http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة |
الكتاب: رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله المؤلف: عبد الرحمن بن يحيى المُعَلِّمي اليماني (1313 – 1386 هـ) المحقق: مجموعة من الباحثين منهم المدير العام للمشروع علي بن محمد العمران الناشر: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع الطبعة: الأولى، 1434 هـ عدد الأجزاء: 25 قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] |
رسالة العبادة
(رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله
والفرق بين التوحيد والشرك بالله)
للعلَّامة
أبي عبد الله عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلِّميِّ اليمانيِّ المكِّيِّ (1312 – 1387 هـ)
تحقيق
عثمان بن معلِّم محمود بن شيخ علي
(مقدمة 2/1)
مقدمة التحقيق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71].
أما بعد ..
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (1).
_________
(1) هذه خطبة الحاجة، وقد وردت من حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد (1/ 392) وأبو داود (2/ 238 ح 2118) والترمذي (3/ 404 ح 1105) والنسائي (3/ 85) وابن ماجه (1/ 609 ح 1892)، وأخرجه مسلم (3/ 11 – 12 ح 867، 868) من حديثي جابر وابن عباس مختصرًا. وقد أفردها العلَّامة الألباني برسالة مستقلة.
(مقدمة 2/5)
هذه رسالة العبادة للعلَّامة عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي، وهي عظيمة القدر لجلالة الغرض الذي أُلِّفت من أجله، وهو تحديد معنى العبادة التي يكون صارفها لله وحده مسلمًا موحِّدًا، وجاعل شيء منها لغيره مشركًا مندِّدًا، وقد اقتضى ذلك من المؤلِّف أن يستقرئ كتابَ الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وكتبَ التفسير والحديث واللغة والتاريخ وغيرها.
وقد جمع فيها المؤلِّف علمًا جمًّا، وحرَّر المسائل التي بحثها تحريرًا بالغًا.
والمعلِّمي ممن أوتي فهمًا في الكتاب والسنة، وحاز أدوات البحث والتحقيق، فإن يمَّمت شطر علم التوحيد بفروعه ألفيتَه قائد لوائه، ويشهد على ذلك كتابه «القائد إلى تصحيح العقائد» و «دين العجائز أو يسر العقيدة الإسلامية»، و «رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله»، وهو مشهور بكتاب «العبادة»، وهو الذي أقدِّم له هنا, و «عمارة القبور» و «التأويل» , ورسائل كثيرة.
وإن نظرت إلى علوم الحديث روايته ودرايته، فهو حامل رايته، ومرصّع جواهره، وقد كتب رسالة «أحكام الجرح والتعديل وخبر الواحد» , و «الاستبصار في نقد الأخبار» , و «العمل بالحديث الضعيف» , وحرَّر رسالة «علم الرجال وأهميته» , وألّف «الأنوار الكاشفة لما في كتاب (أضواء على السنة) من الزلل والتضليل والمجازفة»، فدافع فيه عن السنة النبوية دفاعًا مجيدًا. وصنّف كتابه البديع «التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل» الذي طبقت شهرته الآفاق. وحقَّق «التاريخ الكبير» للبخاري, و «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم الرَّازيِّ، و «الأنساب» للسمعاني, و «الإكمال» لابن ماكولا.
(مقدمة 2/6)
فلا غَرْوَ أن وَصَفَه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بأنه من أهل التحقيق في هذا العلم الشريف (1) (يعني علم الحديث).
وظهرت ملكته الفقهية فيما درسه من مسائل فقهية شائكة، سواء في كتابه التنكيل، أو بحوثه المفردة، كرسالة الربا ورسالة المواريث في نحو ثلاثين رسالة فقهية, إضافة إلى فتاوى كثيرة في مسائل متفرقة.
وله جهود جيِّدة في التفسير برزت في تفسيره لسورٍ وآيات أفردها بالتفسير، مثل تفسيره للبسملة والفاتحة، وتفسيره لسورة البقرة، وتفسيره لسورة الفيل، وآيات متفرِّقة في كثير من السور، وأفرد بعضها بتأليف مستقلٍّ مثل: تفسير قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}، وتفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا}.
وأما العربية فهو ابن بجدتها ومالك ناصيتها، سهَّل الله له التعبير عن المعاني التي يريدها بأسلوب جمع بين جزالة اللفظ وجماله، وسلامة المعنى ووضوحه، وله كتب في النحو، وبحوث في البلاغة ومنشأ اللغات.
وقد درس حياته العلمية عددٌ من طلبة العلم، فكتب الأخ منصور بن عبد العزيز السماري رسالة ماجستير مقدَّمة إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية بعنوان «الشيخ عبد الرحمن المعلمي وجهوده في السنة ورجالها» وطُبعت عام 1418 هـ.
وأعدَّ الأخ أحمد بن علي يحيى محمد بيْه رسالة ماجستير مقدَّمة إلى الجامعة نفسها بعنوان «منهج المعلِّمي وجهوده في تقرير عقيدة السلف» ونوقشت في 25/ 7/ 1416 هـ.
_________
(1) التنكيل 1/ 438 – الطبعة القديمة (التعليق).
(مقدمة 2/7)
وكتبتْ هدى بنت خالد بالي رسالة ماجستير بعنوان: «عبد الرحمن المعلمي وجهوده في السنة» وهي مقدَّمة إلى قسم الدراسات الإسلامية في كلية التربية للبنات بمكة المكرمة.
وأفرده الأخ أحمد بن غانم الأسدي بترجمة سمّاها: (الإمام عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني حياته وآثاره).
وفي مقدمة هذه الموسوعة ترجمة حافلة للشيخ.
وقد حبَّب الله إليَّ هذا العالم، وحبَّب إليَّ كتاباته، فاستفدتُّ منها في دروسي وبحوثي، منذ نحو ربع قرن، ولم أفكر في تحقيق شيء من كتبه إلَّا قريبًا.
ومن الكتب التي طال انتظارُ أهل العلم لها رسالة «العبادة»، واسمها الكامل «رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيقُ معنى التوحيد والشرك بالله».
فأحببت إخراجها للناس أقربَ ما تكون إلى ما أراده المؤلِّف، لكنَّني اصطدمت بعائق النقص الكبير الموجود في الكتاب، فيسَّر الله بمنِّه وفضله تكميل معظم النقص، وسأشرح ذلك بإذن الله عند الحديث عن طبعتنا.
وقد مهَّدتُ للرسالة بدراسة تضمَّنت التعريف برسالة العبادة، وبيان منهج التحقيق، ووصف النسخ.
* * * *
(مقدمة 2/8)
التعريف برسالة العبادة
* أوّلًا: عنوان الكتاب:
اسم الكتاب كاملًا: «رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله».
كذا ذكره المؤلف في مقدمة رسالة «حقيقة البدعة» (1).
وقد يختصره أحيانًا إلى «رسالة العبادة» (2)، وهو الأكثر استعمالًا.
* ثانيا: تحقيق نسبة الكتاب إلى المعلِّمي رحمه الله:
ثمَّة أمور تؤكد ثبوت نسبة هذا الكتاب للمعلِّمي، من ذلك:
1 – أنه قلَّما يخلو كتاب من كتب المعلِّمي المطبوعة والمخطوطة من الإشارة إلى رسالته هذه، والإحالة عليها.
فمن ذلك كتابه «التنكيل» (3)، قال فيه عن رسالة العبادة: «هو كتاب من تأليفي، استقرأت فيه الآيات القرآنية ودلائل السنة والسيرة وغيرها؛ لتحقيق ما هي العبادة، ثم تحقيق ما هو عبادة لله مما هو عبادة لغيره».
_________
(1) ضمن مجموع رسائل العقيدة، ص 87.
(2) المصدر السابق ص 108 – 113 أحال فيها على رسالة العبادة أربع مرَّات، وانظر: رسالة «تفسير سورة الفاتحة»، فقد أكثر فيها من الإحالة على رسالة العبادة، فقد وجدت في ص 90 – 92 منها ستَّ إحالات إلى رسالة العبادة.
(3) التنكيل 2/ 435 – ضمن هذه الموسوعة، وانظر: الحاشية السابقة أيضًا.
(مقدمة 2/9)
2 – الكتاب كثير منه بخطِّ المعلِّمي. ومَنْ له أُنس بكتب الشيخ المخطوطة لا يرتاب في خطِّ الشيخ، مع قرب العهد، وتسلسل هذه المعلومة بطريق الثقات.
ومسوَّدات الكتاب دالَّة على ذلك.
3 – وقد ذكره له جُلُّ مَن ترجم له (1).
4 – وذكره المؤلف في إحدى محاضراته في دائرة المعارف في حيدراباد (2)، ولخص فيها الباعث له على جمع ذلك الكتاب والطريقة التي سلكها.
5 – وقد أشار في هذا الكتاب إلى أن له رسالة مستقلة في حكم العمل بالحديث الضعيف (3).
6 – في الرسالة إشارات إلى أمور شاهدها في اليمن وفي الهند، وهما البلدان اللذان قضى فيهما أكثر حياته (4).
* ثالثًا: تاريخ تأليف المعلِّمي لكتابه العبادة:
أشار المؤلف إلى هذا الكتاب في كتابه التنكيل، مما يؤذن بتقدُّمه عليه أو مقارنته له، وقد كان المعلِّميُّ أثناء تأليفه للتنكيل في الهند، ويؤكّد ذلك ما نقله زكريا عبد الله بيلا عن المعلمي من قوله وهو يتحدَّث عن الطليعة:
_________
(1) انظر مثلًا: مجلَّة العرب 1/ 245 مقال خير الدين الزركلي، والأعلام 3/ 342 له.
(2) كما في دفتر مسودات صور برقم 4930 في مكتبة الحرم المكي.
(3) انظر ص 249.
(4) انظر ص 256، 752، 923 لذكر اليمن، و 264، 683 – 684 لذكر الهند.
(مقدمة 2/10)
«فإني لما أرسلت من الهند إليه الكتاب للاطلاع عليه … » (1). ثم وقفت في إحدى مسوَّدات الشيخ بالرقم العام 4930 على مسوَّدة محاضرة أعدَّها المؤلف لإلقائها في المؤتمر العلمي الذي تعقده دائرة المعارف العثمانية في حيدراباد في الهند كل سنة، قال في بداية المحاضرة: «كان وكنت مشغولًا منذ مدة بجمع كتاب في تحقيق معنى الإله والعبادة في الإسلام فاقتطعت منه فصلًا أعرض ملخصه على مسامعكم». فقطعت جهيزةُ قولَ كلِّ خطيب، وثبت بذلك أنَّ تأليف الكتاب كان والشيخ في حيدراباد الدَّكَن من الهند؛ وقد كان خروجه من الهند أوَّل أوْ ثاني ذي القعدة من عام 1371 هـ (2)، فيكون تأليف الكتاب قبل هذا التأريخ؛ إلَّا أنَّ المؤلِّف لم يزل يعيد النظر في كتابه ويضيف إليه ويحذف منه، كما تدلُّ على ذلك مبيَّضة الكتاب الأولى وما تلاها.
* رابعا: أهمِّية الكتاب وقيمته العلمية:
تكمن أهمية الكتاب في كونه يعالج أمرًا مهمًّا يتعلَّق بأصل الدين، ألا وهو تفسير كلمتي العبادة والإله، اللَّتين على فهمهما يتوقَّف فَهمُ معنى كلمة التوحيد التي هي أساس الإسلام وقاعدته، وقد وقع في الكلمتين اشتباه عريض وغفل أكثر العلماء المتأخِّرين عن دفع هذا الاشتباه لأسباب ذكرها المؤلف (3)، «والشأن إنما هو في تحقيق ما غُفل عنه» (4).
_________
(1) انظر: الجواهر الحسان في ترجمة الفضلاء والأعيان من أساتذة وخُلَّان 2/ 564.
(2) كما في حديثه عن رحلته إلى الجزيرة (المخطوط رقم 4721).
(3) انظر: رسالة «تفسير سورة الفاتحة» ص 107.
(4) انظر: رسالة «تفسير سورة الفاتحة» ص 108.
(مقدمة 2/11)
وأما قيمة الكتاب العلمية فتتَّضح من مكانة مؤلِّفه الإمام المعلمي، وتضلُّعه من مختلف الفنون التي لا بدَّ منها في خوض غمار مثل هذا الأمر العظيم.
ثم مما أبداه من التحقيق العلمي والتدقيق الجليِّ في هذا الكتاب، وقد قال عنه: «استقرأتُ فيه الآيات القرآنية ودلائل السنة والسيرة وغيرها لتحقيق ما هي العبادة، ثم تحقيق ما هو عبادة لله مما هو عبادة لغيره» (1).
ثم من كونه لم يسلّم زمامه لأحد من الأئمة فضلًا عن غيرهم، بل (2) كما قال عن نفسه يستقي مسائله من عين الأدلة غير مقلِّد لأحد في هذا الأمر.
هذا مع كونه لا يُغفل أقوال الجهابذة، بل يجمع شتاتها وما تفرَّق منها في هذا الأمر العظيم، فاستخرج من أقوالهم جملة من الدُّرَر، منها ما هو صريح فيما توصَّل إليه، ومنها ما هو مستلزم له قطعًا، «ولكنها خبايا في الزوايا وشذرات في الفلوات» (3). والمعلِّمي ذو اطِّلاعٍ واسع فلا غرو أن يأتي باللآلئ الخفيَّات من بطون المحيطات.
فتبيَّن مما ذكرنا أنَّ الكتاب مهمٌ في مسائله، قيِّمٌ في تحقيقاته, فريدٌ في بابه، حريٌّ بالنشر والمطالعة والمدارسة.
_________
(1) التنكيل 2/ 435.
(2) انظر نسخة (س) من كتاب العبادة 24 ب.
(3) انظر: رسالة «تفسير سورة الفاتحة» ص 107.
(مقدمة 2/12)
* خامسًا: موضوع الكتاب ومنهج المصنِّف فيه:
أ- أما موضوعه فيكفينا في الدَّلالة عليه عنوانه؛ إذ هو «رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيقُ معنى التوحيد والشرك بالله».
ولم يُحْوِجْنا المؤلِّف إلى تتبُّع سطور كتابه للتَّهَدِّي إلى موضوع رسالة العبادة، بل صرّح به في عدّة مناسبات، في الكتاب نفسه، وفي غيره من كتبه، ولا يسعنا إلا أن ننقل شيئًا من ذلك، فمنها:
قوله في رسالة العبادة (1): «واعلم أنَّ موضوع هذه الرسالة هو البحث عن حقيقة التوحيد، ووزنُه بهذه الكلمة الطيبة [يعني: لا إله إلا الله] التي جعلها الشرع عَلَمًا له ليتضح شأن الأمور المختلف فيها، أمنافية هي للتوحيد أم لا؟ والغالب أن الجاهل بمعنى لا إله إلا الله يكون جاهلًا بحقيقة التوحيد، ومَن كان كذلك يُخْشَى عليه أن يكون مشركًا وهو لا يشعر, أو أن يَعْرِضَ له الشرك فيقبله وهو لا يدري، أو أن يرمي غيره من المسلمين بالشرك بغير بيِّنة، وكلا الأمرين خطر شديد».
