالث إن لم يكن نفر في الثاني.
فقول المعلِّم رحمه الله: “ولا وقوف بعد الرمي في اليوم الثالث” وهم،

(8/98)


انتقل ذهنه من الجمرات إلى الأيام!
ودونك الآن الجواب:
أما الوجه الأول: فهو مبني على أن الرواية تقول: إن تعرض الشيطان لإبراهيم عليه السلام إنما كان ليصده عن ذبح ابنه. والروايات الجيدة لا تقول ذلك، بل المفهوم منها أن تعرضه له كان ليدخل عليه الخلل في تعلم المناسك، كما تقدم. فرواية سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس لا ذكر فيها لقصة الذبح، وكذلك رواية أبي داود الطيالسي عن حماد عن أبي عاصم عن أبي الطفيل عن ابن عباس، ورواية أبي حمزة عن عطاء بن السائب [ص 80] عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وذكرت في الرواية الأخرى عن حماد عن أبي عاصم عن أبي الطفيل، ولكن ليس فيها أن تعرض الشيطان كان ليصد عن الذبح، فإنه ذكر فيها قصة الذبح بعد ذكر الجمرة الوسطى، ثم ذكر تعرض الشيطان بعد ذلك عند الجمرة القصوى، ولفظه في قصة الذبح يصلح أن تكون جملة معترضة، كما قدمته عند ذكر الروايات، ويؤيده عدم ذكر القصة في الروايات الأخرى.
وذكرت أيضًا في رواية حماد عن عطاء بن السائب، وإنما ذكرت فيها بعد ذكر الجمرات الثلاث، ومع ذلك فلفظهما صالح لأن تكون قصة أخرى غير مرتبطة برمي الجمرات، وهو الواقع كما تقدم. هذا، مع ما في رواية عطاء من الضعف لاختلاطه. فقد اتضح أن الروايات المصححة تفيد أن تعرض الشيطان لإبراهيم عليه السلام عند الجمرات إنما كان ليدخل عليه خللًا في تعلم المناسك.

(8/99)


هذا، والروايات المصححة تفيد أن تعرض الشيطان ورمي إبراهيم عليه السلام له كان وإبراهيم خارج من مكة ذاهب إلى عرفة، وليس ذلك وقت رمي الجمرات المشروع. فالظاهر أن رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان لم يكن لأن الرمي من المناسك، ولكنه بعد أن أفاض من عرفة أمره الله عزَّ وجلَّ أن يرمي تلك المواضع التي تراءى له الشيطان فيها أولًا تذكارًا لنعمة الله عزَّ وجلَّ عليه بتسليطه على الشيطان، وإعاذته منه. وصار ذلك من المناسك شكرًا لذلك، وتعليمًا للناس أنه إذا وسوس لهم الشيطان في طريقهم إلى ربهم عزَّ وجلَّ زجروه، وأخسؤوه، وطردوه، واستعانوا الله تعالى عليه؛ ووعدًا لهم بأنهم إذا فعلوا [ص 81] ذلك أعاذهم الله تعالى.
فإن قلت: فعلى ما ذكرته يكون المشروع من رمي الجمار غير موافق رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان، وهو مخالف له من جهات:
الأولى: أنه على قولك، يكون رميه للشيطان يوم التروية.
الثانية: أنه رماه أولًا عند جمرة العقبة ثم الوسطى ثم القصوى.
الثالثة: أنه كان ذلك مرة واحدة، لم يتكرر الرمي عند كل جمرة في يومين، أو ثلاثة.
الرابعة: أنه لم يتكرر عند جمرة العقبة مع أنها في المشروع فضلت برمي يوم، فلا أعجب منك، فررت من وجهين، فوقعت في وجوه!
قلت: إنك إذا تدبرت علمت أن المقصود في شرع رمي الجمار في الادكار والاعتبار، على ما تقدم، لا يتوقف على مشابهة رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان من كل وجه.

(8/100)


وإذا لم يكن كذلك، فأي غرابة في أن تتصرف الحكمة فيما اقترن بالرمي من وقت وكيفية وغير ذلك؟ فشَرَطَ الشارعُ ما تقتضي المصلحة اشتراطه، وغَيَّر ما اقتضت الحكمة تغييره، واستحبَّ ما تقتضي الحكمة استحبابه، ووكل ما عدا ذلك إلى اختيار المكلف.
وهذا الرمل، سببُ شرعه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما اعتمر هو وأصحابه عمرة القضية أحب أن يري المشركين قوة في أصحابه، فأمرهم بالرمل. ثم كان ذلك مبدأ لشرع الرمل في الحج والعمرة في أي وقت كانت، ولم يقتصر على مثل تلك الأيام التي كانت فيها عمرة القضية.
وهكذا مبدأ السعي بين الصفا والمروة، وهو تردد أم إسماعيل بينهما، فإن الله تعالى شرع لنا السعي في الحج والعمرة، ولم يقيده بمثل ذلك اليوم الذي سعت فيه أم إسماعيل.
ورأي المعلِّم لا يتخلص من مثل هذه المخالفات، وإن جهد [ص 82] نفسه. فإنه ليس من المعقول، إن كان وقع رمي من العرب لأصحاب الفيل، أن يكون أول يوم وقع في موضع جمرة العقبة، لم يتعدها من جهة من الجهات الأربع، ثم وقع كذلك في أول أيام منى بعد الزوال، ولم يتعدها الرمي أيضًا، ثم وقع عقب ذلك عند الجمرة الوسطى ولم يتعدها، ثم عند الجمرة القصوى ولم يتعدها، ثم تلا ذلك اليوم الثاني من أيام منى، فاتفق أن كان الرمي على ما كان في اليوم الأول لم يتغير، ثم كذلك في اليوم الثالث، ثم اتفق أن كان كل يوم عند كل جمرة بسبع حصيات من كل شخص، إلى غير ذلك مما أرى التشاغل بذكره ضربًا من العبث لوضوح الأمر.

(8/101)


فمن الحكمة في تأخير الرمي عن يوم التروية أن لا يحتاج من يأتي من جهة عرفة أن يتعب أولًا إلى منى للرمي، ثم يرجع إلى عرفة، ثم إلى منى.
ومنها: أن يكون الحاج قد أقام البرهان من نفسه على صحة عزمه، وحسن استعداده لطرد الشيطان فيما يعرض له فيه. وإقامته البرهان إنما هي بتحمله مشاق السفر، وحفظ حرمة الإحرام مدة تستدعي مثلها المشقة غالبًا، وغير ذلك.
ولهذا شرع للحاج إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر أن يدع التلبية، ويأخذ في التكبير، وأن يشرع في التحلل، ولم يبق عليه إلا الحلق وهو نفسه من الاستمتاع. فكأن الله تبارك وتعالى يقول: إن العبد إذا فعل ما أمر به إلى يوم النحر، ثم عاهد الله عزَّ وجلَّ عند الجمرة برميها، إذ الرمي ــ كما تقدم ــ طرد للشيطان، وإبعاد له، وتأكيد للعزم على زجره وطرده وإبعاده في كل ما يعرض فيه للرامي حتى يلقى الله = إذا فعل ذلك فقد صدق في إجابة داعي الله عزَّ وجلَّ، ولم تبق حاجة للتلبية، فليشرع في التكبير، [ص 83] إذ هو شعار تعظيم الله عزَّ وجلَّ عند استحضار الحضور بين يديه، كما في الصلاة. ولذلك لم تبق حاجة لاختباره وترويضه بمحرمات الإحرام، فقد آن أن يؤذن له في التحلل. وأكد ذلك أنه الآن معدود ضيفًا لربه عزَّ وجلَّ، وحق الضيف أن لا يضيَّق عليه.
وأما عكس الترتيب، فمن المناسبة له أن رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان كان وهو مصعد إلى عرفة، فلما اقتضت الحكمة تأخير رمي الجمار إلى العود من عرفة ناسب عكس الترتيب. وأشير إلى أصل ترتيب رمي الشيطان بالاقتصار يوم النحر على جمرة العقبة، كما يأتي.

(8/102)


وأما التكرير، فمن الحكمة فيه أن رمي إبراهيم عليه السلام كان للشيطان وهو يشاهده، فكان المعنى المقصود ــ وهو مجانبته وطرده وإبعاده ــ واضحًا. ورمي الجمار ليس كذلك، فإن كثيرًا من الناس يرمي، ولا يدري لماذا يرمي، فكان ذلك داعيًا إلى تكرير رمي الجمار، ليظهر بذلك نحو ما ظهر من إبراهيم عليه السلام من صدق العزم على طرد الشيطان ومجانبته.
أما من عرف المعنى فإنه يستحضره كلما رمى، فيتقوى استحضاره في نفسه، ويرجى أن يثبت فيها، فينتفع به إلى قابل على الأقل.
وأما من لم يعرف المعنى فيكفيه خضوعه لأمرٍ ظاهره العبث، إيمانًا منه بربِّه، وتصديقًا لنبيِّه، وإذا تكرر الرمي قوي هذا المعنى.
وأنت خبير أن الإنسان لو حجَّ ألف حَجَّة لكان عليه في كل منها أن يرمي، مع أن الرمي الذي كان المبدأ ــ وهو رمي الشيطان ــ لم يكن إلا في سنة واحدة. وكذلك رمي أصحاب الفيل على رأي المعلم، لو صح. فإذا لم يبعد التكرار بتكرار السنين، فنحوه التكرار في عدة أيام.
[ص 84] وكما أن إبراهيم عليه السلام لو حج سنة أخرى بعد حجته التي رمى فيها الجمرات لكان عليه أن يرمي الجمرات، وإن لم ير الشيطان. فكذلك لا مانع أن يكون الأمر على ما قدمته: أنه رمى الشيطان مصعدًا إلى عرفة، ثم شرع له الرمي عند عوده منها.
وأما الاقتصار يوم النحر على رمي جمرة العقبة، وتقديم وقته، فمن الحكمة فيه ــ والله أعلم ــ التخفيف عن الحاج، فإنه متأذٍّ بطول الإحرام، وعليه في هذا اليوم أعمال كثيرة، سوى الرمي، كالنحر والحلق والتنظف وصلاة العيد وطواف الإفاضة، وغير ذلك. فلو كُلِّف بأن ينتظر حتى تزول

(8/103)


الشمس، ثم يذهب فيرمي الجمار على نحو ما يفعله في أيام التشريق، لشقّ ذلك عليه. فأذن له بتقديم الرمي بعد طلوع الشمس ليتعجل التحلل، وأمر بالاقتصار على جمرة واحدة، وجعلت جمرة العقبة لأن أول ما تراءى الشيطان لإبراهيم عليه السلام عندها، فيكون في الاقتصار عليها إشارة إلى ذلك، كما مر. ولم يؤمر بالوقوف عندها للدعاء تخفيفًا عليه، لاحتياجه إلى التخفيف كما مر.
وبهذا علم الجواب عن الوجه الثاني والثالث من الوجوه التي يرجح بها المعلِّم ما رآه.
وأما الرابع: فقد علمت وهم المعلِّم رحمه الله، وأن المشروع هو أن لا يوقف للدعاء عند جمرة العقبة، لا بعد رميها وحدها يوم النحر، ولا بعد رميها بعد أختيها في أيام منى، وأن يطال الوقوف والدعاء عند القصوى وعند الوسطى في سائر أيام منى، فانهدم بناء المعلم.

فأما الحكمة في عدم شرع الوقوف للدعاء عند جمرة العقبة، ففي يوم النحر الحكمة ظاهرة على ما تقدم من احتياج الحاج فيه إلى التخفيف. وأما في أيام منى، فمن الحكمة في ذلك ــ والله أعلم ــ موافقة [ص 85] الواقع يوم النحر، ولأنها قد عوضت عن الوقوف عندها (1) بزيادة رمي يوم مقدم.
ومن المحتمل أن يكون إبراهيم عليه السلام لما تراءى له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه، استهان به، وظن أنه قد اندحر؛ فلم يكن هناك باعث له على طول الوقوف للدعاء. فلما تراءى له ثانيًا عند الجمرة الوسطى استشعر إبراهيم عليه السلام خبث هذا الرجيم، وشدة لجاجه في الكيد، وعدم يأسه من
_________
(1) كذا في الأصل. والمقصود عدم الوقوف عندها.

(8/104)


التمكن من المكر، فظهر له شدة افتقار الإنسان إلى الاستغاثة بالله عزَّ وجلَّ والاستعانة به، فأطال الوقوف هنا للدعاء، وهكذا عند القصوى. والله أعلم.
ثم ختم المعلِّم رسالته بفصلٍ مبنيٍّ على هذا الفصل، قال (1): “إن صح ما ذكرنا من أصل سنة رمي الجمار، سواء كان الرمي من الطير، أو من العرب، بعد أن كان على أصحاب الفيل … فلا بد أن تكون نيتنا … الذي يرى في رميه أنه يرمي الشيطان، لا يحسّ بداعية قوية خاصة، فإنه يعلم أنه إنما يرمي بحصياته حجرًا، ولا يرجو بذلك أنه ينجو به من مكر الشيطان، ويبعده عن نفسه لمدة، أو أن ذلك أشد تأثيرًا من تلاوة المعوذتين، أو حوقلة، أو التأذين … وأما إذا علم أنه يتذكر برميه هذا نصرة الله التي خصّها لأهل هذا البيت، فإنه يتذكر أمرًا عظيمًا، ويجمع همته، ويرى أن الله تعالى قادر أن ينصرهم على أعدائهم مع ضعف السبب .. ثم إنهم إذا قاموا للدعاء بعد الرمي لم يخرجوا عن تلك الحال … تذكرة تهدي إلى كون الحج كلّه [ص 86] من الجهاد … ذبح البهيمة علامة ذبح النفس، والأضحية فدية، وحقيقة الجهاد هي ذبح النفس، وإنقاذها من النار. ثم هذه رحلة الحجاج وحلولهم … أشبه شيء بتمرينٍ عسكري … كأن حالة الحجاج في هذه المنازل تنادي جهارًا إلى ضرورة نظم عسكري … فإذا صحح المسلمون نياتهم للجهاد، وكابدوا مشقة هذا التمرين، فكأنهم أشهدوا على تهيُّئهم لذلك إذا دعوا إليه. وأين في نية رمي الشيطان هذه الحكمة؟ “.
قال عبد الرحمن: قوله: “سواء كان الرمي من الطير أو من العرب” يسفر لك عما في نفسه من عدم الوثوق بأن الطير لم ترمِ، مع أنه في آخر
_________
(1) تفسير سورة الفيل (40 – 41).

(8/105)


فصل من رسالته. وهذا هو الظن به رحمه الله تعالى , فإن دلائل رمي الطير بغاية الوضوح، وما عورضت به كسراب بقيعة.
وقد أغناني بكلمته هذه عن بيان أنه لو ثبت أن رمي الجمار تذكار لرمي أصحاب الفيل، لما لزم نفي الرمي عن الطير وإثباته لأهل مكة، بل يكون حينئذٍ تذكارًا لنعمة الله عزَّ وجلَّ بتسليطه الطير على رمي أصحاب الفيل.
وقوله: “الذي يرى في رميه أنه يرمي الشيطان لا يحس بداعية قوية … “. صوابه أن الرامي إن كان يعلم مبدأ الرمي وحكمته، فإنه يناجي نفسه قائلًا: إن الشيطان للإنسان عدو مضل مبين، لم ييأس من إبراهيم نبي الله ورسوله وخليله، ثم لم يكفه أن طرده مرة حتى تعرض له ثانية، ثم ثالثة.
وعَلِمَ إبراهيم عليه السلام الاضطرارَ إلى الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ، فأطال الوقوف [ص 87] بعد ما رماه ثانيًا ثم ثالثًا. وقد شرع الله لعباده أن يتشبهوا بإبراهيم عليه السلام في الصورة الظاهرة تحقيقًا للتشبه به في الحال النفسية. فهذه يدي كأنها تطرد الشيطان برميه بالحصباء، وهذا قلبي يطرد الشيطان عن أن يؤثر فيه إعراضًا عن سبيل الله، أو تقصيرًا فيه.
ولا شك أن طرد القلب للشيطان لا يتحقق بالإعراض عنه في الحال، بل لا بد من عقد النية، وتأكيد العزم على إبعاد الشيطان، ومخالفته ومجانبته.
إذن، فهذا في المعنى عهدٌ وميثاقٌ أوتيه ربي عزَّ وجلَّ على الاستمرار في سبيله، ومخالفة الشيطان؛ على أنني لست بمستعظم كيد الشيطان، ولا معتمد على نفسي، فإن الله أكبر، وأنا أسأله كذا وكذا …
فهذه الداعية تنفع المؤمن في جميع أموره، ويدخل فيها الجهاد، فإنه من سبيل الله الذي يصد عنه الشيطان.

(8/106)


وفوق هذا فإنه ينبغي أن يفهم أن الله تعالى لم يصرف الشيطان عن إبراهيم حتى دفعه بأقصى ما يمكنه حينئذٍ، وهو الرمي بالحصى، فيستفيد وجوب السعي، وبذل المجهود {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
ويتأكد ذلك باستحضار أن ما شرع لنا من الرمي بالحصى فيه إشارة إلى وجوب بذل المجهود، مما هو من جنس التسبب، وإن لم يكن ــ بحسب الطبع ــ كافيًا في السببية، على نحو ستر الإناء ولو بعود، والاستتار في الصلاة ولو بخط، على ما تقدم إيضاحه في فصل (ز). والله أعلم.
وأما من يرمي، ولا يعلم مبدأ الرمي وحكمته، فإنه يعتاض بمعنى آخر. وذلك أن الشيطان لا يفتأ يوسوس له قائلًا: ما هذا الجهل؟ وما هذا الحمق؟ تتعبون من المسافات البعيدة، فتجيئون تعملون هذه (1) الأعمال؟ أي فائدة في أن يرمى بحصيات في موضع؟ وكيف يتصور أن يكون نبي صادق النبوة يأمر بمثل هذا؟ وأنى يتوهم أن يكلف الله تبارك وتعالى عباده بهذا العبث .. ؟
فإذا لم يُصْغِ الإنسان إلى هذه الوسوسة ورمى الجمرات كما أمر، كان ذلك مخالفة للشيطان، وطردًا له. وكان في تكرار ذلك ما يقوم مقام العزم على المخالفة للشيطان بقية حياته.
فأما من يتصور أن مبدأ رمي الجمار رمي أهل مكة أصحاب [ص 88] الفيل، فيوشك أن يقول له الشيطان: أي حاجة بالمسلمين إلى الاستعداد للجهاد؟ ويكفيهم التوكل على الله عزَّ وجلَّ. وهو إذا أراد أن يهلك عدوهم
_________
(1) في الأصل: “هذا”، وهو سبق قلم.

(8/107)


أهلكه بغير تسبب منهم، أو بأدنى تسبب، كالرمي بالحصى. فقد أهلك الله تعالى عدو أهل مكة كذلك، مع أنهم كانوا مشركين، يعبدون الأوثان.
فاتضح أن استحضار من يرمي الجمار أن مبدأ ذلك رمي إبراهيم عليه السلام للشيطان هو أقرب إلى إعداده للجهاد: جهاد الكفار، وجهاد النفس والشيطان.
ويمكن بسط هذا المعنى بأكثر من هذا الكلام، وإيراد نكات ومناسبات أخرى، وفيما ذكرت كفاية إن شاء الله تعالى.
تتمة:
وههنا وجوه تبطل ما افترضه المعلِّم من أن رمي الجمار أحدثه العرب تذكارًا لرمي أصحاب الفيل:
الأول: أن هذا الصنيع بعيد عن أفكار العرب، ولا نظير له في أفعالهم. فأما رجمهم قبر أبي رِغال، فذاك ضرب من التشفي، أو اتباع سنة وجدوا عليها العمل قديمًا، إن صح أن رجم ذلك القبر سنة سنَّها صالح النبي عليه السلام لتنفير الناس عن مثل عمل ذلك الرجل. وليس في رمي المواضع التي رمي فيها أصحاب الفيل تشفٍّ.
الثاني: أن من شأن العرب أن تبقى فيهم ذكر الوقائع إلى أمدٍ بعيد. فلو كان أصحاب الفيل رجموا في موضع الجمار، وتعمق العرب فأحدثوا رمي الجمار تذكارًا لذلك، لبقي هذا الخبر محفوظًا فيهم إلى أجيال. فما بال الصحابة والتابعين لم يكونوا يعرفون ذلك، كما تدل عليه الروايات المحفوظة عنهم، مع أن المدة كانت قريبة؟

(8/108)


[ص 89] الثالث: لو كان الأمر على ما افترضه المؤلف، لكان الظاهر أن لا يختص الرمي بعدة السبعة، فإن هذا العدد لا أثر له في رمي الإنسان. وإنما يظهر أن له أثرًا في رجم الشيطان، فإن تعيينه في كثير من الأمور الدينية في الحج وغيره يشعر بأن له خاصية معنوية.
ويمكن إبداء وجوهٍ أخرى، وقد علم بعضها مما تقدم، والأمر أوضح من ذلك. والله أعلم.

(8/109)


[ص 90] القسم الثاني
تفسير السورة
وفيه: مقدمة وبابان

(8/111)


المقدمة
قال المعلِّم رحمه الله: “عمود السورة، وربطها بالتي قبلها والتي بعدها … ” (1).
قال عبد الرحمن: لا حاجة إلى سياق عبارته، بل أذكر ما عندي، وأنبه على ما يخالفها (2) من كلامه، وأبين ما فيه.
قرّع الله عزَّ وجلَّ في سورة التكاثر عباده بأنه ألهاهم التكاثر في الأعداد والأموال والأولاد والعزة والجاه وغير ذلك من الأغراض الدنيوية عن الآخرة، وأكد إنذارهم بالآخرة وعذابها.
ثم دعاهم في سورة العصر إلى تدبر ما مضى في العصور من أحوال الأمم كعاد وثمود وقوم فرعون وغيرهم، فإنها واضحة الدلالة على أن الناس كلهم خاسرون، إلا من لم يلهه التكاثر عن الآخرة؛ وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.
ثم أعلن في سورة الهمزة بهلاك كل من ألهاه مكاثرة الناس في الفخر والمال، واستعان على الأول بكثرة الهمز واللمز للناس، لينقصوا في العيون، ويكثر هو؛ وعلى الثاني بجمع المال وتعديده، ألهاه ذلك عن الآخرة، حتى كأنه يحسب أنَّ ماله مُخْلِدُه ولا بد. فزجر الله عزَّ وجلَّ من كان كذلك، وتوعده بالعذاب الشديد في الآخرة.
_________
(1) تفسير سورة الفيل (6).
(2) كذا في الأصل.

(8/113)


والكلام في هذه السور الثلاث كلُّه على العموم، وفي سورة الهمزة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ … } ولا أصرح في العموم من كلمة “كل”. ولا ينافي ذلك ما روي أنها نزلت في أبي بن خلف، [ص 91] أو أخيه أمية، أو جميل بن عامر، أو الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل، وغير ذلك؛ فإن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
وقد ساق ابن جرير بعض تلك الأقوال، ثم روى عن مجاهد أنه قال: “ليست بخاصة لأحد”. ثم قال ابن جرير: “والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عمّ بالقول كلَّ همزة لمزة، كلَّ من كان بالصفة التي وصف هذا الموصوف بها سبيله، كائنًا من كان من الناس” (1).
ثم ذكر الله تعالى في سورة الفيل يومًا من أيامه التي تقدمت الإشارة إليها في سورة العصر، كأنه قال: هب أيها الإنسان أنك لم تسمع، أو لم توقن بأيام ربك في عاد وثمود وغيرهم مما تقادم عهده، فهذا يوم قريب، قد علمه كل أحد، وهو واقعة أصحاب الفيل. ألم تعلم كيف فعل ربك بهم؟ أوَلا يردّك عن الاغترار بما تُكاثِر به أنه لم يُغْنِ عنهم كثرةُ عَددهم، وعُددهم، وشدةُ كيدهم؟ أوَلا تخاف أن يعذبك ربك بذنبك، كما عذبهم بذنبهم؟
والخطاب يتناول أهل مكة عمومًا كما هو ظاهر، وخصوصًا لوجوه:
الأول: لأنهم أول من تليت عليه السورة.
الثاني: أن الواقعة كانت أمام أعينهم.
_________
(1) تفسير ابن جرير (30/ 162)، والعبارة كما ترى، ولكن المعنى ظاهر. [المؤلف]. صواب العبارة كما في ط التركي (24/ 620): “كلُّ من كان بالصفة … سبيلُه سبيلُه”.

