http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
الكتاب: الخطب والوصايا
المؤلف: عبد الرحمن بن يحيى المُعَلِّمي اليماني (1313 – 1386 هـ)
المحقق: مجموعة من الباحثين منهم المدير العام للمشروع علي بن محمد العمران
الناشر: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1434 هـ
عدد الأجزاء: 25
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]الخطب والوصايا
تأليف
العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي
تحقيق
محمد أجمل أيوب الإصلاحي
(مقدمة 22/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(مقدمة 22/2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فهذا السفر الذي بين أيديكم يشتمل على مجموعة من خطب العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ــ رحمه الله ــ ووصاياه.
أما الخطب فإنها جميعًا من خطب الجمعة والعيدين التي ألقاها الشيخ في بعض مساجد جيزان، في إمارة السيد محمد بن علي الإدريسي. وكان الشيخ يومئذ في عنفوان شبابه، فإنه لما وصل إلى حضرة الإدريسي في شهر صفر سنة 1336 كان عمره نحو 23 سنة، ولكنه قد بلغ من تعمقه في الفقه وتمكنه في غيره من العلوم المتداولة في عهده مبلغًا جعل السيد الإدريسي يوليه رئاسة القضاة، ويلقِّبه بشيخ الإسلام. وهاكم تعريفًا موجزًا بهذه الخطب:
(1) الزمان والمكان والعدد:
مكث الشيخ المعلمي في حضرة الإدريسي إلى وفاة السيد في شهر شعبان سنة 1341، وبعد وفاته سافر إلى الهند، فكانت مدة اتصاله بالسيد نحو خمس سنوات، وفي خلالها ألقيت هذه الخطب، ولكن أفي أولها، أم في وسطها، أم في آخرها؟
(مقدمة 22/5)
وينشأ عن ذلك سؤال آخر، هو أن هذه الخطب التي وجدت في مكتبة الحرم المكي الشريف في أوراق متفرقة، مختلفة في الطول والعرض واللون والشكل، مشطورة أو منهوكة، متمزقة أو مهترئة أحيانا من أوساطها أو أطرافها= هل هي كل خطب الشيخ، أو طارت ببعضها هُوج الرياح العواصف؟
قد توجه الشيخ بعد وفاة الإدريسي إلى الهند مصطحبًا كتبه ومؤلفاته ودفاتره، ومكث هناك خمسًا وعشرين سنة يصحح ويؤلف، ثم رجع إلى الحجاز يحمل رصيدًا جديدًا من كتب ومؤلفات ودفاتر ومذكرات بالإضافة إلى الأوراق القديمة، واحتفظ بها معه في مكتبة الحرم المكي الشريف إلى أن توفي في المكتبة سنة 1386، فهذه خمس وأربعون سنة، والآن قد مضى على وفاته 47 سنة أخرى= فمن المحال، بعد هذه المدة المديدة من الحل والترحال، أن تبقى تلك الأوراق المنثورة التي لم تضمها دفتان مجتمعة ومصونة من الضياع والتمزق والتأكل وغيرها من ضروب الاختلال. يؤكد ذلك أن بعض الخطب لم يوجد إلا نصفها أو جزء منها، فلا يبعد أن تكون خطب كاملة قد ضاعت.
أما الخطب التي وصلت إلينا فلا تزيد على 56 خطبة غير الخطب الثواني، ومعنى ذلك أنها لا تكفي لأكثر من سنة وشهرين. وهذا يساعدنا على الإجابة عن السؤال الأول، وهو: هل يمكن تحديد زمن هذه الخطب من السنوات الخمس التي قضاها الشيخ في إمارة الإدريسي؟
يبدو لي ــ والله أعلم ــ أن زمنها يمتد من شهر جمادى الآخرة سنة 1340 إلى شهر شعبان من سنة 1341. وقد استنبطت ذلك من الأمور الآتية:
(مقدمة 22/6)
الأول: أن ثلاث خطب منها انفردت بالتنبيه على شهرها وجمعتها، فكتب في رأس إحداها (52): “الخطبة الأولى لرجب”، وفي أخرى (51): “الخطبة الرابعة لجمادى الثانية”، وفي ثالثة (50): “الخطبة الثالثة لجمادى [الثانية] “. هذا التنبيه يدل على أن هذه الخطب الثلاث أقدم الخطب التي بين أيدينا، فإن من عادة الإنسان أنه إذا أخذ في عملٍ جدير بالعناية والاحتفال في نظره حرَصَ في أول أمره على تقييد وقته ويومه وتاريخه، ثم يتكاسل فيما بعد ويتساهل. وقد يكون الشيخ بدأ يخطب من أول جمعة من شهر جمادى الآخرة، وفقدت الخطبتان الأولى والثانية، أو قصد بالخطبة الثالثة الجمعة الثالثة، فكانت هي بداية خطبه. وستأتي قرينة أخرى على كونها أقدم خطب الشيخ.
الثاني: أن الخطبة الثامنة عشرة التي هي خطبة عيد الأضحى تفيد أن العيد في تلك السنة قد وافق يوم الجمعة، فإذا رجعنا إلى التقويم علمنا أن السنة التي وافق فيها يوم النحر يوم الجمعة من بين السنوات الخمس (1336 – 1341) هي سنة … 1340 لا غير.
الثالث: لا توجد في المجموعة من خطب العيد إلا خطبة واحدة، وكذلك من خطب عيد الأضحى، فلم يدرك الشيخ إلا عيدًا واحدًا.
الرابع: أدرك الشيخ شهر شعبان مرتين، فإن سبع خطب في هذه المجموعة تتحدث عن فضل شهر شعبان.
(2) البناء والشكل:
1) معظم الخطب قصار، فإن ثلاثة أرباعها لا تتجاوز ثلاث صفحات،
(مقدمة 22/7)
بل كثير من هذه جاءت في صفحتين فقط. وأطولهن خطبة العيد (23) التي استغرقت ثماني صفحات، وتبقى عشر خطب، نصفهن في أربع صفحات والنصف الآخر في خمس إلى ستِّ صفحات.
وقد ذكَّرنا حديثُ الطول والقصر هذا برسالة (1) للشيخ كتبها إلى “العلامة الهمام علم الإسلام السيد صالح بن محسن الصيلمي”، وذكر فيها أولا أن “الأولى في خطبة الجمعة قصرها ما أمكن اتباعًا للسنة ورفقًا بالمؤمنين، فإن فيهم من يشقُّ عليه القعود في مقام واحد مع ازدحام الناس … “.
ثم أشار إلى السيد الإدريسي قائلًا: “كيف؟ ومولانا أيده الله تعالى وأولاد عمه وأعوانه كلهم تنالهم المشقة لإضرار الحر مع الازدحام بهم”.
ثم أوصاه بأن تكون الخطبة قصيرة، و”لتبلغ الأولى قدر سورة الفجر، والأخرى أقصر”.
وبعد ذلك أورد ــ على سبيل المثال ــ عن الجاحظ (2) خطبة النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أيها الناس إن لكم معالم … الجنة أو النار”.
هذه الرسالة غير مؤرخة، فلا ندري أهي متزامنة مع خطب الشيخ أم لا. وكان للشيخ أن يمثل لمقدار الخطبة بسورة ق، فقد ورد في حديث أخت عمرة بنت عبد الرحمن في صحيح مسلم (872) أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقرأ بسورة ق والقرآن المجيد في كل جمعة؛ ولكن لعله مثَّل بسورة الفجر نظرًا
(1) هي ضمن مجموعة الرسائل المتبادلة.
(2) انظر البيان والتبين (1/ 302).
(مقدمة 22/8)
إلى اشتداد الحر ومراعاةً لجانب السيد وأبناء عمه وأعوانه الذين كانوا يتأذون بالحر مع الزحام، بل يبدو لي أن هذه الرسالة قد كتبت بإيعاز من السيد، والله أعلم. وأيًّا كان الأمر، فإننا إذا وزنّا خطب الشيخ بميزانه هذا، لم نجد منها ما يقارب سورة الفجر إلا ثلاث خطب (15، 28، 55)، بل الخطبة (40) ختمها الشيخ بتلاوة سورة الفجر كاملة، وهي ثلث الخطبة أو أكثر.
2) نسج الشيخ خطبه على منوال خطب ابن نباتة، بل نجد خطبة كاملة (38) أخذها الشيخ من خطب ابن نباتة، وتناولها بشيء من التصرف في ألفاظها وجملها، ثم أضاف إليها قبل ختمها بآية من القرآن الكريم حديثًا في فضل ليلة النصف من شعبان. فهذه الخطبة التي ألقيت في شهر شعبان، وأظن أنها من أوائل خطبه، قد اتخذها الشيخ فيما بعد مثالا يحتذيه في خطبه مع بعض الإضافات. وهي أن ابن نباتة لا يورد في خطبه نص الحديث بل يدخله ضمن كلامه، أما الشيخ فقد جعل للحديث في خطبته موضعًا معيَّنًا، وكتب بخط بارز كلمة “حديث”، ثم التزم إيراد حديث أو أكثر بنصه.
والأمور التي تابع الشيخ فيها ابن نباتة: موضوعات الخطبة، وكثرة الجمل الإنشائية، وعدم التمثل فيها بالشعر إلا في خطبة واحدة سيأتي ذكرها، والتمهيد لتلاوة الآية في الخاتمة بمثل هذه العبارة: “هذا، وإن أبدع الكلام نظما … كلام من وسع كل شيء رحمةً وعلمًا، والله تعالى يقول”. هذه العبارة لابن نباتة، وقد كررها الشيخ في الخطبة (53) ثم تفنن كابن نباتة في صياغتها بطرق متنوعة.
3) رتب الشيخ خطبه عمومًا على الوجه الآتي.
(مقدمة 22/9)
1 – المقدمة وهي تشتمل على حمد الله عز وجل، والشهادتين، والصلاة والسلام على نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -.
2 – الموعظة، وستأتي الإشارة إلى موضوعاتها.
3 – الحديث، ويكتب قبل إيراده بخط جلي: كلمة “حديث”.وكثيرًا ما يقتصر على حديث واحد، وقد يزيد.
4 – الآيات، ويمهد لها بعبارة تابع فيها ابن نباتة، كما سبق.
5 – الخاتمة، وهي جملة أو جملتان من الدعاء ولا يلتزم كتابتها.
الجدير بالذكر أن خمس خطب (52، 51، 50، 37، 36) لم ترتب هذا الترتيب، لأنها أقدم الخطب كما سيأتي، فالظاهر أن الخطبة (38) وهي خطبة ابن نباتة التي أخذها الشيخ بشيء من التصرف هي التي كانت نموذجًا لخطبه في المستقبل.
هذا ترتيب الخطب الأُوَل. أما الخطب الثواني، فيستهلها بحمد الله والشهادتين، ثم يلقي موعظة قصيرة، يقفوها الصلاة والسلام على النبي – صلى الله عليه وسلم – وإخوانه المرسلين، ثم الدعاء للخلفاء الراشدين: كلٍّ على حدة، مع ذكر ألقابه.
وعند ذكر علي بن أبي طالب يضم إليه ذكر فاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.
ويتبعهم الدعاء للستة المتممين للعشرة، وأهل بيعة الرضوان والشجرة، وعمي النبي – صلى الله عليه وسلم -: الحمزة والعباس، وأمهات المؤمنين وترجمان القرآن عبد الله بن العباس، ثم التابعين وتابعيهم بإحسان.
(مقدمة 22/10)
بعد ذلك يدعو لعز الإسلام والمسلمين، ويطيل في الدعاء للنصر والتأييد لإمام المسلمين وأتباعه وأوليائه، والدعاء على خصومه ومخالفيه وأعدائه، ثم يدعو لعامة المسلمين.
هذا إذا أطنب وفصَّل، وإذا اقتضى المقام أن يوجز ترضَّى ــ بعد الصلاة والسلام على محمد – صلى الله عليه وسلم – ــ عن “أهل بيته الأطهار، وخلفائه الأبرار، وصحابته الأخيار” دون ذكر الأسماء والألقاب.
(3) المحتوى:
1) الخطب التي ألقيت في العيدين والشهور والأيام الفاضلة أو بعض المناسبات كان الحديث فيها منصبًّا على تلك المواسم والمواقيت.
فالخطب التي ألقاها في شعبان ذكر فيها فضل ليلة النصف من شعبان وأورد الأحاديث الواردة فيه، ودعا الناس إلى استقبال شهر رمضان والاستعداد له.
وفي خطب رمضان بيَّن لهم فضائله، وأنه شهر التوبة والإقلاع، وأنه أنزل فيه القرآن، وأن فيه ليلة القدر؛ وحثهم على اغتنام ساعاته. وفي آخر خطب رمضان نبَّههم على إخراج زكاة الفطر قبل خروجهم إلى صلاة العيد.
ثم في خطبة العيد ذكر أحكام زكاة الفطر وفضلها، وأن لا يقصروا عن طاعة الله سبحانه بعد انقضاء رمضان، وأن يعلموا أنهم قد خرجوا من شهر الصيام إلى أشهر الحج الحرم.
وكذلك في خطب ذي الحجة ذكر فضل الأيام العشرة من الشهر، ثم في خطبة عيد الأضحى فصّل القول في أحكام الأضحية، وأورد خطبة النبي
(مقدمة 22/11)
- صلى الله عليه وسلم – يوم النحر. وأشار إلى فضل اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد.
وفي خطب رجب أشار إلى أن هذا الشهر شهر الله الحرام، وشهر العبادة والفضيلة، وأنه تضاعف فيه الأعمال.
ويتصل بخطب المواقيت والمناسبات هذه خطبة خطب بها أيام الجدب، فحث الناس على التوبة والإقلاع عن الذنوب، والإكثار من الصدقات، وتطهير الصدور من الحسد والشحناء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وذكَّرهم بأن المعاصي تزيل النعم وتستنزل النقم، وأن النقمة إذا نزلت قلما ترفعها إلا التوبة عن أسبابها، وتلا عليهم قول الله تعالى في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) … } الآيات، وأورد الحديث القدسي المشهور: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي” الحديث.
ويتصل بها أيضا خطبة فريدة كتبها الشيخ لما جاءه نبأ وفاة أخيه “الفاضل العالم العامل عز الإسلام: محمد بن يحيى بن علي المعلمي” فذكر عظم مصابه، ووصف شدة حزنه وتفجعه عليه.
أما سائر الخطب فهي تدور حول الوصية بالتقوى، والتحذير من حب الدنيا الخداعة، والغفلة عن الآخرة، والتهاون بالمحرمات، والاغترار بطول الأمل، وهجوم الموت في أي لحظة؛ والترغيب في ذكر الله وتلاوة القرآن، والحث على أداء الفرائض والسنن، واجتناب المحرمات، والابتعاد عن المكروهات، والدعوة إلى التفكير في خلق الإنسان ولطف الله به ورحمته، وحساب النفس قبل هول الحساب، والاعتبار بمن مضى من الملوك
(مقدمة 22/12)
والمترفين وبمن اختطفهم هاذم اللذات من أحبائه وأقربائه، والتسويف بالتوبة، والإصرار على المعاصي؛ والتخويف بما أمام الإنسان من أهوال القبر، وتصوير عاقبة الصالحين ومآل الفاسقين، وما إلى ذلك.
هذه موضوعات الخطب الأوَل، وهي التي تناولها الشيخ في الموعظة القصيرة التي تتضمنها الخطب الثواني أيضا.
وعلى أن فواتح الخطب كلها تشتمل على صفات الله سبحانه، فصَّل الشيخ في بعضها أصول الإيمان والأسماء والصفات.
2) قد التزم الشيخ ــ كما سبق ــ أن يورد في كل خطبة بعد الموعظة حديثا أو أكثر، ولكن لم يلتزم أن يكون الحديث صحيحًا، بل تساهل مثل غيره من العلماء والخطباء في ذكر أحاديث ضعيفة، بعضها شديد الضعف، وبعضها موضوع.
وكذلك ردَّد في بعض الخطب مقولات مبنية على أحاديث ضعيفة أو موضوعة، نحو وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – بأنه “سبب الوجود” (41)، وأنه “فاتحة خلقهم، فهو أول أولهم، وأوسط أوسطهم، وآخر الآخرين” (36)، وأن “أهل بيته أمان أهل الأرض، كما أن النجوم أمان أهل السماء” (5)، ووصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأنه “باب مدينة العلم” (60، 59، 58).
ومن الأحاديث الضعيفة: ما أخرجه ابن ماجه (1388) في فضل ليلة النصف من شعبان من حديث علي بن أبي طالب بلفظ: “إذا كانت ليلة النصف من شعبان، فقوموا إليها، وصوموا يومها”. وفي سنده أبو بكر بن أبي سبرة، وقد رمي بالوضع. أورده الشيخ في الخطبة (36) كذا مختصرًا،
(مقدمة 22/13)
ثم أورده كاملا في الخطبتين (44، 38).
ومنها: حديث “ألا، إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك” (62، 58).
ومن الأحاديث الموضوعة: ما أورده في فضل شهر رجب في الخطبة (16): “فضل رجب على سائر الشهور كفضل القرآن على سائر الكلام”. قال الحافظ ابن حجر: موضوع، كما في الفوائد المجموعة للشوكاني بتحقيق المعلمي (381).
ومنها الحديث المشهور على ألسنة الخطباء: “أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم” (62، 58).
ومن أغربها: الحديث الطويل الذي أورده في الخطبة (52) ــ وهي من أقدم خطبه كما سبق ــ عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “ما من بيت إلا ملك الموت يقف على بابه كل يوم … ” الحديث.
هذا الحديث هو الحديث الأربعون من المجموعة المسماة بالأربعين الودعانية، وهي بأسرها موضوعة باطلة. نقل الحافظ ابن حجر عن الحافظ المزي أنها “فضيحة مفتعلة وكذبة مؤتفكة”. وقد وضعها زيد بن رفاعة ملفقًا بين بعض كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – وكلام المشايخ والحكماء، وسرقها منه ابن ودعان، فركَّب لها أسانيد من أناس عامتهم مجهولون، ومن يُشَكُّ في وجوده! وذكر الشوكاني أن هذه المجموعة هي التي يقال لها في ديار اليمن “السَّيلقية”. انظر: لسان الميزان (7/ 383 – 384) والفوائد المجموعة للشوكاني بتحقيق المعلمي (366).
(مقدمة 22/14)
وكانت لهذه المجموعة المختلقة شأن عظيم عند أئمة الزيدية وعلمائهم، فعني غير واحد منهم بشرحها، فذكر الشوكاني في ترجمة “الإمام المؤيد” يحيى بن حمزة (ت 705) أنه شرحها في مجلدين بعنوان “الأنوار المضية شرح الأحاديث النبوية على السيلقية”. قال: “والسيلقية هي المعروفة عند المحدثين بالودعانية”. انظر: البدر الطالع (2/ 331 – 332).
ومن شروحها: “حديقة الحكمة النبوية في شرح الأربعين السيلقية” لعبد الله بن حمزة الملقب بالإمام المنصور (ت 614)، واختصره أحمد بن علي مرغم في كتابه “التحفة السنية المنتزع من الحديقة النبوية”، وقد طبع هذا المختصر، كما في مصادر الفكر الإسلامي في اليمن للحبشي (1/ 602).
وفي إحدى الخطب (56) جاء في وصف الله سبحانه وتعالى أنه “لا في السماء محلُّه، ولا على العرش منزلُه”. وهذا مخالف للعقيدة الصحيحة التي قررها الشيخ فيما بعد، ونافح عنها، ورد على منكرها. وقد بيَّنها في وصيته لتلميذه محمد بن أحمد المعلمي أيضًا، وهي ضمن هذا المجموع.
وأحب أن أنبه هنا على أن قيمة هذه الخطب ليست في الأحاديث الواردة فيها، بل في أسلوبها وصياغتها، ثم في كونها تمثِّل مرحلة خاصة من مقتبل حياته، وهي مدة قصيرة من خمس سنوات قضاهن في إمارة السيد الإدريسي. وهو وإن كان قد تفوق في هذه المرحلة المبكرة على أقرانه في العلوم المتداولة في عهده وبيئته، وأصبح رئيس القضاة وشيخ الإسلام، ولكن مذهبه في العقيدة والتصوف لم يكن مختلفا اختلافًا كبيرًا عن مذهب السيد الإدريسي وغيره من معاصريه من فقهاء الشافعية. أما المنزلة العليا التي بلغها الشيخ فيما بعد في علم الحديث والرجال، فكانت تنتظره في
(مقدمة 22/15)
دولة حيدراباد الدكن. فأصبح عالمًا محققًا مستقلًّا بآرائه ومذاهبه غير مقلِّد لأحد، مع احترامه البالغ لجميع أئمة الإسلام وعلماء الأمة.
3) لم ينشد الشيخ شعرًا في شيء من خطبه إلا خطبة واحدة كتبها إثر وفاة أخيه وهو بعيد عنه، فقد أنشد فيها أحد عشر بيتًا: بيتين لأبي الفرج الساوي في غرور الدنيا، وبيتين للعباس بن الأحنف، وأربعة أبيات لسلمة بن يزيد الجعفي في رثاء أخيه، وبيتًا لكعب بن زهير، وآخر لحريث بن زيد الخيل. هذه الأبيات العشرة تمثل بها الشيخ، والبيت الحادي عشر أنشده لنفسه فقال:
أحقًّا عبادَ الله أن لستُ رائيًا … شقيقيَ بعد اليوم إلا توهُّما
(4) اللغة والأسلوب
1) جميع هذه الخطب مسجوعة. وسجعها ممتع جميل لا يبدو عليه أثر التكلف إلا ما ندر. وقد تفنن الشيخ في السجع، فيبني الخطبة أحيانًا على حرف واحد يختم الفقرات به، ولكن السجعات في داخل كل فقرة تأتي على حروف مختلفة. ومن أمثلة ذلك قوله في الخطبة التي بناها على حرف الراء:
“ولم يزل يتودد إليكم بالنعم، ويخوفكم بقوارع النقم، وأنتم راكضون في المعاصي ركضَ الجواد في المضمار!
تمنِّيكم الدنيا زورًا، ويعدكم الشيطان غرورًا، كأنكم واثقون بامتداد الأعمار!
هذا هاذم اللذات بين نظركم يغدو ويروح، وله كل حين زورة تفرِّق بين جسد وروح، وما يدريك ــ ابن آدم ــ أيَّ ساعة يُنشِب فيك الأظفار!
(مقدمة 22/16)
فالتوبةَ التوبةَ قبل هجومه، والإنابةَ الإنابةَ قبل قدومه، فإذا نزل انسدَّت أبواب الأعذار”.
وقد بنى خمس خطب (52، 51، 50، 37، 36) على آيات من القرآن الكريم، فالخطبة (50) مثلا اشتملت من مقدمتها إلى آخر موعظتها على تسع فقرات، وكل فقرة تشتمل على أربع فواصل إلى إحدى عشرة فاصلة بنيت على مثال فاصلة الآية التي ختمت بها الفقرة.
فالفقرة الثانية مثلا فواصلها: قدرتِه، بعزته، حكمتِه، حجتِه. وخاتمتها قول الله تعالى في سورة الإنسان: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ}.
والفقرة التاسعة فواصلها: الذراع، بالاقتلاع، إيداع، القناع، الارتفاع، الانتفاع، انقطاع، الأطماع. وخاتمتها قوله تعالى في سورة الرعد: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)}.
وقد سبق أن الخطب الثلاث (50، 51، 52) مؤرخة بالجمعتين الأخيرتين من جمادى الآخرة والجمعة الأولى من رجب.
أما الخطبتان (36، 37) فذكر في أولاهما بعض أحاديث فضل ليلة النصف من شعبان، أما الأخرى فلم نجد فيها ما يدل على الشهر الذي ألقيت فيه، ولكنها مكتوبة على الوجه الثاني من الورقة التي كتبت فيها الأولى، فلعلها ألقيت في شهر رجب، فهاتان الخطبتان أيضًا في ظني كالخطب الثلاث السابقة أقدم هذه المجموعة، فلعل الشيخ لما نُصب خطيبًا، وكان إذ ذاك شابًّا ابن زهاء سبع وعشرين سنة، أراد إثبات مقدرته الأدبية واللغوية،
(مقدمة 22/17)
فاحتشد لتحبيرخطبه الأولى على هذا النمط. ومن مظاهر عنايته واحتفاله أنه في الخطبة الثالثة لجمادى الآخرة، وهي أقدم الخطب، ترك فراغًا بعد كل فاصلة.
وأحيانًا ينوِّع الفواصل بين فقرات الخطبة، وكذلك في داخل كل فقرة. فيأتي في فقرتين متواليتين بفاصلتين على حرف واحد، ثم خمس فواصل على حرف آخر، وفي الفقرة التي بعدها خمس فواصل كلها على حرف واحد. انظر مثلا الخطبة رقم (8).
وأحيانًا يبني فواصل الخطبة كلها على حرف واحد، كالخطبة (9) فإنها بنيت على حرف الدال، ومع ذلك ليست مملة، لأن الفواصل لا تأتي متقاربة، وقد يباعد بين فاصلتين بسجعات عديدة قصيرة. كقوله فيها:
“واعلموا أن الأعمال هي الجنة، فأكثروا أو أقلوا أو اتركوا، قبل انقطاع العمر وهجوم الصائد.
قبل مفاجأة الموت القاطع، والسم الناقع، والبلاء الصادع، للأقارب والأباعد.
قبل حلول التراب، وحلول الثواب والعقاب، وسؤال منكر ونكير، فتنبه يا راقد!
قبل البعث والنشور، ودعوى الويل والثبور، وبلوغ المواعد.
قبل نصب الميزان، وزفير النيران، ومناقشة الحساب بين يدي أبصرِ ناقد”.
2) تمتاز هذه الخطب بحسن الديباجة، وجودة السبك، ونصاعة البيان.
(مقدمة 22/18)
وأسلوبه يجمع بين السهولة والجزالة. وقد أكثر فيها من استعمال التراكيب الإنشائية، من الأمر والنهي والاستفهام والتعجب والنداء.
3) تجنب الشيخ استعمال المفردات الغريبة والتراكيب المعقدة، غير أنه لما كان معظم مخاطبيه من عامة الناس تسرَّب إلى كلامه ألفاظ وتراكيب دارجة، ومنها:
- مُستَرّ (3) بمعنى مسرور.
- بَشاش (7) بمعنى البشاشة.
- تجارأ (35) من الجراءة.
- حبَّط (39).
- قُذورات (50، 51).
-لجَّيتم (56) بالإدغام. - مواددة (49) بفك الإدغام.
ومن الاستعمالات العامية: قوله في الخطبة (47): “قريب ثلاثة ريال … خمسة ريال … عشرة ريال”.
ومنها: صرف كلمة “سكران” في قوله: “تقلبه الدنيا جنبًا على جنب سكرانًا”.
ومن التراكيب القليلة الورود: “كأنه يظنُّ إمهالَه ربُّه من الإهمال” (28)، أضاف المصدر إلى مفعوله، ورفع فاعله بعده.
وقد استعمل الشيخ صيغتين أستغرب غلطه فيهما. إحداهما: “لَقِيُوا”
(مقدمة 22/19)
(34) مكان “لَقُوا”. والأخرى: “أخابَ” في قوله: “فما أخابَ من عصاه وأشقاه! ” (22)، أراد اسم التفضيل من خاب يخيب، فقال: “أخابَ” مكان “أخيَب”، وهذه أغرب.
(5) النسخة الخطية
النسخة المصورة لهذه الخطب محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم 4702، وفيها 68 لوحة، واللوحة الواحدة تشتمل على صفحة أو صفحتين مكتوبتين أو إحداهما بيضاء، أو ثلاث صفحات. والصفحة تعني صفحة كاملة موفورة، أو نصف صفحة في الطول، أو نصفها في العرض، أو ربعها، أو قطعة منها سليمة أو غير سليمة من عوادي الزمن.
والخطب أكثرها مسودة، وتوجد لبعضها مبيضة أيضًا، نحو الخطبة العاشرة، إذ وردت مسودتها في اللوحة (15) وتكملتها في (14/أ) ومبيضتها في (16/ب). وهي كلها بخط الشيخ سواء أمسودة كانت أم مبيضة.
وقد اطلعت على الأصل المخطوط في مكتبة الحرم المكي، فرأيت أوراقًا منثورة مختلفة الألوان، متفاوتة الأحجام، وضعوها بين ورقتين سميكتين، فإنه لا يمكن تجليدها على هذا الوجه، ثم حفظوها في ظرف.
وكتبوا في الورقة الأولى (ل 1): “مجموعة خطب للشيخ المعلمي”، وتحته: “حوالي 50 خطبة”. وفي صفحة أخرى في (ل 2/ب) كتب بخط مجوّد في دائرة: “الخطب الجمعية”.
لم تكن هذه الأوراق مصورة من قبل، فصورت ضمن المسودات والأوراق التي طلب تصويرها لأجل هذا المشروع.
(مقدمة 22/20)
وقد وُجدت مع خطب الشيخ أوراق أخرى، لا علاقة لها بالخطب، ثم صورت معها، وستلحق حسب موضوعاتها بمجموعات أخرى، إلا رسالة بعنوان “الجهاد سنام الإسلام” ألحقناها بالخطب.
(6) منهج التحقيق
نسختُ الخطب جميعًا من القرص حسب ترتيبها في التصوير، فبلغ مجموعها 69 خطبة، ومنها 12 خطبة من الخطب الثواني. وكانت الخطب الأوائل والثواني مختلطة فيما بينها، فرأيت أن أفصل بينها، فقدمت الأوائل على الثواني.
ثم لاحظت أيضًا تشابُهَ عدد من الخطب الثواني، بل توافقها إلا قليلا، فاخترت منها ستَّ خطب فقط.
سبق أن الأوراق في الأصل كانت منثورة فنصف الخطبة مثلا في ورقة، ونصفها في ورقة أخرى، ولا رابط بينهما، فصُوِّرت الأولى في لوحة، والأخرى بعد لوحات، أو قبل لوحات؛ أو جمعت لوحةٌ خطبةً وتكملة خطبة أخرى، فجمعتُ شملَ المتفرقات، وفرّقتُ شملَ المجتمعات، وما أردت إلا الإصلاح.
عندما نسخت الخطب من القرص وجدت صعوبة في قراءة بعض الكلمات والجمل لأن مواضعها كانت متمزقة أو مهترئة، أو لأن انثناء الورقة أو لصق الورقة بعد تمزقها قد أخفاها. فسافرت إلى مكة المكرمة للاطلاع على الأصل ومراجعة المواضع التي اختفى فيها بعض الكلمات والجمل خاصةً، وقد نجحت بفضل الله وتوفيقه في قراءة معظمها.
(مقدمة 22/21)
أما مواضع الخرم، فإن أمكن تقدير الكلمات الضائعة أو تخمينها بالنظر في السياق وضعت قراءتي بين حاصرتين، وإلا وضعت حاصرتين أيضًا للدلالة على الخرم.
في ترقيم اللوحة، إذا اشتملت على صفحة واحدة فقط، أو على صفحتين ولكن إحداهما بيضاء، لم أصرح بالألف والباء. وإذا رأيت معهما الجيم أيضا فاعلم أن اللوحة اشتملت على ثلاث صفحات مكتوبات.
لم أتكلف ترتيب الخطب على أشهر السنة، وإن كان بالإمكان استخلاص الخطب المتعلقة بشهر رمضان وأشهر الحج، لأن الخطب الأخرى لم يكن سبيل إلى ترتيبها، بل ترتيب الخطب السابقة فيما بينها أيضا لم يكن أمرا يسيرا.
بعد قراءة النص علقت عليه عند الاقتضاء، وعنيت بالتوثيق والتخريج باختصار، ولم أر حاجة لشرح المفردات، فهي مألوفة لقارئ هذه الخطب.
ملحقات المجموع
1) الجهاد سنام الدين
وجدنا في آخر مجموعة الخطب (ل 67 – 68) رسالة بعنوان “الجهاد سنام الإسلام” وقع الشيخ في آخرها باسمه الكامل “عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلمي”. وهي رسالة حماسية أشبه بالخطبة، فألحقناها بالخطب، كما كانت ملحقة بها في المصورة.
(مقدمة 22/22)
وهي تشتمل على مقدمة وخاتمة وبينهما ثلاثة مباحث: الأول: في الجهاد بالنفس، والثاني: في الجهاد بالمال، والثالث: “في النصائح والتحريض والتشجيع وفضائل ثوابه، والنهي عن التثبيط وذكر رذائل عقابه”.
وختم هذا المبحث الأخير بقوله: “إخواني إلام تكاسلون؟ إلام تثبطون؟ حتام قاعدون؟ حتام تأخرون؟ علام أنتم ناضبو الغيرة والحمية؟ كأنكم راغبون عن الإمامة والحرية، إن هذه لإحدى الكبر”.
وفي خاتمة الرسالة ذكر الذين يزعمون أن هذا الجهاد ليس لوجه الله تعالى، فقال: “فهب هذا الجهاد ليس لوجه الله تعالى، أليس دفاعًا عن أوطاننا وأهلينا ونسائنا وأولادنا … ؟ فأين عقولهم يا ترى؟ أيظنون أن عدونا ــ والعياذ بالله ــ إذا تمكن من دخول بقية بلادنا يبقينا كما عليه اليوم ما في يده؟ “.
والرسالة كلها حث وتحريض، وتخويف وتحذير، ولوم وتبكيت؛ فقد صدرت عن قلب متألم لحال المسلمين الغافلين عن مكايد العدوّ، والقاعدين عن الجهاد والمثبطين عنه، مع انتسابهم إلى العلم والفقه.
2) الوصايا
أما الوصايا التي ألحقناها بهذه المجموعة فهي أربع. اثنتان منها كتبهما الشيخ لما كان في جيزان في إمارة الإدريسي، والثالثة كتبها في حيدراباد بالهند، والرابعة في مكة المكرمة.
أما الوصيتان اللتان كتبهما في جيزان فهما من مجموع بخط الشيخ برقم 4708، والأولى منهما في اللوحة (60) والثانية في (61/ب). والظاهر أن الثانية ليست إلا مسودة ناقصة لم يخرج فيها الشيخ عن بيان اعتقاده،
(مقدمة 22/23)
والأولى هي الأصل. وذكر الشيخ في هذه بعد المقدمة وطنه، وحدده تحديدًا دقيقًا، وكذلك حدد مقام والده وأخيه. ثم أوصى السيد الإدريسي في الأشياء التي عنده كيف يوصلها إلى والده أو أخيه. وقد بينها في ورقة منفصلة لم نجدها مع الوصية. ومما يلفت النظر في هذه الوصية أمران:
الأمر الأول: عن كتبه، فقد أوصى ببقائها في بيت والده، ووقفها على أولاده الذكور، وأن يكون ناظرها هو الأعلم الأورع منهم، وأن لا يمنع غيرهم من المطالعة، ولكن لا يسلم كتاب لأحد إلا بورقة، وأن يتعاهدها في الشهر مرتين.
والأمر الثاني: عن كتاباته، إذ سأل والده وأخاه جمعَ شعرِه ومذكراته ونشرها إن تيسر. وكذلك سأل السيد الإدريسي أن يأمر بجمع مدائحه فيه وطبعه. وقد ادخر الله سبحانه سعادة تنفيذ وصية الشيخ للقائمين على هذا المشروع المبارك إن شاء الله، فوفقهم لنشر جميع ما تيسر لهم الحصول عليه من كتب الشيخ ورسائله ومذكراته في صورة موسوعة كاملة وعلى أحسن وجه من الطباعة والإخراج، فجزاهم الله أحسن الجزاء.
أما الوصية الهندية ففيها بعد المقدمة ثلاثة أمور مهمة:
الأول: وصيته لكل مسلم بتحقيق التوحيد واجتناب البدع كلها، واتباع ما تبين له أنه الحق سواء أكان مذهب إمامه أم مذهب غيره.
والثاني: وصيته عن ولده ــ إذا توفي الشيخ قبل بلوغه ــ أن يجتهد الشيخ إبراهيم رشيد في تربيته تربية صالحة، وإلزامه إذا وصل حد القراءة بحفظ القرآن وتلقينه التوحيد الحق.
(مقدمة 22/24)
والثالث: وصيته في كتب كانت عنده لورثة السيد الإدريسي لترسل إليهم، ومنها نسخة خطية لتدريب الراوي.
وقد ولد ابنه المذكور في الهند في 6 ربيع الآخر 1351، فتاريخ هذه الوصية فيما بين 1351 – 1356. ولم أقف على أصل هذه الوصية، وإنما اعتمدت في نشرها على مقدمة المحقق لكتاب “عمارة القبور” للمعلّمي (طبعة المكتبة المكية) وقد أورد الوصية ضمن ترجمة المؤلف (ص 32 – 33).
أما الوصية الأخيرة فهي وصية الشيخ لتلميذه محمد بن أحمد المعلمي، الذي لزمه في مكة المكرمة عامين كاملين وقرأ عليه وخدمه، كما ذكر الشيخ، فلما أراد الرجوع إلى وطنه سأل الشيخ أن يكتب له وصية نافعة. وهي وصية جامعة مفصلة، رتبها على ثمانية مطالب، ستة منها في أركان الإيمان والإسلام وأعمال التطوع. والمطلب السابع في مخاطبة الناس، والثامن في مصالح الدنيا ومعاملة الناس.
وفي آخر الوصية كتب الشيخ اسمه وتاريخها، وهو 7 محرم الحرام سنة 1374، يعني قبل وفاته باثنتي عشرة سنة.
لم نقف على أصل هذه الوصية وإنما اعتمدنا في نشرها على مطبوعتها التي صدرت عن دار ابن حزم في بيروت سنة 1430 بعناية الشيخ عبد الرحمن عبد القادر المعلمي.
3) نصيحة لطالب الحق
آخر ملحقات هذا المجموع: “نصيحة لطالب الحق”. وهي في الأصل جزء من مقدمة الشيخ لبعض مسوداته في أحكام أخبار الآحاد. وله رسالة
(مقدمة 22/25)
في هذا الموضوع ضمن مجموعة رسائله في الأصول، والظاهر أن الشيخ لما بيضها كتب لها مقدمة جديدة.
أما هذه فقد عثر عليها الشيخ محمد عزير شمس في كراسة صغيرة غير مرقمة، فنسخها منها. ولما كانت نصيحة عامة لطالب الحق بأن يهتم قبل النظر في أي مسألة بمحاسبة نفسه وبذل وسعه في التجرد عن الهوى سائلًا الله سبحانه أن يعينه ويوفقه لإصابة الحق= رأينا أن تكون مسك الختام لهذه الوصايا، بل لهذا المجموع كله.
وفي آخر هذه الكلمة أشكر للأخ الفاضل الشيخ نبيل السندي الذي أعانني على تخريج بعض الأحاديث، وراجع التجارب النهائية مراجعة دقيقة، فجزاه الله خير الجزاء. والحمد لله أولا وآخرا.
محمد أجمل أيوب الإصلاحي
الرياض 9 شعبان 1433
(مقدمة 22/26)
نماذج من النُّسخ الخطية
(مقدمة 22/27)
نموذج من الخطب
(مقدمة 22/29)
نموذج من الخطب
(مقدمة 22/30)
نموذج من الخطب
(مقدمة 22/31)
نموذج من الخطب
(مقدمة 22/32)
نموذج من الخطب
(مقدمة 22/33)
نموذج من الخطب
(مقدمة 22/34)
نموذج من الخطب
(مقدمة 22/35)
نموذج من الخطب
(مقدمة 22/36)
نموذج من الخطب
(مقدمة 22/37)
نموذج من الوصايا
(مقدمة 22/38)
الخطب والوصايا
تأليف
العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي
تحقيق
محمد أجمل أيوب الإصلاحي
(22/1)
(1)
[ل 2] الحمد لله
الحمد لله الذي بسَطَ للعالمين فِراشَ نِعَمه، وضرَبَ عليهم رِواقَ فضلِه وكرمِه؛ فهم يتقلَّبون على مِهادِ نَعمائه، ويتفيَّؤون ظلالَ جوده وآلائه. شرَعَ لهم الدينَ ونهَجَه، وأبلَغَ إليهم براهينَه وحُجَجَه. وبيَّن لهم الطريقين، وأعلَمَهم مصيرَ الفريقَين، لِيَعلَم مَن يُؤْثر الحياةَ الدُّنيا، ممَّن يطيعه بحبِّ الأخرى؛ ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. أحمدُه جلَّ ذكرُه وأشكرُه، وأتوب إليه تبارك اسمُه وأستغفرُه.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسلَه على حين فترةٍ من الرسل، وانتشارٍ من الأهواء والنِّحَل؛ والجاهليةُ في عنفوانها وطفوحِ طوفانها، والعصبيةُ في رَيعانها واضطرام نِيرانها، والعربُ عاكفةٌ على أوثانها، مطلِقةٌ لعِنانها بيد شيطانها، والأممُ مُجْمِعةٌ على الضلالة، متنافسةٌ في الجهالة.
فلم يزل – صلى الله عليه وآله وسلم – يدعو إلى الله سِرًّا وجهارًا، ويبلِّغ الرسالةَ ليلًا ونهارًا، مجاهدًا في الله حقَّ جهاده، مؤدِّيًا رسالتَه إلى عباده. فقامت أقاربُه تُحارِبُه، وبنو عمِّه تُغالِبُه، وبالعداوة تُناصِبُه، حتى تقشَّعتْ من الجهل سحائبُه، وانجلتْ من الكفر غياهبُه، ودرستْ من الغيِّ مذاهبُه، وتفرَّقتْ عصائبُه، وتمزَّقتْ مواكبُه، وخمدتْ نوائبُه.
وقامت دعوة الحقِّ، وسطعت أنوارُها في الغرب والشَّرق، وسرَتْ
(22/3)
آثارُها (1) في قلوب الخلق، حتى عزَّ من الدين جانبُه، وظهرت مناقبُه، وتألَّبتْ مقانبُه، واتسع لاحِبُه، وأمِن صاحبُه، واهتدى طالبُه، واتَّضح مندوبُه وواجبُه، وتلألأتْ كواكبُه، وبدَتْ من النَّصر عجائبُه، واستبانتْ غرائبُه ورغائبُه.
اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على هذا النبي الكريم، ذي الخُلُق العظيم: سيِّدِنا محمدٍ أفضلَ الصلاة والتسليم، وعلى آله وأصحابه ذوي الفضل العميم.
أما بعد، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله، فاعلموا أنكم إنما خُلقِتم للعمل، لا لجمع المال والخَوَل، فيا سعادةَ مَن راقبَ هجومَ الأجل، وكان من دنياه على وَجَل! ويا شقاوةَ مَن غَرَّه طولُ الأمل، وامتدادُ المُهَل؛ فوقع في الزلل، والخطأ والخَطَل!
ابنَ آدم، إن كنتَ مؤمنًا بالله ورسوله وباليوم الآخر، فكيف يسوء عملُك؟ وإن كنتَ لا تأمن هجومَ الموت في كلِّ لحظة، فكيف يطول أملُك؟ وإن كنت مصدِّقًا بوعد ربِّك فكيف يطول في جمع هذه الدنيا تعبُك؟ وإن كنت عالمًا أنَّك مؤمِّل بالجِدِّ، فكيف يسوغ لعبُك؟
قد كان قبلَك مَن هو أطولُ منك أملًا وأكثرُ مالًا وخَوَلًا، بينا هم في مثلِ ما أنت فيه من الغفلة، والطمعِ في امتدادِ المهلة، وتركِ الاستعداد بزاد الرِّحلة؛ إذا بهاذمِ اللَّذَّات قد اختطَفَهم، ومن بين أحبِّتهم اقتطَفَهم. فأعوَلَ أحبابُهم، ونُزِعَتْ ثيابُهم، وفُتِحتْ أجداثُهم، وسُوِّي عليهم ترابُهم، وتقسَّمَ
(1) “آثارها” غير واضحة في الصورة.
(22/4)
أموالَهم أصحابُهم. وقد أُودِعوا بطونَ الرُّموس، حيث لا خِلَّ ولا أنيس، وقد خابت آمالُهم، ولم يصحَبْهم إلا أعمالُهم. وأعمالُهم هي قبورهم وعُمَّالهم، وهي في الآخرة مآلهم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
فتلك بيوتهم خاوية، وأجسادهم رِمَمًا بالية. هم السابقون، ونحن اللاحقون، وكلُّنا إلى ما صاروا إليه صائرون، حتى يجيءَ يومُ البعث، فيجمع الله الأولين والآخِرين، بعدَ أن نُسِفت الجبالُ وسُيِّرتْ، ومُدَّت الأرضُ وبُدِّلتْ، وانشقَّت السماء وانفطرتْ. فإنما هي زجرة واحدة، فإذا هم بالساهرة، والخلقُ إلى الداعي مهطِعون، وإلى إجابته يُهرَعون حُفاةً عُراةً، كما بدأهم أعادهم.
ثم يُنصَبُ الميزانُ، وتَطايَرُ الصحفُ بالأيمان والشمائل، فمِنْ مُلجَمٍ بعَرَقِه، ومن مُصابٍ بغَرَقِه، ومن مغلول يداه إلى عنقه، ومن ماشٍ على وجهه، ومنكَّسٍ على رأسه. ثم يمرُّون على السِّراط مضروبًا على جسر جهنَّم، فمِن ناجٍ، ومن مخدوشٍ، ومن واقعٍ في النار، حتَّى يُجاءَ بالموت على صورة كبش، فيُذبَح بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل الجنَّة، خلودٌ فلا موت؛ ويا أهل النار، خلودٌ فلا موت. فطوبى لمن حاسب نفسه، فاتقى ربَّه، وأقلعَ عن ذنبه مبادرًا بالتوبة.
الحديث: عن عائشة رضي الله عنها أنَّها ذكرت النارَ، فبكَتْ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -: “ما يُبكيكِ؟ ” قالت: ذكرتُ النارَ، فبكيتُ، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال – صلى الله عليه وآله وسلم -: “أمَّا في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحدٌ أحدًا: عند الميزان حتى يَعلَمَ أيخفُّ ميزانُه أم يثقُل؛ وعند الكتاب حين يقال: هاؤم اقرؤوا كتابيه، حتى يَعلَمَ أين يقع كتابُه، أفي يمينه أم في شماله، أم من وراء
(22/5)
ظهره؛ وعند السِّراط إذا وُضع بين ظهرَي جهنَّم” (1).
هذا، وإن الله جلَّ ذكرُه يقول: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 26 – 28]، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية: 30 – 31].
وفَّقني الله وإياكم لطاعته، ورَزَقَنا حسنَ عبادته.
هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].
(1) أخرجه أحمد (24696)، وأبو داود (4755)، والحاكم في “المستدرك” (4/ 578) وقال: “هذا حديث صحيح على شرط الشيخين لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة، على أنه قد صحَّت الروايات أن الحسن كان يدخل وهو صبي منزلَ عائشة رضي الله عنها وأم سلمة”.
(22/6)
(2)
[ل 3/أ] الحمد لله (1) الذي فضَّل شهرَ رمضان على سائر الشهور، وجعَلَه شهرَ التشبُّهِ بملائكته، وربيع طاعته ومغتنم الأجور. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهم فصلِّ وسلِّم على نبيِّك الكريم محمدٍ، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان.
أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله في جميع الأحوال، وقصدِ رضاه بجميع الأقوال والأفعال؛ وإياكم ومعاصيَه فإنَّها سببُ الطَّرد والنَّكال.
وهذا رمضانُ شهرُ التوبة والإقلاع، والجِدِّ والإسراع؛ أنزلَ فيه كريمَ ذكره، وخصَّه بليلةِ قدره. فطوبى لامرئٍ أحسنَ الصيام والقيام، وحَمَى جوارحَه عن موارد الآثام، وأمسَكَ عن فضول الكلام، ولم ينطق إلا بذكر الله، وذلك حقيقةُ الصيام، فاغتنَم الخيرات خيرَ اغتنام.
وبُؤسَى لامرئٍ ظلَمَ نفسَه بتركِ صيامه وقيامه، أو نام عن الصلوات أكثرَ أيَّامه، أو سوَّد صحيفتَه بأكل حرامه، أو أحبطَ عملَه بكثرة كلامه؛ متَّخذًا له شهرَ راحةٍ في الدنيا، وتنعَّم وتفنَّن بالمآكل والمشارب، ظانًّا أنَّ في إمساكِه عن الطَّعام والشَّراب طولَ نهاره أداءَ الواجب. لا والله، وإنَّما الفائزُ مَن جرَّد نفسَه للطاعة، وخلَعَ ثيابَ الرَّاحة، واشتغَلَ بالخيرات ليلَه ونهارَه؛ فإنَّ هذا الشهر أحد أركان الإسلام كالصلاة والزكاة والحج. وإنَّ الصلاة يُبطِلها لغوُ الكلام،
(1) قد صورت هذه الخطبة مكررة في (ل 5/أ).
(22/7)
وخطابُ الخلق، والعملُ في غير مصالحها. وإنَّ الزكاة لا تجزئ إلا طيِّبةً جيِّدةً، وإنَّ الحجَّ لا رفَثَ ولا جدالَ فيه. فمن عرفَ هذا فأدَّى بحسَبه عملَه فقد فاز، ومَن آثرَ الرفاهيةَ والراحةَ، وأطلَقَ لنفسه ولسانِه العنانَ؛ فقد حبط عملُه.
الحديث (1): قال – صلى الله عليه وسلم -: “ما مِنْ عَبدٍ يصلِّي الصلواتِ الخمس، ويصومُ رمضانَ، ويُخرِجُ الزكاة، ويجتنب الكبائر؛ إلا فُتِحَتْ له أبوابُ الجنة، وقيل له: ادخُلْ بسلامٍ”.
ألا، وإنَّ أحقَّ ما استُمِعَتْ كلماتُه، وتُدُبِّرَتْ آياتُه، ونَفَعَتْ بَيِّناته= كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77 – 78].
وفَّقَني الله وإياكم لرضوانه، وجنَّبنا ملابسةَ عصيانِه، وكثَّر لنا الفوز بغفرانه وإحسانه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
(1) أخرجه النسائي (2438) من رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري.
(22/8)
(3)
[ل 4] الحمد لله الذي بيَّن الحلالَ من الحرام، وأوضح لعباده سبيلَ النُّور من الظلام؛ فأمَرَ وزجر، وبشَّر وحذَّر؛ ومازَ الحقَّ من الباطل، وأقامَ الحجةَ على كلِّ عاقل.
وأشهد ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له. جلَّ عن النقائص والرذائل، وتنزَّهَ عن الآباء والبنين والحلائل. شرَعَ لنا الدينَ، فبيَّن طريقَيه، وأقامَ الأدلَّةَ لِفريقَيه.
وأشهد أن سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه. أرسله رحمةً للعالمين، وإرشادًا للجاهلين، فأبلغَ الرسالة، وأوضحَ الدِّلالة، وأزالَ الجهالة، وبيَّن الهدى من الضلالة، فنطق بالحجة، ونهَجَ المحجَّة. وشرَعَ الدين وأرشد إليه، وبيَّن الغيَّ وحذَّر منه. فلم يُبقِ عذرًا لمعتذِر، ولا حجَّةً لمحتجِر (1).
اللهم فصلِّ وسلِّمْ على هذا النبيِّ الكريم الهادي إلى صراطك المستقيم، سيِّدنا محمد وعلى آله الذين فصَّلتَ بهم ما أجمَلَ، وبيَّنتَ بهم ما فصَّلَ. وعلى أصحابه الذين (2) نجومُ الاهتداء (3)، وأعلامُ الاقتداء، والرُّجومُ على ذوي الاعتداء. اخترتَهم لصحبته، ورضيتَهم لنصرته، وخصصتَهم بإعانة الدين وجهاد المفسدين. وعلى أتباعهم من العلماء العاملين والهُداة الكاملين
(1) هكذا وقع في الأصل، وهو مقتضى السجع، فإن صحَّ فهو من احتجر به: لجأ إليه. ولكن يظهر لي أنه سبق قلم، والصواب: “لمحتجٍّ” من الحجة، كقوله: “لمعتذر” من العذر.
(2) كذا في الأصل بحذف العائد بعده.
(3) لم ترسم الهمزة هنا ولا في الكلمات بعدها.
(22/9)
الذين حفظتَ بهم دينَك عن أهواء البدع المضِلَّة، والعوارض الطاغية المُخِلَّة؛ وعلى تابعيهم من جميع المحسنين إلى يوم الدين.
أما بعد، عبادَ الله، فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وحفظِ حدودِ الله، ومراعاةِ حقوقِ الله، وتوخِّي رضا الله، وتجنُّبِ معاصي الله.
عبادَ الله، إنَّ تقوى الله هي الجُنَّة الواقية، والعُدَّة الوافية، والذخيرة الكافية، والحكمة الشافية، وسبب العفو والعافية. وإنَّ معصيةَ الله هي الداءُ العُضالُ، والمؤدِّيةُ إلى مهالك الأهوال.