وقوله في رسالة الشفاعة (2): «قد جمعتُ رسالة مطوَّلة في تحقيق العبادة المطلقة، أي: أعمّ من أن تكون لله عزّ وجلّ أو لغيره، فوجدتُ عبادة غيره تشابك مسألة الشفاعة بحيث لا يمكن تحديد العبادة ما لم تتحدَّدْ الشفاعة وما يتعلَّق بها».
_________
(1) ص 22 من نسخة (أ).
(2) ضمن مجموع رسائل العقيدة، ص 301.
(مقدمة 2/13)
وقوله في خطبة نخب الفوائد من الأصول والقواعد: «جمعتُ رسالة في تحقيق معنى العبادة ومعنى الإله لينكشف بذلك معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ويتضح ما يكون تأليهًا وعبادةً لغير الله تعالى وشركًا به ممَّا ليس كذلك، وحاولتُ استيفاء النظر في ذلك» (1).
هذا موضوع الكتاب الإجمالي، ومحوره الذي يدور عليه.
وأرى ألَّا أترك موضوعات الكتاب التفصيليَّة التي تناولها بالشرح والبيان دون إعطاء القارئ نُبذًا دالَّة عليها، كاشفة حجابها، فأقول ملخِّصًا (2):
* بدأ المؤلِّف رسالته ببيان الباعث له على الكتابة في هذا الموضوع، ثم عقد بابًا عنونه بـ «تحتُّم العلم بمعنى لا إله إلا الله، وفيه شرائط الاعتداد بقولها» بيَّن فيه أهمَّ شروط لا إله إلا الله، ومن أعظم تلك الشروط: شرط العلم بمعناها؛ إذْ مَنْ لا يعرف معناها لا يُؤْمَنُ عليه أنْ يقع فيما يَنْقُضُها. وأن يكون قولها على سبيل الاعتراف والتصديق والتسليم والرضا.
وأهمُّ تلك الشروط على الإطلاق: شرطُ التزام الشاهد مدَّة حياته أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا؛ لأن الشهادة إعلان بقبول ما أرسل اللهُ به رسولنا محمدًا – صلى الله عليه وسلم – مِن تصديق أخباره والانقياد للأمر والنهي، وأوَّل ذلك الأمر بعبادة الله وحده واجتناب الشرك أسوة بما أُرسلت به سائر الرسل، قال تعالى لنبيه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64].
_________
(1) صفحة ملحقة برسالة البسملة والفاتحة.
(2) ومن أراد التوثُّق من صفحات ما سأسرده فليستعن بفهرس الموضوعات.
(مقدمة 2/14)
* ثم عقد الشيخ بابًا ثانيًا عنونه بـ «باب في أنَّ الشرك هلاك الأبد حتمًا وأنَّ تكفير المسلم كفر» بيَّن فيه أنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بهذا الأمر لأنه أصل الدِّين، وأورد الآيات والأحاديثَ المتعلِّقة بهاتين المسألتين: مسألة خطورة الشرك، وقضية رمي المسلم بالشرك من غير بيِّنة، وأوضحُ دليل من السنة على المسألة الأخيرة قولُه – صلى الله عليه وسلم -: «مَن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدُهما»، وعَقد له البخاري بابًا سماه: باب بيان حال إيمان مَنْ قال لأخيه المسلم: يا كافر.
* ثُمَّ عقد المؤلف بابًا ثالثًا في أصول ينبغي تقديمها:
الأصل الأول: حجج الحق شريفة عزيزة كريمة، بيَّن فيه أن الله خلق الخلق لعبادته، وخلقهم قابلين للكمال، ومكَّنهم من العمل؛ لكنهم لا ينالون الجنة والدرجات العالية إلا بمقاساة عناء ومشقة، وهو الابتلاء، ومِنْ لازم الابتلاء الاختلافُ، ومن لازم الاختلاف استحقاقُ بعضهم الجنة وبعضهم النار. وطلبُ حجج الحق من جملة العبادة، ولا بد أن يكون دون منالها عناء ومشقَّة.
الأصل الثاني: الحجج والشبهات.
بيَّن فيه أنَّ الحجج العلمية تَعْتَوِرُها بواعث على الخيانة فيها، وموانع من الخيانة فيها، وأساس ذلك الهوى الذي يتفاوت قوَّة وضعفًا، والتشبُّث بالشبهات الكثيرة. ويعارضها المانع الدنيوي؛ وهو الخوف من الفضيحة بين الناس إذا عاند الشخص وردَّ الحجج بالشبهات الساقطة.
الأصل الثالث: إصابة الحق فيما يمكن اشتباهه.
(مقدمة 2/15)
وهي تتوقف على ثلاثة أمور:
– التوفيق للحق.
– الإخلاص الخالي من الهوى.
– بذل الوسع في تعرُّف الهوى وتطهير النفس منه، ولزوم التقوى، مع طلب العلم الضروري في العقائد والأحكام من أهله الراسخين فيه.
* ثم دَلَف إلى فصل في حكم الجهل والغلط بناه على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وردَّ على الذين فسَّروا لفظ الرسول في الآية بالعقل، وبيَّن أنَّ الله ناط التكليف باجتماع ثلاثة أمور:
– بلوغ الحلم.
– مع سلامة العقل.
– مع بلوغ الدعوة.
ثم أوضح أنَّ شريعة إبراهيم وإسماعيل ــ عليهما السلام ــ بلغت مشركي العرب قبل بعثة محمد – صلى الله عليه وسلم – ، وحافظوا عليها أمدًا طويلًا حتى بدَّلها عَمرو بن لُحَيٍّ، بعد رَفْع عيسى عليه السلام بنحو مائتي سنة، فالحجَّة قائمة عليهم في الجملة.
ثم قسم الناس إلى ثلاث طبقات:
– مَنْ لم يبلغه خبر دعوةٍ أصلًا.
– مَنْ بلغه الخبر.
– مَنْ أسلم.
(مقدمة 2/16)
ثم فصَّل ما يلزم كلَّ طبقة من الجِدِّ في طلب الحقِّ وتحرِّيه، وترك التقصير.
ثم أتى بأمثلة وشواهد تثبت العذر بالجهل والغلط، وجَمَعَ بين النصوص التي يُظنُّ تعارضُها في ذلك.
ومما أورده في الأعذار حديث الرجل الذي أوصى أولاده بحرقه إذا مات، وحديث المقداد إذ منعه الرسول – صلى الله عليه وسلم – مِن قتْل مَن قال: أسلمت لله؛ فيُحتج به للدخول في الإسلام بكلِّ ما يدلُّ على الدخول فيه، من قولٍ أو فعلٍ ما يتنزَّل منزلة النطق بالشهادتين. وقد حكم النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بإسلام بني جَذيمة الذين لم يُحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، وجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا.
وحَكَمَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بإسلام الرجل الذي قتله أسامة بعد ما قال: لا إله إلا الله؛ لأن الظاهر من قوله: لا إله إلا الله، أنه أراد بها الدخول في الإسلام.
* ثم تحدَّث الشيخ عن المنتسبين إلى الإسلام وقَصَرَ الكلام على من يكفِّره بعضُ قرَّاء كتابه، أو يتردَّدون فيه، بسبب الشرك، فبيَّن الشيخ أنَّ كلَّ مكلَّف من هؤلاء لا بدَّ أن يكون قد ثبت له حكم الإسلام، إما بدخول الشخص في الإسلام مع كون آبائه كفارًا، أو حُكِم له بالإسلام تبعًا لأبويه، أو لأحدهما، فإن كان القارئ يُسلِّم بصحة إسلام التابع فلا كلام، وإن كان يقول: آباؤه متلبِّسون بالشرك وإن ادَّعوا الإسلام، فالجواب أنَّ أوَّل جَدٍّ تلبَّس بالمحْدَثات إمَّا أن يكون هو الذي دخل في الإسلام، وإمَّا أن يكون ابنَ رجل مسلم لم يتلبَّس بها. وعلى كلا الحالين قد ثبت لهذا الجدِّ حكم الإسلام اتِّفاقا، ومن ثبت له حكم الإسلام فالأصل بقاؤه عليه، ولا يخرج عنه إلا بحجة واضحة، وأنت لا تعلم قيام الحجة على ذلك الجدِّ الذي
(مقدمة 2/17)
تلبَّس بتلك المحدثات، فبقي على إسلامه، فتبعه ابنه في الإسلام، فيبقى له حكم الإسلام, إلى آخر نقاشه القويِّ المفحم (1).
ثم أفاض في أحوال الكفار الذين لم يدخلوا في الإسلام، وفصَّل أحكامهم بما ينبغي مطالعته.
* وبعد فراغه من هذا الفصل شرع في الكلام على الباب الرابع الذي عقده لبيان أمور يستند إليها بعض الناس، ويستدلُّون بها على إثبات هذه الأمور المحدثة في العقيدة، وهي غير صالحة للاستناد إليها.
ومنها: التقليد، وقد بيَّن الشيخ عدم كفايته في بناء أصول الاعتقاد عليه، بدلالة الأدلَّة التي اشترطت العلم بمعنى لا إله إلا الله، كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وحديث سؤال القبر الذي فيه: «وأما المنافق والكافر ــ وفي بعض الروايات: المرتاب ــ فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول كما يقول الناس, وأما المؤمن فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدَّقت» ولا يخفى أيُّ الرجلين المقلِّد.
والمعنى الدقيق للتقليد هو العمل بقول مَن ليس قولُه إحدى الحجج بلا حجَّة (2).
ولم يقصد الشيخ مِن منع التقليد إيجاب النظر على طريقة المتكلمين، بل يرى النظر على طريقة السلف، وهو أمر متيسِّر لكل أحد، حتى العامَّة.
_________
(1) انظر ص 157 – 163.
(2) تيسير التحرير 4/ 241.
(مقدمة 2/18)
وعلى طالب الحق إذا اختلف عليه العلماء أن ينصب نفسه منصب القاضي، فيسمع قول كل واحد منهم وحجَّته، ثم يقضي بالقسط.
وأكثر العلماء المنتسبين إلى المذاهب لم ينصبوا أنفسهم منصب القضاة، بل نصبوا أنفسهم منصب المحامين، فلا يسمع من أحد منهم إلا كما يسمع القاضي من المحامي.
قال الشيخ: إذا كان الأمر كما علمت في تقليد العلماء، فما بالك بتقليد المنسوبين إلى الخير والصلاح بدون أن يكونوا أئمة في العلم؟
والحامل للناس على تقليد مَن يُنسب إلى الخير والصلاح اعتقادُ العصمة فيهم، وسببُ اعتقادهم العصمة فيهم اعتقادُ الولاية فيهم، والباعثُ على اعتقاد الولاية فيهم ظهورُ الخوارق على أيديهم، ثم برهن الشيخ على أن ظهور الخوارق لا يدلُّ على ولاية مَن ظهرت على يده. وأكثر ما يُنقل من تلك الخوارق اخترعها مريدوهم زاعمين أنَّ ذلك يُقرِّبهم إلى الله وإليهم.
ثمَّ ذكر أقسام الخوارق وأنَّ منها معجزة للأنبياء، وكرامة للأولياء, ومنها إهانة للدَّجَّالين، واستدراج لبعض الدَّجَّالين كالدَّجَّال الأعور ليمتاز المؤمن عن علمٍ ومعرفةٍ مِن غيره.
وذكر الشيخ من الخوارق الشعبذة، وقوَّة نفسيَّة تُكتَسبُ بالرياضة التي أساسها الجوع والسَّهَر والخلوة وجمع الفكر، وما يُسمَّى بالكشف، وهو لا يعدو أن يكون نوعًا من الرؤيا في أحسن أحواله.
* وأما الأمر الثاني الذي يستند إليه كثير من أهل زماننا في الاعتقاد هو أنهم يحتجُّون بآيات من كتاب الله تعالى، ويفسِّرونها برأيهم بما لم يُنْقل عن السلف ولا تساعده اللغة العربية ولا البلاغة القرآنية، وهكذا يصنعون
(مقدمة 2/19)
بالأحاديث الثابتة، فينبغي للمسلمين ألَّا يغترُّوا بأحد يحتجُّ بالكتاب والسنة على الأمور المشتبهة.
* والأمر الثالث الذي يستند إليه كثير من الناس هو الاحتجاج بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، وكذلك بالآثار المكذوبة عن السلف، أو التي لم تصحَّ.
ويحتجُّ بعضهم بالضعيف مع اعترافهم بضعفه قائلين بأن فضائل الأعمال يُتسامح فيها، مُغْفِلين أنَّ الفضائل إنما تُتَلقَّى من الشارع فإثباتها بالحديث الضعيف اختراع عبادة، وشرعٌ في الدين لما لم يأذن به الله.
* وذكر المؤلِّف من الأمور التي يستند إليها بعض الناس في باب العقائد: مجرَّد العقل والقياس, مع أنَّ للعقل حدًّا ينتهي إليه كما أن للبصر حدًّا ينتهي إليه, وللعقل أغلاط دقيقة وخفيَّة أشدّ من أغلاط الحواسِّ الأخرى.
وقد حكى الله عن طوائف من المشركين استنادهم إلى مجرَّد رأيهم وقياسهم في عبادتهم غير الله زاعمين أنهم بشركهم معظِّمون لله، وأنهم ليسوا بأهلٍ أن يعبدوا لله مباشرة لحقارتهم، ولا بدَّ من واسطة يتوسَّطون بها.
ويحتجُّ بعض الناس بآيات من كتاب الله أو سنة ثابتة عنه – صلى الله عليه وسلم – , ويغفل أو يتغافل عن عدَّة آيات أو سنن أخرى تعارض استدلاله؛ فإنَّ الكتاب والسنَّة كالكلام الواحد.
ومن الناس مَن تغلب عليه العصبيَّة للرأي الذي نشأ عليه, ويستغني بمحبته لذلك الرأي عن أن يتطلَّب له حجَّة, ويمتنع من أن يُصغي إلى الأدلَّة التي يتمسَّك بها مخالفُه.
(مقدمة 2/20)
* وقد خاض في مسألة التوحيد مَنْ لم يكن له علم راسخ بالقواعد, ويقع اللَّوم على مَن صدَّره ونَحَلَه العلمَ والإمامة بغير استحقاق, مع أننا نجد أفرادًا لا يؤتَون من جَهْل بالقواعد وإنما يؤتَون من مخالفتها.