(8/114)


الثالث: أن ذنبهم أشبه بذنب أصحاب الفيل، وأشد منه. فإن ذنب أصحاب الفيل هو أنهم عمدوا لهدم البيت الحرام انتهاكًا لحرمته، وصدًّا عن عبادة الله فيه. ومن ذنب أهل مكة: انتهاك حرمة البيت بما نجسوه به من رجس الأوثان التي نصبوها في جوفه، وعلى ظهره، وحواليه؛ [ص 92] وأشركوا بالله فيه، وسعوا في خرابه بمنع أن يعبد الله فيه.
ففي “الصحيح” من حديث أبي هريرة قال: “قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم! فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته، أو لأعفّرنَّ وجهه في التراب! قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه .. ” (1).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم مرة يصلي عند البيت، فجاء بعضهم، فألقى ثوبًا في عنقه، وخنقه به خنقًا شديدًا. وكان مرة أخرى يصلي، فلما سجد جاؤوا بِسَلَا جَزور، فألقَوه على ظهره (2). وكذبوا الرسول الذي دعاهم إلى الحنيفية دين إبراهيم الذي بنى البيت وأمرهم بتطهير البيت واحترامه، إلى غير ذلك مما كان منهم.
الرابع: أن في واقعة الفيل منة لربهم عزَّ وجلَّ عليهم، نالتهم بسبب هذا البيت. صرف الله عزَّ وجلَّ أصحاب الفيل أن يدخلوا مكة، ويهدموا البيت،
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى}. [المؤلف]. (2797).
(2) راجع صحيح البخاري، كتاب الفضائل، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم … إلخ. [المؤلف]. (3854).

(8/115)


فكان لقريش بذلك شرف وفخر.
قال ابن إسحاق: “فلما ردَّ اللهُ الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشًا، وقالوا: [هم] أهل الله، قاتل الله عنهم، وكفاهم مؤنة عدوهم” (1).
وكان من تمام النعمة أن الله تبارك وتعالى لم يحوجهم إلى قتال، بل ثبطهم عنه، لئلا تنتقض [ص 93] مؤالفتهم لليمن والحبشة، فتنقطع تجارتهم. بل لا بد أن يكون بعد ذلك إعظام وإجلال لهم من ملوك الحبشة في الحبشة واليمن، فكان ذلك زيادة في تسهيل تجارتهم.
ولهذا ــ والله أعلم ــ عقب الله هذه السورة بسورة قريش، فامتنَّ عليهم فيها بما يسَّره لهم من الإيلاف لرحلة الشتاء والصيف إلى اليمن والحبشة وغيرها {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}.
فقد اتضح بما قدمناه أن عمود السورة هو تهديد العصاة الذين ألهاهم التكاثر عن الآخرة، ولم يعتبروا بأيام الله تعالى في العصور، فلم يؤمنوا، بل تشاغلوا بهمز الناس ولمزهم، وجمع المال وتعديده؛ وخاصة أهل مكة الذين كان ذنبهم شبيهًا بذنب أصحاب الفيل، وأشد منه كما مرَّ. واتصل بهذا التهديد الامتنان على أهل مكة كما علمت. فبالتهديد ارتبطت السورة بما قبلها، وبالامتنان ارتبطت بما بعدها.
_________
(1) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف. [المؤلف]. ط السقا (1/ 57) وما بين الحاصرتين منها.

(8/116)


فهذا الذي قررته هو الذي يتبين به حسن الانتظام، وقوة ارتباط الكلام. وهذا هو المقصود الأعظم للمعلم رحمه الله حتى سمى تفسيره: “نظام القرآن”.
ولكنه رحمه الله ضحى بهذا المقصد في سبيل نفي الرمي عن الطير، فتعسف وتردد، فإنه ذكر أولًا فصلًا يقرر به أن الخطاب في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} ليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. [ص 94] قال فيه (1): “فهؤلاء المشركون أولى بأن ينبهوا على ما غفلوا عنه، كأنه قيل لهم: هلّا تعبد رب هذا البيت، وتوكل عليه، وتدع الشرك، فإنّه هو الذي نصرك … فإن صرف [هذا] (2) الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بد أن يراد به تسليته من الله تعالى، وأنه كما هزم جنود أعداء هذا البيت، فكذلك سيهزم هؤلاء المشركين … فهذا المحمل، وإن صحّ خطابًا بالنبي (؟ ) صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن إذا قرأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم [عليهم] صار حجة لهم، فإنهم حينئذٍ يقولون: نحن أولى بنصر الله، فإنا ولاة بيته … فلا يحسن تأويل السورة إلى تهديدهم، وإنما يحسن تأويلها إلى تحريضهم على التوحيد بشكر النعمة (3) … “.
ثم ذكر عمود السورة، وربطها بالتي قبلها فقال: ” [ذكر القرآن] في السورة السابقة كل همزة لمزة … ففي هذه السورة إشهاد على ما فعل بأمثاله … فذكّر القرآن هذا الغني المختال هذه الواقعة التي شهدها بعينه، فإنه من
_________
(1) تفسير سورة الفيل (5 – 6).
(2) ما بين الحاصرتين هنا وفيما يأتي زيادة من كتاب المعلم.
(3) كذا في الأصل. وفي كتاب المعلِّم (6): “بذكر النعمة … “.

(8/117)


كفرة قريش، والظاهر أنه أبو لهب … فكأنه قيل له: ألم تر كيف حطم الله أمثالك … وقد علمت أنك لم تغلب عليهم بقوتك، بل بنصر من الله … فاتضح مما قدمنا أن عمود هذه السورة تمهيد وجوب الشكر لله تعالى، بذكر ما جعل لأهل مكة خصوصًا، والعرب عمومًا من العزة والكرامة … “.
قال عبد الرحمن: حاول رحمه الله تعالى أن ينفي التهديد، فلم يزل به الحق حتى اضطره إلى إثباته، كما ترى.
فأما قوله: “فهؤلاء المشركون أولى بأن ينبهوا … ” فهذا التنبيه حاصل على ما قررته كما عرفت، فالسورة فيها وعد، أو قل: تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتهديد للمسرفين، ولاسيما أهل مكة. وامتنان على أهل مكة، ولا تنافي بين هذه المعاني، فلا ضرورة إلى قصر السورة على واحد منها.
وقوله: “صار حجة لهم … ” ليس بشيء، فإن التهديد إنما هو بأن يصيبهم [ص 95] رب البيت بعذاب ما، لا خصوص أن يسلط عليهم جيشًا من غيرهم. وخصمهم عند نزول السورة ثلاثة:
الأول: رب البيت عزَّ وجلَّ، لأنهم محاربون له أشد من محاربة أصحاب الفيل.
الثاني: البيت نفسه، فإن المقصود الأعظم مما فعل الرب عزَّ وجلَّ بأصحاب الفيل هو حماية البيت، وهم قد أهانوه أشد من إهانة أصحاب الفيل، فنجسوه بالأوثان، وأشركوا بالرب فيه، وسعوا في خرابه، ومنعوا من عبادة الله عنده.

(8/118)


الثالث: الرسول والذين آمنوا معه، وهم من ولاة البيت، وأحق به؛ لأنهم يدعون إلى تطهيره، وتوحيد الرب عنده.
وقوله: “فذكر القرآن هذا الغني المختال … والظاهر أنه أبو لهب” فيه أمران:
الأول: أنك قد علمت أن الكلام في سورة الهمزة عام، ولا أصرح في العموم من كلمة “كل”.
الثاني: أن هذه العبارة كالصريحة في أن المعلِّم يرى أن الخطاب في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} لشخص معين، الظاهر عنده أنه أبو لهب. وهذا ــ مع بطلانه في نفسه ــ مخالف لما قرره المعلِّم في فصل “تعيين المخاطب في هذه السورة”. قال هناك: “فاعلم أن الخطاب ههنا متوجه إلى جميع من رأى هذه الواقعة، أو أيقن بها من طريق تواتر الحكاية”. وقرر ذلك تقريرًا بالغًا.
ثم قال في موضع آخر (ص 15): “الواقعة كانت على غاية الاشتهار … وإصدار الكلام بقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} يناسب هذا الأمر، فإنه لا يخاطب به إلا فيما لا يخفى على أحد، كأنه رآه كل من يخاطب به، وإن لم يره بعينه. وهكذا ينبغي عند طلب الإقرار بشيء، كما هو معلوم عند أهل العربية”.
ثم عاد فخص الخطاب بأهل مكة كما يأتي، فكأن له في المخاطب ثلاثة أقوال. والله المستعان.
وقوله: “ألم تر كيف حطم الله أمثالك … وقد علمت أنك لم تغلب عليهم بقوتك، بل بنصر الله” نزول منه رحمه الله على الحق في قصد

(8/119)


التهديد، ولكنه يخالف ذلك، فيقول: إن عمود السورة هو الامتنان. والصواب ما اقتضاه قوله: “ألم تر كيف حطم الله … ” من أن عمود السورة هو التهديد، وبذلك يتم ارتباطها بما قبلها، وأن الامتنان فيها حاصل تبعًا. والله الموفق.

(8/120)


[ص 96] الباب الأول
في تفسير السورة على ما أفهمه وفاقًا لأهل العلم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)}
1 ــ الهمزة موضوعة للاستفهام، وحقيقته عندهم طلب الفهم، ومتى جاءت ــ ولا طلب فهم ــ فمجاز بمعنى آخر، وقد يجتمع معنيان أو أكثر. فمن المعاني: التقرير أي الحمل على الإقرار، والتقرير بمعنى تثبيت الحكم وتحقيقه، والإنكار الإبطالي، والإنكار التوبيخي أو التعجبي، والوعد، والوعيد، والتهديد، والامتنان، وغير ذلك. أنهاها السيوطي في “الإتقان” (1) إلى اثنين وثلاثين معنى، وفي تلخيص المفتاح وشروحه طائفة منها.
قال السعد التفتازاني: “والحاصل أن كلمة الاستفهام إذا امتنع حملها على الحقيقة تولد منه بمعونة القرائن ما يناسب المقام. ولا تنحصر المتولدات فيما ذكره المصنف، ولا ينحصر أيضًا شيء منها في أداة دون أداة، بل الحاكم في ذلك هو سلامة الذوق، وتتبع التراكيب. فلا ينبغي أن تقتصر في ذلك على معنى سمعته، أو مثال وجدته، من غير أن تتخطاه. بل عليك بالتصرف، واستعمال الروية , والله الهادي” (2).
_________
(1) (2/ 79 ــ 80). [المؤلف].
(2) المطول المطبوع بمصر مع حواشي عبد الحكيم وتقرير الشربيني (3/ 279). [المؤلف].

(8/121)


[ص 97] قال عبد الرحمن: يلوح لي أن الأصل في الاستفهام المجازي تنزيل المتكلم نفسه منزلة خالي الذهن عن الحكم الطالب للفهم، فيأتي بصورة الاستفهام، كما يأتي بها هذا؛ ليريك أنه لم يتحكم عليك، بل ترك الحكم إليك. فإن هذا أدعى لك إلى التدبر والتبصر، وليعلم من سمع الكلام وعرف حقيقة حال المتكلم أنه إنما أتى بهذا الأسلوب لوثوقه بأنك إذا تدبرت وتبصرت وافقته في الحكم، وأنه يرى أن الأمر بغاية الظهور إن احتاج إلى شيء فإلى التدبر والتبصر. وهذا هو التقرير بمعنى الحمل على الإقرار.
ثم إن كان الحكم عند المتكلم الإثبات، فالأغلب أن يؤتى عقب الهمزة بأداة نفي، كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]. وإن كان النفي فالغالب أن لا يؤتى بأداة نفي كقوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 61 و 63 و 64].
والسر في ذلك ــ والله أعلم ــ هو تأكيد المعنى المتقدم، لأن الاستفهام إذا جاء في الصورة عن الإثبات كان فيه إيهام أن المتكلم يريد حملك على الإثبات، كما أشار إليه الشُّمُنِّي قال: “لأن الحكمة اقتضت أن يذكر تقرير الإثبات بصورة النفي، قصدًا إلى الدلالة على أنَّ المُقِرَّ على يقين مما أقرَّ به، وأنه لم يتلقن ذلك من تقرير المتكلم (1).
والتقرير الذي يعلم منه الإثبات نحو {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} قد يطلق عليه أنه تقرير بمعنى آخر، وهو تقرير الحكم بمعنى تثبيته وتحقيقه.
والذي يقصد منه النفي يسمى إنكاريًّا إبطاليًّا، وقد يطلق على نحو {أَلَمْ نَشْرَحْ} إنكار إبطالي على معنى أنه إنكار يبطل نفي الشرح.
_________
(1) حواشي الشمني على مغني اللبيب (1/ 38). [المؤلف].

(8/122)


[ص 98] وقد يتوصل بصورة تقرير يظهر منه الإثبات أو النفي إلى إفادة شدة بعد الانتفاء في الأول، والثبوت في الثاني، ليفاد بالاستبعاد قوة المقتضي في الأول، والمانع في الثاني.
ثم إن كان المقتضي أو المانع طبيعيًا ــ ولا لوم ــ فذاك الاستفهام التعجبي، كقول من يعتقد حياة الخضر: ألم يمت الخضر بعد؟ وقول الذي كلمه الذئب: أذئب يتكلم؟
وإن كان هناك لوم فهو الإنكار التوبيخي. فإن لم يمكن التدارك فهو لمجرد التقريع، كقولك لمن مات عنده إنسان جوعًا: ألم تطعمه حتى مات؟ وقول الله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106].
وإن أمكن التدارك فهم منه الأمر أو النهي، فالأول: كقوله تعالى:
{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} [آل عمران: 20]، أي فأسلموا الآن، وما أخبر به سبحانه من قول إبراهيم لقومه: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] أي فمن الآن لا تفعلوا.
وكثيرًا ما يقترن التوبيخ بالتعجب، كما في هذا المثال، وكما أخبر الله عزَّ وجلَّ عن المشركين: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
واعلم أن من الوجوه التي مثل لها بما صورته استفهام عن النفي قد تأتي بصورة الإثبات، وعكسه، كقول معتقد حياة الخضر: آلخضر حي إلى الآن؟ وقولك لكافر: ألم تسلم؟

(8/123)


واعلم أن التوبيخ أريد به ما يعم اللوم والعتاب، فلا تغفل!
[ص 99] فأما الوعد، والوعيد والتهديد، والامتنان، فيلوح لي أنها إنما تفهم من فحوى الكلام. فمثال الوعد قول الله تبارك وتعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى … } الآيات [الضحى: 1 ــ 6]. أي فسوابق العناية تدل على لواحقها.
وعليه قول الشاعر (1):
اللهُ عوَّدك الجميـ … ـلَ فقِسْ على ما قد مضى
وهذا هو الوعد، لكنه إنما أخذ من فحوى الكلام، لا من خصوص الاستفهام، ولو قيل: “وجدك ربك يتيمًا فآوى … ” بدون استفهام، لكان الوعد حاصلًا.
ومثاله مع الوعيد والتهديد قوله عزَّ وجلَّ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [المرسلات: 15 ــ 18]، فأصل الاستفهام للتقرير، وفُهِمَ من الكلام: الوعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بإهلاك عدوهم، والوعيد والتهديد للمكذبين؛ فإن إهلاك الله تعالى للمكذبين من الأولين والآخرين ظاهر الدلالة على أن تلك سنته.
ومثال الامتنان قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ
_________
(1) هو الصفيّ الحِلّي انظر: الكشكول 1/ 273.

(8/124)


النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67].
فقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا …. }. الاستفهام للتقرير، والامتنان مفهوم من فحوى الكلام، وأوضحه بقوله: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ}.
ولأقتصر في هذا الموضع على هذا القدر، فإنه كافٍ لتوضيح الاستفهام في سورة الفيل. والله أعلم.
[ص 100] فالاستفهام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} للتقرير. أما إن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فواضحٌ، لأنه كان قد علم بقصة الفيل، والمراد بالرؤية في الآية العلم كما يأتي. وأما إن كان الخطاب عامًّا على ما يأتي توضيحه، كأنه قيل: ألم تر أيها الإنسان؟ فلأن مثل هذا إنما هو كناية عن شدة ظهور الواقعة واشتهارها. يقال: هذا أمر قد علمه القاصي والداني، فلا يفهم من هذا إلا الوصف بشدة الظهور والاشتهار، فلا تسمع أحدًا يناقش في مثل ذلك بأن من القاصين من لم يعلم. فكذلك هنا لا يقدح في القول بالتقرير بأن من الناس من لم يسمع بواقعة الفيل البتة.
فإن لم تقنع بهذا فاجعل الاستفهام يتنوع بتنوع المخاطبين. فمن بلغته الآية وقد علم، فالاستفهام في حقه للتقرير. ومن بلغته ولما يعلم وهو مقصر، فللتوبيخ، وإلا فللتعجب.
وعلى كل حال، فالوعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، والوعيد والتهديد للناس عامة، ولأهل مكة خاصة، والامتنان على أهل مكة، كل ذلك حاصل من فحوى الكلام، كما سبق.

(8/125)


2 ــ اتفق المفسرون على أن الرؤية في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} بمعنى العلم، لأن الواقعة كانت قبل المولد النبوي، ولم يشاهدها كل من يصلح للخطاب. ثم منهم من قال: الرؤية بمعنى العلم مباشرة، ومنهم من قال: بل هي التي بمعنى الإبصار، تجوّز بها عن العلم، مبالغةً في تقريره وتثبيته وتحقيقه، كما يقتضيه المقام.
وقد يقال: من بلغته السورة وكان قد شاهد الواقعة، فالرؤية في خطابه بصرية على حقيقتها، ويكون هذا من النكت في العدول عن “ألم تعلم”. وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، لكن باعتبارين.
3 ــ اتفق المفسرون ــ فيما أعلم ــ على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن الآلوسي [ص 101] أشار إلى احتمال خلاف ذلك، وعبارته: “والظاهر أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم” (1).
واختار المعلِّم رحمه الله تعالى أولًا عموم الخطاب، قال: “فاعلم أن الخطاب ههنا متوجه إلى جميع من رأى هذه الواقعة، أو أيقن بها من طريق تواتر الحكاية ممن رآها”. وأطال في تقريره. وحاصله ـــ مع إيضاحٍ ـــ أنه كثيرًا ما يأتي الكلام بلفظ خطاب الواحد، ولا يقصد به واحد معيّن، بل كل واحد صالح للخطاب. وذلك كما يقع في كلام المؤلفين كثيرًا: “اعلم”، “فتأمل”، “فتنبه”، “قد علمت” وأشباه ذلك، ولا يقصد به المؤلف قصد واحد معين، بل يقصد كل واحد يقرأ كتابه، أو يقرأ عليه.
_________
(1) روح المعاني (9/ 455). [المؤلف].

(8/126)


وذكر المعلِّم أمثلة من القرآن أصرحها قول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 ــ 24]. فالخطاب في قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ} وما بعده لواحد لا بعينه، كأنه قيل: “إما يبلغن عندك أيها الإنسان” على حد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6].
قال عبد الرحمن: أرى أن المعلِّم رحمه الله تعالى أجاد باختيار هذا الوجه، وإن لم ينقل عمن تقدم. فإنه ليس في القول به زيادة في الدين، ولا نقص منه، ولا ردّ رواية صريحة، ولا تعسف في التأويل, ولا مداهنة للمرتابين، ولا فتح باب للتحريف، ولا غير ذلك مما قد يكون في نفي رمي الطير. وهو مع ذلك الأوفق بما يقتضيه المقام من تقرير الواقعة، وبيان ظهورها واشتهارها، [ص 102] والإبلاغ في الوعيد والتهديد والامتنان.
فإن الإنسان إذا تلا السورة، أو تليت عليه، واستحضر المعنى المذكور، شعر بأنه يخاطب بها مباشرة، فكان أجدر أن يعمل فيه ما فيها من الوعيد والامتنان، إن كان من أهله.
ثم رجع المعلِّم رحمه الله تعالى فخص الخطاب بقريش، فكأنه قيل: قد علمت أيها القرشي. ولا أحفظ لهذا نظيرًا في الخطاب بلفظ الواحد بدون تقييده بما يخصصه، بل إما أن يكون لواحد معين، وإما أن يكون لكل أحد يصلح أن يخاطب.

(8/127)


ثم أوهم في ذكر عمود السورة أن الخطاب خاص بفرد واحد، يظن أنه أبو لهب. وهذا كما ترى!
وعلى ما قدمت، فالخطاب لكل إنسان إلى يوم القيامة. وإنما يصير الإنسان مخاطبًا بالفعل حين تبلغه السورة، وهو أهل أن يخاطَب، كما يكتب الرجل إلى غائب عنه، فيصير ذلك الغائب مخاطبًا بالفعل حين يبلغه الكتاب، فيقرؤه، أو يقرأ عليه، وهو أهل للخطاب. وربما حضرت الرجل الوفاة، وامرأته حامل، فيكتب كتابًا يخاطب به من في بطنها، فإذا ولد وبلغ سن التمييز فقرأ الكتاب، أو قرئ عليه، صار مخاطبًا به بالفعل. ولو كتب رجل كتابًا إلى كل من يولد بعده من ذريته ما تناسلوا، أو إلى كل من يولد في قومه، لكان كلما ولد مولود، فبلغ حدّ التمييز، فقرأ ذلك الكتاب أو قرئ عليه، يصير مخاطبًا به بالفعل.
وهكذا حكم الرسالة والوصية بدون كتاب. وبهذا تنحلُّ مغالطة بعض الأصوليين كالآمدي (1)، والله أعلم.
وكما أن من كتب إليه جدُّه بنصيحة لا تتقيد بوقت مثل: “احذر قرناء السوء” يتصور تكرر الخطاب كلما قرأ الكتاب، فكذلك ينبغي لك حين تذكر قول ربك سبحانه {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، وأشباهها، ومنها سورة الفيل.
[ص 103] 4 – “كيف” في الآية في موضع نصب على أنها مفعول مطلق، قاله ابن هشام في المغني قال: “إذ المعنى: أيَّ فِعْل فَعَلَ ربُّك”؟
_________
(1) راجع الإحكام للآمدى. [المؤلف]. (1/ 199 وما بعدها).

(8/128)


قال المحشي: “أي ألم تر أيَّ فِعْلٍ فَعَلَ ربُّك بأصحاب الفيل؟ أي ألم تر جوابَ هذا الاستفهام؟ وجوابه: فَعَلَ فعلًا عظيمًا، فكأنه قيل: ألم تر أن ربك فعل فعلًا عظيمًا بأصحاب الفيل؟ ” (1).
5 – قال الراغب: “الربُّ في الأصل: التربية، وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حد التمام … فالربُّ مصدر مستعار مستعمل للفاعل. ولا يقال “الربّ” مطلقًا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات” (2).
قال عبد الرحمن: معنى قوله: {رَبُّكَ} مدبرك بما تقتضيه الحكمة. والحكمة تقتضي أن ينصر رسله والذين آمنوا، وأن يعذب الظالمين. ومن جملة تدبيره بسطه النعم. فالكلمة تناسب الوعد والوعيد والامتنان، وقد جاءت في سياق كل منها.
فمن الأول: قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، وقوله سبحانه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [الأعراف: 129].
ومن الثاني: قوله تعالى: {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [طه: 86].
ومن الثالث: قوله تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [الإسراء: 66].
فهذه الكلمة في سورة الفيل تُقرِّر في حقِّ كلِّ قارئ أو سامع المعنى الذي يليق به.
_________
(1) راجع مغني اللبيب مع حواشي الدسوقي (1/ 217). [المؤلف].
(2) مفردات الراغب (رب ب). [المؤلف].

(8/129)


6 – ذكر القوم بعنوان “أصحاب الفيل” لفوائد:
منها: وضوحه في التعريف، مع وجازته، فقد كان هذا اللفظ صار كالعلم على ذلك الجيش.
ومنها: الإيماء إلى سبب عذابهم، فإن أبرهة طلب الفيل لذلك الغرض المذموم، وهو هدم الكعبة كما يأتي.
ومنها: الإشارة إلى عظمة ذلك الجيش، فإنه كان [ص 104] أهول ما فيه الفيلة، وذلك الفيل الأعظم. فإن العرب كانت تعرف كثرة العدد، وتعرف الخيل والإبل والسيوف والرماح والدروع وغير ذلك، ولم تكن تعرف قتال الفيلة، بل غالبهم لم يكن قد رأى الفيل ألبتة. ولذلك حرص أبرهة على التهويل من هذه الجهة, ففي رواية الواقدي في شأن أبرهة لمّا تألَّى ليهدمنّ البيت: “وكتب إلى النجاشي أن يبعث إليه بفيله محمود (1). وكان فيلًا لم ير مثله في الأرض عظمًا وجسمًا وقوة … وقيل: كانت ثلاثة عشر فيلًا” (2).
ومنها: الإشارة إلى الآية الأولى، وهي حبس الله تعالى الفيل، فقد زادتها غرابته عند العرب غرابة. ولذلك كثر ذكرها في أشعارهم، كما تقدم في فصل (ز) من القسم الأول.
7 – “ال” في {الْفِيلِ} للعهد، أريد به ذلك الفيل الأعظم محمود، واكتفى به عن ذكر بقية الفيلة؛ لأن العارف بالقصة يتذكرها بتذكره.
_________
(1) استظهر صديقي الدكتور محمد حميد الله، أستاذ الجامعة العثمانية بحيدراباد الدكن في بعض مقالاته أن أصل الكلمة مَمُّوت، أو مَمُّود
mammoth)) اسم لنوع من الفيلة. [المؤلف].
(2) طبقات ابن سعد (1/ 1/55). [المؤلف]. ط صادر (1/ 91 – 92).