ألا، وإنَّ حبَّ الدنيا هو الدَّاهية الدَّهْياء، والداء العَياء؛ فإيَّاكم من المعاصي، وعليكم بالتقوى، تنجوا من السعير، وتفوزوا بجنَّة المأوى.
ابنَ آدم، إلى متى لا تزال مكبًّا على الذنوب، غارقًا في أمواج العيوب، سابحًا في بحار الغفلة، كأنك قد تيقَّنتَ الخلود، أم تيقَّنتَ أنَّك بعد الموت تعود!
ألم تعلم ما في جهنَّمَ ذاتِ الوَقود، من السلاسل والقُيود، وما فيها من الحيَّات والعقارب السُّود، بعد أن تلقَى من عذاب القبر أهوالًا، ومن حال البرزخ أوجالًا، فلعلك عند الحساب لا تطيق مقالًا، ولا تجد في المقام مجالًا، بعد أن تعلمَ ما كنتَ عليه زورًا ومحالًا؛ فمن الذي يقوم عنك جدالًا، أم مَن الذي يقضي عنك ولو عِقالًا؟
هيهات هيهات للنجاة يومئذ إلا بخالصِ الأعمال، وحسنِ الأحوال، وصفاءِ القلوب، وقلةِ الذنوب.
ويحك! حتَّامَ تسوِّف بالتوبة، وتعِد نفسَك بالأوبة، وأنت لا تجهل أنَّ الموتَ مُفاجيك، ومسوِّفُك مُداجيك، وأجلُك مناجيك؟
(22/10)
كم مسوِّفٍ قبلك فاجأه الفَواتُ، وسبقته الوفات (1) وضاقت عن نجاته الأوقات، وتقاصرت عن آماله الساعات؛ فأصبح رهينَ رمسه، يعَضُّ على يديه ندَمًا على نفسه!
وكم مغترٍّ بدنياه، مستَرٍّ (2) بمَحْياه، مسوِّفٍ بمتابِه، مبعِّدٍ لمآبِه، غافلٍ في نومه، جاهلٍ في قومه، تقْلِبُه الدنيا جنبًا على جنب سكرانًا (3)، ويخادعه الشيطان آنًا فآنًا؛ فما أيقَظَه إلا بغتةُ الأجل، وانقطاعُ الأمل، وانبتاتُ العمل؛ فحلَّ به الندَمُ، بعد زوال القَدَم.
فالعاقلُ من حاسَبَ نفسَه، واغتنم خَمْسَه (4)، ولاحَظَ رَمْسَه؛ فكان لنفسه صديقًا، لا يسعى إلا في نفعها، ولا يهمُّه غيرُ رفعها، يطرَحُ هواه إلى ما أمر به الله. فمن كان كذلك فاز بالنعيم المقيم، وأمِنَ شرَّ الجحيم.
فليس العاقل من سعى في تكثيرِ ماله، وتهنيءِ عيشه، وتحسينِ ثيابه، وترغيد (6) أكله وشرابه، وتحليةِ شبابه. كلَّا، والله، وإنما العاقلُ من آثرَ
(1) كذا في الأصل بالتاء المفتوحة مراعاةً للسجع. وانظر (ص 35).
(2) كذا في الأصل بمعنى “مسرور”، والظاهر أنه عامي.
(3) كذا في الأصل مصروفًا.
(4) يشير إلى قول النبي – صلى الله عليه وسلم – : “اغتنم خمسًا قبل خمسٍ … ” الحديث. وسيأتي في الخطبة العاشرة.
(5) ساقط سهوًا.
(6) يعني توفيرهما. ولم أجده في كتب اللغة. وقد ذكره دوزي في تكملته (5/ 166)، وجاء في كلام المتأخرين كقول فتيان الشاغوري (ت 615):
وأنت يا مطربُ غَرِّدْ فما … ترغيدُ عيشي غير تغريد
(22/11)
الباقي على الفاني، والدائمَ على المنقطع، والفاضلَ على المفضول، والخيرَ على الشرِّ، ودارَ المقرِّ على دار الممرِّ، ومكانَ الإقامة على طرق السفر.
وأيُّ عاقل يسعى في عمارةِ ما لا يقيم فيه، ويترك ما يقيم فيه؟ وأيُّ مُميِّزٍ يُزخرفُ طريقًا هو مارٌّ فيها وراحلٌ عنها، ويترك دارَ إقامته خرابًا؟ وإنما ذلك من الجنون، وأعقَلُ الناسِ الزاهدون.
الحديث: عن ابن عمر رضي الله عنهما: أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمنكبي، فقال: “كُنْ في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابرُ سبيل”. وكان ابن عمر يقول: “إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء. وخُذْ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك”. أخرجه البخاري (1).
وعنه – صلى الله عليه وسلم – : “لو أنَّ دلوًا من غَسَّاق يُهرَاقُ في الدنيا لأنتَنَ أهلُها، ولو أنَّ شرارةً من جهنَّم بالمشرق لوُجِدَ حرُّها بالمغرب” (2).
وعنه صلى الله وسلَّم عليه أنه قال: “لو علمت البهائمُ من الموتِ ما علمتم ما أكلتم منها لحمًا سمينًا” (3).
(1) برقم (6416).
(2) أخرج الجزء الأول بهذا اللفظ الإمام أحمد في المسند (2/ 11230، 11786) والترمذي (2787) والحاكم في المستدرك (8779) من حديث أبي سعيد الخدري. وبلفظ آخر مع الجزء الثاني أخرجه الطبراني في الأوسط (6381) من حديث أنس. قال الهيثمي: وفيه تمام بن نجيح وهو ضعيف، وقد وُثِّق. انظر: مجمع الزوائد (10/ 708).
(3) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (6/ 34) من حديث أبي سعيد. وانظر: السلسلة الضعيفة (6738).
(22/12)
ألا، وإن أبلغَ واعظٍ، وأعظمَ زاجرٍ، وأعصمَ ناهٍ وآمرٍ= كلامٌ لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 – 11].
وفَّقني الله وإياكم للاهتداء بهديه، والاقتداء بنبيِّه، والاعتصام بوحيه؛ وغمَرَنا بعفوه ورضوانه، ورحمته وغفرانه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم.
(22/13)
(4)
[ل 6] الحمد لله الذي خلَقَ الجنَّ والإنسَ لِيعبُدوه، وتعرَّف لهم لِيقصِدُوه، وأرسَلَ إليهم رُسُلًا منهم بالبيِّنات ليوحِّدوه. وأوجَبَ عليهم عبادتَه بما شرَعَ لهم من الأعمال الصالحة، وحثَّهم على مكارم الأخلاقِ وحذَّرَهم من مَذامِّها الفاضحة. وأحلَّ لهم الطيباتِ وحرَّم عليهم الخبائثَ، وأعدَّ الجنَّةَ ونعيمَها للمصلحين، والنارَ وجحيمَها لكلِّ عائث. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره على جزيل الفضل والإنعام، وأتوبُ إليه وأستغفرُه من جميع الذنوب والآثام.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدَنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على رسولك مولانا محمدٍ خيرِ إنسان، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد، عبادَ الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله كما أوصاكم، وانتهُوا عما عنه نهاكم. وبادِروا آجالَكم بأعمالِكم، واقطعوا آمالَكم بتوقُّع آجالِكم. واعلموا أنه لا سبيل إلى البقاء، ولا سبيل غير النعيم أو الشقاء.
ابنَ آدم، استيقِظْ من غمرة الغفلة، ولا تغُرَّنَّك هذه المهلة، فكأنَّك بهاذمِ اللذَّات قد نزلَ عليك، واختطَفَ نفسَك من بين جنبَيك، فتخلَّف عنك أهلُك وإخوانُك ومالُك، ولازمَتْك يا مسكينُ أعمالُك، فدُفِنْتَ في حُفرتك وحيدًا، ووجدتَ ما قدَّمتَه لربك عتيدًا. فلا تصرِف همَّك إلى ثِقَل التُّراب والأحجار، بل إلى ثِقَلِ الذُّنوب والأوزار. ولا تهمَّنَّك (1) مصيرُك جِيفةً
(1) كذا في الأصل. ولعله نظر في تأنيث الفعل إلى الجيفة والدود.
(22/14)
تنتثر في محاسنك الدُّودُ، بل استعِدَّ لسؤالِ منكرٍ ونكيرٍ وعذابِ اللُّحود.
واعلَمْ أنَّ القبرَ إمَّا روضةٌ من رياض الجنة، وإمَّا حفرةٌ من حُفَر النار، فلا يزال في نعيمٍ إنْ كان من الأخيار، أو جحيمٍ إنْ كان من الأشرار؛ حتى تُحشَرَ الناسُ، فتُوضَع الموازينُ، ويُنصَب السِّراطُ، وتَطايَرُ الصحفُ؛ فمِنْ آخذٍ بيمينه، ومن آخذٍ بشماله.
ثم إمَّا إلى سِدْر مخضود، وطلح منضود، وظلٍّ ممدود، وماء مسكوب، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة؛ لأنها دار الخلود. وإمَّا إلى سَموم وحميم، وظلٍّ من يحموم لا باردٍ ولا كريم.
الحديث: رُوي عنه – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال: “من أحبَّ دنياه أضرَّ بآخرته، ومن أحبَّ آخرته أضَرَّ بدنياه، فآثِرُوا ما يبقى على ما يفنَى” (1).
وعنه – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال: “يُحشَر الناسُ يوم القيامة ثلاثةَ أصناف: صِنفًا مُشاةً، وصنفًا رُكبانًا، وصنفًا على وجوههم”. قيل: يا رسولَ الله، وكيف يمشُون على وجوههم؟ قال: “إنَّ الذي أمشاهم على أقدامهم قادرٌ على أن يُمْشِيَهم على وجوههم. أمَا إنَّهم يتَّقون بوجوههم كلَّ حدَبٍ وشوكٍ” (2).
هذا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا
(1) أخرجه الإمام أحمد في “المسند” (19697)، وابن حبان في “صحيحه” (709) والحاكم في “المستدرك” (7853) وغيرهم من رواية أبي موسى الأشعري بسند فيه انقطاع. وأخرجه ابن أبي عاصم في الزهد من رواية أبي هريرة بسند حسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (3287). وانظر الضعيفة (5650).
(2) أخرجه الترمذي (3142) من حديث أبي هريرة، وقال: هذا حديث حسن.
(22/15)
السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)} [سورة الانفطار].
هذا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم، فاستغفِروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
(22/16)
(5)
ل 7/أ الحمدُ لله المتعزِّزِ بقدرته وجَبَروته، المنفردِ بكبريائه وعَظَموته، المتودِّدِ إلى عباده برأفته ورَحَموته. الملِكِ (2) الجبَّارِ المرهوبِ بتجلِّي (3) جلالِه، المرغوب بتجلِّي جمالِه، الواحدِ الأحدِ الفردِ في ذاته وصفاته وأفعاله. أحمده ولا يُحمد على كلِّ حالٍ غيرُه، ولا يُخشى إلا سخطُه، ولا يُرجى إلا خيرُه.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا (4) عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على هذا النبيِّ الذي اخترتَه لحبِّك، وشرَّفتَه بالعُبودَة لك وقُرْبِك؛ و (5) محوتَ به غَياياتِ الجاهلية (6)، وأنَرْتَ الأكوان بشريعته البيضاءِ النَّقيَّة؛ حبيبِك (7) الذي خصصتَه بالمكارم، وأحللتَ له ولأمَّتِه الغنائم: سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم. وعلى آلِه قُرناءِ القرآن (8)، وأمانِ أهلِ
(1) هذه مبيضة الخطبة الواردة في (ل 18/أ، 19/أ). وبينهما فروق سأشير إلى أهمها.
(2) في (18/أ): “وهو الملك”.
(3) في (ل 18/أ): “تجلي” هنا وفيما يأتي.
(4) الكلمة ساقطة من (ل 18/أ) سهوًا.
(5) في (ل 18/أ) “الذي” مكان واو العطف.
(6) في (ل 18/أ): “شبهات الجاهلية”.
(7) “حبيبك” زادها في المبيضة.
(8) يشير إلى ما أخرجه الترمذي (3786) من حديث جابر بن عبد الله. وفيه: “إني قد تركتُ فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتابَ الله، وعِترتي أهل بيتي”. قال الترمذي: وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد. قال: وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وانظر “السلسلة الصحيحة” للألباني (1761).
(22/17)
الأرض، كما أنَّ النجوم لأهل السَّماء أمان (1)؛ وصحابتهِ الذين رُزِقُوا قُرْبَه، ومُنِحوا حُبَّه، وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم، فكانوا في الدنيا والآخرة صَحْبَه، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8].
أما بعد، عبادَ الله، فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فتداركوا التوبةَ ما دام في القوس منزَع، وفي الحياة (2) مطمع. وخلِّصوا أنفسكم من حبائل الآمال، وافزعوا إلى فضائل الأعمال؛ فإنما الآمال كالسَّراب، كلَّما جهدتَ نفسَك سعيًا لم تُدرِكْ (3)، ولا تَحصُلُ على غير الهلاكِ إنْ لم تيأَسْ منه وتَتْرُكْ؛ فحَذارِ حَذارِ من ركوبِ الأخطار، وغضبِ الجبار، وعذاب النار. فطوبى لمن بادر أجلَه، فأصلَحَ (4) عمله. وويلٌ لمن غَفَل عن أجله، فصادفه تائهًا في أمَلِه، مسرفًا في عمَلِه.
وقد علمتم ما فرض الله عليكم من الواجبات، وما رغَّبكم فيه من المندوبات، وما حذَّركم عنه من المحرَّمات، وما رغَّبكم في تركه من
(1) يشير إلى ما أخرجه ابن الأعرابي في “معجمه” (2079) والروياني في “مسنده” (1164، 1165) عن سلمة بن الأكوع مرفوعًا. وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي، وهو متروك. وانظر “السلسلة الضعيفة” للألباني (4699).
(2) رسمها في المبيضة: “الحيات”.
(3) في (ل 18/أ): “لم تدركه”، وكذلك “وتتركه” فيما يأتي.
(4) في (ل 18/أ): “فأحسَن”.
(22/18)
المكروهات. فأدُّوا الفرائض (1) كما بيَّن، واجبُروا نقصَها بأداء السُّنَن، واجتنِبُوا سُبُلَ الحرام، ولا تقرَبُوا المكروهاتِ على الدوام. وراقِبُوا الله في جميع أعمالكم، وأخلِصُوا له في سائر (2) أقوالكم وأفعالكم. ولا تستعظِموا حسناتكم، ولا تستصغِروا سيِّئاتكم، فإنَّ العظيمَ من الحسنات هو ما قبله الله وإن كان حقيرًا (3)، وإنَّ الصغير من السيِّئات ما غفره الله وإن كان كبيرًا (4).
وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام: “الحلالُ بيِّنٌ، والحرامُ بيِّنٌ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى (5) يوشك أن يقع فيه، ألا، وإنَّ لكل ملكٍ حمًى، ألا وإنَّ حمى الله في الأرض محارمُه” (6).
[ل 7/ب] هذا، وإنَّ أبلغَ الكلام نصيحةً ووعظًا (7)، وأحسنَه معانيَ ولفظًا= كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والله سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ
(1) في المبيضة رسمها بالظاء.
(2) في (ل 18/أ): “جميع”.
(3) “وإن كان حقيرًا” زادها في المبيضة.
(4) “وإن كان كبيرًا” زادها في المبيضة.
(5) رسمها في المبيضة هنا وفي الموضع الآتي: “حما”.
(6) من حديث النعمان بن بشير. أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599).
(7) رسمها في المبيضة: “وعظى”.
(22/19)
الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18 – 20].
فطُوبَى لمن عرَفَ الحقَّ، فاتَّبعَه مُقِرًّا، واجتنَبَ هذه الدنيا الدنيَّة وقدَّمَ للأُخرى {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].
(22/20)
(6)
ل 8/أ أنفَعُ ما قُوبِلتْ به صَدَماتُ المصائب، واستُقبِلتْ به هجَماتُ النَّوائب= حمدُ الله تعالى على كلِّ حال، والرضا بما قضاه ذو الجلال. فأحمده سبحانه وتعالى حمدَ مسلِّمٍ لِما قَضاه، راضٍ بما قدَّره وأمضاه.
وأشهد ألَّا إلهَ إلا الله، المحيي المميت الوارث، الباقي المعيد الباعث؛ وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أكرمُ مَن ذاقَ مرارةَ الفَوت، وأشرفُ مَن تجرَّع سكراتِ الموت، وأعظمُ مَن غيَّبتْه القبورُ، واستُودِعَه الترابُ والصخورُ.
اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على مولانا محمد، وعلى آله الذين اشتدَّت عليهم في الصدر الأول البلايا، وأُذيقَ أكثرهم بالقتل غُصَصَ المنايا، وأصحابه الذين بايعوا الله على الموت في سبيله، ووَفَوا بما عاهدوا الله عليه بين يدي رسوله.
أما بعد، فإنَّ هذه الدارَ دارُ فناء، ليس لها بقاء؛ وإنما هي مهلةٌ للتزوُّد ليوم اللِّقاء، إما لِلسَّعادةِ وإما لِلشَّقاء.
هي الدنيا تقول لِطالِبيها … حَذارِ حَذارِ من بطشي وفتكي
فلا يَغرُرْكُمُ منِّي ابتسامٌ … فقَولي مُضحِكٌ والفعلُ مُبكي (2)
(1) في (8/ب) قيَّد كلماتٍ كأنها قوافٍ أعدَّها لنظم قصيدة على روي حرف القاف.
(2) البيتان لأبي الفرج الساوي من كُتَّاب الصاحب من قصيدة له في رثاء فخر الدولة. انظر: “يتيمة الدهر” (3/ 393) والرواية في البيت الأول: “تقول بملء فيها”.
(22/21)
وإنَّه قد بلغني ما قضاه الله تعالى من وفاة سيِّدي الأخ الفاضلِ العالمِ العاملِ عِزِّ الإسلام: محمد بن يحيى بن علي المعلِّمي رحمه الله تعالى. وهذا حوض مورود، وسبيل مسلوك، لا مفرَّ منه، ولا محيدَ عنه.
كلُّ ابنِ أمٍّ وإن طالت سلامتُه … يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ (1)
ولقد ــ والله ــ ذرفت العيونُ، وتسعَّرت الشجونُ، وتصاعدت الزفراتُ، وتوقَّدت الحسراتُ. إذا ما استنجدتُ الصبرَ لم يُجِبْ، وإذا دعوتُ الجَلَد (2) لم يُلبِّ. فإذا التفتُّ إلى الدموع وجدتُها مُسْعِدةً بصَبِيبها، مُرجَحِنَّةً بشآبيبها.
إذا ما دعوتُ الصبرَ بعدكَ والبكا … أجاب البكا طَوعًا ولم يُجِبِ الصبرُ
فإن ينقطعْ منك الرَّجاءُ فإنَّه … سيبقَى عليك الحزنُ ما بقى الدهرُ (3)
على أنِّي كلما غفلَتْ عيناي عن السَّكْبِ أهَبْتُ بهما إليه، وكلَّما سكن صدري عن الزفير حرَّضتُه عليه.
أقول لنفسي في الخلاء ألومُها … لكِ الويلُ ما هذا التجلُّدُ والصبرُ
ألم تعلمي أنْ لستُ ما عشتُ لاقيًا … أخي إذ أتى من دون أوصاله القبرُ
وكنتُ أرى كالموت من بين ليلةٍ … فكيف ببينٍ كان ميعادَه الحشرُ
(1) لكعب بن زهير من قصيدة بانت سعاد. والرواية: “كلُّ ابنِ أنثى”. انظر “ديوانه” (19).
(2) بعده في الأصل: “قال”، ولعله كتبها سهوًا ثم نسي أن يضرب عليها.
(3) البيتان للعباس بن الأحنف في ديوانه بتحقيق عاتكة الخزرجي (137)، وهما في حماسة أبي تمام (1/ 437) والحماسة البصرية (2/ 758).
(22/22)
وهوَّنَ وجدي أنني سوف أغتدي … على إثره يومًا وإن نفَّس العمرُ (1)
فأنا تارةً أسلِّي نفسي، وتارةً أغالط يأسي. وأيَّ شيءٍ تفيد المراجعة، أو تُجدي المغالطة والمخادعة! ولكنِّي أقول:
أحقًّا عبادَ الله أن لستُ رائيًا … شقيقيَ بعدَ اليومِ إلا توهُّما
ولكني أجِيلُ ناظري في الناس، فلا أجد إلا موتورًا (2) بصاحبه، ومصابًا بهلاكِ أقاربه.
ولولا الأُسى ما عشتُ في الناس ساعةً … ولكن إذا ما شئتُ جاوَبَني مثلي (3)
(1) الأبيات لسلمة بن يزيد الجعفي في رثاء أخيه لأمه، انظر: “الحماسة” (1/ 535). و”الحماسة البصرية” (2/ 709). وفي “حماسة البحتري” نشرة كمال مصطفى (ص 431) لليلى بنت سلمة ترثي أخاها.
(2) في الأصل: “موتور”.
(3) من أبيات لحُريث بن زيد الخيل في “الحماسة” (1/ 407) و”الشعر والشعراء” (1/ 287) و”الأغاني” (17/ 195). ونسبه صاحب “الخزانة” (11/ 364) إلى الشمردل بن شريك، وقال: وقيل غيره.
هذا، ولم أجد بقية الخطبة.
(22/23)
(7)
[ل 9] الحمد لله مستوجبِ الحمد والعبادة، المتابعِ لأهل طاعته إعانتَه وإمدادَه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مخلصٍ له بالوحدانية حقَّ الشهادة. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا (1) عبده ونبيُّه ورسولُه، الذي هدى به عبادَه. اللهمَّ فصلِّ على حبيبك محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اتَّبعَ رشادَه.
أما بعد ــ عبادَ الله ــ فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فإنها جماعُ الخير ومِلاكُ السعادة. وإياكم ومعصيتَه فإنَّها سببُ الحرمان من الحسنى وزيادة.
فتفكَّرْ ابنَ آدم في لطفِ الله بك ورحمتِه: كيف أنشأك من التراب والماء إلى النبات، إلى الثمر، إلى الكَيْمُوس، إلى الدم، إلى النطفة، إلى العلقة، إلى المضغة، إلى كمال الصورة، إلى نفخ الروح. يغذوك في بطن أمِّك ولا تشعر، ويسلُك له الهواءَ ولا تعرف، حتى ألقاك طفلًا حيًّا، بعد أن شَقَّ حواسَّك الظاهرة والباطنة، وهيَّأكَ لمعرفة الأمور الكامنة، فألقى عليك في قلوب أبويك الشفقة، فربَّياك خير تربية. فكيف كان غذاؤك (2) في بطن أمِّك؟ أم كيف كان تصويرُ عظامك ولحمك؟ أم كيف كانت حياتُك في ثلاثِ ظُلَمِك؟
ثم رَزَقك، وأنت صبيٌّ لا تَعقِل، ثم علَّمكَ ما لم تَعلَم، وأنعَمَ عليك بما
(1) في الأصل: “محمد”.
(2) رسمها في الأصل: “غذاك”.
(22/24)
أنعَم. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18].
حتى إذا استويتَ رَجُلًا، ودخلتَ في زمرة العُقَلا، كلَّفَك بما كلَّف، وعرَّفك بما عرَّف؛ فأعرضتَ عن طاعته عصيانًا، وأقبلتَ على معصيته عدوانًا.
فلو نظرتَ فيما يحسُن بك، وقدَّمتَ لنفسك، ورجعتَ إلى ربِّك واستغفرتَ لذنبك، وعجلت بتَوبك قبل أن يبغتَكَ الموتُ، ويبهتَكَ الفوتُ، فتزِلَّ قدمُكَ، ويحلَّ ندمُكَ، فتلقاك بالبَشاش (1) أمُّك هاوية، وما أدراك ما هيه، نارٌ حامية، إلَّا (2) أن يتغمَّدك الله برحمته الواقية.
عبادَ الله، هذا شهرُ الله الحرام رجب، كنا نسوِّف بالتوبة إليه، فلما نزل سوَّفْنا بها إلى أوسطه، فإلى آخره، فهذا آخره؛ وقد صرنا نسوِّف إلى شعبان، وهذا شعبان قادم. والعمرُ هكذا يومٌ بعد يوم، فليحاسِبْ كلُّ أحدٍ نفسَه، وَلْيغتنمْ خمسَه.
قال – صلى الله عليه وسلم – : “اغتَنِمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبل هرمك، وصحتَك قبل سقمك، وغناك قبلَ فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتَك قبل موتك” (3).
هذا، وإن أولى و أصدقَ لفظٍ سُمِع، وأحقَّ وعظٍ استُمِع= كلامٌ لا
(1) كذا في الأصل. ومصدر بشَّ في كتب اللغة: “بشاشة” بالهاء.
(2) رسمها في الأصل: “إلى”. وانظر (ص 37)، الحاشية الأولى.
(3) أخرجه الحاكم في “المستدرك” (6846) من حديث ابن عباس، وقال: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.
(4) الزيادة مني.
(22/25)
يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه. والله سبحانه يقول: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33].
فويلٌ لمن عرَفَ الحقَّ فاجتنبه مُصِرًّا، وطُوبَى لمن عرفه فاتَّبعه مُقِرًّا، وأعرَضَ عن الدنيا، وقدَّم للأخرى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].
(22/26)
(8)
[ل 12] الحمدُ لله الذي أعلَى كعبَ الإسلام على هامِ جميعِ الأديان، وجعله تمثالَ المكانة وعلو الشان، وأيَّده بالدلائل القاطعة والبرهان، وأمَدَّه بالنصر والظفر والفتح والسلطان. ولم يزل في كلِّ زمانٍ يبعث له من يُوثِّق روابطَه، ويُشدِّد ضوابطَه، ويُمكِّنه في البلاد والعباد، ويدرأ عنه شُبَهَ البغي والعِناد.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالحق أرسَلَه، شهادةً تُنبئ عن حقِّ اليقين، وأُرْفَعُ بها إلى دَرَجِ المتقين، وأنالُ بها الخلودَ مع النبيين والصديقين.
اللهمَّ فصَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على هذا النبي الكريم والرسول العظيم سيِّدِنا محمد، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإنها الكنزُ الذي لا ينفَد، والعزُّ الذي لا يُفقَد؛ فاتَّقُوا الله تفوزوا برضوانه، وتستوجبوا فضلَ رحمته وغفرانه، وتُدركوا غنيمة بِرِّه وإحسانِه، ويَعُمَّكم فائضُ فضلِه ورضوانه، وتكونوا من المكتوبِ لهم دخولُ جِنانِه، والمعصومين بمنِّه وأمانِه.
ابنَ آدم، حاسِبْ نفسَك قبلَ هولِ الحساب، وعاقِبْها قبلَ حلول العذاب. أنْقِذْ نفسَك من النار، فإنك لَتخوضُ في أوحالها، وتُسرِع إلى أوجالها، ولا تخشى مفاجأةَ أهوالها. ناقِشْ نفسَك بأقوالها وأفعالها، وشَدِّد عليها في علمها وأعمالها.
(22/27)
ابنَ آدم، إنَّ الدنيا قليل، وصاحبُها عليل، ومنصورُها ذليل، لم يُشْفَ منها غليل، ولا تلذَّذَ بها حتى النهاية خليل.
ابنَ آدم، إنَّ الدنيا كثيرةُ الغُمَم، كبيرةُ النِّقَم، مموَّهةُ النِّعَم، وجودُها إلى العدم. أين الملوكُ من القِدَم؟ أين الرجال الذين ثبت لهم في الدنيا القَدَم؟ أين عادٌ وإرَم؟ أين غيرُهم من الأمم؟ رُدُّوا ــ والله ــ إلى التراب، وآلت دُورُهم إلى الخراب. علِقَتْ بهم براثنُ الأحداث، فأصبحوا جُثَثًا في بطونِ الأجداث.
كانوا أكثرَ منكم أموالًا وأولادًا، وأعظمَ منكم مهابةً وأجسادًا، وأكرمَ منكم نفوسًا وأجدادًا؛ وأشدَّ منكم تنافسًا في الدنيا وتفاضلًا فيها، وأحبَّ منكم لها وأقرب إليها.
عاشوا في التنعُّم والرفاهية، ورُبُّوا في حِجْرِ النِّعم المتناهية، إلى أن دَهَمَتْهم الداهية، فتلك قواهم واهية، ودُورُهم خالية، وعظامُهم بالية. فلو كنتم ذوي عقولٍ لرأيتم ما تقول لكم آثارُهم آمرةً وناهية.
فلو كنتم من ذوي النظر والاختبار، لسمعتم عباراتها، وفهمتم إشاراتها بحواسِّ الاعتبار. ولكنكم منهم أعمَى وأصمُّ، وأبعدُ عن المعرفة بالحُكْم والحِكَم.
فهل لكم في النجاة من المهلكات؟ هل لكم في الفوز بالنعيم المقيم في رفيع الغُرُفات؟ هل لكم في اتباع الخيرات واجتناب الموبقات؟ فاتقوا الله ــ عبادَ الله ــ تفوزوا بالباقيات الصالحات.
هذا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى قد مَنَّ علينا وعلى كافَّة المسلمين برفعِه أعلامَ هذا الإمام الأعظم والشريف الأفخم. وتلك من لطائف الله بعباده، ليهديهم إلى سبيل رشاده [ … ].
(22/28)
[11/ب] وقد جعله الله تعالى شفيقًا بالمسلمين؛ رفيقًا بالضعفاء والمساكين. فهنيئًا لنا بوجوده، وبُشرى لنا بفضله وجوده. وإنَّه لواجبٌ على كلِّ مسلمٍ نصرتُه بما قدَرَ عليه، والدعاءُ له بالتأييد والتوفيق. فنقول: أيَّده الله ووفَّقه، وأرشَد العالمين لمتابعته. آمين.
ألا، وإنَّ أبلغَ كلامٍ تذوبُ له القلوبُ، وتنزجر به الأفئدةُ، وترجُف له البوادرُ= كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كلامُ مَن لا تبلغ العالمون حقيقةً مِن وصفِه. والله سبحانه تعالى يقول ــ وهو العليم الحكيم ــ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 1 – 5].
الحديث: قال – صلى الله عليه وسلم – (1): “ما أخاف على أمتي إلا ضعف اليقين” (2).
(1) نقل أولًا هنا حديث: “ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر [أهل] باطلها على [أهل] حقها” ثم قال: وعنه – صلى الله عليه وسلم – قال: “ما أخاف على أمتي … ” الحديث. ثم ضرب على الحديث الأول، وأبقى مقدمتيهما. وكذا ورد الحديث في هذه الخطبة بعد الآيات خلافًا للخطب الأخرى.
(2) أخرجه الطبراني في “الأوسط” (8869) من حديث أبي هريرة. قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (409): “ورجاله ثقات”. وضعَّفه الألباني في “الضعيفة” (1994).
(22/29)
وروى الترمذي (1) وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنتُ خلفَ النبي – صلى الله عليه وسلم – يومًا، فقال: “يا غلامُ، احفَظْ الله يحفَظْكَ، احفَظْ الله تجدْه تجاهَك، وإذا سألتَ فاسأَل الله، وإذا استعنتَ فاستعِنْ بالله”.
عبادَ الله، هذه الموعظة، فانزجروا، وهذه النصيحة فأتمروا. واذكروا الله كثيرًا لِتُنصَروا، واشكُروا نعَمَه ولا تكفروا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم.
(1) برقم (2516).
(22/30)
(9)
[ل 13/ب] الحمدُ لله رافعِ أعلامِ الحقِّ على رغمِ كلِّ مُعانِد، ومُظهرِ أنصارِ دينِه على أعدائه من كلِّ قائمٍ وقاعِد. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا (1) عُبَيده ونبيُّه الذي بالهدى ودينِ الحق أرسَلَه، شهادةً تُبلِغُ المتحقِّقَ بها أعلى المشاهد. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على نبيِّك الأكرم سيِّدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أئمةِ الهدى في جميع المصادر والموارد.
أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإنَّ تقواه سببُ الفوز بأشرف المقاعد. وأَقْلِعُوا عن الاشتغال بدار الزُّور والمِحال، فإنَّما الدنيا سرابٌ بائد. ومرِّنوا أنفسكم على الطاعات، ودَعُوا شِدَّةَ الكدِّ في الأطماع، فإنما هي تمويهٌ فاسد. واستعمِلُوا أنفسكم في عبادة الله وطاعاته، ليستعملكم في خيرات مرضاته، فإنَّ الخيرَ إلى الخير قائد. وحافظوا على الفرائض والسُّنن تخلُصوا من العقاب، وتنالوا أكبرَ الفوائد.
وإيَّاكم والحرامَ والشُّبهاتِ، فإنَّها سببُ غضبِ الجبَّار، ومن يُغضِبْه فقد وقَع في أخطرِ الشدائد. وإذا فعلتم الخير فتمِّموه وحَسِّنوه، ولا تَدَعُوه ناقصًا، فإنَّ الله لا يقبل الناقصَ إلَّا مِن جاهِد. وإيَّاكم والتهاونَ بالمحرَّمات، فإن التهاونَ بها شأنُ كلِّ جاحد. وربما أدَّاكم استحقارُها إلى استحلالها، ومن استحلَّ حرامًا صريحًا فهو كافر مارد.
(1) في الأصل: “محمد”.
(22/31)
واجعلوا الموتَ نصبَ أعينكم، فإنَّ ذكره يقوِّم الحائد. وعليكم بتلاوة القرآن والعملِ به، فإنَّه صلاح الأعمال والعقائد. وأديموا ذكرَ الله ولا تفتُروا عنه، فإنَّه الزاد الزائد. واغتنموا الجنةَ، فإنَّها الآنَ مبسوطة بين أيديكم، فخُذُوا أو دَعُوا، فمِنْ راشِد ومِنْ شارد.
واعلموا أنَّ الأعمالَ هي الجنة، فأكثِرُوا أو أقِلُّوا أو اتركوا، قبلَ انقطاعِ العمرِ وهجومِ الصائد. قبل مفاجأةِ الموتِ القاطعِ والسُّمِّ الناقعِ والبلاءِ الصادعِ للأقارب والأباعد. قبلَ حلولِ التُّراب، وحلولِ الثواب والعقاب، وسؤالِ منكرٍ ونكير، فتنبَّه يا راقد! قبل البعث والنشور، ودعوى الويل والثُّبور، وبلوغ المواعد. قبلَ نصبِ الميزان، وزفير النِّيران، ومناقشةِ الحساب بين يدي أبصَرِ ناقد. قبلَ نَصْبِ الصراطِ على جسْرِ جهنَم، فمِن ناجٍ، ومن مخدوشٍ، ومِن واقع صريعًا لليدين والفم، فيلبث أضعافَ عمرِه أو يدومَ خالد. فثَمَّ نارٌ شرابُها حميم، وبردُها زمهريرٌ قلما لا يردها إلا العالم العابد. وثَمَّ جِنانٌ حُورُها حِسان، وحُلَلُها حرير، وحجارتُها دُرٌّ ومَرجان، وطعامُها طيِّبٌ وشرابُها سلسبيلٌ بارد.
وها قد نزَل بنا ذو القعدة الحرام، وحانَ سيرُ من وَفَّقه الله لحجِّ بيتهِ الحرام، فنُوصي الحُجَّاجَ بالإخلاصِ والتحرُّزِ من الرَّفَث. قال – صلى الله عليه وسلم – : “من حَجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ خرَجَ من ذنوبه كيومِ ولَدتْه أمُّه” (1).
ونُوصي سائرَ الناس بالدعاء للحُجَّاجِ، وإصلاحِ النفوس، والتوبةِ من الذنوب. والله تعالى يقول: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
(1) من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري (1521) ومسلم (1350).
(22/32)
الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 13 – 15].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، فإنه هو الغفور الرحيم.
(22/33)
(10)
ل 16/ب الحمدُ لله رفيعِ الدرجات، المستحقِّ لجميعِ المحامدِ والكمالات، بارئ الأرضين والسماوات، خالقِ المبسوطاتِ والمسموكات، جاعلِ الشمس سراجًا والقمر نورًا (2)، والهادي بالنجوم النيِّرات، المدبِّرِ لجميع الحيوانات والجمادات والعُلْويَّات والسُّفْليَّات، الرازقِ لجميعِ المخلوقات. أحمدُه سبحانه وتعالى على جميع الحالات، وأشكره على نِعَمه المتواليات. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له في الكائنات والممكنات (3).
وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه، فبلَّغ الرسالات. صلَّى الله وسلَّم عليه أفضلَ الصلوات وأبلغَ التسليمات، وعلى آلِه أهلِ الفضائل والكرامات، وأصحابِه الذين رَغِمَتْ (4) بهم عرانينُ أربابِ الضلالات، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى بلوغِ الميقات.
أما بعد، فأوصيكم ــ عبادَ الله (5) ــ ونفسي بتقوى الله، وأحذِّركم ونفسي مواردَ غضب الله (6)؛ فاتَّقوا الله (7) حقَّ تُقاتِه، وجِدُّوا واجتهِدوا في طلبِ
(1) هذه الخطبة وردت في (ل 15) وتكملتها في (ل 14/أ). ومبيضتها في (ل 16/ب).
(2) في المبيضة: “نور”.
(3) “والممكنات” لم ترد في المسودة.
(4) في المسودة: “أرغمت”.
(5) “عباد الله” في المسودة قبل “فأوصيكم”.
(6) “وأحذركم … ” إلى هنا لم يرد في المسودة.
(7) في المسودة: “فاتقوه”.
(22/34)
مرضاتِه، واغتنمِوا هذه الأوقات (1).
اغتنِموا ساعاتِكم (2) قبل الفَوات، وأعمارَكم قبل الوفات (3)، وبادِروا بالتوبة قبلَ الممات، قبل هجومِ هاذمِ اللَّذات، ومفرِّق الجماعات، ومبدِّلِ الجمع بالشَّتات، مُلْحِق الأحياء بالأموات، الناقل عن دار العمل إلى دار المُجازات. ناجِزُوا أنفسَكم مناجزةَ ذوي العداوات، فنزِّهوها عن جميع السيئات، وباعِدُوها عن موارد الخطيئات، وتُوبوا إلى الله من جميع الموبِقات؛ فإنَّ التوبة تبدِّل السيئاتِ حسناتٍ.
واعلموا أنَّ شهرَكم الكريم (4) هذا قد ذهب أكثرُه، ولم تُودِعوه (5) من العمل ما يُوجِبُ النجات؛ فإن صمتم لم تصونوا (6) جوارحَكم عن المهلكات، ولم تتحرَّزوا عن المحرَّمات (7) والشبهات، في المأكولات والمشروبات والملبوسات، والمرئيَّات (8) والمسموعات والمنطوقات وجميع المصنوعات. وإن صلَّيتم لم تحافظوا على الشروط والأركان
(1) في المسودة: “شريف الأوقات”.
(2) في المسودة: “أوقاتكم”.
(3) كذا بالتاء المفتوحة في المسودة والمبيضة مراعاة للسجع، وانظر ما سبق في (ص 11). وكذا كلمتا “المجازات” و”النجات” فيما يأتي.
(4) “الكريم” لم يرد في المسودة.
(5) في المسودة: “وما أودعتموه”.
(6) في المبيضة: “لم تصوموا”.
(7) في المسودة: “ولم تتحرزوا عن الحرام”.
(8) رسمها في المسودة والمبيضة كلتيهما: “المرايات”.
(22/35)
الواجبات، والسنن المندوبات، والخشوع الذي هو روح الصلات (1).
وإن قرأتم القرآن لم تتدبروا معاني الآيات، ولم تعملوا بما فيه من الهدى والبينات (2). وإن تصَّدقتم لم تُطيِّبوا الصدقات، ولم تخلِّصوها عن النهر والمَنِّ والمراءات (3).
فأفيقوا ــ عباد الله ــ من سكرات الغفلات (4)، واعلموا (5) أنَّ الجنةَ محفوفةٌ بالمكاره، والنارَ محفوفةٌ بالشهوات. فقلَّما بلغ الجنَّةَ من لم يصبر على مقاساة (6) المشقَّات، وقلما بلغ النار من لم يتفيَّأ ظلال اللذات (7).
يا طالبَ الجنة (8)، أين ما قدَّمتَ من الأعمال الصالحات؟ هل حافظت (9) على المندوبات؟ هل تمَّمت المفروضات؟ هل احتميتَ (10) عن المحرَّمات؟ يا هاربَ النار، أيُّ جُنَّةٍ نصبتَها دونها من الواقيات؟ وأي
(1) كذا في المبيضة.
(2) في المسودة: “ولا اتبعتم ما فُصِّل من البينات”.
(3) كذا في المبيضة.
(4) في المسودة: “فاستيقظوا من سِنة الغفلات”.
(5) في المسودة بعده: “أن الدنيا والآخرة ضرَّتان قلما اتفقتا في المرادات، فإنَّ الجنة محفوفة … “.
(6) في الأصل: “مقاسات”.
(7) “فقلَّما بلغ الجنة … اللذات” لم يرد في المسودة.
(8) في المسودة: “يا مريد الجنة”.
(9) في المسودة: “لا حافظت”، وكذلك فيما يأتي: “ولا تممت”.
(10) في المسودة: “ولا احترزت”.
(22/36)
بابٍ من أبوابها سددتَه بالمجاهدات؟ (1)
فاستمعوا ــ وفَّقني الله وإياكم ــ الموعظةَ، واعملوا بها. فشرُّكم من لم تنفعه الموعظةُ (2) وإنْ أجرى (3) لها العبرات، وصعَّد (4) الزَّفرات. وقد بقيت من شهركم هذا بقيةُ ليالي (5) صالحات، فيها ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ لمن أدركتْه ملازمًا للطاعات، ولعلها شرٌّ من ألفِ شهرٍ على من صادفَتْه منهمكًا في الخطيئات (6). فأكرِهوا أنفسَكم على مشاقِّ الخيرات، وافطموها عن مراضع الهلكات (7)، لتفوزوا برضوان ربِّ الأرض والسَّماوات.
الحديث: في “الصحيحين” (8) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنَّ رجالًا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أُرُوا ليلةَ القدر في المنام في السبع الأواخر،
(1) “يا هارب النار … بالمجاهدات” مكانها في المسودة: “والنار أقرب إلى من كان على هذه الصفات إلَّا (في الأصل: إلى) أن يتغمده برحمته خالق المخلوقات. ويا خائف النار، كيف لا تترك موجباتها من الموبقات؟
(2) في المسودة: “المواعظ”.
(3) في المسودة: “أسال”.
(4) في المسودة: “وصعد لها”.
(5) في المسودة: “شهركم الكريم ليالي”.
(6) “لمن أدركته … الخطيئات” مكانها في المسودة: “في الطاعات من الأشهر المعدودات. ألا، وإن من مرَّت عليه وهو في طاعة كانت له خيرًا من ألف شهر في الطاعات. ومن مرَّت عليه وهو في معصية كانت شرًّا عليه من ألف شهر في المعاصي والسيئات”.
(7) في المسودة: “وجنبوها موارد الهلكات”.
(8) البخاري (2015) ومسلم (2818).
(22/37)
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “إنَّ رؤياكم قد تواطأتْ في السبع الأواخر، فمن كان متحرِّيها فليتحرَّها في السبعِ الأواخر”.
وأمَّا فضلها، فحسبكم فيه (1) أنَّ الله تعالى أنزل فيها سورةً كاملةً. قال سبحانه وتعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
تغمدني الله وإياكم برحمته وغفرانه، وكتب لنا خلودَ جِنانه، بفضله ورضوانه، وجوده وإحسانه.
هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
(1) في المسودة: “وحسبكم من فضلها”.
(22/38)
(11)
[ل 14/ب] الحمدُ لله الذي أوضَحَ سبيلَ الهدى ودلَّ عليه، وبيَّنَه وأرشَدَ إليه. وأقامَ الحجةَ على العالمين، وبيَّن المحجَّة للمهتدين والظالمين. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على هذا النبيِّ الكريمِ سيِّدِنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أفضلَ صلاة وتسليم.
أما بعد ــ عبادَ الله ــ أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عبادَ الله، فيعمَّكم بنعمه الباطنة والظاهرة، ويُذهبَ عنكم الحزنَ في الدنيا والآخرة. وانتهُوا عما نهاكم الله عنه، لِيُفيضَ عليكم فضلَه العميمَ، وينشُرَ عليكم حُلَلَ النعيم.
عبادَ الله، إنَّ المعاصي تُزيل النِّعَم، وتَستنزِل النِّقَم، وإنَّ النقمةَ إذا نزلَتْ قلَّما ترفعها إلا التوبةُ عن أسبابِها. فكيف نستعجِلُ رحمةَ الله ولا نتوب، ونُنكِر بُطْئَها ولا نُقلِعُ عن الذنوب؟
{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. ولو استقمتم على الطريقة لأسقاكم ماءً غَدَقا، كما جاء في كتابه المبين (1). فاتقوا الله ــ عبادَ الله ــ فأقلعِوا عن الذنوب، واغسِلوا أوساخَ القلوب، وابكُوا على خطاياكم التي هي سببُ البلاء، وطهِّروا صدورَكم من الحسد والشحناء. وتآمروا بالمعروف، وتناهَوا عن المنكر، وأكثِروا من الصدقات، وأقلِعوا عن الموبقات، وسارِعوا بالخيرات؛ فإنَّ الحسناتِ يُذهبن السيِّئات.
(1) في سورة الجن (16).
(22/39)
قد كان الناسُ إذا أصابهم (1) طرفٌ من القحط أقلَعوا عن كلِّ سيئة، وتابوا من كلِّ خطيئة، وسارَعوا بالأعمال الصالحة، وتبادَروا إلى القُرَب كالصدقات وغيرها عملًا بقول: “تاجِرُوا اللهَ بالصدقات” (2)، وتلك هي التجارة الرابحة، فلا تلبث السماءُ أن ينهمرَ مطرُها، والأرض أن يُورِقَ شجرُها، ويَيْنَعَ ثمرُها؛ فافعلوا فعلَهم، فيُستجابَ لكم كما كان يُستجاب لهم.
الحديث: في صحيح مسلم (3) عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: “يا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظالموا. يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدُوني أهدِكم. يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، فاستطعموني أُطعِمْكم. يا عبادي، كُلُّكم عارٍ إلا من كسوتُه، فاستكسوني أكسُكم. يا عبادي، إنَّكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفِرْ لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلُغوا ضَرِّي فتضُرُّوني، ولن تبلُغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أنَّ أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنَّ أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحد منكم ما نقصَ ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم
(1) في الأصل: “أصابتهم”.
(2) ينسب إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونصُّه في ربيع الأبرار (2/ 286): “تاجروا الله بالصدقة تربحوا”.
(3) برقم (2577).
(22/40)
وجنَّكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألتَه ما نقَصَ ذلك مما عندي إلا كما ينقُص المِخيَطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ. يا عبادي، إنَّما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسَه”.
وقال الله سبحانه وتعالى فيما حكاه عن خطاب رسوله نوح عليه السلام لقومه: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 9 – 20].
أسأل الله تعالى غفرانَ الخطايا، ودفعَ البلايا، ورفعَ الرَّزايا، وإفاضةَ العطايا. وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم.
(22/41)
(12)
[ل 16/أ] الحمد لله رافعِ السَّماءِ في الهواء، وباسطِ الأرضِ على الماء، ذي العزِّ والعَلياء، والقدرةِ التي لا تقوم بها جميعُ الأشياء. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله أن يُعيذني وسائرَ المسلمين من البلاء والوباء والغلاء. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسَلِّم على سيِّدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أهلِ المجد والعلاء.
أما بعد ــ عبادَ الله ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله. اعلموا ــ رحمكم الله ــ أنما نحن في هذه الدنيا زرعٌ للموت وعرضٌ للفوت، وإنما خلَقَنا الله لِنوحِّدَه، ورزَقَنا لِنعبدَه، وجعَلَ لنا هذه الدنيا دارَ عملٍ واكتسابٍ، والآخرةَ دار عملٍ (1) وحسابٍ؛ فإمَّا إلى نعيمٍ وثوابٍ، وإمَّا إلى جحيمٍ وعذابٍ. والله غفورٌ رحيمٌ، وهو شديدُ العقابِ.
كيف تُغْوينا أنفسُنا وشياطينُنا بهذه الدنيا، وإنَّها لحقيرة، وإنَّ لذَّتَها لَمنغَّصةٌ يسيرة؟ أنطمع فيها بالبقاء، أم لا نؤمن بالمعاد واللِّقاء، أم نرغب في العذاب والشَّقاء؟ إنَّها بلا شكٍّ زائلة فانية، وإنَّ الآخرة لا ريبَ فيها آتية، وإنَّ النَّارَ لحامية.
فأقلِعي أيتها الأنفسُ المغرورةُ، عما أنتِ عنه مزجورة، وارجعي إلى ما أنتِ به مأمورة. ولا تطمعي في امتداد الأجل، فإنَّما ذلك الشيطانُ يُمنِّيك
(1) كذا في الأصل، ولعلها: دار علم.
(22/42)
زُورَه، ويُرَوِّج عليك غرورَه. واسمعي نداءَ الموت وارتقِبي مروره، وارتدِعي عن الدنيا فإنها محذورة، ودعي قولَ الزور والعملَ به، فإنَّ كلَّ ذرَّةٍ عليكِ مسطورة.
عبادَ الله، هذه أشهرُ الحجِّ، ومواسمُ العجِّ والثَّجِّ، فتأهَّبوا لحجِّ بيت الله الحرام، وتعظيمِ شعائرِ الإسلام. قد رُوي عن رسول الله عليه أفضلُ الصلاة والسلام أنَّه قال: “مَن مَلَكَ زادًا (1) وراحلةً تُبلِّغُه إلى بيت الله، ولم يَحُجَّ، فلا عليه أن يموتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا. وذلك أنَّ الله تبارك وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] ” (2).
هذا، وإنَّ أبدعَ الكلامِ نظمًا، وأبلَغَه حِكَمًا وحُكْمًا= كلامُ مَن وسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعِلمًا. والله سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18 – 20].
هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم.
(1) في الأصل: “زاد”.
(2) أخرجه الترمذي (812) من حديث علي بن أبي طالب، وقال: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعف في الحديث”.
(22/43)
(13)
[ل 17/أ] الحمدُ لله الكريمِ الوهَّاب، الرحيمِ التوَّاب، غافرِ الذَّنب قابلِ التَّوبِ شديدِ العقاب. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوبُ إليه وأستغفره، وأسألُه الفوزَ يومَ المآب. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه، فصلَّى الله وسلَّم على سيِّدنا محمدٍ وآلِه والأصحاب.
أما بعد، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله، وأحذِّركم ونفسي معصيةَ الله، فإنَّ الطاعةَ سُلَّمُ النجاة، والعصيانَ مَهْواه التَّباب.
طالما قَرَعتْنا الزواجرُ فأسمعَتْنا، ورَدَعَتْنا المواعظُ فما نفعَتْنا. ونادَى المنادي، فلم نتزوَّد للذَّهاب. كأنَّنا نحسَب الدُّنيا دائمة، أو نشكُّ في أنَّ القيامةَ قائمة، أو قد ضمن لنا بالمغفرة ربُّ الأرباب. فالزادَ الزادَ قبل نَجْزِ الميعاد، والعملَ العملَ قبلَ بلوغِ الأجل، والمتابَ المتابَ قبلَ خَتْمِ الكتاب. فإنَّ الموتَ كلَّ يومٍ يأخُذُ منكم أسهُمًا ويرشُق سهامًا، وكان على كلِّ واحدٍ منكم لِزامًا، ومن أُخطِئَ اليومَ فهو في غدٍ مُصابٌ.
فأين من كان قبلكم من الأمم؟ وأين الرُّعاة والرَّعيَّةُ من العرب والعجم؟ صاروا ترابًا، كما خُلِقوا من التراب. وإنَّ للقبر لَعذابًا وسؤالًا وجوابًا، فَلْينظُر كلٌّ منكم ما يكون الجواب؟ وإنَّ بعدَها لَيومًا تُحشَر فيه العَوالِمُ، ويؤخَذ فيه للمظلوم من الظالم: يومَ الحَشْر والنَّشْر والحساب.
ولَيُسألَنَّ كلُّ أحدٍ عن النعيم: هل أدَّى شكرَه؟ ولَيُحاسبَنَّ على النَّقِير والقِطْمير والفَتيل والذَّرَّة، ثم إمَّا إلى النعيم والثواب، وإمَّا إلى الجحيم
(22/44)
والعذاب.