والقواعد هي ما تشتمل عليه علوم الاجتهاد من إتقان اللغة العربية وطول الممارسة لها, ومعرفة أصول الفقه على وجه التحقيق لا التقليد, ومعرفة مصطلح الحديث وطرفٍ صالح من معرفة الرجال ومراتبهم وأحوالهم، وكثرة مطالعة كتب الحديث حتى تكون له مَلَكَة صحيحة في معرفة العِلل والترجيح بين المتعارضات, ومعرفة السيرة النبوية وأحوال العرب قبل الإسلام. وكذلك معرفة العلماء ومراتبهم, وكثرة تدبُّر كتاب الله.
ولْيَكُنْ فهمه مطابقا للقواعد العلميَّة, مع الإخلاص ومجانبة الهوى والتعصب وحبِّ الجاه والشهرة, مع المحافظة على الطاعات والتنزُّه عن المعاصي بقدر الاستطاعة, والإكثار من دعاء الله أن يوفِّقه للحق. ويلتزم باحترام العلماء والصالحين, وإن خالف بعضَهم لدليلٍ فلا يحتقرهم.
* ونبَّه المؤلِّف على قاعدة مهمَّة وهي: وجوب حمل النصوص على ظاهرها, والظاهر قد يترقَّى إلى القطع إذا عَضَدَتْه ظواهر أخرى.
* ومن الناس مَن يتهاون بقضيَّة الفصل بين التوحيد والشرك قائلًا: «إنما الأعمال بالنيات» , والحديث إنما تعرَّض للفصل بين الأعمال الشرعية التكليفيَّة وبين غيرها, فأما أحكام تلك الأعمال فإنما تؤخذ من الأدلَّة الأخرى, والكافر إذا زعم أنه يتمسَّك بكفره طاعةً لله وتعظيمًا له فإنَّ قصده ذلك لا ينفي عنه اسم الكفر ولا حكمه, بل يغلِّظه عليه ويكون كفرًا على كفر.
(مقدمة 2/21)
ثم ختم هذا الفصلَ بقوله: «وبالجملة فتحقيق ما هو شرك وما ليس بشرك متوقف على تحقيق معنى كلمة التوحيد». فذكر أنه يظهر من صنيع بعض علماء الكلام أنَّ معنى (إله) هو المعنى الذي يعبِّرون عنه بـ (واجب الوجود). و «الأمم كلها لا تشرك في وجوب الوجود حتَّى الثَّنَوِيَّة, وقد حكى القرآن عن الأمم المشركين ابتداء من قوم نوح وانتهاء بمشركي العرب الذين بعث فيهم محمد – صلى الله عليه وسلم – أنهم يعترفون بتفرد الله بالخلق والرَّزْق والإحياء والإماتة والتدبير».
قال المؤلِّف: ومن العجائب أنك تجد في هذا العصر كثيرًا من طلبة العلم ــ إن لم أقل من العلماء ــ يتوهَّمون أن المشركين يعتقدون في الأصنام وغيرها أنها واجبة الوجود قادرة على كلِّ شيء، خالقة، رازقة، مدبِّرة للعالَم.
* وتبيَّن مِن بحث الشيخ وتحقيقه في هذه المسألة أنَّ اتخاذ الشيء إلهًا لا يتوقَّف على اعتقاد كونه واجب الوجود، ولا اعتقاد كونه مستغنيًا عمَّا سواه، ولا كونه مدبِّرًا مستقلًّا، بل ولا غير مستقلٍّ؛ فإنَّ الذين ألَّهوا الأصنام لم يعتقدوا لها شيئًا من التدبير.
قال العزُّ في قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 – 98]: «وما سوَّوهم به إلَّا في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجلال».
* ثمَّ قرَّر المؤلِّف برهان التمانع الذي دلَّت عليه بعض آيات القرآن فقال: «تقرير هذا البرهان أنه لو كان مع الله تعالى أحياء يدبِّرُ كلٌّ منهم الخلق والرزق ونحوهما من الأمور العظمى في العالم تدبيرًا مستقلًّا لاختلفوا،
(مقدمة 2/22)
وإذا اختلفوا فسدت السموات والأرض. كما أن الأمور الصغيرة التي يدبِّرها الناس مستمرة الفساد. ولا ريب أن قدرة الناس لو تتناول نحو إنزال المطر ومنعِه، وإرسال الرياح وحبسها، وتيسير الهواء ورفعه، وتحريك الزلازل ونحو ذلك, لكان الفساد أظهر. ومعلوم بالمشاهدة أن الأمور العظمى لا يتطرَّق إليها الفساد، وما قد يظهر في بعضها مما يُتَوهَّم فسادًا تُعْلَم مصلحته عند التدبُّر، فعلم بذلك أنه ليس في العالم مع الله تعالى أحياء كلٌّ منهم يدبِّر تدبيرًا مستقلًّا …. » إلخ.
* وذكر المؤلِّف أنَّ برهان التمانع يجتثُّ شُبَه المشركين من أصلها، فلا يثبت للروحانيِّين ما يزعمه بعضهم من أنَّ لها تدبيرًا ما، وأنَّ الملائكة والجنَّ وأرواح الموتى كذلك.
* وذكر المؤلِّف بعض الأمور التي قد يفهم منها بعضُ الناس أن الملائكة غيرُ معصومين كقصَّة هاروت وماروت، وأطال في الجواب عن ذلك.
* وعَنْوَن لتفسير الإله بالمعبود، ونقل عن علماء التوحيد قولهم: إن حقيقة معنى الإله: المعبود بحقٍّ، وفسَّره بعضهم بالمستحقِّ للعبادة، ونقل ألفاظ عدد من المفسِّرين معبِّرة عن هذا المعنى، وأن الألوهيَّة هي العبادة وأن الإله هو المعبود الذي لا تنبغي العبودية إلا له، لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة.
* والقول بوجود إله غير الله تعالى إن كان بمعنى مستحق للعبادة فشركٌ، وإن كان بمعنى معبود بالفعل غير مستحقٍّ فلا، فأمَّا اتِّخاذ إله غير الله تعالى فشرك مطلقًا، وهذا ممَّا لا خلاف فيه بين المسلمين.
(مقدمة 2/23)
* ثمَّ عرَّج على إيضاح معنى العبادة في اللغة والاصطلاح فنقل عن أهل اللغة ما حاصله أربعة تعريفات:
1 – الطاعة.
2 – الطاعة التي يُخْضَع معها.
3 – غاية التَذَلُّل، أو أقصى درجات الخضوع.
4 – التَألُّه أو الطاعة مع اعتقاد أن المُطاعَ إله.
فناقش هذه التعريفات واحدًا بعد آخر، ثم عقد بابًا في تحقيق معنى كلمة (إله) ومعنى كلمة (العبادة) وما يلحق ذلك، وبيَّن أنَّ هاتين الكلمتين تكرَّرتا في القرآن كثيرًا، وباستقراء مواضعهما وتدبُّر مواقعهما تنجلي حقيقة معناهما.
قال: أمَّا إطلاق كلمة (إله) على الله تبارك وتعالى، و (العبادة) على طاعته، وكلِّ ما يُتقرَّب به إليه، فأمر لا يحتاج إلى بيان.
قال: وأما غير الله فقد حكى الله عن المشركين اتخاذهم بعض المخلوقات آلهة كالأصنام والعجل والهوى والشياطين والأحبار والرهبان والمسيح وأمِّه عليهما السلام والملائكة وأشخاص خياليَّة لا وجود لها.
وأما العبادة فأخبر الله عزَّ وجلَّ أنها وقعت للأصنام والشياطين والشمس والأحبار والرهبان والمسيح وأمِّه عليهما السلام والملائكة وأشخاصٍ متخيَّلةٍ.
فاتَّخذ قوم نوحٍ الأصنام آلهةً وعبدوها, واتَّخذوا جماعةً من الصالحين الذين ماتوا قبلهم آلهةً.
(مقدمة 2/24)
واتَّخذ قوم هودٍ عليه السلام أشخاصًا متوهَّمةً آلهةً وعبدوها.
وعبد قوم صالحٍ مع الله تعالى غيره, واتَّخذ قوم إبراهيم عليه السلام الأصنام آلهةً وعبدوها, وعبدوا الشيطان، وعظَّموا الكواكب.
واتَّخذ أهل مصر في عهد يوسف عليه السلام أشخاصًا متوهَّمةً وعبدوها, وادَّعى فرعون أنه إلهٌ وأطاعه قومه.
واتَّخذ القوم الذين مرَّ بهم قوم موسى أصنامًا وعكفوا عليها, وسمَّاها أصحاب موسى آلهةً، وسألوه أن يجعل لهم إلهًا مثلها, واتَّخذ بعض قوم موسى العجل إلهًا, ثم اتَّخذوا الأحبار آلهةً وعبدوهم.
واتَّخذ النصارى عيسى وأمَّه عليهما السلام إلهين من دون الله وعبدوهما, واتَّخذوا رهبانهم آلهة من دون الله وعبدوهم.
واتَّخذ مشركو العرب الأصنام والملائكة والشياطين وأشخاصًا متخيَّلةً آلهةً وعبدوها.
قال المؤلِّف: فطريق البحث أن ننظر فيما كان هؤلاء القوم يعتقدونه في تلك الأشياء وما كانوا يعظِّمونها به, فإذا تبيَّن لنا ذلك علمنا أنَّ ذلك الاعتقاد والتعظيم هو التأليه والعبادة.
ثم أفاض الشيخ في تفصيل ما كان يفعله هؤلاء الأقوام مع معبوداتهم , وإلامَ كانت أنبياؤهم تدعوهم, وبَرْهَن على أنهم لم يكونوا ينكرون وجود الله, مستدلًّا بالآيات القرآنيَّة على وجهٍ رئيسٍ ومثنِّيًا بأحاديث وآثارٍ تدلُّ على ذلك, وأدلُّ دليلٍ على ذلك أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ
(مقدمة 2/25)
مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].
وقولُ الرسل لأقوامهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت: 14] ظاهره أنهم كانوا يعبدون الله في الجملة ولكنهم يشركون به. وابتداء الرسل بهذا يدلُّ أن المرسَل إليهم لم يكونوا يجحدون وجود الله عزَّ وجلّ, بل قولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [فصلت: 14] نصٌّ في أنهم كانوا يعترفون بربوبيَّة الله عزَّ وجلّ وأنه لا ربَّ غيره، ويعترفون بوجود الملائكة عليهم السلام.
وذكر الله عن المشركين أنهم دعوا آلهتهم ونادوها واتَّخذوها أربابًا وشركاء وأندادًا، وذكر أدلَّة ذلك وشرحَها بما يحسن الرجوع إليه.
وأورد على نفسه سؤالًا مضمونه: كيف تسمِّي مَن لا يعبد الله بل يقتصر على عبادة غير الله مشركًا؟ فأجاب بأنه: قد وُجد معبودان من حيث الواقع, أحدهما: معبود ذلك الشخص, والآخر: المعبود بحقٍّ الذي يعبده الملائكة ومَن شاء الله من خلقه, فصحَّ أن يُسمَّى ذلك المعبود بالباطل شريكًا، وأن يُسمَّى عابده مشركًا.
قال: وأما قول المؤمن: (لا إله إله الله وحده لا شريك له) فإنه يريد ــ والله أعلم ــ لا شريك له في الألوهيَّة، أي في المعبوديَّة بحقٍّ.
* وقرَّر الشيخ أنَّ المشركين كانوا يقصدون بعبادتهم الإناثَ الخياليّات التي زعموا أنها بناتُ الله، وأنها هي الملائكة، وأنَّه إذا جاء ذكرُ معبوداتهم غيرَ مُبَيَّن، فالأَولى أن يُفسَّر بها؛ لأنَّ ذلك هو صريح اعتقادهم، فأمَّا الملائكة فإنما عبدوهم على زَعْم أنهم هم الإناث الخياليَّة، ولم يكونوا يقصدون عبادة الشياطين، وأمَّا الأصنام فإنما كانوا يعظِّمونها تعظيمًا لتلك
(مقدمة 2/26)
الإناث على أنها تماثيل لها.
* ثم دلف المؤلف إلى بيان اعتقاد المشركين في الأصنام، وبين أنهم إنما عظموها على أنها تماثيل أو رموز للإناث الوهميات التي هي في زعمهم بنات الله عز وجلَّ، وهي عندهم الملائكة، ثم أورد الآيات التي يستدل بها بعض أهل العلم لتقرير خلاف ما قرَّره المؤلف وأجاب عن استدلالاتهم.
* ثم أطال بوجهٍ خاصٍّ الكلام على قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [غافر: 43 – 44].
* ثم أورد المؤلف على نفسه سؤالين قبل الخروج من بحث الأصنام، أولهما: أنه جاءت آثار كثيرة في شأن اللات تخالف ما قرَّره في اعتقاد المشركين في الأصنام.
والسؤال الثاني: أن لهم أصناماً مذكَّرة الأسماء كهبل ومناف، فكيف يكون هذا المذكَّر رمزاً للإناث التي هي الملائكة في زعمهم؟ .
ثم أجاب عن السؤالين بعد تقديمه كلام أهل اللغة والتفسير في اللات عن اشتقاقها، وأين كانت، ومن كان يعبدها؟
* ثم ذكر الشيخ أن المشركين كانوا يتمسحون بالأصنام ويعكفون عليها ويضمِّخونها بالطيب ويتقاسمون بالأزلام عندها، ولم يجد الشيخ نصًّا صريحًا في أنهم كانوا يسجدون للأصنام ولا أنهم كانوا يدعونها، ثم أبدى احتمال أنهم كانوا يدعونها في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
(مقدمة 2/27)
فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا … } الآيات [الحج: 73 – 76]، وحقَّق تفسيرها.
* ثم انتقل المؤلف إلى بحث اعتقاد المشركين في الملائكة وذكر أنه يتلخَّص في طمعهم في أن الملائكة يشفعون لمن يعبدهم وأن الشفاعة تنفعهم، ومعلوم أن الملائكة لا يرضون أن يُعبدوا من دون الله، فالمشركون إنما عبدوا الشيطان الذي زيَّن لهم عبادة الملائكة. وأطال المؤلِّف في بيان بطلان اعتقاد المشركين في الملائكة.
قال المؤلِّف: فلم يبق أمام المشركين إلا شبهتان، إحداهما: التشبُّث بالقدر. الثانية: التقليد، وجلَّى الشيخ المقام بإيراد الآيات الدالَّة على إبطال هاتين الشبهتين.
* ثم بيَّن الشيخ كيف كان تأليههم للملائكة، فذكر أن المشركين كانوا يشركون في التلبية في الحج بالإناث الخياليات التي هي الملائكة في زعمهم.