(8/130)


وقال المعلّم: “أما الفيل فواحد، ولكن أضيف إليه الجمع فأريد به الصنف، وهذا كثير، كقولك: أصحاب الرأي، وأصحاب الحديث. قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل: 11]. فاللفظ محتمل للواحد والأكثر، وبكليهما جاءت الروايات، والكثرة أقرب، والله أعلم”.
قال عبد الرحمن: في قاعدته هذه نظر، وليس في الأمثلة ما يشهد لها، فإنك تقول: فلان يحفظ الحديث، ويعرف الرأي، ولا يحب النعمة؛ فيكون الجنس بحاله، ولا إضافة. وتقول: عند فلان حديث كثير، وله رأي صائب، وله نعمة ظاهرة؛ فترى الجنس بحاله.
بقي أن يقال: إن “ال” في [ص 105] {الْفِيلِ} للجنس، ولم يتبين لي، ولا ملجئ إليه، لما علمت أن بقاء الكلمة على ظاهرها من العهد لا ينفي ما جاءت به الروايات من تعد د الفيلة. والله أعلم.
8 – قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} إجمال يحيط بكل ما فعله الله تعالى بالقوم. وإذ كان عمود السورة هو التهديد ــ كما تقدم ـــ فإنما يدخل في هذا الإجمال ما فعله الله بالقوم مما فيه توهين لقوتهم، وتعذيب لهم.
ولفظ “فعل” الموصول بالباء يساعد ذلك، وكأنه إنما جاء كذلك في القرآن للعذاب ونحوه. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} إلى قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 6 ــ 13].
وقال سبحانه فيما حكاه من خطاب يوسف لإخوته: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} [يوسف: 89]، أي من إلقائه في الجب، ثم بيعه، وغير ذلك، وذاك

(8/131)


نوع من التعذيب.
وقال حكاية عن قوم إبراهيم {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 59] يعنون حطمها حتى جعلها جذاذًا، وذاك عذاب شديد لو كانت تعقل.
وقال تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45]، أي من العذاب.
وقال سبحانه: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ: 54].
* * * *
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)}
1 – هذا ــ كما قاله المفسرون ــ شروع في تفصيل ما أجملته الآية الأولى، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على الأولى، لأن بينهما كمال الاتصال، على وزان قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 132 ــ 134].
2 – الهمزة لتقرير الجعل، أو لإبطال نفيه. وعلى الثاني بنى ابن هشام، قال: “ومن جهة إفادة هذه الهمزة نفي ما بعدها، لزم ثبوته إن كان نفيًا؛ لأن نفي النفي إثبات .. ولهذا عطف {وَوَضَعْنَا} على {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} لما كان معناه: شرحنا، ومثله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 6 ــ 7]، {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل: 2 ــ 3] ” (1).
_________
(1) مغني اللبيب مع شرح الدماميني وحواشي الشمني (1/ 34). [المؤلف].

(8/132)


فقوله سبحانه: {أَلَمْ يَجْعَلْ … } في قوة “جعل كيدهم في تضليل”.
[ص 106] 3 – تقدم في فصل (ج) من القسم الأول تفسير “الكيد”، وأنه يكفي في تقرير كيد أصحاب الفيل: سوقهم الفيلة، وقدومهم في المحرم؛ وأن تضليل الله عزَّ وجلَّ لكيدهم هو حبس الفيل، ومنعهم من التقدم.
والتضليل من قولهم: ضلَّ الشيء إذا ضاع، وضلَّ سعيهم: ذهب باطلًا، وضلَّله: جعله يضِلُّ. فالمعنى أنه سبحانه جعل كيدهم ضائعًا ذاهبًا في غير شيء، لم يحصل به مطلوبهم.
* * * *
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)}
1 – عطفت هذه الجملة على التي قبلها للتوسط بين الكمالين. فإن الأولى خبرية كما علمت، تقديرها: جعل كيدهم في تضليل. وهذه خبرية، والتناسب قائم؛ لأن كلا الأمرين من جملة ما فعله الله تعالى بأصحاب الفيل. وليست الثانية كأنها الأولى، لأن المفاد بالأولى حبس الفيل والجيش، والمفاد بهذه غير ذلك، كما لا يخفى.
2 – إرسال الله تعالى إذا وصل بكلمة “على” كان في القرآن للعذاب، إما مطلقًا، وإما غالبًا، كما يعلم من مواقعه في القرآن، كقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا} [الأعراف: 162]، {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41]، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً} [القمر: 31]، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} [القمر: 34]، {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: 33]، {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا} [الكهف: 40]، {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 33]،

(8/133)


{فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} [الإسراء: 69] وغيرها.
[ص 107] ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] فإن هذا التسليط نوع من العذاب استحقه الكفار بعنادهم وإصرارهم.
والظاهر أن “أرسل” في هذه الآيات ونحوها ــ ومنها آية الفيل ــ ضُمِّن معنى “سلط”، فلذلك عُدِّي بـ (على). والتضمين كثير في القرآن، وذكر منه ابن عبد السلام نحو خمسين مثالًا (1).
وقد ذكر أهل اللغة في معاني “أرسل” سلَّط، قاله الزجاج وغيره في الآية الأخيرة. (راجع اللسان) (2).
فأما قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} [الأنعام: 6]، فيمكن أن يكون الجار والمجرور متعلقًا بقوله: {مِدْرَارًا}، لا بـ (أرسل) والتقدير: وأرسلنا السماء مدرارًا عليهم.
ونحوها في ذلك آيات أخرى، منها قوله تعالى: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، وقوله سبحانه {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 33]، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61] وغيرها.
فهذان دليلان على أن إرسال الطير كان لتعذيب أصحاب الفيل:
الأول: وقوع هذه الجملة في تفصيل فعل الرب بأصحاب الفيل.
_________
(1) الإشارة والإيجاز ص 54 ــ 58. [المؤلف].
(2) (11/ 285 – رسل). وانظر: معاني الزجاج (3/ 345).

(8/134)


الثاني: تعدية الإرسال بـ”على” كما سمعت.
3 – الأبابيل: تقدم تفسيره في فصل (ج) من القسم الأول، وحاصله أنه الجماعات، وتقدم ما جاء في وصف الطير.
4 – {تَرْمِيهِمْ} على ظاهره، والمعنى: ترميهم تلك الطير. والجملة نعت لـ {طَيْرًا} على حد قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31]، أوحال منها لتخصيصها بالنعت لقوله: {أَبَابِيلَ}. قال الرضى: “واعلم أنه يجوز تنكير ذي الحال إذا اختص بوصف، كما جاء في الحديث: “سابق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الخيل، فجاء فرس له سابقًا” وكذا تقول: مررت برجل ظريفًا قائمًا” (1).
لا يقال: إن الرمي هنا لم يقارن الإرسال، لأننا نقول: إن لم يقارنه من أوله فهو مقارن له دوامًا، لأن الإرسال لم ينته إلا برجوع الطير، على أن الإرسال مضمن معنى التسليط، فلا إشكال، على أنه قد سبق قريبًا آية النساء، وآية التطفيف. ومما حسَّنه ههنا أنه فعل مضارع، وأنه المقصود من الإرسال. والحال المقدرة جائزة عندهم.
[ص 108] وقد يجوز أن يحمل قوله: {تَرْمِيهِمْ} على أنه استئناف بياني. كأنه ــ والله أعلم ـــ لمّا مضى التشويق والتهويل، ثم جاء: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ}، وهو يدل أنها أرسلت لعذابهم ــ كما علمت ــ كان مما تقتضيه العادة أن يسأل من لم يعلم الواقعة من المخاطبين: وما صنعت بهم
_________
(1) شرح الكافية (1/ 204). [المؤلف].

(8/135)


الطير؟ فأجيب بقوله: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}. وقد قيل مثله في: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]. وزاده حسنًا ههنا أن الجملة الأولى تمت برأس آية من شأنها أن يوقف عليها. وستعلم تمام هذا في الفائدة (15) من الباب الثاني إن شاء الله تعالى.
ولكنه يضعف هاهنا بأن مبنى السورة على تحقيق العلم كما تقدّم كأنه قيل: “قد علمه كل من يخاطب” وكانت الواقعة والكيفية بغاية الشهرة، فلا يحسن مع هذا فرض السؤال، والله أعلم.
واختير الفعل المضارع تصويرًا لتلك الحال الغريبة، والهيئة العجيبة. وسيأتي إيضاح ذلك في الفوائد آخر الرسالة إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر الآلوسي (1) في تفسير آية النساء الماضية آنفًا أن بعض أهل العلم جوَّز أن يكون قوله: (حفيظًا) مفعولًا ثانيًا لـ (أرسلنا) على أنه ضمن معنى “جعلنا”.
قال عبد الرحمن: ويؤيده قول الله تعالى في نظير الآية {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الأنعام: 107].
وللخفاجي بحث نفيس في التضمين (2)، قد يظهر بمراجعته احتمال وجه رابع في {تَرْمِيهِمْ} وهو أنه مفعول ثانٍ لـ (أرسلنا) على أن يكون المعنى: جعلنا الطير ترميهم مسلطةً عليهم. فراجعه إن شئت.
_________
(1) راجع روح المعاني (2/ 136). [المؤلف].
(2) طراز المجالس ص 20 ــ 29. [المؤلف].

(8/136)


[ص 110] (1) 5 – قوله: {مِنْ سِجِّيلٍ} نعت لحجارة، وذلك ظاهر في أنها ليست من الحجارة المتعارفة، بل هي من سجيل. ومعناه اللفظي: طين متحجر، كما قاله السلف، بل فسره القرآن نفسه، فإنه ذكر في قصة لوط: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82 ــ 83]، وفي موضع آخر: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74]، وفي الثالث: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 33 ــ 34].
ولعل النكتة في اختيار هذا الوصف {مِنْ طِينٍ} في هذا الموضع الثالث: أن العبارة فيه محكية عن الملائكة في إخبارهم لإبراهيم عليه وعليهم السلام، وكان أواهًا حليمًا رؤوفًا رحيمًا، يشق عليه أن يعذب أولئك القوم، فإنه جادل في شأنهم كما في سياق القصة، فاختار الملائكة في محاورته وصفها بأنها من طين؛ لأنه أخفُّ من سجيل في التصور، وإن كان المآل واحدًا.
هذا، وتفسير السجيل بحجارة من طين لا يعين أنها مما تحجر من طين الأرض، فإن الآيات تعطي أنه نوع خاصّ معدّ عند الله عزَّ وجلَّ، أي حيثُ يُعلَمُ، ليعذّب به من يشاء. وقوله: {مُسَوَّمَةً} يشهد لذلك، قال ابن عباس: “المسومة: الحجارة المختومة، يكون الحجر أبيض فيه نقطة سوداء، أو يكون الحجر أسود فيه نقطة بيضاء، فذلك تسويمها عند ربك يا إبراهيم للمسرفين” (2).
_________
(1) الصفحة (109) مضروب عليها.
(2) تفسير ابن جرير (27/ 2). [المؤلف].

(8/137)


[ص 111] وعن مجاهد وغيره: “المسومة: المعلمة”. زاد ابن جريج: “لا تشاكل حجارة الأرض”. ونحوه عن قتادة (1).
وفي بعض التفاسير عن ابن عباس: أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجَزْع الظَّفاري (2).
وقال الآلوسي: “وأخرج أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية أنه قال: رأيت الحصى التي رمي بها أصحاب الفيل: حصى مثل الحمص، وأكبر من العدس [حُمْر] بحُتْمة (3)، كأنها جَزْع ظَفار. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أنه قال: حجارة مثل البندق. وفي رواية ابن مردويه عنه: مثل بعر الغنم” (4).
ثم ذكر ما قيل: إن الحجارة كانت كبارًا، وقد تقدم بيان وهمه في فصل (هـ) من القسم الأول.
قال: وروى ابن مردويه وأبو نعيم عن أبي صالح: “أنه مكتوب على الحجر اسم من رمي به، واسم أبيه، وأنه رأى ذلك عند أم هانئ”.
قال عبد الرحمن: إن صح السند إلى أبي صالح، فكأنه رأى تلك الخطوط التي وصفها غيره، فحدس أنها كتابة بلسان غير العربي، ورأى أنها
_________
(1) تفسير ابن جرير (13/ 54 ــ 55). [المؤلف].
(2) تفسير النيسابوري بهامش تفسير ابن جرير (30/ 164)، تفسير الخطيب. [المؤلف]. (32/ 97).
(3) كذا ضُبطت في الأصل. وكذا في روح المعاني (ط المنيرية 30/ 237)، وقال في الحاشية: “بالضم: السواد”. وفي مطبوعة دلائل النبوة لأبي نعيم (88): “مختَّمة”. وكذا في إمتاع الأسماع (4/ 79) وسبل الهدى والرشاد (1/ 221).
(4) روح المعاني (9/ 458 – 459). [المؤلف].

(8/138)


إن كانت كتابة فهي اسم من رمي بتلك الحصاة. وهذا حدس لا مستند له. والله أعلم.
[ص 112] 6 – تقدم في فصل (هـ) من القسم الأول ما جاء في تأثير الحجارة فيهم، وأن الراجح أنها كانت تجرح من أصابته جرحًا ما، فيتقرح ذلك الموضع، ويصيب صاحبه الجدري والحكة ونحو ذلك. ومن لم تصبه جُدر بالعدوى العادية، ففرّوا يتساقطون عند كل منهل.
* * * *
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}

1 – الفاء عاطفة سببية، أي فجعلهم الله بما أصابهم من الحجارة التي رمتهم بها الطير وما أحدثته فيهم من الآثار كعصف مأكول.
2 – “العصف” في أكثر الروايات عن السلف هو التبن، وفي بعضها أنه ورق الزرع، وفي بعضها أنه الورق مطلقًا (1). وكأنه مأخوذ من عصفت الريح، لأنها تعصف به، أي تذهب به.
3 – اختلف في قوله: {مَأْكُولٍ} قيل: إن المراد: أصابه الأُكال، أي أكلته الدود، فالمعنى: كورق الزرع الذي أكلته الدود، فتفرق وتمزق، وعصفت به الريح، فذهب شذر مذر.
وقيل: المراد: أكلته البهائم، أي أكلت منه، وداسته، فهو فضلة ما أكلته، فإنه أشد هوانًا له على الناس.
وقيل: المراد: أكلته البهائم فراثته، ولكن القرآن ترفَّع عن التصريح.
_________
(1) راجع تفسير ابن جرير (27/ 64) و (30/ 169). [المؤلف].

(8/139)


وقيل: كعصف أكل حبه، فإن ورق الزرع ما دام على حبه لا يتفرق، ولا يهون على الناس.
والقول الثالث هو الظاهر. والثاني قوي، والنفس إليه أميل. والله أعلم.
[ص 113] وقال المعلِّم رحمه الله (ص 3): “المأكول: ما من شأنه أن يؤكل، تسمية الشيء بما يؤول إليه. وهذا الأسلوب عام في الكلام، قال تعالى: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42، 44] “.
قال عبد الرحمن: هذا التأويل يجعل الكلمة لغوًا، فإنه معلوم أن من شأن العصف أن يؤكل، فأي فائدة في وصفه بما لا يخفى، ولا ينكر، ولا مقتضى لتنزيله منزلة الخفي، أو المنكر.
فأما قوله تعالى: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}، فالقضاء هنا بمعنى التنفيذ بالفعل، فيما يظهر. كان ذلك الأمر مفعولًا: مقدرًا في علم الله أنه سيفعل، فقضاه، أي نفذه ونجزه ذلك اليوم، أي يوم بدر.
لا يقال: إن كل ما قضاه الله تعالى بالفعل، فمعلوم أنه كان مقدرًا فعله في علمه، وهذا يشبه ما اعترضت به قول المعلِّم في “مأكول”. لأني أقول: لا يستحضر كل إنسان ولا يصدق كل أحد بأن كل ما يقع فقد سبق في علم الله أنه واقع. فتدبر!
4 ــ قال المعلِّم رحمه الله (ص 3): “إنما شبه أصحاب الفيل بالعصف المأكول لما أنهم هُزموا وكُسروا ومُزِّقوا كلَّ ممزَّق، وذهبت سلطنتهم بعيد ذلك. وهذا تشبيه معروف، قال عدي بن زيد في قصيدته المشهورة (1):
_________
(1) ديوان عدي (90).

(8/140)


ثم صاروا كأنهم ورقٌ جَفْـ … ـفَ فألوَتْ به الصَّبا والدَّبورُ
وهكذا في القرآن {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ [ص 114] نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] أي: جعلهم كهباء منثور … ثم زاد هذا التشبيه حسنا أن أصحاب الفيل تناثرت أعضاؤهم، وأكلتهم سباع الطير ــ كما سيأتيك بيانه ــ فصدق عليهم صورة ومعنى أنهم صاروا كعصف مأكول”.
قال عبد الرحمن: التشبيه يعطي ثلاثة أمور:
الأول: الهلاك، وقد جاء نحوه في قصة ثمود، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31].
الثاني: الهوان على الناس، فإن ما تُسْئِره الدواب من العصف أو تروثه لا يلتفت إليه أحد، ولاسيَّما إذا تفرق، وقد يأتي نحو هذا في {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}.
الثالث: التفرق، وذلك من شأن العصف الملقى أن تذهب به الرياح شذر مذر.
يظهر أن اختيار كلمة “عصف” يشير إلى ذلك، فإنها مأخوذة من عصفت الريح، كما مر.
فإن قيل: فقد تقدم أن القوم لم يهلكوا جميعًا، بل نجا بعضهم.
قلت: يكفي في صدق التشبيه هلاك أكثرهم، فإن من نجا منهم إنما نجا مصابًا، كالأعميين المقعدين اللذين أدركتهما عائشة بمكة، وذلك ضرب من الهلاك، قد يكون أشد من الموت. ومن لم يصب منهم ــ إن كان ـــ فإنه رجع

(8/141)


خاسئًا ذليلًا، وذاك ضرب آخر من الهلاك.
على أن حكاية القصص والوقائع لا يجب أن تدقق فيها العبارة تدقيقها في العقائد والأحكام، فقد يطلق فيها العام مرادًا به الخاص، اكتفاءً بقرينة ليست بغاية القوة، كأن يكون اكتفى ههنا بمشاهدة العرب، ونقلهم [ص 115] أن بعض أفراد ذلك الجيش نجوا، والله أعلم.
ويكفي في صحة الوجه الثالث ــ وهو التفرق ـــ تفرق أفرادهم، كما في القصة أنهم ذهبوا يتساقطون عند كل منهل؛ إذ لا يلزم من تشبيه شيء بشيء مساواته به من كل وجه. كيف، ولو قلنا بتساقط أعضائهم، وأكل الطير لحومهم لبقيت عظامهم، فهل يلزم أن يدعى أن عظامهم تهشمت حتى صارت في قدر العصف؟
فأما ما جاء من تساقط أعضائهم بالداء الذي أصابهم، فلعله كان ذلك في بعضهم، فقد جاء أن أبرهة جرى له كذلك. ويمكن أن يكون أصاب عتاة أصحابه مثل ما أصابه. وأما أكل الطير فقد تقدم البحث فيه مستوفى في القسم الأول. والله أعلم.
فانظر إلى هذا النظام البديع في هذه السورة:
الآية الأولى: أجملت ما فعل الرب بأصحاب الفيل، وشوقت إلى معرفته.
والآية الثانية: بيّنت أول ما فعله الربُّ بهم، وهو تضليله كيدهم.
والثالثة: بينت مقدمة العذاب، والواسطة فيه.
والرابعة: بينت صفة العذاب.
والخامسة: بينت ما ختمت به الواقعة، وهو هلاك القوم.

(8/142)


[ص 1] الباب الثاني
في البحث مع المعلِّم رحمه الله تعالى في: {تَرْمِيهِمْ}
قد نبّهتُ في مقدمة هذا القسم الثاني وأثناء الباب الأول منه على مواضع مما خالفتُ فيه المعلم، ووجّهتُ ذلك بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى، وأخّرتُ الكلام في {تَرْمِيهِمْ} لطوله. وأرى أن أقدِّم فوائد وقواعد ينبني عليها البحث معه، فهاكها:
(1) قال ابن الشجري: “قال أبو الفتح عثمان بن جنّي: قال لي أبو علي: سألت يومًا أبا بكر ــ يعني ابن السرّاج ــ عن الأفعال يقع بعضها موقع بعض، فقال: كان ينبغي للأفعال كلها أن تكون مثالًا واحدًا، لأنها لمعنى واحد، ولكن خولف بين صيغها لاختلاف أحوال الزمان. فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ أو حال جاز وقوع بعضها في موقع بعض. قال أبو الفتح: وهذا كلام من أبي بكر عالٍ سديد” (1).

قال عبد الرحمن: هؤلاء كلهم نحاة، ووضع الماضي موضع المضارع وعكسه لا يجوز إلا بأمرين: زوال المانع، وقيام المقتضى للعدول عن الأصل، والمانع هو الإلباس والإيهام، والمقتضي سيأتي بيانه عن أهل البيان. والنحاة إنّما يهتمّون بدفع الإلباس والإيهام كما سيأتي، ولا شأن لهم
_________
(1) أمالي ابن الشجري (1/ 304)، ونقله البغدادي في خزانة الأدب. [المؤلف]. وانظر: الأمالي نشرة الطناحي (2/ 35)، ونقله ابن الشجري في (2/ 453) أيضًا. وانظر: (1/ 68). وراجع: خزانة الأدب (10/ 4). والنص في الخصائص (3/ 331) بلفظ مختلف، ولعل مصدر ابن الشجري غير الخصائص.

(8/143)


بالمقتضي، إذ هو من فنّ آخر، فإجازتهم وضع الماضي موضع المضارع وعكسه إذا كانت قرينة تدل على حقيقة الزمان، إنما معناه أنه ليس هناك مانع نحوي إذ قد زال الإلباس والإيهام. ولا يلزم من زوال المانع النحوي الجواز مطلقًا، ولكن القوم إنما تكلموا بحسب فنّهم.
[ص 2] فممّا يمنعه النحاة لأجل الإلباس والإيهام: تقديم خبر المبتدأ إذا كانا معرفتين أو نكرتين ولا قرينة، لأنّ الأصل تقديم المبتدأ، فالسامع يحمل الكلام عليه، فمنعوا تقديم الخبر حينئذ لما فيه من الإيهام.
ومن ذلك أنهم اتفقوا على منع “زيدٌ بكرٌ ضاربُه” إذا أريد أنّ زيدًا هو الضارب، وأحبّوا أن يقال: “زيدٌ بكرٌ ضاربُه هو”. وإذا قيل هكذا وجب أن تكون الهاء في “ضاربه” لبكر، وكلمة “هو” لزيد (1).
ومنه منعهم تخفيف “إنّ” مكسورة الهمزة مشدّدة النون إذا خُشِيَ التباسها بـ”إنْ” الساكنة النافية.
ومنه منعهم تقديم المفعول حيث يلتبس بالفاعل نحو “ضربتْ سُعدى لُبنى”.
ومن ذلك منعهم تقديم المبتدأ في نحو “إنما في الدار زيد”، والخبر في نحو “إنما زيد في الدار”، بل يجب تقديم المقصور على المقصور عليه. ومثله “إنما ضرب زيدٌ بكرًا”، و”إنما ضرب بكرًا زيدٌ”.
وقالوا في كلِّ ما تجيز الصناعة حذفه كالمفعول به: إنما يجوز حيث لا إلباس. ومسائلهم المبنية على هذا الأصل كثيرة.
_________
(1) انظر: همع الهوامع (2/ 12).

(8/144)


والمقصود أن الحكاية السابقة المراد بالجواز فيها عدم المانع النحوي، وذلك لا يقتضي الجواز مطلقًا، بل لا بدّ من قيام المقتضي. وبيانه موكول إلى فنّ البيان، وسيأتي طرف منه إن شاء الله تعالى.
(2) حكي عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني إنكار المجاز، وقال: كل ما يظن مجازًا فهو حقيقة. وحكى بعضهم مثله عن أبي علي الفارسي، وهو غلط عليه (1). وحكي عن الظاهرية وابن القاصّ وابن خُوَيزمَنْداد إنكار وقوع المجاز في القرآن (2).
وقد يتوهم أن مِن رأي هؤلاء جواز وقوع كل من الماضي والمضارع موقع الآخر مطلقًا، أو منعه مطلقًا، أو تأويل ما سمع منه بالحذف والتقدير. وليس الأمر كذلك، [ص 3] بل يفسّر هؤلاء كل ما وقع من ذلك في القرآن وغيره نحو تفسير الجمهور، إلّا أنّهم يأبون أن يُسمّوا ذلك مجازًا.
وقد تكلم العلماء في تفسير مذهب هؤلاء، فمنهم من رماهم بالجهل، ومنهم من رماهم بالمكابرة، ومنهم من يرى أنهم إنّما استشنعوا هذا الاصطلاح، إذ يلزمه أن يقال: إن في الكتاب والسنة كثيرًا من الألفاظ والجمل ليست على حقيقتها.
والذي يلوح لي أن الأستاذ سمع من كلام الذين اصطلحوا على تسمية هذا حقيقةً وهذا مجازًا ما فهم منه أنهم يرون أن المجاز لا حظّ له في الوضع العربي، كقولهم في استعمال الكلمة: “إن كان فيما وضعت له فهي حقيقة،
_________
(1) راجع: المزهر (1/ 175). [المؤلف]. نشرة البجاوي وزميليه (1/ 364، 366).
(2) راجع: الإتقان (2/ 36). [المؤلف].