هذا رمضانُ قد تقلَّصتْ ظلالُه, وهذا شوَّالٌ أوشكَ أن يبزُغ هلالُه؛ فانظُروا ما تُودِعُون وتُوَدِّعُون به رمضانَ من العمل الصالح والدُّعاء المُجاب. فلعلَّ كثيرًا منَّا لا يبلُغه مِن قابلٍ، أو يبلُغه فيعمل فيه ما هو فيه الآن عامِل؛ فاغتِنمُوا بقيةَ ساعاته، فإنَّها كنوزُ الثَّواب. وما يُدريكم لعلَّ ليلةَ القدرِ في هذه البقية، فإنْ كان ذاك، وإلَّا فالخيرُ خيرٌ حيثما وُجِد، والعملُ الصالحُ أينما كان ليس دونه حِجاب.
الحديث: قال عليه أفضل الصلاة والسلام: “يُغفَر لأمَّتي في آخر ليلة من رمضان”. قيل: يا رسول الله، أهي ليلةُ القدر؟ قال: “لا، ولكنَّ العاملَ إِنَّما يوفَّى أجرَه إذا قضَى عملَه” (1).
وروى الشيخان عن ابن عمر أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمَرَ بزكاة الفطر أن تؤدَّى قبلَ خروجِ الناس إلى الصلاة (2). يعني: صلاةَ العيد. وهي واجبةٌ على مَن وَجَدها، يُخرِجُها عنه وعمَّن تلزمُه نفقتُه، ذكرًا وأنثى، صغيرًا وكبيرًا (3)، حرًّا وعبدًا (4)؛ عن كلِّ نفسٍ صاعًا، من غالبِ قُوتِ البلد. فاغتنِمُوا الفضيلة بإخراجها قبل صلاة العيد، فإنَّ تأخيرَها مكروه، للحديث المذكور.
(1) أخرجه الإمام أحمد في “المسند” (7917) والبزَّار في “المسند” (البحر الزخار 8571) من حديث أبي هريرة. قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (3/ 341): وفيه هشام بن زياد أبو المقدام، وهو ضعيف.
(2) البخاري (1509)، ومسلم (986).
(3) في الأصل: “كبير”.
(4) في الأصل: “عبد”.
(22/45)
وإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول، وهو أصدقُ القائلين: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1 – 5].
هذا، وأستغفر الله (1).
(1) كذا في الأصل.
(22/46)
(14)
[ل 17/ب] الحمدُ لله الذي تفرَّد بالألوهية والقِدَم، وبَرَأ الموجوداتِ من العدَم، وأفاضَ على العبادِ سوابغَ الكرَم، وبوالغَ النِّعَم، ودَفَع عنهم بوائقَ النِّقَم. أحمدُه وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه. وأعتصِمُ به، ونعم المعتصَم.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه، صلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم.
أما بعد ــ عبادَ الله ــ فأوصي نفسي وإياكم بتقواه التي هي وصيَّتُه لعباده، ووصيةُ الأنبياء للأمم.
عبادَ الله، ما لنا لا نزالُ نخوضُ أوحالَ الذنوب مصرِّين عليها، ونجول في لذَّات الدنيا وهي قد أوضحَتْ لنا ما لديها؟ إنَّما هي دارُ غرورٍ مآلُه النَّدَم. فكلُّنا يعلَم أنَّ الله عليه رقيبٌ، وأنَّ أجلَه قريبٌ، وأنَّه مخاطَبٌ بما اجترَم.
قد علمنا ــ والله ــ أنَّ الدنيا دارُ عملٍ مآلُها الفَناء، وأنَّ الآخرة دار جزاء، وشأنُها البقاء، وأنه لا عاصم من أمر الله إلا مَنْ رحِم. وقد حقَّر الله الدُّنيا، وهي كما تُشاهِدُها حقيرة. وعظَّمَ لنا أحوالَ القيامة، والعظيمُ لا يُعظِّم إلا الأشياءَ الخطيرة. ورغَّبَنا فيما عنده، فقابَلَ أكثرُنا مناديَه بالصَّمَم. كم بينَ ما وَرَد فيها عن الصادق المصدوق – صلى الله عليه وسلم -: “لو كانت الدنيا تَسْوَى عند الله جناحَ بعوضةٍ ما سَقَى منها كافرًا (1) شربةَ ماء” (2)، وما ورد فيها عن الله تعالى:
(1) في الأصل: “كافر”.
(2) أخرجه الترمذي (2320) من حديث سهل بن سعد، وقال: “وفي الباب عن أبي هريرة”. قال: وهذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه.
(22/47)
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20]، وعن رسوله – صلى الله عليه وسلم – قال: “قال الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قلبِ بَشَرٍ. واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] ” (1).
وأين مآبُ الصالحين ــ وهذه صفته ــ من مآل الفاسقين؟ وقال الله تعالى فيه: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 28 – 34].
وقال فيه رسولُه – صلى الله عليه وسلم – ، وقرأ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]: “لو أنَّ قطرةً من الزقُّوم قُطِرَتْ في دار الدنيا لأفسَدَتْ على أهلِ الأرضِ معايشَهم، فكيف بمن يكونُ طعامَه؟ ” (2). وإذا كان هذا هو الطعام، فكيف بالعذاب؟ وكفى برضوان الله نعيمًا وخيرًا عظيمًا، وكفى بسخطه جحيمًا وعذابًا أليمًا.
ألا، وإنَّ رمضان قد انقضى شاهدًا بما أُودِعَه من خيرٍ أو شرٍّ. وإنَّ أشهرَ الحجِّ قد حضرَتْ، فلْينظر الإنسانُ ما هو مُودِعُها من نفعٍ أو ضَرٍّ. فإنَّ ربَّ
(1) من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري (3244) ومسلم (2824).
(2) من حديث ابن عباس. أخرجه الترمذي (2585) وابن ماجه (4325). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(22/48)
الأزمنة واحدٌ، وحلالَها وحرامَها واحدٌ، وكتابَها ورقيبَها وعتيدَها واحدٌ، وجنَّتَها واحدةٌ، ونارَها واحدةٌ؛ على أنَّ رمضانَ وإنْ فَضَلَ بزيادة الأجر، فهو كذلك في عِظَم الوزر. وما خرجنا من حَرَمٍ إلَّا إلى حَرَمٍ: من شهر الصيام إلى أشهُر الحج العِظام، فَلْيُنِبْ كلٌّ منَّا إلى ربِّه، ويستغفِرْ لذنبه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم.
(22/49)
(15)
[18/ج] الحمد لله الذي وفَّقَ من ارتضاه لطاعته، وهدَى من اصطفاه لحُسنِ عبادته. أحمده سبحانه وتعالى وأشكرُه، وأتوبُ إلى الله وأستغفِرُه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. اللهم فصلِّ وسلِّم على هذا النبيِّ الكريم سيِّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أفضلُ الصلاة والتسليم.
أما بعدُ، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله، فاتقوا اللهَ عبادَ الله، وواظِبوا على ما إليه دعاكم، واجتنِبُوا ما عنه نهاكم.
يا أبناءَ الأموات، وهدفَ الآفات، ومَن مآلُهم إلى العِظام الرُّفات؛ لا يغرنَّكم الشيطانُ والأمَل، ولا يفوتنَّكم صالحُ العَمل؛ فإنَّ الموت مُصبِّحكم أو مُمَسِّيكم، ولا تدرُون متى يُفاجيكم. فاستعِدُّوا للموت قبل أن يقع، ما دام في القوس منزَع، وفي الحياة مطمَع، فإنَّ أمامكم عَقَبةً كؤودًا لا يجوزُها إلا المُخِفُّون.
أمامَكم القبورُ وعذابُها، والقيامةُ وحسابُها، والجِنانُ وثوابُها، والنيرانُ وعِقابُها.
وهذه الدنيا دارُ فَناء، والآخرة دارُ بَقاء. وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: “الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها إلا ذكرَ الله وما والاه، وعالمٌ أو متعلِّم” (2).
(1) زيادة مني.
(2) أخرجه الترمذي (2322) وابن ماجه (4112) من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب”.
(22/50)
هذا، وإنَّ أحسنَ الكلامِ كلامُ الله الملكِ العلَّام، وهو سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9 – 11].
وفَّقني الله وإياكم لاتباع ما أمَرَ به، واجتناب مواردِ غضبه.
هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم.
(22/51)
(16)
[ل 20/أ] الحمدُ لله النَّاصعِ برهانُه، الشديدِ سلطانُه، العامِّ بِرُّه وإحسانُه، الشاملِ لما سواه فضلُه وامتنانُه، الخاصِّ بأهلِ طاعته رضوانُه، المرجوِّ للتوَّابينَ غفرانُه.
وأشهدُ ألَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، شهادةَ من نطق لسانُه، واعتقد جَنانُه، وعملت أركانُه. وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الرفيعُ مكانُه، المنيعُ عزُّه وشأنُه.
اللهمَّ فصلِّ وسلِّم وبارِكْ على هذا الرسولِ الكاملِ إيقانُه، البالغِ إلى أعلى الدَّرجات إيمانُه: سيدِنا محمدٍ، وعلى آله الذين صحَّ لهم من الله مَنُّه وأمانُه، وعلى أصحابه الذين أوضحوا مناهجَ الشرع، فاتضح بيانُه، وتسدَّدَ بنيانُه؛ وعلى تابعيهم بإحسانٍ إلى أن يُقبَضَ من الدهرِ عِنانُه.
أما بعدُ، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتَّقوه حقَّ تُقاتِه، فإنَّها محرَّمةٌ على غير تُقاته (1) جِنانُه. واجتنِبُوا معاصيَه، فإنَّها تجبُ لأهلِ معصيته نيرانُه. فاللهَ اللهَ، إياكم وأمنَ مكرِه، فيحقَّ عليكم غضبُه بما كان منكم عصيانُه.
واعلموا أنَّ دنياكم هذه خدَّاعة مكَّارة غدَّارة ختَّارة، لا يهنأ خيرُها، ولا
(1) يعني الأتقياء. في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] أجاز أبو علي أن يكون “تُقاة” جمع فاعل وإن كان لم يستعمل منه فاعل، وأن يكون جمع تقيّ. وكلا التجويزين فيه نظر.
(22/52)
يؤمَنُ ضَيرُها. وخيرُكم من رُزِقَ منها كفَافًا، وانقبضَ عن فضولها زهدًا وعَفافًا. وما عسى أن يقال في دارٍ أنفاسُ الإنسان فيها معدودة، وخيراتُها عن أحبابِ الله مصدودة. وإنما هي دار عمل واكتساب، حلالُها حساب، وحرامُها عذاب.
وإنما مَثَلُنا ومثَلُ الدنيا كملِكٍ قال لعبيده: دونكم هذا البستانَ، فمن أخَذَ من تلك الشجرة قتلتُه، ومن أخذ من تلك الشجرة كفايتَه أكرمتُه، ومن أخذ فوق حاجته عاقبتُه. على أنَّ كثرةَ الدنيا تشغَل عن الله في الغالب، وكثيرًا ما تُجرِّئُ على المعصية، وتُطمِعُ الشيطانَ في الإنسان.
وإنَّ أحدكم لَيرى (1) القبورَ، فيفزَعُ من ضِيقها، ويَهُولُه دفنُ أمثاله في التراب وبَلاءُ (2) محاسنهم، وأكلُ الدُّود لها؛ ويُفزِعُه (3) ما يسمع من عذاب القبر وهولِ المحشر وعذاب جهنَّم. ومع ذلك يعلم أنَّما عاملُه عملُه، ففيه يُقبَر، وإياه يُوَسَّد، وهو محاسِبُه، وهو مَرْكَبُه، وهو صراطُه، وهو ميزانُه، وهو حوضُه، وهو مقعدُه، وهو زادُه، وهو شرابُه: فإنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ. ثم لا يُحسِنُ عمله، ولا يُقَصِّرُ أملَه، ولا يدَعُ باطَله؛ وإنَّ ذلك لَلضَّلالُ البعيدُ.
واعلموا أنَّ شهرَكم هذا شهرٌ حرام، تُضاعَف فيه الأعمالُ، فعليكم بالصلاة فرضًا ونفلًا. وعليكم بالصيام، فإنه جُنَّة من النار. وعليكم بالصدقة، فإنَّها حجابٌ من أسواء الدنيا والآخرة. وإيَّاكم والغيبةَ والنميمةَ، والكذبَ
(1) رسمها في الأصل: “ليرا”.
(2) رسمها في الأصل: “بلآ” والبلاء بفتح الباء مصدر بلِيَ يبلَى كالبِلَى بكسر الباء.
(3) رسمها في الأصل: “يفضعه”.
(22/53)
والتفحشَ، والحسدَ والحقدَ، والغدرَ والخيانةَ والخداعَ، والعُجبَ والكِبرَ والخيلاءَ والرياءَ، والشتمَ والظلمَ، والحبَّ والبغض في غير الله. وعليكم العفةَ والنزاهةَ والإخلاصَ، والرفقَ والعفوَ والإصلاح؛ فإنَّ هذا رجب، وبعده شعبان، وبعده رمضان: مواسمُ طاعات ومغانمُ خيرات. فطوبى لمن وفَّقه اللهُ لرضوانه، وبُؤسَى لمن أُركِسَ في خسرانه!
الحديث: قال عليه أفضل الصلاة والسلام: “رجبٌ شهرُ الله، وشعبانُ شهري، ورمضان شهر أمتي” (1).
وقال – صلى الله عليه وسلم – : “فضلُ رجب على سائر الشهور كفضل القرآن على سائر الكلام” (2).
ألا، وإنَّ أبلغَ كلامٍ تلين القلوبُ لِقَبْضِه وصَرْفِه، وتتهذَّب النفوسُ ببَسْطِه وكفِّه، وتتعجَّب العقولُ لعظيمِ كمالِه وكريمِ وصفِه: كلامٌ لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفِه. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
(1) أخرجه الأصبهاني في “الترغيب” (1857) عن الحسن مرسلًا. انظر “السلسلة الضعيفة” (4400).
(2) قال ابن حجر: موضوع. انظر: “الفوائد المجموعة للشوكاني” تحقيق المعلمي (381).
(22/54)
وقال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
اللهم ارزُقْنا من رضاك، وجنِّبْنا عواقبَ بلاك، والطُفْ بنا في قَضَاك.
أقول قولي (1).
(1) لم يزد على هذا. وفي الحاشية اليمنى: “وفي رجب كان الإسراء والمعراج وفرض [الصلوات الخمس] ” لم يظهر ما بين المعكوفين لثني الورقة.
(22/55)
(17)
[ل 20/ب] الحمدُ لله الذي وفَّق مَن اختاره من عباده لطاعته، وأهَّلَ مَن ارتضاه منهم لعبادته، وهدَى مَن أحبَّه لمحبَّته. أحمدُه حمدَ من اعترفَ بوحدانيته، واستيقَنَ بأنَّه المتقدِّس بعزَّته وعظمته.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده، لا شريكَ له في ألوهيته، ولا مقاوِمَ له في جبروته وعزَّته. وأشهد أنَّ سيّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسَلَه إلى كافَّة خلقه بشيرًا ونذيرًا، وجعَلَه شاهدَ حقٍّ وأمينَ صدقٍ وسراجًا منيرًا.
اللهمَّ فصلِّ وسلِّم وبارِكْ على سيِّدنا محمدٍ نبيِّك المخصوصِ بالكرامة، المشفَّعِ في الخلق يومَ القيامة؛ وعلى آله الذين فرضتَ على الأمة محبتَهم، وأخذتَ علينا الميثاق بالتزامنا مودَّتَهم؛ وعلى أصحابه مفاتيح خزانته، ومصابيح المقتدين به ومتحمِّلين (2) أمانته.
أما بعدُ، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي الخاطئةَ بتقوى الله، فإنَّ التقوى هي العُدَّةُ النافعة، والآلةُ الرافعة، فاتقوا الله ــ عبادَ الله ــ تفوزُوا برضوانه، وتستحقُّوا فضيلةَ عفوه وغفرانه، وتُخَصُّوا برحمته وامتنانه، وتكونوا في المكتوبِ لهم خلودُ جِنانه. فكم فيكم من عيوبٍ واضحة، وذنوبٍ فاضحة، ومساوي قادحة! فلا لأبصاركم تغُضُّون، ولا لأنفسكم تعصُون، ولا للمحرَّماتِ تجتنبون، ولا للفروض تؤدُّون، ولا للسُّنن تتَّبعون، ولا عن الكذب والغيبة والنميمة تحترزون.
(1) انتشر الحبر فلم يظهر ما بين المعكوفين إلا الهاء.
(2) كذا، ومقتضى السجع: “ومتحمِّلي أمانتِه”.
(22/56)
فكم من كبيرةٍ أنتم مصرُّون (1) عليها، وعظيمةٍ أنتم مسارعون إليها! مواظبون (2) على القبائح الشنيعة، مثابرون على الفضائح الفظيعة (3)، متهاونون بأحكام الشريعة. تنتهكون حرماتِ الله، وتتعدَّون حدودَ الله، وتتجاوزون أوامرَ الله، وتتهاونون بكتاب الله. كأنَّكم بالموت مكذِّبون، أو في البعث متشكِّكون، أو بالدين مستهزئون. فإياكم والمعاصي، فإنها السمُّ الناقع والموت القاطع.
فاعلموا ــ وفَّقكم الله ــ أنَّ الله لا يغيب عنه عملُكم، ولا يخفى عليه فعلُكم، ولكنه يُمْهِلكم ولا يُهْمِلكم. أم تحسبون أنه تستُره عنكم السقوف، أم تحجبه عنكم الظلمة والحجاب؟ كلَّا، والله إنه لَلعليمُ الخبير، والنَّاقد البصير، والحاكمُ القدير سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا.
أيها الإنسان، إنَّ أكلَ الحرام يطمِسُ نورَ القلب، ويُغري على الذنب، ويُبدِّل الإيمانَ بالكفران، والطاعة بالطغيان، ويُقرِّبك من الشيطان، ويُبعدُك عن الرحمن. وإنَّ طموحَ العين أُسُّ الفتنة، ومفتاحُ المحنة، ومغلاقُ الجنَّة. وإنَّ الزِّناء (4) يُذهِبُ الإيمانَ (5)، ويُعمي البصيرة، ويُذهِبُ نورَ الوجه، ويُذهِبُ العقلَ، ويُذهِبُ المعرفةَ، ويُذهِبُ البركةَ من الرِّزق، ويُهوِّن فاعلَه عند الله وخَلْقِه، ويُحبِطُه في رزقه، ويكون سببًا لتشويه خَلْقه وخُلُقه؛ وهو
(1) فوق الميم نقطتا التاء أيضًا، يعني: “تصرُّون”.
(2) كتبها في الأصل بالضاد.
(3) هذه أيضًا كتبها بالضاد.
(4) رسمها في الأصل: “الزنآ”.
(5) رسمها في الأصل: “لإيمان”.
(22/57)
موعود بالسوء في خاتمته، وربما نزع الإيمان منه عند موته.
وإنَّ تركَ الصلاةِ هربٌ من الإسلام وتقرُّبٌ من الكفر، وخروجٌ عن الهدى، ودخول في سبيل الردى (1). وإن الرِّياءَ والسُّمعةَ والرِّبا (2) والشِّيةَ (3) والفُحْشَ والتفحُّشَ والسفاهة والبَذاءةَ والحسدَ والبغضاءَ والسَّبَّ والشَّتْمَ= كلَّها أدواءٌ مُضِرَّة وأهواءٌ مُضِلَّة.
الحديث: قال – صلى الله عليه وسلم -: “الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكرَ الله وما والاه، وعالمًا أو متعلِّمًا” (4).
ألا، وإنَّ أبلغَ كلامٍ تلين له الأفئدةُ، وتخشَع له القلوبُ= كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 – 11].
(1) رسمها في الأصل: “الردا”.
(2) رسمها كالرياء دون إعجام وعلامة الهمزة. وقراءة “الربا” قلقة في السياق.
(3) وضع نقاط الشين فقط.
(4) سبق تخريجه في الخطبة الخامسة عشرة.
(22/58)
اللهم وفِّقنا لطاعتك، وبَعِّدنا عن معصيتك، وأهِّلْنا لمحبَّتك، واجعَلْنا من أهل الحبِّ والبغض فيك. … .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
(1) أكثر من نصف سطر ذهب به تمزق الورقة من أسفلها.
(22/59)
(18)
[ل 22/أ] الله أكبر ما حجَّ حاجٌّ واعتَمَر. الله أكبر ما تجرَّد متجرِّدٌ عن المَخِيطِ وشمَّر. الله أكبر ما لبَّى مُلبٍّ ووحَّد واستغفَر. الله أكبرُ ما شاهدَ البيت مشاهدٌ، فهلَّلَ وكبَّر. الله أكبر ما طاف بالبيت طائفٌ وقبَّلَ الحَجَر. الله أكبر ما وقَفَ بعرفةَ واقفٌ، فاغتنم الأجرَ الأكبر. الله أكبر ما باتَ بمزدلفةَ بائتٌ ودعا الله بالمشعَر. الله أكبر ما رمَى الجمرةَ رامٍ، ولِهَدْيه نَحَر. الله أكبر ما حلَقَ حالقٌ أو قَصَّر. الله أكبر ما طافَ بالبيت زائرٌ، وسعى بين الصفا (1) والمروة، ففازَ بالفضل الأوفر. الله أكبر ما بات بمنى أيامَ التشريق بائتٌ، ورَمَى الجمارَ، ثم نَفَر.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ما صام صائمٌ عشر ذي الحجة، وأفْطَر. الله أكبر ما اغتسَلَ في مثلِ هذا اليوم مغتسِلٌ، وتطهَّر. الله أكبر ما تطيَّبَ فيه متطيِّب، وتعطَّر. الله أكبر ما لبِسَ (2) أفخر ثيابه، وبكَّر. الله أكبر ما صلَّى مصلٍّ، وبتلاوته جَهَر. الله أكبر ما رقِيَ خطيبٌ فوق أعوادِ مِنبَر. الله أكبر ما حمد الله وأثنَى عليه وشَكَر.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحانَ الله بكرةً وأصيلًا. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
(1) رسمها في الأصل: “الصفى”.
(2) كذا، ولعله نسي أن يكتب: “لابسٌ”.
(22/60)
الحمدُ لله الملكِ المحمود، المقدَّسِ المعبود، الذي لا حقَّ لغيره في العبادة والسجود. الذي شمِلَ العالَمِين إنعامُه، وعمَّ جميعَ المخلوقين إكرامُه، وأُسِّست على قواعدِ الحِكَمِ أحكامه. الرَّحيمِ الغفَّارِ، المرجوِّ ثوابُه. العزيز الجبَّار، المخشيِّ عقابُه. المتكبِّرِ القهَّار، المرهوبِ عذابُه. الذي أحلَّ لنا الطيباتِ، وحرَّمَ علينا الخبائث المكروهات، وحثَّنا على مكارم الأخلاق وكرائمِ الصفات. سبحانَه، حَسَّن خَلْقَنا وأخلاقَنا، ووسَّعَ علينا أرزاقنا، وأفاض علينا نعمَه باطنةً وظاهرةً، وأرشَدَنا إلى ما فيه خيرات الدنيا والآخرة.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسَلِّم على رسولك مولانا محمدٍ، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، المصطفَين الأخيار، والتَّابعين لهم بإحسان.
أمَّا بعدُ ــ عبادَ الله ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتَّقوا الله ــ عبادَ الله ــ كما أسبَغَ عليكم نِعمَه. واجتنبُوا مواردَ غضبِه، كما دفع عنكم نِقَمَه. وأقلِعُوا عن القبائح، وامتنِعُوا عن معاقرة الفضائح، واستمِعُوا ما تُمْحَضُون من النصائح. واقطَعوا بذكر الموت آمالَكم، وسارِعوا بالتوبة آجالكم.
أين مَن كان قبلكم من الملوك وأممها، مِن عربها وعجمها؛ وممَّن تعرفون من الآباء والإخوان، والأصدقاءِ والخُلَّان؟ كان لهم في مثل هذا اليوم شأنٌ وأيُّ شأن! فمِنْ منيبٍ إلى ربه، مخلِصٍ له بقلبه، مستغفِرٍ لذنبه، قد اتَّبعَ سنة نبيِّه، فلبسَ أفخرَ ثيابه، وتعطَّرَ بأحسنِ طيبه، وخرج إلى مصلَّاه
(22/61)
شاكرًا مظهرًا (1) محدِّثًا لأنعم مولاه، راغبًا فيما عند الله. ومِن مُزْدَهٍ بغروره، مفتخرٍ بزُوره، قد لبِسَ وتعطَّر مباهيًا لأبناءِ جنسه مطاوعًا لاستخفاف نفسه، يظنُّ هذا اليوم يومَ فخرٍ ورياء، لا يوم شكر ودعاء= كلاهما قد قدِم على ما قدَّم: إمَّا إلى عدْنٍ، وإمَّا إلى جهنَّم.
واعلموا أنَّ من أعظمِ نعمِ الله عليكم أنْ أقامَ فيكم إمامَ حقٍّ يُجدِّد دينَه القويم، وينصِبُ قِسطاسَه المستقيم، ويُحيي حدودَه، ويُثبِّتُ شرعَه، على حين اشتعلت الأرضُ فِتنًا، وتلاطَمَ البحر والبرُّ مِحَنًا. وها أنتم ترون ما نحن فيه من السعة والنعيم والدعة والأمن وإقامة حدود الله … (2)، وما غيرُنا فيه من الفتن والقتل والنهب والخوف، وغربة الدين، ومجانبة الشريعة، وشمول البدع الشنيعة، غير منهيَّة ولا منكَرة. وهذه نعمةٌ لا يقوم لها شكر، فالحمدُ لله حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيدَه.
واعلموا أنَّ يومَكم هذا يومٌ عظيمٌ حرامٌ، من عَشْرٍ عظيمٍ حرامٍ، من شهرٍ عظيمٍ حرامٍ، جمع الله فيه بين عيدَين سعيدَين وموسمين عظيمين (3). واليومُ الذي يجتمعان فيه خيرُ الأيَّام، يومُ شكرٍ لِمُفيضِ الإنعام، وصلةٍ للأرحام، وتقرُّبٍ بذِبْحٍ ممَّا أنعمَ الله من بهيمة الأنعام.
وإنَّ الله تعالى قد شرَعَ لنا التضحيةَ في هذا اليوم، وهي واجبةٌ على من التَزَمها، بل وعلى غيره بشرطه عند بعض العلماء. ويجزئ من الإبل ما طعَنَ
(1) يشبه ما أثبتُّ. وانظر قوله في الخطبة (29): “ما حدَّث شاكر بنعمة ربِّه وأظهر”.
(2) كلمتان أو ثلاث لم تتضح لي.
(3) يعني: عيد الأضحى والجمعة. هذه خطبة العيد، وانظر خطبة الجمعة برقم 26.
(22/62)
في السنة السادسة، ومن البقر والمعز ما طعَنَ في الثالثة، ومن الضَّأن ما طَعَن في الثانية. وتجزئ البدنةُ والبقرة عن سبعة، والشاةُ عن واحد. فإذا ضحَّى واحدٌ من أهل البيت حصل الأجرُ لجميعهم.
ولا تجزئ عجفاءُ، ومجنونة، ومقطوعة بعض أذن، وعرجاء، وعوراء، ومريضة، وجَرباء.
ووقتها بعد صلاة العيد، ويمتدُّ إلى آخر أيام التشريق. وكلَّما تأخرتْ قلَّ فضلُها. فمن ذَبَح قبلَ الصلاة فلا تجزئ عنه. ومَن نذَرَ معيَّنةً لزمَتْه، ويجب التصدُّق بالمنذورة جميعها. فأما غيرُها فله أن يأكل منها. والأفضل أن يذبحَ المضحِّي بيده، وإلَّا فلْيُوَكِّلْ.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي (1) عن جابر قال: ذبح النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يوم الذبح كبشَين أقرنَين أملحَين مَوجُوءَين، فلما وجَّههما قال: “وجَّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض، على ملَّةِ إبراهيم حنيفًا وما أنا من المشركين. إنَّ صلاتي ونُسُكيِ ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريك له، وبذلك أُمِرتُ وأنا من المسلمين. اللهم منك ولك، وعن محمد وأمته. بسم الله والله أكبر” ثم ذَبَح.
[ل 23/أ] فَلْيدعُ الذَّابح بالدعاء، وَلْيقُلْ بدلَ “عن محمد وأمته”: عن عبدِك فلان وأهلِ بيته، ويُسمِّي المضحِّي.
(1) مسند أحمد (15022)، أبو داود (2795) ــ واللفظ له ــ، ابن ماجه (3121)، الدارمي (1946)، وابن خزيمة في “صحيحه” (2899).
(22/63)
واعلموا ــ رحمكم الله ــ أنَّ هذا اليومَ للصدقةِ فيه أجر عظيم، فأكثِرُوا فيه من الصدقات على الفقراء والمساكين، ولاسيَّما من كان من قَرابتكم، فإنَّ صلةَ الرحم من أهمِّ المشروعات.
واذكروا ما رواه الشيخان في صحيحيهما (1) عن أبي بكرة قال: خطَبَنا النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يومَ النحر، قال: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقَ الله السماوات والأرض. السنةُ اثنا (2) عشر شهرًا، منها أربعةٌ حُرُم، ثلاثٌ (3) متوالياتٌ: ذو القعدة والحجة (4) والمحرَّم، ورجبُ مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان” وقال: “أيُّ شهرٍ هذا؟ ” قلنا: الله ورسولُه أعلم. فسكتَ حتَّى ظننَّا أنه سيسمِّيه بغير اسمه. فقال: “أليس ذا الحِجَّة؟ ” قلنا: بلى. قال: “أيُّ بلدٍ هذا؟ ” قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكَتَ حتَّى ظَننَّا أنَّه سيسمِّيه بغير اسمه. قال: “أليس البلدةَ؟ “. قلنا: بلى. قال: “فأيُّ يومٍ هذا؟ “. قلنا: الله ورسوله أعلَم. فسكت حتَّى ظننَّا أنه سيسمِّيه بغير اسمه. قال: “أليس يوم النحر؟ ” قلنا: بلى. قال: “فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا. وستلقَون ربَّكم، فيسألُكم عن أعمالكم. ألا، فلا ترجعوا بعدي ضُلَّالًا يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعض. ألا، هل بلَّغتُ؟ ” قالوا: نعم. قال: “اللهمَّ اشهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ، فرُبَّ مبلَّغٍ أوعَى من سَامعٍ”.
(1) البخاري (4406)، مسلم (1679).
(2) رسمها في الأصل: “اثني”.
(3) كذا في الأصل.
(4) كذا في الأصل.
(22/64)
هذا، وإنَّ أبدعَ الكلامِ نظمًا، وأبلغَه حِكمًا وحُكمًا= كلامُ من وسِع كلَّ شيء رحمةً وعلمًا. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [سورة الكوثر].
وفَّقَنا الله لرضوانه، وعَمَّنا بعفوه وغُفرانه، وغَمَرَنا بجُوده وإحسانه وسَدَلَ علينا سِتْرَ حِلمه وحَنانه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
(22/65)
(19)
ل 22/ب الحمدُ لله الذي عزَّ وجهُه، وجلَّ ثناؤه، وتقدَّسَتْ ذاتُه، وتباركَتْ أسماؤه، وبهَرَتْ عظمتُه، وجلَّتْ كبرياؤه، وعَلَتْ كلمتُه، وعظُمتْ آلاؤه. أحمدُه تعالى على أن هدانا لدينه القويم حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده. و أشكره على أن جعلنا من أتباع نبيِّه الكريم شكرًا أستمدُّ به موادَّ نفحاته المديدة.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسلَه. اللهم فصلِّ وسلِّم على هذا النبي الأمي مولانا محمد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار، والتابعين بإحسان.
أما بعد، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله، فاتَّقُوا الله كما أمَرَ، وانتهُوا عمَّا زَجَر، وحافِظوا على المفروضات، ولا تَسَاهلوا عن المندوبات، وإيَّاكم والمحرَّمات، ولا تُقْدِمُوا على الشبهات (4).
أيها الإنسان، إلامَ تنام ولا تنتبه؟ وحتَّام لا تدَعُ التخوُّضَ في الحرام والمشتبه؟ أطامعٌ في البقاء، أم طالبٌ مريدٌ للشقاء، أم شاكٌّ مرتابٌ في الحشر واللِّقاء؟
(1) وردت في (ل 52/ب) خطبة لا فرق بينها وبين هذه إلا في ألفاظ يسيرة، فرأينا إثبات هذه مع الإشارة إلى الفروق بينهما.
(2) لم يرد في (ل 52/ب).
(3) لم يرد في (ل 52/ب).
(4) في (ل 52/ب): “واجتنبوا الشبهات”.
(22/66)
إن لم تكن طامعًا في البقا (1)، فما اجتهادُك في بناء الدنيا وإعراضك (2) عن الأخرى؟ وإنْ لم تكن طالبًا مريدًا للشَّقا، فما لك صادًّا عن عمل الأتقيا، مُكِبًّا على زلَلِ الأشقيا؟ وإنْ لم تكن شاكًّا في اللِّقا، فلِمَ لا تستعدُّ له ما دمتَ في الأحيا؟ (3).
أما، والله لئن كانت الدنيا غرَّك زخرفُها، لقد وعَظَك تقلُّبُها. ولئن استمالَتْك مهلتُها، لقد محضَتْك النصحَ عواقبُها. أنت لا توقن بتأخُّر أجلِك ساعةً، ولا تشُكُّ أنَّك إلى الموت صائر. ولا تدري لعلك السَّاعةَ بين أهلك، والسَّاعة الثانية بين أهل المقابر.
فما أجدَرَ مَن هذا حالُه أن يُقلِعَ عن عيوبه، ويتوبَ عن ذنوبه، ويحاسِبَ نفسَه قبل الحساب، ويستعدَّ ليوم المآب، ويجتهد أن يُثبَت اسمُه في ديوان الثواب، ويُمحَى من ديوان العقاب.
ولكنَّ القلوبَ تراكمَتْ عليها الأصداءُ، واستولَتْ عليها الأعداءُ، فإنْ وُعِظْتُم لم تَعُوا، وإنْ نُهيتم لم تُقْلِعوا، وإن أُمرِتم لم تصنَعوا (4). فانتبِهوا عبادَ الله قبلَ مفاجأةِ الآجال، وانقطاع الآمال، وطيِّ صُحُفِ الأعمال (6).
(1) حذف الهمز للسجع.
(2) في (ل 52/ب): “معرضًا”.
(3) في (ل 52/ب): “ما دمت حيًّا”.
(4) في (ل 52/ب): “فإن وعظت لم تسمع، وإن نهيت لم تقلع، وإن أمرت لم تصنع”.
(5) من (ل 52/ب).
(6) في (ل 52/ب): “وختم الأعمال”.
(22/67)
واعتبروا بمن مضى قبلكم، أصبحوا وبيوتُهم (1) خالية خاوية، وأجسادهم رممٌ تحت التراب بالية. وهم على ما قدَّموا (2) لابثون، وبما عمِلوا معامَلون: إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ (3).
وفَّقني الله وإياكم لخير الأعمال، وخَتَم لنا بالحسنى، إنَّه جواد كريم.
الحديث: عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – أنَّه خطَبَ يومًا، فقال في خطبته: “ألا، إنَّ الدنيا عَرَض حاضر، يأكل منه البَرُّ والفاجر، ألا، وإنَّ الآخرةَ أجَلٌ صادق، ويقضي فيها ملِكٌ قادر. ألا، وإنَّ الخيرَ كلَّه بحذافيره في الجنة. ألا، وإنَّ الشرَّ كلَّه بحذافيره في النار. ألا، فاعملوا وأنتم من الله على حذَر. واعلموا أنَّكم معروضون على أعمالكم، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 – 8] ” (4).
هذا، وإن الله (5) سبحانه وتعالى يقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
(1) في (ل 52/ب): “من الأمم الذين أصبحت بيوتهم … “.
(2) في (ل 52/ب): “فعلوا”.
(3) في (ل 52/ب) زيادة نحو سطرين، وقد ألحقها مع ما سبق في الحاشية اليمنى ممتدَّةً إلى أسفل الورقة، فضاع ما كان في الحاشية وجزء مما في أسفل الورقة للتمزق والقطع.
(4) أخرجه الشافعي في “مسنده” (292) عن عمرو مرسلًا. وأخرجه البيهقي في “السنن الكبرى” (3/ 216) عن شداد بن أوس بإسناد ضعيف. فيه عبيد بن كثير العامري التمار وهو متروك. انظر “لسان الميزان” (5/ 360).
(5) في (ل 52/ب): “وإن أبلغ الكلام كلام الله … “.
(22/68)
نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 20 – 21].
(22/69)
(20)
[ل 24/أ] الحمد لله الملِك الذي بيده أزِمَّةُ الأكوان، وهو القادر القاهر العزيز الديَّان. سبحانه وتعالى، وله الحمد والشكر، ونستزيده (1) من فضله والرضوان. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، اتَّصَفَ بكلِّ كمال وتنزَّه عن كلِّ نقصان. وأشهد أن سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه إلى الإنس والجانِّ. فبلَّغ رسالتَه، وأرشد إلى طاعته، وزجَرَ عن العصيان. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على هذا النبيِّ الكريم، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد ــ عبادَ الله ــ فإنِّي أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عبادَ الله، فإنَّ التقوى هي كنز المؤمنين. وراقِبوا الله تعالى في جميع أحوالكم، فإنه مُطَّلِع على قلوبكم أجمعين. لا تخفى عليه خافيةٌ في جميع الأكوان، ولا يغيب عنه مثقالُ ذرَّةٍ من طاعةٍ أو عصيان.
وقد أوضح لكم سُبُلَ طاعته، وبيَّن لكم مناهجَ عبادتِه، وفصَّل لكم أسبابَ رضوانه. ووعدَ العاصي بعذابه، والمطيع بثوابه وغفرانه.
أمركم بالإيمان: أن تؤمنوا به وحده أنَّه إلهكم وإلهُ العالمين، الواحدُ في ذاته وصفاته ومُلكه، المهيمنُ على ما سواه، المنزَّهُ عن النقائص، المتصفُ بالكمالات، عالمُ الغيب، الخالق المحيي المميت الباعث، المعطي المانع المغني الوارث؛ وأن تؤمنوا بملائكته وكتبه ورسله واليومِ الآخر وما انطوى عليه كالبعث والحساب، والجنَّة والنار، والثواب والعقاب، والحوض
(1) في الأصل: “وتستزيده”.
(22/70)
والسِّراط والميزان.
ألا، وإنَّ الإيمانَ الخالصَ ما عقَلَ صاحبَه عن المعاصي، ومَنَعه عن المآثم والمظالم، ووقَف به على الطاعات، فعمِلَ ما أمره به الله ورسولُه من صلاة وصيام وزكاة وحجٍّ، وصدقة وحسن أخلاق وحبٍّ وبغضٍ فيه تعالى، لا لغرض دنيوي.
وإنَّ من كان يؤمن بأنَّ الله تعالى مُطَّلِعٌ عليه، وأنَّه سوف يبعثُه ويحاسِبُه، وينعِّمه أو يعاقِبُه؛ فكيف يقصِّر في ذلك؟ ألَا، وإنَّ أكثرَ الناس اليوم مقصِّرون في جميع طاعاتهم. ألا، وإنَّ من قصَّر في طاعته، فربما لم يقبلها الله، وكان كالذي لم يفعلها أصلًا.
كم ساجدٍ راكعٍ لم يُكتَب له صلاةٌ، وكم ظمآن جائعٍ لم يُكتَب له صيامٌ، وكم طائفٍ واقفٍ لم يُكتَب له حَجٌّ، وكم مُنْفِقٍ مُكثِرٍ لم يُكتَب له زكاة ولا صدقة.
ألا، وإنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا، فاجعلوا دينكم لله خالصًا، واعلموا أنَّه رقيبكم في كلِّ طرفةِ عين، فراقِبوه بقلوبكم، ولا تنسَوه. واجعلوا الموتَ نُصْبَ أعينكم، واجعلوا هولَ الموقف والحساب والعقاب والثواب كلَّ ساعةٍ معروضًا على أفكاركم.
(1) ذهب به تمزُّق الورقة.
(2) ظهر حرف النون وطرف الهمزة.
(3) ذهب به تمزُّق الورقة.
(4) أخفاه انثناء الورقة.
(22/71)
وإيَّاكم والتسويفَ بالتوبة، وعجِّلوا بها، فإنَّ الأملَ طويل، والعملَ قليل، والعمرَ قصير، والناقدَ بصير، والحسابَ عسير؛ ولا طاقةَ لكم على عذاب السعير، ولا غنى لكم عن النعيم المقيم في جنَّات وحرير.
اعتبروا بإخوانكم الذين مضوا قبلكم، تجدوا كلَّ واحدٍ منهم كان أملُه أطولَ من آمالكم، يقول: سأعمل، سأصنع، سأبني، سأملِك؛ ثم سأتوب، وأصلح، وأطيع … فلم يشعُر إلَّا وقد بغَتَه أجلُه، فانقطع أملُه وعملُه. فطوبى لمن سبقَ الموتَ بتوبته، وأعجَلَ الفوتَ بأوبته. فجاءه فاجئُ أجلِه، وهو على خيار عمله.
الحديث: رُوي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنَّه قال: “صلُّوا خمسَكم، وصُومُوا شهرَكم، وأدُّوا زكاةَ أموالِكم، وأطيعوا ذا أمرِكم” (4).
ألا، وإنَّ أبدعَ المواعظِ كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ
(1) ذهب به التمزُّق، والقراءة تقديرية.
(2) ذهب به التمزق.
(3) بقيت الهاء فقط.
(4) من حديث أبي أمامة. أخرجه الإمام أحمد في مسنده (22161) والترمذي (616) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(22/72)
عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} الصف: 10 – 13.
(1) في أسفل الورقة بعد الآية المذكورة أورد الحديث الآتي دون تحديد موضعه. والظاهر أنه قيَّده لإيراده في بعض خطبه. ونصُّه: “الحديث: روي عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال ذات يوم لأصحابه: استحيُوا من الله حقَّ الحياء، قالوا: لإنَّا نستحي يا نبيَّ الله، والحمدُ لله. قال: ليس ذلك. ولكنَّ من استحى من الله حقَّ الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبِلى. ومن أراد الآخرةَ ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحى من الله حقَّ الحياء”.
(22/73)
(21)
[ل 24/ب] الحمد لله الذي لا يحيط به مكانٌ، ولا يحويه زمانٌ، ولا يُدرِك كنهَه إنسانٌ. أزليٌّ أبديٌّ، وكلُّ ما سواه فانٍ. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه شهادةً شاهدةً بالإخلاصِ ونفي الشك، قاضيةً بانتفاء النِّفاق والشرك.
اللهم فصلِّ وسَلِّم على سيِّدنا محمدٍ نبيِّك الأعظم الذي أيَّدتَه بواضحِ البرهان، ورسولِك الأكرم الذي عضَّدتَه بشديد السُّلطان، وكما ختمتَ به رُسُلَك، فاختم لنا بالإيمان؛ وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان.
أما بعد، فيا عبادَ الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله. طالما أيقظَتْكم المواعظُ فلم تنتبهوا، ونهَتْكم الزَّواجرُ فلم تنتَهوا، ومُحِضْتُم النصائح فلم تَقبلوا، وهُديتم إلى الصِّراط المستقيم فلم تُقْبِلوا.
طالما زجَرْتكم الأكوانُ بأحوالها وأقوالها، وتكشَّفتْ لكم الدنيا عن عاقبة زُورها ومِحالها، وأظهرتْ لكم سوءَ حالها وقُبحَ مآلِها؛ وأنتم في غمرات الجهل تلعبون، وفي هلاكِ أنفسكم تدأبون، ولِعذاب السعير تطلُبون، وعن رضا الله تعالى تهربون!
تُسْتبعَدون عن النار، فتقرَبون. وتُرَغَّبون في الجنَّة، وعنها تَرغَبون! {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 29 – 30].
هذا شهرُ شعبان قد أزِفَ ارتحالُه، وهذا شهرُ رمضان قد قرُبَ نزولُه،
(22/74)
فانظروا ما تودِّعون به شعبانَ، وماذا تستقبِلُون به رمضانَ. {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
الحديث: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أخبِرْني بعملٍ يُدخِلُني الجنة ويُباعِدُني عن النار. قال: “لقد سألتَ عن عظيم، وإنَّه ليسيرٌ على من يسَّره الله تعالى عليه: تعبدُ الله لا تشرِكُ به شيئًا، وتقيمُ الصلاةَ، وتؤتي الزَّكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ”. ثم قال: “ألا أدلُّكَ على أبواب الخير: الصومُ جُنَّة، والصدقةُ تطفئ الخطيئةَ كما يطفئ الماءُ النارَ، وصلاةُ الرجل في جوف الليل”. ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 – 17].
ثم قال: “ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ ” قلت: بلى (1) يا رسولَ الله. قال: “رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة، وذروةُ سنامِه الجهاد”. ثم قال: “ألا أُخبِرُك بمِلاك ذلك كلِّه؟ ” قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه، وقال: “كُفَّ عليك هذا” قلتُ: يا نبيَّ الله، وإنَّا لمؤاخَذُون بما نتكلَّم به؟ قال: “ثكلتْك أمُّك، وهل يَكبُّ الناسَ في النار على وجوههم ــ أو قال: على مناخِرهم ــ إلَّا حصائدُ ألسنتِهم؟ ” (2).
(1) رسمها في الأصل: “بلا”.
(2) أخرجه الترمذي (2616) وقال: حسن صحيح.
(22/75)
ألا، وإنَّ أبلغَ موعظةٍ وأعظمَ نصيحةٍ كتابٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} الحجرات: 12.
(1) كتب بعد ذلك: “وفقني الله وإياكم لطاعته، ويسَّرَنا لمغفرته ورحمته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم”. ثم ضرب عليه. ولم نجد إشارة إلى أن هناك تكملة.
(22/76)
(22)
ل 25 الحمد لله رب العالمين.
الحمدُ لله الذي لا معبودَ بحقٍّ في الوجود إلَّاه، ولا قادرَ على جميع ما يشاء سواه، الجبَّارِ الذي خضَعَ لجبروته الجبابرةُ العُتاة، العظيمِ الذي سجدَتْ لتعظيمه الرؤوسُ والجِباه، الخالقِ الذي أنشأ جميعَ العالم من العدَم وأبداه، الرازق الذي رزَقَ جميعَ خَلْقه من المطيعين والعُصاة. هو الذي في السماوات إله وفي الأرض إله.
أحمده سبحانه وتعالى حمدًا (2) أبتغي به مغفرتَه ورُحماه، وأستجزلُ به وهبَه وعَطَاه، وأستمطِرُ به وابلَ رأفته ورضاه، وأستدفِعُ به أليمَ عذابه وبَلاه، وأغسِلُ به قلبي حتى يُزيلَ سوادَه وصداه (3)، وأثبِّتُ به عقلي على ما يريده الله ويرضاه.
وأشهد ألَّا (4) إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً يدَّخرها العبدُ ليوم أخراه، ويحقِّقُ بها يقينَه بأنَّه لا إله إلا الله، فاعلم أنه لا إله إلا الله. وأشهد أنَّ محمدًا (5) عبدُه ورسولُه، بلَّغَ رسالاتِه، وزَجَر عن معصيته، وأمَرَ بتقواه. صلى الله وسلَّم عليه، وعلى آله وصحبه الذين والَوا مَن والاه، وعادَوا مَن عاداه.
(1) قارن هذه الخطبة بالخطبة (48).
(2) في الأصل: “حمد”.
(3) يعني: صدأه.
(4) رسمها في الأصل: “أن الا”.
(5) في الأصل: “محمد”.
(22/77)
أما بعد ــ أيها الناس ــ فإني آمركم ونفسي بتقوى الله تعالى، فقد أفلَحَ من اتقاه. وأزجُرُكم ونفسي عن عصيانه، فما أخابَ (1) من عصاه وأشقاه!
واعلموا ــ وفَّقَني الله وإياكم ــ أنَّ الله تعالى عالمٌ بما أظهره العبدُ وما أخفاه، وما أكنَّه وما واراه، وأنه هو العالم الذي هو بكلِّ شيء عليم خبير، القادرُ الذي هو على كلِّ شيء قدير، الكافي الذي كفاكم جميع الأسوا (2)، الواقي الذي يقيكم كلَّ ضرر وبلوى (3).
ومع علمكم بذلك، فأنتم عن طاعته حائدون، وعلى عصيانه مواظبون، وعلى إغضاب أحبابِه وحُبِّ أعدائه (4) ملازمون، أيستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
تأمرون بالمعاصي، وتزجُرون عن الطاعة. وتتَّبعون البدعة، وتُخالِفون الجماعة. أما أنذَرَكم الله تعالى عذابَه؟ أما حذَّركم عقابَه؟ أما أسمَعَكم الصوتَ؟ أما كتَبَ عليكم الموتَ؟ أما خوَّفَكم بنار الجحيم؟ أما أفزَعَكم خوفُ العذاب الأليم؟ فما لكم عن المواعظ كأنكم نائمون؟ وما لكم في فيافي الغفلةِ كأنكم هائمون؟
فافزَعُوا إلى الله تعالى بصدق النيَّة، واتركُوا الحميَّةَ حميةَ الجاهلية. أتغضبون لأنفسكم، ولا تغضَبُون لخالق السماء والأرض؟ وتخافون من
(1) كذا في الأصل بدلًا من “أخيَب” اسم التفضيل من خاب.
(2) يعني: الأسواء جمع سوء.
(3) رسمها في الأصل: “بلوا”.
(4) رسمها في الأصل: “أعداه”.
(22/78)
بشر، ولا تخافون من عذابِ يوم العرض!
[ل 26] فما لجدودكم من الطاعة ناقصة؟ وما لحظوظكم من الإنابة إلى الله ناكصة؟ وما لأذهانكم فيما لا يعنيكم رائضة (1)، وأنتم تعلمون أن لا حجةَ لكم بالغة، بل ولا داحضة؟ ما لعقولكم لا تعقِلُكم عن المآثم (2)؟ وما لعيونكم لا تكِلُّ من النظر إلى المحارم؟ فأنيبُوا إلى الله إنابةَ المتقين، وتُوبوا إليه توبةَ الصادقين.
والوُوا أعناقكم إلى سماع النصائح، واقبِضُوا أعنَّتَكم عن الجري في مهامِه القبائح. فلا يستخِفَّنَّكم الشيطان بدهائِه (3) ومكرِه، ولا تطاوعوا أنفسكم بالغفلة عن طاعة الله وذِكرِه. فازجُروا أنفسَكم، فإنَّها بالزجر جديرة. ودَعُوا المعاصي، فإنَّ مواردَها خطيرة. ألم تعلموا أنَّ موردَ الذنوب وخيم، وأنَّ عذابَ الله تعالى أليم، وأنَّ شرابَ أهل النار حميم، ومأواهم نار الجحيم؟
فأقلِعُوا ــ رحمكم الله ــ عن الإصرار على (4) العصيانِ لله ربِّ العالمين، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. فواظِبُوا (5) على طاعتِه تعالى في هذا الشهر الحرام،
(1) كذا في الأصل من الرياضة.
(2) الكلمة غير محررة في الأصل.
(3) رسمها في الأصل: “بدهاه”.
(4) في الأصل: “عن” سهو.
(5) في الأصل بعد الآية الكريمة كلمة في طرف الورقة ظهر منها حرف العين والكاف فقط. ثم كتب “فواظبوا”، ثم ضربَ عليه، وقد وصل أثر الضرب إلى العين من “على”. ولاستقامة الكلام أبقينا على المضروب عليه.
(22/79)
وفي جميع الشُّهور والأيام، فإنَّ شهركم هذا شهر كريم حرام، يفتتح الله به شهورَ جميع الأعوام. فأخْبِتوا فيه إلى ربِّكم، واستغفروا (1) الله لذنوبكم. واستعِيذُوا بعظمة الله وجلالِه، من الشيطان الرجيم ومكرِه ومِحاله. واشغَلُوا حواسَّكم بالله وذِكرِه (2) والطاعة، فقد اقتربت السَّاعة.
هذا، وإنَّ لله رحمةً واسعةً كثيرةً، ومغفرةً عظيمةً كبيرةً؛ وإنَّ المؤمن إذا فعَلَ الحسنَةَ كُتبتْ له عشرُ أمثالها، وإذا فعَلَ السِّيئةَ كُتِبْت عليه سيئةٌ واحدةٌ.
وقال – صلى الله عليه وسلم – : “إذا تابَ العبدُ من ذنوبه أنسَى الله حفظتَه، وأنسَى ذلك جوارحَه ومعالمَه، حتى يلقَى اللهَ يومَ القيامة، وليس عليه من الله شاهدٌ بذنب” (3).
وكان – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إنَّ لله مائةَ رحمة، أنزَلَ منها رحمةً واحدةً بين الجنِّ والإنس والبهائم والهوامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطِف الوحشُ على ولدها. وأخَّر اللهُ تسعةً وتسعين رحمةً يرحَم بها عبادَه يومَ القيامة” (4).