وكانوا يتخذون الأصنام تماثيل أو رموزاً لتلك الإناث، وكانوا يسمون عبد اللات، عبد العزى، عبد مناة، وكانوا يُقْسمون بهذه الأسماء ويذكرونها عند الذبح، وكانوا يجعلون لهم نصيباً من أموالهم يصرفونه في تطييب الأصنام.
* ثم تكلم الشيخ عن اعتقاد المشركين في أهوائهم، وأنهم أطاعوا أهواءهم لما أطاعوا رؤساءهم في شرع الدين. قال الشيخ: وإنما لم يكثر هذا المعنى في القرآن استغناءً بذكر تأليههم للشياطين، فإن تأليه الهوى يلزمه تأليه الشيطان؛ لأنه المتلاعب بالهوى.
(مقدمة 2/28)
* ثم تعرَّض لبيان اعتقاد المشركين في الشياطين وأنهم كانوا يعتقدون أنَّ ما يوحونه إليهم في شرع الدين حقٌّ، ولكن لم يعلموا أنَّ ذلك من وحي الشياطين، بل يظنُّونه من رأيهم واجتهادهم.
وفيما يتعلَّق بأعمالهم ألزمهم الله بأنهم يعبدون الشياطين لكونهم يأخذون دينهم عن غير حجة ولا برهان، بل بمجرَّد التخرُّص والتخمين.
* وبيَّن الشيخ أن العكوف على الصنم هو المكث عنده بهيئة الأدب زاعمين أنَّ ذلك تعظيم لمن جُعل الصنم تمثالاً له، بل يعدُّون ذلك عبادة لله عزَّ وجلَّ؛ لأنه في زعمهم يحب ذلك ويرضاه، ولذلك نرى مشركي الهند يتحرَّون لدعاء الله عزَّ وجلَّ أن يكون عند الأصنام.
* ثم فسر آيات النجم {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}.
واختار تفسيرها بقول ابن زيد: جعلوا لله عز وجل بنات، وجعلوا الملائكة لله بنات، وعبدوهم وقرأ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ} الآية، وقرأ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} الآية، وقال: دعوا لله ولدًا، كما دعت اليهود والنصارى، وقرأ: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
* ثم تكلم عن قصة الغرانيق، وبيَّن أن الكلمات التي ألقاها الشيطان لم تكن من القرآن، بل القرآن يبطل هذا لقوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} فبيَّن أن تلك الكلمات ــ إن صحَّت ــ من إلقاء الشيطان، ولكن قد يجوز أن يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – قال كلمات أثنى بها على الملائكة، وقد أثنى الله
(مقدمة 2/29)
تعالى على الملائكة في مواضع كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}.
فالذي يظهر من هذه العبارة أنهم لم يفهموا من تلك الكلمات إلا ما أراده – صلى الله عليه وسلم – من الثناء على الملائكة ولكنهم زعموا أن ذلك الثناء يدل على جواز اتِّخاذ الملائكة آلهة.
فالعرب إنما كانوا يعظمون هذه الأصنام الثلاثة تعظيمًا لأشخاص معظمين، وليست هذه الأصنام إلا تماثيل أو تذكارات لأولئك الأشخاص كما هو شأن عَبَدَة الأوثان في كلِّ أمة، وبذلك صرَّح المحققون.
والأقرب فيما نحن فيه أن المشركين لما كانوا يعبدون إناثًا غيبيات، قالت الشياطين: ليست هناك إناث غيبيَّات إلَّا منّا، أما الملائكة فليسوا بإناث، فكلما قال المشركون: فلانة بنت الله ــ تعالى الله عما يقولون ــ وعبدوها، عيَّنت الشياطين واحدة من إناثهم كأنها هي تلك الأنثى التي يعبدها المشركون.
ونجد القرآن مملوء بمحاجة المشركين في تأليه الملائكة وقلَّما نجده حاجَّهم في تأليه الجمادات.
* ثم تكلم عن عبادة الشياطين وأوضح أن الأشخاص الغيبية التي عبدها العرب ليست هي الملائكة لأنها إناث والملائكة ليست كذلك، ولأنها بنات الله في زعمهم وليست الملائكة كذلك.
فعبادتهم في الحقيقة إنما هي عبادة للشياطين، أوَّلًا: لما تقدم مرارًا أنهم أطاعوا الشياطين الطاعة التي هي عبادة.
(مقدمة 2/30)
ثانيا: أن الشياطين أنفسهم تصدَّوا لهذه العبادة قائلين: إن هؤلاء يعبدون إناثا غيبيات وليس هناك إناث غيبيات إلا من الشياطين فعرَّضوا إناثهم لتلك العبادة.
* ثم انتقل إلى الكلام على عبادة الهوى وفسره بأن يطيعه ويبني عليه دينه، لا يسمع حجة ولا ينظر دليلاً.
* ثم شرع في تفسير عبادة الأصنام, فذكر أنهم كانوا يعبدون الأصنام على أنها تماثيل للإناث الخياليات، أعني ما زعموه أن لله بنات وأنهن هن الملائكة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
* ثم ذكر أسباب تعظيم المجوس للنار. وعبادةَ بني إسرائيل العجل، هل كانت بدعوى أن الله حل في العجل، أو أن العجل رمز لله؟ وناقش المسألة من جوانب عدَّة.
* ثم دلف إلى الكلام على عبادة الأناسي الأحياء وأرواح الموتى, وبيَّن أنهم كانوا يزعمون أن أولئك الموتى يشفعون لمن يعبدهم، أو أن الله عز وجل يثيب من يعبد أولئك الموتى لما كانوا عليه من الصلاح.
* ثم تحدث عن تأليه المسيح وأمه, وذكر أن النصارى يؤلِّهون مريم ويعبدونها كما يؤلِّهون عيسى ويعبدونه، وقد عُلم أنهم لم يقولوا في مريم إنها واجبة الوجود ولا قديمة ولا أنها جزء من الله تعالى، ولا أنها تخلق وترزق وتنفع وتضرُّ وتغفرالذنوب، فثبت بذلك أن التأليه والعبادة لا يتوقفان على اعتقاد شيء من هذه الصفات في المعبود وأن اعتقادهم هذه الصفات في عيسى أمر زائد على التأليه والعبادة.
(مقدمة 2/31)
ومن عبادتهم عيسى عليه السلام إشراكُهم إياه في كلِّ عبادة تكون لله تعالى لزعمهم أنه جزء منه وتعظيمهم لصورته ولصورة الصليب لمشابهتها للصليب الذي صُلِب عليه فيما زعموا.
ومن تعظيمهم لأمه تعظيمُ صورتها والاستغاثة بها.
* ثم استفاض في الكلام على قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}.
وحاصل المعنى: أنَّ مَن علم الله منه الأمر بالشرك لم يؤته النبوة، ومَن آتاه النبوة عصمه عن الأمر بالشرك.
* ثم عقد عنوانا في تأليه الأحبار والرهبان وبيَّن أن اتِّخاذهم بعضهم بعضاً أربابا هو ما كان بطاعة الأتباع الرؤساءَ فيما أمروهم به من معاصي الله وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله.
* ثم فسَّر عبادة الأحبار والرهبان كيف تكون؟ وبيَّن أنَّ شرع الدين خاصٌّ بالربِّ, فمن ادَّعى أنَّ له حقًّا أن يشرع وأنَّ ما شرع يكون دينا فقد ادَّعى الربوبية, ومَن قال في شخص إنَّ له حقًّا أن يشرع وأنَّ ما شرعه يكون دينًا فقد اتخذه ربًّا وجعله شريكًا لله عزَّ وجلَّ.
* ثم تناوَل المؤلِّف تفسير عبادة القبور والآثار بإيجاز, مبيِّنًا أنها عُبِدت تعظيمًا للأشخاص التي هي تماثيل لهم.
* وفَسَّر عبادة الجنِّ، وأنها تقع بالاستعاذة بهم والنذر لهم والذبح لأجلهم زعمًا أنَّ مَن قرَّب للجن شيئًا فإنهم ينفعونه ويكفُّون عنه أذيَّته أو يدفعون عنه ضرر بعضهم أو يبيِّنون لهم شيئًا مغيَّبًا بواسطة الكُهَّان.
(مقدمة 2/32)
* وبيَّن الشيخ أن الذين عبدوا الكواكب إنما عبدوها لأنها بمثابة الأجسام للملائكة التي هي أرواح, ومثّل بعضُهم الكواكب بصور معينة تخيّلوها ويعبدون تلك التماثيل.
* وأوضح الشيخ أنَّ قوم هود كانوا يعبدون أشخاصًا لا وجود لها, وكانوا يعتقدون في آلهتهم نوعًا من القدرة على النفع والضر, ولعلَّ ذلك كان على معنى أنَّ آلهتهم يسألون الله أن ينفع أو يضرَّ.
* ثم تحدَّث الشيخ عن ديانة المصريِّين وعبادتهم في عهود إبراهيم ويوسف وموسى عليهم السلام, وفصَّل الشيخ تفصيلًا بديعًا في دعوى فرعون الإلهيّة وحقيقتها, وأنه شرع لقومه أن يعبدوه, وهو يعبد الملائكة.
* ثم تعرَّض الشيخ لبيان تأليه العرب الإناثَ الخياليَّات, وقد وبَّخ الله هؤلاء المشركين على قولهم: إن لله ولدًا, ثم على قولهم: إن ذلك الولد إناث, ثم على قولهم: الملائكة إناث, ثم على قولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} فدلّ أنَّ كلّ أمر من هذه الأمور منكر على حِدَة, وتأليهُ الشيء وعبادته لا يتوقَّف على زَعْمِ أنه واجب الوجود أو أنه الخالق, أو خالق آخر, أو ابن الخالق, أو نحو ذلك.
* ثم فسَّر الشيخ كيف كانت عبادة الملائكة, وبيّن أن عُبَّاد الملائكة ما عدا أتباع أرسطو فريقان: فريق يزعمون أن الملائكة يتصرَّفون باختيارهم, وفريق لا يثبتون للملائكة اختيارًا إلَّا في الشفاعة, ومنهم مشركو العرب.
* ثم عقد عنوانًا سماه: (تفسير عبادة الشيطان) , وذكر لها وجوهًا: أولها: طاعة الشياطين في شرع الدين على نحو ما مرّ في الأحبار والرهبان.
(مقدمة 2/33)
والوجه الثاني: أن الشياطين رأت أنه لا وجود لما يدّعيه المشركون من الإناث الغيبيات بزعم أنهن بنات الله وأنهن الملائكة, فعمدت شيطانة فتسمَّت بالعزّى ولزمت الصنم المجعول للعُزَّى, وقس على ذلك.
* ثم بيّن الشيخُ أنَّ عبادة الهوى: طاعته فيما لا ينبغي أن يُطاع فيه إلا الربّ, وأنها من قبيل عبادة الأحبار والرهبان.
* وبعد شرحه المستفيض لعبادات أصناف المشركين والكفار ابتداء من قوم نوح وانتهاء بقوم عيسى عليهما السلام؛ عقد عنوانا سماه: (تنقيح المناط) (1) , وهو بيت القصيد في كتابه, أراد به تحديد ما يدخل في العبادة وما لا يدخل فيها, فقال: «مدار التأليه والعبادة على أمرين:
الأول: الطاعة في شرع الدين, والمراد بالدين: الأقوال والأفعال التي يُطلَب بها النفع الغيبي, والمراد بالنفع الغيبي ما كان على خلاف العادة المبنيَّة على الحسّ والمشاهدة.
والأمر الثاني: الخضوع أو التعظيم على وجه التديُّن .. ».
إلى أن قال: «وتحرير العبارة في تعريف العبادة أن يقال: خضوع اختياري يُطلَب به نفع غيبي, أي من شأنه أن يُطْلَب به نفع غيبي, سواء كان الخاضع طالبًا بالفعل بأن يكون له اعتقاد أو ظنّ واحتمال أن ذلك الخضوع سبب لنفع غيبي, أو يكون في حكم الطالب بأن يكون المعهود في ذلك
_________
(1) تنقيح المناط: هو الاجتهاد في تحصيل العلَّة التي ربط بها الشارع الحكمَ وإلغاء ما لا يصلح للاعتبار. انظر: شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني 2/ 292, وشرح الكوكب المنير 4/ 131.
(مقدمة 2/34)
الفعل أنه يُطلَب به نفع غيبي, كالسجود للصنم إذا فعله الخاضع عنادًا أو خوفًا من ضرر لا يبلغ به حدَّ الإكراه, أو مداهنةً, أو طمعًا في نفع دنيوي كمن يُجعَل له مال عظيم على أن يسجد لصنم, أو هزلًا ولعبًا».
قال: «وهذا تعريف للعبادة من حيث هي, فإن أريد تعريف عبادة الله عز وجل زِيد: (بسلطان) , أو أريد تعريف عبادة غير الله زِيد: (بغير سلطان) .. ».
* ثم فسَّر الإله بالمعبود, فمَن عبد شيئًا فقد اتخذه إلهًا وإن لم يزعم أنه مستحق للعبادة, ومَن زعم أنه مستحق للعبادة فقد عبده بهذا الزعم, وهكذا من أثبت لشيء تدبيرًا مستقلًّا بالخلق والرزق ونحوهما, فإنَّ هذا التدبير هو مناط استحقاق العبادة, وكذا مَن أثبت لشيء أنه يشفع بلا إذن وأنَّ شفاعته لا تردُّ ألبتة؛ لأنَّ ذلك في معنى التدبير المستقلّ.
والحاصل أن الخضوع لغير الله عز وجل طلبًا لنفعٍ غيبيٍّ إن كان بسلطانٍ من الله عزَّ وجلَّ فذلك عبادة لله عز وجل, قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] , وإن كان بغير سلطان من الله عز وجل فذلك عبادة لغير الله عز وجل.
ثم استطرد في ذكر ما يؤيِّد به كلامه من كلام أهل العلم.
* ثم عقد فصلًا في القيام الذي هو في حقيقته قريب من السجود في المعنى, وبيّن ما يجوز منه وما لا يجوز, وقَرَّر أن القيام إلى الشخص القادم لاستقباله والترحيب به ليس مثلَ القيام له الذي هو تعظيم له بنفس القيام, وهو يشبه القيام لله عزَّ وجلَّ في الصلاة.
* ثم عقد فصلًا طويلًا في الدعاء, وذكر أنه ألجأه إلى الإطالة ما رآه من اضطراب المفسرين وغيرهم في تفسير الدعاء وتوجيه كونه شركًا.
(مقدمة 2/35)
وقد اتَّفق أهل اللغة على أنَّ أصل الدعاء بمعنى النداء, وذكر آيات كثيرة تفيد أنَّ الدعاء فيها بمعنى السؤال والاستعانة, ولاسيَّما في الآيات التي فيها ذكرُ الاستجابة.