(8/145)


وإن كان في غير ما وضعت له فهي مجاز”، فرأى أن معنى هذا أنّ المجاز لا حظّ له في الوضع العربي البتة. وإذا كان كذلك فالألفاظ المجازية ليست بعربية، وقد ثبت أن القرآن عربي، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عربي، وكل ما ثبت عن فصحاء العرب فهو عربي، فلا مجاز إذن في ذلك.
والقوم يثبتون للمجاز حظًّا في الوضع العربي، ولكنهم قسموا الوضع إلى تحقيقي كوضع “أسد” للسبع المعروف، ووضع “مضروب” لمن وقع عليه الضرب؛ وتأويلي وهو المجاز كوضع “أسد” للرجل الشجاع. قالوا: وأما إطلاقنا أنّ المجاز مستعمل فيما لم يوضع له، فمرادنا بالوضع هنا الوضع التحقيقي، وأطلقنا لأنّه المتبادر من كلمة الوضع (1).
قال عبد الرحمن: فظنّي أنّ الأستاذ لو وقف على هذا البيان لما كان عنده خلاف، والله أعلم. وأما الظاهرية ومن وافقهم فقد يكون حالهم كحال الأستاذ، فإن صحّ ما حكي عنهم [ص 4] من قولهم: المجاز شبيه بالكذب، والاستعارة إنما يفزع إليها من عجز عن الحقيقة، فكأنهم يخصّون اسم المجاز بما فقدت قرينته أو ضعفت، أو فقدت علاقته أو ضعفت، أو لم يكن للعدول إليه فائدة لا تحصل بالحقيقة. فإن كان هذا فلا خلاف، فإن أهل العلم معهم على أن مثل هذا لم يقع في القرآن. وإنما الواقع فيه ما ظهرت قرينته، وقويت علاقته، وجلّت فائدته. فإن كانوا لا يسمّونه مجازًا فلا مشاحّة في الاصطلاح.
نعم، توسعت المبتدعة في دعوى المجاز، فحرّفوا كثيرًا من نصوص الكتاب والسنة، وزعموا أن نصوصهما لا تفيد إلا الظنّ. ويكفي في دحض
_________
(1) راجع: المطول (4/ 122 و 136). [المؤلف].

(8/146)


شبهتهم بيان حقيقة المجاز وأنه لا بدّ فيه مع قوة العلاقة وحصول الفائدة من ظهور القرينة عند المخاطب، فإن المخاطب لا يجوز أن يلقى إليه مجاز ليست قرينته ظاهرة له، وإلا كان الكلام كذبًا. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أن المجمل الذي له ظاهر لا يجوز تأخير بيانه عن وقت الخطاب، والباقون أجازوا التأخير إلى وقت الحاجة فقط. ولا خلاف عند التحقيق في النصوص التي ينبني عليها اعتقاد، فإن وقت الحاجة فيها هو وقت الخطاب. فهذا وحده كافٍ لدفع ضلالات المبتدعة، كيف ومعه حجج أخرى ليس هذا محل بسطها.

والمقصود أنه لا حاجة بأهل السنّة إلى تعسّف الطعن في المجاز والتشكيك فيه، فإنه يخشى من ذلك ضرر أكبر مما يتراءى فيه من النفع، وذلك شأن كل باطل يتوصل به إلى دفع باطل آخر، والله أعلم.
[ص 5] (3) في وضع المضارع للحال أو للاستقبال أقوال ذكرها في الهمع، وفيه: “الثالث ــ وهو رأي الجمهور وسيبويه أنه صالح لهما حقيقة، فيكون مشتركًا بينهما، لأن إطلاقه على كل منهما لا يتوقف على مسوّغ وإن ركب، بخلاف إطلاقه على الماضي فإنه مجاز لتوقفه على مسوغ. الرابع: أنه حقيقة في الحال، مجاز في الاستقبال، وعليه الفارسي وابن أبي رُكَب. وهو المختار عندي بدليل حمله على الحال عند التجرد من القرائن، وهذا شأن الحقيقة. ودخول السين عليه لإفادة الاستقبال. ولا تدخل العلامة على الفروع كعلامات التثنية والجمع والتأنيث والنسب” (1).
_________
(1) الهمع (1/ 7). [المؤلف]. ط عبد العال (1/ 17 – 18) وليس فيها كلمة “النسب”.

(8/147)


وقال الرضي بعد ذكر القول بوضعه للحال: “وهو أقوى، لأنه إذا خلا عن القرائن لم يحمل إلا على الحال، ولا يصرف إلى الاستقبال إلا بقرينة، وهذا شأن الحقيقة والمجاز” (1).
قال عبد الرحمن: ومما يحتج به لقول الجمهور أن الإخبار عن الأفعال المستقبلة مما تدعو إليه الحاجة كثيرًا، فيبعد اكتفاء الواضع فيها بالمجاز. وبالجملة فلكلا القولين حجة قوية، فإن أمكن الجمع بينهما فهو الصواب. فقد يقال: كما أن المضارع مع (لم) موضوع للماضي ولا مجاز، فكذلك هو مع السين وسوف وغيرها من الأدوات الموضوعة لصرفه إلى الاستقبال موضوع إلى الاستقبال (2) ولا مجاز، والفرعية لا تستلزم المجاز ولا تستدعي مسوِّغًا. وإن كان مجردًا عن تلك الأدوات فهو حقيقة في الحال، وإذا استعمل في غيره بقرينة من غير تلك الأدوات فمجاز لا بدّ له من مسوِّغ.
[ص 6] (4) ظاهر كلامهم أن المراد بالحال التي وضع لها المضارع حال التكلم، ولكن قال السيد الجرجاني: “الأفعال إذا وقعت قيودًا لحالة اختصاص بأحد الأزمنة فُهِمَ منها استقباليتها وحاليتها وماضويتها بالقياس إلى ذلك القيد، لا بالقياس إلى زمان التكلم” (3).
قال عبد الرحمن: الذي يهمّنا هنا هو المضارع، فاعلم أنه يكون لحال غير حال التكلم في مواضع:
_________
(1) شرح الشافية (2/ 229). [المؤلف].
(2) كذا في الأصل، والمقصود: للاستقبال.
(3) حواشي الشمني على المغني (2/ 9). [المؤلف].

(8/148)


منها: أن يكون خبرًا لكان أو غيرها من النواسخ، فالحالية هنا هي بالنظر إلى زمن الكون.
ومنها: أن يكون حالًا نحوية، أو في جملة حالية، فالحالية المضارعية هنا هي بالنظر إلى زمن العامل.
ومنها: أن يكون نعتًا ولا صارف، فإن حاليّة الفعل تكون بالنسبة إلى العامل في المنعوت. هذا هو الظاهر فيه، وإن لم يلزم. ومثله كونه مفعولًا ثانيًا لنحو جعل. والله أعلم.

[ص 7] (5) الحال الذي هو زمن التكلم هي اللحظة التي تسع الخبر، والخبر يدل على بقاء الفعل ثلاث لحظات: لحظةً قبل الخبر لأنك قبل أن ترى زيدًا مشتغلًا بالكتابة لا تخبر عنه بقولك: ” زيد يكتب”. فهذه لحظة تسع رؤيتك إياه آخذًا في الكتابة. ولحظةً أخرى تسع الخبر؛ لأن الظاهر أنك لو شرعت في الخبر فرأيته قَطَعَ الكتابة أن تقطع كلامك إن أردت الحقيقة. ولحظةً ثالثةً بعد الخبر، إذ قلّما يتفق أن ينتهي الفعل مع انتهاء الخبر.
(6) من الأفعال ما يسع الفرد الواحد منه هذه اللحظات الثلاث، ومنها ما أسرع من ذلك كطرف العين، ومنها ما يقصر تارة ويطول أخرى كالنفخ، ومنها ما يستغرق مدّة أكثر من ذلك كالصلاة. وعلى كل حال فلا بد من دوام الفعل تلك اللحظات كما مرّ. فإن كان الفرد الواحد منه أقصر أفهَمَ الكلامُ التكرار كقولك: عينُ زيدٍ تَطْرَف، وإن كان قد يطول وقد يقصر كان الكلام محتملًا للامتداد والتكرار. وإن كان أطول من ذلك فإنما يفهم من الكلام أنه كان مشتغلًا به تلك اللحظات الثلاث، كما في قولك: زيد يصلّي، لابدّ أن يكون قد شرع في الصلاة قبل لحظة من الخبر، ثم استمرّ إلى عقب انتهاء

(8/149)


الخبر. وأما ما قبل هذه اللحظات وما بعدها فالخبر ساكت عنه.
فأما إذا كانت الحالية بالنسبة إلى العامل، فقد يفهم امتداد الفعل أطول مما ذكر، كقولك: جاءنا زيد يمشي، فإن ظاهر هذا أنه استمرّ على المشي منذ خروجه عامدًا إليكم إلى أن وصل.
(7) كثيرًا ما يستعمل المضارع للدلالة على الاستمرار من الماضي البعيد إلى المستقبل البعيد، إمّا دواميًّا نحو “زيد يحبُّنا”، وإمَّا تجدُّديًّا نحو “زيد يزورنا”.
[ص 8] ولما كان الاستمرار من الماضي إلى المستقبل كان حكم هذا المضارع في الحالية على ما تقدم. تقول: “زيد يحبّنا” ما دام مستمرًّا على محبتكم، قد ثبت عليها إلى الحال ويتوقع ثبوته عليها في المستقبل.
فإذا كان خبرًا لـ”كان” كانت حاليته بحسبها. تقول بعد موت زيد بزمان: “كان زيد يحبّنا، وكان يزورنا”.
وكذلك إذا كان جملة حالية أو في جملة حالية فبحسب العامل. تقول بعد موت زيد: مكث زيد بالمدينة عشر سنين يطلب العلم، أو وهو يطلب العلم. وكذلك إذا كان مفعولًا ثانيًا لنحو جعل.
ولما كان من مدلوله التكرار في الماضي قطعًا، وأما في المستقبل فلعله إنما يكون ظنًّا، ولا يلزم حصول فرد منه في الحال، وذلك في قولك: “زيد يزورنا” المتحقق أنه قد زاركم مرارًا، ولا يلزم أن يكون فرد من الزيارة حاصلًا حال التكلم بالفعل، وإن كان كالحاصل بالقوة لثبوت أن الزيارة عادة له وخلق؛ وأما في المستقبل فذلك متوقع على سبيل الظن= لما كان الأمر كذلك أطلق بعضهم أنه للماضي.

(8/150)


قال سيبويه: “قد تقع (نفعل) موضع (فعلنا) في بعض المواضع، ومثل ذلك قوله لرجل من بني سلول [ص 9]:
ولقد أمرُّ على اللئيم يسبُّني … فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنيني
واعلم أن (أسير) بمعنى (سرت) (1) إذا أردت بـ (أسير) معنى (سرت) ” (2).
وبالهامش: “قوله: واعلم أن أسير بمعنى سرت الخ. قال أبو سعيد (السيرافي): إنما يستعمل ذلك إذا كان الفاعل قد عرف منه ذلك الفعل خلقًا وطبعًا، ولا ينكر منه في المضي والاستقبال، ولا يكون لفعل فَعَلَه مرّةً من الدهر”.
قال عبد الرحمن: والاستمرار في كل شيء بحسبه، فقد يكون دواميًّا كقولك: “زيد يحبّنا”، وقد يكون تجدّديًّا كقولك: “زيد يزورنا”، ولا بدّ أن يكون تكرَّر في الماضي تكرُّرًا صار به عادة. وذلك يختلف، فالزيارة تحتاج إلى مرار عديدة، وأما في نحو قولك: “زيد يبارز الأسد” فيكفي أن يكون قد وقع منه مرتين فصاعدًا لأن العادة في مثل هذا تثبت بذلك.
(8) يأتي المضارع للتكرار بعد (ربما) كقوله:
ربّما تجزع النفوسُ من الأمـ … ـرِ له فَرْجَةٌ كحلِّ العِقالِ (3)
_________
(1) في طبعة هارون: “بمنزلة (سرت) “.
(2) كتاب سيبويه (1/ 416). [المؤلف]. ط هارون (3/ 24).
(3) من شواهد سيبويه (2/ 109، 315)، وينسب إلى أمية بن أبي الصلت وغيره. انظر ديوانه (444، 586).

(8/151)


وقال الأعشى:
ثم أذهلتُ عقلَها ربما يُذْ … هَلُ عقلُ الفتاةِ شبهِ الهلالِ (1)
وكذلك بعد (قد)، وهو كثير جدًّا. ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
ولقد أجمع رِجلَيَّ بها … حذَرَ الموتِ وإنّي لَفَرورُ
ولقد أعطفُها كارهةً … حين للنفس من الموت هريرُ
كلُّ ما ذلك منّي خُلُقٌ … وبكُلٍّ أنا في الرَّوعِ جديرُ (2)
[ص 10] وينظر في دلالة الفعل هنا على التكرار، أبسبب (ربما) و (قد) أم من نفس الفعل، كما تقدم في نحو “زيد يزورنا”؟ الذي يلوح لي في (ربما) أنها هي المفيدة للتكرار لأنها تفيده مع الماضي كقول جَذِيمة:
رُبّما أوفيتُ في عَلَمٍ … ترفعَنْ ثَوبي شَمَالاتُ (3)
وتفيده (ربّ) بدون (ما) كقول الأعشى:
رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَه ذلك اليو … مَ وأسْرَى من معشرٍ أقْتالِ (4)
_________
(1) في جمهرة أشعار العرب ط الهاشمي (1/ 342): “ربما أذهلت”. والبيت ليس في الديوان، وهو من الأبيات الزائدة التي ذكر في إحدى نسخ الجمهرة أن أبا عبيدة قال: إنها لعمرو بن سرية المرادي. انظر: الجمهرة (1/ 341) الحاشية 3.
(2) حماسة أبي تمام مع شرح التبريزي (1/ 93 – 94). [المؤلف]. وانظر: شرح المرزوقي (1/ 181 – 182) وشعر عمرو (117).
(3) طبقات فحول الشعراء (1/ 38).
(4) جمهرة أشعار العرب ص (133). [المؤلف]. وانظر: ط الهاشمي (1/ 338)، وديوان الأعشى (63).

(8/152)


وقوله:
رُبَّ حَيٍّ سقيتَهم جُرَعَ المو … تِ وحيٍّ سقيتَهم بسجالِ (1)
إلّا أنّها مع الماضي تفيد التكرر في الماضي، وأمّا مع المضارع فتفيد التكرر في الماضي والمستقبل لأنّ أصل المضارع للحال.
وأما (قد) فيلوح لي أن التكرار معها من الفعل. فإن أصل معنى (قد) أن تكون للتحقيق مع الماضي كقولك: “قد خرج زيد”. وتفيد التوقّع على شكٍّ مع المضارع، كقولك: “قد يقدم زيد غدًا”. فإذا استعملت مع المضارع للتكرار فقد تكون للتقليل. ومن أمثالهم: “قد يَبلغُ القَطوفُ الوَساعَ، قد يُبْلَغُ الخَضْمُ بالقَضْمِ، قد تَقْطَع الدَّوِّيَّةَ النَّابُ، قد يُؤتَى على يَدَي الحريصِ، قد يُدْرِك المُبطِئُ من حَظِّه” (2).
وقد تكون للتكثير كبيت العروض:
قد أشهدُ الغارةَ الشَّعواءَ تَحمِلُني … جَرْداءُ معروقةُ اللَّحْيَيْنِ سُرْحُوبُ (3)
[ص 11] فكأن التي للتقليل هي التي للتوقع في المستقبل، دخلت على المضارع الاستمراري فأفادت أنه لا يزال متوقَّعًا على شكٍّ، فجاء التقليل، وتحقق الوقوع في الماضي مع التوقع في المستقبل. وذلك أنه لو لم يقع البتة أو
_________
(1) جمهرة أشعار العرب ص (133). [المؤلف]. وانظر ط الهاشمي (1/ 339)، وديوان الأعشى (59) وروايته: … رُبّ حيٍّ أشقاهُمُ آخر الدَّهْـ … ـرِ وحَيٍّ سقاهُمُ بِسِجالِ
(2) انظر: مجمع الأمثال (2/ 478، 497، 505، 506).
(3) لامرئ القيس في ديوانه (225)، ويقال: إنها لإبراهيم بن بشير الأنصاري.

(8/153)


وقع مرة واحدة فقط لكان كالميؤوس منه، ولو كان يتكرر بكثرة لَما ناسبته قد التوقعية لأن التوقع على شك كما سبق. وأما التي للتكثير، فكأنها قد التحقيقية دخلت لتحقيق الاستمرار، ولذلك يكثر دخول اللام عليها، كما يأتي.
هذا، وذهب الجمهور إلى أنّ (ربما) تصرف المضارع إلى المضيّ مطلقًا، وقال بعضهم: بل غالبًا. والظاهر أنَّ مرادهم أنها تفيد التكرار المتحقق في الماضي، المظنون في المستقبل، كما تقدم عن السيرافي في الفائدة السابعة، وذلك ظاهر في قوله: “ربما تجزع النفوس الخ”. وأما (قد) فنقلوا عن سيبويه أنها قد تكون بمنزلة (ربما)، وأنشد بيت:
قد أتركُ القِرْنَ مصفرًّا أناملُه … كأنّ أثوابَه مُجَّتْ بِفِرْصَادِ (1)
ففسّره ابن مالك بأنها بمنزلتها في التقليل والصرف إلى المضي، فخالفه أبو حيان قال: “بل مراده في التكثير فقط” (2).
قال عبد الرحمن: ليس معنى الصرف إلى المضيّ أن يصير ماضيًا البتة، فإن هذا ليس مرادًا في (ربّما) نفسها كما مرّ، وإنما المراد الاستمرار المتحقق في الماضي، المظنون في المستقبل، على نحو ما تقدم في (ربما)، وما ذكره السيرافي كما مرّ في الفائدة السابعة. وهذا ثابت للمضارع مع قد التقليلية أو التكثيرية، فلا وجه لإنكاره.

[ص 13] (3) (9) المصادر من حيث مدلولها على ضربين: الأول ما
_________
(1) كتاب سيبويه (4/ 224)، والبيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه (49).
(2) راجع: حواشي المغني. [المؤلف].
(3) الصفحة (12) مضروب عليها.

(8/154)


الغالب فيه أن لا تدعو الحاجة إلى ذكر حدوثه، وإنما تدعو إلى ذكر وجوده كالطول والقصر، ومن هذه تشتقّ الصفات المشبهة كطويل وقصير، ومعناهما: متصف بالطول والقصر.
والضرب الثاني: ما تدعو الحاجة إلى ذكر حدوثه كالقيام والقعود. والأصل في هذه: الدلالة على الحدث، فالقيام اسم للتحرك من الجلوس إلى الانتصاب، والقعود بعكسه، ولكن هذه كثيرًا ما تطلق على الهيئة الحاصلة عن الحدث. فنهوض المصلِّي من التشهد إلى الانتصاب قيام بالمعنى الأول، والهيئة التي يبقى عليها عقب ذلك قيام بالمعنى الثاني. واسم الفاعل يشتق من الأول وهو اسم الفاعل الحقيقي؛ ومن الثاني وهو منحوٌّ به منحى الصفة المشبهة. ولذلك لا ينصب المفعول إلا إذا كانت الهيئة مستمرة على ملابسة المفعول.
وبيانه أن الحجّ في الشرع والعرف العام اسم للأعمال المخصوصة، فالحاجّ هو المتلبّس بها، ولكن الناس يطلقون كلمة “حاجّ” على من قد حجّ، فكأنهم تصوّروا أن الإنسان بعد أن يحجّ ينشأ له هيئة تلزمه أبدًا سمّوها حجًّا، واشتقّوا منها “حاجّ”. وهذه الهيئة ليست ملابسة للبيت.
ولُبس القميص اسم للفعل الذي حدث به اللبس بعد أن لم يكن، ثم يطلق على الهيئة التي تحصل بذلك. فإذا لبس زيد في بيته قميصًا، ثم خرج، فرأيته، قلت: هو لابس قميصًا، فلابس هنا بمنزلة قولك [ص 14] “حاجّ” لمن قد حجّ، ولكن “لابس” ينصب المفعول لأن الهيئة الحاصلة عن الفاعل لا تزال ملابسة للمفعول.
وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18]،

(8/155)


و”باسط” هنا مثل “لابس” في المثال الماضي، إذ ليس المعنى أنه يحدث البسط، بل على أنه كائن على تلك الهيئة، فتدبَّرْ.
واعلم أن الصفات كلها مثل المضارع في أنها للحال، فعند الإطلاق يكون لحال الكلام. تقول: “زيد حسن الوجه”، فيفهم أنه حال كلامك متصف بحسن الوجه، وقس على ذلك. وإذا كانت خبرًا لـ”كان” كانت حاليتها باعتبار كان، وكذا إذا كانت حالًا نحوية أو في جملة حالية، فحاليتها باعتبار عامل الحال. وكذا في الباقي على نحو ما تقدم في المضارع.

[ص 15] (10) الحال النحوية من شرطها الاقتران بعاملها في الزمن، أي بأن يكون تلبُّس العامل بصاحبها في وقت مدلولُها فيه حاصل.
قال ابن مالك في الخلاصة:
الحالُ وصفٌ فضلةٌ منتصِبُ … مُفْهِمُ في حال كفردًا أذهبُ
فإذا جاء ما يظهر منه عدم الاقتران فهو متأوَّل بما يحصل به الاقتران. فقولهم: “جاء زيد راكبًا” المراد بالركوب الهيئة الحاصلة عن أصل الفعل، وهي مستمرّة تقارن المجيء، وليس المراد به إحداث الركوب.
ولهذا إذا أتيت بالفعل الماضي غير المقارن وجب أن تأتي بـ (قد)، فتقول: “جاء زيد قد ركب”.والمقارنة حينئذ مأخوذة من معنى (قد) وهو التحقيق، فكأنه قيل: جاء متحققًا أنه ركب، أو في حال تحقق أنه ركب. وهذا معنى قولهم: إنّ (قد) تقرّب الماضي من الحال، فاحفظه. فإن لم تكن (قد) مذكورة وجب تقديرها في المثال المذكور.
فأما إذا كان الفعل مقارنًا بنفسه فلا حاجة لـ (قد)، بل لا يجوز الإتيان بها، وذلك كقولك: “أبصرت زيدًا صلّى الظهر” إذا كانت صلاته الظهر

(8/156)


مقارنة للإبصار. ولو قلت: “أبصرت زيدًا قد صلّى الظهر” لَفُهِم منه أن الإبصار كان بعد الصلاة.
هذا، وإنما يحسن حذف (قد) لنكتة، كما في قوله تعالى في إخوة يوسف: {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف: 65]. لم يعلموا بردّها إلا حينئذ، فكأنها إنما رُدَّت حينئذ.
ونحوه في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90]، فإن الحصر يتجدد، فيوجد حال المجيء.
[ص 16] ويلوح لي أنه عندما يكون الفعل سابقًا، إن قرب العهد به أتي بـ (قد) وحدها، وإلّا أتي بها مع الواو، والقرب والبعد في كل شيء بحسبه. تقول: “جاء زيد قد حجّ” إذا كان مجيئه عقب الحج، فإن تأخر قيل: “وقد حجّ”. والله أعلم.
وقولهم: “خرج فلان إلى الحجاز حاجًّا” فيه مجاز بإطلاق كلمة “الحاجّ” على العامد له، ولهذا يقال إذا خرج المسافرون إلى الحج: “خرج الحجاج اليوم”، وحاصل المعنى: خرج ناويًا أن يحجّ، ولهذا يسميها بعضهم “حالًا منويّةً”. وقد يطلق عليها في نحو المثال: “مقدّرة”، من قولهم: قدّرت كذا، أي نويته وعقدت عليه، كما في اللسان (1).
وقوله سبحانه: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، فيه مجاز أيضًا، وذلك أن
_________
(1) قدر (5/ 76)، وأصله في تهذيب اللغة (9/ 24).