(1) في الأصل: “واستغفرا”، سبق قلم.
(2) في الأصل: “وذكراه”، ولعله سبق قلم.
(3) أخرجه الأصبهاني في الترغيب والترهيب (778) من حديث أنس، وإسناده ضعيف. انظر: “الضعيفة” (2418).
(4) من حديث أبي هريرة. أخرجه مسلم (2752).
(22/80)
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول (1): كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “يقول الله عز وجل: يا بني آدم كلُّكم مذنِبٌ إلَّا من عافيتُ، فاستغفروني أغفِرْ لكم. يا ابنَ آدم، لو بلغَتْ ذنُوبك عَنانَ السَّماء، ثم استغفرتَني غفرتُ لك. يا ابنَ آدم، لو أنَّك أتيتني بقُرابِ الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تُشرك بي شيئًا لأتيتُك بقُرابها مغفرةً” (2).
(1) لم أجده من حديث أبي هريرة. وقد أخرجه الإمام أحمد (21367، 21368) عن أبي ذر. وأخرجه الترمذي (3540) عن أنس بنحوه.
(2) الورقة مقطوعة من أسفلها، فلم يظهر السطر الأخير جيِّدًا.
(22/81)
(23)
[ل 28/أ] الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحانَ الله بكرةً وأصيلًا. الله أكبر ما صام لله صائمٌ، وفي مثل هذا اليوم العظيم أفطَر. الله أكبر ما حدَّث شاكرٌ بنعمة ربه، وأظهر. الله أكبر ما لبِسَ في مثل هذا اليوم أفخرَ ثيابه، وتعطَّر. الله أكبر ما وصَلَ مسلمٌ رَحِمَه، وتبرَّر. الله أكبر ما اغتسَلَ مغتِسلٌ وتطهَّر. الله أكبر ما لبِسَ في مثل هذا اليوم أفخرَ ملبوسِه، وتطيَّبَ، وأبكَرَ (1). الله أكبر ما خرَجَ مصلٍّ لصلاة العيد إيمانًا واحتسابًا لوجه ربِّه الأكبر. الله أكبر ما هلَّلَ ذاكرٌ وكبَّر. الله أكبر ما رقيَ خطيبٌ فوق أعوادِ منبر. سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيم.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا.
الحمد لله المتكبر الذي جعل الأهلَّة مواقيتَ للناس والحج هدايةً وتيسيرًا. وجعَلَ الزمانَ سنين، والسنين شهورًا. وفرضَ على عباده فرائضَ، وندَبَ لهم مندوباتٍ وَعَدهم عليها أجرًا كثيرًا. وشكَرَ سعيَ من صام رمضانَ وقامَه إيمانًا واحتسابًا، وكان ربُّك شكورًا. ووعده غفرانَ ما تقدَّم من ذنبه، وكان سبحانه عفوًا غفورًا. سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون
(1) كذا تكرَّر.
(22/82)
علوًّا كبيرًا.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده، لا شريكَ له ولا نظيرًا، انفرَدَ بالأمر خلقًا وتقديرًا. وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه بشيرًا ونذيرًا. فبلَّغَ الرسالاتِ، وأوضَحَ الدلالاتِ، وبصَّرَ البيِّناتِ تبصيرًا.
اللهم فصلِّ وسلِّم على هذا النبيِّ الكريم سيِّدنا محمدٍ، الذي أنقذتَ به الناسَ وقد استغشَوا من الجاهلية دَيْجُورًا، وخاضوا في المحارم طغيانًا وفجورًا. فلمَّا دعاهم أبى أكثرُهم إلَّا كفورًا، فجاهَدَ فيك حتى ترك الحقَّ واضحًا منيرًا مؤيَّدًا منصورًا.
وعلى أهل بيته الذين أذهبتَ عنهم الرجسَ وطهَّرتَهم تطهيرًا، وعلى أصحابه الذين اخترتَهم لنصرِ دينك، فكنتَ لهم نصيرًا، وجعلتَ الملائكة لهم ظهيرًا.
أما بعد ــ عبادَ الله ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنَّها وصية الله لعباده؛ وأحذِّركم ونفسي معصيتَه والتهاونَ بطاعته تحذيرًا.
عبادَ الله، كيف يعصي اللهَ من هو نعمةٌ من نِعَمه، أم كيف لا يطيعِ الله من لم يزل، ولا يزال، ولن يزالَ يتقلَّبُ في كرمه، وهو سبحانه يَرُبُّه بالإحسان صغيرًا وكبيرًا. قال الله تعالى في حقِّ آدم عليه السلام إذ مكث أربعين سنةً طينًا: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]. ثم ذكر غيرَه بقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ [ل 28/ب](22/83)
مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2 – 3].
فقد أقام الله تعالى الحجة، وبيَّن المحجَّة، فلينظر الإنسانُ لنفسه في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 4 – 6].
ثم بيَّن تعالى مَن هم الأبرارُ المستحقُّون لذلك بقوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [7 – 13]. والأرائك هي السرر التي تُعَدُّ للعروس.
قال تعالى: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [13] أي حرًّا ولا قرًّا. {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [14]، أي أنَّ شجَر الجنة دانيةٌ لهم ثمارُها ينالها القائم والقاعد والمضطجع. قال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً
(22/84)
وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [15 – 22].
وقال تعالى في صفة البعث والنشور: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1 – 5].
فهذه بعض صفات مبادئ البعث. ثم خاطب الله تعالى عباده بقوله: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وهم المؤمنون المطيعون {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي يبعث {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 6 – 15].
عبادَ الله، إنما الدنيا دار عمل (1) ونصَب، مآلها الفناء. وإن الآخرة دار جزاء، شأنها البقاء. فآثِروا اللذة (2) العظيمة الباقية على ما حرَّم عليكم من لذات الدنيا الخسيسة الفانية. واصبروا على مشقة هينة حذر الخلود في عذاب جهنم، وإن جهنم ساءت مصيرًا.
[ل 27/أ] عبادَ الله، لن ينفع الإنسانَ غيرُ عملِه، ولن يُوقِعَه في الخسران
(1) تمزقت الورقة ثم ألصقت، فذهبت بعض الكلمات أو حروفها. فلم يظهر من “دار عمل” إلا الدال واللام.
(2) ظهر “اللـ” فقط.
(3) ظهر حرف العين فقط.
(22/85)
غيرُ زَلَلِه، ولا يمنعُه من الإحسان غيرُ أملِه. فيا سعادةَ مَن كان عملُه الصالح كثيرًا، وزللُه يسيرًا، وأملُه قصيرًا! ويا شقاوةَ مَن كان عملُه الصالح منزورًا، وزللُه كثيرًا، وأملُه يَعِدُه ويُمنِّيه زُورًا وغرورًا. فاغتنِمُوا صلاحَ العمل قبلَ مفاجأة الأجل (1).
عبادَ الله، إنَّ أمامكم أوجالًا وأهوالًا، وعواقِبَ طِوالًا، وحسابًا وسؤالًا، وسلاسلَ وأغلالًا، وولولةً وثبورًا. انظروا مَن كان قبلكم من الملوك وأُممها، في عربها وعجمها، في شرق الأرض وغربها، ممن سمعتم أو رأيتم أو جهلتم، كانوا أكثرَ منكم أموالًا وأولادًا، وأشدَّ قوةً وأجنادًا، و أقوى هممًا وأجسادًا. استأصَلَهم قابضُ الأرواح، ومعطِّلُ الأشباح، ومُسْقِمُ الصحاح، ومُثيرُ النِّياح، فأودَعَهم قبورًا. فتلك ديارُهم خاوية، ومآثرُهم عافية، وعظامُهم بالية. خانتهم آمالُهم، فدهمتْهم آجالُهم، فلقيتْهم أعمالُهم، وما لكم من مآلٍ إلا مآلهم.
انظروا فيمن عرفتم تجدوا فيهم كثيرًا قد ملكوا، وقد غادروا لكم الدنيا
(1) بعده أربعة أسطر أحاطها بالخط دون الضرب عليها، ولم أجد إشارة إلى نقلها إلى خطبة أخرى، نصُّها: “فإن لم تخشَوا عذاب النار، ولم ترغبوا في الجنة، فاخشَوا عذاب الدنيا؛ فإن ربكم كان قديرًا. يا حياءَنا من إلهٍ خلق السماوات وآياتها، والأرض ومحويَّاتها، ولم يزل يتودَّدُ إلينا بثوابت النعم وعارضاتها؛ كيف نبارزُه بالمحاربة والعناد، ونأمن ما أصاب فرعون وثمود وعاد؟ أم كيف نصرِفُ نعمَه في معصيته، وقد علمتم أنَّ كلَّ ذرة من نعمته؟ ماذا عسانا نُجيبُه عند الحساب؟ ماذا عسانا نعتذر عن التفريط في المتاب؟ ماذا عسانا ندفع به غضبَه والنارُ تُبدي تغيُّظًا وزفيرًا؟ “.
(2) لم تظهر لتمزُّق الورقة، والقراءة تخمينية.
(22/86)
وتركوا، ووقعوا إلى ما عملوا، وانقطعوا عما ملكوا، وأنتم سالكون ما سلكوا. وكانوا أشدَّ منكم تفاخرًا، وأكثر تكاثرًا، وأشد بمثل هذا اليوم فرحًا وسرورًا.
عبادَ الله، قد انقرض رمضانُ شاهدًا عدلًا، وحافظًا فصلًا، يشهد للإنسان وعليه، بما استودَعَه لديه. فطوبى لمن غلبت فيه حسناتُه سيئاته، وبُؤسَى لمن غلبتْ سيئاتُه حسناتِه، فكيف بمن لم يكسب من الحسنات نقيرًا!
ولا تقولوا: قد انقضى رمضانُ، فتُقصِّروا عن الطاعة وتنهمكوا في العصيان، فإنَّ الله تعالى موجودٌ معبودٌ بكل مكان وزمان. على أنه ما انقضى رمضانُ إلَّا ودخلت أشهر الحج مواسمُ طاعات ومغانمُ بركات، فمن كان في رمضانَ محسنًا فليزِدْ في إحسانه، ومن كان مقصِّرًا فليُقصِر عن عصيانه. وَلْيندَمْ كلٌّ منكم على ذنوبه، وَلْيكُفَّ عن عيوب الناس وينظُرْ في عيوبه. وَلْيبادِرْ بتَوبة، ويستغفِرْ لِحَوبِة؛ فإنَّ ربَّك كان للأوَّابين غفورًا.
27 ل/ب وقد أوجَبَ الله تعالى عليكم زكاةَ الفطر، فيجبُ على
(1) في مطلع الصفحة نحو عشرة أسطر في الدعاء للإمام، أحاطها بالخط دون الضرب عليها. ولم أجد إشارة إلى نقلها إلى خطبة أخرى. ولا يبعد أن يكون ربطها بالأسطر المحاطة السابقة، ولم يظهر الربط للتمزق الواقع بين الصفحتين. ونصُّ الدعاء: “ألا، وإنَّ من أعظم النِّعم عليكم من الله تعالى: أن أقام فيكم إمامَ حقٍّ يدفع عنكم الظَلَمةَ، ويقيم فيكم الشريعةَ المكرَّمةَ. وإنَّ قُطركم هذا هو الآن طائفة الإسلام، وإنَّ قائمكم هو إمام الأنام؛ فاشكروا نعمة الله، إذ اختار لكم خِيرةَ الأحياء من عباده العلماء، الزاهدين الأولياء، وخير ولد ووارث ختام الأنبياء، على حين أصبح الإسلام في الأرض غريبًا لما صابَه من الخطوب وما نابَه من كروب. وقد مُهِّدت لكم بدعوته الزاهرة مصالحُ الدنيا والآخرة. فانظروا ما كنتم فيه قبل دعوته من اشتباك الفتن وإماتة الحدود وتضايق المعايش، وما صرتم إليه بعد قيامه من قيام حدود الله ونَصر شريعة الله وما نلتم به من الغنى والجاه. فإذا وزنتم الحالتين فاشكروا الله تعالى على هذه النعمة الشاملة والبركات الحافلة. واعملوا مع إمامكم ما أمركم به الله تعالى من السمع والطاعة والمعاونة والإخلاص وغيره. فإنَّ طاعته من طاعة الله، كما أنَّ مخالفته مخالفةٌ لله. وشرُّكم أكفرُكم للنِّعَم، سواء كانت من الله تعالى أو من أحد عباده. فإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس”.
(22/87)
مالكها أن يُخرجَ عنه وعمَّن تلزَمُه نفقتُه من المسلمين: رجال ونسوان وصبيان، أرقَّاء وأحرار؛ وهي صاعٌ من غالبِ قوتِ البلد. والسنَّةُ إخراجُها قبلَ صلاة العيد، فمَن كان قد أخرجها فقد فاز بكمال الأجر، ومَن لم يُخرجها فلْيبادِرْ بها عند قيامه من مصلَّاه، ومن أخَّرها عن يومه فقد وقع في الحرام. وأكثروا من الصدقات سرًّا وجهرًا، فرضًا ونفلًا؛ فإنَّ الصدقة تُطفئ غضبَ الربِّ كما يطفئ الماءُ النار.
وفَّقني الله وإيَّاكم للخيرات، وسهَّل علينا لزومَ الطاعاتِ والجُمَعِ والجماعاتِ، وأفاضَ علينا غيوثَ البركات، ووقانا صواعقَ البليَّات، وبدَّل سيئاتِنا حسناتٍ، بعفوه وكرمه، وفضله ونِعَمه.
الحديث: قال – صلى الله عليه وسلم – : “إذا كان ليلةُ القدر نزَلَ جبريلُ عليه السلام في كَبْكَبة من الملائكة يصلُّون على كلِّ عبدٍ قائمٍ أو قاعدٍ يذكر الله عزَّ وجلَّ. فإذا كان يومُ عيدهم ــ يعني يومَ فطرهم ــ باهى بهم ملائكته، فقال: يا ملائكتي ما جزاءُ أجيرٍ وفَّى عملَه؟ قالوا: ربَّنا جزاؤه أن يُوفَّى أجرَه. فقال: ملائكتي
(22/88)
عَبيدي وإمائي قَضَوا فريضتي عليهم، ثم خرجوا يعجُّون إليَّ بالدعاء. وعزَّتي وجلالي وكرمي وعلوِّي وارتفاع مكاني، لأُجيبنَّهم. فيقول: ارجعوا، وقد غفرتُ لكم، وبدَّلتُ سيئاتكم حسناتٍ. قال: فيَرجعون مغفورًا لهم” (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره (2).
وروى الشيخان (3) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرَضَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – زكاةَ الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، من المسلمين، وأمرَ بها أن تُؤدَّى قبلَ خروجِ الناس إلى الصلاة.
هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم.
(1) أخرجه البيهقي في “شعب الإيمان” (3444) من حديث أنس. وفي سنده: أصرم بن حوشب الهمذاني، قال البخاري ومسلم والنسائي: متروك الحديث. وقال يحيى بن معين: كذاب خبيث. انظر: “لسان الميزان” (1424).
(2) أخرجه الترمذي (541) وقال: “حديث حسن غريب”. ثم ذكر أنه خولف في إسناده وأن الأصح أنه من مسند جابر رضي الله عنه. وحديث جابر مخرَّج في البخاري (986).
(3) البخاري (1503) ومسلم (984).
(22/89)
(24)
ل 29/ب الحمد لله وحده.
الحمدُ لله الذي جلَّتْ قدرتُه، وعلَتْ كلمتُه، وعزَّتْ عظمتُه. وأشهد ألَّا إلهَ إلا الله وحده، لا شريك له. وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الذي كان في مثل هذا الشهر مولدُه وهجرته. اللهم صلِّ وسلِّم على هذا (2) النبي الكريم ذي الخلق العظيم سيِّدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه الذين بهم أُقيمتْ سنَّتُه.
أما بعد، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله، فإنَّها هي العُدَّةُ الوافية، والجُنَّة الوَاقية، والعمدة الوافية (3)، والذخيرة الكافية. ومن اتَّقَى الله تعالى دامَتْ عليه نعمتُه. ونِعَمُ الله كثيرة دائمة، لا يُحصى عددُها، ولا ينقطع مددُها.
وإنَّ من أعظمها أن هدانا لدينه القويم، وجعَلَنا من أمَّة رسولِه الكريم ــ عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم ــ وأقام فينا مَن يجدِّد سنتَه، ويمثِّل للناس سيرتَه، ويُقيم بينهم شريعتَه؛ ويكون عليهم مَجْلَى نعمةٍ وكرامةٍ، ومظهرَ رحمةٍ وسلامةٍ؛ يُرشِد إلى ما فيه الصلاح والفلاح في الحال والمآل، ويهدي إلى أساسِ مصالحِ الأحوال؛ فعمَرتْ به الديار، وتنزَّلت الأمطار، ورخُصت الأسعار، وعمَّت البركات الغِزار، وأصبح القُطْرُ غُرَّةً في جبين الأقطار.
(1) في (29/أ) وريقة كتب فيها حروف الجر ثم حاول نظمها في بيت.
(2) في الأصل: “هذه” سبق قلم.
(3) مما زاده فوق السطر، فلعله سها عن تكرار الكلمة.
(22/90)
وإنَّ الطاعات جميعها داخلةٌ تحت الشكر، وقد قابله الله جلَّ جلالُه بالكفر، فحقَّ علينا شكرُ الله تعالى على هذه النِّعم السابغة والكرامةِ البالغة، لِيزيدَنا من فضله الواسع وإحسانه المتتابع. فاشكروه سبحانه وتعالى بالتزام طاعته واستعمال نِعَمِه فيها، فجنِّبوا قلوبكم وجوارحَكم وألسنَتكم عصيانَه، وأَلْزِموها طاعتَه وذكرَه وشكرَه لتنالُوا رضوانَه.
الحديث: في الصحيحين (1) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “لا يزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمر الله، لا يضرُّهم من خَذَلهم ولا من خالفَهم، حتَّى يأتي أمر الله، وهم على ذلك”.
هذا، وإنَّ أبدعَ الكلامِ نظمًا، وأبلغه حِكَمًا وحُكمًا= كلامُ من وِسعَ كلَّ شيء رحمةً وعلمًا، والله جلَّ ذكرُه يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 55 – 56].
(1) البخاري (3641) ومسلم (1037) من حديث معاوية.
(22/91)
(25)
[ل 31] الحمدُ لله الغالبةِ قدرتُه، البالغةِ حجتُه، الواضحةِ محجَّتُه. أحمده حمدَ من عمَّتْه نعمتُه. وأستغفره، وأتوب إليه توبةَ من ألجمَتْه خطيئتُه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه، فاتَّضحَتْ طريقتُه، وتبيَّنتْ شريعتُه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على (1) هذا النبيِّ الكريم سيِّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الذين شرَّفَهم اتباعُه وصحبتُه.
أما بعد ــ عبادَ الله ــ فأوصيكم ونفسي بتقواه، فإنَّما الرابحُ في الدنيا والآخرة من اتَّقاه. وأحذِّركم ونفسي معصيتَه، فإنَّما الخاسرُ في الدنيا والآخرة مَن عصاه. هذا شعبان (2) قد ودَّعناه، وقد علمتم ما أودعناه. فكم من مساوٍ وقبائح، ومخازٍ وفضائح! وهذا رمضان قد حان نزولُه، فبماذا نستقبلُه؟ أترانا نُصِرُّ على مساوينا، ونستمرُّ على مخازينا؟ فإنْ كان ذلك فإنَّها لأجحَفُ خسارة، وأخسَرُ تجارة.
الحديث: روى البيهقيُ في “شعب الإيمان” (3) عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: خطبَنا رسولُ الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في آخر يومٍ من شعبان، فقال: “يا أيها النَّاسُ، قد أظلَّكم شهرٌ عظيمٌ، شهرٌ مباركٌ، شهرٌ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر، جعل الله صيامَه فريضةً، وقيام ليلِه تطوُّعًا. مَن تقرَّب فيه
(1) تكررت في الأصل سهوًا.
(2) في الأصل: “شوال”، وهو سهو.
(3) برقم (3336).
(22/92)
بخصلةٍ من الخير كان كمن أدَّى فريضةً فيما سواه، ومَن أدَّى فريضةً فيه كان كمن أدَّى سبعين فريضةً فيما سواه. وهو شهرُ الصبر، والصبرُ ثوابُه الجنَّة؛ وشهرُ المواساة، وشهرٌ يُزاد فيه رزقُ المؤمن. مَن فطَّر فيه صائمًا كان له مغفرةً لذنوبه، وعتقَ رقبتِه من النار، وكان له مثلُ أجرِه من غير أن ينتقصَ مِن أجره شيءٌ”. قلنا: يا رسولَ الله، ليس (1) كلُّنا نجدُ ما يفطِّر (2) به الصائمَ. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “يُعطي الله هذا الثوابَ مَن فطَّر صائمًا على مَذْقَةِ لبنٍ، أو تمرةٍ، أو شربةٍ من ماء. ومن أشبَعَ صائمًا سقاه الله من حوضي شربةً لا يظمأ حتىَّ يدخلَ الجنة. وهو شهرٌ أولُه رحمةٌ، وأوسطُه مغفرةٌ، وآخره عتقٌ من النار. ومن خفَّفَ عن مملوكه فيه غَفَر اللهُ له، وأعتَقَه من النار”.
هذا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].
(1) في الأصل: “أليس”. والتصحيح من “شعب الإيمان”.
(2) في الأصل: “تفطر”، ولعله سهو.
(22/93)
(26)
[ل 32/أ] الحمدُ لله الذي فضَّل يومَ الجمعة ويومَ النحر على سائر أيام العام، وخَصَّ كلًّا منهما بمزيد الفضل والإكرام، وجعَلَ لليوم الذي يجتمعان فيه أعظمَ مزيَّة على جميع الأيام. وأشهَدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه بالهدى ودين الحق أرسلَه. اللهم فصلِّ وسلِّم على رسولك مولانا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الكرام.
أما بعدُ ــ عبادَ الله ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله واتباعِ أوامر الله واجتنابِ مناهي الله، وشكرِ نِعَمه، فإنَّ شكر النِّعَم هو سببُ دوامها، وإنَّ كفرها هو سببُ انصرامِها. وتعوَّذُوا به من النِّقَم، فإنَّ التعوُّذ به منها هو سببُ رفعها ودفعها، وإنَّ الغفلة عنها من أسباب وقوعها.
واعلموا أنَّكم في يومٍ عظيمةٍ حرمتُه، كبيرةٍ بركتُه، جليلةٍ فضيلتُه؛ للعبادة فيه وفي الثلاثة بعدَه أجورٌ كبيرة، وللصدقة أضعافٌ كثيرة. فقدِّموا لأنفسكم، واعمُروا قبورَكم، وأخلِصُوا أعمالكم، وراقِبوا رقيبكم؛ فإنَّ الأعمارَ قصيرة، والدُّنيا حقيرة، والآجالَ قريبة، والقبورَ مُوحشة مُظلمة. فمن أحسَنَ عملَه كان قبرُه روضةً من رياض الجنة، ومن أساء عملَه كان حفرةً من حُفَر النار.
الحديث: قال – صلى الله عليه وسلم -: “خيرُ يومٍ طلعت عليه الشمس يومُ الجمعة. فيه خُلِق آدم، وفيه أُدْخِلَ الجنةَ، وفيه أُخْرِجَ منها. ولا تقوم الساعةُ إلا في يوم الجمعة” (1).
(1) من حديث أبي هريرة، أخرجه مسلم (854).
(22/94)
ورُوي عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه في حجة الوداع قال لأصحابه: “أيُّ يومٍ هذا؟ ” فقالوا: يومُ الحجِّ الأكبر. قال: “فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا … ” الحديث (1).
هذا، وإنَّ أبلغ الكلام كلامُ الله تعالى، وهو سبحانه يقول: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 6 – 10].
(1) سبق تخريجه في خطبة عيد الأضحى برقم (18). وهذه خطبة الجمعة التي وافقت يوم النحر.
(22/95)
(27)
[ل 32/ب] الحمدُ لله العليِّ شأنُه، العزيزِ سلطانُه، البالغةِ حجتُه، الواضحِ برهانُه، الشاملِ فضلُه، الكاملِ إحسانُه. أحمدُه سبحانه وتعالى حمدًا ينالُني به غفرانُه، وأشكُره شكرًا لا يُقبَض على الدوام عِنانُه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه، فشرَعَ الدينَ، ونهجَ الحقَّ، فاتضَّحَ به بيانُه. اللهم فصلِّ وسلِّم على هذا النبي الأوَّاه، سيِّدنا محمدِ بن عبد الله، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار المشرَّفين بأنهم أنصارُه وأعوانُه.
أما بعدُ، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله ــ عبادَ الله ــ يحقَّ لكم رضوانُه. وإيَّاكم ومعصيتَه، فإنما هلاكُ الدنيا والآخرة عصيانُه.
أيها الناسُ، اعملوا لأنفسكم ما دام في القوس منزَع، وفي الحياة مطمَع، قبل أن ينهدم من العمر بنيانُه. فسابقوا آجالَكم بأعمالكم، ولا يخدعنَّكم تطاولُ آمالكم، فويلٌ لمن غرَّه أملُه، فلزمه خسرانُه.
فاز ــ والله ــ من ناقش نفسَه حسابَها، فألزَمَها متابَها، ولم يلتفت إلى سرابِ العاجلةِ الواضحِ بطلانُه.
فازَ ــ والله ــ من راقبَ رقيبَه، وخشيَ حسيبَه، فأخلَصَ عملَه، كما خلَص إيمانُه.
فازَ ــ والله ــ من أتعبَ نفسَه في صلاحها، وكلَّفَها المشاقَّ لفلاحها، وعلِمَ أنَّ أمامَه يومًا حاكمُه ديَّانُه. يومٌ عصيبٌ، يصيبُ كلَّ أحدٍ من نصَبه
(22/96)
نصيبٌ (1)، زُخْرِفَتْ جِنانُه، وتغيَّظت نيرانُه.
ألا، وإنَّ هذا شعبانُ قد مضى أجلُه، وهذا رمضانُ قد أوشك محلُّه؛ فطوبى لمن شهد له بالخير شعبانُه ورمضانُه.
الحديث: في الصحيحين (2) عن ابن عمر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا تصوموا حتى تَرَوُا الهلال، ولا تُفطِرُوا حتى تَرَوه. فإنْ غُمَّ عليكم، فاقدُروا له”. وفي رواية (3) قال: “الشهر تسع وعشرون ليلةً، فلا تصوموا حتَّى تروه. فإنْ غُمَّ عليكم فأكمِلوا العِدَّة ثلاثين”.
وإنَّ أحسنَ الكلام نظمًا كلامُ مَن وسعِ كلَّ شيء رحمةً وعلمًا. والله تعالى يقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
هذا، وأستغفِرُ الله العظيم لي ولكم، فاستغفِرُوه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
(1) في الأصل: “تصيب”.
(2) البخاري (1906) ومسلم (1080).
(3) البخاري (1907).
(22/97)
(28)
[ل 33/أ] الحمدُ لله المتعزِّزِ بكمالِه، المتقدِّسِ بجلالِه، المتفضِّلِ بجُوده وإفضالِه. وأشهَدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه. صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وعلى صحابته المقتدين بفَعالِه.
أما بعدُ ــ عبادَ الله ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنَّ تقوى الله هي نجاةُ العبد ورأسُ مالِه. كم قَرَعَتْنا المواعظُ بأقوالها وأحوالها، فلم نلتفت إليها! وكم دُعينا إلى أسبابِ النجاة، فلم نعرِّجْ عليها! بل كلُّ أحد منَّا منهمكٌ في ضلالِه، مسرِفٌ على نفسه، مسيءٌ في أعمالِه؛ أردَتْه كثرةُ طمعِه وطولُ آمالِه، لا يحترزُ من الفحش في أفعالِه وأقواله. قد مدَّ له الشيطانُ من حِبالِه، وأغراه بحلِّ عِقالِه، ووسَّعَ له من الجهالة في مِحالِه، كأنَّه يظنُّ إمهالَه (1) ربُّه من إهماله، أو لا يصدِّق ببَعثِه، ولا يؤمن بمآلِه!
ما لَنا لا نغتِنُم رمضان، ولا نكُفُّ فيه عن العصيان، ويتوجَّه كلٌّ منَّا إلى الله بصدقِ إقبالِه! هذا ربيعُ الفضلِ لِرُوَّاده، والمغنمُ الباردُ لِسُؤَّاله. فيا طُوبَى لمن اغتنَمَه، ويا شقاءَ مَن حُرِمَه! فإنَّه مَفاضُ فضلِ الله، ومَنالُ نواله.
قال – صلى الله عليه وسلم -: “من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه. ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه. ومن قامَ ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه” (2).
(1) كذا في الأصل. أضاف المصدر إلى مفعوله ورفع الفاعل بعده.
(2) أخرجه البخاري (38) ومسلم (760) من حديث أبي هريرة.
(22/98)
هذا، وإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33].
هذا، وأستغفر الله إلخ (1).
(1) كذا في الأصل.
(22/99)
(29)
[ل 33/ب] الحمدُ لله الذي دَمَغَ ببراهينِ الحقِّ شبهاتِ الأباطيل، ودَحَضَ بحُجَجِ الهُدى تمويهاتِ الأضاليل، وقَمَعَ بسطوة دينه دعاوَى البدعِ والأقاويل، وصَدَعَ بأمر جلاله قلوبَ المعاندين في كلِّ زمنٍ وجِيل؛ أحمدُه حمدَ معترفٍ بعيوبه، مستغفرٍ لذنوبه.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ لا تغيِّره الأزمانُ، ولا يحيط به مكانٌ، مفتقرةٌ إليه جميعُ الأكوان؛ وهو الغنيُّ عمَّا سواه من جمادٍ وحَيَوان.
وأشهدُ أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، ورسولُه وصفيُّه. اللهم فصلِّ وسلِّم على نبيِّك محمدٍ أفضلِ مخلوق، وأشرفِ عبد، وأعظمِ عابدٍ؛ وعلى آله الذين فَضَلُوا الناسَ أصلًا … ، وكانوا أحسنَ الأمَّة قولًا وفعلًا؛ وعلى أصحابه الذين شهدتَ لهم [بالشدَّة على] الكفار، والتراحُم بينهم؛ ورضُوا عنك، ورضيتَ عنهم. و [شهد نبيُّك] بأنهم خير القرون (2)، وأنه لو أنفق أحدٌ من غيرهم مثلَ أُحدٍ ذهبًا في سبيل الله لم يبلُغْ مُدَّ أحدِهم ولا نَصيفَه (3)؛ وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ، فيا عبادَ الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله. عبادَ الله،
(1) كلمة طمسها انتشار الحبر. وكذلك الموضعان الآتيان مطموسان.
(2) كما في حديث ابن مسعود في “صحيح البخاري” (2651) ومسلم (2533).
(3) كما في حديث أبي سعيد الخدري في “صحيح البخاري” (3673) ومسلم (2541).
(22/100)
طالما سمعتم المواعظَ، فلم تلتفتوا إليها. وطالما مُحِضْتُم النصائَح، فلم تُعوِّلوا عليها. كم قامت عليكم الحججُ بالإشارات والعبارات، وزُجِرتُم عن المعاصي بألسنة الحالات والمقالات! وطالما أُرْشِدتم إلى الحق فصدَفْتُم، وهُدِيتمُ منهجَ الصواب فما عرفتم! وطالما أُمرِتُم ونُهِيتُم فما ائتمرتُم ولا انتهَيتم! وطالما تسَّوفْتم بالتوبة فمطَلتم! وطالما علَّلتم أنفسَكم بالأماني وما وفَيتم!
كلَّما صرَخَ فيكم رائدُ المَنون، ودَهَمكم عن أيمانكم وشمائلكم، وفاجأكم في إخوانكم وأولادكم؛ طويتم عنه كشحًا، وأعرضتم عنه صفحًا، كأنَكم عُمْيٌ صُمٌّ لا تعقِلون، أو أُعطِيتُم بالبقاء عهدًا، فأنتم آمنون!
وطالما أنذرَتْكم قوارعُ المصائب فتهاوَنتم، وطالما حذَّرتْكم قوامعُ النوائب فتثاقَلتم. كلَّ جمعةٍ تقوم فيكم الخطباءُ بمواعظها، فلا يفيدكم ذلك مفادًا. وكلَّ ساعةٍ تصولُ وتجولُ فيكم شواهدُ الأكوان بمشاهدها، فلا تزيدكم إلا عتوًّا وعِنادًا.
كأنما تظنُّون الوعدَ والوعيدَ زُورًا ومحالًا، أو تعتقدون الحلال حرامًا والحرام حلالًا، وتستيقنون الضَّلال رشادًا والرَّشاد ضلالًا، أو تحسبون إمهالَ الله لكم إهمالًا! كلَّا، والله، إنَّ في البرزخ لأهوالًا، وإنَّ في المحشر لأوجالًا، وإنَّ في جهنَّم لسلاسِلَ وأغلالًا.
فلا، والله، إنَّ لكم لَعُقولًا ثِقالًا، وقد رزقكم الله من حواسِّكم كمالًا؛ ولكن طاعةَ النفسِ والشيطان واتباعَ الهوى (1) كانت داء عُضالًا. ولو كنتم
(1) رسمها في الأصل: “”الهوا”.
(22/101)
من أهل الغيِّ والغرور، لا تُصدِّقون بعذابِ القبور، ولا تؤمنون بالبعث والنشور، فيليق بكم أن تخافوا على دنياكم، وتُشْفِقُوا من زوالِ نِعَم مَحْياكم؛ فقد جرَّبتم أنَّ المعاصي لِلنِّعم مُزيلةٌ، وأنَّ الخطايا للعيشِ الرغيد مُحيلةٌ. كيف وأنتم مؤمنون بالله ورسوله، مصدِّقون بوعده ووعيده، وهو العزيزُ القدير؟
الحديث (1): قال – صلى الله عليه وسلم – : “ما آمنَ بالقرآن مَن استحلَّ محارمَه” (2).
وقال – صلى الله عليه وسلم – : “ليس لأحدٍ فضلٌ على أحدٍ إلا بدِينٍ أو عملٍ صالحٍ” (3).
وقال – صلى الله عليه وسلم – : “ليس منَّا إلا عالمٌ أو متعلمٌ” (4).
هذا، وإنَّ بين أظهركم أعظمَ زاجرٍ، وأبلغَ واعظٍ، وهو كلامُ الله الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه. وهو سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا
(1) أضاف كلمة “الحديث” فيما بعد فوق السطر، وقد وردت في آخر الخطبة ثلاثة أحاديث، فنقلناها إلى هذا الموضع.
(2) أخرجه الترمذي (2918) عن صهيب، وقال: ليس إسناده بالقوي.
(3) أخرجه الإمام أحمد في “مسنده” (17446) والطبراني في “الكبير” (14231) وفي سنده ابن لهيعة.
(4) في كنز العمال (28871) أنه أخرجه أبو علي منصور بن عبد الله الخالدي الهروي في فوائده وابن النجار والديلمي عن ابن عمر.
(22/102)
أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 – 2].
(22/103)
(30)
[ل 34] الحمد لله الذي رَفَعَ الحقَّ وأوضح منارَه، ودَحَضَ شأنَ الباطل وخَفَضَ أنصارَه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده، لا شريكَ له؛ وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على نبيِّك المرسَل، وحبيبكَ الأكمل: سيِّدِنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأحبابه.
أما بعد ــ عبادَ الله ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله. فاتَّقُوا الله في السرِّ والعلانية، وراقِبُوه مراقبةَ أصحابِ القلوبِ الخاشية. وإيَّاكم والأمن من مكره، والقنوطَ من برِّه. واعلموا أنَّ عصيانَه سببُ خلود الجحيم، وأنَّ طاعتَه سببُ النعيم المقيم. فطُوبَى لمن وفَّقَه الله لطاعته فالتزمَها، وعَصَمه عن معصيته فاجتنبَها. وويلٌ لمن أضلَّه على علمه، فارتكب سبيلَ البغي والظلم، فوقع في العذاب الأليم، وحُرِّمت عليه رائحةُ النعيم.
ابنَ آدم، حتَّام يمتدُّ أملُك، ويتقاصر عملُك؟ كلَّ يومٍ خطيئةٌ بعد خطيئة، وزلَّةٌ بعد زلَّة، ونسيانٌ بعد نسيان، وغفلةٌ بعد غفلة. وأنت تَعِدُ نفسَك بالتوبة وتُماطِلها، ولا يزال متراكمًا غيُّها وباطلُها. فإلى متى لا تُقلِع عن جهلِك، وقد علمتَ أنَّ الموت أقرَبُ من ظلِّك؟ أطامعٌ في الخلود، أم مكذِّب بالموعود؟
ابنَ آدم، ألم تَقُمْ عليك الحجَّة؟ ابنَ آدمَ، ألم تتبيَّنْ لك المحجَّة؟ ابنَ آدم، إلى متى التغافُل؟ ابنَ آدم، إلى متى التجاهُل؟ تستعمِلُ نعمَ الله في معصيته، وتستعينُ بفضله على معاندته!
(22/104)
إنْ أُمِرتم بطاعةٍ لم تفعلوها، وإن سمحَتْ أنفسُكم بفعلها لم تُكملوها. فإن توضَّأتم لم تُسْبِغوا، وإنْ اغتسلتم لم تَدلُكوا، وإن غسلتم نجاسةً لم تُبالِغوا، وإن صلَّيتم لم تُحسِنوا. وإن صُمتم لم تُمسِكوا عن اللغو واللهو. وإن حججتم لم تكسِبُوا إلا حرامًا. وإن تكلَّمتم ففي غير ذكر الله. وإن قرأتم القرآنَ لم ترتِّلوا. وإن ذكرتم الله تعالى لم تكملوا.
فاعلموا أنَّ الله تعالى طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا. فأحسِنُوا صلاتكم، وأتِمُّوا ركوعَكم وسجودكم. وأسْبغُوا طهارتكم، واخزُنوا ألسنتَكم، واحمُوا قلوبَكم، وغُضُّوا أبصارَكم، وحَصِّنوا فروجَكم، وانصحُوا لله ولرسوله ولإخوانكم، وليكُنْ لله تعالى حبُّكم وبغضُكم.
واعلموا أنَّ بين أيديكم قبورًا إمَّا حُفَر تتلظَّى جحيمُها، وإمَّا غُرَفٌ يزهو نعيمُها. وبعد ذلك البعثُ إلى موقفِ الحشر والأهوال، والاصطلاء بشدة الأوجال. وبعد ذلك للأشقياء نارٌ (1)، عذابُها شديد، وطعامُها ضريع، وشرابُها صديد؛ فيها حيَّاتٌ وعقاربُ، ومقامعُ من حديد.
الحديث: قال – صلى الله عليه وسلم – : “الطُّهورُ شطرُ الإيمان، والحمدُ لله تملأ الميزانَ، وسبحانَ الله والحمدُ لله تملآن ــ أو تملأ ــ ما بين السَّماء والأرض، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصبرُ ضياءٌ، والقرآن حجةٌ لك أو عليك. كلُّ الناس يغدو فبائعٌ نفسَه، فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها” (2).
ألا، وإنَّ أبلغ كلامٍ تلينُ القلوبُ بقبضهِ وصرفِه، وتتهذَّب النفوسُ ببسْطِه
(1) في الأصل: “نارا”.
(2) أخرجه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري.
(22/105)
وكفِّه، وتتعجَّب العقولُ لِعجيب كمالِه وشريفِ وصفه= كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفِه، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) [ل 35] وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 63 – 77].
اللهمَّ جُودًا وإحسانًا، وعفوًا وغُفرانًا، وفضلًا ورضوانًا، يَشمَلُ أقصانا وأدنانا.
(22/106)
عبادَ الله، طُوبَى لمن سمع الموعظةَ فنفعَتْه، وإلى العمل الصالح رفعَتْه، وعن السِّيئات دفعَتْه، ومن أدواء الدُّنيا نفعَتْه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم.
(22/107)
(31)
[ل 36/أ] الحمدُ لله الذي أغنانا بالحلالِ عن الحرام، وجعَلَ لنا من المباح ما يكفينا عن موارد الآثام، فأباحَ لنا ما يقوم بحاجتنا وزيادة، ليكون سببَ الاعتصام. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له في مُلكه وملكوته، ولا شبيهَ له في ذاته وصفاته وجبروته، شهادةً أكون بها من الذين يقال لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} [الحجر: 46، ق: 34].
وأشهد أنَّ سيِّدَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه إلى جميع خلقِه، والهادي إلى سبيل رضوانه ومنهاج حقِّه، قام بتبليغِ الرسالة وإقامةِ الحجة أتمَّ القيام. اللهم فصلِّ وسلِّمْ على نبيِّك محمدٍ ذي الخُلُق العظيم، وعلى آله الذين هديتَهم إلى الصراط المستقيم، وعلى أصحابه الذين أبلَغُوا كتابَك وسنَّتَه، والتابعين بإحسان إلى يوم القيام.
أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإنَّما خُلِقَ الكونُ لأجلها، وإنَّها زادُ المعادِ والباقيةُ من الدنيا كلِّها، فعليكم بها، فإنها سببُ الفضل والإنعام. وإيَّاكم والمعاصيَ، فإنَّها لذةُ لحظةٍ يعقُبها ندمٌ دائمٌ، وراحةُ ساعةٍ يُجازَى عليها بتعب وعظائم، وعذابٍ لا تقوى عليه الأجسام.
وإيَّاكم والشُّبَهَ، فإنَّ النفوسَ توَّاقةٌ إلى اللذَّات والشَّهَوات، فإن جُوهدتْ عن الصغائر قنِعتْ عن الكبائر الموبقات، وإن سومحتْ عن الشُّبهاتِ وقعتْ في الحرام. فجاهِدوا ــ عبادَ الله ــ نفوسَكم حقَّ المجاهدة، وعاهدوها بالتحرُّزِ أشدَّ المعاهدة؛ فإنَّ عُراها سريعة الانفصام.
وعليكم بالفرائض، فإنَّها أساسُ الدِّين. وإيَّاكم وتركَ السُّنَن، فإنَّها
(22/108)
شهودُ اليقين. ومن ترخَّص في السُّنن سهَّل له الشيطانُ تركَ الفرائضِ العظام.
واعلموا أنَّ كلَّ ما فرَضَ الله تعالى عليكم أو نَدَبه، وكلَّ ما حرَّمه أو كرَّهه، فقد جعل في اتباعِ أمرِه الصَّلاحَ والفلاحَ، وجعل في مخالفته الهلاكَ والطَّلاحَ؛ والإنسانُ مخيَّر بين سبيلِ الفوز وسبيلِ الانتقام. فمن اتبع رضوانَ ربِّه بفعلِ الفروض والمندوبات، وتركِ الحرام والشبهات، فقد استحقَّ مزيدَ الإكرام. ومن أرداه الشيطانُ، فخالفَ أمرَ ربِّه، ولم يستعصِمْ عن أدواء لسانِه وجوارحِه وقلبِه، فقد أوقعَ نفسه في مهالك الظلام.
وإنَّ من المهالك السبَّ والشتمَ، والطعنَ واللعنَ، والهمزَ واللمزَ، والغيبةَ والنميمةَ، والعُجبَ والكِبْر والحسدَ، والحبَّ والبغض في غير الله، والطمعَ والجشعَ= فكلُّها وخيمة. واللهوَ واللعبَ، واللغوَ والكذب، وطموحَ النظر والقلب= فكلُّها من خصوم الإسلام.
وإنَّ من أطاع الله تعالى، فأدَّى فرائضَه، واجتنب محارمَه، ولم يقصِّر في فعلِ المندوب واجتناب المكروه= فهو عبدُ الله ووليُّه. ومن اجتهد في الطاعة وحمل نفسَه المشاقَّ، فهو حبيبُه وصفيُّه، وكان من الآمنين يومَ الفزع الأكبر، الموسَّع عليهم يومَ الزِّحام.
الحديث: قال – صلى الله عليه وسلم – : “الحلالُ بيِّن، والحرامُ بيِّن، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمها كثيرٌ من الناس. فمن تركَ الشبهاتِ فقد استبرأ لديِنه وعِرضِه. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمى يُوشِكُ أن يقع فيه. ألا، وإنَّ لكلِّ ملِك حمًى، ألا، وإنَّ حِمى الله محارمُه” (1).
(1) تقدَّم في الخطبة الخامسة.
(22/109)
هذا، وإنَّ أبلغَ واعظٍ بوَصْفِه، وأعظمَ زاجرٍ دافعٍ للنفس والشيطان بإيضاحِه وكشْفِه= كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفِه. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان: 1 – 5].
وفَّقني الله وإياكم لاتباع رضوانه، وغمرني وإياكم بكامِل عفوِه وغفرانِه، ورزقني وإيَّاكم خيرات برِّه وإحسانه، وأدخلَنا في زمرةِ أحبابه المخصوصين بمنِّه وأمانِه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم.
(22/110)
(32)
[ل 36/ب] الحمدُ لله الصادق وعدُه بنصر مَن نَصَره، المؤيِّدِ دِينَه بتدميرِ مَن بدَّله وغيَّره؛ أحمدُه كما ينبغي أن نحمدَه ونشكُرَه. وأشهدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، أهلُ الفضل والمغفرة. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أكرمُ مَن وحَّدَه وكبَّره. اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على نبيِّك محمد، وعلى آله وعترته المطهَّرة، وعلى أصحابه الكرام البَرَرَة.
أما بعدُ ــ عبادَ الله ــ فإنَّ تقوى الله هي العروةُ الوثقى لمن يعتصم، والغنيمةُ الكبرى لمن يغتنِم، وإنَّ معصيته هي الشقاء الأكبر والعذابُ الأخطر. فعليكم بطاعته فإنَّها هي جَنَّةُ النعيم، وإيَّاكم ومعصيتَه فإنَّها هي نارُ الجحيم. وإنَّما الدنيا مزرعةُ الآخرة وطريقٌ إلى القيامة، والآخرةُ هي دار الإقامة: إمَّا في نعيم مقيم، وإمَّا في خسران وندامة. فمن أحبَّ أن ينظر حالتَه بعدَ الموتِ في القبر والبرزخ والمحشر، فلينظر إلى عمله: أقبَلَ أو أدبَرَ. فإن حسُن عملُه فهو إلى الخير والسعادة، والحسنى وزيادة. وإنْ ساءَ فهو إلى الشقاء والهوان، والويل والخسران.
ألا، وإنَّ حسنَ العمل هو المواظبةُ (1) على الصلوات والجُمَع والجماعات، والمحافظةُ على شروطها وواجباتها ومندوباتها، واجتنابُ مُبطلِاتها ومكروهاتها؛ وإيتاءُ الزكوات بأماناتها، وحفظُ الألسُنِ عن زَلَّاتها؛ والمداومةُ على كتاب الله وذكرِه، واجتنابُ فُحْشِ الكلام وهُجْرِه؛ وحفظُ القلوب عن أدوائها، والجوارحِ عن أسوائها؛ والإخلاصُ لله تعالى في
(1) رسمها في الأصل بالضاد.
(22/111)
جميعِ الطاعات، والحبُّ والبغضُ فيه، لا لهوى النفس، فالهوى أشدُّ الموبقات.
وتفكَّروا في أنعُمِ الله سبحانه التي غمرَكم بها عمومًا وخصوصًا كلَّها لا تخلو ذرَّةٌ منها من نعمةٍ على ابن آدم. كيف لا، وهو خلَقَه، فأحسن خَلْقَه؟ فَتَح عينَيه، وفَكَّ لَحْيَيْه، وأنطقَ لسانَه، وأسمَعَ آذانَه، وبلَّ بِريقه لَهاه، وأشَمَّ أنفَه، وجعلَ له معدةً تطبخُ طعامَه، وأمعاءً تخلِّصه، وكبدًا تنقِّيه، وعروقًا تغذِّي سائر ذرَّاتِ جسدِه، ومنافذَ تُخِرج عنه فضلاتِه، وقلبًا يعقِلُ به، ويدَين يبطش بهما، ورجلَين يمشي عليهما. وعَلَّمه ما لم يكن يعلَم، وأخدَمَه ما هو أقوى منه وأعظم. وجعل من جنسِه مَن هو أفضلُ الخَلق، وأرشَدَه إلى منهجِ الحقِّ، وبيَّن له الخيرَ من الشرِّ، والنفعَ من الضرِّ، إلى غيرِها من نِعَمٍ لم تقدروا قدرَها ولم توفُّوها، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18].
وإنَّ من أجَلِّ نِعَمِه أنْ أقام فينا إمامَ حقٍّ يُرشِدُنا إلى الهدى، ويحُوطُنا من العِدَا، ويُجَنِّبُنا سُبُل الرَّدى (2)، ويُعلِّمُ الجاهل، ويُكرِمُ العالمَ، ويُنصِفُ المظلومَ من الظالم؛ فنصَرَه على من عاداه، وأعلى قدمَه على مفارقِ من ناوَاه. وكذلك وعَدَ الله سبحانه وتعالى من يُؤيِّدُه دينَه ويُظِهرُه. قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40].
الحديث: عن عمران بن الحصين رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول
(1) تمزقت الورقة، فذهبت كلمتان أو ثلاث.
(2) رسمها في الأصل: “الردا”.
(22/112)
الله – صلى الله عليه وسلم – : “لا تزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحقِّ ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتلَ آخرُهم المسيحَ الدجَّال” (1).
هذا، وإنَّ أبلغَ الكلام وقعًا وأعظَمه نفعًا كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفِه. والله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 21 – 27].
فطُوبَى لمن عرفَ الحقَّ فاتَّبَعه مُقرًّا، واجتنَبَ هذه الدنيا الدنيَّة وقدَّمَ للأخرى {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20].
واستغفِرُوا الله، إنَّ الله غفور رحيم.
(1) أخرجه أحمد (19920)، وأبو داود (2484)، والحاكم (2/ 71 و 4/ 450) وصححه على شرط مسلم.
(22/113)
(33)
[ل 38/أ] الحمدُ لله المحمودِ ونعمتُه السَّابغة، المعبودِ وحجَّتُه البالغة، المرجوِّ ورحمتُه السائغة المخشيِّ ونِقَمُه الدَّامغة. أحمده سبحانه وأشكرُه، وأتوب إلى الله وأستغفِرُه. وأشهد [ألَّا إله إلا الله] وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه. اللهم فصلِّ وسلِّم على عبدك ونبيِّك [سيِّدنا محمد] وعلى آله وصَحْبِه.
أما بعدُ، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله، فاتَّقُوه. وأحذِّركم [من] معصيته، فلا تعصُوه. واحرِصُوا على ما يُقرِّبُكم إليه، وينفَعُكم يومَ عرضِكم عليه، و تكون لكم الحسنى وزيادة لديه. فقد علمتم أنَّ هذه الدار فانية، وأنَّ الآخرة هي الباقية. كيف نُحِبُّ الدنيا وهي دار الغرور والفَنا، ومآلها إلى العَنا؟ وكيف نرغب عن الآخرة، وهي دار البقاء والغنى؟
ابنَ آدم، أطعتَ أمَلك، فضيَّعت عملَك. ليتك قصَّرت من آمالك، وعملتَ لمآلك. انظُرْ إلى الدنيا معتبرًا: هل دامت لدنيءٍ أو شريف، أو طابت لقويٍّ أو ضعيف؟ كلَّا، والله، إنَّ برقَها لَخُلَّبٌ، وإنَّ نعيمَها لَقُلَّبٌ. إنْ كانت لك لحظةً كانت عليك أيًّامًا، وإن وصلَتْك يومًا هجرتْكَ أعوامًا.
هذا، والموتُ طالب، والقضاءُ غالب. بينا الإنسانُ مسرورٌ بأحبابه وآله، مغرورٌ بصحةِ بدنه وكثرةِ ماله؛ إذ فجِئَه هاذمُ اللذَّاتِ ومفرِّقُ الجماعات،
(1) تمزقت الورقة من طرفها، فلم يظهر ما بين المعقوفين، والقراءة تخمينية.
(2) ساقطة سهوًا.
(3) قراءة تخمينية.
(22/114)
فانتزعَ روحَه، وأزارَه ضريحَه، فعادَ جيفةً، سُرَّ منه الدُّود، في بطونِ اللُّحود. وقد خلَّفَ مالَه لغيره غيرَ مشكور، وآبَ بتبعاته غير معذور.
ولا يزال في قبره بعدَ السؤال إما في نعيم، وإما في خَسار، حتَّى يُحشَر فيُحاسَب، فينعَّم أو يعاقَب؛ إمَّا إلى جنَّةٍ لا يفنى نعيمُها، وإمَّا إلى نارٍ لا يخمدُ جحيمُها. ثم يُذبَح الموت، لِيعلَم الفريقان أنه لا فوتَ.