* ثم وضع عنوانًا في أحكام الطلب, ومتى يكون دعاء؟ وبيَّن فيه أنَّ دعاء الحيّ الحاضر ما لا يقدر عليه ودعاء الأموات والغائبين مطلقًا شرك بالله.
* وتعرَّض لبيان مسألة التوسُّل, والأحاديث الواردة فيها.
* وأجاب عن الأحاديث والآثار التي يستدلُّ بها مَن يدَّعي سماع الموتى لمن خاطبهم, وقال: مَن قاس الأموات على الأحياء فهو كمَن قاس الملائكة على البشر. ولو كانت أرواح الموتى تتصرَّف بهواها لفسد الكون, بل ولهاجت الفتن بين الأرواح.
قال: ولو لم يكن في اجتناب ما قيل إنه شرك إلا سدُّ باب الاختلاف بين الأمَّة في هذا الأمر لكان من أعظم القربات عند الله عزَّ وجلَّ.
* ثم عقد فصلًا في الشبهات وردِّها, تضمَّن بيان شُبه عُبَّاد الأصنام وعُبَّاد الأشخاص الأحياء, والنصارى في عبادتهم الصليب, وشبهة للنصارى واليهود في شأن الأحبار والرهبان, وشُبه عَبَدَة الملائكة, ثم أجاب الشيخ على هذه الشُّبَه بكلام قويٍّ متين.
* ثم عقد فصلًا في السلطان الفاصل بين ما هو عبادة لله وما هو عبادة لغيره.
قال: الفرق بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره هو السلطان، فكلُّ عبادة
(مقدمة 2/36)
كان عند صاحبها سلطان بها من الله تعالى فهي عبادة لله عزّ وجلّ، وكلُّ عبادة ليست كذلك فهي عبادة لغير الله تعالى، والسلطان هو الحجة، وقد تكون الحجة يقينيَّة وقد تكون ظنيَّة، وفصَّل في أنواع الأدلَّة.
ثمَّ ذكر أنَّ القطع بـ «لا إله إلا الله» يستدعي القطع بثلاثة أمور:
الأول: أنه لا مدبِّر في الكون استقلالًا إلَّا الله عزّ وجلّ.
الأمر الثاني: القطع بأنه لا مستحقَّ للعبادة إلَّا الله عزّ وجلّ.
الأمر الثالث: العلم بحقيقة العبادة.
* ثمَّ بيّن أن التديُّن بشيء لا دليل عليه، أو عليه دليل باطل, شركٌ. ولا يُستثنى من ذلك المبتدعُ الذي قامت عليه الحجة فأصرّ على التديُّن بها. ونقلَ نقلًا طويلًا عن الشاطبي يوضِّح فيه مقتضى فعل المبتدع وما يلزم من كلامه من لوازم خطيرة. ثم نقل نقلًا آخر طويلًا عن الصارم المسلول, بيَّن فيه حكم مَنْ يكذب على النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – .
ثم قال: «والحاصل أنَّ السلطان هو الحجة التي يُحتجُّ بها في فروع الفقه. وينبغي للمقلِّد أن يحتاط في مواضع الاختلاف.
والقرآن يقسم الكفر إلى ضربين: الكذب على الله، والتكذيب بآياته.
والتكذيب قد يكون باللفظ فقط، كمن يقول: إنَّ الله لم يفرض صلاة الظهر، وهو نفسه يصلِّيها, وقد يكون بالفعل فقط كمن ألقى مصحفًا في قاذورة, وقد يكون بالاعتقاد فقط كأن يعتقد أنَّ الله لم يفرض الظهر, وقد يكون بالثلاثة معًا، أو باثنين منها معًا».
(مقدمة 2/37)
* ثم عقد فصلًا تحدَّث فيه عن أحوال مَن يُعذر بالجهل أو الخطأ أو التأويل, والآيات والأحاديث الدَّالَّة على ذلك, وذكر أنَّ مدار العذر على الجهل يكون مع عدم التقصير في النظر.
وقال: «مَن رضي بالإسلام دينًا ولو إجمالًا فالأصل فيه أنَّه معذور في خطئه وغلطه, ومَن لم يرض بالإسلام دينًا فالأصل فيه أنَّه غير معذور, ولا يخرج أحدُهما عن أصله إلا ببيان واضح.
وقد كان – صلى الله عليه وسلم – يحكم فيمن أسلم أنه على إسلامه, وإن ظهر منه خلاف ذلك, ما لم يتضح أمره».
* ثم عقد بابًا في ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شرك وأشكل تطبيقها على الشرك, وبدأ بتمهيد أوضح فيه أنَّ كون الشيء سببًا أو علامة قد يكون تديُّنًا، وهو ما يرجع إلى اعتقاد بأمر غيبي, وقد لا يكون تديُّنًا وهو ما يرجع إلى أصل عاديٍّ مبنيٍّ على الحسّ والمشاهدة, وقد يُتردَّد في بعض الظنون: أمن الضرب الأول هو، أم من الثاني؟
* ثم تحدَّث عن الطِّيَرة, وأورد الأحاديث التي تفيد أنها شرك, ثم علَّل ذلك بأنها تديُّن بما لم يشرعه الله؛ لأن المتطيِّر يظنُّ أن الطائر سبب أو علامة, وهذا الظنُّ لا يُعرف له توجيه من الأصول العاديَّة المبنيَّة على الحسّ والمشاهدة, فيكون من قسم التديّن. وجعل الشارع ضابط حصول الظن هو العمل به. قال معاوية بن الحكم: «ومنَّا رجال يتطيَّرون» , فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : «ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدَّنّهم». ثم ذكر تفريعات وتفصيلات في العلاقة بين التطير والتفاؤل.
(مقدمة 2/38)
* ثم عقد مبحثًا في الرقى, أورد فيه أحاديث يدل بعضها أن مِن الرقى ما هو شرك, وفي بعضٍ آخر منها الإذن بالرقى.
قال: «وتفسير ذلك أنَّ الرُّقى على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: الرقية بكتاب الله تعالى وذكره ودعائه اللَّذَين أُذن في مثلهما، فهذا حق وإيمان، ولكن الأولى بالمؤمن ألَّا يسأل غيره أن يرقيَه، كما تقدَّم إيضاحه في الدعاء.
الضرب الثاني: ما كان فيه تعظيم لغير الله عزّ وجلّ، فهذا إن كان مما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو كالأوَّل، وإلَّا فهو شرك …
الضرب الثالث: ما كان من الرقى كلمات عربية ليس فيها تعظيم ولا مدح، فإن كان يرى أو يجوِّز أنَّ لتلك الكلمات أثرًا يستند إلى غيبيٍّ كالروحانيين والجنِّ والكواكب ونحوها، فحكمه كالقسم الثاني، والله أعلم. وإن كان لا يجوِّز ذلك … فالحكم في هذا مشتبه … والذي أختاره الآن المنعُ من هذا، والله أعلم».
* ثم انتقل من ذلك إلى عقد عنوان في التمائم, وبيّن أن التميمة خرزة مخصوصة, وهي ممنوع منها مطلقًا. وقيل: بل كلُّ ما يُعلَّق رجاء للنفع. وأورد آثارًا عن السلف أنهم كانوا يكرهون التمائم كلَّها من القرآن وغير القرآن, وفصَّل آخرون في تعليق ما يُكتب من القرآن والدعاء, فقالوا: إن عُلِّق قبل البلاء فهو تميمة منهيٌّ عنها, وإن عُلِّق بعد البلاء فلا حرج فيه, ونقل عن عائشة ما يدلُّ على ذلك.
ومال المؤلف إلى هذا التفصيل بشرط ألّا يكتب إلا ما ثبت من الشرع
(مقدمة 2/39)
التبرك به من القرآن والدعاء الخالي عما لم يأذن به الله تعالى, وبشرط ألّا يتحرَّى شيئًا لا سلطان من الله تعالى على تحرِّيه مِن مكان أو زمان أو هيئة مخصوصة, فإذا تحرَّى شيئًا لم يجئ به سلطان من الله كانت المعاذة في معنى الخرزة.
قال: «وعامَّة كتب العزائم والتعاويذ على خلاف الشريعة, وفي كثير منها الكفر البواح والشرك الصُّراح».
* ثم عقد فصلًا في التِّوَلة والسحر, أورد فيه حديث ابن مسعودٍ الذي فيه أن التِّوَلة شركٌ, وهي ما يحبِّب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره.
فإن تحبَّبت المرأة إلى زوجها بما لم تجر به العادة, بل بما هو مستندٌ إلى قوَّةٍ غيبيَّةٍ ففيه تفصيلٌ؛ فإن جاء سلطانٌ من الله بالإذن فيه فذاك, وإلا فهو من التِّوَلة. وإنما جاء السلطان بالإذن في الدعاء المجرَّد عن البدع والخرافات وفي كلِّ ما هو طاعةٌ لله عزَّ وجلَّ كالصلاة والصيام والصدقة. وكلُّ ما لم يجئ به سلطانٌ فهو من التِّوَلة, وهي شركٌ؛ لأنها تتضمَّن خضوعًا يطلب به نفعٌ غيبيٌّ لم يُنزل الله به سلطانًا, وتتضمَّن طاعةً للشيطان والمعزِّمين والعجائز ونحوهم فيما يطلب به نفعٌ غيبيٌّ ولم ينزل الله تعالى به سلطانًا. ونقل عن ابن حجرٍ الهيتميِّ أنَّ السحر إن اشتمل على عبادة مخلوقٍ أو اعتقاد أنَّ له تأثيرًا بذاته أو تنقيص نبيِّ أو ملَكٍ, أو اعتقد الساحر إباحة السحر بجميع أنواعه, كان كفرًا وردَّةً. ثم عرَّج ابن حجرٍ على بيان مذاهب الأئمَّة في السحر والسحرة. ثم فصَّل المؤلِّف مضامين ما نقله عن ابن حجرٍ وناقشه في بعضه. ثم عقد مبحثًا مطوَّلًا في حكم السحر وتعليمه وتعلُّمه وتوابع ذلك.
(مقدمة 2/40)
ثم انتقل إلى المسألة الأخيرة في هذا الباب الكبير, وهي مسألة القَسَم بغير الله, وأورد الأحاديث الناهية عن الحلف بغير الله وكفارة مَن حلف بغير الله.
ومال الشيخ إلى التشديد في هذه المسألة, وأنَّ مَن حلف بغير الله غيرَ جاهلٍ ولا ذاهلٍ أنَّه يخرج من الملَّة, وذكر أنه يؤخذ من تبويب البخاريِّ لهذه المسألة واحتجاجه بحديث عمر «مَن حلف بغير الله فقد أشرك» أنه يرى هذا الرأي.
* ثم عقد عنوانًا في حقيقة القَسَم وأنَّ أصل المقصود منه التوكيد اتِّفاقًا, ولذلك سمِّي يمينًا أخذًا من اليمين بمعنى القوَّة, ويمكن أن يكون من اليد اليمين لما جرت به العادة من الصَّفْق باليمين عند المحالفة.
* وبيَّن المؤلِّف أن التوكيد في الحلف يستفاد من اعتقاد الحالف ومخاطَبيه في المقسَم به أنه ذو قدرةٍ غيبيَّةٍ, فمعنى الحلف به جَعْلُه كفيلًا وشاهدًا على الحالف بألَّا يُخْلِف ولا يَكْذب.
وإنما يثق المحلوف له باليمين لأنه يعلم أن الحالف يُجِلُّ المحلوف به ويخاف سطوته الغيبيَّة, فيبعُد أن يجعله كفيلًا ثم لا يفي له أو شهيدًا على الكذب, وعلى فرض أن الحالف يجترئ على ذلك فالمحلوف به يعاقبه ويوفي المحلوف له حقَّه من عنده.
* ثم وجَّه المؤلف لفظ: (وأبيه) أو (وأبيك) الوارد في بعض الأحاديث, ورجَّح أنه مقحمٌ, قال: وكأن الباعث على الإقحام أنَّ واو القسم لا تدخل على الضمير، فتُوُصِّل إليه بإقحام لفظ الأب, وباعثٌ آخر معنويٌّ, وهو تبعيد إيهام التعظيم, فإنه يتوهَّم تعظيم المخاطَبين لأنهم مسلمون,
(مقدمة 2/41)
بخلاف آبائهم المشركين. ثم تعرَّض لتوجيه لفظ: (لعمري) أو (لعمرك) أو (لعمر الله)، وذكر تفاصيل أخرى مهمَّةً.
ب- منهج المصنف في كتابه:
1 – بنى منهجه على الاستقراء والتتبُّع، قال في وصفه: «هو كتاب من تأليفي، استقرأت فيه الآيات القرآنية ودلائل السنة والسيرة وغيرها لتحقيق ما هي العبادة، ثم تحقيق ما هو عبادة لله مما هو عبادة لغيره» (1).
وفصَّل هذا المنهج الاستقرائي في محاضرة أعدَّها لإلقائها في مؤتمر دائرة المعارف السنوي فقال: «فرأيت أنه لا طريق لتحقيق معنى الكلمتين «إله وعبادة» إلّا بتتبع مواردهما في القرآن مع ما قصَّه عمن أخبر عنهم أنهم اتخذوا الأصنام أو غيرها آلهة, وأستعين مع ذلك بالسنة والتاريخ، فإذا وجدت القرآن قد أخبر عن مشركي العرب أنهم اتخذوا الأصنام آلهة وعبدوها جهدت أن أعرف ماذا كانوا يعتقدون في الأصنام وماذا كانوا يعملون لها، فإذا تيسَّر لي ذلك علمت أن ذلك الاعتقاد والعمل مشتمل على التأليه والعبادة، ثم أَكُرُّ على ذلك بأن أخرج منه ما يُقطع بأنه لا دخل له في ذلك مثل اعتقاد أن الأصنام أحجار، ثم أصنع ذلك في أمَّةٍ أمَّةٍ من الأمم التي قصَّ القرآن بعض أخبارها، وفي كل نوعٍ نوعٍ من الأشياء التي نصَّ القرآن على أنها اتُّخِذت آلهة وعُبدت من دونه، ثم أستخلص القدر المشترك بين الأمم فهو الشرك والعبادة. هذه صورة إجمالية لطريقتي في الكتاب المذكور» (2).
_________
(1) «التنكيل» 2/ 435.
(2) دفتر مسوَّدات محاضرة … ص 33 ويحمل الرقم العام 4930 في مكتبة الحرم المكي الشريف.
(مقدمة 2/42)
2 – انتهج فيه اتِّباع الكتاب والسنة دون تقليد لأحد، قال في ختام مقدمته لكتاب العبادة (س 24 ب): «مستقيًا لها من عين الأدلَّة، غير مقلِّد لأحد في هذا الأمر».