(8/157)


الله عزَّ وجلَّ قدّر أن يخلدوا فيها حتمًا، فكأنه حاصل لهم حين الدخول، ولهذا تسمّى “حالًا مقدّرة”، وتفسَّر بقولهم: “ادخلوا مقدّرًا خلودُكم”. ويمكن أن يكون المجاز في قوله (ادخلوا) بتضمينه معنى “اسكنوها” أو نحوه.
وهكذا يقال في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]. كذا قالوه، وهو مبنيّ على أن المراد بالدخول: دخولهم حال القدوم، ومحلقين ومقصرين: فاعلين ذلك. ويمكن أن يقال: إن المراد بالدخول: دخول المسجد بعد تمام العمرة، وبمحلقين ومقصرين: كائنين على الهيئة التي تحدث عن الفعل على نحو ما تقدم في الفائدة التاسعة. والذي يدلّ على هذا مع ظهور المقارنة فيه أن الآية حكاية لرؤيا مناميَّة، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى نفسه وأصحابه في المسجد الحرام أو داخلين فيه آمنين ما بين محلق ومقصر. وهذه الصفة تنطبق على بعض دخلاتهم في عمرة القضاء بعد أن قضوا عمرتهم، فإنهم أقاموا بمكة ثلاثًا، ولا بدّ أنهم دخلوا المسجد بعد قضاء عمرتهم مرارًا، فتأمَّلْ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (1)
[ص 21] (13) لا شبهة في مجيء “تفعل” الخطابي حالًا من ضمير المخاطب به تارة هكذا، وتارة مع الابتداء “وأنت تفعل”. وستأتي أمثلة ذلك وتوجيه الفرق بين الصيغتين في الفائدة الآتية إن شاء الله تعالى.
_________
(1) وقع هنا خرم في الأصل ذهب بأربع عشرة صفحة (ص 17 – 30) تضمنت ثلاث فوائد (11، 12، 13) وجزءًا من الفائدة الرابعة عشرة. ثم عثرنا بأخرة على الصفحات (21 – 30) ضمن مجموع برقم 4706، فأثبتناها فيما يأتي.

(8/158)


والكلام هنا في صحة مجيء “تفعل” بدون “أنت” حالًا من غير ضمير المخاطب، فإني لم أجده صريحًا في الكلام الفصيح، وإنما وجدته مع “وأنت” (1)، كقوله عز وجل: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50]. وأجد الذوق يستنكر أن يقال: “مررنا بزيد تحدِّثه”. وقد يقال في هذا المثال: إن الواجب ــ على ما تقدَّم في الفائدة السابقة عن الهمع ــ أن يقال: “مررنا بزيد تحدِّثه أنت”، ولكنني أجد الذوق لا يطمئن إلى هذه كما لا يطمئن إلى قولك: “مررنا بزيد تحدِّثانه”. وإنما يطمئن إلى “مررنا بزيد وأنت تحدِّثه” أو”وأنتما تحدِّثانه”. فإن صحَّ نحو “مررنا بزيد تحدِّثه” فالظاهر أنه لا يخلو من ضعف. والله أعلم.
(14) قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، وقال سبحانه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128]. وقال عز وجل: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} [آل عمران: 99]. وقال تعالى: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة: 85].
قوله: {تَسْتَكْثِرُ} حال من ضمير المخاطب، وكذلك {تَعْبَثُونَ}
_________
(1) في أصل الجزء الثاني في الصفحة التالية للصفحة الخمسين: “فأمَّا إذا أتى حالًا من غير ضمير المخاطب، فإنما وجدته مع “وأنت”، كقوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} ولم أجد للنحاة ما يصرِّح بجواز نحو “مررنا بزيد تحدِّثه” ولا ما هو ظاهر في منعه، ولكني لم أجده في الكلام الفصيح، وأجد الذوق يستنكره ويرى حقَّ الكلام أن يقال: “وأنت تحدِّثه”، ويتردَّد في “تحدِّثه أنت”. ولم يرقم المؤلف هذه الصفحة لكونها غير متعلقة بالسابق واللاحق.

(8/159)


و {تَبْغُونَهَا} و {تَظَاهَرُونَ}.
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]. [ص 22] وقال عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 42].
قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حال من ضمير الخطاب، وكذا قوله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}. فينبغي النظر في الفرق بين الموضعين، ومتى ينبغي أن يقال: “تفعل”، ومتى ينبغي أن يقال: “وأنت تفعل”، وكلٌّ منهما حال من ضمير الخطاب؟
قال الشيخ عبد القاهر رحمه الله: ” …. فاعلم أنَّ كلَّ جملة وقعت حالًا ثم امتنعت من الواو، فذاك لأجل أنَّك عمدتَ إلى الفعل الواقع في صدرها فضممتَه إلى الفعل الأول في إثبات واحد. وكلُّ جملة جاءت حالًا ثم اقتضت الواو، فذاك لأنك مستأنف بها خبرًا … ” (1).
ثم شرح الفرق بين “جاءني زيد يسرع” و”جاءني زيد وهو يسرع”. وحاصله بإيضاح: أنَّ المثال الأول موضعه حيث تكون الفائدة إنما تحصل من مجموع الفعلين، كأن يكون مجيء زيد إليك معلومًا للمخاطب، أو أمرًا عاديًّا، لا تحصل بالإخبار به وحده فائدة تُذكر، أو يكون إسراع زيد غير مستغرب فلا تكون لذكره وحده فائدة تُذكر، أو غير ذلك.
وموضع المثال الثاني: حيث يكون لكل من الفعلين فائدة لها وقع، بحيث لو علم المخاطب أحدهما لم يستغن عن أن يخبر بالثاني.
_________
(1) دلائل الإعجاز (213).

(8/160)


فالحال في المثال الأول شبيهة بالنعت، وفي المثال [ص 23] الثاني قريبة من العطف. وكأنك تقول في الأول: حصل من زيد مجيء إليَّ فيه إسراع. وقد أشار الشيخ إلى هذا بقوله: “تثبت مجيئًا فيه إسراع”. وكأنك في الثاني تقول: “جاءني زيد”، ثم بعد علم المخاطب بذلك تقول: “جاءني زيد يسرع”، ولكنك لمَّا أردت أن تجمع الخبرين استغنيت عن “جاءني” الثانية بالأولى , وجعلت بدل “زيد” ضميره “هو”، ولم يمكنك إسقاط الضمير لئلا يلتبس بالضرب الأول، فربطتَ الجملتين بالواو.
قال الشيخ: “وتسميتُنا لها واو حال لا يخرجها عن أن تكون مجتَلَبةً لضمِّ جملة إلى جملة. ونظيرها في هذا: الفاء في جواب الشرط، نحو: إن تأتني فأنت مكرم، فإنَّها وإن لم تكن عاطفة، فإنَّ ذلك لا يخرجها من أن تكون بمنزلة العاطفة …. وذلك أن إعادتك ذكر زيد لايكون حتى تقصد استئنافَ الخبر بأنه يسرع … ” (1).
فارجع إلى الآيات السالف ذكرها. فقوله عز وجل: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} المنُّ كما قال ابن عباس وغيره: الإعطاء. ولا ريب أن الآية لا تنهى عن الإعطاء، وإنما تنهى عن إعطاءٍ يُقصد به الاستكثار. وهذا شبيه بقولك في النعت: “لا تلبس ثوبًا نجسًا”، فظهر أن الفائدة إنما تحصل من مجموع الفعلين.
وكذلك قوله سبحانه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} فإنها لا تنهى عن البناء، وإنما تنهى عن بناء لا فائدة فيه، وذلك معنى العبث.
_________
(1) راجع “دلائل الإعجاز” (ص 115) فما بعد. [المؤلف]. طبعة محمود شاكر (214 – 216).

(8/161)


وقوله سبحانه: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص 24] مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} بغيُ السبيل عوجًا لازمٌ للصدِّ عنها، فهو بمنزلة النعت الذي يؤتى به للذمِّ، نحو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وكذلك التظاهر مع الإخراج في الآية الرابعة.
وهذا ما يتعلق بالضرب الأول.
فأما الثاني: فقوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فذنب العالم ــ كما قيل ــ ذنبان، فكأنه تعالى وبَّخهم على الذنب من حيث هو، ثم وبَّخهم عليه من حيث إنهم يعلمون أي: ليسوا من الجهال.
ونحو ذلك يقال في الآية الثانية. والله أعلم (1).
[ص 25] تقرير المجاز في استعمال ما هو للحال فيما هو ماضٍ أو مستقبل (2)
اعلم أنَّ للأمر الواقع في الحال خواصَّ بملاحظتها يكون التجوُّز:
منها: الاستمرار من الحال إلى الاستقبال. أعني تلك اللحظات الثلاث التي تقدَّم بيانها في الفائدة الخامسة والسادسة. وكأنه بملاحظتها كان التجوُّز في استعمال المضارع للاستمرار من الماضي البعيد إلى المستقبل البعيد، كما مرَّ في الفائدة السابعة. ويمكن تقريره بوجوه لا تخفى على المتأمل.
ومنها: الملابسة للحال، فإنَّ الواقع في الحال ملابس له بالظرفية، فيشبَّه
_________
(1) ترك بعده بقية الصفحة بيضاء.
(2) كتب أولًا قبل هذا العنوان رقم (11)، ثم غيَّره إلى (14).

(8/162)


به ما وقع في الماضي القريب، أو يقع في المستقبل القريب، لملابستهما الحال بالمجاورة. وهذا في الزمان شبيه بما يقع من التجوُّز في المكان نحو قوله تعالى حكاية عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. شبه الإلصاق بالجذوع بالإدخال فيها.
ويوضِّحه أنَّ كلمة “الآن” موضوعة لزمن التكلم، ثم تجدها تُستعمل في الماضي القريب، كقول زياد الأعجم يرثي المغيرة بن المهلب:
الآن لمَّا كنتَ أكرمَ مَن مشَى … وافترَّ نابُكَ عن شباة القارح (1)
أي الآن تموت؟ مع أنه إنما رثاه بعد موته. ويستعجلك صاحبك فتقول: الآن أخرج إليك، تريد: عن قرب.
وقد حمل عليه قوله عز وجل: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187]، وقوله سبحانه حكاية عن الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9]، لأنَّ مَن الشرطية تُخلص المضارع للمستقبل، وفي هذا بحث.
وقد تطلق كلمة “الآن” على ما يحيط بزمن التكلم متسعًا، كقولك: كنت قبل سنة مهاجرًا لزيد، أما الآن فإننا نتزاور. وانظر هذا مع المضارع الاستمراري.
[ص 27] (2) ومنها: التحقق، فإنَّ من شأن الواقع في الحال أن يكون
_________
(1) ستأتي الحوالة. [المؤلف].
(2) الصفحة (26) كتب فيها سطرًا، ثم ضرب عليه، فهي فارغة.

(8/163)


مُدْرَكًا بالحسِّ مشاهَدًا بالعين , وكفى بذلك تحقُّقًا. وإنما يكثر عند إرادة تحقيق المستقبل تشبيُهه بالماضي، لأنه إذا شُبِّه بالحال كان التعبير بالمضارع، والمضارع يُستعمل في المستقبل حقيقةً أو مجازًا شائعًا ذائعًا، فلا تظهر إرادة المجاز، وإذا لم تظهر لم يُتنبَّه لِما قُصِد من التحقق، مع أنه قد جاء منه مواضع كما يأتي.
فبالنظر إلى هذه الصفة يشبَّه ما تحقَّق أنه وقع في الماضي أو أنه سيقع في المستقبل بما هو واقع في الحال بجامع التحقق.
وقد يقع التشبيه بهاتين الصفتين معًا، والتشبيه الصريح يقع غالبًا على سبيل الكناية كقولهم “كأنك بالشتاء مقبل، وكأنك بالفرج آتٍ”.
الصواب أنَّ قوله “مقبل” خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو مقبل، ومثله قوله “آت”؛ وأن الباء بعد (كأنك) كالباء في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في قصة أم إسماعيل: “فإذا هي بالمَلَك” (1)، وفي حديث آخر: “فإذا أنا بموسى آخذٌ” (2)، وفي حديث الإسراء: “فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين … فإذا هو بنهر آخر” (3). وفيه: “فإذا أنا بآدم … فإذا أنا بابني الخالة … فإذا أنا بيوسف … فإذا أنا بإدريس … فإذا أنا بهارون … فإذا أنا
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [المؤلف]. من حديث ابن عباس [3364].
(2) أيضًا باب قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى} [المؤلف]. من حديث أبي سعيد [3398].
(3) أيضًا كتاب التوحيد، باب ما جاء في قوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [المؤلف]. من حديث أنس [7517].

(8/164)


بموسى … فإذا أنا بإبراهيم” (1).
[ص 28] فأصل التشبيه في هذين أنه شبَّه حلولَ الشتاء في المستقبل القريب بحلولٍ له في الحال، بجامع ملابسة الحال. وشبَّه وقوعَ الفرج في المستقبل القريب بوقوع منه في الحال، بجامع ملابسة الحال والتحقق. ولكنه عدل عن هذا إلى لازمه، وهو تلبُّس المخاطب بهما في الحال، فإنه إنما يتلبَّس في الحال بما هو واقع فيه.
ومنه: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في شأن الكعبة: “كأنِّي به أسودَ أفحَجَ يقلعها حجرًا حجرًا” (2).
شبَّه هدمَ ذلك الحبشي في المستقبل بهدمٍ يقع منه في الحال بجامع التحقُّق، وعدل إلى الكناية فقال: “كأنِّي به” أي: كأني ملتبِّس به أي: أُبصِره، لأنه إنما يُبصره يَهدِم في الحال إذا كان الهدم واقعًا في الحال.
ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم ــ وقد مرَّ بوادي الأزرق ــ: “كأني أنظر إلى موسى – صلى الله عليه وسلم – ــ فذكر من لونه وشعره ــ واضعًا إصبعيه في أذنيه، له جُؤارٌ إلى الله بالتلبية، مارًّا بهذا الوادي … “. ثم قال عندما مرَّ بثنيَّة هَرْشَى (3): “كأنِّي أنظر إلى يونس على ناقة حمراء، عليه جبة صوف، خطامُ ناقته لِيفٌ خُلْبَةٌ مارًّا بهذا الوادي ملبِّيًا” (4).
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء. [المؤلف]. من حديث أنس [259].
(2) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب هدم الكعبة. [المؤلف]. من حديث ابن عباس [1595].
(3) رسمها في الأصل: “هرشا”.
(4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء. [المؤلف]. من حديث ابن عباس [269].

(8/165)


شبَّه مرور موسى ويونس عليهما السلام بذلك الوادي في الماضي، بمرور يقع منهما في الحال بجامع التحقُّق، وكنى عن ذلك بقوله: “كأني أنظر … “، لأنه إنما ينظر في الحال إليهما مارَّين، إذا كان مرورهما واقعًا في الحال.
فأما ما يُروى فيمن قال: “أصبحت مؤمنًا حقًّا، فقيل له: ما حقيقة إيمانك؟ فقال: كأني أنظر إلى عرش ربِّي بارزًا” (1) يُريد: يوم القيامة؛ فليس فيه كناية، [ص 29] وإنما شبَّه حاله في تصديقه بأمور القيامة بحاله على فرض أنه ينظر إليها. فأمور القيامة ثابتة عند السائل، وإنما مقصود المسؤول إثبات إيمانه بها.
وأما مرور موسى ويونس عليهما السلام حاجَّين، فلم يكن ثابتًا عند المخاطبين، فمقصود النبي صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت المرور، لا تثبيت تصديقه بالمرور. فلهذا كان ما يظهر من الكلام من إثبات التصديق بالمرور كناية، على ما سمعت، والله أعلم.
فأما العبارة المشهورة: “كأنك بالدنيا لم تكن”، ففيها تشبيه مع الكناية ومجاز.
والأصل تشبيه ما يتوقع من زوال الدنيا بزوال واقع في الحال بجامع القرب والتحقُّق، وتشبيهها عند زوالها بها لو لم تُوجد أصلًا، بجامع عدم النفع. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فإنَّ الرجل إذا عاش مدة، ثم مات، ولم يبق بعد موته نفعٌ يتسبَّب عن حياته= قيل كأنه لم يُخْلَق، لأنه لما خُلِق، وعاش
_________
(1) أخرجه الطبراني في “الكبير” (3367) من حديث الحارث بن مالك الأنصاري. قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (1/ 221): “وفيه ابن لهيعة، وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه”.

(8/166)


مدَّةً ولم يتسبَّب عن حياته نفعٌ= كان من هذه الجهة كأنه لم يُخْلَق، فإنه لو لم يُخْلَق يكون الحال كذلك، أي أنه لا يوجد نفعٌ يُنسَب إلى خلقه وعيشه.
فحلُّ العبارة هكذا: كأنَّ الدنيا زائلة، أي: الآن، وكأنها إذا زالت لم تكن. ثم طُوي التشبيه الثاني، واستعيرت الصفة للدنيا، فقيل: “لم تكن” وجُعل هذا اللفظ بدل حقيقته في التشبيه الأول، فصار: “كأن الدنيا لم تكن” ــ أي: الآن، ثم كُني عنه على ما سمعت أولًا. وقس عليه بقية العبارة، وهي “وبالآخرة لم تَزُل”.
واعلم أنك إذا قلت ــ وزيد غائب ــ: “كأنك بزيد قادم”. فقد تمَّ الكلام بقولك: كأنك بزيد، لأن التقدير: كأنك متلبِّس بزيد في الحال، فقولك: “قادم” خبر لمبتدأ محذوف.
وإذا قلت ــ وزيد حاضر ــ: “كأنك بزيد مسافرًا” فلا يتم الكلام إلا بقولك: مسافرًا، فـ”مسافرًا” حال، فتدبَّرْ.
هذا تحقيق هذا التركيب، وقد أطالوا فيه بما في بعضه تخليط (1).
وتردد التقي السبكي في صحته قال: ” [وقد استعملتُ في كلامي هذا: “وكأني بك” لأن الناس يستعملونه، ولا أدري هل جاء في كلام العرب أم لا، إلا أن في الحديث: “كأنِّي به”، فإنْ صحَّ فهو دليل الجواز. وفي كلام بعض النحاة ما يقتضي منعه … “] (2).
_________
(1) راجع “المغني مع حواشي الدسوقي” (1/ [280])، و”الأشباه والنظائر النحوية” للسيوطي (4 /). [المؤلف] طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق (4/ 20 – 31).
(2) بيَّض المؤلف هنا نحو أربعة أسطر لنقل كلام السبكي ووضع في أولها علامة التنصيص، فأوردناه من “الأشباه والنظائر” للسيوطي (4/ 188 – 189).

(8/167)


[ص 30] هذا، والغالب في تشبيه غير الواقع في الحال بالواقع فيه طيُّ التشبيه واختيارُ المجاز على سبيل الاستعارة. والغالب أنه ينضاف إلى التقريب والتحقيق أو أحدهما فائدة أخرى قد تكون هي المقصود بالذات، وهي حملُ السامع على إنعام النظر في الواقعة، ورسمُ صورتها في ذهنه، لأن صورة الكلام تُصوِّرها له كأنها حاضرة تجري أمام عينيه، فيدعوه إلى أن يتصوَّرها بحسب ذلك، وكأنه يتخيلها تجري أمام عينيه، فيكون ذلك أوقع لها عنده، وأبلغ في تربية الأثر المقصود من حكايتها في نفسه.
وهذا هو المعروف عند أهل العلم بحكاية الحال.
قال الرضي: ـ “قال جار الله ــ ونعم ما قال ــ: معنى حكاية الحال أن يُقَدَّر أنَّ ذلك الفعل الماضي واقع في حال التكلم كما في قوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91]، وإنَّما يُفعل هذا في الفعل الماضي المستغرب، كأنك تُحضِره للمخاطب وتُصوِّره له ليتعجب منه. تقول: رأيت الأسد، فآخذُ السيفَ، فأقتلُه” (1).
وقال السكاكي بعد ذكر أمثلة: “كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا … } [فاطر: 9] إذ قال: “فتثير” استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدَّالة على القدرة الربانية، من إثارة السحاب مسخَّرًا بين السماء والأرض، متكوِّنًا في المرأى تارةً عن قزع وكأنها قطعُ قطن مندوف، ثم تتضامُّ متقلِّبةً بين أطوار حتى يَعُدْن ركامًا. وإنّه طريق للبلغاء … وأمثال هذه
_________
(1) شرح الكافية (2/ 20). [المؤلف] طبعة جامعة الإمام (2/ 728).

(8/168)


اللطائف لا تتغلغل فيها إلا أذهان الرَّاضَة من علماء المعاني” (1).
وقال ابن هشام “القاعدة السادسة: “أنهم يُعبِّرون عن الماضي والآتي كما يعبِّرون عن الشيء الحاضر قصدًا لإحضاره في الذهن، حتى كأنه مُشاهَد حالةَ الإخبار … ” (2).
[ص 31] فمن أمثلتهم المشهورة في هذا قول تأبط شرًّا:
فإنّي قد لقيتُ الغُولَ تهوي … بسَهْبٍ كالصحيفةِ صَحْصَحانِ
فأضربُها بلا دَهَشٍ فخرَّتْ … صريعًا لِليدين وللجِران
فتقرير الاستعارة ــ على ما حققه السيد الشريف (3) وغيره ــ أن يقال: شبّه الضرب منه للغول في الماضي بضرب يقع منه لها في الحال بجامع التحقّق في كلّ في نفسه، ثم استعار اللفظ الدالّ على المشبّه به للمشبّه، واشتقّ منه “أضرب”.
ونظيره ــ والواقعة مستقبلة ــ قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النحل: 126]. قال في “المغني”: “لأن لام الابتداء للحال” (4). فتقدير الاستعارة أن يقال: شبّه الحكم الذي سيقع يوم القيامة بحكم يقع في الحال بجامع التحقق إلخ.
_________
(1) مفتاح العلوم (ص 107 ــ 108). [المؤلف].
(2) تمت القطعة المضافة.
(3) تقرير الشريفين على هوامش عبد الحكيم على المطول (4/ 171). [المؤلف].
(4) المغني مع حواشي الأمير (2/ 196). [المؤلف].

(8/169)


وكثيرًا ما تبنى الاستعارة على التشبيه مع الكناية، فتكون الاستعارة بالكناية. فمنه ــ والواقعة ماضية ــ قوله عزَّ وجلَّ في قصة أصحاب الكهف: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف: 17]. شبه التزاور الواقع في الماضي بتزاور يقع في الحال، واستعير اللفظ الدّال على المشبّه للمشبّه به، وطوي ذلك، ورمز إليه بأن أثبت للمشبه شيء من لوازمه وهو رؤية واقعة في الحال، فإنه يلزم من رؤيته في الحال أن يكون واقعًا في الحال. [ص 32] وإثبات الرؤية في الحال تخييل، كما يقوله البيانيون في بحث الاستعارة بالكناية.
ومنه ــ والواقعة مستقبلة ــ قوله تعالى في صفة يوم القيامة: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]. شبّه حفوف الملائكة بالعرش يوم القيامة بحفوف واقع منهم في الحال، واستعير لفظ المشبه به للمشبه في النفس، ورمز إليه بأن أثبت للمشبه شيء من لوازمه، وهي الرؤية في الحال، وإثبات الرؤية في الحال تخييل.
ومنه ــ والواقعة متكررة في الماضي والمستقبل ــ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43]. وقال عزَّ وجلَّ: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ

(8/170)


سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [الروم: 48].
الأفعال في هاتين الآيتين إما للاستمرار وإما للحال، والأولى في قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} أنه للحال، شبه خروج الودق من خلال السحاب فيما يتكرر في الماضي والمستقبل بخروج منه يقع في الحال إلخ، وإثبات الرؤية في الحال تخييل.
[ص 33] وفي القرآن أسلوب آخر قريب من هذا، وهو التعبير بقوله: {وَلَوْ تَرَى}، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآيات [سبأ: 31].
قد يتراءى أن هذا الأسلوب دون الأول في البلاغة، ولكنه عوّض بأن حذف جواب لو، وذلك يعطي أن الجواب يُفهَم مما ذكر في سياق الشرط، وهذا يحمل السامع على أن يكرر النظر والتدبر فيما ذكر حرصًا على أن يفهم الجواب. وبهذا يحصل المقصود، فتدبَّرْ.
وهناك فائدة أخرى للتعبير بما هو للحال عما ليس في الحال، وهو إيهام المتكلم أن يعتقد الحصول في الحال، وأكثر ما يقع ذلك في المراثي. وتوجيهه أن المحبّ لشدّة حرصه على بقاء حبيبه، وإشفاقه من موته، يبادر إلى ردِّ خبر الموت، كما وقع لعمر رضي الله عنه عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1). فإذا تحقق الخبر بقي عنده شبه تردُّد قد يغلبه بعض
_________
(1) كما في حديث عائشة، أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ، باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : “لو كنت متخذًا خليلًا” (3667).