ألا، وإنَّ من الفروض الواجبة على الأمَّة إقامةَ إمام، فإذا قام الإمامُ وجب عليهم نصرُه، والقيامُ معه بالأموال والأنفس. فإن قامت الواجبات المالية بالمقصود، وإلَّا وجَبَ عليهم من صلب أموالهم ما يقوم بذلك، فإنَّ الله تعالى في مواضع (1) من كتابه يقدِّم الجهاد بالمال على النفس، إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وفي الحديث: “من لم يغزُ ولم يحدِّثْ نفسَه بالغزو فَلْيَمُتْ إن شاء الله يهوديًّا، وإن شاء نصرانيًّا” (2).
وفي الحديث: “من جهَّزَ غازيًا في سبيل الله فقد غزا” (3).
(1) غير محررة في الأصل.
(2) لم أجده بهذا اللفظ. والظاهر أنه ملفق من حديثين: حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم (1910) قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “من مات ولم يغزُ ولم يحدِّث به نفسَه مات على شعبة من النفاق”. وحديث أبي أمامة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “من لم يحبِسْه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر، ولم يحجَّ، فليمت إن شاء يهوديًّا وإن شاء نصرانيًّا” أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8922) قال: وهذا، وإن كان إسناده غير قوي فله شاهد من قول عمر بن الخطاب.
(3) أخرجه البخاري (2843) ومسلم (1895) من حديث زيد بن خالد الجهني.
(22/115)
هذا، وإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 – 13].
(22/116)
(34) (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[ل 38/ب] الحمدُ لله المتقدِّسِ عن الأشباه والأشكال، المتعالي عن الأضداد والأنداد والأمثال، المتنزِّهِ عن الرذائل والنقائص وسيِّئ الخلال، المتصفِ بأوصاف الجلال والجمال والكمال، المخالِف لجميع الحوادث في الذَّات والصِّفات على كلِّ حال؛ أحمده حمدَ معترفٍ بسوء الفَعال، مستغفِرٍ لذنوبه، مستمنِحٍ لغزير النَّوال. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده، لا شريك له ولا مثال. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمد بن عبد الله عبدُه ورسوله المتحلِّي بأعظم الخِلال، أرسله رحمةً للعالمين، فبلَّغ ما أُرسلَ به على أبلغ منوال.
اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على هذا النبيِّ الأوَّاه، الذي خصصتَه بالمكانةِ وعلوِّ الجاه: سيِّدنا محمدٍ، وعلى آلِه أفضلِ آل، وعلى أصحابه الذين أقمتَ بهم نصرَه، وشددتَ بهم أزْرَه، وثللتَ بهم عروشَ الضَّلال.
أما بعد ــ أيها الناس ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله ــ عبادَ الله ــ في جميع الأقوال والأفعال. وإيَّاكم ومعصيتَه، فإنَّها سبب الطرد والنَّكال.
واعلموا أنما هذه الدنيا سحابةُ صَيف، أو مَرَّةُ طَيف، أو بَشَّةُ ضَيف، أو لَمعةُ سَيف، قريبةُ الزوال. وكيف تنكرون ذلك، وأنتم تشاهدون صدقَه
(1) قارن بالخطبة (60).
(2) زيادة من الخطبة (60).
(22/117)
ظاهرًا للعلماء والجهَّال؟ من ذا الذي ترونه فاز بالبقاء، أو أمِنَ تقلُّبَ الدهر به مِن حالٍ إلى حال؟
هذه أخبارُ الأمم قبلكم تقرؤونها وتعرفون ما فعلَتْ بهم نوائبُ الأيام واللَّيال. أفلا تعتبرون بمن كانوا أطولَ منكم أعمارًا، وأكثرَ منكم أنصارًا، وأشدَّ تنافُسًا في الأبناء والأموال. ذهبوا، فلم يبقَ إلا ذكرُهم، وسيُفعَل بكم كما فُعِل بهم، وأنتم مشتغلون بالزُّور والمِحال. أصبحوا في بطون الأجداث رممًا باليةً وترابًا، ولَقِيُوا (1) جزاءَ ما قدَّموا ثوابًا أو عقابًا؛ فبعضُهم بالأساور، وبعضُهم بالأغلال. قد انكشفت الأرض عن عظامهم، وداسها الأحياء بأقدامهم، وذهبت بها الرياحُ والمياهُ عن يمين وشمال.
وحيثُ لا مناصَ لكم عن المصير إلى ما صاروا إليه، والقدومِ على ما قدِموا عليه، فاعمُروا آخرتَكم بصالحِ الأعمال. فاتَّقوا الله في السرِّ والعلانية، وأصلِحوا نيَّاتِكم وأفعالَكم تكونوا من الفرقة الناجية، وقصِّروا يا قِصارَ الأعمار طِوالَ الآمال، وطوِّلوا يا طِوالَ الغفلاتِ قصارَ الأعمال.
أيها الإنسان، كم غدرَت بك الدنيا مرةً بعد أخرى، وقلَّما منَّتْكَ بنحوٍ من رغدٍ فسلبَتْه قهرًا (2). وكذلك غيرُك، كما تشاهده في الماضي والحال، وستراه في الاستقبال. وأنت مع ذلك مُصِرٌّ على الجِدِّ في الطلب، مرتكبٌ في سبيل الأطماع أشدَّ العَناءِ والتَّعَب، تُعلِّل نفسَك بما تعلم أنه كذبٌ ومحضُ محال.
(1) كذا هنا وفي الخطبة (60).
(2) “بنحو من رغد” كذا قرأت، وفي نفسي شكٌّ منها. ومقتضى السياق: “إلا سلبته”.
(22/118)
تعرف قِصَرَ العمر وغدرَ الدنيا، ولا تُقلِع عنها. وتعلم أنها دار فناء لا بقاء، ونقمة لا نعمة، ثم لا تَقنَع منها. وتستيقن عداوة هواك وشيطانِك، ثم لا تخالفهم (1) في أفعالِكَ والأقوال!
فاستعِنْ على نفسِك بذكرِ الموتِ المُبِيد والعذابِ الشَّديد، وتصوَّرْ شدَّةَ المصائب والأهوال. فإنَّ أمامك نارًا ذاتَ دركاتٍ وعقاربَ وحيَّاتٍ وسلاسلَ وأغلال.
فانظُرْ لنفسك ــ رحمك الله ــ ما يُصْلِحها في دار البقاء، وتخيَّرْ من الأحوال ما تعلمه خيرًا، وما عساك تجد غيرَ الاستقامة والتُّقى لِتَسلَم من عذر الدنيا ومكرها، ومن عذاب الآخرة وشدَّة الأوجال؟
الحديث: قال عليه أفضل الصلاة والسلام: “حبُّ الدنيا رأسُ كلِّ خطيئة” (2). وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: “لو كانت الدنيا تسوَى عند الله جناحَ بعوضةٍ ما سُقيَ منها كافرٌ شربةَ ماء” (3).
ألا، وإنَّ أبلَغ موعظةٍ يلين لها الحديدُ، وتُسكب لها العبرات، وتُداوَى بها أدواءُ القلوب القسيَّات= كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفِه. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
(1) كذا في الأصل.
(2) أخرجه البيهقي في “شعب الإيمان” (10019) عن الحسن مرسلًا.
(3) سبق تخريجه في الخطبة الرابعة عشرة.
(22/119)
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
اللهمَّ وفِّقنا لطاعِتك، واعصِمْنا عن معصيتك، وأفِضْ علينا شآبيبَ رحمتِك، وادفَعْ عنَّا مصائبَ نقمتك. واجعَلْنا من أهل مِنحتك لا مِحنتك، واجعَلْ (1) من أولئك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، بفضلك ونعمتك.
عبادَ الله، من اتقى الله فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن مالَ إلى الدنيا فقد أوقَعَ نفسَه في شَرَكِ البلوى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم.
(1) كذا في الأصل.
(22/120)
(35)
[ل 39/أ] الحمدُ لله أهلِ الحمد والعبادة، المُواتِرِ لأهل طاعته إعانتَه وإمدادَه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مخلصٍ له بالوحدانية حقَّ الشَّهادة. وأشهد أنَّ سيِّدَنا محمد بن عبد الله نبيُّه ورسولُه الذي هَدَى به عبادَه. اللهم فصلِّ وسلِّمْ على نبيِّك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتَّبع رشادَه.
أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإنَّ تقوى الله هي سببُ الفوز بالنعيم وملاكُ السعادة. وإيَّاكم ومعصيةَ الله، فإنَّها سببُ الطرد والنَّكال عن الحسنى وزيادة.
وتفكَّرُوا في لطفِ الله بكم ورحمتِه ورِفْقِه وتحنُّنِه، وكيف يُربِّيكم بمصالحكم؛ فإنكم إنْ تفكَّرتم علمتم أنَّ عملكم لا يقومُ بذرَّةٍ من شكره. فإنَّ الإنسان كان نطفةً من ماء مهين، فلم تزل الحكمةُ الربَّانيةُ تُربِّيه وتُرقِّيه من النطفة إلى العَلَقة، ومن العلَقة إلى المُضغة، إلى كمالِ الصورة، إلى نفخِ الروح، إلى أن ألقاه طفلًا حيًّا؛ فكيف كان غذاؤه (1) في بطن أمه، ثم كيف كان تصويرُ عظامه ولحمه. ثم بعد ولادته سخَّر له مَن ربَّاه وغذَّاه ورتَّبَ له المصالح.
هذا مع ما أنعمَ الله به من أنَّ أكثر المخلوقات ساعيةٌ في مصالح الإنسان، فلو نظر الإنسانُ رأى أنه لو عاش عمرَ الدنيا وأضعافها، لا يفترُ من
(1) رسمها في الأصل: “غذاه”.
(22/121)
عبادة ربِّه وذكرِه، لم يقضِ شيئًا من شكرِه. فكيف يتكاسلُ عما أوجبه عليه، أم كيف يتجارأ (1) على ما حرَّمه عليه؟ كلَّا، إنَّ الإنسان لَيطغى. فعليكم ــ عبادَ الله ــ بطاعةِ الله ومراقبتِه في جميع أحوالكم، وتحرَّجوا في (2) الصغائر، وواظبوا (3) على السنن، فربما كان الصغيرُ عندكم كبيرًا عند الله تعالى.
واعلموا أنكم في شهر الله تعالى رجب، زعمتم في أوَّله أنكم ستعبدون الله فيه، وتتوبون إليه، فها هو قد مضى، وأنتم على تسويفكم وتعلُّلِكم! وهذا شعبانُ قادمٌ عليكم، ولعلكم ستمضون فيه بما مضيتم في رجب، حتى يفجأكم الأجلُ بغتةً. فالتوبةَ، التوبةَ، قبل فواتِ العمر وهجوم الأجل.
الحديث: عن أبي ذرٍّ الغِفاري رضي الله تعالى عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربِّه عز وجل أنه قال: “يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظالموا. يا عبادي، كُلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه، فاستهدُوني أهدِكم. يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، فاستطعِمُوني أُطعِمْكم. يا عبادي كلُّكم عارٍ إلا مَن كسوتُه، فاستكسُوني أكسُكم. يا عبادي إنكم تُخطئون بالليل والنهار. وأنا أغفر الذنوبَ جميعًا، فاستغفِرُوني أغفِر لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضَرِّي فتضُرُّوني، ولن تبلغوا نَفْعي فتنفَعوني. يا عبادي لو أنَّ أولَكم وآخِركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زادَ ذلك في مُلكي شيئًا. يا عبادي، لو أنَّ أولكم
(1) كذا في الأصل. وانظر تكملة دوزي (2/ 162).
(2) كذا في الأصل.
(3) رسمها في الأصل بالضاد.
(22/122)
وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما نقَصَ ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم قاموا في صفٍّ واحدٍ، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ واحدٍ منكم، ما نقَصَ ذلك ممّا عندي إلَّا كما ينقُص المِخيَطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ. يا عبادي، إنما هي أعمالُكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجَدَ خيرًا فليحمد الله، ومن وجَدَ غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسَه” (1).
ألا، وإنَّ أبلغَ ما تنزَجِرُ به القلوب وتلينُ له الأفئدة كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفِه. والله سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33].
اللهم اغفِرْ لنا، وارحَمْنا، وعافِنا، واعفُ عنَّا، واهدِنا، وارزُقْنا، واكتُبْنا من عبادك الصالحين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم.
(1) تقدم في الخطبة الحادية عشرة.
(22/123)
(36)
[ل 39/ب] الحمدُ لله، ملكٌ لا يَرشُدُ مَن لم يستمسِكْ برُشْدِه. متفضِّلٌ جميع الفضل بيده، يسمَحُ به مِن عنده. مجيد، بحيث لا يُدرِك العالمون ولا طرفًا من حقيقة مجده. فياضُ الفضل على أهل الإقرار به وأهلِ جَحده. {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44].
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ لا يهلِكُ مَن وحَّدَه. الشقيُّ مَن أشقاه في الأزل، والسعيدُ مَن أسَعَده. فلا يهتدي مَنْ عن سبيل الفوز أبعَدَه وقيَّدَه. ولا يضلُّ مَن إلى مواردِ رضوانِه أوردَه وأرشدَه {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 78].
وأشهد أنَّ سيّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه إلى العالمين. رسولٌ شرَّفه الله على جميع أنبيائه الأكرمين، واسطةُ عِقْدهم، خاتمةُ مِسْكهم، على أنه فاتحةُ خلقهم (1)؛ فهو أولُ أوَّلِهم، وأوسطُ أوسطِهم، وآخِر الآخِرين. فما أعظمَ الرسولَ الذي عظَّمه جميعُ الأعظمين. أنزل الله تعالى عليه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
(1) يشير إلى ما روي عن أبي هريرة مرفوعًا: “كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث”، في “الفوائد المجموعة” تحقيق المعلمي (288): “قال الصنعاني: هو موضوع. وكذا قال ابن تيمية”. وانظر: “السلسلة الضعيفة” (661).
(22/124)
اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على سيِّدنا محمدٍ أكملِ الخلق خَلْقًا، وتخلُّقًا بكل خُلُقٍ كريم، سيِّدِ العالمين وأشرفهم الذي سمَّيتَه من أسمائك بالرؤوف الرحيم. وعلى آله الأطهار المقيمين بعدَه على صراطك المستقيم، وعلى صحابته الأبرار، الذين فضَّلتَهم على حَواريِّ المسيح ونُقَباء الكليم. {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 20 – 22].
أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقواه، والمحافظةِ على عبادته فإنَّها غرضُ المؤمن من دنياه؛ والعملِ للمعاد، فالسعيدُ من تجوَّز في [الدنيا] ولم يؤثرها على أخراه؛ وعمارةِ المساجد بالعبادة فإنَّها رياضُ مَن أسعده الله، وأقفاصٌ على من أشقاه. {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18].
عبادَ الله، عليكم بالصلاة، فإنَّها أمانُ المؤمنين. عليكم بفرائضها فهي الواسطة بين المؤمنين والكافرين. عليكم بإتمام أركانها، وإلَّا فليس لكم إلا العناء، وأنتم من الظالمين. عليكم بإتمامِ سُنَنِها، فإنَّها تزكيتها؛ وأكثِرُوا منها فإنَّها تَتمتها {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].
واحذروا معاصيَ الله تعالى، فإنَّها سببُ فَناء الظالمين. فهي في الدنيا تُعجِّل الهلاكَ، وتُوجِبُ في الآخرة العذابَ المُهين. المعاصي هي النار، وأصحابُها من المهلَكين. فاحذَروها، ولا تُلقوا بأنفسكم إلى التهلكة إن
(22/125)
كنتم من الموقنين. {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
أيها الإنسانُ، هذا الموتُ ناشرٌ أعلامَه، هذا الموتُ مصوِّبٌ سهامَه، هذا الموتُ منفِّذٌ أحكامَه، هذا الموتُ مُشْرِعٌ رمحَه ممكِّنٌ حُسامَه. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185].
حتَّامَ التسويفُ بالتوبة، والموتُ دون الأمل حاجزٌ قدير؟ فهل أنتَ مكذِّبٌ به، وقد قام عليه كلُّ دليلٍ منير؟ أين مَن تعرفه، ومَن لا تعرفه وتسمع به، مِن صغير وكبير؟ هل هم إلا واقعٌ في شبكته، ومنتظرٌ إلى أجلٍ قصير؟ لِمَ تظنُّ أنَّ عملَك غيرُ لاقيك، وأنَّه ليس إليه المصير. {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111].
الحديث: كان – صلى الله عليه وسلم – يقول: “أوَّلُ ما يحاسَب عليه العبدُ يومَ القيامة: الصلاةُ المكتوبةُ. فإنْ أتمَّها، وإلَّا فيقال: انظروا هل له من تطوُّع؟ فإن كان له تطوُّع أُكمِلَت الفريضةُ من تطوُّعه. ثم يُفعَل بسائر الأعمال المفروضة مثلُ ذلك” (1).
وكان – صلى الله عليه وسلم – يقول: “إن الله عز وجل يطَّلِعُ على جميع خلقه ليلةَ النِّصف
(1) أخرجه أحمد (7902، 9494) وأبو داود (864) والترمذي (413) والنسائي (465) وابن ماجه (1425) من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: “حديث حسن غريب من هذا الوجه”. وله شاهد من حديث تميم الداري عند أحمد (16951) وأبي داود (866) والحاكم (1/ 262).
(22/126)
من شعبان، فيَغفر لجميع خلقه إلَّا لمشركٍ، أو مُشاحنٍ، أو قاطعِ رحمٍ أو سبيلٍ (1)، أو عاقٍّ لوالدَيه، أو مدمنٍ خمرًا أو قاتلٍ نفسًا” (2).
وكان يقول: “إن الله عز وجل يطَّلِع على عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفِرُ الله للمستغفرين، ويرحَمُ المسترحمين، ويؤخِّرُ أهلَ الحقد كما هم” (3).
وكان يقول: “إذا كانت ليلةُ النصف من شعبان، فقُومُوا ليلَها، وصُومُوا يومَها” (4).
أقول قولي هذا.
(1) كذا في الأصل، والصواب: “مُسْبِلٍ”.
(2) ملفق من حديثين أخرجهما البيهقي في “شعب الإيمان”: حديث معاذ (3552) ولفظه: “يطَّلع الله على خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن” وإسناده صحيح. وحديث أبي سعيد (3556) وهو حديث طويل، وفيه: ” … بل أتاني جبريل عليه السلام. فقال: هذه الليلة ليلة النصف من شعبان، ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم كلب، لا ينظر الله فيها إلى مشرك، ولا إلى مشاحن، ولا إلى قاطع رحم، ولا إلى مسبل، ولا إلى عاقٍّ لوالديه، ولا إلى مدمن خمر”. قال البيهقي: هذا إسناد ضعيف. ورُوي من وجه آخر.
(3) أخرجه البيهقي في “شعب الإيمان” (3554) من حديث عائشة، وقال: “هذا مرسل جيد، ويحتمل أن يكون العلاء بن الحارث أخذه من مكحول”. يعني أنه لم يسمع من عائشة.
(4) أخرجه ابن ماجه (1388) والبيهقي في “شعب الإيمان” (3542) من حديث علي بن أبي طالب، وفي سنده أبو بكر ابن أبي سبرة. قال الحافظ في “التقريب”: “رموه بالوضع”.
(22/127)
(37)
[ل 40] الحمدُ لله القادرِ القويِّ ذي القوة والحول، الواجبةِ عبادتُه وإجلالُه بالفَعال والقَول، الملكِ المنفردِ بقدرته في السابق والحال والأَوْلِ، مُنجي المؤمنين وكاسرِ (1) المفسدين عند شدَّة الهَول. {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3].
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، بارئُ السَّبع الطِّباق، ناسجُ الكائنات على أبدعِ مِنوال في اتفاقها والافتراق، هادي من اتبعَ صراطَه المستقيمَ إلى سبيله القويم، معذِّبُ أهل العِناد والشِّقاق. مُيسِّرُ الخيراتِ لأحبابه في دارهم هذه، ومُهِّونٌ عليهم كربَ ضِيق الخِناق {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15].
وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، النذيرُ الذي أرسله بالبشرى، الحبيبُ الذي يسَّره الله ومن اتَّبعه لليُسرى، الذي كان متهاونًا بهذه الجيفة المنتِنة إيثارًا لخيراتِ الأخرى، المخصوصُ من بين المرسلين بالفضيلة والمعراج والإسرا، المنزَّلُ فيه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17 – 18].
اللهم فصلِّ وسلِّمْ على سيِّدنا محمد الذي فَضَلْنا به جميعَ الأمم فضلًا من الله وإحسانًا، وملأ الله به قلوبَنا يقينًا وإيمانًا، ورفَعَنا به على من خالَفَنا
(1) تحت ثالث الكلمة نقطة واحدة، ولم أتبيَّنها لطمس جزء منها.
(22/128)
وعادَانا. وعلى آله الذين بقرباه ارتفعوا، حتى سامَكُوا السِّماكَ علوًّا وارتفاعًا فضيلةً وشأنًا. وعلى أصحابه المنزَّلِ فيهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29].
أيها الناسُ، أوصيكم وإيَّاي بتقوى الملكِ الجبَّار الذي هو على كل أفعالكم رقيبٌ، واتباعِ أوامره بلا معاندةٍ، فإنَّ أجلَ الله قريب؛ والكفِّ عن عصيانه قبلَ أن يُدرككم عذابُه المصيب. وعليكم بموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، ليكون لكم من رحمته نصيب. {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13].
عبادَ الله، كيف ترون نفوسَكم في معاملةِ ربِّ العالمين؟ هل تَفُون بما افترضَه عليكم، كما تَفُون بحقوقِ المخلوقين؟ أم تستحيون منه استحياءَكم من عباده العاجزين؟ أم تشكرون نعمَه المباشرةَ كما لو كانت بواسطة أحدٍ من عباده المملوكين؟ تالله، إنَّكم لتُعامِلون معاملةَ المستهين، وتتخبَّطون بين أوامره ونواهيه تخبُّطَ الأعشى لسوء اليقين، وتجترِمُون ما تستوجِبُون به عند الله العذابَ المُهين، وتحترمون مَن أوجبَ معاداتَه من الظالمين، وتحسَبون أنَّه بفضل إيمانكم سيعاملكم كعباده المخلِصين. هيهات! فإنَّ دون الجنة نيرانًا يرِدُها المذنبون. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا
(1) ساقط سهوًا.
(22/129)
يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].
ابنَ آدم، هل تقول: الموتُ لروحك نازِع، وإنَّك لكأسه العَلْقميِّ جارِع، وإنَّه لعزِّك وعزمِك عمَّا قريبٍ صادع؟ فيا له من صارعٍ لا يصارعه مُصارع، ولا تُقبَل فيه مقالةُ شافع، ولا يسلَم منه أحدٌ من دانٍ وشاسع! ما أظنُّكَ إلَّا مكذِّبًا به، وتظنُّك لنفسك نافِع، أو تظنُّ مالَك لك إلى علِّيين رافِع. كلَّا، والله، إنه عما قريب لِقَدَمِه عليك واضع، ولِوَتينك غيرَ بعيدٍ قاطع. وإنَّ بعدَه عذابَ القبر النازلَ بالمجرم ضليع أو ظالع (1)، وإنَّ الإنسان بعد ذلك إلى ربِّه لَراجع. فما أظنُّك إلا مكذِّبًا بذلك ناظرًا في قول الله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات: 7].
فاتَّبِعْ أمرَ الله تعالى، وَاتْرُكْ ما تهواه أنت لِما ربُّكَ يهوَى؛ وَاتْرُكْ معاندةَ ربِّكَ، فإنَّه منك لَأقوى. فيا سعادةَ من اتَّبعَ رضوانَ ربِّه، وكفَّ عن جميع الأسوا! ، ويا شقاوةَ من اتَّبَع في عصيان ربِّه طاعةَ نفسه، وخضَعَ لطلبَاتِ الأهوا! والله تعالى يقول: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 – 41].
الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “أتدرون مَن المفلِسُ؟ ” قالوا: المفلسُ فينا مَن لا درهم له ولا متاع. قال: “إنَّ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتَم هذا، وقذَفَ هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسفَكَ [دمَ هذا] وضرَبَ [هذا] فيُعطَى
(1) رسمها في الأصل بالضاد.
(22/130)
[هذا] من حسناته وهذا [من حسناته]، فإنْ [فَنِيتْ حسناتُه قبلَ أن يُقضَى عنه ما عليه] أُخِذَ من [خطاياهم] ثم طُرِحتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار” (1).
اللهم [نسألك توبة كاملة ورحمة شاملة ومغفرة بالفوز (2) كافلة، تكون بيننا وبين سخطك حائلة.
عبادَ الله قد أسمعنا الإرغاب والإرهاب، وأرَينا جميع الأسباب للثواب والعقاب، فَلْنتَّقِ (3) ونستغفرْ مولانا ربّ الأرباب، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنَّه هو الغفور التوَّاب.
(1) أخرجه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة.
(2) هكذا قرأت، وهي غير محررة في الأصل.
(3) في الأصل: “فلنق”.
(22/131)
(38)
ل 41 الحمدُ لله فالقِ النَّوى والحبِّ، ومُخرِجِ الحصيد والأبِّ، وقابلِ التَّوب وغافرِ الذنب، الواحد الصمد الربِّ؛ الذي لا يُدركُه ناظر، ولا يملِكُه خاطر، ولا يفوتُه بادٍ ولا حاضر، ولا له في مُلكه مُعين ولا مؤازر.
أحمدُه حمدًا يستفِرغُ وُسْعَ الطاقةِ، وأعوذ به من أهوال يوم الحاقَّة (2). وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً (3) ذخيرةً ليوم الفقر والفاقة، وعُدَّةً إذا حقَّت الحاقَّة.
وأشهد أنَّ محمدا عبدُه المبعوثُ من تهامة، ورسولُه المخصوص بالكرامة (4)، الذي جعله الله تعالى حاديَ الأنبياء في الإمامة، وإمامَهم (5) المقدَّم في القيامة، صلى الله على محمد وآله وأصحابه (6).
أيها الناس، أقلِعُوا عن الذنب قبل أن تُقلَعوا، وارجعوا عن الحُوب قبل أن تُرجَعوا، وتمتَّعوا بالعمل الصالح قبل أن تُمنَعوا. فقد أتاحَ الله لكم شهورَ
(1) هذه الخطبة من خطب ابن نباتة (ص 154) بشيء من التصرف وإضافة الحديث وما بعده إليها. وسأشير إلى تصرفات الشيخ في الحواشي.
(2) “وأعوذ به من أهوال يوم الحاقة” زيادة من الشيخ أدَّت إلى تكرار السجعة.
(3) “شهادة” زيادة من الشيخ.
(4) ابن نباتة: “الموسوم بالشامة”.
(5) ابن نباتة: “وهاديهم”.
(6) ابن نباتة: “وآله أهل النجدة والشجاعة، وخصَّهم بغرائب الفضل وطرائف الكرامة”.
(22/132)
التجارةِ الرابحةِ فتاجِرُوه، وأنذَرَكم شِدَّةَ بأسِه فحاذِرُوه، وأنيبوا إلى ربِّكم وأسْلِموا وراقبوه. ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فآسَفُوه، فانتقَمَ منهم حينَ خالَفوه (1).
هذا ــ عباد الله ــ شعبانُ ضاربًا بجِرانه، نازلًا بمودَّة ربِّكم (2) وإحسانِه، يُصَبُّ (3) عليكم من السَّماء بركاتُه، وتزكِّي أعمالَكم أوقاتُه (4). أطنَبَ رسولُ الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في وصفه، ورغَّبَ في قيام ليلة نصفِه، فتأهَّبُوا ــ رحمكم الله ــ لقصدِها، وشَمِّروا لاغتنام وِرْدِها. فكم طليقٍ فيها من وَثاقِ الذُّنوب، وحقيق بنَيل كلِّ مطلوب! يُنزِّل الله تعالى فيها صِكاكَ الأرزاق، ويُعجِّل ببركتها (5) فَكاكَ الأعناق. فاهرُبوا إلى الله تعالى فيها من سوء الاجتراح، واطلُبوا منه حوائجَكم تظفَروا بالنجاح.
واعلموا أنَّ وراءكم طالبًا لا يَغفُل، وسالبًا لا يُمْهِل، ونارًا تلفَح، ومقامًا يَفضَح، وقضاءً فَصْلًا، وحَكَمًا عَدْلًا، وكتابًا لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها، وديَّانًا لا يدَعُ ظُلامةً إلا ردَّها واستقصاها. فرحِمَ الله ذا شيبةٍ عرفَ حقَّها فأكرمها، وذا شبيبة استحسن خَلْقَها فرحِمَها، وذا بصيرةٍ خَبَر مادَّة دائه فحَسَمها، وذا سريرةٍ أصلَحَ فسادَها فأحكمَها؛ قبلَ أن يُنِيخَ بكم الموتُ نياقَه، ويَضرِبَ عليكم رِواقَه، ويُمِرَّ لكم مذاقُه، ويُرهِقَكم سياقُه، ويُوردَكم مواردَ
(1) “وأنيبوا … خالفوه” زيادة من الشيخ.
(2) ابن نباتة: “قادمًا بمعروف ربكم”.
(3) ابن نباتة: “تتشعب”.
(4) ابن نباتة: “أوقاته وساعاته”.
(5) ابن نباته: “لبركتها”.
(22/133)
قومٍ سَلَفوا، ومن ديارهم وأموالهم اختُطِفُوا؛ في منازل الهَلْكى نازلون، وعلى ما حصَّلوا (1) من أعمالهم حاصلون. قد فصَّل وصِالُ الثَّرى أوصالَهم، وغيَّرتْ غِيَرُ البِلَى أحوالَهم، وغدًا يصير المتخلِّفون أمثالَهم، فما لهم لا يعتبرون بهم مآلَهم؟
جعَلَنا الله وإياكم ممن اطَّرَح اللهوَ جانبًا، واتخذ الجِدَّ صاحبًا، وكان لهواه غالبًا، ولمولاه في كلِّ حالٍ (2) مراقبًا.
الحديث: عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -: “إذا كانت ليلةُ النصف من شعبان فقوموا ليلَها، وصوموا يومَها، فإنَّ الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السَّماء الدنيا، فيقول: ألا مِن مستغفرٍ فأغفِرَ له؟ ألا مسترزقٌ فأرزقَه؟ ألا مبتلًى فأعافيَه؟ ألا كذا، ألا كذا، حتى يطلع الفجر” (3).
هذا، وإنَّ أبدعَ الكلام نظمًا، و أبلَغَه حِكَمًا وحُكمًا كلامُ من وِسعَ كلَّ شيء رحمةً وعلمًا. والله جلَّ جلالُه يقول [ل 42]: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ
(1) ابن نباتة: “قدَّموا”.
(2) “في كل حال” زيادة من الشيخ.
(3) تقدم في الخطبة (36).
(4) تمزقت الورقة من أسفلها، فلم تظهر إلا رؤوس الكلمات.
(22/134)
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان: 1 – 7].
هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
(22/135)
(39)
[ل 43/أ] الحمدُ لله الذي وفَّق لطاعته مَن أراده، وهدَى من اصطفاه وأحبَّه رَشادَه، واختَصَّ من ارتضاه لحضور مواسم السَّعادة. أحَمدُه، وفَّقَ لحجِّ بيته الكريم من ارتضى من عباده المؤمنين؛ وأشكره، مَنَّ عليهم بقضاءِ المناسكِ والقَبول وتمامِ الأجر، وذلك جزاءُ المحسنين. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على رسولك مولانا محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين.
أما بعد ــ عبادَ الله ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى [الله، وتجنُّب] معصية الله؛ فاتقوا الله وخافُوه، وأطيعوه ولا تعصُوه؛ فإنه قد حذَّركم نفسَه، فاحذروه.
واعلموا أنَّ أناسًا وفَّقهم الله لحج بيته الكريم، وحضورِ ذلك الموسم العظيم فظفروا (1) بالفوز الأوفر، والأجر الأكبر. وأُجْزِلَتْ عطاياهم، وغُفِرتْ خطاياهم، ونحن هاهنا واقفون، ثبَّطَتْنا ذنوبُنا، وحبَّطتنا (2) عيوبُنا.
ولله سبحانه عباداتٌ وأسبابُ سعادات، لا تستدعي مشاقَّ أسفارٍ ولا ركوبَ أخطارٍ. ألا، وهي الصلاةُ فرضًا ونفلًا، والصيامُ، وقراءةُ القرآن، والذكرُ، والصدقاتُ، وصلةُ الرحم، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر،
(1) رسمها بالضاد.
(2) (حبط) من باب فعَّل من كلام العامة، ولم يرد في المعجمات.
(22/136)
والحبُّ في الله والبغض في الله، والنصيحةُ لله ولرسوله ولإمام المسلمين ولعامَّتهم. فإنَّ من واظب (1) على هذه الطاعات فاز بالفضل الوافر، وساوى بها الحجَّ وزاد، وفاز برضوان ربِّ العباد. فاغتنِمُوا الأعمارَ قبلَ الأجل، واقطعوا الأمل، وجِدُّوا في العمل؛ فإنَّ العمرَ فاني، والعملَ باقي، والأجلَ آتي (2).
الحديث: عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال لأصحابه: “ثلاثٌ أُقْسِمُ عليهن، وأحدِّثكم حديثًا فاحفَظُوه. فأمَّا الذي أُقسِمُ عليهن، فإنه ما نقص مالُ عبد من صدقة، ولا ظُلِمَ عبدٌ مظلمةً صَبَر عليها إلا زاده الله بها عزًّا، ولا فَتَح عبدٌ بابَ مسألةٍ إلا فتَحَ الله عليه بابَ فقرٍ. وأما الذي أحدِّثكم فاحفظوه، فقال: إنَّما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربَّه، ويصل رحِمَه، ويعمل لله فيه بحقِّه؛ فهذا أفضلُ المنازل. وعبدٌ رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادقُ النيَّة، يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ بعملِ فلان؛ فأجرُهما سواء. وعبدٌ رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو يتخبَّط في ماله بغير علم، لا يتَّقي فيه ربَّه، ولا يصِل فيه رحِمَه، ولا يعمل فيه بحقٍّ؛ فهذا أخبثُ المنازل. وعبدٌ لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ فيه بعمل فلان، فهو نيَّتُه؛ ووزرُهما سواء” (3).
ألا، وإنَّ أصدقَ الكلام كلامُ الله، وهو تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
(1) هنا رسمها بالظاء على الصواب.
(2) كذا كتب الأسماء المنقوصة الثلاثة بإثبات الياء.
(3) أخرجه الترمذي (2325) وقال: حديث حسن صحيح.
(22/137)
تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9 – 11].
(22/138)
(40)
[ل 44/أ] الحمدُ لله اللطيفِ بعبادِه، الهادي إلى سبيلِ رشادِه، المُتقدِّسِ عن المِثْل والشَّبَه، المُزيلِ بكتابه المبين غواشيَ الأهواءِ والشُّبَه. أحمدُه وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه. وأشهدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه، اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على رسولك مولانا محمد وعلى آله وصحبه الكَمَلَة.
أما بعدُ ــ عبادَ الله ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنَّها وصيَّتُه لعباده أجمعين. وأحذِّرُكم ونفسي معصيتَه، فإنَّها موردُ غضبِه الذي حذَّر منه الأولين والآخرين. إنما هذه الدنيا دارُ مرور، رغدُها زُور، ونعيمُها غُرور. فالسعيد من لم يجعلها أكبرَ همِّه ولا مبلغَ علمه. والشقيُّ من رضي بها عن الآخرة، وباعَ اللذةَ الفانيةَ الخسيسةَ باللذة الباقية الفاخرة.
أيها الإنسانُ ما غرَّك بربِّك، وما ران على قلبِك؟ كلَّ يوم تزداد ذَنُوبًا من ذُنوب، وتملأ عَيْبةً من عيوب؛ كأنَّك في الموت مُرْتاب، أو مضمونٌ لك الثَّوابُ، ودخولُ الجنة بغير حساب؛ أو معدودٌ في سائر الدوابِّ، التي ليس عليها بعد القِصاص عذابٌ ولا عقاب.
كلَّا، والله، إنَّ وراءك يومًا ثقيلًا، وعذابًا وبيلًا، وعقبةً كؤودًا، وغضبًا شديدًا، وزَقُّومًا وصديدًا، وحيَّاتٍ وعقاربَ سُودًا، وسلاسلَ وقيودًا؛ معدَّةً لِمن خالفَ أمرَ ربِّه، وأصرَّ على ذنبه.
وإنَّ لِمن اتَّقى اللهَ جِنانًا، ونعيمًا ورضوانًا، وحُورًا وولِدانًا، وعُرُبًا حِسانًا. ولهم فيها ما تشتهي الأنفسُ وتَلَذُّ الأعينُ، مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ
(22/139)
سمعتْ، ولا خطَرَ على قلبِ بشَر، فضلًا من الله وإحسانًا، وعفوًا وغفرانًا، وجودًا وامتنانًا.
ها أنتم في الأشهُر الحُرُم المعظَّمة، في أشهُرِ الحجِّ المحرَّمة، في عَشْر ذي الحجة المكرَّمة، التي أقسَم الله بها في كتابه، وأعدَّ لصائمها وقائمها جزيلَ ثوابه. فواظِبوا (1) فيها على الطاعات، وأكثرِوا من الصدقات، وتوبوا من جميع السِّيئات، لتفوزوا بالخيرات والبركات، في الحياة وبعد الوفاة (2).
الحديث: رُوي عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “ما من أيامٍ أحبُّ إلى الله أن يُتعبَّد له فيها من عشر ذي الحجة. يَعدِلُ صيامُ كلِّ يومٍ منها بصيام سَنة، وقيامُ كلِّ ليلة منها بقيامِ ليلةِ القدر” (3).
هذا، وإنَّ أبدعَ الكلام وأحسنَه، وأجزلَه وأمتنَه، وأبلغَه وأتقنَه= كلامُ من لا يأخذه سهوٌ ولا سِنة. والله سبحانه يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ
(1) هنا رسم الفعل بالظاء على الصواب.
(2) هنا كتبها بالتاء المربوطة مع أن قرائن السجع الأخرى بالمفتوحة، خلافًا لما سبق في الخطبتين (3، 10).
(3) أخرجه الترمذي (758) وقال: “هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مسعود بن واصل … “. وللجزء الأول شاهد من حديث ابن عباس عند البخاري (969).
(22/140)
ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ [ل 43/أ] لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [سورة الفجر].
هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
(22/141)
(41)
[ل 45/ب] الحمدُ لله الذي شرَعَ دينَه القويم، وتكفَّل بحفظه وإظهارِه، وأسَّسَ قواعدَه وشدَّد سواعدَه بتأييد أنصارِه. وحماه عن بوائقِ البِدَع بصرائحِ حُججِه، وكلَأَه من أهوية المتعسِّفين بهدايةِ واضحِ منهجه. ولم يزل يُشيِّد أركانَه ويؤيِّد برهانَه بإقامة الهُداة المثبتين والدعاة الموفَّقين، ليقدَعَ أنوفَ أهلِ البدعِ الشنيعة، ويردعَ أهلَ الزيغِ المعاندين لحقيقة الشريعة.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا متقدِّسًا عن الأشباه والأشكال، متعاليًا عن الأنداد والأضداد والأمثال، سبحانه وتعالى عما يقوله الملحدون. ولا إله إلا هو كلما وحَّدَه الموحِّدون.
وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، سببُ الوجود (1)؛ وواسطةُ عِقد المرسلين، وواسطةُ العالمين إلى الربِّ المعبود، صاحبُ اللِّواءِ المعقود والمقامِ المحمود والحوضِ المورود. اللهم فصلِّ وسلِّمْ على نبيِّك ورسولِك سيِّدنا محمدٍ وعلى آله المطهَّرين من الرذائل، وأصحابه المكرَّمين بفواضل الفضائل، وعلى كل من اهتدى بهديه القويم وصراطه المستقيم إلى يوم الدين.
أما بعدُ، فيا إخواني، أوصيكم ونفسي المثقلةَ بتقوى الله، وتحامي الوقوع في حُرَم الله؛ فإنَّ التقوى أساسُ الصلاح، وكنزُ النجاح، وعمدةُ الفوز والفلاح. التقوى ناصرٌ لا يَخذُل، وعزٌّ لا يُذِلُّ، وكنزٌ لا يقِلُّ، ومُعينٌ لا يمَلُّ،
(1) يشير إلى بعض الروايات التي جاء فيها أنه لولا محمد – صلى الله عليه وسلم – ما خلق الله آدم ولا الجنة والنار، ونحوه. وكلها باطلة لا أصل لها.
(22/142)
وعرشٌ لا يُثَلُّ، وعَقْدٌ لا يُحَلُّ، وقائد لا يَزِلُّ، وهادٍ لا يضِلُّ، وسيفٌ لا يُفَلُّ. فعليكم بالتقوى تفوزوا بخير الدارين وأحسن (1) الحالين، تنالوا بها في الدنيا عيشًا مرغوبًا، وتفوزوا بالآخرة بالنعيم المقيم في غُرَفِ طُوبَى. من أراد جنَّة المأوى فعليه بالتقوى.
أيها الإنسان، ما أطوَلَ أملَك، وما أقصَرَ عملَك! تحصُر همَّتَك في تحصيل الحطام الفاني، وتُعرِض عن الإعداد لهولِ الآتي. وتستهينُ بالعذاب الشَّديد، استهانةَ مكذِّبٍ بالوعد والوعيد. وما ذلك إلا لأنَّك آثرتَ الفاني على الباقي، وبعتَ الآجلَ بالعاجل. لا يسكن قلبُك إلا إلى جلبِ مالٍ أو زيادةِ حطامٍ، ولا تميل نفسُك إلَّا إلى حِيَلِ الكسْبِ وتكثيرِه من غير أن تنظرَ إلى حلال أو حرام. تحبُّ نقصَ العبادة، كما تحبُّ في دنياك الزيادة. ويروعك من صلاتك تطويلها، كما يروعك من دنياك تحويلُها.
ابنَ آدم، حتَّام التسويف؟ وإلامَ التخفيف؟ ألم يُفِدْك التخويف؟ حتَّام ازورارُك عن الحقِّ، وإعراضُك عن الصدق؟ إلى كم تتجنَّبُ الهدى، وتتصوَّب الرَّدى (2)، وتميل إلى العِدَى؟ ألا، وإنما نفسُك وهواك وشيطانك هم العِدَى (3)، لو تعلَم!
ابنَ آدم، ارفُقْ بنفسِك وارْحَمْها، فإنَّك لم تزَلْ للمخاوف تُقْحِمُها، وعن الخيرات تَحْرِمُها. فيا ظالمًا لنفسه، علامَ تَظْلِمُها؟ ويا مُهلِكًا لنفسه ألا
(1) في الأصل: “حسن”.
(2) كذا في الأصل.
(3) رسمها في الموضعين: “العدا”.
(22/143)
ترحَمُها؟ ألم تعلَمْ أنَّ بين يديك مفاوزَ لا يجوزُها إلا المُغِذُّون، ولا يفوزُ فيها إلا أغنياءُ الدِّين المكثرِون.
بينا أنت متخبِّطٌ في غرورك، مختالٌ في سرابيلِ مكرِك وزُورِك، [ل 46/أ] إذ دهَمك هاذمُ اللَّذَّات، مبدِّدُ الجمعِ بالشَّتات (1)، والحياةِ بالوفات (2)؛ فاختطفَكَ اختطافَ البازي الكاسِر، وقطَعَ وتينَك أسرعَ مِن قَطْعِ الجازر، فأُودِعتَ في عملِكَ: خيرٍ أو شرٍّ، وأُسْلِمتَ إلى ما قدَّمتَ: فُجورٍ أو بِرٍّ. فإنما قبرُ الإنسانِ عملُه عندَ مَن يفهم، فَلْيَعْمُرْ كلٌّ منكم قبرَه كيف شاءَ فيحمَد أو يندَم. ولا بدَّ من المعاملة في القبر لأهل الطاعة والعصيان، فيُجازَى أهلُ الإساءة بالسوء، وأهلُ الإحسان بالإحسان.
حتَّى إذا حضَر ميقاتُ البعث انتشرت الخلائق، وتوضَّحت الحقائق، ونزلت البوائق على كل خاطئ وفاسق؛ فمِن مناقَشٍ بالحساب، ومفضوحٍ على رؤوس الأشهاد. يومٌ تشهد فيه الأعضاءُ على النفس، ويفيض العرقُ على الرأس. يومٌ لا تُداني الأهوالُ هولَه، ولا تُقاربُ الدنيا طُولَه. وبعدَ الحساب، فأمامَ الإنسان السِّراطُ، فمِن ناجٍ، ومن مُزَحزَحٍ، ومن واقعٍ، ومن مخدوشٍ، ومن مُعْرَق، ومن ممزَّق.
هذا، وإنَّ عامِلَ الإنسان عملُه، فمن أراد حسنَ المعاملة فَلْيُحسِنْ عاملَه؛ فإنَّ العمرَ قصير، وإلى الله المصير، والحسابُ عسير، والناقدُ بصير. والخلقُ بين بشير وحسير {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].
(1) تمزَّق موضعها ولم يبق منها إلا الأحرف الثلاثة الأولى.
(2) كذا كتبها بالتاء المفتوحة. انظر ما سبق في الخطبة الثالثة.
(22/144)
هذا، وإنَّ الله تعالى قد درأ عنكم نِقَمَه، وأجزلَ عليكم نِعمَه، فأقام لكم ولعامَّة الأمَّة هذا الإمامَ الموجود، وألزَمَه الحقَّ، فهو معَه لا يفارقُه، والهدى على كلِّ الأحوال مرافقُه. فيا سعادة من يُساعده، ويا شقاوةَ من يُعانده! قام والدِّينُ في غُمَّة، والعظائم مُهِمَّة، والكُرَبُ مُدْلهمَّة، والمصائبُ مُلْتَمَّة. فأغاث الغُمَّة (1)، ورفَعَ النِّقْمة، واستنزلَ النِّعمة، وكان بابَ الرحمة. ألا، وإنَّ من نظر بعين بصيرته، وتأمَّلَ حسنَ سيرته وسريرته، وكان ممن نوَّر الله تعالى قلبَه، وزكَّى لُبَّه= عرفَ لهذا الإمام حقَّه، واستيقن بأنه هو ــ وإن أبَى المعاندُ ــ والله، الشاهدُ. فعليكم باتِّباعِه وجمع قلوبكم مع ألسنتكم في محبته ومودته. ولا يختلسنَّكم الشيطان، فيختلجَ في عقولكم التهاونُ به، فتُخذَلوا في الباطنة والظاهرة، وتشقَوا في الدنيا والآخرة.
ألا، وإنَّ أحسنَ ما اتَّعظَ به من رُزِقَ التوفيقَ، ورَجَع به عن التكذيب إلى التصديق= كلامُ الله سبحانه وتعالى، فإنَّه حقيقة التحقيق. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 96]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 – 13].
الحديث: قال شفيعُ الأمَّة نبيُّ الرحمة – صلى الله عليه وآله وسلم -: “لا يؤمِنُ عبدٌ حتى يكون
(1) كذا في الأصل، ولعله أراد: “الأمَّة”، فسبق القلم.
(22/145)
قلبُه ولسانُه سواء (1) ” (2).
وقال عليه الصلاة والسلام: “إنَّ أحبَّ عبادِ الله إليه أنصحُهم لعباده” (3).
اللهم، إنَّا نضرَع إليك بالرجاء، ونفزَع إليك (4) بالالتجاء، ونُهرَع إليك بالدعاء؛ فاستجِبْ لنا يا نعم المجيب.
عبادَ الله، اسمعُوا وعُوا، واحفَظوا وانتفِعُوا واتقوا الله وتوبوا إليه تُرفَعُوا.
أقول قولي هذا، وأستغفِرُ الله العظيم لي ولكم، فاستغفِروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم.
(1) رسمها في الأصل: “سوى”.
(2) في “كشف الخفاء” (2/ 373): رواه أحمد عن أنس، وفي الباب عن ابن مسعود رضي الله عنه. وانظر “السلسلة الضعيفة” (5304).
(3) في “الجامع الصغير” (2171) أن عبد الله بن أحمد أورده في “زوائد الزهد” عن الحسن مرسلًا. وانظر “السلسلة الضعيفة” (7067).
(4) في الأصل: “إليه” سبق قلم.
(5) ذهب به التمزق، والقراءة تقديرية.
(22/146)
(42)
[ل 47] الحمد لله الذي هدانا لدينه القويم، وشرَّفنا باتباع صراطِه المستقيم. أحمدُه سبحانه وتعالى حمدَ مؤمنٍ موقنٍ في إيمانه، مخلصٍ في توحيده وإيقانه. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزَّه عن النقص وانفرَدَ بالكمال، ليس كمثله شيء في الذات والصفات والأفعال.
وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه ورسولُه، أرسله بالهدى ودين الحق، فأبلَغَ ما أرسَلَه به على أبلغِ مِنوالٍ مع الأمانة والصدق.
اللهم فصلِّ على هذا النبيِّ الكريم سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسَلِّم.
أما بعد ــ عبادَ الله ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله حقَّ تقاتِه، وجِدُّوا واجتهدوا في طلبِ مرضاته. واعلموا ــ رحمكم الله ــ أنما هذه الدنيا دارُ كسبٍ وعملٍ، فمن أحسَنَ نجا (1)، ومن أساءَ فقد وقع في الزلل. فقصِّروا آمالكم، وكثِّروا أعمالكم، واغتنمُوا أعماركم، وسابِقُوا آجالكم. واجعلوا الموتَ نصب أعينكم، وتوقَّعُوه في جميع أحوالكم. ثم اعملوا له ولِما بعدَه، ولْيبذلْ كلٌّ منكم الاستعدادَ جهدَه؛ فإنَّ كلَّ أحدٍ منكم مستيقنٌ بموته، غيرُ عالمٍ بطول عمره. وكلُّ مؤمن يعلم ما بعد الموت من الجزاء، لأهل الطاعة ولأهل الاعتداء؛ فكلٌّ على أعماله محاسَب، وكلُّ مسيءٍ معذَّب معاقَب.
وقد أوجب الله تعالى عليكم ما أوجَبَ، وحرَّم عليكم ما حرَّم، وندَبَ لكم
(1) رسمها في الأصل: “نجى”.
(22/147)
ما ندَبَ، وكره لكم ما كره، وعرَّفكم الخير من الشرِّ، وميَّزَ لكم النفع من الضرِّ. فمن اتَّبعَ الخيرَ فَلْيَرْجُ رحمةَ ربِّه، ومن لم يجتنب الشرَّ فلَومُه على نفسه.
واعلموا أنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا، فأتِمُّوا أعمالكم، وأكمِلوها، وحَسِّنوها، وأخلِصُوا فيها. وإيَّاكم والشبهات والمكروهاتِ، فإنَّها تجرِّئ على المحرَّمات. وإنَّ طاعةَ الله هي الجنة، وإنَّ معصيته هي النار. وإنَّ قبرَ الإنسان ومنزلَه في الآخرة هو عملُه، فإنْ كان عملُه صالحًا فقبرُه ومنزلُه صالح. وإنْ كان عملُه سيئًا فإنَّ قبرَه ومنزلَه سيئ. فَلْيَخَتَرْ لنفسه، ولينظُرْ بعقله، فيمهِّدْ لمصيره.
الحديث: عن النبي – صلى الله عليه وسلم – : “الطُّهورُ شطرُ الإيمان، والحمدُ لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ــ أو تملأ ــ ما بين السماء والأرض، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصبرُ ضياءٌ، والقرآن حجَّةٌ لك أو عليك. كلُّ الناس يغدو، فبائعٌ نفسَه، فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها” (1).
ألا، وإنَّ أبلغَ المواعظ والهدى كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والله تعالى يقول في كتابه المبين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].
(1) تقدم تخريجه في الخطبة الثلاثين.
(22/148)
(43)
[ل 49] الحمدُ لله المنجزِ وعدَه بنصر من نصَرَه، المؤيِّدِ دينه بتأييد من عضَّدَه وأظهَرَه، وتدمير من بدَّله وغيَّرَه. وأشهد ألَّا إله إلا الله، الذي أثبَتَ من دينه غُرَرَه، وأزال عنه من الغَيِّ والبغي غِيَرَه. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وحبيبُه وخليلُه؛ الذي أنزل عليه آياتِه وسورَه. وأسَّسَ به شريعتَه المطهرة، وأيَّده بأصحابه الكرام البرَرة، وأطفأ به جمراتِ الكفَرة الفجرَة. اللهم فصلِّ وسلِّم على هذا النبيِّ سيِّدنا محمد الذي شرَّفت خُبْرَه وخَبَره، وقلتَ فيه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36].