3 – مع اهتمامه بنقد بعض القواعد والأصول التي يستند إليها بعض الناس في عقائدهم كالتقليد والحديث الضعيف والكشف والإلهام، حرص على استثمار الأصول العلمية المبنيَّة على المقدِّمات الصحيحة التي تفضي إلى نتائج سليمة فعلًا وتركًا، فقد قال في بيانه للأصل الثاني: «الصراط المستقيم» من نسخة (ب) غير المرقَّمة: «فالأمر بقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يتضمّن الأمر بلزوم الصراط المستقيم وتعرُّفه بما أمكن من الأسباب، وتجنُّب ما يخالفه، ثم أعلمنا سبحانه أن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم عليهم، والمُنْعَم عليهم من هذه الأمة يقينًا هم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، فكل شيء علمنا أنه من صراط النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه فهو من الصراط المستقيم، وكل ما خالف ذلك فهو من السبل المخالفة لسبيله، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وفي الحديث: «عليكم بسنتي» ثم قال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.
إلى أن قال:
والحكم بأنَّ هذا الأمر من صراط النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه لا بدَّ له من نَقْلٍ ثابت، وأما الحكم بالنفي فيكفيه عدمُ النقل على ما أوضحناه في رسالة «بيان البدعة»، حيث قرَّرنا هذا الأصل مبسوطًا، وإنما نبَّهتُ عليه هنا لأنه قد يجيء في الرسالة الاحتجاج على بعض الأمور بأنها لم تُعْرَف في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإذا رأيت ذلك فينبغي أن تعلم أنه برهان متين لا ينبغي
(مقدمة 2/43)
للمسلم أن يتهاون به قائلًا: (قال فلان من العلماء كذا) أو (قال فلان من الأولياء كذا) ونحو ذلك».
4 – التزم المؤلف في الكتاب الدلالة على مواضع الآيات التي يسوقها، ويخرِّج الأحاديث من دواوين السنة، ويعزو الأقوال إلى مصادرها.
* سادسًا: موارد الكتاب
بنى المؤلِّف كتابه على جملة كبيرة من كتب أئمَّة العلم، وأحسن توظيفها واستعمالها.
فاعتمد في التفسير وعلوم القرآن في المقام الأوَّل على تفسير الطبري، يليه روح المعاني للآلوسي، ثم حواشي الشيخ زاده على تفسير البيضاوي.
ورجع إلى الكشَّاف في مواضع قليلة وبخاصَّة في القضايا اللغويَّة، كما استفاد من تفاسير البغوي والبيضاوي وابن كثير وأبي السعود والخازن والبقاعي وطنطاوي جوهري. ونقل من الإمعان في أقسام القرآن للفراهي.
واستقى من متون كتب السنة بكثرة كالموطَّأ، والصحيحين، وجامع الترمذي، وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، ومسند أحمد، ومسند أبي داود الطيالسي، ومستدرك الحاكم، وسنن البيهقي، وسنن الدارمي، والدارقطني، والمصنَّف لابن أبي شيبة، وشرح السنة للبغوي، ومعاجم الطبراني، والحلية لأبي نعيم، ومشكاة المصابيح، وبلوغ المرام للعسقلاني.
ومن شروح الحديث: فتح الباري بشرح صحيح البخاري, وشرح مسلم للأبِّيِّ والسنوسي، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، والتيسير كلاهما للمناوي, وحواشي ابن ماجه للسندي.
(مقدمة 2/44)
ومن كتب السيرة: سيرة ابن هشام، والدلائل لأبي نعيم، والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، والروض الأنف للسهيلي، وشرح الشفا للقاري, والهدي النبوي لابن قيم الجوزية.
ومن كتب علوم الحديث والتراجم والتخريج: علوم الحديث لابن الصلاح، وفتح المغيث للسخاوي، وشروط الأئمة الخمسة للحازمي، والقول المسدَّد (في الذَّبِّ عن مسند أحمد) لابن حجر، والضعفاء للعقيلي، وطبقات ابن سعد، والثقات لابن حبان، وميزان الاعتدال للذهبيِّ، ولسان الميزان، وتعجيل المنفعة، وتهذيب التهذيب، والإصابة في تمييز الصحابة، أربعتها لابن حجر العسقلاني، والمقاصد الحسنة للسخاوي، وصفة الصفوة لابن الجوزي، والتلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، وتوالي التأسيس في معالي ابن إدريس، كلاهما لابن حجر العسقلاني.
ومن كتب الآداب والأخلاق: مختصر جامع بيان العلم للمحمصاني، والزواجر لابن حجر الهيتمي, والبدور البازغة لولي الله الدهلوي.
ومن كتب الفلسفة وغلاة الصوفية: الفتوحات المكِّيَّة لابن عربي الطائيِّ، والذخيرة لعلاء الدين الطوسي، والإنسان الكامل للجيلي، وتنبيه المغترِّين للشعراني.
ورجع في متن اللغة وغريب القرآن والحديث والمصطلحات إلى المخصَّص لابن سيده, والمفردات للراغب الأصفهاني, والمصباح المنير للفيُّومي, ولسان العرب لابن منظور, والقاموس المحيط للفيروزابادي, وتاج العروس شرح القاموس للزبيدي, والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير, ودستور العلماء لعبد ربِّ النبي الأحمَد نَكَري.
(مقدمة 2/45)
ورجع إلى مغني اللبيب لابن هشام في الأدوات.
ورجع في أصول الفقه إلى: الرسالة للشافعي، والمستصفى للغزالي، والموافقات للشاطبي، وشرح المحلِّي على جمع الجوامع، مع حاشيتي البناني والعطَّار، وإحكام الأحكام للآمدي، وإعلام الموقعين لابن قيم الجوزية.
ومن كتب الفقه: الأمُّ للشافعي، والأنوار للأردبيلي، بواسطة الهيتمي، وحواشي الشرواني على التحفة، وإبطال الاستحسان (من الأم)، والمغني (مغني المحتاج إلى معرفة المنهاج) للشربيني، والهداية للمرغيناني، والعناية شرح الهداية للبابرتي، وردُّ المحتار (حاشية ابن عابدين) على الدُّرِّ المختار للحصكفي.
ومن كتب السنَّة والاعتقاد وعلم الكلام والأديان والفِرق: نهاية الإقدام للشهرستاني، والنونية لابن القيم، وشرح المقاصد للتفتازاني، وشرح المواقف للسيد الشريف، وشرح جوهرة التوحيد لابن الناظم، وحواشي الأمير على شرح الجوهرة، وحواشي البيجوري على الجوهرة، و (الفصل في) الملل والنحل لابن حزم، وكتاب ابن وضَّاح (البدع)، والصارم المسلول لابن تيمية، نقل عنه نقلًا طويلًا يتعلَّق بحكم الكذب على النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ، والاعتصام للشاطبي، والملل والنحل للشهرستاني، والمواقف للعضد الإيجي، وحاشية حسن جلبي على المواقف، وسِفر التكوين من أسفار التوراة.
هذه هي أهمُّ الكتب التي نهل منها وانتفع بها، أو ناقش مؤلفيها ولا يلزم من النقل عن بعض تلك الكتب تزكية لها، بل قد يكون ذلك للرَّدِّ على ما
(مقدمة 2/46)
ينقله، أو إقامة الحجَّة على مَن يعظِّم أصحاب تلك الكتب إذا نقل منها ما يؤيِّد الحقَّ.
* سابعًا: طبعات الكتاب:
للكتاب طبعتان فيما علمتُ:
1 ــ طُبع مائة صفحة من أوَّل مخطوطة الكتاب عام 1423 هـ عن المكتبة العصريَّة بتحقيق الداني بن منير آل زهوي، وبذل فيه جهدًا مشكورًا في التخريج والتوثيق، ولم تتيسَّرْ له القراءة الصحيحة للنصِّ في بعض المواضع، ومن أمثلة ذلك:
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th
51 … 9 … … فالأمر في هذا ربما يستغرب … بالقاف لا بالغين، وهي واضحة في المخطوط، والمعنى لا يستقيم بهذا التصحيف.
64 … 1 … … ما يُعلم منه أن الضمائر على. . . … ما يُعلم منه أن الضمائر للملائكة
64 … 7 … … بعد نقل تبويبٍ بوَّبه البخاري: (ففي صحيحه إشارة واضحة) … ففي صنيعه إشارة واضحة.
64 … 8 … … الإنكار … إلى الملائكة
64 … 9 … … سقط ما في خانة الصواب … ورأيتُ في بعض تعاليقي نَقْلَ مِثل قولِ مقاتل عن ابن عباس رضي الله عنه، ولم أستحضر الآن من أين نقلته.
(مقدمة 2/47)
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th
115 … 3 … … في تصديقها إلَّا ناله ما يكره … في صحتها إلَّا ناله بما يكره
144 … 4 … … نقول لمن لا يقدر لنا على ضر … نَذِلُّ لمن لا يقدر لنا على ضرٍّ
2 – طبعة دار العاصمة لكتاب «العبادة»:
اشتريت هذه الطبعة يوم الأربعاء الموافق 11/ 4/1432 هـ بعد أن صحَّحتُ تجربتين للكتاب وخدمتُه خدمة يسيرة، وعملتُ له فهارس ومقدِّمة لم تُحرَّرْ، فتصفَّحتُه فعرفتُ أنه نَشْر للدفاتر الأربعة المعروفة منذ أكثر من ربع قرن عند المهتمِّين بتراث المعلِّمي.
وقد كان اشتهر عند طلبة العلم أنَّ الكتاب تنقصه ثلاثة دفاتر تلي الدفتر الأوَّل، وكانت هذه المعلومة دقيقة وصحيحة، وكان ذلك من أسباب عزوف أهل العلم وطلبة الدراسات العليا عن القيام بتحقيقه للنقص الكبير فيه.
قام بتحقيق هذه الطبعة الشبراوي بن أبي المعاطي وقدَّم له الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد. وهذه الطبعة جيِّدة، لولا ما شابها من الدعوى العريضة أنَّه يُطبع لأوَّل مرَّة كاملًا. بالإضافة إلى ملاحظات أخرى سأذكرها بعد مناقشة دعوى طبع الكتاب كاملًا.
والدليل المقدَّم على طبعه كاملًا ما قاله المحقِّق في حاشية ص 77 أثناء
(مقدمة 2/48)
وصفه للنسخة الخطِّية للكتاب: «سقط من ص 91 – 397، وذلك عند ما تكلَّم الشيخ المعلمي على الحديث الضعيف، وهذا الجزء استلَّه الشيخ رحمه الله من الكتاب، وجعله في جزء مفرد، وذلك لأنَّ الشيخ توسَّع في هذا المبحث جدًّا»، ثم قوَّى حجَّته بما نقله عن المؤلف من قوله في رسالة (بيان البدعة): «فإني ألَّفت رسالة في «رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله»، ونبهتُ في مقدِّمتها على الأمور التي يحتجُّ بها الناس ويستندون إليها وهي غير صالحة، فجاء في ضمن ذلك الحديث الضعيف، فرأيت الكلام فيه يطول، فأفردتُه في رسالة» إلى آخر ما نقله من كلامٍ آخر لا تعلُّق له بمسألتنا.
والظاهر أنَّ المحقِّق يفهم من إفراد أحكام الحديث الضعيف برسالة خاصَّة أنَّ ذلك استلالٌ لها من الكتاب، وليس ذلك بلازم؛ فإن المؤلِّف بصدد الكلام على أمور يستند إليها بعض الناس وهي ليست صالحة للاستناد، فذكر منها التقليد، والرأي المجرد، وتفسير الكتاب والسنة بغير علم، والرؤى والمنامات، والكشف، وخوارق العادات، والحديث الضعيف، وقد فصَّل في حكم الحديث الضعيف بما يناسب المقام فكتب فيه تسع صفحات بحسب المطبوع، فكيف يقال: إنه استلَّ هذا الجزء؟
وكونه ذَكَر في كتابٍ آخر له أنه أراد إفراد هذا المبحث بتأليف مستقلٍّ لا يُسوِّغ لنا دعوى أنَّ ثلاثمائة الصفحة المفقودة من الكتاب كلُّها في الحديث الضعيف، وأنَّ المؤلف استلَّها وجعلها هي نفسها كتابًا آخر، كيف والجزء المُدَّعى استلالُه قد وصلت إلينا مخطوطته، وهي لا تكاد تزيد على ثمانين صفحة إن سَلِمتْ من التكرار.
(مقدمة 2/49)
وتأمَّلْ أيُّها القارئ مقدِّمة رسالة العمل بالحديث الضعيف لترى هل هي رسالة مستقلَّة أو هي مستلَّة من كتاب العبادة:
«بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فهذه رسالة في أحكام الحديث الضعيف، جمعتها لما رأيت ما وقع للمتأخرين من الاضطراب فيه، فنسب بعضهم إلى كبار الأئمة الاحتجاج به، ونسب غيره إلى الإجماع استحباب العمل به في فضائل الأعمال ونحوها، وتوسع كثير من الناس في العمل به حتى بنوا عليه كثيرًا من المحدثات وأكدوا العمل بها، وحافظوا عليها أبلغ جدًّا من محافظتهم على السنن الثابتات، بل والفرائض القطعيات، بل كثيرًا ما بنوا عليه عقائد مخالفة للبراهين القطعية من الكتاب والسنة والمعقول، ولم يقتصروا على الضعاف بل تناولوا الموضوعات، وأنكر جماعة جواز العمل بالضعيف مطلقًا، ….
ومن المانعين القاضي أبو بكر بن العربي والمحقق الشاطبي صاحب كتاب الموافقات في أصول الفقه وغيره.
ثم نصَّ بعض الفقهاء الشافعية كالزركشي في مقدمة «الذهب الإبريز» (1) والخطيب الشربيني في شرح المنهاج، أنَّ العمل بالضعيف في الفضائل جائز فقط، لا مستحب، وردَّه بعضهم كابن قاسم في حواشيه على التحفة، وأثبت الاستحباب.
_________
(1) في تخريج أحاديث العزيز، والعزيز هو الشرح الكبير للرافعي على الوجيز للغزالي.
(مقدمة 2/50)
هذا، وقد نصَّ النووي نفسه في كتاب الأذكار على الاستحباب. واستشكل جماعة القول بالجواز أو الاستحباب مع الإجماع على أن الضعيف لا يثبت به حكم، والجوازُ والاستحبابُ من الأحكام الخمسة.