(8/171)


الأوقات حتى يتخيل أن حبيبه لا يزال حيًّا، وربما يتخيّله معه. وقد يسلك هذا المجاز في كلمة، ويصرّح بالموت في أخرى، لإيهام أنه لشدة جزعه كأنه قد خولط في عقله. قالت الخنساء في تكذيب الخبر بقتل أخيها:
كذَّبتُ بالحقِّ وقد راعني … حتى عَلَتْ أبياتَنا الواعيَهْ (1)
وقال أعشى باهلة يرثي المنتشر الباهلي (2) [ص 34]:
إنّي أتتْني لسانٌ ما أُسَرُّ بها … مِنْ عَلْوَ لا عَجَبٌ فيها ولا سَخَرُ
جاءت مُرَجَّمةً قد كنتُ أحذرها … لو كان ينفعني الإشفاق والحذَرُ
تأتي على الناس لا تَلْوي على أحدٍ … حتى أتتنا وكانت دوننا مُضَرُ
إذا يُعادُ لها ذِكرٌ أكذّبُه … حتى أتتني بها الأنباءُ والخَبَرُ
وشرحه المتنبي، فقال (3):
طوى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ … فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صدقُه أملًا … شرِقتُ بالدمع حتى كاد يشرَقُ بي
ولذلك تراهم في مراثيهم يكثرون من مخاطبة الميّت، ويقولون له: “لا تبعد”. وآخر مرثية أعشى باهلة السابق ذكرها:
_________
(1) ديوان الخنساء (402). وفيه: “وقد رابني”.
(2) القصيدة في جمهرة أشعار العرب ص 270 وما بعدها. [المؤلف]. طبعة الهاشمي (714). وانظر: الأصمعيات (88)، والكامل (1431)، والخزانة (1/ 191).
(3) ديوانه مع شرح العكبري (1/ 58). [المؤلف]. الشرح المذكور لزكي الدين الأنصاري المتوفى سنة 639، انظر بحث عبد الرحمن بن إبراهيم الهليل في مجلة الدراسات اللغوية (3: 2) عدد ربيع الآخر 1422.

(8/172)


فإن سلكتَ سبيلًا كنتَ سالكها … فاذهَبْ فلا يُبْعِدَنْكَ اللهُ منتشرُ
وفي قصيدة مالك بن الريب (1) التي يرثي بها نفسه، وهو يجود بها، يذكر ما يقال بعده، ويتعجب من قولهم: “لا تبعد”:
يقولون لا تبعَدْ وهم يدفنوني … وأين مكانُ البعد إلّا مكانيا
وفي مرثية أعشى باهلة مما استعمل فيه ما يدل على الحال لما مضى وانقضى:
إنّ الذي جئتَ من تثليثَ تندُبُه … منه السَّماحُ ومنه الجودُ والغِيَرُ
تنعى امرًا لا تُغِبُّ الحيَّ جفنتُه … إذا الكواكبُ خوَّى نوءَها المطرُ
وفيها:
لا تأمنُ البازلُ الكوماءُ ضربتَه … بالمشْرَفيِّ إذا ما اخروَّطَ السَفَرُ
قد تكظِمُ البُزْلُ منه حين يَفْجؤُها … حتى تقطَّعَ في أعناقها الجِرَرُ
[ص 35] أخو رغائبَ يُعطِيها ويُسْألُها … يأبَى الظُّلامةَ منه النَّوفَلُ الزُّفَرُ
ومنها:
يَمشي ببَيْداءَ لا يمشي بها أحدٌ … ولا يُحَسُّ خلا الخافي بها أثَرُ
ومنها:
أخو حُروبٍ ومِكسابٌ إذا عَدِموا … وفي المخافةِ منه الجِدُّ والحذَرُ
_________
(1) القصيدة في الجمهرة ص 285، وما بعدها، وخزانة الأدب (1/ 317 – ). [المؤلف]. انظر: الجمهرة طبعة الهاشمي (759 – 767) والخزانة طبعة هارون (2/ 203).

(8/173)


مِرْدى حُروبٍ شهابٌ يُستضاءُ به … كما أضاءَ سوادَ الطِّخيةِ القمرُ
مُهَفْهَفٌ أهضَمُ الكَشْحَينِ مُنْخرِقٌ … عنه القميصُ لسير الليل محتقِرُ
ضخمُ الدَّسيعةِ مِتْلافٌ أخو ثقةٍ … حامي الحقيقةِ منه الجودُ والفخَرُ
طاوي المصيرِ على العَزَّاءِ منجردٌ … بالقوم ليلةَ لاماءٌ ولا شجَرُ
لا يتأرّى لِما في القِدْر يرقُبُه … ولا يعَضُّ على شُرْسُوفِه الصَّفَرُ
تكفيه فِلْذَةُ لحمٍ إنْ ألَمَّ بها … من الشِّواء ويُروي شُرْبَه الغُمَرُ
وأفعال الاستمرار داخلة في المجاز، كأنه شبَّه ما كان فيما مضى مستمرًّا من الماضي إلى المستقبل بما هو مستمرّ في الحال بجامع ملابسة الحال والتحقق، وانضمَّ إلى ذلك حكاية الحال والإيهام، وقِسْ على ذلك.
وهكذا الصفات في هذه الأبيات، فإنّ حقّها أن تطلَق للحال كما تقدم في الفائدة التاسعة، ووقوعها مرفوعةً يردّ ما قد توهم أن الأفعال على تقدير كان، فتدبَّرْ.
ومن مراثيهم التي كثُر فيها التجوّز المذكور مرثية زياد الأعجم للمغيرة بن المهلَّب (1):
قل للقوافل والغُزاة إذا غزَوا … لِلباكرِينَ ولِلمُجِدِّ الرائحِ
[ص 36] إن الشجاعةَ والمروءةَ ضُمِّنا … قبرًا بمروَ على الطريقِ الواضحِ
_________
(1) القصيدة في ذيل الأمالي للقالي ص 8 – 11. وبعضها في تاريخ ابن خلكان (2/ 147) في ترجمة المهلّب [طبعة إحسان عباس (5/ 354 – 355)]، وفي أمالي الشريف المرتضى (4/ 107 – 108) [طبعة أبي الفضل (2/ 199)]، والأغاني (14/ 99)، وخزانة الأدب (4/ 152) [طبعة هارون (10/ 4)]. وفي بعض الأبيات اختلاف بين الروايات. [المؤلف].

(8/174)


فإذا مررتَ بقبرِه فاعقِرْ به … كُومَ الجِلادِ وكلَّ طِرْف سابحِ فلقد يكون أخا دَمٍ وذبَائحِ
وانْضَحْ جوانب قبرِه بدمائها
ومنها:
لله درُّ منيَّةٍ فاتَتْ به … فلقد أراه يرُدُّ غربَ الجامِحِ
ولقد أراه مُجَفِّفًا أفراسَه … يغشى الأسنَّةَ فوقَ نَهْدٍ قارح
ومنها:
ولقد أراه مقدِّمًا أفراسَه … يُدْني مَرَاجِحَ في الوغى لِمَراجح
ويقرب من المراثي ما يقع في تحسّر الشيوخ على ماضي أعمارهم. فمنه قول الأعشى (1):
ولقد أسْتَبي الفتاةَ فتعصي … كلَّ واشٍ يريدُ صَرْمَ حبالي
لم تكن قبلَ ذاك تلهو بغيري … لا ولا لهوُها حديثُ الرّجالِ
ثم أذهلتُ عقلَها ربّما يذ … هل عقلُ الفتاة شبهِ الهلالِ
ولقد أغتدي إذا صقع الدّيـ … ـكُ بمُهْرٍ مشذَّبٍ جَوّال
ثم نعت المهر إلى أن قال:
فعَدَونا بمُهْرنا إذ غَدَونا … قارِنِيه ببازلٍ ذَيّال
_________
(1) القصيدة عدّها صاحب جمهرة أشعار العرب في المعلّقات (122) فما بعدها. [المؤلف]. طبعة الهاشمي (321 – 344). وصاحب الجمهرة لم يسمّها “معلقات” وإنّما سمّاها “سموطًا”. هذا، والأبيات المذكورة مما ألحق بقصيدة الأعشى وليست له، كما سبق في تعليقنا في (ص 152). ولم ترد الأبيات في ديوان الأعشى.

(8/175)


وفي آخرها:
ذاك عيشٌ شهدتُه ثم ولَّى … كلُّ عيشٍ مصيرُه لِلزَّوال
وقال النَّمِر بن تَوْلَب (1):
لَعمري لقد أنكرتُ نفسي ورابني … مع الشَّيبِ أبدالي التي أتبدّلُ
[ص 37] فضولٌ أراها في أديميَ بعد ما … يكون كفافَ اللَّحم أو هو أفضلُ (2)
الشاهد في قوله: “يكون”.
وقال هُبَل بن عبد الله بن كنانة يذكر نفرًا قعدوا يضحكون منه بعد ما هرِمَ (3):
ربَّ يومٍ قد يُرى فيه هُبَلْ … ذا سَوامٍ ونَوَالٍ وجَذَلْ
لا يُناجيه ولا يخلو بِهِلْ … عبدُ ودٍّ وجبيلٌ وحَجَلْ
وقال عبّاد بن شدّاد اليربوعي لما هرم (4):
يا بؤسَ للشيخ عبّاد بن شدّادِ … أضحى رهينةَ بيتٍ بينَ عُوّادِ
وتهزأ العِرْسُ منّي أن رأت جسدي … أحدبَ لم يبق منه غيرُ أجلادِ
فإن تراني ضعيفًا قاصرًا عنقي … فقد أُكعكِعُ منه عَدوةَ العادي
_________
(1) من قصيدة في الجمهرة ص 216 فما بعدها. [المؤلف]. طبعة الهاشمي (531 – 542).
(2) قوله: “أو هو أفضل” أي أو اللحم أفضل من الجلد. والبيت في المعمّرين للسجستاني (55). وفيه “أو هو أجمل”.
(3) المعمرين (26). وفيه قول أبي حاتم: “بهل” يريد: به، واللام زائدة.
(4) المعمرين (55).

(8/176)


وقد أفيء بأثواب الرئيس وقد … أغدو على سَلْهَبٍ للوحش صيّاد
ويقع نحوه لمن فارق ما يهواه وإن لم ييأس من عوده. وقد يكون منه قول النابغة في معلقته (1):
عُوجُوا فَحَيُّوا لِنُعْمٍ دمنةَ الدارِ … ماذا تحيُّون من نُؤْيٍ وأحجار
يقول فيها:
وقد أراني ونُعْمًا لاهيَين بِها … والدهرُ والعيشُ لم يَهْمُمْ بإمرار
وقد يُعطف على المضارع الاستمراري فعل ماضٍ بالفاء أو ثمّ، فيحتمل وجهين: الأول أن يكون المعنى على استمرار ماضٍ منقطع، وأطلق المضارع بدون تقييد بالماضي حكاية للحال. الثاني: أن يكون الاستمرار مطلقًا، والفعل الماضي أصله مضارع استمراري مطلق عبّر عنه [ص 38] تفنّنًا في إفادة التحقق.
فمن ذلك: البيت الذي أنشده سيبويه كما تقدم في الفائدة السابعة:
ولقد أمُرُّ على اللئيم يسُبُّني … فمضيتُ ثمّتَ قلتُ لا يعنيني
قال البغدادي: “وعبّر بالمضارع حكايةً للحال الماضية كما في الخصائص لابن جنّي، أو للاستمرار التجدّدي. و”مضيتُ” معطوف على
_________
(1) انظر: جمهرة أشعار العرب (304) فهذه القصيدة فيها من “السموط”. ولكن النحاس والتبريزي أثبتا مكانها قصيدة أخرى للنابغة، وهي التي مطلعها:
يا دارَ ميّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ … أقوتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وانظر: ديوان النابغة (202).

(8/177)


“أمرُّ” بمعنى “أمضي”، وعبّر به للدلالة على تحقّق إعراضه عنه” (1).
وقوله: “حكاية للحال الماضية كما في الخصائص لابن جنّي” هو الوجه الأول على أن ذلك استمرار قد انقطع. وقوله: “أو للاستمرار … ” هو الوجه الثاني على أن الاستمرار باقٍ، وما عطف عليه من المضي والقولِ مثله في بقاء الاستمرار، وإنما عدل إلى الماضي لأن الاستمرار يتناول المستقبل وهو محتاج إلى التحقيق، فحققه بالتعبير بالفعل الماضي، فتدبّر.
هذا، والصواب في هذا البيت هو الوجه الثاني، لأن انقطاع الاستمرار مع بقاء القائل حيًّا إنما يكون بتبدّل خلقه من الحلم إلى ضدّه، وهذا ينافي غرضه.
وقال امرؤ القيس في معلقته (2):
وقد أغتدي والطيرُ في وُكناتها … بمنجردٍ قيدِ الأوابدِ هيكل
ثم أفاض في نعت الفرس إلى أن قال:
فعَنَّ لنا سِرْبٌ كأنّ نِعاجَه … عذارى دُوارٍ في مُلاءٍ مذيَّل
وقال قَطَريّ بن الفجاءة (3):
_________
(1) خزانة الأدب (1/ 173). [المؤلف]. طبعة هارون (1/ 358)، وانظر قول ابن جنّي في الخصائص (3/ 332).
(2) من معلقته في الجمهرة ص 87 فما بعدها، وهي أشهر من ذلك. [المؤلف].
(3) القطعة في حماسة أبي تمام بشرح التبريزي. [المؤلف]. (68)، وشرح المرزوقي (1/ 136 – 138).

(8/178)


لايركَنَنْ أحدٌ إلى الإحجامِ … يومَ الوغى متخوِّفًا لحِمامِ
[ص 39] فلقد أراني لِلرّماح دَريئةً … مِن عَن يميني مرّةً وأمامي
حتى خضبتُ بما تحدَّر من دمي … أكنافَ سَرْجي أو عِنانَ لجامي
ثم انصرفتُ وقد أصَبتُ ولم أُصَبْ … جَذَعَ البصيرةِ قارحَ الإقدام

[ص 40] (15) الجملة الواقعة بعد أخرى تنقسم عند النحاة إلى مستأنفة وغيرها. ومعنى استئنافها عندهم هو انقطاعها عن الأولى بالنظر إلى التركيب النحوي، هذا هو الاستئناف النحوي. قال ابن هشام: “ويخصّ البيانيّون الاستئناف بما كان جواب سؤال مقدّر” (1). وهذا يقال له الاستئناف البياني، وإيضاحه كما قال السكّاكي: “أن يكون الكلام السابق بفحواه كالمورد للسؤال، فينزل ذلك منزلة الواقع، ويطلب بهذا الثاني وقوعه جوابًا له، فينقطع عن الكلام السابق لذلك. وتنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة: إما لتنبيه السامع على موقعه، أو لإغنائه عن أن يسأل، أو لئلا يسمع منه شيء، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه … ” (2).
قال عبد الرحمن: هذا وغيره من عباراتهم مع تدبر مواقع هذا الاستئناف في الكلام البليغ يوضح أنه إنما يصلح حيث يكون اقتضاءُ الجملة الأولى للسؤال الذي تكون الثانية جوابًا له اقتضاءً ظاهرًا بحيث يغلب أن من سمع الجملة الأولى متفهّمًا يعرض له في نفسه ذلك السؤال. ولهذا يكثر في القرآن أن تختم الجملة الأولى برأس آية، لأن من شأنها أن
_________
(1) المغني وعليه حواشي الأمير (2/ 46). [المؤلف].
(2) مفتاح العلوم ص 110. [المؤلف].

(8/179)


يوقف عندها، فيستقرّ في نفس السامع ذلك السؤال ويلذعه الشوق إلى جوابه، فيقع الجواب موقعه، ويصير الكلام شبه محاورة. وللمحاورة من اللذة وموافقة النفس ما ليس في السماع المجرّد، فإنّ أحدنا إذا سمع خطبة أو محاضرة لا يجد من اللذة ما يجده للمحاورة مع الفاضل بأن تسمعه، فيعرض لك السؤال، فتسأله، فيجيبك، وهكذا. ولهذا ــ والله أعلم ــ كثر هذا الاستئناف في القرآن، لأن المحاورة الحقيقية لا تمكن فيه.
[ص 41] فمن ادعى في جملة أنها استئناف بياني احتاج أن يثبت أن الجملة التي قبلها يغلب فيمن سمعها متفهمًا أن يقع له السؤال الذي تكون الثانية جوابًا له.
ومع هذا فإنه إذا كانت الثانية بحيث يصحّ صحّةً ظاهرةً ربطُها بالأولى على معنى آخر، فالربط أولى من الاستئناف، لأن الربط هو الأصل الغالب.
16 ــ خبر المبتدأ قد يتعدّد صورةً مثل “هذا حلو حامض” أي مُزٌّ، و”زيد أعسَرُ يَسَرٌ” أي أضبَطُ. وقد يتعدد حقيقةً مثل “زيد شاعر كاتب”، ويجوز في هذا العطف “زيد شاعر وكاتب”. وقد يكون الخبر جملة “ولابد لها من رابط بالمبتدأ، والغالب أن يكون ضميرًا فيها يعود عليه” مثل “زيد سافر أخوه”. وقد يُكتفى بضمير في جملة أخرى مربوطةٍ بالأولى بالفاء كقولهم: “زيدٌ يَطير الذبابُ فيَغضب”، وقول الشاعر (1):
_________
(1) هو ذو الرمّة، انظر ديوانه (460). قال ابن هشام: والبيت محتمل لأن يكون أصله: “يحسر الماء عنه”، أي “ينكشف عنه” المغني (651). وقيل: الرابط (ال) في الماء، لنيابتها عن الضمير، والأصل: ماؤه. انظر الخزانة (2/ 192).

(8/180)


وإنسانُ عيني يحسِرُ الماءُ تارةً … فيبدو وتاراتٍ يجُمُّ فيَغْرَقُ
وحقّق ابن هشام (1) أن هذه الفاء لمحض السببية، ليست بعاطفة، وأنها صيّرت الجملتين جملة واحدة هي الخبر.
قال عبد الرحمن: إذا قلت: “زيد يغضب إذ يطير الذباب” فجملة “يغضب” هي الخبر النحوي، لكنها لا تتمّ إلا بما بعدها؛ إذ ليس المقصود الإخبار عنه بأنه يغضب مطلقًا، فإذا عكستَ وقدّمتَ لغرض “يطير الذباب” فإنها تحتاج إلى رابط يربطها بقولك: “يغضب”، و (إذ) لا تأتي ههنا، لأنّ من شأنها أن يكون قبلها المسبب وبعدها السبب، فلهذا جعل مكانها الفاء لأنها تفيد السببية كـ (إذ)، وهي عكسها في الترتيب: يكون قبلها السبب وبعدها المسبب، فقيل: “زيد يطير الذباب فيغضب”.فلا يحسن أن يقال: إن جملة “يطير الذباب” [ص 42] هي الخبر النحوي، لأنها أجنبية، ولا يمكن أن يقال: إن جملة “يغضب” هي الخبر كما لا يخفى. فتعيَّن أن يقال: إن جملة “يطير الذباب فيغضب” هي الخبر كأنه قيل: “زيدٌ طيرانُ الذباب يُغْضِبُه”. ونستطيع أن نقول: إن “يطير الذباب” دخلت في الخبرية بشفاعة الفاء.
هذا، وكما يتعدد الخبر المفرد، كذلك يتعدد الخبر الجملة. وتكون تارة من باب “حلو حامض” و”أعسر يسر”، كقولك: “هذا الرمان في طعمه حلاوة، وفيه حموضة”، و”زيد يعمل بيمينه، ويعمل بيساره”. وتارةً من باب “شاعر وكاتب”، كما تقول: “زيد يشعر ويكتب”، و”زيد أبوه مسافر، وعمه مقيم”.
والعطف هنا هو الجادَّة في النوعين، وكل جملة من الجمل المتعاطفة
_________
(1) مغني اللبيب مع حواشي الأمير (2/ 700). [المؤلف]. طبعة دار الفكر (555).

(8/181)


تحتاج إلى رابط. وقد يجيء بعضها مثل “يطير الذباب فيغضب”، كما تقول: “زيد يؤذي الجليس، ويسيء إلى العشير، ويطير الذباب فيغضب”.ولما دخلت هنا “يطير الذباب” في الخبرية بشفاعة الفاء استحقّت العطف.
هذا، وقد عرفت بدل البعض وأنه يحتاج إلى ضمير يربطه بالمبدل منه، وإنما أنبّهك على أنه قد يتعاطف بعضان فأكثر، فيكون ذلك شبيهًا بالخبر في قولك: “هذا حلو حامض”، وذلك كقولك: “أعطيته الدار ربعها وثمنها” كأنك قلت: ثلاثة أثمانها.
واعلم أن الجملة المفسّرة قد تشبه بدل البعض، فإذا قلت: “أحسنت إلى زيد: علّمته”، فجملة “علّمته” مفسرة لقولك: “أحسنت إلى زيد”. وتحتاج المفسّرة هنا إلى ثلاثة أمور: الأول أن يكون فيها معنى الإحسان. الثاني كونها من فعل المتكلم. الثالث علاقتها بزيد.
وقد تتعدد الجمل فتكون شبيهة بتعدد بدل البعض أو بتعدد الجمل الخبرية [ص 43] التي هي من باب “حلو حامض”. وذلك كقولك: “أحسنت إلى زيد كثيرًا: ربيّته، وأدّبته، وعلّمته، وموّلته”، فتتعاطف وتكون كل منها بحيث تصلح وحدها للتفسير كما ترى.
وقد تجيء جملة لا تصلح للتفسير، ولكنها تدخل فيه بشفاعة الفاء الرابطة لها بجملة أخرى صالحة له، على حدّ ما تقدم في الجملة الخبرية. تقول: “أحسنت إلى زيد كثيرًا: ربيّته، وعلّمته، وخاصم أقوى منه فنصرته”. ونظيره: “قد علمت كيف فعل الملك ببني فلان: حبسهم، وأخافهم، وشكوتهم فعاقبهم”. فقولك: “شكوتهم” لا تصلح للتفسير، ولكنها دخلت فيه بشفاعة الفاء، فعطفت بالواو كما رأيت.

(8/182)


[ص 44] فصل
قال المعلِّم رحمه الله تعالى: “ظنّوا أنّ الخطاب في السورة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يمكنهم تأويل {تَرْمِيهِمْ} إلى الخطاب؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يرميهم، ولكنا بيّنا في الفصل الأول أن الخطاب ههنا إلى أفراد أهل مكة، وكلمة {تَرْمِيهِمْ} حال من المجرور في (عليهم)، أو جملة مستأنفة. والمعنى على الحالية يكون: ألم تر أيها المخاطب كيف أرسل ربك عليهم طيرًا أبابيل حالَ أنت ترميهم بالحجارة؟ وعلى الاستئناف يكون: كنت ترميهم بحجارة، فجعلهم الربّ كعصف مأكول … فعسى أن يتوهم أن الحال إنما تبيّن هيئة الفاعل أو المفعول، والضمير في (عليهم) إنما هو مجرور لا فاعل ولا مفعول. فنقول: إنما مراد النحويين أن الحال يبين هيئة الشيء عند حدوث أمر، والحدوث يعبّر عنه بالفعل، فإذا وجدوا الحال عن غير الفاعل أو المفعول فزعوا إلى تقديرات شتى”.
ثم ذكر شواهد على مجيء الحال من المجرور، ثم قال: “فعلى تأويل {تَرْمِيهِمْ} إلى الاستئناف عسى أن يتوهم أن مقتضى المعنى أن يؤتى بالماضي، و {تَرْمِيهِمْ} مضارع، فنقول: نعم، ولكن {تَرْمِيهِمْ} أصله: “كنت ترميهم”، وحذف الأفعال الناقصة قبل المضارع أسلوب عام، وله مواقع لا يحسن فيها إلا الحذف، كما بينّاه في كتاب الأساليب … قال تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (1). أي فلو كنت هناك أيها المخاطب لظللت ترى
_________
(1) وقع في رسالته: “وسخرنا” سهوًا. والآية في سورة الحاقة (69/ 7). [المؤلف].

(8/183)


القوم الخ. وقال متمم بن نويرة (1):
تقول ابنةُ العمريِّ مالك بعدَ ما … أراك قديمًا ناعمَ الوجهِ أفرعا
[ص 45] أي بعد ما كنت أراك.
وقال خِداش بن زهير بن ربيعة (2):
قِفارٍ وقد ترعى بها أمُّ رافع … مَذانبَها بين الأسِلَّةِ والصَّخر
أي وقد كانت ترعى.
وقال أعشى بكر بن وائل (3):
فلئن شطَّ بي المزارُ لقد أُضْـ … ـحي قليلَ الهموم ناعمَ بال
أي لقد كنتُ أضحي.
وقال القُطامي (4):
كانت منازلَ منّا قد نحُلُّ بها … حتى تغيّر دهرٌ خائنٌ خَبِلُ
أي كنا نحلّ بها.
وقال الحطيئة (5):
تركتَ المياهَ من تميم بلاقعًا … بما قد تَرى منهم حُلُولًا كَراكِرا
_________
(1) جمهرة أشعار العرب (753)، وسيأتي الكلام على روايته.
(2) جمهرة أشعار العرب (524).
(3) جمهرة أشعار العرب (325)، وديوان الأعشى (53).
(4) جمهرة أشعار العرب (805)، وديوان القطامي (193).
(5) ديوان الحطيئة (269).