أما بعدُ، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله، ما بالُنا لا نبرَح في الشهوات راتعين، وإلى المطامع من المطاعم والملابس مُسَارِعين؟ ألم نسمع ترغيبَ الله وترهيبَه؟ ألم تكن الدنيا قليلة، والآخرة قريبة؟ ألم نعرِفْ ما حرَّمَه الله وما أوجَبَه؟ ألم نعلم ما كرهَه وما ندَبه؟ ألم يطرُقْ مسامعَنا وعدُه ووعيده؟ أم لم نؤمِن بما تُبَيِّنُه وتفيدُه؟ كلَّا، والله، إنَّ كلامَ الله لحقٌّ، وإنَّ وعدَه ووعيدَه لَصِدْقٌ، لكنَّ القلوبَ مستلِذَّةٌ سِنةَ الغفلة، مستطيبةٌ لباسَ المهلة. ألا، وإنَّ الإمهال ليس بإهمال، وإنما يُمْلَى لِلعُصاة لِيزدادوا إثمًا، فيستوجبوا حلولَ الأهوال.
ألا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى قد أنعم على الأمَّة بمن يُجَدِّدُ له رَشَادَها، ويُبيِّن لها سَدادَها، ويقيم فيها الحدود، ويدافع عنها أهلَ البغي والجحود. ثم أقامَه الله وأيَّده، وأسَّسَ به دينه وشيَّده، ورفع أعلامَه، وأمضَى أحكامه،
(22/149)
وأكرمَ أولياءه، وأهلك أعداءه. وما زال يهدي العبادَ إلى طاعته، ويُدخلهم في ظلال دعوته. فمِن أوجب الواجب أن نحمدَ الله على هذه النِّعَم، ونشكره على ما دفَعَ من النِّقَم، بعد أن كانت الأرض تشتعل خوفًا وقتلًا، أصبحت تَفيض نِعَمًا وفضلًا. وأشرقت الأرض بنور ربِّها، وبُدِّلت عن جَدْبِها بخِصْبها. فعليكم بشكر الله، فإنه سببُ المزيد؛ وإيَّاكم ومعصيته، فإنَّها موجبةٌ لسلب النَّعم والعقاب الشديد.
الحديث: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال” (1).
يا أهل هذه الدعوى أنَّكم طائفةُ الإسلام وحزبُ الله في جميع الأنام، فاعلموا ما يُراد بكم، واعملوا ما يليق بكم، وافطنوا لما رُشِّحتم له؛ فلا ترعَوا مع الهَمَل. واتَّقوا الله الذي أهَّلَكم لنصر دينه، فأصلحوا العمل.
وإنَّ أبلغ الكلام كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والله سبحانه وتعالى يقول [ل 50/أ]: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ
(1) تقدّم تخريجه في الخطبة (32).
(22/150)
ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 21 – 27].
فطوبى لمن عَرَفَ الحقَّ، فاتَّبعه مُقِرًّا؛ واجتنب هذه الدنيا الدنيَّة وقدَّم للأخرى. {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].
(22/151)
(44)
[ل 50/ب] الحمد لله الحيِّ القيومِ ذي الجلال والإكرام، ذي العزَّة والجبروت والفضلِ والإنعام، الذي بيَّن الهدى من الضلال، والحلال من الحرام. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله العفوَ عن جميع الآثام. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده، لا شريكَ له؛ وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَله. اللهم فصلِّ وسلِّم على رسولك مولانا محمد أفضلَ الصلاة والسلام، وعلى آله البَررَة الكرام، وأصحابه الأئمة الأعلام، والتابعين لهم بإحسان من الأنام.
أما بعد ــ عبادَ الله ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله وأنيبُوا، وأَقْلِعوا عن قبائحكم وتُوبوا، واحفظوا ما قلَّدكم الله تعالى من حرمة الإسلام. فغُضُّوا أبصاركم عن المنهيَّات الذميمة، وسُدُّوا آذانكم وكُفُّوا ألسنتكم عن الغيبة والنميمة، وتحرَّزوا عن الحرام والشبهات في الشراب والطعام. وحافِظُوا على الصلوات المفروضات والمندوبات، وأداء الزكوات وكثرة الصدقات، والملازمة للجهاد والحج والصيام. وَلْيتعلَّمْ كلٌّ منكم من دينه ما يعرف به ما يجب عليه، فإنَّ ذلك أهمُّ الواجبات. وَلْيعلِّمْ أولادَه، فإنَّ العلم بذلك من الضروريَّات. وَلْيتجنَّبْ ويُجنِّبْهم مخالطةَ الطَّغام.
قد علمتَ يا ابن آدم أنَّك ستموتُ فَتُقْبَرُ، وعلمتَ يا مؤمنُ أنَّك بعد الموت ستُحشَرُ، ثم تُحاسَب وتُجزَى إمَّا بالنعيم الأكبر، وإمَّا بالجحيم الأكبر؛ فما لي أراك مقبلًا على هذه الدار، كأنَّها دارُ مقام!
أيها الإنسانُ، ارْعَوِ وأمسِكْ، واحذَرْ من ضَياع يومِك بعد أمسِكَ، وارحَمْ نفسَك فإنَّك لا تُهلِك غيرَ نفسِك، واستيقظْ من منامِك، فلات حينَ منام.
(22/152)
ولا تستهوِكَ الدنيا لِزُورها، وتَستَمِلْكَ بغُرورها؛ فإنَّك إذا فكَّرتَ في تقلُّبها علمتَ أنه لا فرقَ بينها وبين أضغاثِ الأحلام.
الحديث: عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال: “إذا كانت ليلةُ النصف من شعبان فقُوموا ليلها، وصوموا يومَها؛ فإنَّ الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا مِن مستغِفرٍ، فأغفرَ له؟ ألا مسترزقٌ فأرزقَه؟ الا مبتلًى فأعافيَه؟ ألا كذا، ألا كذا، حتى يطلع الفجر” (1).
و عن عمرو بن ميمون الأوْدي قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – لرجلٍ وهو يعظُه: “اغتَنِمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبلَ هرَمك، وصحتَك قبلَ سَقَمِك، وغِناك قبلَ فقرِك، وفراغَك قبلَ شغلِك، وحياتك قبلَ موتِك” (3).
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لا تزول قَدَما ابنِ آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن خمسٍ: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علِمَ” (4).
(1) تقدم تخريجه في الخطبة (36).
(2) أضاف المؤلف الحديث السابق في الحاشية مع الإشارة إلى موضعه بعد كلمة “الحديث”، ثم نسي أن يضيف واو العطف هنا.
(3) تقدم تخريجه في الخطبة (7).
(4) أخرجه الترمذي (2416) وقال: “هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعف في الحديث من قبل حفظه. وفي الباب عن أبي برزة وأبي سعيد”. ثم أخرجه عن أبي برزة (2417) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(22/153)
هذا، وإنَّ أحسنَ الكلام وضعًا، وأتَمَّه للمعارف جمعًا= كلامُ مَن أحسنَ كلَّ شيء صنعًا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
وفَّقني الله وإياكم لسلوكِ سبيله، وهدانا إلى اتباعِ رسولِه، وبلَّغ كلًّا منَّا مِن رضاه غايةَ مأمولِه.
أقول هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفرِوه، إنه هو الغفور الرحيم.
(22/154)
(45)
[ل 51] الحمدُ لله الملكِ العزيزِ القهَّار. بارئِ السماوات وكواكِبها، والأرض وبحارها وأشجارِها والأنهار. خالقِ البشر من طين، والجانِّ من مارجٍ من نار. مُولجِ النهار في الليل والليل في النهار. وما من دابَّةٍ في الأرض إلا وعلى الله رزقُها من دوابِّ الجوِّ والبَرِّ والبحار.
أحمده سبحانه وتعالى على نِعَمِه الشاملة، وأشكره على ألطافه الكاملة، وأسأله الرحمةَ والمغفرةَ، فإنه هو الرحيم الغفار. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسلَه. اللهم فصلِّ وسلِّم على رسولك، سيِّدنا محمد وآله الأطهار وأصحابه الأبرار.
أما بعد، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله حقَّ تقاته، واجتهدوا في طلب مرضاته، وحَذارِ من معصيته حَذارِ!
كيف تعصُونه، وهو من العدَمِ برَأَكم وصوَّركم، وشقَّ لكم الأفواه والأسماعَ والأبصار؟ وجعل لكم قلوبًا تعقِلكم عن المحرَّمات، وعقولًا تحدوكم إلى الطاعات، وعرَّفكم سبيلَ الأخيار من سبيل الأشرار.
ولم يزل يتودَّد إليكم بالنِّعَم، ويخوِّفكم بقوارع النِّقَم، وأنتم راكضون في المعاصي ركضَ الجوادِ في المضمار!
تُمَنِّيكم الدنيا زُورًا، ويعدكم الشيطانُ غرورًا، كأنكم واثقون بامتداد الأعمار! هذا هاذمُ اللذَّات بين أظهركم يغدو ويروح، وله كلَّ حينٍ زَورةٌ
(22/155)
تُفرِّق بين جسد وروح، وما يُدريك ــ ابنَ آدم ــ أيَّ ساعةٍ يُنْشِب فيك الأظفار. فالتوبة التوبةَ قبل هجومِه، والإنابةَ الإنابةَ قبل قدومِه، فإذا نزل انسدَّتْ أبوابُ الأعذار.
وفَّقَني الله وإياكم للمتاب، وكتَبَ لنا الفوزَ بالثواب، والنجاةَ من العذاب، وجعَلَنا من الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
الحديث: روي عنه – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال: “أولُ إصلاحِ هذه الأمة: اليقين والزهد، وأولُ فسادها: البخل والأمل” (1).
وعنه – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه تلا {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] فقال: “إنَّ النور إذا دخل الصدرَ انفسَحَ”. فقيل: يا رسول الله، هل لتلك مِن عَلَم يُعرَف به؟ قال: “نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابةُ إلى دار الخلود، والاستعدادُ للموت قبل نزوله” (2).
هذا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا
(1) أخرجه البيهقي في “شعب الإيمان” (10350) من رواية ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(2) أخرجه الحاكم في “المستدرك” (7863) والبيهقي في “شعب الإيمان” (10068) من حديث ابن مسعود وفي سندهما: عدي بن الفضل. قال الذهبي: “إنه ساقط”.
(22/156)
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} المنافقون: 9 – 11.
(1) في أعلى الصفحة أضاف بالقلم الأزرق آية أخرى ولكن لم يشر إلى مكانها، وهي: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الدخان].
(22/157)
(46)
[ل 52/أ] الحمدُ لله مدبِّرِ الأمور، مدير الدهور بالأيام والشهور، العالم بِما تُخفي الصدور، أحمده حمدًا يُوافي نِعَمه ويكافئ مزيدَه الموفور. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ونبيُّه الذي بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم النُّشور.
أما بعد، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي الخاطئةَ بتقوى الله، فاتقوا الله ــ عبادَ الله ــ كما حثَّكم على طاعتِه، وواظِبوا على عبادته، فإنما خلقكم لعبادته، وباعِدُوا أنفسَكم عن كلِّ محظور.
عبادَ الله، إنَّ ذنوبَنا كثيرة، وخيراتِنا حقيرة، وأعمارَنا قصيرة، وأمامَنا مخاوفُ خطيرة، لا ينجو منها إلَّا كلُّ عبدٍ شكور.
إلى كم نسوِّفُ بالتوبة، والأملُ يَعُوقنا؛ ونواعِدُ أنفسَنا بإصلاح العمل، والأجلُ يسوقنا؛ ولا توبة بعد حلول القبور؟
كأنِّي بك يا ابنَ آدم قد اختطفكَ ما اختطَفَ مَن قبلك، فأبعد عنك مالك و أهلك، فصِرتَ قرينَ عملِك بين التراب والصخور.
فانظُرْ لنفسك قبلَ أن يُطوى كتابُك، وبادِرْ بالمتاب قبلَ أن لا ينفعَك متابُك، وأخلِصْ في أعمالك، فإنَّ خالصَ العمل مبرور.
(1) ساقط سهوًا.
(2) في الأصل كلمة تشبه “حيث”، وكأنه جزء مما كتبه وضرب عليه.
(22/158)
واعلم أنَّك لا تقدِرُ على أن تتَّقي الله حقَّ تقاته، ولا أن تُخلِصَ جميعَ أعمالك لمرضاته، ولكن اجهد نفسَك، فإنَّ الميسورَ لا يسقُط بالمعسور.
وانظُرْ لنفسك ما يُنْجيها يومَ النُّشور، يومَ يُنفخ في الصُّور، يومَ تُبعثَر القبور، يومَ يُجازَى كلُّ كفور، ويُنعَّم أهلُ الأجور، ويتجلَّى الرحيمُ الغفور بالانتقام لأهل البغي والفجور، فيحقُّ لأهل الطاعة السُّرور، ويحقُّ الويلُ والثُّبورُ على أهل الجهل والغرور.
فيا أيها العاصي أبشِرْ بالعذاب، إنْ لم يتداركْك الله برحمته؛ ويا أيها الطائعُ أبشِرْ بفضل الله وجنَّته، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
الحديث: قال عليه أفضل الصلاة والسلام لأصحابه: “أتدرون ما المفلسُ؟ ” قال: المفلسُ فينا مَن لا درهم له ولا متاع. فقال: “إنَّ المفلسَ من أمَّتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسفَكَ دَمَ هذا، وضرَبَ هذا. فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإنْ فنِيتْ حسناتُه قبلَ أن يُقْضَى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم، فطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار” (1).
ألا، وإنَّ أحقَّ الكلامِ بالاستماع، وأجدرَه بالاتباع= كلامُ الله. وهو سبحانه وتعالى يقول: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ
(1) تقدم تخريجه في الخطبة السابعة والثلاثين.
(22/159)
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 13 – 19].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفِرُوه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
(22/160)
(47)
ل 53/أ الحمدُ لله العزيزِ القديرِ المتعال، المتقدِّس عن الأشباه والأشكال، المتنزِّه عن الأنداد والأمثال، المتجلِّي بمظاهر الجلال والجمال والكمال. أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره. وأسأله أن ينشُلَنا من أوحال الأوجال، وينزِع عنَّا أغلالَ الجُهَّال، ويُجَنِّبَنا مواردَ الوباء والوبال.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصَلِّ وسَلِّم على رسولِك سيِّدنا محمدٍ، وعلى آله خيرِ آلٍ، وعلى أصحابه الذين بذلوا في نصره من أنفسهم والأموال، كلَّ رخيصٍ وغالٍ.
أما بعد، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله ومراقبته في جميع الأحوال، وأحذِّركم ونفسي من معصيته فإنَّها سببُ الطرد والنكال. فاتقوا الله الذي بَرَأكم وخَلَقكم، وسخَّر لكم ورَزَقكم، ثم أراكم مجاليَ رضاه لِتبتدرُوها، وبيَّنَ لكم مهاويَ سخطه لِتحذَرُوها. فبيَّن لكم المحجَّةَ بيضاءَ نقيَّة، وأقام عليكم الحجَّةَ بالغةً قويَّةً. وها أنتم في هذه الدنيا ممكَّنون من طاعته. وكأنِّي بكم وقد توفَّاكم، فقَدِمْتم على ما قَدَّمْتم، فهنالك تَزِلُّ القدمُ حيث لا ينفع الندَم.
فرَحِمَ الله امرأً فكَّر في العواقب فآثرَها، ونظر إلى الدنيا نظرَ باحثٍ عن مآلها فغادَرَها، واغتنَمَ سويعاتِه من الدنيا، فجعلها سعيًا في سبيل الأخرى.
(1) في (ل 53/ب) وريقة بعنوان “مبحث ذو بمعنى صاحب”.
(22/161)
فإنَّ أشقَى الناس مَن استعمل نِعَمَ الله في عصيانه، وأنفقَ عمرَه في هواه لِهَوانه، وصرَفَ أوقاتَ كَسْبِه في اكتسابِ العذاب، وأعرَضَ عن أسباب الثواب.
ألا، وهذه أشهرُ الحجِّ المباركة، وأوانُ الرَّحيلِ إليه، وإنَّ الحجَّ ركنٌ من أركان الإسلام أوجبه الله تعالى على كلِّ مستطيع.
والاستطاعةُ اليوم تحصل بنحو العشرين ريالًا، ما عدا نفقة الأهل. نَولُ السفينة قريبُ ثلاثة ريال (1)، وزاده فيها قريبُ ريالين، فهي خمسة ريال ذَهابًا ومثلها إيابًا، وعشرة ريال يصرفها في الحج.
ومن كان عاجزًا فعليه الاستنابة. ومن مات ولم يحُجَّ وجبت الاستنابةُ من تركته. فإنْ لم يترك مالًا فيُستحبُّ لوليِّه الحجُّ، أو الإحجاجُ عنه.
فمن وجد ذلك (2) ثم ثبَّطه الشيطانُ، فهو على شَفا جُرُفٍ هار، فانتبِهُوا يا عبادَ الله، وفَّقَنا الله وإياكم.
الحديث: عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “مَن أراد الحجَّ فليعجل” (3)، وسئل – صلى الله عليه وسلم – : ما يُوجب الحجَّ؟ قال: “الزاد والراحلة” (4). والله سبحانه وتعالى
(1) كذا ورد هنا وفيما بعد على لغة العامة.
(2) يعني الزاد.
(3) أخرجه أبو داود (1732) وابن ماجه (2883) من حديث ابن عباس.
(4) أخرجه الترمذي (813) وابن ماجه (2896) من حديث ابن عمر. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد ضعَّفه الشافعي في “الأم” (بولاق 2/ 99) فيما حكاه عن أهل العلم بالحديث.
(22/162)
يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
هذا، وأستغفر الله العظيم.
(22/163)
(48)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ل 54/أ الحمدُ لله الذي لا معبودَ بحقِّ في الوجود إلَّاه، ولا قادرَ على جميعٍ ما [سواه]، الجبَّارِ الذي خضع لجبروته [الجبابرة العُتاة]، العظيمِ الذي سجدت لتعظيمه الرؤوسُ والجِباهُ، الخالِق الذي أنشأ جميعَ العالَم من العدم وأبداه، الرازقِ الذي رزقَ جميعَ [خلقِه] من المطيعين والعُصاة، وهو الله الذي هو في السماء إله، وفي الأرض إله.
أحمده سبحانه وتعالى حمدًا أبتغي به مغفرتَه ورُحْماه، و [أستجزلُ] به مواهبَه وعَطاه، وأستمطِرُ به وابلَ رأفتِه ورضاه، وأستدفعُ به أليمَ عذابِه وبلواه، وأغسِلُ به قلبي حتى يُزيل سوادَه [وصداه]، وأثبِّتُ به عقلي وقلبي على ما يريده الله ويرضاه.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً يدَّخرها العبد [لِيوم أخراه]، ويحقِّق بها يقينَه بأنه لا إله إلا الله، فاعلم أنه لا إله إلا الله. وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بلَّغ رسالاتِه، وزَجَر عن [معصيته] وأمَرَ بتقواه. صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه الذين والَوا من والاه، وعادَوا من عاداه.
(1) تمزقت هذه الورقة من أطرافها ثم انشطرت إلى نصفين. النصف الأول في هذه اللوحة، والنصف الثاني في اللوحة التالية. وهذه الخطبة هي الخطبة (22) في (ل 25 – 26) باستثناء الخاتمة وفروق أخرى. فيحتمل أن تكون هذه مبيضة، ولكن رجحت أن الخطيب أعادها في بداية العام الجديد وغيَّر خاتمتها. وقد استدركت المواضع المتمزقة من الخطبة (22).
(22/164)
أما بعد ــ أيها الناس ــ فإنِّي آمركم ونفسي بتقوى الله، فقد أفلح من اتَّقاه. وأزجرُكم ونفسي عن عصيانه، فما [أخاب (1) من عصاه] وما أشقاه!
واعلموا ــ وفَّقني الله وإياكم ــ أنَّ الله تعالى عالمٌ بما أظهره العبدُ وما أخفاه، وما أكنَّه وما واراه؛ وأنه هو [العالم الذي] هو بكل شيء عليم خبير، القادرُ الذي هو على كل شيء قدير، الكافي الذي كفاكم جميع الأسوا، الواقي الذي يقيكم [كلَّ ضرر] وبلوى. ومع علمكم بذلك، فأنتم عن طاعته حائدون، وعلى عصيانه مواظبون، وعلى معاداةِ أحبابِه وحُبِّ أعدائه [ملازمون]، فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
تأمرون بالمعاصي وتزجرون عن الطاعة، وتتَّبعون البدعة وتخالفون [الجماعة]. أما أنذَرَكم الله تعالى عذابَه؟ أما حذَّركم عقابَه؟ أما أسمَعَكم الصوت؟ أما كتَبَ عليكم الموت؟ أما خوَّفكم بنار الجحيم؟ أما أفزَعَكم [خوفُ العذاب الأليم]؟ [فما لكم عن] المواعظ نائمين، وفي مهامِه الغفلة [هائمين]؟ فافزعوا إلى الله تعالى بصدق النيَّة، واتركوا [الحميَّة حميةَ الجاهليَّة]، أتغضبون لأنفسكم، ولا تغضبون لخالق السماء والأرض؟ [ل 55/ب] وتخافون من مصائب الدنيا، ولا تخافون من [أهوال الأخرى]؟
[فما لجدودكم] عن الطاعة ناقصة، ولحظوظكم عن (2) الإنابة إلى الله تعالى ناكصة؟ وما لأفكاركم فيما لا علم لكم به خائضة، وفيما لا [يعنيكم رائضة؟ وما] لعقولكم لا تعقِلكم عن المآثم؟ وما لعيونكم لا تكِلُّ من النظر
(1) كذا سبق في الخطبة (22).
(2) في الخطبة (22): “من”.
(22/165)
إلى المحارم؟
فأنيبوا إلى الله تعالى إنابةَ المتقين، [وأخبِتُوا إليه] إخباتَ الصادقين، والْوُوا أعناقكم إلى سماعِ النصائح، واقبِضُوا أعِنَّتكم عن الجري في مهامه القبائح. [فلا يستخفنَّكم] الشيطانُ بدهائه (1) ومكره، ولا تطاوعوا أنفسكم بالغفلة عن طاعةِ الله وذكرِه. فازجروا أنفسَكم، فإنها [بالزجر جديرة]. ودَعُوا المعاصي، فإن مواردَها خطيرة.
واعلموا أن شهركم هذا محرَّمٌ، شهرٌ حرامٌ، يفتتح الله تعالى به شهورَ جميع الأعوام. [فأخبِتُوا فيه] إلى ربِّكم، واستغفِرُوه لذنوبكم، فإنه غفور رحيم.
كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله وسلم عليه [يقول]: “يقول الله عز وجل: يا بني آدم، كلُّكم مذنبٌ إلا مَن عافيتُ، فاستغفِروني أغفِرْ لكم. يا ابنَ آدم، لو بلغَتْ ذنوبُك عنانَ السماء [ثمَّ] استغفرتَني غفرتُ لك. يا ابنَ آدم، لو أنَّك أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابها مغفرةً” (2).
جعلني الله وإياكم ممن عصَمَه الله عن جميع الذنوب والخطايا، وأمَّنَه مخاوفَ الهلَكات والرَّزايا، ووفَّقه لما يحبُّه ويرضاه فأتَمَر بما
(1) رسمها في الأصل: “بدهاهُ”.
(2) تقدم تخريجه في الخطبة (22).
(3) قراءة تقديرية.
(4) قراءة تقديرية.
(22/166)
أمَرَه به، وانتهى عمَّا نهاه.
إنَّ أحسنَ الكلام وأبينَ النظام كلامُ الله الملك العلَّام. وقال عزَّ من قائل عليم: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم.
(22/167)
(49)
ل 55/أ الحمدُ لله الذي أحدثَ العالم من الغيب إلى الوجود، باعثِ الخلق بعد موتهم ودفنهم في اللحود، العظيمِ الجليل الكبير الحيِّ القيُّوم، العزيزِ الذي افترضَ على خلقه ما أمرهم به، العالمِ بما يبدي [ … ] وما يخفى من أُجاجه وعَذْبه، المطَّلِعِ على المُظْهَرِ والمكتوم. العدلِ الذي لا يظلم أحدًا، الدائمِ الباقي الذي لا يفنى، ربُّنا سبحانه وتعالى عن أن يشابهه أو يشاركه أحدٌ من خلقه على الخصوص والعموم. المنزَّهُ عما تتوهمه الأفكار، المتعالي علوًّا كبيرًا عن أن يكيِّفه حسٌّ أو عقلٌ بلا إنكار، خالقُ ما سواه من أرض وسماء، وإنس وجن، وحيوان وجماد وشمس وقمر ونجوم.
وأشهد ألَّا إله إلا الله المتكبِّر المتجبِّر، الكريمُ الرازقُ، البارئُ المصوِّرُ، المبدي المعيد، الخالق الباعث، المقتصُّ من الظالم للمظلوم. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه بالهدى ودين الحق ليظهره على الناس، وبعثَه بالإحذار والإنذار، والتخويف والإيناس، فيا له من نبيٍّ عن عصيان ربِّه معصومٍ! بلَّغ رسالاتِ ربِّه كما أمره بذلك، وأوضح لأمَّتِه وَعْرَ المفاوز والمسالك، فبان لهم ما كان غيرَ معلوم.
صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله الملازمين لكتاب الله تعالى كما قال،
(1) هذه الورقة أيضًا ممزَّقة من وسطها وأطرافها، والنصف الأعلى منها في هذه اللوحة، والنصف الأسفل في اللوحة السابقة (54/ب) ثم حصل فيها اللصق والثني أيضًا. وقراءة ما بين المعقوفات قد تكون تخمينية.
(2) ساقط سهوًا.
(22/168)
المتمسِّكين بأحكامه بلا ريب ولا جدال، الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا، وأوجب على الناس حبَّهم وكرَّر ذلك لهم تكريرا؛ فصارت موادَدَتُهم (1) كالفرض المحتوم.
وعلى أصحابه الذين اتبعوا كتابَ الله وسنَّتَه، وسلكوا منهاجَه الواضح، وانتهَوا عما نهاهم عنه من جميع الفواضح، وتناهوا (2) وتناءَوا عن كلِّ منكر مذموم.
فصلِّ وسلِّم اللهمَّ عليه وعليهم صلاةً وسلامًا دائمَين بدوامك، باقيَين ببقائك من يومنا هذا إلى يوم الوقت المعلوم.
أما بعدُ ــ أيها الناس ــ فإنِّي أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى حقَّ تقاته، وأزجُرُكم عن عصيانِه، ومعاداةِ أحبابه، وموادَدَةِ عصاته، ولا تُطمعُوا أنفسَكم من الدنيا في موجود أو معدوم. وعليكم بخشية الله تعالى وطلبِ رضاه، واتباعِ هديه والرضا بقضاه؛ وإياكم وعصيانَه وعدمَ الرضا بالمقسوم.
ابنَ آدم، ما لي أراك تُنصَح فلا تعبأُ بالنصيحة، ولا تربأُ بنفسك عن قبيحة أو فضيحة، ولا تتنحَّى عن إطاعة اللَّعين المرجوم؟
تفعَلُ السيئة، فتحيلُها على ربِّك، [وعن] نفسك تنفيها، وتُنزِّه نفسَك عنها تنزيهًا، وتُعاتِبُ المولى تعالى على خلقِ وإنظارِ اللَّعين المحروم! فهل أجبرَكَ ربُّكَ على فعلِ معاصيه، وأكرهَك على إتيانها، أم هو المباشرُ لها
(1) كذا بفكِّ الإدغام هنا وفيما بعد.
(2) بقي منه “هو” دون الألف بعدها.
(22/169)
بأعيانها؟ [] ما تظنه من ذلك البناء المهدوم.
فيا ترى ربَّك تعالى إذا أحذَرَ وأنذر، وخوَّفَ وبشَّر، ووعَدَ وأوعَدَ، وقرَّبَ وأبعَدَ، وأنزلَ الكتابَ، وأرسَلَ الرُّسلَ ليُفهِمونا الخطابَ، لماذا يُعذِّب ويُنعِم؟ لماذا يُهين ويُكرم؟ لماذا اتَّصَفَ بالعدل والغفران، والرحمة والعفو والرضوان؟ لماذا وَعَد بالثواب وأوعَدَ بالعقاب؟ لماذا أمَرَ وزَجَر؟ لماذا نَهى ونَهَر؟ فأين أنتم من قوله تعالى في كتابه المصون: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118]. فإياكم وأن تقولوا ذلك، أو يقدَم بكم الشيطانُ على ما هنالك. وليتأدَّبْ كلٌّ منكم، ويعلَمْ أنّه مستحقٌّ للعقاب على معاصيه. وليرجُ عفو الله تعالى ورحمته، وليجتنبْ مناهيه.
وإياكم والتهاون بالصلاة، فإنها أحد أركان الإسلام، بل (2) هي الإسلام. قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].
وقال صلى الله وسلم عليه وآله: “عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاث، عليهن أُسِّسَ الإسلام، مَن ترك واحدة منهن، [فهو بها] كافر حلال الدم: شهادة ألَّا إله إلا الله]، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان” (3).
(1) ظهرت الذال والباء.
(2) تكررت “بل”.
(3) أخرجه أبو يعلى في “مسنده” (2349) عن ابن عباس قال الهيثمي في “المجمع” (140): وإسناده حسن.
(22/170)
وكان صلَّى الله وسلَّم عليه يقول: “بين الرجل وبين الكفر تركُ الصلاة، فمن تركها فقد كفَر” (1).
وكان صلى الله وسلَّم عليه يقول: “خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظَ على الوضوء إلا مؤمن” (2).
فإيَّاكم والتساهل بها، ولاسيَّما [صلاة الجمعة] التي (3) قال تعالى فيها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) [الجمعة: 9].
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: “من ترك ثلاثَ جُمَعٍ تهاونًا طبَعَ الله على قلبه” (5).
(1) أخرج الجزء الأول مسلم (82) عن جابر بن عبد الله. والجزء الثاني أخرجه الإمام أحمد (22937) والترمذي (2621) والنسائي (463) وابن ماجه (1079) من حديث بريدة، ولفظه: “العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر”.
(2) أخرجه ابن ماجه (277) من حديث ثوبان. قال البوصيري في “المصباح” (112): “رجاله ثقات أثبات إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان فإنه لم يسمع منه بلا خلاف”، لكن له طريق أخرى متصلة أخرجها أبو داود الطيالسي في “مسنده” [1089] وأبو يعلى والدارمي في “مسنده” [656] وابن حبان في صحيحه [1037] من طريق حسان بن عطية أن أبا كبشة حدثه أنه سمع ثوبان.
(3) في الأصل: “الذي” سهو.
(4) في الأصل: “إذا دعي … البيع والتجارة”، وهو سهو.
(5) أخرجه أبو داود (1052) والترمذي (500) والنسائي (1369) وابن ماجه (1054) عن أبي الجعد الضمري. وقال الترمذي: “حديث أبي الجعد حديث حسن”.
(22/171)
وكان يقول: “الجمعةُ على من آواه الليلُ إلى أهله” (1).
فهي واجبة على [ … مَن] يصل إليه قريبَ الليل.
وكان يقول: “يومُ الجمعة سيِّد الأيام وأعظمها عند الله عزَّ وجلَّ، وأعظمُ عنده من يوم الفطر ويوم الأضحى” (2).
وإيَّاكم والغيبةَ [وإيذاء المسلمين] والتفتيشَ عن عوراتهم. كان – صلى الله عليه وسلم – يقول: “لا يرى مؤمنٌ من أخيه عورةً، فيستُرها عليه إلا أدخَلَه الله بها الجنة” (3).
وكان يقول: ” البلاء موكَّل بالمنطق فلو أنَّ رجلًا عيَّر رجلًا برِضاعِ كلبةٍ لَرَضَعَها” (5).
وكان يقول: “مَن كشَفَ عورة أخيه المسلم كشَفَ الله عورتَه حتى
(1) أخرجه الترمذي (501) عن أبي هريرة وقال: إسناده ضعيف.
(2) أخرجه أحمد (15548) وابن ماجه (1084) من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر. وانظر “السلسلة الضعيفة” (3726).
(3) أخرجه عبد بن حميد (885) والطبراني في “الأوسط” (1480) و”الصغير” (1118) عن أبي سعيد الخدري. قال الهيثمي في “المجمع” (10476): وإسنادهما ضعيف.
(4) ظهرت الألف واللام من “البلاء” فقط.
(5) أخرجه الخطيب في “تاريخه” (13/ 279) في ترجمة نصر بن باب من حديث ابن مسعود. وذكروه في الموضوعات من أجل نصر بن باب هذا. انظر: “الفوائد المجموعة” للشوكاني بتحقيق المعلمي (682).
(22/172)
يفضحَه بها في بيته” (1).
وكا [ن يقول]: “لا تؤذوا المسلمين، ولا تتَّبِعُوا عوراتهم، ولا تعيِّروهم؛ فإنَّ من تتبَّع عورةَ أخيه المسلم تتبَّعَ اللهُ عورتَه، ومن تتبَّعَ اللهُ عورتَه [يفضَحْه ولو في جوفِ رَحْله] ” (2).
وكان يقول: “اذكروا محاسنَ موتاكم، وكُفُّوا عن مساويهم. وإنَّهم قد أفضَوا إلى ما قَدَّموا” (3).
وأحرِّضكم ــ أيها الناس ــ على أداء الزكو [ات. قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180].
وكان صلَّى الله وسلَّم [عليه يقول]: “إن الله تعالى فرضَ على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسَعُ فقراءَهم، ولن يُجهَد الفقراءُ إذا جاعوا وعَرُوا إلا بما يصنع أغنياؤهم. ألا، و [إنَّ الله يُحاسِبُهم] حسابًا شديدًا، ويعَذِّبُهم عذابًا أليمًا” (4).
(1) أخرجه ابن ماجه (2546) من حديث ابن عباس. وحسَّن المنذري إسناده في “الترغيب والترهيب” (3388).
(2) أخرجه الترمذي (2032) من حديث ابن عمر. وقال: حديث حسن غريب.
(3) قوله: “وإنهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا” من حديث عائشة أخرجه البخاري (1393). وما قبله حديث ابن عمر أخرجه أبو داود (4900) والترمذي (1019) وقال: حديث غريب. سمعت محمدًا يقول: عمران بن أنس المكي منكر الحديث.
(4) أخرجه الطبراني في “الأوسط” (3579) و”الصغير” (453) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال: تفرد بن ثابت بن محمد الزاهد. قال الهيثمي في “المجمع” (4324): قلت: ثابت من رجال الصحيح، وبقية رجاله وثقوا وفيهم كلام.
(22/173)
وكان – صلى الله عليه وسلم – يقول: “ما منَعَ قومٌ الزكاة إلا حُبِسَ عنهم القَطْرُ من السماء. ولولا البهائمُ لم يُمطَروا” (1).
وكان – صلى الله عليه وسلم – يقول: “ما من عبدٍ يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويُخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر؛ إلا فُتِحتْ له أبوابُ الجنة. وقيل له: ادخل [بسلام] ” (2).
إن أحسنَ ما وَعَظَ به الواعظون، وأحكمَ ما اهتدى به المهتدون= كلامُ الله تعالى الذي قال فيه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 – 79]. والله تعالى يقول، وبقوله يهتدي المؤمنون، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ
(1) أخرجه ابن ماجه (4019) عن ابن عمر بإسناد ضعيف. وله إسناد آخر حسن عند الحاكم (4/ 540) والبيهقي في “الشعب” (3042). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
(2) تقدَّم تخريجه في الخطبة الثانية.
(3) اكتفى بكتابة حرف الباء ممدودًا.
(22/174)
هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 – 11].
بارك الله تعالى في [القرآن العظيم]، وهدانا بحَوله وطَوله إلى الصراط المستقيم، ونسأله فقهًا في الدين، وقوةً في اليقين؛ وأن يُعطينا كُتُبنا باليمين، ويجعلنا من أصحاب [اليمين].
[أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم] فاستغفِرُوه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم.
(22/175)
(50)
الخطبة الثالثة لجمادى [الثانية]ل 58 الحمد لله الملك العليِّ الذي بالتواضع له يُرفَع الوضيعُ، القويِّ الذي [ … ]، الغنيِّ الذي لم يكلِّف أحدًا من خلقه فوق ما يستطيع، العظيمِ الذي لا يفوز مَن يعصيه، ولا يخيب [من يطيع]، الكريمِ الذي لا يُخيِّبُ رجاءَ قاصدِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ} [التوبة: 120].
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده، ملكٌ كلُّ [شيء] تحت قدرته. واحدٌ في الذَّات والصِّفات، متفرِّدٌ بعِزَّته. لا تتحَّرك ذرَّةٌ في الكون إلا بعادلِ حُكمه [وبالغِ حكمتِه]. كلُّ مخلوقٍ مطوَّقٌ بأطواق نِعَمِه، مغلولٌ بغُلِّ حُجَّتِه. {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان: 30 – 31].
وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا (2) عبدُه ورسولُه، هدًى للمتقين، وحجةً على من أشرَك. بشيرًا ونذيرًا أبلغَ ما أُرسِل به، فما عليه يُستدرَك. بشرٌ خَتَم الأنبياءَ بعثُه، وهو بدؤهم خلقًا (3)، فما أبرَك! ذي (4) العزِّ الأسمَى (5)، والفخر
(1) الورقة ممزقة من طرفها الأيسر إلى قريب من نصفها، وبعضها مثني، والقراءات بين المعقوفات تقديرية.
(2) في الأصل: “محمد”.
(3) انظر ما سبق في الخطبة (36).
(4) كذا مجرورًا.
(5) رسمها في الأصل: “الأسما”.
(22/176)
الأنمَى والكنه الذي لا يُدرَك، المخصوص بـ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (1) [الشرح: 1 – 4].
اللهم فصلِّ وسلِّم على هذا النبي سيِّدِنا محمدٍ الهادي لمن اتَّبعه، الشاهدِ على من أُصِمَّ عن إرشاده، ولمن استمعَه. وعلى آله الأخيار الناهجِين منهاجَه الذي شرَعَه، وصحابته الأبرار الواصلين ما وصَلَه والقاطعين ما قطَعَه، المنزَّل فيه وفيهم إسخاطًا للمعاندين: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29].
أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الملكِ الجبَّار، والتواضع والخشية للمتكبر القهَّار، والتزامِ طاعةِ مَن إليه المصير، فإمَّا إلى الجنة وإمَّا إلى النار؛ والتمسُّكِ بعُرى الشريعة لتدخلوا في جملة الأبرار، والتجنُّب لمهاوي المزالق الشيطانيَّة قبلَ أن يُطبَع على القلوب أنَّكم في الأشرار، والإقلاعِ عن الذنوب، والإقرارِ بالعيوب، فإنَّ أعظمَها لزومُ الإصرار؛ وبالرجوع عن المهالك والتطهُّر في بحار الاستغفار، وبعدمِ القُنوطِ ــ وإن عظُمت الذنوبُ ــ عن رحمة الملك الغفَّار، والاستحياءِ من الله، فإنه كما يعلم الجهر فهو أعلم بالإسرار {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10].
عبادَ الله، عليكم بطاعته، فإنَّها أمُّ الخيرات؛ والخشيةِ من الله فإن الخشيةَ
(1) بعد “وزرك” كتب في الأصل: “إلى ذكرك” يعني استكمال الآيات.
(22/177)
أساسُ الطاعات، والتعوُّدِ على الصدق فإنَّه من الواجبات، والتجنُّبِ من الغيبة والنميمة فإنهما من أقبح المحرَّمات، والمبادرة بالتوبة قبل حلول الوفاة (1)، والتطهُّرِ من قُذُورات (2) القبائح قبل حصول الفوات، واللِّينِ للمخلوقين فإنَّ الخلق الحسن من أعظم الأعمال الصالحات، والتزوُّدِ من التقوى فإنها أذخَرُ الأقوات، والعمل في كلِّ وقت فإنَّ القلمَ لا يُرفَع في جميع الأوقات. وعليكم بالصلاة فإنها بعد الإيمان أفضلُ العبادات، [ل 59] وإياكم والتكاسُلَ عنها فإنه سالِبُ جميع البركات. وأكثِروا من الحسنات فـ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
أيها الإنسان، إنما أنت في دارٍ قريبةِ الانصرام، هي السبيلُ إلى دار الخلود والمقام. دارٌ محسنُها مسيءٌ، ومُسيئُها محسنٌ، وصاحبُها دائمًا في اهتمام. لا يدوم نعيمُها، ولا يلبث مقيمُها، لأنَّها دارُ المشاحَّة والخِصام. السعيدُ من كان عنها طولَ عمره لازمًا للاعتصام، والشقيُّ المحرومُ من كان لِبَنيها من أجلها ذا تعظيم واحترام. فما أوهَى عُراها وأوهَنَها وأقربَها من الانفصام! وما أضعَفَ أعوادَها وأسرَعَ زوالها بالانقصام! لا يرغَد فيها عيش، ولا تلبث فيها راحةُ منامٍ أو لذَّةُ شرابٍ وطعام. فيا شقاوةَ من اعتنقَ الحرامَ، فَعُوجِلَ بالحِمام! ويا بؤسَى لمن حاربَ ربَّه بالأثام، ونسي قولَه: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47].
(1) هنا رسمها بالتاء المربوطة مع أن قرائنها بالمفتوحة، خلافًا لما سبق في الخطبتين (3، 10).
(2) جمع قُذورة، ولعله من كلام العامة. انظر “تكملة دوزي” (8/ 4).
(22/178)
فبادِرْ أيها الضعيفُ بالأعمال الموجِبة للثواب، وتمسَّكْ من طاعةِ ربِّكَ بأوثقِ الأسباب، قبلَ أن يخطفَك رائدُ المنون من بين أهلِك والأحباب، وينشُلَك من بين أبنائك والأصحاب، فتنزلَ في حفرةٍ ليس لها من باب ولا حجاب، وتلقَى عملَك فتعامَلَ به إمَّا إلى الثَّواب وإمَّا إلى العقاب. وبعد أن تُسألَ عن النعيم وعن الطعام والشَّراب، وتحاسبَ على جميع حركاتك وسَكنَاتِك، فأوَّاه، ما أشدَّ هولَ الحسابَ! فتلقَى من معاتبةِ ربِّكَ ما يسهُل معه هولُ العذاب. كيف لا؟ وأنت بين يدي عالم السِّرِّ وأخفى، شديدِ البطش، ربِّ الأرباب، القائل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11].
بينا أنت هكذا منكبًّا على المعاصي، إذ بغَتَك الأجلُ حاسرًا عن الذِّراع، فبادَرَ نفسَك بالاقتلاع، فأسلَمَك أهلُك إلى حفرةٍ دون الباع، فأُودِعْتَ فيها خيرَ إيداع أو شرَّ إيداع.
فحتَّامَ لا ينحسر عن بصيرتك القِناعُ؟ وإلامَ لا تبرَحُ في الانحطاط؟ وفي أيِّ وقت يكون الارتفاع؟ وأيُّ فضل للدِّراية والمعرفة إذا لم يكن به الانتفاع؟ وإلى أيِّ مُدَّةٍ يمتدُّ [ … ] غرورك وليس لها انقطاع؟ لا تشبَع من الدنيا ولا تقنَع، ولا تزول عنك الأطماع. ونسيت قولَ [ربِّك]: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26].
(22/179)
الحديث: كان عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: “ما رأيت كالنار [نام (1) هاربُها، ولا كالجنة نام طالبُها” (2).
ألا، وإنَّ الآخرة اليومَ محفوفةٌ بالمكاره، وإنَّ الدنيا [محفوفةٌ بالشهوات … ] وقد ذكَّرنا بتقوى الملك (3) العظيم، ورغَّبَنا فيما لديه من النعيم، وحذَّرنا ما أعدَّه للعُصاة من العذاب الأليم، وعلَّمَنا ما نَرْحَضُ به الذنوبَ، وهو الاستغفار لهذا (4) الربّ الحليم.
أقول قولي هذا وأستغفر.
(1) ظهر منها “نا” فقط.
(2) أخرجه الترمذي (2601) عن أبي هريرة وقال: هذا حديث إنما نعرفه من حديث يحيى بن عبيد الله، ويحيى بن عبيد الله ضعيف عند أكثر أهل الحديث.
(3) في الأصل: “لملك”.
(4) كتب أولًا: “من هذا” ثم ضرب على “من” وأدخل اللام على “هذا”.
(22/180)
(51)
الخطبة الرابعة لجمادى الثانية
ل 56/ب الحمدُ لله الملكِ الذي خضَعَ لعظمته الجبابرةُ المتكبِّرون، وأذعَنَ لِطاعته مَن قُضِي لهم أنَّهم المحسنون، وحاد عن منهاجه مَن قُضي عليهم أنهم المعذَّبون. الجوادِ الذي لم يبرَحْ جميعُ خَلقِه في بحارِ نِعَمِه يسبحون. {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ (2) الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 24].
وأشهَدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، أفحَمت المخالفين براهينُه الظاهرة، وأعجَزت المعاندين قدرتُه القاهرة، وأسعَدت الموفَّقين رحمتُه الباهرة، وعمَّت العوالِمَ فضائلُ نعمه الفاخرة {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [القصص: 70].
وأشهَدُ أنَّ سيِّدنا محمدًا (3) عبدُه ورسولُه أرسله بكتابه الكريم، وأنزل عليه تفخيمًا لقدره: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. أبلغَ الرسالةَ كما أمَرَ، وهدى من اتبعه إلى الصراط المستقيم، وأقام الحجَّة على من
(1) الورقة ممزقة عن يمينها، وقد أصابها بلل.
(2) في الأصل: “أن يريكم”.
(3) في الأصل: “محمد”.
(4) ساقط من الأصل.
(22/181)
عاندَه، فحقَّتْ عليهم الكلمةُ أنَّهم من أهل الجحيم. وخاطب الناسَ بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على هذا النَّبيِّ سيِّدنا محمد، الذي طهَّرتَ من قُذُورات (1) الدنيا قلبَه، وأيَّدتَ بالنصر والظفر والتوفيق إلى السبيل حزبَه؛ وعلى آله الذين اختُصُّوا بقُرباه، فنالوا بها أنفعَ قُربَة؛ وعلى صحابته المُرْتَقِينَ لمتابعته أسمى رتبة، المنزَّل فيهم: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8].
أما بعد ــ يا عبادَ الله (2) ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فإنَّ التقوى ثمرةُ الإيمان، والتعرضِ لنفحاته فإنه تعالى لم يزل عميمَ الإحسان، والتجنُّبِ لما نهى عنه قبل أن يُطبَع على قلوبكم بخاتم الخِذلان، وأقيموا الصلاةَ بالمحافظة على الشروط والأركان، وتوخِّي كلِّ عملٍ صالح قبلَ زوالِ الإمكان، والهَربِ من كلِّ عمل سيِّئ فإن السيئاتِ هلاكُ الإنسان؛ فإنَّ ربَّك هو الملكُ القديرُ {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17].
عبادَ الله، اتَّقُوه واسعَوا في مرضاته، ولا تتخلَّفوا عن أحبابه الجائدةِ عليهم سحائبُ كرَمِه بأمطارِ هباته، واتبعوا الحسنات فكلُّ عبدٍ مؤاخَذ
(1) كذا، وقد وردت في الخطبة السابقة أيضًا.
(2) أدخل الفاء على لفظ الجلالة بدلًا من “أوصيكم” سهوًا.
(22/182)
بسيئاته، واغتنِمُوا أعمارَكم فالسعيدُ من صرَفَ [في] طاعة مولاه جميعَ أوقاته، وبادَرَ بالاستعداد لمعاده قبلَ فوَاته، وأخَذَ في التزوُّد ليوم حشرِه قبل وفاته، عالمًا أنَّ الموتَ عمَّا قريبٍ هاذمُ لذَّاتِه، ومبدِّلُ جَمْعِ أحبابه بشَتاته؛ فاغتنَمَ حياتَه باستغراقها في التأهُّب لمماته، واعتبَرَ بشؤونِ الله في خلقه بسواطع آياته، وعَلِمَ أنَّ الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبَعَ، فاعتمَدَ عليه في مشتبهاته؛ وأنَّ الباطلَ زائلٌ بطلوعِ شُموسِ الهدى وتجليتِها دوامسَ ظلُماتِه، {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24].
أيها الإنسان، إنما أنت بشرٌ ضعيفٌ لا تملك مِن أمرك مِن نَقِير. قد بُلِّغْتَ ما أوجَبَه عليك الملكُ القدير، وجاء به رسولُه الطاهر المطهَّر البشير النذير. فانتبِهْ من منامك في الغفلة عن مخالفة الملك الكبير (1)، وتحفَّظْ عن معاندته بالمعاصي: كبيرٍ أو صغيرٍ. ولا تتساهَلْ بشيء منها عظيمٍ أو حقيرٍ. واعلموا أنَّ ما ينالكم من النوائب هو ثمرةُ صنيعكم النكير. {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
هاتان جماديانِ مفارِقتانِ منزلَكم، وهذا رجب قاصدٌ لِرَبْعكم، شهرٌ فضَّلَ الله الأعمالَ فيه عليها في غيره، فاستيقِظُوا (2) من غفلتكم فحسِّنوا عملكم ليكون عند حُلولِ أرماسِكم مؤنسَكم. والله تعالى يقول: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا (3) فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
(1) كذا وردت هذه الجملة.
(2) كتبها في الأصل بالضاد.
(3) في الأصل: “شهر”.
(22/183)
وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
وكان – صلى الله عليه وآله وسلم – يقول: “مَنْ أحبَّ دُنياه أضَرَّ بآخرته، ومَنْ أحبَّ آخرتَه أضَرَّ بدُنياه؛ فآثِرُوا ما يبقَى على ما يفنى” (2).
وكان ابن عمه رضي الله عنه يقول: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصوم رجب (3).
ويشرف (4) عباد الله أنه هو رب [الأرباب] وهو شديد العقاب. فهو جزيلُ الثواب، وأليم العذاب؛ فاتقوه يا أولي الألباب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنه هو الغفور التوَّاب.
(1) ساقط من الأصل سهوًا.
(2) تقدم تخريجه في الخطبة الرابعة.
(3) لم أجده.
(4) كذا في الأصل.
(22/184)
(52)
الخطبة الأولى لرجب
ل 57/ب الحمدُ لله الملكِ الذي أوجَدَ الكونَ من العَدم لِيُظهِرَ قدرتَه، وجعَلَ الخلقَ على ما هم عليه لِيُظْهرَ احتياجهم إليه وغُنْيَتَه، وأرسلَ الرُّسُلَ وأنزَلَ الكتُبَ لِيُقيمَ عليهم حُجَّتَه، وحَتَم لبعضهم النَّار، ولبعضهم الجنَّة؛ لِيوضِّح فضلَه وعزَّتَه. {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28].
وأشهَدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، المنفردُ بالمُلكِ ولا لأحدٍ معه نصيب. عزيزٌ، القريبُ من معرفته بعيد، والبعيدُ في [تقرُّبه (2) قريب]. محيطٌ بجميع العالم، حاضرٌ بعلمه مع كلِّ شيء، لا يغيب. لا يُسأل عما يَفعل في ملكه يُعذِّب أو [يُثيب]. {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13].
وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه للعالمين رحمة، المفضَّلُ على جميع المرسَلين، فكانت أمَّتُه أفضلَ أمَّة. الكاشفُ عن الخلائق بفصل القضاء أظلَمَ غُمَّة، المخصوصُ بـ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ]} [الفتح: 2]، وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ [وَالْحِكْمَةَ]} [الجمعة: 2].
(1) هذه الصفحة الثانية من الورقة الموصوفة في الخطبة السابقة.
(2) في الأصل: “تقرربه”.
(22/185)
اللهمَّ فصَلِّ وسَلِّم على سيِّدنا محمد، الذي شرَّفتَ به الخلقَ وزكَّيتَ أعمالَهم، وبيَّنتَ به الحقَّ وأكملتَ لمتَّبعيه في طاعتك آمالَهم. وعلى آله الأُلى أصلحتَ لأجله أحوالَهم، وأصحابه الذين بذلوا في طاعتك معه نفوسَهم وأموالَهم، وأنزلت فيهم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [سورة محمد: 2].
أما بعد، فيا عبادَ الله، أوصيكم ونفسي الخاطئة بطاعةِ ربِّ الأرباب، والمحافظةِ على عبادته لِتدخلوا في جملة الأحباب، والمواظبة (1) عليها لِتَحقَّقَ لكم كلمةُ الثواب، والتجنُّبِ لمعصيته فإنه كما هو الغفور الرحيم، فإنه شديد العقاب. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40].