وأُجيبَ من طرف القائلين بالجواز والاستحباب بأجوبة عامَّتُها من قبيل ما عُرف في الجدليَّات من المطاولة، وتشتيت ذهن الناظر ليقنع بالتقليد الصِّرف. وتلك المطاولة هي التي ألجأتني إلى تأليف رسالة مستقلَّة، وذلك أنني ألَّفت كتابًا نبَّهت في مقدمته على الأمور التي يسلكها كثير من المتأخرين في الاحتجاج وهي غير صالحة لذلك، وذكرتُ مِن جملتها العمل بالضعيف وحاولت أن أحقِّق الكلام فيه، فطال الكلام جدًّا، قبل أن أستوفي البحث كما أحبُّ، فآثرت إفراده برسالة مستقلة» (1).
فقد قال المؤلِّف عن الرسالة: «جمعتها لما رأيت ما وقع للمتأخرين من الاضطراب فيه»، ولم يقل: استللتها، ولا قال: إنها كانت في الأصل من كتاب العبادة ثم أفردتُها منه، وإنما آثر إفراد الحديث الضعيف برسالة مستقلَّة لحاجة مباحثه إلى التطويل الذي لا يتناسب مع موضوع رسالة العبادة.
وقد قال المؤلف في ص 249 من كتاب العبادة بعد ذكره كلامًا مقتضبًا حول العمل بالحديث الضعيف: «وقد حقَّقت هذا البحث في رسالة مستقلة». أفيعقل أن يقول المؤلف هذا الكلام هنا ثم يأتي بعد نحو خمسين صفحة فيكتب ثلاثمائة صفحة في الحديث الضعيف ثم يستلُّها كما زعم المحقق؟
وأمرٌ آخر يدلُّ على تهافت دعوى الاستلال وهو: أنَّ تسلسل المعاني مفقود بين ما وقف عنده الكلام في الدفتر الأوَّل وبين ما بدأ به الكلامُ في
_________
(1) انظر: رسالة العمل بالحديث الضعيف.
(مقدمة 2/51)
الدفتر الخامس. فقد كان الكلام في الحديث الضعيف ثم تحوَّل فجأة إلى كلام يتعلَّق بـ «عبادة الأحبار والرهبان» أو «كفر اليهود والنصارى»، بدايته: «يجيء في القرآن بهذا المعنى أنَّ المراد الرؤساء الذين يطيعونهم ويتديَّنون بما يخترعون لهم» إلى آخر هذا المبحث الذي بقيتْ منه ثلاث صفحات (1).
وأمرٌ ثالث يدلُّ على عدم صحة ما ادَّعاه المحقِّق من الاستلال، وهو إحالات المؤلف على صفحات معيَّنة من الصفحات المفقودة، وما يحيله المؤلِّف معانٍ ومباحثُ لا علاقة لها بالحديث الضعيف.
انظر مثلًا ص 286 من مطبوعة دار العاصمة وص 397 من المخطوط (ص 659 من طبعتنا) قولَ المؤلف: «وقد مرَّ قول الزجاج فيما نقله ابن هشام [في] المغني أنَّ المعنى في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] قال: «الأصل: أبيِّن لكم لئلا تشركوا، وذلك لأنهم إذا حرَّم عليهم رؤساؤهم ما أحلَّه الله سبحانه وتعالى فأطاعوهم أشركوا؛ لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته».
وقد وضع المؤلِّف الرقم (1) على قوله: «مرّ»، وكتب في الحاشية 326؛ إحالة على تلك الصفحة من كتابه.
وهذا النقل لا يمتُّ إلى بحث الحديث الضعيف بصلة، ولم نعثر عليه كذلك في مخطوطة العمل بالحديث الضعيف, لكنه موجود عندنا في هذه الطبعة (ص 598) , وهو من الدفتر الرابع الذي أعثرني الله عليه.
وانظر أيضًا في ص 342 من مطبوعة دار العاصمة و 460 من المخطوط قول المؤلف:
_________
(1) هذا قبل اكتشاف الدفتر الرابع.
(مقدمة 2/52)
«وقد أدحض الله تعالى شبهة هؤلاء، وبرهن على بطلان ما زعموه بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقد تقدَّم إيضاح ذلك فارجع إليه»، وكتب المؤلف إحالة على ص 129 – 130.
وطالِعْ في ص 365 من مطبوعة دار العاصمة و (480 و) من المخطوط قولَ المؤلف: «ومما يوافق ما تقدَّم أيضًا ما مرَّ في الكلام على آيات النجم». وأحال المؤلِّف في الحاشية على ص 287 من كتابه.
وانظر مثالًا رابعًا في ص 387 من طبعة دار العاصمة وص 496 من المخطوط قول المؤلف: «كما قدَّمناه في الكلام على قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وأحال المؤلف في الهامش على ص 125 من كتابه.
وهذه الإحالات الأربع بالصفحات حذفها المحقِّق، وكذلك حذف غيرها (1) مما لم أذكره هنا، وهناك إحالات أخرى لم يحدِّد المؤلِّف صفحاتها (2)، وقد كان ينبغي أن تنبِّهه هذه الإحالات إلى طبيعة الصفحات الساقطة وحقيقتها، وأنها ليست في الحديث الضعيف، وستجد هذه الإحالات في مواضعها من طبعتنا هذه كما حدّدها المؤلف، ما عدا الموضع الثالث, فسقط بذلك ما طُرِّز على غلاف طبعة دار العاصمة من أنَّ الكتاب
_________
(1) كما في ص 391 من طبعة دار العاصمة وص 499 من المخطوط.
(2) كما في ص 368 من طبعة دار العاصمة، وص 480 ط من المخطوط من قوله: «وقد مرَّ الكلام على هذه الآيات في الكلام على تفسير تأليه المسيح»، وقد وجدت ذلك في ص 383 فما بعدها بعد أن وضع لها عنوانًا فرعيًّا خاصًّا بها. وفي ص 333 من طبعة دار العاصمة، وص 451 من المخطوط «وقد مضى طرف من هذا في شأن قوم نوح». وانظر ذلك في ص (س 54/ب) من رسالة العبادة. ومن المواضع أيضًا ص 361.
(مقدمة 2/53)
«يُطبع لأول مرة كاملًا».
ملاحظات أخرى على طبعة دار العاصمة:
من الملاحظات: وقوع بعض السقط في الطبعة.
انظر ص 514 – 515 من طبعة دار العاصمة، وص 617 من المخطوط (ص 892 – 893 من طبعتنا) فقد سقطت ثلاث حواشٍ مهمة للمؤلف.
وفي ص 227 من طبعة دار العاصمة: «فوجدته الولاية»، صوابه: «فوجدته اعتقاد الولاية»، كما في المخطوط ص 56.
وفي ص 217 من طبعة دار العاصمة، : «بحديث الطائفة وغيره»، صوابه: «بحديث الطائفة وغيره مما مرَّ» , كما في ص 50 من المخطوط.
وسقط الكلام الآتي «لقلنا: المسلمون إنما يكرمون من يظنّون به الصلاح» من السطر الرابع من ص 457 من طبعة دار العاصمة، وهو في المخطوط ص 570.
وفي ص 248 من طبعة دار العاصمة: «عنها لمن يصعق» , صوابه: «عنهما وغيرهما من قولهم لمن يصعق» كما في ص 74 من المخطوط.
وفي ص 370 من طبعة دار العاصمة: «آيات القرآن في أن آدم»، صوابه: «آيات القرآن ظاهرة في أن آدم» كما في ملحق ص 481 من المخطوط.
وفي ص 270 س 11 من طبعة دار العاصمة: «ولكن ليس المراد»، صوابه: «ولكن قد تقدَّم عن يوسف بن أسباط تفسير التواضع. وليس المراد» كما في ص 81 من المخطوط.
وفي ص 659 من طبعة دار العاصمة: «فإذا وقع بغير الله عزَّ وجلَّ كان
(مقدمة 2/54)
مما أنزل الله تعالى به سلطانًا بأنه عبادة لله عزَّ وجلَّ، فهو عبادة للمحلوف به، فكيف والمحلوف به يستحقُّ هذا التعظيم». صوابه كما في آخر ص 737 من المخطوط: «فإذا وقع بغير الله عزَّ وجلَّ فإن كان مما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو عبادة لله عزَّ وجلَّ وإلَّا فهو عبادة للمحلوف به، فكيف والمحلوف به لا يستحقُّ هذا التعظيم».
وسقط على المحقق صفحتان كاملتان من المخطوط هما 740 و 741.
ومنها: الإخلال بترتيب بعض فقرات الكتاب:
انظر ص 227 من طبعة دار العاصمة، وص 57 من المخطوط (ص 243 – 244 من طبعتنا):
جعل المحقق بداية صفحة المخطوط: «اعلم أولا أنني بحمد الله … » إلى قوله: «وهو أبعد الناس عنهم». ثم أعقبها بفقرة «فصل: واعلم أن الباعث على تقليد الصوفية». إلى قوله: «فأقول مستعينًا بالله: اعلم أن الخوارق المنقولة … » إلخ.
والصواب: أنَّ بداية الصفحة هي الفقرة المؤخرة عند المحقق، التي تبدأ بـ «فصل»، ثم يأتي بعد قوله: «فأقول مستعينًا بالله» فقرةُ: «اعلم أوَّلًا أنني بحمد الله»، ثم فقرة: «ثم اعلم أن الخوارق المنقولة … ».
ومن التحريفات والتصحيفات والأسقاط والتطبيعات:
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th
226 … … 65 … اعتقادهم نية الصلاح … اعتقادهم فينا الصلاح
229 … … 58 … اخترعها متبوعوهم … في الأصل: متبعوهم، وفي نسخة (ب): تابعوهم
(مقدمة 2/55)
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th
223 … … 52 … عبد الواحد بن زيد البصري … القاصّ، بدل البصري
217 … … 49 … بنقله عن زيد جماعة … ينقله عن زيد جماعة
217 … … 50 … لا يخرج … لا مخرج
210 … … 47 … مما لا مجال للرأي فيه … مما لا يقال بالرأي
243 … … 70 … يتجه … نتيجة
243 … … 70 … دين … بدين
247 … … 73 … فيه وبال عليه … فهي وبال عليه
247 … … 74 … مرتبة السحر الحال … مرتبة السحر العال.
وانظر معنى ذلك في طبعتنا ص 263.
167 … 4 … 20 … وسلم «عليم حليم» … وسلم في آخرها «عليم حليم»
171 … 16 … ملحق 22 … وقع في الحرام … ضرب عليها المؤلف في الأصل.
160 … الحاشية … 15 … قال في الشرح (3674): إسناد حسن. وزعم وضعه الصغاني.
حسب نسخة (أ) … قال في الشرح: بإسناد حسن، وزَعْمُ وَضْعِهِ رُدَّ. انتهى.
والذي أوقعه في هذا الخطأ هو ظنه أن الشرح هو فيض القدير، فعدَّل كلام المؤلِّف على ضوء ما استخلصه من فيض القدير. والحقيقة أنَّ الشرح: هو التيسير بشرح الجامع الصغير 1/ 1002.
(مقدمة 2/56)
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th
298 … 12 … 411 … تقدير الأمر … تقدير الصور
303 … 8 … 418 … وارجع إلى … وارجع بنا إلى
304 … 14 … 419 … والملائكة يعلمون … والملائكة يعملون
305 … 13 … 420 … الخلف يتأولنه … الخلف يتأولونه
330 … 4 … 448 … مواجهة له، ومعرفة به … ومواجهته له، ومعرفته به
331 … 1 … 449 … أنه رسول … أنه رسول الله
331 … 3 … 449 … فشبهة لأهل الجهل … فشنشنة لأهل الجهل
332 … 6 … 451 … متكئ على … متكئا على
332 … 7 … 451 … أهبة … آهبة بالمدِّ كما ضبطها الشيخ، وإن كان ضبط المحقق ليس خطأ، لكن ينبغي احترام رأي الشيخ.
332 … 8 … 451 … والروم وسع … والروم قد وسع
332 … 10 … 451 … أولئك … إن أولئك
(مقدمة 2/57)
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th
332 … 16 … 451 … أُفَيْقٌ … أَفِيْقٌ بوزن عظيم كما اتفق عليه شُرَّاح الحديث: النووي، وابن حجر، والعيني، ولم أجد في المعاجم إلا ما يوافق ذلك.
333 … 8 … 451 … لذو وجد … لذو حظ
334 … 11 … 452 … قدرة تزيله … قدرة تزيد
344 … 6 … 462 … الحكيم … العليم
358 … 13 … 478 … يشرعوه … يشرعون
358 … 16 … 478 … ومن طاعة … ومنه طاعة
354 … الحاشية … 474 … البخاري ومسلم … البخاري ومسلم بنحوه
364 … 2 … 480 هـ … ثابتا … ثباتا
364 … 7 … 480 هـ … إنما يرجع إلى الاعتقاد ولا يتغير … أن ما يرجع إلى الاعتقاد لا يتغير
366 … 15 … 480 ز … خضوع لغير الله … كأنها تشريك له مع الله
370 … 13 … 481 ملحق … آيات القرآن في أن آدم … آيات القرآن ظاهرة في أن آدم
375 … 9 … 483 … لا يقرب … أنه لا يقرب
418 … 1 … 530 … وكذلك سؤال … ولا كذلك سؤال
(مقدمة 2/58)
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th
426 … 2 … 540 … عن المنبر، هو واضح … عن المنبر، كما هو واضح
428 … 12 … 543 … فالمصلي يعلم أنه … فالمصلي يقول
430 … 8 … 544 … وإلى المشتكى … وإلى الله المشتكى
432 … 3 … 546 … حق، كأنه … حتى كأنه
441 … 17 … 554 … تكون تلك الخصوصية … تكون تلك خصوصية
450 … 3 … 563 … يا ملائكة … يا ملائكتي
453 … بين 3 و 4 … 567 … سقط من هنا ملحق ص 567 من المخطوط، وتحوَّل إلى ص 455 … وَضْعُ الملحق بين السطر 3 والسطر 4 من ص 453
469 … 11 … 583 … يوهما أن القصة … توهَّما أن القصة
597 … 12 … 688 … كالتزين والتذلل … كالتزين والتدلُّل
536 … الحاشية … 634 … البخاري (1292) … هذا الرقم ليس هو الذي يريده المؤلف، ولو رجع إلى الطبعة التي نقل منها المؤلف لما وقع في هذا الخطأ؛ لأن الحديث ورد في البخاري خمس مرات، فاختار المحقق أول موضع، والمؤلف يريد الموضع الأخير.
(مقدمة 2/59)
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th
257 … 15 … 80 … لرسول (يوحى إليه مع ملك وحفظة) … ما بعد «لرسول» ليس في النسخة
257 – 258 … 16 … 80 … وليسوا في ذلك كالأنبياء … لا توجد هذه الزيادة في المخطوط
261 … 9 … 81 ب … في الطبقات … في ترجمة ابن عمر من الطبقات
ولا أبرئ عملي من الخطأ والنقصان، وأستغفر الله من كلِّ خطأ، وأرى أن عملي يتميَّز بمحاولة تكميل النقص الذي طال انتظارُ إتمامه.