(8/184)


أي بما قد كنتَ ترى”.
(1) قال عبد الرحمن: قوله: “ظنوا … فلم يمكنهم … ” يعطي أن أهل العلم يرون أنّ هناك مانعًا قويًّا من رمي الطير، ولكنهم اضطرّوا إلى قبوله إذ لم يجدوا مساغًا للتأويل. والمعلِّم رحمه الله يرى أن هذا حسن ظنّ بأهل العلم، ولو فكّر لَعلِم أنه سوء ظنّ بهم؛ فإننا قد أسلفنا إبطال ما ذكره المعلِّم رحمه الله تعالى من الشبهة، وبيّنّا أنه لا مانع إلّا أن يستبعد رجل رمي الطير من جهة مخالفته للعادة، وإنما يقع هذا لمن ضاق صدره من سخرية الملحدين بالخوارق، وانتفخ سحره من تهاويلهم، ولم يفزع إلى ما يعلمه من قدرة الله عزَّ وجلَّ وما قصّه في كتابه من الخوارق، وما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها؟ ولا حقّق النظر في المعقول والعلوم الكونية، فينكشف له أنه ليس فيها شبهة قوية تنفي الخوارق، بل فيها ما يقضي بصحتها ووقوعها.
[ص 46] (2) وقوله: “ولكنّا بينّا في الفصل الأول أن الخطاب ههنا إلى أفراد أهل مكة” فيه أمران:
الأول: أنا قد أسلفنا أنه رحمه الله قال أولًا: “اعلم أن الخطاب ههنا متوجه إلى جميع من رأى هذه الواقعة أو أيقن بها من طريق تواتر الحكاية”، وقال في موضع آخر: “فإنه لا يخاطب به إلا فيما لا يخفى على أحد، كأنه رآه كل من يخاطب به وإن لم يره بعينه”.
ووافقته في الجملة على هذا، وأوضحت أن السورة خطاب لكل من يصلح للخطاب إلى يوم القيامة، وأن لا وجه لتخصيص الخطاب بأهل

(8/185)


مكة. وعلى هذا فلو كان {تَرْمِيهِمْ} خطابًا مبنيًّا على الخطاب في أول السورة كان معناه نسبة الرمي إلى كل أحد إلى يوم القيامة، وهذا واضح البطلان. فإن نسبة العلم بتلك الواقعة الشهيرة إلى كل أحد حسن مقبول، على ما تقدم بيانه، فأما نسبة الرمي إلى كل أحد فلا وجه له.
الأمر الثاني: أنه على فرض صحة ما رجع إليه المعلِّم رحمه الله من أن الخطاب في أول السورة لكل أحد من أهل مكة عند نزول السورة، فبناء الخطاب في {تَرْمِيهِمْ} على هذا لا يستقيم أيضًا؛ إذ على فرض وقوع الرمي من أهل مكة، فليس كل أحد ممن يصلح للخطاب عند نزول السورة ممن رَمَى، بل لعله لم يبق ممن كان صالحًا للرمي عند الواقعة إلا أفراد قليل أدركوا نزول السورة. [ص 47] فإن الذي يصلح للرمي في القتال لابدّ أن يكون سنّه على الأقل نحو خمس عشرة سنة، فمن بقي من هؤلاء إلى نزول السورة يكون سنه حينئذ بين ستين سنة إلى تسعين سنة. وذلك بالنظر إلى الاختلاف في عام الواقعة، فالمشهور أنها كانت في عام المولد، وقيل: “إنها كانت قبلُ بعشر سنين، أو بخمس عشرة سنة، أو بثلاث وعشرين سنة، أو بثلاثين سنة، أو بأربعين سنة، أو بسبعين سنة، الأقوال المذكورة في كتب السير” (1).
والقولان الأخيران ظاهرا البطلان، وما قبلهما محتمل، فقد ذكر المؤرخون أنه بعد هلاك أبرهة تملّك على اليمن ابنه يكسوم، ثم ابنه الآخر مسروق، ثم كانت حملة الفرس على اليمن مع ابن ذي يزن. فمنهم من لم
_________
(1) روح المعاني (9/ 455). [المؤلف].

(8/186)


يبيّن مدة ملك يكسوم ومسروق كابن إسحاق (1)، ومنهم من بيّنها، ففي “الأغاني” (2) أنها إحدى وثلاثون سنة، وفي “مروج الذهب” (3) أنها ثلاث وعشرون.
ولم أر عن أحد إنكار ملكهما أو زعم أنه إنما كان بضعة أسابيع أو أشهر أو سنة أو سنتين. وإنما يرى القائلون بالمشهور أن ملكهما امتدّ تلك المدّة بعد المولد النبوي حتى كانت حملة الفرس مع ابن ذي يزن بعد المولد بتلك المدة: بثلاثين أو ثلاث وعشرين سنة.
ويخالفه ما أخرجه “البيهقي وأبو نعيم وابن عساكر من طريق عفير بن زرعة بن سيف بن ذي يزن عن أبي أبيه قال: لما ظهر سيف بن ذي يزن على الحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسنتين، أتاه وفود العرب لتهنئته، وأتاه وفد قريش فيهم عبد المطلب … وأخرج أبو نعيم والخرائطي وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثله سواء” (4).
وقضية هذا أن تكون حملة الحبشة (5) على اليمن عام المولد أو بعده بقليل، فإن فيه أن وفود العرب [ص 48] للتهنئة كان بعد المولد بسنتين، وإنما
_________
(1) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف (1/ 54). [المؤلف].
(2) (16/ 72). [المؤلف].
(3) (2/ 80 – 82).
(4) الخصائص الكبرى للسيوطي (1/ 82). [المؤلف].
(5) كذا في الأصل، وهو سبق قلم، والمراد: حملة الفرس.

(8/187)


يكون ذلك بعد تمام الغلبة على الحبشة واستقامة الأمر. فيؤخذ منه تقدم الحملة قبل ذلك بسنة أو سنتين. وقضية هذا، مع القول بأن يكسوم ومسروقًا ملكا مدّةً لها قدر، أن تكون واقعة الفيل قبل المولد بمدة لها قدر.
وفي “دائرة المعارف الإسلامية” من مقالة لبعض كتاب الإفرنج: “وعام هذا الحادث الذي يعرف بعام الفيل … هو عام (570 م)، كما تقول المصادر المتأخرة. ويعتبر هذا العام في العادة عام مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن نُلدِكه قد اعترض بحقٍّ على ما تقدّم؛ لأننا إذا قبلنا ذلك لما كانت هناك بين حملة أبرهة على مكة وغزو الفرس للبلاد العرب الجنوبية (اليمن) عام 570 م فسحة من الوقت يحكم فيها أبرهة وأولاده” (1).
والمقصود هنا أن الذين أدركوا الواقعة وكانوا بحيث يقع منهم في العادة أن يقاتلوا برمي ونحوه لم يبق منهم عند نزول السورة إلا قليل في حال الشيخوخة. وغالب الموجودين عند نزول السورة ممن لم يدرك الواقعة، أو أدركها صغيرًا، فكيف يصح خطاب كل واحد من الموجودين بنسبة الرمي إليه؟
[ص 49] فإن قيل: يمكن أن يحمل قوله: {تَرْمِيهِمْ} على معنى: يرميهم قومك، فقد خاطب الله تعالى اليهود بعد بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ … وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ
_________
(1) دائرة المعارف الإسلامية (1/ 62). [المؤلف].

(8/188)


فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [ص 50] ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} الآيات [البقرة: 47 ــ 51]. ومثل هذا كثير في الكلام.
قلت: الجواب عن هذا من أوجه:
الأول: أن هذا الاستعمال مجاز، إنما يحمل الكلام عليه حيث ظهرت قرينته كما في الآيات (1). وليست في قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} قرينة ما، بل الظاهر الواضح ــ إن لم نقل المتيقن ــ أنه ليس بخطاب، بل المعنى: ترميهم تلك الطير.
فإن قيل: كانت القرينة قائمة عند المخاطبين بالسورة، وهم الذين كانوا من قريش في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم كانوا يعلمون أن آباءهم رموا، وأنّ الطير لم ترمِ.
قلت: هذه دعوى فارغة، فقد تقدم في فصل (هـ) من القسم الأول الروايات عن الصحابة والتابعين بإثبات رمي الطير وأنه لم يكن من أهل مكة قتالٌ ما. وتقدم قول المعلم: “قصارى أمره أن يكون إما ممن رأى نزول الحجارة من السماء وظنّ من بعيد أنها كانت من الطير … ” وقوله: “ويمكن أيضًا أن بعض المشاهدين أنفسهم لم يفهموا إلا أن الطير رمتهم … فأيقنوا الرمي من السماء، ولم يروا في السماء إلا طيرًا أبابيل، فنسبوا هذا الرمي إليهن”.
_________
(1) انظر الفائدة الـ … من الذيل. [المؤلف]. كذا في الأصل دون رقم الفائدة، وانظر ما سبق في (ص 158). وقال: “من الذيل” لأنه بدا له فيما بعد أن يؤخر الفوائد السابقة إلى آخر الرسالة.

(8/189)


وذكرت هناك قول نفيل وكان مع الحبشة:
حمدتُ الله إذ عاينتُ طيرًا … وخفتُ حجارةً تُلقَى علينا
وقوله بعد ذكر الطير:
يرميننا مقبلاتٍ ثم مدبرةً … بحاصبٍ من سَواء الأفقِ كالمطر
وأنه إن كان هناك اشتباه، فقد اشتبه الأمر على نفيل ــ مع أنه ليس ببعيد، بل هو مع الحبشة حتى خاف أن تقع عليه الحجارة التي يرى أن الطير تلقيها كما مرّ ــ والتابعين وكذلك على الصحابة. فلو كان اشتباه لكان عامًّا ولكان ينبغي أن يكشفه القرآن، لا أن يزيد الناس جهلًا إلى جهلهم.
والمقصود هنا أنّ ما ادعى من علم أهل مكة في [ص 51] (1) وقت نزول السورة بأن الطير لم ترم، ليس بصحيح. وإذا كان الأمر كذلك، فاستعمال المجاز بدون قرينة ظاهرة ضرب من الكذب يتنزه القرآن عنه.
فإن قيل: هناك قرينة أخرى، وهي استحالة أو بعد أن يقع رمي الطير.
قلت: الاستحالة العقلية لا يمكن ادعاؤها، والعادية إنما تصرف عن الحقيقة في مواضع ليس هذا منها. وذلك كأن يكون المتكلم لا يجوّز خرق العادة، أو يكون المخاطب كذلك والمقصود خطابه بما يعترف به، أو تكون القصة عادية محضة لا تناسب الخرق كما قصّه الله عزَّ وجلَّ من قول إخوة يوسف: {يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا
_________
(1) بين ص 50 و 51 صفحتان لم يرقمهما المؤلف رحمه الله لكونهما غير متعلقتين بالسابق واللاحق.

(8/190)


لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 81 ــ 82]. فإنه لا داعي ههنا إلى أن يحمل قولهم على سؤال عرصة القرية وجدرانها، لأن سؤال الناس يكفي، بل لو قالوا: سل العرصة والجدران، لقد يكون ذلك موهمًا أنهم لا يثقون بأن يشهد لهم أهل القرية، ولكان هذا مما يريب في صدقهم، وذلك خلاف مقصودهم.
وليس الأمر في سورة الفيل كذلك، فإن القرآن يثبت لله عزَّ وجلَّ القدرة على كل شيء، ويقصّ كثيرًا من الخوارق، كقلب العصا حيَّةً (1)، وفلق البحر حتى كان كل فرق منه كالطود العظيم (2)، وإنباع اثنتي عشرة عينًا من حجر يضربه عصا (3)، وحمل المرأة وولادتها بدون أن يمسّها بشر (4)، وإحياء الموتى (5)، وأمثال ذلك. والعرب كانوا يؤمنون بقدرة الله عزَّ وجلَّ وبالخوارق، ويرون الواقعة منها كما تقدم في أشعارهم.
[ص 52] والواقعة تناسب الخارقة، فإنّ جبّارًا ساق جيشًا عظيمًا ليهدم أعظم بيت لله عزَّ وجلَّ في أرضه، وكان جيشه أكثر من أنصار ذلك البيت بأضعاف مضاعفة في العَدد والعُدد. وأراد الله عزَّ وجلَّ آية تزجره فلم ينزجر،
_________
(1) سورة طه (20/ 20). [المؤلف].
(2) سورة الشعراء (26/ 63). [المؤلف].
(3) سورة البقرة (2/ 60). [المؤلف].
(4) سورة مريم (19/ 16 – 33). وفيها الكلام في المهد وغيره من الآيات. [المؤلف].
(5) سورة البقرة (55 – 56 و 72 – 73 و 242 و 259 – 260). سورة آل عمران (3/ 49). سورة المائدة (5/ 110). وفيها خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الآيات. [المؤلف].

(8/191)


وهي حبس الفيل، كما سلف بيان ذلك كله، وتباشير الكلام وبوارقه تؤذن بالخارقة كما تقدم في تفسير السورة.
وبالجملة، فليس ههنا قرينة ما تصرف الكلام عن رمي الطير، فتحمل على تكلف الخطاب المجازي، بل القرائن الحالية والقالية كلها تؤيد رمي الطير بعضها بالخصوص، وبعضها بالدلالة على الخارقة. والمعلِّم ــ عفا الله تعالى عنّا وعنه ــ اطّرح الأول، وحاول التخلص من الثاني بافتراض خارقة أخرى، هي الرمي من السماء. والسورة والواقعة تستغيثان: دع لنا خارقتنا، وخلاك ذمّ:
عذيريَ ممّن قام عنّي محاميًا … أقرَّ بداري وادّعى غيرَها ليا
ألا ليس لي في غير داريَ حاجةٌ … فحَسْبيَ نَصْرًا منك تركي وداريا
الوجه الثاني: أن المعروف استعمال المجاز المذكور في الخطاب بلفظ الجمع، كما في الآيات، ولم أره بلفظ الواحد. وهو أن النسبة إلى كل فرد في نحو “ولو ترى” أظهر في العموم منها في نحو “فعلتم”. والعموم في نحو “فعلتم” يضعف إذا كان الخطاب لقبيلة وقوم، لكثرة ما يأتي بمعنى “فعل بعضكم”، أو “فعل أسلافكم”.
فإن قلت: قد أسلفت أن معنى قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ}: “قد علمت”، وأنه لكل من يصلح للخطاب، وأنه لا يقدح فيه أن مِن الأفراد مَن لم يعلم.
قلتُ: ذاك لأن في الكلام [ص 53] هناك مبالغة، وهو كناية عن ظهور الواقعة واشتهارها، كما تقدم، ولا يتأتى مثل ذلك في “ترمي” على زعم أنه خطاب.

(8/192)


الوجه الثالث: أن نسبة ما وقع للآباء إلى الأبناء إنما يحسن فيما تتوارث نتيجته، فيكون بوقوعه للآباء كأنه وقع لأبنائهم، كأن يكون فيه فخر أو عار أو استحقاق شكر أو نحو ذلك. تقول لشيباني: “أنتم حُماةُ الذِّمار يومَ ذي قار”. ويقول من ينتسب إلى الأنصار لمن ينتسب إلى المهاجرين: “آويناكم وواسيناكم” ونحو ذلك.
وذلك أن يوم ذي قار (1) فخر لكل شيباني إلى يوم القيامة، وإذا ثبت الفخر لمن لم يشهده منهم، فكأنه شهده. وهكذا شكر الأنصاري حق على المهاجري إلى يوم القيامة. وقس على ذلك. وأنت إذا تدبرت آيات البقرة في خطاب بني إسرائيل التي تقدّم التمثيل به (2) لهذا الأسلوب، وجدتها مطابقة لهذا المعنى.
ولو قيل لرومي أو فارسي: أنتم الذين كتب إليكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوكم إلى الإسلام، لرأيت كلامًا يمجُّه السمع وينفر عنه الطبع، حتى يقال للرومي: فأكرمتم رسوله، وحفظتم كتابه؛ وللفارسي فمزَّقتم كتابه؛ فإذا بالكلام قد نفخت فيه الروح، وعادت الأسماع تعطف عليه، والطباع تعتذر إليه! ما ذاك إلا لأن حفظ الكتاب وإكرامه مكرمة يبقى فخارها، وتمزيقه مسبّة يتوارث عارها.
وإذا عرفت هذا، فانظر في رمي أهل مكة لأصحاب الفيل [ص 54] بالحجارة على فرض وقوعه، لا تجد فيه ما يسوّغ نسبة الرمي إلى أبنائهم. أما
_________
(1) انظر حديث يوم ذي قار في نقائض جرير والفرزدق (638 – 648).
(2) كذا في الأصل، والمقصود: بها.

(8/193)


الفخر فإن العرب لا ترى رمي العدوّ بالحجارة فخرًا، بل قال الأعشى (1):
ولا نُقاتل بالعِصِيـ … يِ ولا نُرامي بالحجاره
مع أن المقام ليس مقام مدح ولا ذم.
فإن قلتَ: قد يقال إن الخطاب في {تَرْمِيهِمْ} جاء تبعًا للخطاب في {أَلَمْ تَرَ}، فيقبل هذا بشفاعة ذاك.
قلتُ: إنما يسوغ هذا لو كان الخطاب في {أَلَمْ تَرَ} من هذا الأسلوب، وهو أن ينسب إلى الأبناء ما وقع من الآباء، وليس كذلك، فإن {أَلَمْ تَرَ} بمعنى “قد علمت”، والعلم ثابت للمتأخر نفسه.
فإن قيل: فاجعل الرؤية بصرية على ظاهرها، فيكون المعنى: “قد أبصرت”، كما في قوله في آيات البقرة التي تقدم التمثيل بها: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50].
قلتُ: هذا إنما يقوم على دعوى أن يكون قوله {أَلَمْ تَرَ} من هذا الأسلوب، أعني أن ينسب إلى الأبناء ما وقع للآباء، فيرِد عليه الوجهان السابقان، وثالث وهو مخالفته لظاهر ارتباط السورة بما قبلها ببنائها على الوعيد والتهديد.
[ص 55] واعلم أنّ المعلِّم رحمه الله إنما اعتنى بتطبيق ما قاله من الخطاب في {تَرْمِيهِمْ} على الخطاب في {أَلَمْ} لأن السورة كلام واحد،
_________
(1) الخزانة (1/ 83). [المؤلف]. طبعة هارون (1/ 173)، وانظر: ديوان الأعشى (209).

(8/194)


وما بعد الآية الأخرى تفسير لها. والكلام الواحد إذا كان في أوله خطاب، ثم تلاه خطاب آخر، فلا يكون الثاني إلا للمخاطب بالأول، إلّا أن يكون الثاني أعمّ من الأول، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، أي إذا طلقت أنت أو أحد من أمتك.
ومثلها قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8 ــ 9]. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مكلّف بالإيمان بأنه رسول الله. والتعزير هنا: النصر، كما روي عن جابر مرفوعًا (1). والتوقير: التعظيم، كما روي عن قتادة وغيره (2). والضميران عائدان إلى الله عزَّ وجلَّ، كما هو الحال في قوله: {وَتُسَبِّحُوهُ}.
وفي الآية وجوه أخرى تنفي ما توهمه بعضهم من مخالفة القاعدة المذكورة (3).
فأما قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 ــ 14]، فالخطاب في قوله: {فَأْتُوا} وما بعده كله للكفار، والمعنى كما هو ظاهر:
_________
(1) أخرجه ابن عدي، وابن مردويه، والخطيب، وابن عساكر في تاريخه. قاله السيوطي في الدر المنثور (7/ 516) ط دار الفكر.
(2) المرجع السابق، وتفسير الطبري (21/ 251) ط دار هجر.
(3) راجع: روح المعاني (8/ 143).

(8/195)


“فإن لم يستجِب لكم الذين تدعونهم من دون الله”. ومن زعم أن الخطاب في قوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} للمسلمين على معنى: “فإن لم يستجب لكم الكفار”، فقد غفل غفلةً شديدةً. وانظر القاعدة في طراز المجالس للخفاجي (1).
والمقصود أن المعلِّم رحمه الله موافق على القاعدة المذكورة، ولذلك اعتنى بتطبيق الخطاب في {تَرْمِيهِمْ} على الخطاب في {أَلَمْ تَرَ}، واعتذر عمن تقدمه القائلين بأن المعنى: “ترميهم تلك الطير” بأنهم رأوا أن الخطاب في {أَلَمْ تَرَ} للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يمكنهم أن يحملوا {تَرْمِيهِمْ} على الخطاب. فإذا تقرر هذا، وظهر ما تقدم أنه لا يمكن انطباق الخطاب المزعوم في {تَرْمِيهِمْ} على الخطاب في {أَلَمْ تَرَ}، ثبت بذلك بطلان الخطاب المزعوم في {تَرْمِيهِمْ}.
[ص 56] وإنما يمكن التطابق بوجهين: الأول: زعم أن المعنى في {أَلَمْ تَرَ}: “ألم تر آباؤكم”، وفي {تَرْمِيهِمْ}: “يرميهم آباؤكم”. وقد مرّ إبطاله.
الثاني: زعم أن المعنى: “ألم تر يا أبا لهب … ترميهم يا أبا لهب” وهذا لم يقل به أحد، ولم يقل به المعلم، وإن أشار إليه، وسبق في مقدمة القسم الثاني ردّه من كلامه. ويردّه أيضًا إخلالُه بارتباط السورة بما قبلها، ومنافاته للظاهر الذي هو … (2) قطعًا لا يخرج عنها إلا بحجة واضحة؛ وأنه ليس في
_________
(1) ص 16 – 20. [المؤلف].
(2) هنا كلمة في طرف الورقة ذهب بها البلى.

(8/196)


القرآن كلام مستأنف ابتدئ بخطاب كافر، وأنه يلزمه أن يكون رمي أبي لهب هو الذي به جُعل أصحاب الفيل كعصف مأكول، وغير ذلك مما لا حاجة للإطالة به. ويعرف كثير منه مما تقدّم ومما سيأتي إن شاء الله تعالى. وكذا إذا جعل بدل أبي لهب شخص آخر كالعاص بن وائل أو الوليد بن المغيرة.
الوجه الرابع: أن التركيب على زعم الخطاب لا يجري على قانون العربية على ما يأتي قريبًا إن شاء الله.
[ص 57] (3) قوله: “وكلمة {تَرْمِيهِمْ} حال من المجرور في {عَلَيْهِمْ} “، وقوله: “فعسى أن يتوهم أن الحال … “.
قال عبد الرحمن: الذي يُدرس في الهند من كتب النحو غالبًا: “كافية ابن الحاجب”، وابنُ الحاجب حَدَّ الحالَ بقوله: “الحال ما يبيّن هيئة الفاعل أو المفعول به لفظًا أو معنىً”. والمجرور بالحرف مفعول به في المعنى، فهو داخل في الحدّ، فلا حاجة لما أطال به المعلِّم رحمه الله من الشواهد. وفوق ذلك فإن أكثر النحاة يحدُّون الحال بغير هذا الحدّ، فقول المعلم: “إنما مراد النحويين … فإذا وجدوا الحال عن غير الفاعل والمفعول فزعوا إلى تقديرات شتى” يحتمل أمرين: الأول أن يكون تساهل فأطلق “النحويين” ومراده بعضهم. الثاني أن يكون إنما راجع من كتب النحو كافية ابن الحاجب وظنّ أنّ الحدّ المذكور فيها متفق عليه بين النحويين. فليته سكت عن هذا، ونظر إلى الوجوه الأخرى التي تبطل الحالية هنا:
الوجه الأول: ما تقدم من إبطال الخطاب.

(8/197)


[ص 58] الوجه الثاني (1): أن الحال لا بد أن تقارن عاملها في الزمان (2). وتقدم في فصل (هـ) من القسم الأول أنه لو كان إرسال الطير إنما هو لأكل جثث الهلكى لكان الظاهر أن يتأخر إرسالها عن رمي أهل مكة، على فرض وقوعه، فعلى فرض تأخره تنتفي المقارنة.
الوجه الثالث: أن {تَرْمِيهِمْ} يلي {طَيْرًا أَبَابِيلَ}، والأصل والظاهر أنه لها حالًا منها أو نعتًا لها (3). فلا يجوز أن يكون حالًا من الهاء في {عَلَيْهِمْ} متعلّقًا بالخطاب في أول السورة، إذ لا قرينة على ذلك، بل القرائن القوية تؤيد رمي الطير، وقد تقدم بيان ذلك.
[ص 59] الوجه الرابع: أنّ {تَرْمِيهِمْ} لو كان خطابًا على أنه حال من الهاء في {عَلَيْهِمْ} لكان جاريًا على غير من هو له، وإذن لوجب على قانون العربية أن يقال: “ترميهم أنت” (4).
الوجه الخامس: أنني أشكّ في صحة “مررنا بزيد تحدثه” أو “تحدثه أنت”، وإن صحّ فهو ضعيف. وهو نظير {تَرْمِيهِمْ} حالًا من الهاء في
_________
(1) كتب المؤلف أولًا: “الوجه الثاني: تقدم في الفائدة العاشرة أنّ الحال … “. ثم حذف قوله: “تقدم في الفائدة العاشرة” من المتن وأثبته في الحاشية الآتية. ونحوه في الحواشي التالية.
(2) انظر: الفائدة العاشرة من الفوائد الآتية في الذيل. [المؤلف]. انظر التعليق في (ص 189).
(3) انظر: الفائدة الحادية عشرة من الذيل. [المؤلف]. سقطت هذه الفائدة من الأصل كما سبق.
(4) انظر: الفائدة الثانية عشرة. [المؤلف]. ذهب الخرم بهذه الفائدة.