ابنَ آدم، إلى متى تُماطِلُ بالتوبة، وتُواعِدُ نفسَك بالتطهُّر من قبائح الأوزار، وتجتهد في الكبائر والصغائر، وتزعم أنك من الأخيار! وتتَّبع شهوتَك وهواك، وتظنُّك ستتنصَّلُ عن قبائحك بكواذب الأعذار. تُؤثِرُ هذه الدارَ على آخرتك، فويلٌ [لاختيارك] لهذا الإيثار. {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39].
هذا غريم آبائك الأولين، هذا مُبيد إخوانك الأقدمين، هذا هاذمُ لذَّاتِ المتنعِّمين، هذا هادمُ بناءات المتمكِّنين، هذا قاطعُ كلِّ وتين، هذا صادعُ كلِّ
(1) رسمها في الأصل بالضاد.
(22/186)
خوَّان (1) وأمين، هذا مُفْني كلِّ رخيص وثمين، هذا مذلِّلُ المتجبِّرين، هذا مُخْضِعُ المتكبِّرين، هذا مُهلكُ كلِّ مُعزٍّ ومَهين. {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 134].
كلَّ يومٍ يصيحُ بك ناعقُه، وتلوحُ لك بوارقُه، وتصيبُ أولياءَك صواعقُه، وتهدِرُ عليك شقاشِقُه، وتتبيَّن عليك حقائقه، وتُرفرِفُ فوقَ رأسِك خوافقُه، وتصيب أعضاءك رواشقُه، ولا نفس إلا تختطفها (2) بواشِقُه. وتتهدَّدك بوائقه، وتُزَلزِلُ أرضَك طوارقُه، وتحلِّلُ أرتاقَها فواتقُه، وتتَّضح للمتبيِّن طرائقُه. فلا ملِكَ إلا وهو إلى (3) الحقِّ سائقُه، ولا مؤمِّلَ إلا هو عن أمله عائقُه، ولا أملَ إلا وهو بانحطاطه سابقُه، ولا جمعَ إلا وهو فارقُه، ولا حجابَ إلا وهو خارقُه، ولا إنسان إلا وهو بعين الفتك رامقُه، وما من ذي عنق إلا وهو بساعد الإهانة معانقُه. وأنتم [تسمعون] ما قلتُ لكم، ولا تشكُّون فيما عليه نبَّهتُكم. ألا، وإنَّ بعد الموت [ … ] والحسابَ والعقابَ وعذاب النَّار، وغضبَ الجبَّار؛ فاتقوا [الله] لعلكم ترحمون.
وهذا رجبٌ قد حَطَّ بكم رِحالَه، وإنَّه لَشهرُ العبادة والفضيلة الكاملة، فوفُّوا فيه الطاعة، ولا تخلو فيه من العبادة ساعة، إن كنتم ممن يؤمن بالساعة، ولا تضيعوا أوقاتكم، فقد خابَ مَن كان عملُه الإضاعة.
(1) في الأصل: “خون”.
(2) غير محررة في الأصل.
(3) رسمها في الأصل: “إلا”.
(4) ظهرت منها التاء فقط.
(22/187)
الحديث: قال عليه أفضل الصلاة والسلام: “ما من بيت إلا وملكُ الموت يقفُ على بابه كلَّ يومٍ، فإذا وجَدَ الإنسانَ قد نفِد أكلُه، وانقطع أجلُه، ألقَى عليه غمَّ الموت، فغشيَتْه كُرُباتُه، وغمرَتْه سَكَراتُه؛ فمن أهل بيته الناشرةُ شَعْرَها، والضاربةُ وجهَها، والباكيةُ لِشَجْوِها، والصارخةُ بويلها. [فيقول ملكُ الموت] عليه السلام: ويلكم، مِمَّ الفزعُ؟ وفيمَ الجزَعُ! والله ما أذهبتُ لواحدٍ منكم رزقًا، ولا قرَّبتُ له أجلًا، ولا أتيتُه حتى أُمِرتُ، [ولا قبضتُ روحَه] حتى استأمرتُ (1). إنَّ لي فيكم عودةً ثم عودةً، حتى لا أُبقيَ منكم أحدًا”. قال: “فوالذي نفسُ محمدٍ بيده، لو يَرون [مكانَه ويسمعون كلامه] لَذَهِلُوا عن ميِّتهم ولَبَكَوا على نفوسهم، فإذا حُمِلَ الميِّتُ على نعشه رفرفَتْ روحُه [فوقَ النعش، وهو يُنادي] بأعلى صوته: يا أهلي ويا ولدي لا تلعبَنَّ بكم الدنيا كما لعبتْ بي، [ولا تغُرَّنَّكم كما غرَّتْني. جمعتُ المال من حِلِّه] ومن غير حِلِّه، ثم خلَّفْتُه لِغيري. فالمَهْنَأةُ له، والتبعةُ عليَّ؛ فاحذَروا مثلَ ما حلَّ بي” (2).
اللهمَّ، إنَّك أطمعتَنا في رضوانك، وحذَّرتَنا من اليأس من رحمتك وغفرانك، فنسألك أن تُلْبِسَنا حُلَلَ مِنَّتِك وحَنانِكَ، وتكتبَ لنا مجاورتَك في
(1) رسمها في الأصل: “استومرت”.
(2) حديث موضوع، وهو آخر الأربعين الودعانية وكلها موضوعة، وهي التي يقال لها في ديار اليمن “السَّيْلَقيَّة” وقد عني بشرحها غير واحد من علماء الزيدية. وضعها زيد بن رفاعة وسرقها منه ابن ودعان فركَّب لها أسانيد. انظر ترجمة ابن ودعان في “لسان الميزان” (7/ 381) و”الفوائد المجموعة” للشوكاني بتحقيق المعلمي (366).
(22/188)
فراديس جِنانك.
عبادَ الله، إن الله سبحانه يقول ــ وقوله الحق المبين ـ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
عبادَ الله، قد ذكرنا أن كنَّا جاهلين، وعلمنا أن التوبة تغسل قلوبَ المذنبين، فأستغفر الله العظيم لي ولكم.
(22/189)
(53)
[ل 62] الحمد لله المحمودِ بنعمته، المعبودِ بقدرته، المشهودِ بوحدانيته، أحمدُه حمدًا يُوافي نِعَمَه، ويُكافئ مزيدَه، ويُدافع نِقَمَه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله. عبادَ الله، إنما خلقكم الله لِتعبُدوه، وإنِّما أقام الحجج لِتُوحِّدوه، وإنما أفاضَ عليكم نِقَمَه لِتَحمدوه. فما بالُنا عن ذلك مُعرِضين إعراضَ الغافلين، ولِلدَّار الآخرة ناسِين نسيانَ الجاهلين؟ فحتَّى متى هذا التغافلُ والتجاهلُ؟ وإلى متى هذا التكاسُل والتساهُل؟ كأنَّنا كنَّا غير مكلَّفين، أو من البقاء على يقين، أو في البعث شاكِّين، أو قد تكفَّل لنا بالسلامة ربُّ العالمين.
ألا، وإنَّ خير الأمل ما لم يكن سببًا للتقصير في العمل، وإنَّ أنفعَ النِّعَم ما لم يكن داعيًا إلى الوقوع في موجبات النِّقم، وإنَّ المحمودَ من هذه الدار ما لم يُلْهِ عن دار القرار. فانتبهوا ــ عبادَ الله ــ من سِنَة الغفلة، ولا تغترُّوا بهذه المهلة. وتزوَّدوا في (1) دنياكم لأخراكم، ومن محياكم لمماتكم. وقد عرفتم ما أوجَبَ الله عليكم فحافظِوا عليه، وما رغَّبكم فيه فلا تقصروا عنه، وما حرَّم عليكم فاجتنِبوه، وما رغَّبكم عنه فلا تتساهلوا فيه.
وفي الحديث عنه – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال: “الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس. فمن اتَّقَى الشُّبُهاتِ فقد استبرأ لدينه
(1) كذا في الأصل.
(22/190)
وعِرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حولَ الحِمَى يُوشِكُ أن يقعَ فيه. ألا، وإنَّ لكلِّ ملِكٍ حِمًى. ألا، وإنَّ حِمَى الله في أرضه محارمُه” (1).
وعنه – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال لرجل وهو يعظه: “اغتنِم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبلَ هَرَمِك، وصحتَك قبل سَقَمِك، وغِناك قبلَ فقرِك، وفراغَك قبلَ شغلِك، وحياتَك قبلَ موتِك” (2).
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: “لا تزول قدَما ابنِ آدم يومَ القيامة حتى يُسألَ عن خمسٍ: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمِلَ فيما علِمَه” (3).
هذا، وإن أبدعَ كلامٍ نظمًا، وأبلغَه حُكْمًا وحِكَمًا= كلامُ من وسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا. والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 – 4].
(1) سبق تخريجه في الخطبة الخامسة.
(2) تقدم تخريجه في الخطبة السابعة.
(3) تقدم تخريجه في الخطبة (44).
(22/191)
(54)
[ل 63/أ] … (1) وهذا شهرُ رمضان واردٌ عليكم، فاستقبِلوه بالطاعة لله تعالى والإحسان فيها. وإنه ضيف نازل، فأكرِموه واحترِموه. وهو عمَّا قريبٍ راحِلٌ، فاغتنِموه، فلعلكم لا تبلغون مثلَه.
قال – صلى الله عليه وسلم -: “بُني الإسلامُ على خمسٍ: شهادة ألَّا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان” (2).
ألا، وإنَّ أعظَم ما تنفَع موعظتُه كلامٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
اللهم حُفَّنا بعنايتِك، واكْفِنا بإعانتك، والطُفْ بنا في قضائك، وصُدَّ عنَّا عوارضَ بلائك (3)، وثبِّتْنا بالقول الثابت يا ذا الجلال والإكرام.
رحم الله من سمِعَ الموعظةَ فانتفَعَ، ونُهيَ عن القبائح فارتدَعَ، وهُدِيَ
(1) الخطبة مخرومة من أولها. ولعل الورقة التي احتوت عليه ضاعت.
(2) أخرجه البخاري (8) ومسلم (16) من حديث ابن عمر.
(3) رسم في الأصل: “قضاك … بلاك”.
(22/192)
إلى المصالح فاتَّبَعَ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم.
(22/193)
(55)
[ل 63/ب] الحمدُ لله تقدَّسَت سبحاتُه، وتعالَتْ عن شبه الخلق ذاتُه وصفاتُه. أحمده سبحانه وتعالى، وأشكره حمدًا تُستزادُ به نِعَمُه، وتُسْتنزَلُ به بركاتُه. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكيف تشاركُه مخلوقاتُه. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه ورسولُه الذي بلغَتْ به حجَّتُه، وظهَرتْ على يديه آياتُه.
اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ على هذا النبي الكريم سيِّدنا محمدٍ وآله وصحبه الذي بلغت بهم رسالاتُه.
أمَّا بعد ــ عبادَ الله ــ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله فاتقوه، وأحذِّركم ونفسي معصيتَه فلا تعصُوه؛ فقد ربِحَ تُقاتُه (1)، وخسِرَ عُصاتُه.
عبادَ الله، ما لنا نسمع الوعيد ولا نرتدع، ويكرَّرُ علينا ذكرُ الموت وما بعده فلا ننتفع؛ وإنَّ أخسرَ الناس من هذه صفاتُه.
ما ذلك إلا لضعفِ اليقين والإيمان، واستحواذِ الهوى والشيطان، ولقد خاطَرَ بنفسه من تغلب إيمانَه شهواتُه.
هذا شهرُ رمضان الذي كنا نسوِّف إليه بالتوبة، ونعدُ عقولنا إليه بالأوبة. وإنَّه لحقيق أن تُغتَنَم ساعاتُه، فيا خسارَ من غلبت فيه حسناتِه سيئاتُه!
الحديث: قال – صلى الله عليه وسلم -: “من لم يدَعْ قولَ الزُّور والعملَ به، فليس لله حاجةٌ
(1) يعني من يتقونه. انظر التعليق على الخطبة (16).
(22/194)
في أن يدَعَ طعامه وشرابه” (1).
ألا، وإنَّ أبلغَ الكلامِ وعظًا و [أحسنَه] معاني (2) ولفظًا= كلامُ من وسِعَ كلَّ شيء رحمةً وعلمًا. والله سبحانه وتعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 41 – 44].
(1) أخرجه البخاري (1903) من حديث أبي هريرة.
(2) ظهر منه “ني”، واختفى الباقي لِلَّصق.
(22/195)
(56)
ل 65 [الحمد لله الذي …. ] لعظمته، وأذعنت القلوبُ لألوهيته، و [] الخلائق لسطوته، وضعفت الشِّداد بقوَّتِه، وسلَّمتِ المخلوقات لبديعِ حكمتِه، و [ … ] الفصحاء لحجته. نحَمده على نِعَمه، على أنَّ حمدَه من نعمته.
ونشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له [ … أن] يشابهَه أو يماثلَه، وجلَّ أن يصوِّره فكرٌ أو يُخَيِّلَه. لا يدركه فكرٌ يسبَح في بحارِ وَهْمِه، ولا تخطرُ على قلبٍ حقيقةُ كنهه [ … ] قدر فهمه، ولا يبلغ أحدٌ منتهى علمِه، وقلَّما يُتفطَّن لحِكَم حُكْمِه. لا يحيط به مكانٌ، ولا يغيِّره زمانٌ، ولا يدركه إنسانُ. [لا] في السَّماء محلُّه، ولا على العرشِ منزِلُه (2)، ولا بمكان مخصوص من هذه الأمكنة محمِلُه (3). لكنه حيث كان قبل [أن يخلق المكان] والزمان. فهو الأول الذي ليس قبله شيء إذ هو الذي خلَقَ القبلَ والبعدَ، فأنَّى يحيطان به! [لم يتخذ صاحبةً ولا] ولد، ولا وزيرًا ولا عضد، ولا وكيلا عليه يعتمِد، ولا يحتاج إلى مدَد ولا عَدَد ولا عُدَد. [ … ] نفاذ مراده لعجزٍ، إذ ما أراده لا يُرَدّ. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4).
(1) الورقة متمزقة من أعلاها وأسفلها وعن يمينها.
(2) كذا قال، وهو مخالف للعقيدة الصحيحة التي قرَّرها المؤلف نفسه فيما بعد.
(3) رسمها في الأصل يشبه: “مجهله”، ولعل الصواب ما أثبت. والمحمل: الهودج.
(4) في الأصل: قل هو الله أحد إلخ.
(22/196)
ونشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه إلى الخَلْق، بكتابٍ أنزله بالحقِّ، ووسَمَه بالصدق، وحلَّاه بالرأفة والرفق، فأبلَغَ الحجَّة، وأوضَحَ المحجَّةَ، وشرَعَ الشَّرْعَ، وبيَّن الأصلَ والفرعَ.
وسكَتَ عما انفرَدَ الله بعلمه أو خصَّه به، فهدى الله به مَن هَدَى، وأضلَّ به من غوى واعتدى. ولم يكن ليهدي من أضلَّه الله، وسبقت عليه إرادتُه، وخَتَمتْ على قلبه قدرتُه، وكُتِبَ في الأزل شقيًّا، وحُتِم عليه أن يكون غويًّا. ولكن ليهديَ من أراد الله أن يهديه، ويُغوي من أراد اللهُ أن يُغويه، ويبلغَ الحجة، ويشرعَ الشريعة، ويُثابَ على ذلك فضلًا من الله تعالى. ولله في كلِّ شيء حِكمة، تُؤيِّد قضاءه وحُكمَه.
اللهم فصلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمد، الذي بالهدى ودين الحقِّ أرسلتَه، وبخِلال الكمال خلقتَه، وبمشاهد الملكوت حقَّقتَه. وعلى آله الأخيار، وصحابته الأبرار، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد، فيا عبادَ الله، ما لي أراكم في بحار الغفلة سابحين، وفي فيافي الجهالة سائحين؟ كلَّما نعَقَ بكم حادي النفوس ازددتم عتوًّا ونفورًا، ولَجَّيْتم (1) في المعاصي عدوانًا وزورًا، متَّكلين على {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا}. صدقتم، هو الغفور الرحيم. أفتدرون أنه هو الذي تولَّى خلقكم، وكفَلَ لكم رزقكم، وأمرَكم بطاعته، وحرَّضَكم على عبادته؟ فسابِقُوا سائقكم إليه، قبل أن يسبق توبتَكم. واستعينوا به على عبادته عساه أن يُثبِّتَكم. وقصِّروا الأمل، فإنَّ الأملَ عدوُّ العمل؛ وبادروا بالطاعة قبلَ قيامِ الساعة. واتقوا الله في نِعَمه،
(1) يعني: لججتم.
(22/197)
تستعملونها في معصيته، وتضنُّون بها عن طاعته، وتوالُون بها أعداءه، وتُعادون بها أولياءه. فإنه تعالى يُمهلكم ولا يُهملكم، ويؤخِّركم ولا يُعاجلكم. وأنتم عمَّا هو أقربُ إليكم منكم غافلون، وإلى أجيَف الجِيَف عند الله ــ وهي الدنيا ــ مبادِرُون، ولِما خُلِقْتُم له ــ وهي العبادة ــ تاركون، ولما علمتم أنَّ فيه هلاككم ملازمون. كأنكم لم تسمعوا للموت داعيًا، ولم تُجيبوا في الأرض ناعيًا، ولم تعلموا الذئبَ لكم راعيًا، ولم يخلق الله منكم واعيًا! ألم تبلغكم الأوامر؟ ألم تنهركم الزواجر؟ ألا تخشون دوران [الدوائر … ] دونكم ما هو إليه صائر.
[ل 66] هذا حادي مطايا النفوس يختطفكم واحدًا فواحدًا، ويقتطفكم راقدًا فراقدًا! قد علمتم أين ذهب العوالم؟ أين ذهب الأنبياء؟ أين ذهب الأتقياء؟ أين ذهب الملوك الأكابر؟ أين ذهب الفراعنة الجبابر؟ هل هم إلا في شبكته وقعوا، وإلى أجداثهم دُفِعوا، وبين الحجر والمدر وُضعِوا، بعد أن صَنَعوا ما صَنَعوا.
فبالله عليكم، هل نعلم أنَّا صائرون إلى ما إليه صاروا، وسائرون مُجِدُّون إلى ما إليه ساروا، وقادمون إلى ما قَدِموا، ونادمون كما ندموا وواجِدون ما وجدوا، وعادمون ما عَدِموا؟
بينا أنت أيها العاصي متقلِّبٌ في فراش غرورك، غافلٌ عن مسيرك ومصيرك، ساحبٌ في معصية الله تعالى أذيالَ أمورك، زاعمٌ أنَّك غيرُ هالك، مُطوِّلٌ حِبالَ آمالِك، طاوٍ بساطَ أعمالِك، ظانٌّ أنه كما صنع الله تعالى في إمهالك سيصنع في إهمالك؛ معجَبٌ بجمالك ومالِك، منخرطٌ في سلك العصيان أكثرُ أقوالك وأفعالك= إذ نزل بك رائدُ المنون، فاختطفَك من بين
(22/198)
الأهل والبنين، فقطَعَ وتينَك، وأفقدك ثمينَك، وأعدمَكَ مأمونَك وأمينَك. فبادرَ أهلُك إلى نزع خاتمك وثيابك، وتغييبك في ترابك، وإيداعِك إلى حسابك، فإمَّا إلى ثوابك وإمَّا إلى عذابك.
وقد بادروا أموالَك فانتهَبوها، وأخذوا ترِكتَك واتَّهَبوها، وقسموها واكتسبوها. فكم من شيءٍ أخذتَه ظلمًا وتركتَه لوارثك حتمًا، فنال فائدته سهمًا، واصطليتَ في حسابه وعقابه همًّا وغمًّا! وربما كان وارثك من أعدائك، ومظلومك من أوليائك (1).
ثم إنَّك بعد أن يودعوك قبرَك قادمٌ على ما قدَّمْتَ، فيجيئُك الملكانِ في الصورة المنكَرة، فيسألانك عن عملك في الدنيا، والتوحيد، وغيره. فإن كنت قدَّمت صالحًا أو رحمك الله وفَّقك الله للجواب؛ وإلَّا خذَلَك هنالك، فتَلقَى من العذاب ما لا تطيق حملَه الجبالُ الراسيات ولم تزل [تعذَّب] حتى تقوم الساعة. فإنْ لم يرحمك الله أُلقيتَ في النار. وقد أُعْلمتَ ما النار، إنَّها ليست كنار الدنيا.
[قال] رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “لو أنَّ دلوًا من جهنَّم وُضِعَ في وسط الأرض لآذى نَتَنُ ريحِه ما بين المشرق والمغرب. [ولو أنَّ شررةً من شرر] جهنم بالمشرق لَوُجِدَ حرُّها بالمغرب. ولو أنَّ أهل النار أصابوا نارَكم هذه لناموا فيها” (2).
(1) رسمها في الأصل: “أعداك … أولياك”.
(2) أخرجه الطبراني في “الأوسط” (3681) من حديث أنس. قال الهيثمي في “المجمع” (18574): “وفيه تمام بن نجيح، وهو ضعيف، وقد وُثق. وبقية رجاله أحسن حالًا من تمام”.
(22/199)
اللهم [يا مَنْ وسعَت كلَّ] شيءٍ رحمتُه، وحكمتْ على كلِّ شيءٍ قدرتُه، نسألُك أن توفِّقَنا للعمل الصالح والمتجر الرابح، وتَقِيَنا [الفضائح والقبائح و] الجوائح.
إنَّ أبدعَ ما ردَّدتْه الألسنة، وأحقَّ كلامٍ بأن لا يبلَى على توالي الأزمنة= كلامُ الحيِّ القيُّوم الذي لا تأخذه سِنة. [أعوذ] بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 38 – 49].
الحديث: كان – صلى الله عليه وسلم – يقول: ” [يقول الله] عز وجل: يا ابنَ آدم ما قمتَ لي بما يجب عليك. تَذَكَّرُ (1) الناسَ لي وتنساني، وتدعوهم إليَّ وتفرُّ منِّي. [خيري إليك نازل، وشرُّك إليَّ صاعد. إن أحبَّ ما تكون إليَّ وأقربَ ما تكون منِّي إذا رضيتَ] بما قسمتُ لك. [وأطِعْني] فيما أمرتُك، ولا تُعْلِمْني [بما يُصلِحك. إنِّي عالمٌ بخَلْقي، أنا أُكرِمُ مَن أكرَمَني، وأُهِينُ مَن هان عليه أمري. ولستُ بناظرٍ في حقِّ عبدي حتى ينظر العبد في حقِّي] ” (2).
(1) كذا ضبط في الأصل.
(2) أخرجه أبو نعيم في “الحلية” (4/ 27) عن بكار بن عبد الله بن وهب قال: قرأت في بعض الكتب. فالحديث من الإسرائيليات، ولم أجده مرفوعًا.
(22/200)
الخطب الثواني
(22/201)
(57)
ل 3/ب الحمد لله الذي شرَّفَنا بالتمسك بدينه، ووفَّقَنا لالتزام شريعته، وهدانا لاتباع (2) رسوله، ويسَّرنا لاعتناق ملَّته، أحمده حمدَ شاكرٍ لنعمائه، مستدفِعٍ لبلائه (3)، معترفٍ بالتقصير، مُقِرٍّ بالخطأ الكثير.
وأشهد ألَّا إله إلا الله إلهًا واحدًا وملكًا متعاليًا، واحدٌ في ذاته وصفاته، مخالفٌ لصفاتِ مخلوقاته. لا يدركه وهم، ولا يبلغه فهم، ولا يعرفه إلا هو، ولا يعلمه إلا هو.
وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبده ورسوله، النبي الأمي، والرسول العربي. أرسَلَه عند خمود الدين، وفساد اليقين، والأرضُ مظلمة، والفتنُ قائمة (5)، فجاهَدَ في الله حقَّ جهاده، حتى بلَّغ رسالته إلى عباده، وهداهم إلى سبيل رشاده، وأطفأ جمرةَ المصرِّين على عناده. اللهم فصلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد نبيِّك الأمين الذي قلتَ فيه وقولك الحق اليقين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1) وردت في (ل 46/ب) خطبة لا تختلف عن هذه إلا في كلمات يسيرة. فاقتصرنا على إثبات هذه وأشرنا إلى الفروق.
(2) في (ل 46/ب): «لسنة».
(3) في الأصل: «لنعماه … لبلاه».
(4) زيادة من (ل 46/ب).
(5) «والأرض … قائمة» لم يرد في (ل 46/ب).
(22/203)
أما بعد، فيا عبادَ الله، إنَّا زرعُ الموت، وبضاعةُ الفوت، لا يطول بقاؤنا (1) وإن طالت آمالنا. ولو طال بقاؤنا لم نفُزْ فيه بطائل، ولا أعددنا غيرَ الباطل. كلَّ يوم تعبَثُ جوارحُنا وقلوبُنا في محارم الله، فقلَّما تمرُّ علينا ساعة إلا ونحن في معصية. ومع ذلك ونحن آمنون من العقاب، متهاونون بالعذاب، زاهدون في الثواب مسوِّفون بالمتاب، كأنَّنا (2) شاكُّون في المآب، أو مكذِّبون بيوم الحساب.
فالتوبةَ، التوبةَ، قبلَ زلَّة القدم، والندم حيث ينقطع نفعُ الندم. قبل مفاجأةِ الموت، وخشوعِ الصوت، وحلولِ الفوت. قبل أن تنقطعَ الأعمال، وتُطوى الصحائف، ويُفتَح بابُ الجزاء؛ فينعَّم المهتدون، ويعذَّب العصاةُ بما كانوا يفعلون.
ألا، وإنَّ الله تعالى قد أمركم بأمر عظيم بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكةِ قُدسِه، وثلَّثَ بكم تشريفًا لكم وتكريمًا، وتعزيزًا لقدر نبيِّه وتعظيمًا؛ فقال ــ ولم يزل متكلمًا عليمًا ــ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم فصلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد الذي حففتَه بأعلى مشاهد العزِّ والجلالة، وهديتَنا به من الضلالة، وعلَّمتَنا به من الجهالة؛ وعلى آله الطاهرين، وصحابته الهُداة الكاملين.
(1) رسمها هنا وفيما بعد: «بقانا».
(2) في (ل 46/ب): «فما كأننا إلَّا».
(22/204)
وارضَ اللهم عن مُؤنِسه في غاره وعريشه، أوَّلِ مؤمنٍ به من رجال أمته، من أكرمتَه بالهداية والتوفيق، خليفةِ نبيِّك على التحقيق: سيِّدِنا أبي بكر الصديق.
وارضَ اللهم عمَّن شدَدتَ به أزرَ الدين، وقمعتَ به طوائفَ الملحدين؛ مَن ثللتَ به عروش الكفار، وفتحتَ به الثغورَ والأمصار (1)، الفاروق بين الخطأ والصواب: أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب.
وارضَ اللهم عن أكرمِ القوم، القائلِ فيه رسولُك: «ما ضرَّ عثمانَ ما فعَلَ بعد اليَوم» (2)، شهيد الدار، المتخلِّقِ بالإيمان والإحسان: أمير المؤمنين أبي عمر عثمان بن عفَّان.
وارضَ اللهم (3) عن صفيِّ النبيِّ وابنِ عمِّه، بابِ مدينة علمِه (4)، أسدِ
(1) «من ثلث … الأمصار» لم يرد في (ل 46/ب).
(2) أخرجه الترمذي (3701) من رواية عبد الرحمن بن سمرة، وقال: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه».
(3) في الأصل: «الله».
(4) يشير إلى حديث: «أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابُها، فمن أراد العلم فليأت الباب». قال الشوكاني: «ذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» [349 – 354] من طُرق عدة، وجزم ببطلان الكل وتابعه الذهبي وغيره. وأخرجه الحاكم في المستدرك [3/ 126] عن ابن عباس مرفوعًا، وقال: صحيح الإسناد. قال الحافظ ابن حجر: والصواب خلافهما معًا، والحديث من قسم الحسن». وصوَّب الشوكاني قول ابن حجر. وعلَّق عليه الشيخ المعلِّمي بقوله: «كنت من قبل أميل إلى اعتقاد قوة هذا الخبر، حتى تدبَّرته … » إلخ. انظر «الفوائد المجموعة» (440 – 444).
(22/205)
الله الوثَّاب، قطبِ الحرب والمحراب، القانتِ الأوَّاب: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، الملقَّب بحَيدَرة (1)، المكنيِّ بأبي تراب.
وارضَ اللهم عن سكَنِه الحَورا، سيدة نساء الدنيا والأخرى، بضعة الرسول: فاطمة الزهراء البتول (2).
وارضَ اللهم عن ولديَها الإمامين الجليلين سِبْطَيْ خير الأنبياء، ريحانتَيه من الدنيا وحبيبَيه في الأحياء: الإمام أبي محمد الحسن، والإمام أبي عبد الله الحسين.
وارضَ اللهم عن الستَّة المتمِّمين للعشرة، وعن أهل بيعة الرضوان والشجرة.
وارضَ اللهم عن بنات نبيِّك المطهَّرات، وأهلِ بيته المكرَّمين (3)، وأزواجِه أمَّهات المؤمنين، وكافَّةِ أصحابه المهتدين (4)، ولاسيما أهل بدر وأحد وعن جميع المحسنين من أتباعهم إلى يوم الدين.
اللهم، وكما وعدتَنا بحفظ دينك وتأييد أعوانه، وتشييد أركانه، وإظهاره على الدين كلِّه؛ فاحفَظْ اللهم، وانصُرْ، وأيِّد إمامَنا وإمامَ المسلمين الذي
(1) «الملقب بحيدرة» لم يرد في (ل 46/ب).
(2) في (ل 46/ب) بعد الحوراء: «فاطمة البتول الزهراء».
(3) في (ل 46/ب) بدلًا منه: «وأسباطه المفضلين».
(4) في (ل 46/ب): «المهديين».
(5) زيادة من (ل 46/ب).
(22/206)
أغَثْتَنا به من بوائق البُغاة الكاشحين (1)، وأنقذتَنا من بين أظفار الظالمين، الإمام الأمجد، الشريف الأسعد: أمير المؤمنين محمد بن علي بن محمد بن أحمد. اللهم كما أغثت الإسلام والمسلمين بظهوره فاحفَظْه بالمعقِّبات من بين يديه ومن خلفه. ووفِّق عبادَك لاتِّباعه، وأرشِدْهم للاقتداء به. وزَلْزِلْ أعداءَه أعداءَ الدين من القوم المفسدين. ووفِّقْه لتأسيس قواعد الإسلام، وإرشاد الأنام. وأصلِحْ قلوبَ أتباعه، وحَسِّن نيَّاتِهم، وأصلِحْ بواطنَهم وظواهِرَهم. واغفِرْ له ولهم ولنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم وارحم عبادَك الضعفاء المساكين، فأسبِلْ عليهم نِعَمك، وادفع عنهم نِقَمك، ووفِّقهم لطاعتك، واسقهم الغيث المغيث الهنيء المريء النافع، وأصلح شؤونهم برحمتك يا رحيم.
عبادَ الله، وإنَّ أبلغَ واعظٍ، وأعظمَ زاجرٍ، وأجلَّ ناصحٍ لمن نوَّر الله تعالى فؤاده، وألهمه سداده= كلامُ الله تعالى، وهو سبحانه يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فاذكروا جلَّ شأنه يذكُرْكم، واستغفروه يغفِرْ لكم، واشكروا نعمَه يزِدْكم، ولَذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما (2) تصنعون.
(1) «من … الكاشحين» لم يرد في (ل 46/ب).
(2) في (ل 3/ب): «بما».
(22/207)
(58)
ل 5/ب الحمد لله الذي هدانا لاتباعِ دينه القويم، وجعَلَنا من أمَّةِ حبيبه الكريم، وأرشَدَنا إلى سراطه المستقيم، وأفاضَ علينا باطنًا وظاهرًا غيوثَ نِعَمه، وفضَّلَنا على كثير من خلقِه بفضلِه وكرَمِه.
وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا الله وحده، لا شريك له. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسله. اللهم فصلِّ على هذا النبي الكريم مولانا محمد رسولك العظيم، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد، فأوصيكم عبادَ الله ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله تعالى في السرِّ والعلانية، وآثِروا الدارَ النفيسةَ الباقية على الدار الخسيسة الفانية، واعلموا أنَّ الله تعالى أمَرَنا بأمر عظيم، كرَّم به خاتمَ رسالتِه، ونَدَبَنا إليه فضلًا منه لننالَ به عظيمَ رحمته. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على هذا الرسول الكريم، ذي الخلق العظيم: مولانا محمدٍ وعلى جميع إخوانه من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين.
وارضَ اللهمَّ عن أهل بيته الأطهار، المصطفَين الأخيار، الذين قال فيهم: «ألا، إنَّ مَثَلَ أهل بيتي فيكم مَثَلُ سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها هَلَك» (2)؛ ولاسيَّما سادتُنا أهَلُ الكِسا مصابيحُ الهدى.
(1) في (ل 5/أ) صورت الخطبة الثانية مكررة.
(2) حديث ضعيف. انظر تخريجه في «السلسلة الضعيفة» للألباني (4503).
(22/208)
وارضَ اللهمَّ عن أصحابه الأبرار، من المهاجرين والأنصار، الذين قال فيهم: «أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم» (1)؛ ولاسيَّما سادتُنا الخلفاء، الأئمةُ الحنفاء.
اللهمَّ وأيِّدْ وانصُرْ مولانا أميرَ المؤمنين إمامَ المسلمين، القائمَ لإعزاز الحق والدِّين، وإحياءِ سنَّةِ سيِّد المرسلين= سيِّدَنا ومولانا الإمام محمد بن علي بن إدريس. اللهم أيِّدْه بنصرك، واقطَعْ رقابَ معانديه بسيف قهرك، وأصلِحْ به البلاد والعباد، ومَكِّنْه من أهل البغي والفساد.
اللهمَّ إننا نستغفرك، إنك كنت غفَّارًا، فأرسِلْ السماءَ علينا مِدْرارًا.
اللهمَّ اغفر لنا ولعبادك المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات. وتغمَّدنا وإياهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فاذكُروه يذكُرْكم، واشكروا نعمَه يزِدْكم، ولَذكرُ الله أكبر، والله أعلَمُ (2) ما تصنعون.
(1) حديث موضوع. انظر المرجع السابق (58).
(2) كذا في الأصل.
(22/209)
(59)
[ل 21] الحمدُ لله الذي رفع دينَه على سائر الأديان، وجعل أمةَ نبيِّه محمدٍ أفضلَ الأمم وأرفعها في المكانة وعلوِّ الشأن. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمدٍ أعلى المخلوقين منزلةً، وأرفعهم مرتبةً؛ وعلى آله المطهَّرين، وأصحابه نجوم الهدى للمهتدين.
أما بعد، فيا عبادَ الله أوصيكم ونفسي (1) بتقوى الله باتباع ما أمَرَ، واجتناب ما عنه نَهَى وزَجَر. واعلموا ــ رحمكم الله ــ أنَّ الدنيا غرَّارة مكَّارة، خدَّاعة فجَّارة (2) لا يدوم نعيمها، ولا يلذُّ عيشُها (3)، ولا يتم خيرُها، ولا يطول رضاها، ولا يبعُد غدرُها. بينا أنت ــ ابنَ آدم ــ في النِّعمة، إذ فاجأتْك النِّقمة، وقلَّما تنالُ فرحًا إلَّا عَقَبْته غَمَّة. فكلُّ مسرَّة تعقُبها مضرَّة، وكلُّ رفاهية تُسرِعُ إليها النِّقم مرَّةً بعد مرَّة. وإنما هي طريقٌ إلى دار البقاء، وسبيلٌ إلى النَّعيم أو الشَّقاء. وإياكم وطاعةَ الدنيا، فإنها الدَّاء العَياء. وإياكم والمعاصي، فإنَّ المعاصي لباسُ (4) الأشقياء. وعليكم بالزهد، فإنَّه شعارُ الأتقياء.
واعلموا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أمرَكم بأمرٍ حكاه عنه وعن ملائكته وحرَّضكم على ذلك اتباعًا لسنَّته، وفضلًا عليكم بتكثير أبوابِ طاعته،
(1) في الأصل: «بنفسي» سبق قلم.
(2) رسم الفاء مهملة وكأنها ميم.
(3) انتشر الحبر على الكلمة، فلم يظهر منها إلا العين والياء.
(4) في الأصل: «لباسي».
(22/210)
وتكريمًا لخاتمِ رسله وسيِّد خليقته. فقال تعالى ــ ولم يزل متكلِّمًا عليمًا ــ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم فصلِّ وسلِّم على سيِّدِنا محمدٍ رسولِك الكامل، وحبيبك السامي، ونبيِّك الأمجد؛ وعلى إخوانه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وارضَ اللهمَّ عن مُؤنسِه في غاره وعريشه، أولِ مؤمنٍ به من رجالِ أمَّته، مَن منحتَه بالهداية والتوفيق، وألقيتَ في قلبه حقيقةَ التَّصديق، خليفةِ نبيِّك على التحقيق: سيِّدِنا أبي بكر الصِّدِّيق.
وارضَ اللهم عن ثانيه في الخلافة، الشديد في دينك، والمحافِظ على طاعةِ أحبَّتِك، الآخذِ من طاعتك أوثقَ الأسباب: أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب.
وارضَ اللهمَّ عن ثالثهم فيها شهيدِ الدار، زوجِ ابنتَي المختار: أميرِ المؤمنين أبي عمر عثمانَ بن عفان.
وارضَ اللهم عن أخي نبيِّك وابن عمِّه، بابِ مدينةِ علمِه (1)، زوج كريمته وأبي ذريته، قطبِ الحرب والمحارب: مولانا أبي الحسن علي بن أبي طالب. وارضَ اللهم عن زوجته سيِّدِة النساء، وخامسة مَنْ ضمَّه الكساء: فاطمةَ البتولِ الزَّهراء. وارضَ اللهم عن ولدَيها الإمامَين الجليلين
(1) يشير إلى حديث: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها». وقد تقدم تخريجه في الخطبة (57).
(22/211)
سيِّدَيْ شباب الجنة، وريحانتَي نبيِّ هذه الأمة: مولانا أبي محمد الحسن، ومولانا أبي عبد الله الحسين.
وارضَ اللهم عن الستة (1) المتمِّمين للعشرة، وأهل بيعة الرضوان والشجرة، وعن عَمَّي نبيِّك: الحمزة والعبَّاس، وأزواجه المطهَّرات من الأدناس، وعن سيِّدنا ترجمانِ القرآن عبد الله بن العباس. وعن جميعِ أتباع النبي وتابعيهم من المحسِنين إلى يوم الدين.
اللهمَّ وأدِمْ لهذا الدين عزَّه ومجدَه وعلوَّه وفخره، بنصرِ وتأييدِ سيِّدِنا أمير المؤمنين وإمامِ المسلمين، الشريف الأسعد والإمام الأمجد: مولانا محمد بن علي بن محمد. اللهم ارفَعْ قدَمَه على رقابِ معانديه، واخذُلْ جميعَ عُصاته ومخالفيه، وانصُرْه عليهم، واقطَعْ أعناقَهم بسيف نقمتك، وأصلِحْ قلوب أتباعه، وحسِّن نياتهم وسدِّدْهم، وحَسِّن أعمالهم، ووفِّقهم للصواب، وأجْزِلْ لهم الثَّواب، واغفر له ولهم ولنا، ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهمَّ يا ذا الجلال والإكرام، أحسِنْ نِيَّاتِنا، وأصلِحْ طوِيَّاتِنا، وتقبَّل أعمالَنا، واجعَلْنا من أفاضل عبادك المتَّبعين لرَشادِك، وحَسِّن أخلاقَنا، ووسِّعْ أرْزاقَنا، والطُفْ بنا في فضائك (2)، وجَنِّبْنا تُرَّهاتِ بلائك (3). واسقِنا
(1) في الأصل: «الأربعة» وهو سهو. انظر ما تقدم في الخطبة (57).
(2) كذا في الأصل بالفاء دون القاف، وقابلها بالترَّهات وهي الطرق الصغيرة المتشعبة من الجادَّة.
(3) رسم في الأصل «فضاك» و «بلاك» بحذف علامة الهمزة.
(22/212)
الغيث المغيثَ النافعَ، وأسبِلْ علينا سِترَك الكنين، وأعِذْنا بحصْنك الحصين، واجعَلْنا من أصحاب اليقين، أتباع نبيِّك الأمين، والحمدُ لله رب العالمين.
عبادَ الله، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروا نِعَمه يزِدْكم، ولَذكُر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(22/213)
(60) (1)
[ل 37] الحمدُ لله المتقدِّسِ عن الأشباه والأشكال، المتعالي عن الأضداد والأنداد والأمثال، المتنزِّه عن الرذائل والنقائض وسيِّئ الخِلال، المتَّصفِ بأوصاف الجلال والجمال والكمال، المخالفِ لجميع الحوادثِ في الذَّات والصِّفات على كلِّ حال. أحمده حمدَ معترفٍ بسوء الفَعال، مستغفرٍ لِذنوبه، مستمنحٍ لغزير النَّوال.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثال. وأشهد أنَّ سيدنا محمد بن عبد الله عبدُه ورسولُه المتحلِّي بأعظم الخِلال، أرسلَه رحمةً للعالمين، فبلَّغَ ما أُرسِل به على أبلغِ مِنوال.
اللهمَّ فصلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على هذا النبي الأوَّاه، الذي خصصتَه بالمكانة وعلوِّ الجاه: سيِّدنا محمدٍ، وعلى آلِه أفضلِ آل، وعلى أصحابه الذين أقمتَ بهم نصرَه، وشددتَ بهم أزرَه، وثللتَ بهم عروشَ الضَّلال.
أما بعد ــ أيها الناس ــ فأوصيكم (2) ونفسي بتقوى الله، فاتَّقُوه في جميع الأقوال والأفعال. وإيَّاكم ومعصيتَه، فإنَّها سببُ الطرد والنَّكال.
واعلموا أنَّ هذه الدنيا دارُ ممرٍّ سريعةُ الزوال، ظاهرٌ غدرُها ومكرُها وخدعُها وخترُها للعلماء والجهَّال.
مَن الذي فازَ بالبقاء، أو أمِنَ تقلُّبَ الدهرِ مِن حالٍ إلى حال؟ أم مَن
(1) قارنها بالخطبة (34).
(2) تكرر بعده: «أيها الناس».
(22/214)
الذي نسيَتْه المنونُ، فبقي سالمًا من نوائب الأيام والليال؟
قد كان مَن قبلكم أطولَ منكم أعمارًا، وأكثر منكم أنصارًا، وأشدَّ تنافسًا في الأبناء والأموال. ذهبوا، فلم يبقَ سوى ذكرهم، وسيُفعلَ بكم كما فُعِل بهم، وأنتم لاهون بطلب الزُّور والمِحال. أولئك هم في بطون الأجداث رِمَمًا وترابًا، قد لَقِيُوا (1) جزاءَ ما قدَّموه ثوابًا أو عقابًا؛ فبعضُهم بالأساور، وبعضُهم بالأغلال. قد انكشف الترابُ عن عظامهم، وداسَها الأحياءُ بأقدامهم، وذهبتْ بها الرياحُ والمياهُ عن يمين وشمال.
فاجعلوا ــ رحمكم الله ــ دنياكم لأخراكم، فذلك سبيلُ النجاة لأقصاكم وأدناكم؛ فإنَّ الأبرار لَفي نعيم، وإنَّ الفجَّار لَفي جحيم، بلا ريبٍ ولا إشكال.
واعلموا أنَّ الله قد أمرَكم بأمرٍ عظيم حكاه عنه وعن ملائكته، وحرَّضكم عليه لِتفُوزوا بفضله ورحمته، ولاسيَّما إنْ واظبتم (2) عليه بلا فتور ولا مَلال. قال تعالى ــ ولم يزل قائلًا ــ تنبيهًا على قدر نبيِّه وتكريمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّكَ محمد أفضل العالَمين، وعلى إخوانه من النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين.
وارضَ اللهمَّ عن صاحبه في غاره وعريشه، أوَّلِ مؤمنٍ من رجال أمَّته، خليفتِه على التحقيق: سيِّدِنا أبي بكر الصدِّيق.
(1) كذا في الأصل هنا وفي الخطبة (34).
(2) رسمها في الأصل بالضاد.
(22/215)
وارضَ اللهمَّ عن نائبِه في الخلافة، ذي الشدَّة في الدين والصلابة، المتمسِّكِ من طاعتِك بأوثقِ الأسباب: أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب.
وارضَ اللهمَّ عن ثالثِ القوم، القائل فيه رسولُك: «ما ضرَّ عثمانَ ما فعل بعدَ اليوم» (1)، المتخلِّقِ بالإيمان والإحسان: أمير المؤمنين أبي عمر عثمان بن عفان.
وارضَ اللهمَّ عن أخي نبيِّك وابن عمِّه، باب مدينة علمه (2)، المصيب في قضائه (3) وحكمه، جمِّ الفضائل والمناقب، المنزَّهِ عن الرذائل والمثالب: مولانا أميرِ المؤمنين علي بن أبي طالب. وارضَ اللهم عن سَكَنِه الحَوراءِ فاطمةَ البتولِ الزَّهراءِ، وعن ولديهما الإمامَين العظيمَين: الإمام أبي محمد الحسن، والإمام أبي عبد الله الحسين.
وارضَ اللهم عن عَمَّي نبيِّك خيرِ النَّاس: سيِّدنا الحمزة، وسيِّدنا العباس. وارضَ اللهم عن السِّتَّة المتممِّين للعشرة، وعن أهل بيعة الرضوان والشجرة، وعن حَبْرِ الأمَّة وترجمانِ القرآن سيِّدنا عبد الله بن العباس، وعن أزواج نبيِّك وأهل بيته، وعن بقية الصحابة، والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
اللهمَّ، وكما وعدتَنا بنصرِ دينك وتأييدِه، وحفظهِ وتشييده؛ فانصُرْ اللهمَّ
(1) تقدم تخريجه في الخطبة (57).
(2) يشير إلى الحديث المشهور، وقد تقدم في الخطبة (57).
(3) رسمها في الأصل: «قضاه».
(22/216)
وأيِّدْ مولانا أميرَ المؤمنين وسيِّد المسلمين، الشريفَ الأسعد، والإمامَ الأمجد، مولانا أميرَ المؤمنين (1) محمد بن علي بن محمد. اللهمَّ انصُرْ أنصارَه، وآخِذْ أعداءه، ومكِّنْه من إصلاحِ عبادك، والهداية إلى سبيل رشادِك، برحمتك يا رحيم. وأعِنْ اللهم أعوانَه، واغفِرْ له ولهم ولنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
أسأل الله لي ولكم التوفيق إلى رضائه، واللُّطفَ في قضائه، والعصمةَ من بلائه (2)، وأن يحشرَنا في زمرةِ خير أنبيائه.
عبادَ الله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فاذكروا الله العظيمَ يذكركم.
(1) كذا تكرر.
(2) رسمها في الأصل: «بلاه» وكذلك «أنبياه» كعادته، ولكن خالفها في رسم «رضآءِه» و «قضآءِه».
(22/217)
(61)
[ل 48] الحمدُ لله المنعِمِ بالخيرات، المُفيضِ لعظيم البركات. أحمدُه على نِعَمٍ لا تُعَدُّ، وأشكرُه على تفضُّلات لا تُحَدُّ. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه؛ فبلَّغ ما أمره به، وأوضَحَ الكتابَ والشرعَ الذي عليه أنزَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على هذا النبي الكريم: سيِّدنا محمدٍ، وعلى آله أهلِ المنزلة والولاية، وعلى أصحابه أهل الإعانة والعناية.
أما بعدُ، فأوصيكم ــ عبادَ الله ــ ونفسي بتقوى الله، فاتَّقُوا الله في السرِّ والعلانية، وآثِروا الدارَ الباقية على الدار الفانية. واعلموا أنَّ الأجلَ قريب، والعملَ يسير، والعمرَ قصير، والناقدَ بصير، والعذابَ شديد، والنعيمَ لذيذ. فاجتهِدُوا في طاعة الله، ودَعُوا عصيانَه، ليمنحكم رضوانَه، ويرزقكم غفرانَه، ويُدخلِكم جِنانَه، ويؤمنَكم نيرانَه.
واتقوا الله في جميع أحوالكم، وراقِبوه في جميع أعمالكم، وأخلِصوا له في جميع أقوالكم وأفعالكم، وتسابقوا بالطاعات هجوم آجالكم، واقطَعوا بذكر الموت حبالَ آمالكم، واغتنِموا بقية أعماركم؛ فإنَّ الدنيا قليل، ومحبَّها عليل، وصاحبهَا ذليل، لا يُشفَى بها غليل، ولا يُنال بها جليل، ولا يدوم بها خليل.
واعلموا أنَّ الله تعالى أمرنا بأمر عظيم حكاه عنه وعن ملائكته، ثم أمَرَنا به تعظيمًا لخاتم رسالته، وتحضيضًا على اتباع سنته، وتكثيرًا لأنواع طاعته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
(22/218)
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلِّمْ على هذا النبيِّ الأمجد: سيِّدنا محمد، وعلى جميع إخوانه من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين. وارضَ اللهم عن أهل بيته الأطهار، وخلفائه الأبرار، وصحابته الأخيار.
اللهم، وكما وعدتَنا بحفظ دينك وتأييد أعوانه وتشييد أركانه، فاحفَظْ وأمْدِدْ وانصُرْ وأيِّدْ مولانا أميرَ المؤمنين، إمامَ المسلمين، الشريفَ الأمجد، الإمامَ الأسعد: محمدَ بن علي بن محمد. اللهم اجعله لحماية دينك حِصْنًا حصينًا، وكِنًّا كنينًا، ومكانًا مكينًا، وعمادًا متينًا.
اللهم انصُرْ جيوشَ المسلمين وعساكرَ الموحِّدين، المجاهدين لإعلاء كلمة الدين. اللهمَّ أفِضْ على المسلمين كرمَك، وأسْبِلْ عليهم نعمَك، وادفَعْ عنهم نِقمَك. اللهم اغفِرْ لنا ولوالدينا ولمشايخنا، واغفِرْ للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
عباد الله، طُوبَى لمن سمع الموعظة، فانتفَع بها. وويلٌ لمن سمعها فأعرضَ عنها. والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
(22/219)
(62)
[ل 64] الحمد لله الذي أهَّلَنا لطاعته، وعلَّمَنا كيفيَّةَ عبادته، وعضَدَنا بإعانته، وأوضَحَ لنا سُبُلَ هدايته. جعَلَنا من أمةِ خير نبيٍّ أرسَلَه، وهدانا بخيرِ كتابٍ أنزَلَه، وجَعَلَ فينا العلماءَ بشريعته، الموفَّقين لاتِّباعِ كتابه وسنَّته.
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، أقامَ علينا الحُجَّة، وبيَّن لنا المحجَّةَ. تنزَّه عن كلِّ نقصٍ، واتَّصفَ بكلِّ كمال. وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، أرسله هاديًا مهديًّا، فبلَّغَ ما أرسَلَه به على أتِّم وجهٍ وأبدعِ مِنوال.
أما بعد ــ عبادَ الله ــ فأوصي نفسي وإياكم بتقواه، والإعراض عما سواه. فاتقوه في جميع أقوالكم وأفعالكم، وأخلِصُوا له في جميع أذكاركم وأعمالكم، وبادِروا بطاعته هجومَ آجالكم، واقطَعوا بذكر الموت حبائلَ آمالكم. فإنَّ الدنيا قليلٌ بقاؤها، سريعٌ فَناؤها، مريرٌ عَذْبُها، وخيمٌ حبُّها. وقد رغَّبَكم الله عنها فأطيعوه، ورغَّبكم في الآخرة فلا تعصوه.
واعلموا أنه تعالى أمَرَنا بأمرٍ حكاه عنه وعن ملائكته، وأرشدَنا إليه تكثيرًا لأنواع طاعته، وتشريفًا لخاتم رسالته. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد نبيِّك الأمي، وعلى جميع إخوته من النبيِّين والصديقين والشهداء والصالحين.
وارض اللهم عن أهل بيته الأطهار، المصطفَين الأخيار، الذين قال
(22/220)
فيهم: «أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّفَ عنها هلك» (1).
وارض اللهم عن أصحابه الأبرار من المهاجرين والأنصار، الذين قال فيهم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (2)، ولاسيَّما سادتنا الخلفاء الأئمة الحنفاء.
اللهم واحفَظْ وانصُرْ مولانا أميرَ المؤمنين إمامَ المسلمين القائمَ لإعزاز الحق والدين: مولانا الإمام محمد بن علي بن إدريس. اللهم ارفَعْ به أعلامَ الدين، وأحْيِ به سنَّةَ سيِّدِ المرسلين. وأمِدَّه اللهمَّ بعواصم تأييدِك ونَصْرِك، واقصِمْ ظهورَ أعدائه بقواصم انتقامك وقهرك يا إلهَ العالمين.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمَها، وخيرَ أعمارنا أواخَرها، وخيرَ أيَّامنا يوم لقائك. واغفر اللهم لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
عبادَ الله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فاذكروا الله يذكركم، واشكروا نِعَمه يزدْكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1) تقدم تخريجه في الخطبة (58).
(2) تقدم في الخطبة (58).
(22/221)
ملحقات المجموع
الجهاد سنام الدين
الوصايا
نصيحة لطالب الحق
(22/223)
الجهاد سنام الدين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[ل 67] الحمدُ لله القادر القاهر، الحكيم العزيز الناصر، غالبِ من غالبَهَ، ومُهلِكِ من حاربه. أشهد أن لا إله إلا هو وحدَه لا شريكَ له، أذلَّ الجبابرة العُتاةَ، والفراعنةَ البُغاة. أحمَدُه على أن جَعَلنا مِن أُمَّةٍ أركانُ حَقِّها مُشَيَّدة، وأنصارُ هَدْيِها مؤيَّدة، وأصلِّي وأسلِّم على نبيّه محمدٍ الهادي إلى سبيل رشاده، والمبلِّغِ رسالتَه إلى عباده، والمجاهدِ فيه حقَّ جهادِه.
وبعد، فإنّ العاجز لمّا شاهد هذا الوقتَ وانتشارَ الجهاد فيه، واستهلالَ دواعيه، مُناسبًا للنصائح المُحرِّضة على القيام به، والباعثةِ على النفور في سبيل الله، وفَقَدْنا مَنْ يقوم بهذا الواجب في هذا القُطْر ممّن بلغ درجاتِ الكمال، ونال من العلم بعضَ مَنَال، فيُبيِّن للناسِ مذاهبَه، ويُوضِّح لهم مندوبَه وواجبه، ووجدتُ شدةَ الاحتياج إليه، وتوقُّفَ التحمُّسِ والتغيُّظِ عليه، وعلمتُ أنّ أداءَ النصائح وإبلاغَ الحُجَج إلى الناس فرضُ كفاية، وكوني ممَّن يُنسَب إلى عائلات الفِقْه يُدخِلني في الواجبِ عليهم ذلك.
فأحببتُ (1) أن أسطِّر فيه نبذةً أستمطِرُ بها نَفَحاتِ الأماثل، وأُحرِّك بها نَخَواتِ الأفاضل، وإن لم يكن لي في هذه الحَلْبة مجال، ولا في هذا المقام مقال، ولا أُنكِرُ تقصيري في هذه المفاوز إذا لُزِزْتُ في قَرَنٍ مع الرِّجَال. وأستعين الله سبحانه وتعالى، وهو حسبي ونعم الوكيلُ.
(1) جواب “لمّا” الواردة في الفقرة السابقة.
(22/225)
اعلمْ أنَّ الجهاد ركنٌ من أركان الإسلام، وهو روحُه التي لا يحيا إذا فارقه، وهو أفضلُ الأعمال بعد الإيمان، وَعَدَ الله مَنْ قام به، وتوعَّد مَنْ تأخَّر عنه، وجعله سبباً لإعزازِ دينه وإكمالِه، وإخزاءِ عدوِّه وإذلالِه، وله في ذلك الحكمةُ الباهرةُ، منها: أنْ يَنْصرَ دينَه ويَخْذُل عدوَّه بلا سبب مُهلِكٍ في الِعيان، لا يتمكَّنون مِنْ دفاعه، كالخسفِ والمسخ والصواعقِ؛ وليفتخرَ المسلمون بغلبتهم ــ مع قلَّتِهم ــ أعداءَهم مع كثرتهم، ويُثِيب عليه (1) المجاهدين، ويُعاقِب القاعدين، ويَبتلي عباده، وهو أعلمُ بهم، إلى غير هذا.
وجعل سبحانه وتعالى طبيعةَ البشر الخوفَ من الأشياء العاديةِ الإهلاكِ والخشيةَ والهرب منها، ثمَّ بناءً عليها فلم يُكلِّفهم عدمَ المدافعة والتحرُّز بنحو الاختفاء والتدرُّع ونحوه، بل كلَّفهم ذلك كاتخاذ السِّلاح ونحوه، مِن قتل أعدائهم بالأسلحة، ومهاجمتِهم بقدر الإمكان، للحِكَم السابقة في الجهاد وغيرها، وفضلاً منه وكرمًا.
فأهلُ دهرِنا هذا مع تكاسُلِهم ونُضُوبِ حميَّتِهم ويقينهم إن قلتَ: اذهبوا إلى الجهاد، قالوا: إنّ الله قادرٌ على إهلاكِ أعدائنا بلا قتالٍ، ولا يكون إلا ما أراد من نفورنا وقتالنا، وغلَبِنا أو غَلَبِ أعدائنا.
فتلك في الحقيقة كلمةُ حقٍّ من حيث معناها، لا من حيثُ ما أُرِيد بها، فإنّهم يُريدون التخلُّصَ بها من اتباع أوامر الله سبحانه ومعاندتَه، وكأنّهم اعترضوا عليه في إيجابه، وادَّعَوا عدمَ الحكمة فيما قضاه، فهلاّ نظروا إلى أوامرِه ونواهيه ووعده ووعيده، وإرسالِ الرُّسل، وتنزيلِ الكتب، والأمرِ
(1) في الأصل: “إليه”، وهو سهو.
(22/226)
بالجهاد وغيره.
وقد كان سيِّدُ البشر – صلى الله عليه وسلم – أعلمَ الخلقِ بربّه، يُقاتل بنفسه، ويلبس السلاحَ مَثْنَى، تقلَّدَ سيفينِ، واعتقلَ رُمحَينِ، ولبس دِرْعَينِ وبيضتَينِ.
مع أنّ ما يقول أهل زماننا ليس منهم على جهة اليقين؛ لأنّهم إذا حضروا الحربَ لا يكونون هنالك، ولا يَبنُون على ذلك، ونسأل الله سبحانه الهدايةَ.
(22/227)
البحث الأوّل: في الجهاد بالنفس
الكتابُ والسنّة مَمْلُوآنِ بالتحريض عليه، والترغيب فيه، وذكرِ ثواب فاعليه، وشروطه مذكورةٌ في كتب الفقه.
فمِنْه فرضُ كفاية، كغزو الكفّار كلَّ سنةٍ إلى بلادهم بعد رعاية أمر الإمام، فإن تركه الإمام فَعَله الناسُ.
ومنه فرضُ عينٍ، مثل ما إذا دخل الكفّار بلدًا من بلادنا التي دخلت تحت أيدينا فواجبٌ على من فيها فرض عينٍ قتالُهم، حتى العَجَزة فعليهم الدَّفعُ بما أمكن، وعلى من حواليها إلى ثلاثة أيام ما لم تحصل الكفاية بدفعهم، فإذا حصلت الكفايةُ بدون الثلاثة الأيام فهو على الباقين فرضُ كفايةٍ، وكذلك هو على مَنْ فوقَ الثلاثة الأيام.
وهو بعد سقوط الفرضيّة سُنّة مؤكدة، بل هو أفضل الطاعات بعد الإيمان، وهو عِزُّ الإسلام وناموسُ المسلمين، وسببُ الترقّي، ولو عددنا فضائلَه لملأنا عِدّة مجلداتٍ، مع أنّ ما أعدّ الله للمجاهدين في الآخرة لا نهايةَ له، ممّا لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشر، وعلى تاركه ما عليه من الإثم، ويُجازى غدًا بما يُجازى به من العذاب.
فأين الإيمانُ؟ أين اليقين؟ أين التصديق بكلام الله تعالى؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله. ما هذا الجهلُ الناشئ عن سوء اليقين؟ والخوف من القتل، الخوف من الشهادة، الخوف من بيع النفس لله تعالى وهي مِلْكُه، تفضَّل علينا بأن يشتري منّا مِلْكه بنعيم الآخرة الدائم، ثم نحن
(22/228)
نمتنع عن بيعها له خوفًا من حُسنِ قبوله لها، وهربًا من الجنّة ونعيمها! نعوذ بالله.
هذا إن كان لهؤلاء القوم يقينٌ حسب اعتذارهم بأنّه لا يكون شيءٌ إلا بقضاء الله وقدره، وأنّ الآجال لا تتقدَّم ولا تتأخَّر عن مقاديرها، فنعوذ بالله من الخذلان.
البحث الثاني: في الجهاد بالمال
الكتاب والسنة أيضًا مملوآنِ بالتحضيض عليه، فما أعظمَ كرمَ الله تعالى، وأوسعَ رحمتَه، وأعمَّ فضلَه، وأجزلَ نعمتَه!
هيَّأ للإنسان سببَ الاكتساب وأعطاه المال وأنعم عليه به، ثم بذلَ له أنه إذا أنفقه في سبيله جازاه عليه أضعافًا مضاعفةً في النعيم الدائم، مع أنه ليس لأحدٍ رزقٌ إلا واستحالَ أن لا يأتيه، فلا يأكل رزقَه غيرُه.
ثمّ الناسُ ملازمون للبُخل، ولا يخلو إمّا أن يكون لسوء يقينٍ ونقصِ إيمانٍ، ظنًّا أنّ الذي في أيديهم هو رزقهم، فإذا أخرجوه صار لغيرهم وحُرِمُوا الرزقَ ونعوذ بالله. وإمّا أن يكون محضَ حماقةٍ ورغبةٍ عن الجنّة ونعيمها، بل عن رضا الله وفي سخطه، وذلك هو الخذلان.
(22/229)
البحث الثالث: في النصائح والتحريض والتشجيع وفضائل ثوابه،
والنهي عن التثبيط وذكر رذائل عقابه
فإعلام الوجوب واجبٌ على العالِم، بأن يُعلِم المجاهدين بوجوب هذا الشيء أو حرمته، وليس له أن يُعلِمَهم بسنيّة الشيء أو كراهته، فكما أنّ الجهاد واجبٌ عليهم، فيجبُ على العالم إعلامُ الجُهَّال بوجوبه، إلا أنّه لا يكون الإعلامُ فرضَ عينٍ إذا أمكن أن يقوم به أحدُ اثنين فصاعدًا. والنصيحة واجبةٌ، قال عليه الصلاة والسلام: “الدينُ النصيحة” (1).
وأمّا التثبيط فعلى أوجهٍ:
منها: تثبيط المنافقين للمؤمنين، وهو كقولهم للمؤمنين: أين تذهبون؟ إنكم ستَلْقَون رجالاً فَجَعَة (2)، وآلاتِ حربٍ مُوجِعَة، وأشياءَ مُزعِجة، وكثرةً مع قلّتكم، وقوةً مع ضعفكم. ولاسيّما إذا كان ذلك غير صحيح.
ومنه حرامٌ، كأن يُعْلِمهم أنّ أعداءهم أقوياء، وهو صادقٌ، ولا يريد بذلك ضعفَ الإسلام، وأمّا إذا أراد تحريضَهم على تكثير العَدَد والعُدَد فهو محمودٌ.
وأمّا أن تقع الوقعة فيجيء أحدٌ فيسأل، فإذا كان الغَلَبُ للمجاهدين بَشَّر القاعدين، مع تحريضهم على إعانة إخوانهم، وإن كان ــ والعياذُ بالله ــ الغَلَبُ لأعدائهم فإن رأى أنّه إن أخبرهم بالحقيقة يتحمَّسون ويبالغون في إعانة
(1) أخرجه مسلم (55) من حديث تميم الداري.
(2) في الأصل: “فعجة”، سبق قلم.
(22/230)
إخوانهم، فعليه إخبارهم، فإن تركه أَثِمَ. وإن رأى أنّ ذلك يُثبِّطهم فليقتصر على التحريض والتحضيض، وحاصلُ مراعاةِ المصلحة بالجهاد لا بالقعود.
هذا ما يُورِده العاجز، قُلَامةُ أظفار الأدباء، وصَدى أصواتِهم، أوردَه كالتعيير لهم، والتغيير لقلوبهم، والتنبيه لأفكارهم.
فيا إخواني! يا عُصبةَ هذا الدّين الحنيف، وأولي نَجْدة هذا الحقّ المنيف! الله الله في دينكم! اللهَ اللهَ في ملّتكم! اللهَ اللهَ في أوطانكم! وا شَوقاه إلى نَخْوة آبائكم وأجدادكم! وا حَرَّ كبداه على حماستهم! التي كانت للإسلام ركنًا مَشِيدًا، ومددًا مَدِيدًا، وقِلاعًا مَنِيعة، وجبالاً رفيعة، أوّاهُ عليهم!
إخواني إلامَ تَكاسَلون؟ إلامَ تُثبِّطون؟ حتَّامَ تقاعدون؟ حتّامَ تَأخَّرون؟ علامَ أنتم نَاضِبو الغَيرةِ والحميّةِ كأنكم راغبون عن الإمامة والحريّة؟
إنّ هذه لإحدى الكُبَر، والله تعالى الموفِّق المعينُ.
(22/231)
خاتمةٌ
نحن معشرَ متفاقهةِ الأمة في هذا اليوم، الذين لو قال قائلٌ بوجوب تنزيه لفظة “الفقه” عنّا ما كان عليه عَتْبٌ ولا لومٌ، نتكلَّف تعاطِيَ بعض الحيل الفقهية، المتوصَّلِ بها إلى سَلْب الأطماع الدنيوية، المتّخذةِ حبائلَ لأخذ أموال الناس بالباطل المبين، وأخْذِ الرُّشا ودَحْضِ الحقّ وإعانة الغيّ والظلم والظَلَمة الجائرين. ترى فريقًا منّا رَمَتْ بهم الجهالةُ في مَهاوِي الضلالة؛ فوقعوا في مَهلكة التثبيط، فيزعمون أنّ هذا الجهاد ليس لوجه الله تعالى، وإنّما هو حَربٌ لطلب التملك والأطماع، فأولى لهؤلاء! أولى لهم! ضَلُّوا وأضلُّوا! ألا ينظرون أنّ البلاد التي يُقاتَل عليها هي التي كانت بالأمس تحت أيدينا، وأكثرُ أهلِها إخوانُنا نسبًا ودينًا، وإنّا إن غفلنا عن حَرْبِ مَن تغلَّب عليها لم يُقصِّروا عن التشبُّثات لدخول ما تحت أيدينا.
فهَبْ هذا الجهاد ليس لوجه الله تعالى، أليس دفاعًا عن أوطاننا وأهلينا ونسائنا وأولادنا ومساجدنا ومعابدنا وقبور فضلائنا؟ وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “من قُتِل دونَ عِقالِ بَعيرٍ فهو شهيد” (1).
فأين عقولُهم يا تُرى؟ أيظنُّون أنّ عدوَّنا ــ والعياذ بالله ــ إذا تمكَّن من دخول بقيّة بلادنا يُبقِينا كما عليه اليوم ما في يده؟
لا والله، بل يَهدِم المساجد، بل يردُّها كنائسَ وبِيَعًا، ويُخرِّب قبور
(1) لم أجده في مصادرنا بهذا اللفظ، وهو مشهور عند الشيعة، وقد ورد في كتاب “وسائل الشيعة” (15/ 120): “من قُتل دون عقالٍ فهو شهيد”. وذكر أن في نسخة: “دون عياله”.
(22/232)
أوليائنا ويستحيي نساءنا، ويسترِقُّ أبناءنا.
فإنَّما إظهارُه الآنَ عدمَ التعرّض فيما انطَوتْ عليه يدُه الخبيثة حيلةٌ يدفع بها غيرةَ المسلمين، ويتَّقي بها ثورتَهم، ويُلِين لهم الكلامَ، ويُسهِّل لهم الأمر، ويُهوِّن عليهم المصائبَ، مكيدةً يبنيها، دفعها الله عنّا بحَوْله وطَوْله.
فعارٌ وألفُ عارٍ، ونارٌ وألفُ نارٍ، وشَنارٌ وألفٌ شَنارٍ: أن يَمكُثَ مسلمٌ تحت حماية كافرٍ، أو يرضَى مسلمٌ لمسلمٍ ذلك، أو يتكاسل عن الدفع قبل الوصول، ولكنّ الجهل غَرورٌ، والجاهل مغرور، وكلُّ أحدٍ غير معذور.
وأقبحُ شيءٍ جاهلٌ متعاقلٌ … وأقبحُ منه عاقلٌ متجاهلُ
تمّت.
عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلمي
(22/233)
الوصايا
(22/235)
(1)
[ل 60/أ] هذا ما يوصي به العبد المسرفُ على نفسه، المضيعُ لخمسه، المنيبُ إلى ربِّه، المستغفرُ لذنبه: عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلِّمي:
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيِّدنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. صلَّى الله وسلَّم عليه، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، والتابعين لهم بإحسان.
وبعد، فأومن بالله كما جاء عن الله وعن رسوله (2)، وكما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأؤمن بملائكة الله كما جاء عن الله وعن رسله وكما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأومن بالقضاء والقدر خيره وشرِّه من الله تعالى كما جاء عن الله وعن رسل الله وكما يحبُّ ربُّنا ويرضى. وحسبي الله وكيلًا، وكفى به شهيدًا، إنه كان لطيفًا خبيرًا.
اللهم إنَّك تعلم عقيدتي، وتعلم سرِّي وعلانيتي؛ فما وافق رضاك ففضلًا منك تقبَّلْه منِّي، وما أخطأتُ فيه أو اشتبه عليَّ ففضلًا منك تجاوَزْه عنِّي. رحمتَك يا أرحم الراحمين. فعلت سوءًا، وظلمتُ نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. سبحانك، وتعاليت عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا.
هذا، وإنه قد ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – الحثُّ على الوصيَّة، وأنا الآن غريب عن وطني وأهلي بمقام مولانا أمير المؤمنين السيِّد الإمام مُحيي علوم الشريعة
(1) سقط سهوًا.
(2) يحتمل قراءة “رسله”.
(22/237)
ومجدِّدها، ومُميت رسوم البدع الشنيعة ومبدِّدها: مولانا الإمام محمد بن علي بن إدريس أيَّده الله بإعانته، وحرسه بوقايته، وعضَده بعنايته، وأمدَّه بكفايته.
ووطني بلد “طُثَن” (1) من مخلاف “رازِح”، من ناحية “عُتْمة”، من قضاء “آنِس” التابع لولاية صنعاء.
ووالدي الفقيه العلامة العماد يحيى بن علي المعلِّمي موجود في الناحية، وهو مقيم بعزلة “العَقِد” التابعة لمخلاف “حمير الوسط” من الناحية المذكورة.
ولي أخ فاضل مقيم بـ “ذَيحان” مركز قضاء “الحُجَرية” التابع للواء “تَعِز”.
وكلُّ إنسانٍ الموتُ مصبِّحُه أو ممسِّيه، فإذا قضى الله (2) عليَّ الموتَ فقد أوصيتُ مولانا الإمام ــ أيَّده الله ــ فيما هو تحت يدي من جود أياديه من كتب ولباس وغيرها، وأسأل منه أن يرسل إلى والدي ليجيء بنفسه أو يجيء أخي أو يجيء رسول معتمد ليقبض ما تركتُه، ويحمله إلى والدي ليوضع كلُّ شيء على ما بينتُه في الورقة التي مع هذا، وتسلَّم لهم الورقة، ويحصر على الرسول ما استلم، ويلتزم بإيصال ذلك؛ ويفعل معه سيِّدُنا من المساعدة ما هو أهله.
[ل 60/ب] أما الكتب كلُّها، فتبقى في بيت والدي لانتفاع أولاده وأسأله
(1) كذا ورد في الأصل بالثاء، وهي لغة، والمشهور بالفاء، والإبدال بينهما معروف.
(2) لفظ الجلالة مكرر في الأصل.
(22/238)
بالله تعالى أن يقفها عنِّي على أولاده الذكور ما تناسلوا، ويجعل النظر للأعلم الأورع منهم. ولا يُمنع الآخرون من المطالعة، ولكن على الناظر أن لا يسلِّم لغيره كتابًا إلَّا وقد أخذ منه ورقة، وشرَطَ أن لا يُخرج الكتب عن القرية التي الناظر فيها، وأن يتعاهدها في الشهر مرتين.
وإذا ــ والعياذ بالله ــ صادف وفاة الوالد رحمه الله فعلى أخي الشقيق محمد بن يحيى ما سألتُه والدي من الوقف عني.
وأما الكسوة فبحسب الميراث. وأسأل والدي وأخي أن يستبرئوا (1) لي كريمتيَّ مما قصَّرتُ فيه من حقِّهما ويرضيانهما عنِّي.
وإذا صادف ووُجد معي شيء من النقود فيصرف منها ما يُبلغ متروكي إلى الوطن. وإذا فضل عن ذلك شيء، أو رأى الإمام صرف شيءٍ من فضله لذلك، فيحسب الميراث الشرعي.
ثم أسأل والدي وأخي الشقيق أن يجمعا ويدوِّنا ما يوجد معي من نظمي أو مذاكرتي. وإذا تيسَّر نشره فذلك خير.
وعلى أمير المؤمنين ــ أيده الله ــ أن يجمع ما يوجد من مدحي لجنابه العالي ويأمر بنسخه وطبعه ونشره، فذلك تمام حقِّي عليه.
(1) كذا هنا بصيغة الجمع ثم “يرضيانهما” مثنى.
(22/239)
(2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[ل 61/ب] هذا ما يوصي به العبد المذنب العاصي الخاطئ المسرف على نفسه: عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن مُحُمَّد (1) بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن حسن المعلمي العتمي، الذي كان يأمر بالمعروف ويجتنبه، وينهى عن المنكر ويرتكبه، مخلًّا بالفرائض، مقِلًّا من المندوبات، معاودًا لكثير من الكبائر الموبقات، مصِرًّا على كثير من الصغائر المكروهات؛ ليس له عمل يرجو نفعه إلا عفوَ ربه سبحانه وتعالى وكونه= ويقول:
أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهًا واحدًا، وربًّا شاهدًا، ومَلِكًا متعاليًا، منزَّهًا عن كل نقص، جامعًا لكلِّ كمال. أشهد أنه فوق ألسنة الواصفين ومدارك المفكرين، لا يعلم شيئًا من شؤونه على الحقيقة إلا هو.
وأشهد أنه أرسل رُسُلًا إلى خلقه لإبلاغ الحجَّة وإيضاح المحجَّة، فبلَّغوا رسالته كما أمر. وكان خاتمهم خيرهم سيِّدنا ومولانا وشفيعنا إلى ربِّنا رسول الله وحبيبه: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الهُداة المهديين.
وبعد، فعقيدتي التي ألقى الله تعالى بها وأقف بها بين يديه مصمِّمًا على أنها الحقُّ الحقيق هي أن الله سبحانه وتعالى مستحقٌّ لكلِّ كمال، منزَّه عن كل نقص في التفصيل والإجمال. أومن بكل ما سمَّى به نفسه أو سمَّاه به
(1) كذا مضبوطًا بضم الحاء، والآتي بفتحها.
(22/240)
نبيُّه، وأقرُّ كلَّ ذلك على ما ورد معتقدًا أنه كذلك بحسب ما أراده. ولا أتصرَّف في شيء من أسمائه المتشابهة لجهلي عن الأسرار، فربما يكون لذلك المقام خواصُّ لا يصح إطلاق ذلك إلا معها.
وأعتقد أنَّ كلمته العليا، وأنَّ حجته البالغة، وأنَّ عباده محجوجون له، مستحقُّون الجزاء على ذنوبهم، وأنه سبحانه لا يظلم أحدًا.
وأعتقد أن كلَّ مسلم اعتقد في الله سبحانه وتعالى عقيدةً أدَّاه إليها اجتهاده، وظنَّ أنها الحق وقصد بها الحقَّ، ولم تكن كفرًا= فهو من رحمة الله قريب، وإن أخطأ. وأقف عمَّا إذا استلزمت كفْرًا، وأنا إلى السلامة أقرب.
وأعتقد أنَّ الملائكة والأنبياء معصومون، ولا أفضِّل؛ وأنَّ أهل البيت والصحابة مُكرَّمون، ولا أقدِّم وأوخِّر.
وأصوِّب عليًّا، وأعتقد أنَّ أهل الجمل أرادوا الخير، فأخطأوا. ولم يكن الحرب عن رضًا من عليٍّ ولا أمِّ المؤمنين ومن معها، وإنما أثارها سفهاءُ الجانبين.
وأخطِّئ أهل صفِّين، وأعتقد أنهم بغوا وطغوا واعتَدَوا، ولا أدري أخَفِيَ عليهم الحق أم تعمَّدوا منابذته؟ فالله حسيبهم.
(22/241)
(3)
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله عليه وسلَّم وبارك على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه.
الحمد لله، أقول وأنا عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي العُتْمي اليماني ــ غفر الله ذنوبه، وستر عيوبَه ــ:
هذه وصيَّتي. وهي أنِّي أشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ كلَّ ما جاء به محمد رسول الله ــ صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله ــ مِن عندِ الله تبارك وتعالى حقٌّ.
وأوصي المسلمين بأن يحقِّقوا معنى شهادة ألَّا إله إلا الله، ويتحقَّقوا به، وأن يتبعوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -.
وأوصي كلَّ مسلم أن يتدبَّر كتابَ الله تعالى، ويتفحَّصَ الأحاديث ثم يتدبَّرها، ويحتاط لدينه ويتبع الحق، سواء أكان مذهبَ إمامه أم مذهب غيره؛ وأن يعَضَّ بالنواجذ على ما كان عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه وأئمة التابعين، ويجتنب البدع كلَّها، ولا يتديَّن إلَّا بما ثبت عنده بكتاب الله تعالى وسنة رسوله أنه من الدين.
ثم أوصي إلى الشيخ (إبراهيم رشيد) أن يحتاط لولدي (عبد الله) (1) ــ أصلحه الله ــ إذا توفَّاني قبل بلوغه، ويجتهد في تربيته تربية صالحة، ويمنعه من الاختلاط بالأطفال السفهاء، وينفق عليه وعلى أمِّه ما لم تتزوَّج، مما
(1) ولد في 6 ربيع الآخر سنة 1351.
(22/242)
يجده من متروكي هنا، ومما لعلَّه الله تعالى من الدائرة. ثم إذا وصل حدَّ القراءة ألزمَه بحفظ القرآن الكريم، ولقَّنَه التوحيدَ الحقَّ، ثم يُربِّيه تربية دينيَّة علميَّة.
ثم أوصيه أن ينظر الكتب العلمية الموجودة …. فمنها كتب لورثة السيد محمد بن علي الإدريسي، هي مشروحة في هذا الدفتر، فتُرسل لهم. وكذلك يُرسل لهم كتاب “تدريب الراوي بشرح تقريب النواوي” خط يد.
(22/243)
(4)
وصيَّة الشيخ لتلميذه محمد بن أحمد المعلِّمي
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللَّهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
أما بعد:
فقد صَحِبني الولد الفاضل محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد المعلمي ــ وفقه الله تعالى ــ عامين كاملين بمكة المكرمة، وحمدت صحبته وأدبه، وحرصه على طلب العلم. وقرأ عليّ كتبًا في العربية: “الآجرُّومية”، فـ”المتممة”، فـ”القَطْر”، وطرفًا من “ألفية ابن مالك”، مع إعراب عدة أجزاء من القرآن، وأكثر “زبد ابن رسلان” و”الرَّحَبية” مشروحة. وسمعني أشرح ما يجب في الاعتقاد والعمل، وأخذ بنصيب من معرفة ذلك، مع صلاحه في نفسه، وإقباله على الخير، وعدم ميله إلى اللهو واللعب، وشدة محبته لي وحرصه على راحتي، وإتعابه نفسه في خدمتي، حتى في حال مرضه. أسأل الله أن يجزيه خيرًا وبرًّا وتوفيقًا وصلاحًا، وأن يصلح شؤونه في دينه ودنياه. ثم تضافرت الدواعي لرجوعه إلى الوطن لزيارة والديه وغير ذلك، والتمس
(22/244)
منّي أن أكتب له وصية نافعة، فرأيت من الحقِّ عليَّ أن أجيبه إلى ذلك، ومن الله تعالى أسأل التوفيق لي وله، وأرتّبها على مطالب:
المطلب الأول
العقيدة في شأن ذات الله عزَّ وجلَّ وصفاته
بعث الله محمدًا – صلى الله عليه وسلم – إلى الخلق، وكان أول مَن دعاه العرب، وكان العرب في جاهليتهم يعترفون بوجود الله عزَّ وجلَّ وربوبيته، وأنه ربُّ كلِّ شيء، وكانوا يصفونه بما تقتضيه الفطرة، وما بقي لديهم من ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من صفات الكمال، ويفترون عليه أشياء.
فجاء القرآن والسنَّة بتقريرهم على الحقّ وردّهم عن الباطل، فكان من الباطل: زعمهم أن الملائكة بنات الله ــ تعالى الله عن قولهم ــ وزعمهم: أنه يجوز أن يُعبد مع الله بعض مملوكاته ليكونوا شفعاء لهم إليه، ويقربوهم إليه زُلْفى، وشكُّهم في أنّ الله يبعث الناس بعد موتهم ولا يكون هذا أبدًا؛ ولهذا قال تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18]، فقرر القرآن في عدة آيات أن الله تعالى تنزَّه عن أن يكون له ولد، وأنه لا يستحق أن يُعبد إلا هو سبحانه، وأن البعث بعد الموت حق. فالاعتقاد هو ما اقتضته الفطرة القاطعة، وصرَّح به القرآن والسنَّة الصحيحة الصريحة.
ولا ريب أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أكمل الخلق في الإيمان وصحّة الاعتقاد، فمن أراد صحة الاعتقاد فليجعل نفسه كواحد منهم، لا يعتدّ إلا بما كان حاصلًا لهم من العقل الفطري، والفهم لكلام الله
(22/245)
عزَّ وجلَّ وكلام رسوله، بِحَسَب (1) اللغة العربية، مع صدق الإجلال لله عزَّ وجلَّ، وأن لا يقفو (2) ما ليس له به علم، والتحرز من الهوى واتباعه. فلا يكن همّ الإنسان إلا أن يكون مؤمنًا ملتزمًا للصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، ومنهم رسوله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه؛ ولا يبالي إذا وافق أنْ يخالف أحدًا من الناس. همُّه أن يوافق اللهَ ورسولَه سواءً أَوافقَ قولَ مَن دونهما أو خالفه.
المطلب الثاني
بقية أركان الإيمان
وهي الإيمان بملائكة الله، وأنهم عباد غيبيوّن مطيعون لربهم عزَّ وجلَّ، لا يسبقونه بالقول ولا يفعلون إلا ما يأمرهم، ولا يشفعون عنده إلا لمن ارتضى بعد إذنه سبحانه لهم. ولا يرغبوا (4) في أن يشفعوا إلا أن يعلموا إذن الله تعالى ورضاه في أن يشفعوا، ولا يفعلون إلا ما يأمرهم ربهم عزَّ وجلَّ.
والإيمان بكتب الله عزَّ وجلَّ التي أنزلها على أنبيائه، والمهيمن عليها القرآن الكريم، وأنه كلام الله عزَّ وجلَّ أنزله على محمد – صلى الله عليه وسلم – .
والإيمان برسل الله عزَّ وجلَّ، وهم أناس من البشر اختارهم الله عزَّ
(1) (ط): “بحب” والظاهر ما أثبت.
(2) (ط): “يقضوا” والظاهر ما أثبت.
(3) زيادة متعينة.
(4) كذا في (ط).
(22/246)
وجلَّ، وأنزل عليهم ملائكته ليبلغوهم كلام ربهم وأمره، حتى يبلغوا عباده. والرسل معصومون في كلِّ ما يبلّغونه عن الله عزَّ وجلَّ، صادقون في ذلك كله، مع طهارتهم في أنفسهم، وصدقهم، ومحبتهم له عزَّ وجلَّ، وطاعتهم له.
وخاتمهم محمد – صلى الله عليه وسلم – بلَّغ رسالة ربه، ونصح لخلقه، ولم يمت حتى بيَّن للناس دينهم. ولا يؤمن أحدٌ حتى يحبه – صلى الله عليه وسلم – أشدّ من محبته للأب والابن والنفس وغير ذلك.
وقد خصَّه الله عزَّ وجلَّ بالمقام المحمود، والشفاعة العظمى لأهل المحشر؛ ليخلصوا من ضيق المحشر، ويشرع في فصل القضاء.
وأسعد الناس بشفاعته – صلى الله عليه وسلم – مَن قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه، يصدِّق قلبَه لسانُه، وعملُه لسانَه. وعلامة محبتك له – صلى الله عليه وسلم – : شدّة حرصك على طاعته فيما بلَّغه عن ربه عزَّ وجلَّ.
والإيمان بقَدَر الله عزَّ وجلَّ، فقد قدَّر سبحانه كل ما هو كائن، ثم بيَّن لعباده ما يقرِّبهم إليه، وما يبعدهم عنه؛ لما أرشدهم بعقولهم إلى ما ينفعهم في دنياهم، وما يفرحهم فيها، ثم جعل لهم من التمكين والاستطاعة ما جعل. فالإنسان متمكِّن مستطيع أن يؤمن وأن يكفر، وأن يطيع وأن يعصي، وأن يسعى فيما ينفعه، أو فيما يضره، أو يدع السعي. فمن اختار الخير فهو السعيد الموفَّق، ومَن اختار الشرّ فهو الشقي الموبَق. وقد قدَّر الله هذا وهذا، وله الحجّة البالغة على هذا وهذا.
(22/247)
المطلب الثالث
شهادة أن لا إله إلا الله
ومعناها: أنه لا حقيق بأن يُعبد إلا الله عزَّ وجلَّ.
والعبادة هي الخضوع والتذلل طلبًا لنفع غيبي. تسمي العرب الطلب إذا كان الطالب أعلى من المطلوب منه: أمرًا، فإن كان مثله سمّته التماسًا، فإن كان أعلى منه سمته: سؤالًا، فإن كان طلب النفع غيبي (1) سمته: دعاءً. فالملك إذا طلب من خادمه شيئًا قيل: أمره بكذا وكذا، والتلميذ إذا طلب من زميل له شيئًا قيل: التمس منه كذا، والرَّعوي إذا طلب من الملك شيئًا قيل: سأله (2) كذا. تقول: سألتُ الملك أن ينصفني من خصمي، ولا يقال: دعوت الملك أن ينصفني من خصمي. نعم، يقال: دعوت فلانًا، بمعنى: ناديته، وهذا معنى آخر، إنما الخاص بالنفع الغيبي هو الدعاء بمعنى السؤال الذي هو طلب النفع. فالدعاء بمعنى سؤال النفع الغيبي هو روح العبادة، وبقية العبادات متضمنة له؛ لأنها كلها يُطْلَب بها النفع الغيبي. فمن دعا الله عزَّ وجلَّ، أي: سأل منه أن يرحمه، أو يشفيه، أو يغنيه، أو غير ذلك، فقد عبده. ومَن دعا غير الله عزَّ وجلَّ، أي: سأل منه نفعًا غيبيًّا فقد عبد غير الله عزَّ وجلَّ.
فأما الخضوع والتذلل طلبًا للنفع الغيبي، فإن الله إذا أمر بالتذلّل لغيره،
(1) كذا في (ط). ولعل الصواب: “فإن كان طلبًا لنفعٍ غيبيٍّ”.
(2) (ط): “اسأله” خطأ.
(3) المعكوفان وما بينهما من (ط).
(22/248)
فامتثلنا ذلك كنّا عابدين لله عزَّوجلَّ، لا لمن وقع في الخضوع في الصورة له، فمن تذلل لوالديه إلى الحدّ الذي أذن الله به، وقصد بذلك امتثال أمر الله عزَّوجلَّ فهو عابد لله، لا للوالدين.
فوصيتي لمحمد ولكلّ مسلم أن لا يدعو إلا الله، ولا يفعل فعلًا فيه خضوع يطلب به النفع الغيبي إلا إذا علم أن الله عزَّ وجلَّ أمر به، وأذن فيه. فمن تحقق هذا الأمر والتزمه فلم يدعُ إلا الله عزَّ وجلَّ، ولم يقصد بفعل ما فيه خضوع يطلب به النفع الغيبي إلا ما علم أن الله تعالى أمر به أو أذن فيه فقد برئ من الشرك. ومَن لم يتحقق هذا المعنى، وشكّ فيه، فعليه أن يحتاط. ومَن اطلع على هذا أو شكّ فيه، ثم لم يحتط، فحاصل ذلك أنه أقدم على ما يمكن عنده أن يكون كفرًا وشركًا.
والمهم أن تلتزم سبيل النجاة، وتدعو إليه، وأن تحسن ظنك بالناس، فما دام محتملًا عندك في شخص أنَّ له عذرًا مقبولًا عند الله عزَّ وجلَّ، فاحمله على السلامة، وكِلْ أمرَه إلى الله عزَّ وجلَّ.
المطلب الرابع
شهادة أن محمدًا رسول الله
ومِنْ لازمِ ذلك تصديقُه في كلِّ ما أخبر به عن ربه عزَّ وجلَّ، واستيقان أن ذلك حقّ محض لا ريب فيه. ويتبع ذلك المحبة، والطاعة، والاتباع.
(22/249)
المطلب الخامس
بقية أركان الإسلام
وهي أداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام رمضان. وهذه الأشياء تشتمل على أحكام:
منها: ما أجمعت عليها الأمة.
ومنها: ما اختلفت فيه.
فالمُجْمع عليه لابدّ من العمل به على كلّ حال، وأما المختلف فيه فالواجب ردّه إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى رسوله، وذلك بالرد إلى الكتاب والسنَّة. فمن عرف من الكتاب أو السنَّة أن قولًا من الأقوال المختلفة (2) فيها أرجح من غيره، فقد لزمه الأخذ به. فإن تركه إيثارًا لقول شيخه أو إمامه، صدق عليه أنه اتخذ غير الله ربًّا مع الله، أي: مُطاعًا في شرع الدين.
ومَن لم يعرف من كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنَّة رسوله أيَّ القولين أو الأقوال أرجح، وكان أهلًا للنظر والبحث والفهم المعتدّ به، وتيسّر له ذلك؛ فلينظر وليبحث.
ومن لم يكن كذلك، ووجد عالمًا يثق بعلمه ودينه، وتحرِّيه الحقّ، وغلبت الإصابة في فهمه، وشدّة ورعه، واحتراسه في الهوى؛ بحيث يغلب على ظنك إذا قال هذا العالم في قول= أنه راجح، فاسأل هذا العالم، واعمل
(1) زيادة لازمة.
(2) كذا في (ط) ولعلها: “المختلَف”.
(22/250)
بما يُفْتيك (1) به، وإلا فعليك بالاحتياط. اللَّهمَّ إلا أن يشق عليك في شيء من الأشياء أن تحتاط مشقّةً يصعب عليك احتمالها، فأرجو أن يسعك الأخذُ بالرّخصة إن شاء الله تعالى.
أما العاميّ الذي لم يعرف في مسألة إلا قولًا واحدًا؛ فإنه يلزمه العمل به، ويسعه ذلك.
المطلب السادس
في الأعمال التي يتطوّع بها
قد دخل في هذا الباب خلل كثير، فالواجب الاقتصار على ما يتحقق أنه ثابت شرعًا، من صلاة، أو صيام، أو غيرها.
فقد جاء الشرع بالصلوات الخمس وغيرها مما هو ثابت بالسنن الصحيحة، ثم أَذِنَ الشارعُ بالصلاة في غير أوقات النهي على أنها نَفْل مطلق. فعلى المسلم أن يصلي الصلوات الثابتة شرعًا، ويدع الصلاة في أوقات النهي.
ثم يعلم فيما عدا ذلك أن الصلاة مشروعة شرعًا مطلقًا، لا مزية لبعضه على بعض، ولا يلتفت إلى مزية لم تثبت شرعًا. وهكذا سائر (2) الصيام وسائر العبادات.
(1) (ط): “ينفعك” والصواب ما أثبت.
(2) كذا في (ط).
(22/251)
وقد تشاغل الناسُ بأحزاب وأوراد وأذكار زعم بعض الناس أن لها مزية، ولم يثبت ذلك شرعًا، فعلى المسلم أن يعتقد أن تلك المزية لا يعتد بها؛ لأنها غير ثابتة شرعًا. وما لم يثبت شرعًا فليس من الدين في شيء؛ لأن الدين هو ما أنزله الله عزَّ وجلَّ على رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – فبلَّغه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – . وتكفَّل الله عزَّ وجلَّ بحفظه، فحفظته الأمة حفظًا تقوم به الحجة، فما ليس كذلك، فليس من الدين في شيء.
فمن سوَّل له الشيطان أن يتشاغل بشيء من ذلك عن العبادات الشرعية، والأعمال النافعة، فقد خاب؛ فإن الشيطان يسعى بصرف الناس عن تلاوة القرآن والأذكار الثابتة شرعًا، كالصلاة الإبراهيمية على النبيّ – صلى الله عليه وسلم – ، ونحوها، وعن أعمال الخير كالسعي في مصالح الأهل وغيرهم من المسلمين، والعمل فيما ينفع المسلمين، أو فيما ينفع العامل من الحلال. فهو يصرف الجهّال عن ذلك كله بما ليس من الدين في شيء، حتى لا ينتفعوا في دينهم ولا دنياهم، بل يقعون في البدع المهلكة.
والحاصل: أن كل عمل يعمله الإنسان راجيًا للثواب أو البركة إن كان ثابتًا شرعًا أنه مشروع يُرجى منه ذلك الثواب فهو حقّ وإلا فهو باطل. وكثيرًا ما يقع الإنسان بعمله تلك الأعمال التي لم تثبت شرعًا في الشرك، كما يعلم مما تقدم.
(22/252)
المطلب السابع
في مخاطبة الناس
يجب على المسلم أن يميِّز بين ما أمر الله به أو أذن فيه، وبين ما نهى عنه أو كرهه، فيلزم الأول على كلِّ حال، ويجتنب الثاني على كل حال، ويحتاط فيما لم يتبيَّن له حُكْمه.
وعليك أن توطِّن نفسَك على حبّ الخير للخلق أجمعين، حتى إذا كرهت كافرًا أو مبتدعًا أو فاسقًا فلا تكرهه إلا لأنك تحبّ له أن يدع ما يضره، ويلتزم ما ينفعه. وهذا زمان قد صِرْنا فيه ــ أو كدنا ــ إلى ما ورد في الحديث: “شُحّ مُطاع، وهوًى مُتّبع، وإعجاب كلِّ ذي رأيٍ برأيه” (1).
فأحب لك أن تجتنب المخاصمات التي لا ترجو لها فائدة.
وإن مما هو من جهةٍ نعمةٌ عظيمةٌ من الله تبارك وتعالى على هذه الأمة، ومن جهةٍ أخرى حُجةٌ بالغة له سبحانه: أنْ كانت عامة المُحْدَثات التي نقول: إنها بدع ضالة، ومنها ما هو شرك بالله عزَّ وجلَّ= ليس فيها ما يقول أحدٌ: إنه ركن، أو شرط للإيمان، ولا فرض لازم، ولا سنَّة مؤكدة؛ بل غاية ما يزعم بعضهم: أنه مما يُرْجى له ثواب وبركة. وقد قال مَن هو أعلم من هذا بكتاب الله عزَّ وجلَّ وسنَّة رسوله وأقوال سلف الأمة: إن ذلك بدعة مضلة،
(1) أخرجه أبو داود (4341)، والترمذي (3058)، وابن ماجه (4514)، وابن حبان (385) وغيرهم من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه. قال الترمذي: “حسن غريب”، وصححه الحاكم.
(22/253)
ومنه ما هو شرك.
ومع هذا فهناك أعمال كثيرة ثابت (1) أنها مشروعة (2)، وأن ثوابها أعظم، وبركتها جليلة، ودلَّ الكتاب والسنَّة وأقوال سلف الأمة وأئمتها على ذلك؛ فالمخذول كلّ الخذلان، والمحروم كلّ الحرمان، والخارج عن طريق العلم والإيمان والعقل والفهم = هو مَن يُقْدِم على شيء من تلك المحْدَثات، ويتشاغل بها، في حين أنه يمكنه صرف ذلك الوقت في الأعمال والأقوال الشرعية الثابتة، والثابتِ عظيمُ ثوابها وبركتها.
وإذا أجمع الأطباء على شيء أنه دواء نافع، واختلفوا في شيء فقال بعضهم: إنه مهم، وقال بعضهم: ضارٌّ ضررًا شديدًا، وقال بعضهم: لا يتحقَّق ضرره، وقال بعضهم: ربما يكون له نفع ما، ولكنه لا حاجة إليه للاستغناء عنه بالمجمع عليه= فالعاقل يستغني بالمجمع عليه، ويتجنب المختلف فيه.
وقد قال الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
وفي الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – : “الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشُّبهات فقد استبرأ لعقله ودينه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى يوشكُ أن يقع فيه” (3).
هذا في الحلال والحرام، فأما في الإيمان والشرك فالأمر أعظم، وكلُّ
(1) (ط): “ناس على” ولا معنى لها.
(2) (ط): “مشروع”.
(3) سبق تخريجه في الخطبة الخامسة.
(22/254)
عاقل يبلغه كلام أهل العلم، لابدّ أن يكون محتملًا عنده، وعلى الأقل في كثير من تلك المحْدَثات أنها شرك، كما صرَّح به جَمْع من أكابر العلماء. والمؤمن لا يمكن أن يقدم على ما يحتمل عنده أنه شرك، هذا مع أنه ليس في الإقدام عليه لذة طبيعية، إلا أن يكون اتباع الهوى، فإن الراغب في الثواب والبركة يجد ما هو باعتراف ألدِّ أنصار المحْدَثات أعظم أجرًا وبركة.
فلو سألت أحدهم عن الصلاة على النبيّ – صلى الله عليه وسلم – بالصيغة الإبراهيمية المأثورة، أهي أفضل أم قول القائل: “يا رسول الله”؟ لاعترف لك بأن البَونَ بعيد جدًّا، فإن فضل تلك الصلاة وثوابها وبركتها عظيم جدًّا، وأما قول: “يا رسول الله”، فغايته أن يدَّعي بعضُ أنصار البدع أنه لا بأس به، وقِسْ على هذا سائر المحدثات.
فإذا بيَّنتَ هذا المعنى لرجل وأصرَّ على ترك اجتناب المحْدَثات فقد قُمتَ بالحجة، وإذا اجتنبْتَ المحدثات فاعترض عليك معترض فبيَّنْتَ له هذا المعنى، فقد أَبطلْتَ اعتراضَه ولزمه التسليم لك إن كان له عقل. ولا حاجة بك بعد هذا إلى المحاجّة في تلك المحْدَثات أَشِركٌ هي أم لا، ولا إلى سَرْد الحجج وإبطال الشبه؛ بل يكفيك الاستناد إلى ما تقدم.
ولا بأس بعد ذلك أن تقول لمن نازعك: ليس عندي من العلم ما أتمكَّن به من المناظرة والمحاجّة، ولكنني أعلم أن الواجب على الناس ترك المحدثات، فإن لم يستغنوا ببطلانها وأن منها ما هو شرك، فإنهم يعرفون من اختلاف العلماء احتمال ذلك، فوجَب عليهم اجتناب ما يخافون أن يكون شركًا، وقد علموا أنه ــ على فرض صحة ما يزعم أنصار البدع ــ لا حاجة إليه، فإنّ في العبادات الشرعية العظيمة الأجر والثواب والبركة ما يغني عنه،
(22/255)
ولا ينبغي لعاقل أن يدَعَ ما عُلم بالإجماع والنصوص القاطعة أنه إيمان، ويتشاغل بما يحتمل على الأقل أن يكون شركًا.
المطلب الثامن
في مصالح الدنيا ومعاملة الناس
ما دام الإنسان في الدنيا فإنه لا غنى به عن تحصيل المال وإصلاح المعيشة، والسعيد مَن أمكنه تحصيل ذلك بكدّ يمينه وعرق جبينه، بدون احتياج إلى إحسان أحدٍ ولا إضرارٍ بأحد، وإذا أمكنه هذا فقد قارب أن يسلم من الناس.
فأما الدين، فينبغي للإنسان أن يكون مُؤْثِرًا لله عزَّ وجلَّ على كلّ شيء، ويحرص على أن يُفْهِم الناس أنه إنما يريد لهم الخير، وأنه لا يريد علوًّا في الأرض ولا فسادًا، ولا فخرًا ولا شهرة، ولا غير ذلك من الأغراض، وإنما همُّه طاعة الله عزَّ وجلَّ، ثم أن ينصفه الناس فلا يظلموه، ولا يحتقروه.
وعليه أن يسعى في مصالح دنياه بالجدّ والصبر والمثابرة في حدود الحلال، وليعلم مع ذلك أن الأمر كله لله عزَّ وجلَّ.
فإذا حصل مطلوبه من نيل الخير، وزوال الضرر، علم أن ذلك من فضل الله عزَّ وجلَّ وكرمه، فشكره على ذلك، وحَرَص على الزيادة من طاعته. وإن خاب مسعاه رأى أن ذلك من فضل الله عزَّ وجلَّ وكرمه (1)؛ فإنه لا يدري
(1) (ط): “وكلامه” تحريف.
(22/256)
لعله لو حصل مطلوبه لكان شرًّا له في دينه ودنياه. وأقل ما في الأمر أن تكون تلك الخيبة عقوبة من الله عزَّ وجلَّ له على ذنب متقدم، وهذا أيضًا خير؛ لأنه كفَّارة له وإصلاح لشأنه.
والحاصل: أقول: كلُّ شيء يقضيه الله عزَّوجلَّ ويقدّره للمؤمن، فهو خير له، على أن يوقن بذلك، ويجري على حسب يقينه. فما عليه إلا أن يجتهد في طاعة الله عزَّ وجلَّ، وفي إصلاح دنياه في حدود ما أذن الله به، ثم ليكن بعد ذلك واثقًا أنّ كل ما قضاه الله عزَّ وجلَّ فهو خير.
أسأل الله تعالى التوفيق لي ولمحمد ولجميع المسلمين.
7 محرم الحرام سنة 1374 هـ
كتبه/عبد الرحمن بن يحيى المعلمي
(22/257)
[نصيحة لطالب الحق]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد، فهذه مباحث في أحكام أخبار الآحاد، أرجو من فضل الله تعالى ورحمته أن يوفقني فيها لاستقصاء النظر واستخلاص الحق، لتكون عُدَّةً لي ولمن شاء الله تعالى من عباده. هذا مع علمي بقصور علمي وخشيتي أن يُضلَّني الله عز وجل بذنبي، وإنني ما أبرئ نفسي عن الهوى، ولا آمَنُ أن يكون لي هوى أنا غافل عنه أو عارف به غير محترس من الاسترسال معه، أو محترس مقصّر. والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
نصيحة
ينبغي لطالب الحق أن يقدِّم قبل النظر في المسألة محاسبةَ نفسه، بأن يتجسس فيها: هل لها ميلٌ إلى وجهٍ معيّن في تلك المسألة، أو إلى أي وجه يكون ذهب إليه فلان أو أصحاب هذا المذهب أو هذه الفرقة. فإن وَثِقَ بأنه لا ميلَ له البتةَ فالظاهر أنه الآن بريء من الهوى، لكن لا يأمن أن يعرض له
(22/258)
الهوى بعد ذلك لعروضِ سبب من أسبابه، وهي كثيرة. ومتى بان له الميل فليبحث عن سببه، فإن وثِق بأنه لبرهان يقيني لا يحتمل النقيض بوجهٍ من الوجوه فليس هذا بهوًى، فإن كان معه هوًى فهو هوًى وافق الحق. وإن كان ليس إلا لدليل غير قاطع فليقلْ لنفسه: دَعِي عنكِ الهوى، فأنا الآن في مقام النظر، ولعلّي أجد دليلًا مخالفًا لذاك أقوى منه. وإن كان لدليلٍ لا يُعتدّ به، أو لأمرٍ آخر ليس بدليلٍ أصلًا، أو لم يتبيَّن له السبب، فذلك هو الهوى الذي من شأنه أن يُعمي ويُصِمّ. وطريق النجاة حينئذٍ أن يبدأ فيجاهد نفسه في اقتلاع ذلك الهوى منها، فإن عجز فليعرف ذلك الهوى، وليخش أن يكون ما يلوح له معه أنه دليل ليس إلا شبهة قوَّاها الهوى، قال الله تبارك وتعالى في الكفار: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف، 30، الزخرف: 37].
وبالجملة فمسالك الهوى دقيقة، والسلامة منه عزيزة، والتمييز معه بين الحجة والشبهة صعب. لكن من صدقت رغبته في إصابة الحق، وبذل وسعه في جهاد نفسه، وتضرَّع إلى الله عزَّ وجلَّ سائلًا منه التوفيق، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [خاتمة العنكبوت].
وعسى أن يكون بذلك قد أخذ بحظ وافر من التقوى المعنية بقول الله عزَّ وجلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].
(22/259)