(8/198)


{عَلَيْهِمْ} (1).
الوجه السادس: أنه لو كان المعنى: “ترميهم أنت” لكان جملة {تَرْمِيهِمْ} مستقلة عما قبلها ومناسبة لها. وهذا من التوسط بين الكمالين، وهو من مواضع الوصل. فحقه أن يقال فيه: “وأنت ترميهم”، ويتأكد ذلك هنا بدفعه الإلباس (2). فلما قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} تعيّن أن يكون المراد: ترميهم تلك الطير.
فإن قيل: قد ذكروا أن الحال قد تجيء مقدرة بأن تكون متأخرة عن عاملها، ومثّلوا له بقول الله عزَّ وجلَّ: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. قالوا: التقدير: ادخلوها مقدَّرًا خلودكم.
قلت: حاصله أنّ قوله: {خَالِدِينَ} مجاز، لما كانوا مقطوعًا بخلودهم في المستقبل أطلق عليهم {خَالِدِينَ} في الحال من باب تنزيل ما عُلِم أنه سيقع، فإنما حاصل الخلود الاستمرار على الحال الحاصلة بالدخول. ولا يتأتى مثل هذا في {تَرْمِيهِمْ}.
أيضًا فقد يحتمل أن يكون قوله: {فَادْخُلُوهَا} ضمّن معنى “اسكنوها”. وعلى هذا فالمقارنة أبين، لأن معنى الخلود فيها هو إنما هو دوام سكناها.
فإن قيل: فقد ذكروا من أمثلة الحال المقدر قول الله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
_________
(1) انظر: الفائدة الثالثة عشرة. [المؤلف].
(2) انظر: الفائدة الرابعة عشرة. [المؤلف].

(8/199)


مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]، فإن التحليق والتقصير متأخر عن الدخول. ولا يتأتى فيه ما ذكرته في {خَالِدِينَ}.
قلت: قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى نفسه وأصحابه داخلين المسجد الحرام محلقين ومقصرين، أي مع المقارنة الحقيقية. ويكون تأويل هذه الرؤيا بإحدى دخلاتهم المسجد الحرام بعد إتمامهم عمرة القضاء، فإنهم أتمّوا العمرة فحلقوا وقصروا، ثم كانوا يدخلون المسجد بعد ذلك (1).
على كل حال، فالأصل في الحال هو المقارنة الواضحة، وإنما يحمل على خلاف ذلك عند تعذر الأصل. ولم يتعذر الأصل في قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ}، والله الموفق.
[ص 60] قوله: “وعلى الاستئناف يكون: كنت ترميهم”، وقوله: “عسى أن يتوهم أن مقتضى المعنى أن يؤتى بالماضي و {تَرْمِيهِمْ} مضارع” إلى آخر ما تقدم.
قال عبد الرحمن: إن أراد بالاستئناف: الاستئناف البياني، وهو ما يكون جوابًا لسؤال ينشأ من الجملة السابقة، فلا يصلح هنا على جعل {تَرْمِيهِمْ} خطابًا. فإن السامع إذا سمع قوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} ولم يكن يعلم القضية، إنما يقع في نفسه السؤال عما فعلت بهم الطير. فإنه يفهم من أول السورة إنزال الله تعالى بالقوم عذابًا شديدًا، ويفهم من إرسال
_________
(1) انظر ما سبق في (ص 158).

(8/200)


المعدّى بـ (على) العذاب، وقد تقدم بيان ذلك (1)، فيفهم أن الطير أرسلت لعذابهم، فيقع في نفسه السؤال عما فعلت بهم الطير. فكيف يسأل عما فعلت بهم الطير، فيجاب بقوله: “رميتهم أنت” أو “كنت ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول”؟ ليس الشمس رابعة النهار أنه لو كان هنا استئناف بياني لوجب أن يكون المعنى: “ترميهم تلك الطير” ليكون جوابًا للسؤال المذكور؟ وإن كان ذلك ضعيفًا من وجه آخر، كما تقدّم في تفسير السورة.
فإن قيل: المعلِّم رحمه الله يرى أن إرسال الطير كان لأكل جثث الهلكى، ويرى أن قوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} يُشعر بذلك على ما جرت به العادة من تحليق الطير على رؤوس الجيش. وإذا فهم السامع ذلك أوشك أن يسأل: “وكيف هلكوا؟ “، فيجاب بقوله: “كنت ترميهم … “.
قلت: قد تقدم إبطال إشعار الآية بأكل الطير للجثث. وحسبك في إبطاله أنه لم يشعر بذلك أحد من الناس منذ نزلت. [ص 61] ولو شئت لحلفت بين الركن والمقام أن المعلِّم رحمه الله لم يشعر بذلك منها، وإنما كسعها به لاستبعاده رمي الطير، وقد تقدّم ما فيه. والاستئناف إنما يصلح حيث كان السؤال مما يشعر به كل سامع متفهم.
وعلى فرض توقع السؤال المذكور فممّن؟ أمن الذين رموا؟ كلّا، أم من غيرهم؟ فكيف يصح أن يجاب بقوله: “كنت ترميهم”.
_________
(1) انظر (ص 133).

(8/201)


فإن قيل: قد يحمل قوله: {تَرْمِيهِمْ} على معنى “يرميهم قومك”، على ما تقدم في الخطاب، وعليه فقد يمكن السؤال المذكور من كثير من أهل مكة الموجودين عند نزول السورة، لأنهم لم يدركوا الواقعة.
قلت: قد تقدم ردّ هذا التأويل في الكلام على الخطاب. ومع ذلك فهو يقتضي أن أهل مكة لم يكونوا يعرفون كيف هلك القوم. فإنهم كانوا يرون أنهم هلكوا برمي الطير كما تقدم غير مرّة. ولو كان من آبائهم رمي وكان هلاك القوم به في الظاهر لما خفي عليهم، مع ما جرت به عادتهم من حفظ وقائعهم.
والضربة القاضية على هذا أنّ أول السورة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}، ومعناه كما يعترف به المؤلف: “قد علمت كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل علمًا مساويًا لعلم المشاهد”. فإن لم يكن أهل مكة عند نزول السورة عالمين بكيفية الواقعة، فليت شعري مَنْ عسى أن يكون عالمًا بها حتى يخاطَب بما ذكر، فتدبَّرْ.
فإن قيل: إنّك جوَّزت الاستئناف على معنى “ترميهم الطير”، وهذا الوجه يرد عليه أيضًا.
قلتُ: إنّما جوَّزتُه على أن يكون السؤال ممن لم يعلم بالواقعة كأهل البلدان البعيدة عن مكة وأهل العصور المتأخرة. وقد مرّ الجواب [ص 62] عن دخولهم في الخطاب بقوله: {أَلَمْ تَرَ} مع جهلهم، فلا تغفل، على أني بينت أنه مع ذلك ضعيف.

(8/202)


فإن قيل: المعلِّم وإن وافق على معنى أول السورة ما ذكرتَ، إلّا أنه ذكر بعد ذلك أن كثيرًا من الشاهدين أنفسهم لم يكونوا يعلمون الحقيقة، وكانوا يرون أنّ الطيرَ رَمَتْه، وقد قدّمتَ أنت أن ذلك كان الاعتقاد العام، فعلى قوله يكون الجهل متحقّقًا، وذلك مظنّة السؤال.
قلتُ: قد تقدّم إبطال احتمال الجهل، وكفى بأول السورة مبطلًا له. ومع ذلك فالسؤال إنما مظنّة الجهل البسيط، والجهل المدَّعَى هنا مركّب.
وإن أراد الاستئناف النحوي، فقد شرح علماء المعاني في باب الفصل والوصل المواضعَ التي يصلح فيها، وليس منها موضع يصلح هنا. بل لو كان المعنى على ما قاله المعلِّم رحمه الله لكان هذا من مواضع العطف بالواو، فيقال: “وأرسل عليهم طيرًا أبابيل ورميتهم”، أو “وترميهم”، أو “وكنت ترميهم” (1).
قوله: “حذف الأفعال الناقصة قبل المضارع أسلوب عام” يشمل على دعاوى:
الدعوى الأولى: جواز حذف الأفعال الناقصة. وأئمة العربية لا يجيزون حذف ما عدا (كان) من النواسخ، إلا في موضع أو موضعين ليس منها ما قاله المعلِّم في الآية التي استشهد بها. ويجيزون [ص 63] حذف (كان) في مواضع لا يصلح منها شيء في آية الفيل ولا في شيء من الشواهد التي أوردها.
_________
(1) انظر: الفائدة 11. [المؤلف]. كذا ظهر لي رقم الفائدة، وقد ذهب بها الخرم الواقع في الأصل.

(8/203)


وذكر ابن هشام في بعض رسائله حذف (كان) مع اسمها وأنه ليس بقياس. قال: “إلا بعد أن ولو، ومن ثم قال سيبويه رحمه الله: لا تقل: “عبدَالله المقتولَ”، بتقدير: كن عبد الله المقتول. وخالف المحققون الكسائيَّ في تخريجه قوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171] على تقدير: “يكن الانتهاء خيرًا لكم” (1).
قال عبد الرحمن: وممن خالف الكسائي في ذلك: أصحابه الفرَّاء وغيره، مع أن الحذف في {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} أقرب بكثير من الحذف في الآية التي استشهد بها المعلِّم وفي آية الفيل والشواهد؛ لوجود دلالة في {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}. وهو أن {خَيْرًا} منصوب، فلا بدّ له من ناصب، فإذا قدّرت “يكن” بان وجه النصب، فيكون ظهور النصب دليلًا على الحذف. ومع ذلك فالمعنى مفهوم، لا يحصل بحذف “يكن” إلباس، ولا بتقديرها معنى يخالف الظاهر. وهذا بخلاف التقدير في {تَرْمِيهِمْ}.
واعلم أن العلماء حتى النحاة كثيرًا ما يفسّرون الكلام بما يشرح أصل معناه، مع صرف النظر عن التقدير النحوي، فربما يقع في كلامهم ما يوافق تقدير المعلم، فلا تغترَّ بذلك. وقد عقد ابن جنّي في الخصائص بابًا لنحو ذلك (2). وتجد أمثلة كثيرة، فلا حاجة للإطالة بها.
_________
(1) الأشباه والنظائر النحوية، طبعة ثانية (4/ 27). [المؤلف].
(2) الخصائص (1/ 288). وراجع: شرح الكافية (2/ 397)، ومغني اللبيب مع حواشي الأمير (2/ 24)، وما تقدم في التفسير في (كيف). [المؤلف].

(8/204)


الدعوى الثانية: دعوى الحذف قبل {تَرْمِيهِمْ}. ومن الأصول المتفق عليها ما قال ابن هشام: “الكلام إذا أمكن حمله على [التمام امتنع حملُه على] (1) الحذف، لأنه دعوى خلاف الأصل بغير بيّنة. ولهذا امتنع أن يدّعى في نحو (جاء الذي في الدار) أن أصله: الذي هو في الدار” (2).
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: “والاختصار هو الاقتصار على ما يدل على الغرض مع حذف أو إضمار. والعرب لا يحذفون ما لا دلالة عليه ولا صلة [ص 64] إليه، لأن حذف ما لا دلالة عليه منافٍ لغرض وضع الكلام من الإفهام. وفائدة الحذف تقليل الكلام، وتقريب معانيه إلى الأفهام” (3).
قال عبد الرحمن: فالحذف الذي يخالف ذلك، إذا تعمدّه المتكلم كان لحنًا في العربية، ومن جهة أخرى قد يكون كذبًا. فلو كان قبل {تَرْمِيهِمْ} حذف يصرفها إلى الخطاب لكان من هذا. وقد مرّ إبطال ما توهم من قرينة حاليّة أو عاديّة، وبيان القرائن التي تؤيّد رمي الطير.
فأما الشواهد التي ذكرها المعلم، فإنّ لها محلًّا صحيحًا بليغًا لا يُحوج إلى الحذف. ودعوى الحذف والتقدير فيها ينزل بالكلام عن بلاغته كما سترى. هذا، مع ما تقدم أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيه (4) حذف (كان). وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
_________
(1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل.
(2) الأشباه (4/ 7). [المؤلف].
(3) الإشارة والإيجاز ص 2. [المؤلف].
(4) كذا في الأصل، والوجه: فيها.

(8/205)


الدعوى الثالثة: أن المحذوف “كنت”. فلو صحّ حذف (كان) في هذا الموضع، وجوّزنا الاستئناف، وقلنا: إن المضارع إذا وضع موضع الماضي كان بتقدير “كان”، فلنا أن نقدر “كانت”. وبذلك يوافق ما عرف عن القصة، وما يفهم من السورة، وما مضى عليه الناس جميعًا قبل المعلم، وتخلص به الكلام عن الإلباس والإيهام وعن اللحن والكذب وغير ذلك مما تقدم.
[ص 65] فأما الشواهد، فقوله تعالى: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى} [الحاقة: 7]، نظير قوله: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} [الكهف: 17]. وسيأتي الكلام عليه في الذيل (1). وفي ذاك التوجيه ما يوافق ما يشعر به المتفهم من بلاغة الكلام وعلوّ درجته، بخلاف التقدير الذي قاله المعلم.
وأما بيت متمم، فإن البغدادي أنشده في “الخزانة”:
تقول ابنةُ العمري مالكَ بعدَما … أراك حديثًا ناعمَ البالِ أفرعا
وقال في شرحه: “ابنة العمري زوجته، والحديث: القريب، والأفرع: الكثير شعر الرأس. تقول: مالك اليوم متغيرًا بعد أن كنت منذ قريب ناعم البال أفرع؟ ” (2).
وفي “حماسة أبي تمام” تحت عنوان “وقال آخر”:
ألا قالت العصماءُ يوم لقيتُها … أراك حديثًا ناعمَ البال أفرعا
فقلتُ لها لا تنكريني فقلّما … يسودُ الفتى حتى يشيبَ ويصلَعا
_________
(1) انظر الفائدة 14. [المؤلف]. انظر ما علقته في (ص 178).
(2) خزانة الأدب (1/ 235). [المؤلف]. طبعة هارون (2/ 23).

(8/206)


قال التبريزي: “ويروى: كبرتَ ولم تجزع من الشيب [مجزعا] (1) ” (2).
ويظهر أن هذه الرواية في هذا الشعر هي الصواب، وأن قوله: “أراك حديثًا ناعم البال أفرعا” انتقل إلى ذهن الراوي من شعر متمّم.
وقصيدة متمم في “جمهرة الأشعار” (3) كما ذكره المعلم، وفي حاشيتها التنبيه على رواية “الخزانة” (4). والنظر يقتضي أن يكون الصواب “حديثًا ناعمَ الوجه”. أما “حديثًا” فلأن المرأة مع زوجها، فلا بد ان تنكر تغيُّره حداثةَ وقوعه. وأما “ناعم الوجه”، فلأنه المناسب لقوله “أفرعا”، وللبيت الذي يليه، وهو كما في “الخزانة” و”الجمهرة”:
فقلتُ لها طولُ الأسى إذ سألتِني … ولوعةُ حُزنٍ تترك الوجهَ أسفعا
[ص 66] ثم إن صحّت رواية “الجمهرة”، فالتعبير بالمضارع لإفادة الاستمرار وترك تقييده بنحو “كنت” من باب حكاية الحال، كما سنوضحه في الذيل (5).
_________
(1) مكان الحاصرتين بياض في الأصل.
(2) شرح التبريزي على “الحماسة” (1/ 168). [المؤلف]. وانظر شرح البيت على رواية “الحماسة” في “الخزانة” طبعة هارون (3/ 13).
(3) “الجمهرة” ص 283. [المؤلف]. طبعة الهاشمي (753).
(4) يعني “حديثًا”، وهي رواية المفضليات ــ وذكر ابن الأنباري في الشرح (538) رواية “قديمًا” أيضًا ــ و”الكامل” (1440)، و”المنتخب” (205)، و”الحماسة البصرية” (629). ورواية “قديمًا” في “أمالي اليزيدي” (76)، و”جمهرة أشعار العرب” (753)، و”الأشباه والنظائر” للخالديين (2/ 348)، و”منتهى الطلب” (6/ 385).
(5) انظر الفائدة 14. [المؤلف]. انظر تعليقي في (ص 189).

(8/207)


وإن صحت رواية “الخزانة” ففيه مع حكاية الحال الدلالة على القرب، وسيأتي شرح ذلك (1). وقول صاحب “الخزانة”: “بعد أن كنت” تفسير لأصل المعنى، لا تقدير للإعراب، وقد تقدّم التنبيه على ذلك.
وأما بيت خِداش وبقية الشواهد، فالمضارع فيها مقترن بـ (قد). فإن قلنا بظاهر كلام ابن مالك ومن تبعه أن (قد) تصرف المضارع إلى المضي سقط الاستشهاد البتة. وإن قلنا إن معنى صرفها المضارع إلى المضي أنه معها للاستمرار من الماضي البعيد إلى المستقبل، فاستعماله في الاستمرار المنقطع من باب حكاية الحال والدلالة على القرب وإيهام التوهم، وستأتي نظائر ذلك مشروحة.
هذا، ولو جاز أن يكون {تَرْمِيهِمْ} خطابًا واستئنافًا لأمكن توجيه العدول عن الماضي إلى المضارع توجيهًا صحيحًا بغير دعوى الحذف، ولكن لا ينفعه ذلك لما علمت (2).
_________
(1) انظر الفائدة 14. [المؤلف]. انظر تعليقي في (ص 189).
(2) هذا آخر ما وجد من كلام المؤلف بخطّه.

(8/208)


فهرس مراجع التحقيق
– الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1404.
– الاختيارين للأخفش الأصغر، تحقيق فخر الدين قباوة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404.
– أسماء جبال تهامة وسكانهان عرّام بن الأصبغ السلمي، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1394.
– الأشباه والنظائر للخالديين، تحقيق السيد محمد يوسف، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1965 م.
– الأشباه والنظائر للسيوطي، طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق.
– الاشتقاق لابن دريد، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 1979 م.
– الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، دار الثقافة، بيروت.
– أمالي ابن الشجري، تحقيق محمود الطناحي، مكتبة الخانجي، القاهرة.
– أمالي الشريف المرتضى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1373.
– أمالي اليزيدي، تحقيق محمد نبيل طريفي بعنوان «المراثي»، وزارة الثقافة، دمشق، 1991 م.
– البيان والتبيين للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1405 هـ.
– تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة،

(8/249)


1979 م.
– تاريخ مكة للأزرقي، دار الأندلس، بيروت، 1403.
– تفسير البغوي، تحقيق محمد عبد الله النمر وزميليه، دار طيبة، الرياض، 1427.
– تفسير الخازن، دار الفكر، بيروت.
– تفسير الرازي، دار الفكر، بيروت، 1405.
– تفسير الطبري، تحقيق محمود شاكر (16 مجلدا)، دار المعارف، القاهرة.
– تفسير الطبري، أشرف على تحقيقه عبد الله بن عبد المحسن التركي، القاهرة، 1422.
– التمثيل والمحاضرة للثعالبي، تحقيق عبد الفتاح الحلو، الدار العربية للكتاب.
– تهذيب اللغة للأزهري، تحقيق جماعة، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة.
– التيجان في ملوك حمير، عن وهب بن منبه، رواية ابن هشام، مركز الدراسات والأباحث اليمنية، صنعاء 1979 م.
– جمهرة أشعار العرب للقرشي، تحقيق محمد علي الهاشمي، دار القلم بدمشق، 1406.
– الحماسة البصرية، تحقيق عادل سليمان جمال، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1420.
– حماسة أبي تمام بشرح التبريزي، مطبعة بولاق، 1296.
– حماسة أبي تمام بشرح المرزوقي، تحقيق عبد السلام هارون، لجنة التأليف

(8/250)


والترجمة والنشر، القاهرة، 1387.
– حياة الحيوان الكبرى للدميري، تحقيق إبراهيم صالح، دار البشائر، دمشق، 1426.
– الحيوان للجاحظ، المطبعة الحميدية، القاهرة 1323 – 1324.
– الحيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون.
– خزانة الأدب للبغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية 1979 م.
– الخصائص لابن جني، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، 1952 – 1957 م.
– ديوان الأعشى، تحقيق محمد محمد حسين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403.
– ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1984 م.
– ديوان أمية بن أبي الصلت، صنعة عبد الحفيظ السطلي، دمشق، 1977 م.
– ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، دار المعارف، القاهرة، 1964 م.
– ديوان الحطيئة، تحقيق نعمان محمد أمين طه، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1407.
– ديوان الخنساء، تحقيق أنور أبو سويلم، دار عمار، عمان، 1409.
– ديوان ذي الرمة، تحقيق عبد القدوس أبو صالح، مجمع اللغة العربية، دمشق، 1392 – 1394.

(8/251)


– ديوان طفيل الغنوي، تحقيق محمد عبد القادر أحمد، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1968 م.
– ديوان عدي بن زيد العبادي، تحقيق محمد جبار المعيبد، بغداد، 1965 م.
– ديوان الفرزدق، دار بيروت للطباعة والنشر، 1400.
– ديوان القطامي، تحقيق محمود الربيعين الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001 م.
– ديوان لبيد بن ربيعة، تحقيق إحسان عباس، وزارة الإعلام، الكويت، 1984 م.
– ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1977 م.
– روح المعاني للألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
– سنن أبي داود، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت.
– سيرة ابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وزميليه، مؤسسة علوم القرآن، بيروت.
– شرح أبيات مغني اللبيب للبغدادي، تحقيق عبد العزيز رباح وأحمد يوسف الدقاق، دار المأمون للتراث، دمشق، 1393 – 1401.
– شرح سيرة ابن هشام لأبي ذكر الحنشني، نشرة بولس برونله، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت.
– شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لابن الأنباري، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف، 1980 م.

(8/252)


– شرح المفضليات لابن الأنباري، تحقيق ليال، جامعة أكسفورد 1919 – 1924 م.
– شعر عمرو بن معديكرب الزبيدي، صنعة مطاع الطرابيشي، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1405.
– الشعر والشعراء لابن قتيبة، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1982.
– صحيح البخاري، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، 1417.
– صحيح ابن خزيمة، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1390.
– صحيح مسلم بشرح النووي، مكتبة المعارف، الرياض، 1407.
– طبقات ابن سعد، دار صادر، 1377 – 1380.
– طبقات فحول الشعراء لابن سلام، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة 1974.
– العقد الفريد لابن عبد ربه، تحقيق أحمد أمين وغيره. دار الكتاب العربي، بيروت، 1406.
– فتح الباري لابن حجر، طبعة محب الدين الخطيب، تصوير دار الفكر، بيروت.
– الكامل للمبرد، تحقيق محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406.
– كتاب سيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة.
– كتاب عرّام= أسماء جبال تهامة.

(8/253)


– الكشكول لبهاء الدين العاملي، بعناية الطاهر أحمد الزاوي، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1961 م.
– لسان العرب لابن منظور، دار صادر، بيروت.
– مجمع الأمثال للميداني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1977 م.
– مروج الذهب، للمسعودي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
– المزهر للسيوطي، تحقيق البجاوي ورفيقيه، دار التراث، القاهرة.
– مسند أحمد، المكتب الإسلامي، بيروت.
– مسند الطيالسي، دائرة المعارف النظامية، حيدراباد الدكن، 1321.
– معاني القرآن وإعرابه للزجاج، تحقيق عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب، بيروت، 1408.
– معجم البلدان لياقوت الحموي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
– المعجم الجغرفي المقارن.
– معجم الحيوان للفريق أمين معلوف، دار الرائد العربي، بيروت.
– معجم الشعراء للمرزباني، تحقيق عبد الستار فراج، عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1960 م.
– المعجم الكبير للطبراني، تحقيق مهدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، 1404.
– معجم ما استعجم للبكري، تحقيق مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت.
– مغني اللبيب لابن هشام، تحقيق مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، دار

(8/254)


الفكر، بيروت، 1979 م.
– المنتخب في محاسن أشعار العرب لمجهول، تحقيق عادل سليمان جمال، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1414.
– منتهى الطلب من أشعار العرب لابن ميمون، تحقيق محمد نبيل طريفي، دار صادر، بيروت، 1999 م.
– المنمق في أخبار قريش لابن حبيب، تحقيق خورشيد أحمد فارق، عالم الكتب، بيروت، 1405.
– نسب معدّو اليمن الكبير لابن الكلبي، تحقيق ناجي حسن، عالم الكتب، بيروت، 1408.
– نقائض جرير والفرزدق، نشرة بيغان، ليدن، 1905 م.
– النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت.
– همع الهوامع للسيوطي، تحقيق عبد العال سالم مكرم، عالم الكتب، القاهرة، 1421.

(8/255)