وأيضًا: الإضافات المأخوذة من نسخة (ب) مما زاده المؤلِّف على المبيَّضة الأولى المشهورة عند طلبة العلم.
* ثامنًا: وصف النُّسَخ الخطِّيَّة:
النسخة الأولى: (أجزاء مفرقة من كتاب العبادة) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4781.
وعدد أوراقها 445 مع زيادة عدة صفحات هي ملاحق، وهي عبارة عن أربعة دفاتر، كلُّ دفتر نحو مئة صفحة.
مقاسها: 20×15 سم.
مسطرتها: ما بين 14 – 16 سطرًا في كلِّ صفحة.
(مقدمة 2/60)
وخطها واضح جميل, وهي بخط أحد النسّاخ في الأغلب, ثم راجعها المؤلف فصحّح وأضاف, وألحق سطورًا بل صفحات كاملة بخطه المعروف.
وعليها ضرب في بعض المواضع.
وبها نقص من ص 93 إلى ص 396.
وقد رمزت لها بالحرف (أ).
النسخة الثانية: (أوراق مفرَّقة أغلبها في العقيدة وفنون مختلفة) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4249 (منوَّعات).
عدد أوراقها 95 ورقة، من ص 85 إلى 180
مقاسها: مثل السابق.
مسطرتها: 15 سطرًا في كلِّ صفحة.
وهي بخط المؤلِّف، وعليها تصويبات وإلحاقات، غير أنها أقلُّ مما في الدفتر الأول.
ولا تحتاج إلى أن يُرْمز لها برمز لأنها الدفتر الثاني، وهي في مكانها الطبيعي، والصفحات متسلسلة.
النسخة الثالثة: الدفتر الرابع من دفاتر مخطوط العبادة، محفوظ في مكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4937.
وعدد صفحاتها 108، تبدأ من ص 289، وتنتهي بـ ص 396. وهي كذلك لا تحتاج إلى أن يرمز لها برمز؛ لأنها في موضعها الطبيعي. والصفحات متسلسلة حتى تتصل بالدفتر الخامس الذي يبدأ بـ ص 397.
وهي بخط المؤلف.
(مقدمة 2/61)
النسخة الرابعة: (كتاب العبادة) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4689.
وعدد أوراقها 220 ورقة، والصفحات الأولى مطابقة تقريبًا للنسخة المشهورة لكتاب العبادة مع زيادات تقلُّ أو تكثر أحيانًا.
مقاسها: 32×20 سم.
مسطرتها: 25 – 29 سطرًا.
وهي في مجلَّد كبير، مشوَّشة الأوراق، ولم تُرَقَّم.
وهي بخط المؤلف.
وفيها عدَّة صفحات من نصوص الدفتر الأول، وشيء من الأصل الثاني: «الحجج والشبهات» الذي عندنا، وأصول أخرى لم نجدها في قطعة (ز) ولا في نسخة (أ)، وكثير من فصل حكم الجهل والغلط، وصفحات من محتوى الدفترين الثاني والثالث، وطغى عليها ما يتعلَّق بالرياضة الصوفية، والخوارق، والغرائب.
وقد رمزت لها بالحرف (ب).
النسخة الخامسة: قطعة مؤلَّفة من ثلاث رسائل بحسب الفهرسة في مكتبة الحرم المكي. عنوان الأولى: (أصول ينبغي تقديمها)، وعنوان الثانية: (معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا})، وعنوان الثالثة: (رسالة في العقيدة). ثلاثتها محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالأرقام العامَّة (4679، و 4655، و 4672). والحقيقة أنها قطعة واحدة من كتاب العبادة, دل على ذلك الترقيم المتتابع (1 – 52) , وترابط الكلام, وحجم الورق.
وعدد أوراقها 53 ورقة من القطع الكبير، وهذه القطع الثلاث مرقَّمة
(مقدمة 2/62)
بترقيم المؤلِّف من ص 1 إلى ص 52، وهي مبيَّضة تبييضًا نهائيًّا. وقد وضعتُها في موضعها الذي حدَّده المؤلِّف، كما بَيّنته في فقرة «الطريقة التي سلكتها في تكميل النقص» ص 64 وما بعدها.
مقاسها: 34×21 سم.
مسطرتها: الأولى والثانية: 30 سطرًا، والثالثة مختلفة الأسطر.
وأغلب الظن أنها بخط المؤلف.
وقد رمزت لها بالحرف (ز)
النسخة السادسة: (رسالة في معنى كلمة التوحيد) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4713.
عدد صفحاتها: مئة وأربع عشرة صفحة.
مقاسها: 15×9 سم.
مسطرتها: 15 سطرًا مع تفاوت يسير يقع بينها أحيانًا.
وهذه النسخة تمثِّل نصف الكتاب تقريبًا في مرحلته الأولى.
وأغلب الظنِّ أنها المسوَّدة الأولى للكتاب. وهي بخط المؤلف.
وترتيب الأوراق مشوَّش تشويشًا كبيرًا، فبينا ترى الكلام يتَّجه اتِّجاهًا مستقيمًا إذا به يرجع القهقرى عدَّة صفحات، وكتب المؤلِّف كثيرًا من الكلام بين السطور بالخط الأحمر.
واستفدتُ منها فائدة كبيرة في تكميل النقص الحاصل في الكتاب بسبب الدفتر الثالث الذي لم أعثر عليه بعد.
وقد رمزتُ لها بالحرف (س).
النسخة السابعة: دفتر صغير لم يفهرس بعدُ، مقاساته ومسطرته مثل السابق، ويغلب على ظني أنه يأتي بعد الدفتر السابق. وقد كتب كله بحبر
(مقدمة 2/63)
أحمر, وفيه مادة من الدفترين الثالث والرابع.
والنسخة بخط المؤلف. وقد رمزت لها بالحرف (س) أيضًا، إلا أن ترقيمه يبدأ من حيث انتهى الدفتر الذي قبله.
النسخة الثامنة: (رسالة في الكلام في الحكم بغير ما أنزل الله، وتفسير آية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4658/ 8.
وهي صفحة واحدة.
مقاسها: 20×16 سم.
مسطرتها: 16 سطرًا.
وهي بخط المؤلف.
ولهذه الصفحة صلة بتفسير عبادة الأحبار والرهبان ..
* تاسعًا: الطريقة التي سلكتها في تكملة نقص الكتاب:
قد عُلم مما سبق النقصُ الكبير الذي وقع في نسخة (أ)، ولا بدَّ لمن أراد تكميل نقص الكتاب أن يعرف ترتيب الكتاب وبناءه، وأفضل طريق لمعرفة ما نقص من نسخة (أ) ومعرفة ترتيب الكتاب هو تتبُّع إشارات المؤلِّف وإحالاته فهي التي تحدِّد لك الموضوعات التي تناولها مع ترتيبها عنده.
فخذ مثالًا على ذلك قوله في ص 115 من نسخة (أ) أثناء كلامه على تفسير لفظ (إله) في كتب العقائد: «وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح ذلك مفصَّلًا في الكلام على شرك قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم هود، وقوم صالح، والمصريِّين في عهد إبراهيم، ثم في عهد يوسف، ثم في عهد موسى».
(مقدمة 2/64)
والكلام على شرك قوم نوح وقوم إبراهيم وقوم هود وقوم صالح لا تجده في نسخة (أ)؛ لأنه فُقد منها الدفتر الثالث، ولكنك واجدٌ ذلك في نسخة (س) التي تسلسل الكلام فيها من أول الكتاب إلى شرك المصريِّين وموضوعات أخرى، والكلام على شرك المصريِّين موجود في نسخة (أ)، فيسهِّل عليك ذلك معرفةَ تسلسُل الكتاب.
وقال أيضًا في ص 34 من المخطوط: «وستعلم عند تحقيق معنى الإله والعبادة أنَّ معرفة المعنى … »، وكرَّر هذه الإشارات في مواضع أخرى.
وتحليل لفظَي الإله والعبادة من حيث اللغة والمعنى وكلام أهل العلم في ذلك وتحقيق شأنهما ليس موجودًا في نسخة (أ)، ولكن تجده في أواخر الدفتر الثاني وتكملته في نسختي (ب) و (س)، ثم تجد في الدفتر الخامس تحرير العبارة في تعريف العبادة.
وبيان الطريق التي سلكتها في تكملة النقص وترتيب القِطَع في صُلْب الكتاب على النحو التالي:
أوَّلًا: نسخة (ب) من كتاب العبادة. بالرقم 4689.
وهي تمثِّل المرحلة الأخيرة من تأليف كتاب العبادة، وفيها زيادات في صُلْب المتن في حين هي ملاحق في حواشي نسخة (أ) المشهورة عند طلبة العلم، ويُعلم ذلك بالمقارنة بينهما.
ومن الأدلَّة على تأخُّر نسخة (ب) عن نسخة الأصل إحالة المؤلِّف في نسخة (ب) على نسخة الأصل، انظر: مثلًا: قوله في ص 104 بترقيمي: وأما الخوارق فاعلم أن الخوارق …… وكتب المؤلِّف فوق النُّقَط عبارة
(مقدمة 2/65)
«دفتر صغير ص 57»، كأنه يقول: أكمل من هناك، ويعدُّها مادَّة جاهزة يستفاد منها في هذه النسخة المتأخرِّة بدل كتابة الكلام مرَّة أخرى.
وقال في ص 105 من نسخة (ب) بترقيمي: «وقد يكون الشيخ» وكتب بعدها فوق السطر ص 59 – 77، إشارة إلى ما في ص 59 من نسخة (أ) من قوله: «وقد يكون الشيخ المنسوب إليه الخارق خيِّرًا في نفسه، ولكنه ابتُلِي بأولاد وأتباع يحبون أن يأكلوا بسببه الدنيا فيخترعون الخوارق، ويدّعونها له ويلبِّسون على الشيخ نفسه … ».
فاعتمدت على هذه النسخة ــ نسخة (ب) من أوَّل الرسالة إلى أثناء ص 27 من هذه النسخة بترقيمي، وهي تقابل ص 34 من نسخة (أ)، وإنما فعلتُ ذلك لأنه ترجَّح عندي بقرائن كثيرة أنها نسخة محرَّرة مزيدة بعد نسخة (أ)، ونسخة (أ) مضمَّنة في نسخة (ب)، فلم أر فائدة في إثقال الحواشي بذكر فروق النسخ بينهما. وقد أثبتُ بداية صفحات كلتا النسختين، وميزت أرقام صفحات نسخة (ب) بوضع هذا الرمز أمام الرقم.
وأخذتُ من هذه النسخة أيضًا ثلاث صفحات غير مرقمة، هي «فصل في تفسير أهل العلم للعبادة» الذي يقع فاصلًا بين نهاية الدفتر الثاني وبداية نسخة (س).
ثانيًا: رسالة «أصول ينبغي تقديمها» (1). بالرقم 4679.
ثالثا: رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
_________
(1) وهذه التسمية وما سيأتي بحسب ما كُتب عليها في فهرس مكتبة الحرم المكي الشريف.
(مقدمة 2/66)
بالرقم 4655.
رابعًا: رسالة في العقيدة، ناقصة الأخير. بالرقم 4672.
وهذه القِطع الثلاث أعانني الله على اكتشاف تسلسُلها وكونها تمثِّل قطعة واحدة.
فرسالة «أصول ينبغي تقديمها» وُجِدت بخطِّ المؤلِّف بعنوان «باب في أصول ينبغي تقديمها»، وهي ثلاثة أصول، ولما انتهى من الأصل الثاني كتب: الأصل الثالث: حكم الجهل والغلط، وكتب عدّة أسطر، ثم ضرب على هذا الأصل مع الأسطر التي تحته، لكنه كتب في موضع آخر عنوان «حكم الجهل والغلط» وأعاد كتابة الأسطر التي ضرب عليها من قبلُ بعد كتابة عنوان «فصل» في آخر الأصول الثلاثة، وقد استوفى في هذا الفصل الكلام على حكم الجهل والغلط، ولعلَّه لم يجعلْه أصلًا من الأصول لطوله.
لكنَّ المفهرسين جعلوا «الأصول» رسالة مستقلَّة، وتجزَّأ فصلُ حكم الجهل والغلط إلى رسالتين أخريين: «رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}»، وما أسموه: «رسالة في العقيدة، ناقصة الأخير» فصار عندنا ثلاث رسائل مقطَّعة الأوصال لا يربط بينها رابط إلا كون مؤلِّفها جميعًا هو عبد الرحمن المعلِّمي.
وبعد الفحص تبيَّن أنَّ رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}» جزء من فصل حكم الجهل والغلط، ذهبت عدَّة أسطر من أوَّلها (وهي التي ضرب عليها من قبلُ بعنوان: الأصل الثالث) فكُتبت في
(مقدمة 2/67)
أسفل صفحة مستقلَّة، فجاء المفهرسون وكتبوا فوق هذه الأسطر عنوان «أصول ينبغي تقديمها» فصارت هذه الأسطر بداية رسالة «أصول ينبغي تقديمها»، وبعد وضع هذه الأسطر الشاردة في بداية «رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}» استقام الكلام.
فاقرأ الكلام الآتي واحكم بنفسك.
قال المؤلِّف: « … خلط الناس في معنى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، فزعم بعضهم أن الرسول هنا إنما أريد به العقل، وهذا تحريفٌ تغني حكايته عن ردِّه. وقال بعضهم: أما الرسول فهو الرسول المعروف، ولكن المراد بالعذاب عذابٌ خاصٌّ هو العذاب الدنيوي المستأصل كإهلاك قوم نوح وعاد وثمود».
هذا الكلام الذي قرأتَه متصل بعضه ببعض، لكن قوله: «خلط الناس» إلى قوله: «تغني حكايته عن ردِّه» هو عبارة عن آخر الأسطر الشاردة التي كُتِب فوقها عنوان رسالة «أصول ينبغي تقديمها»، وقوله بعد ذلك: «وقال بعضهم: أما الرسول» أوَّلُ «رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}» (1)، ثم تنتهي هذه القطعة بقوله: «وأما القول بأن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد كانت اندرست قبل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فخطأ القائلين به من وجهين:
_________
(1) ثم وقفت على مسوَّدة للمؤلف فيها بداية أصل (حكم الجهل والغلط) متصلة بأول رسالة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وذلك في دفتر يحمل الرقم العام 4930، في مكتبة الحرم المكي، بعنوان: دفتر مسودات محاضرة …
(مقدمة 2/68)
الأول: أنهم يطلقون القول بعذر المشركين الذين هلكوا قبيل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وآبائهم وأجدادهم فصاعدًا، وقضية ذلك: أن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام اندرست قبل أن يشرك أحد من العرب، وهذا قول لا دليل عليه، بل الدليل قائمٌ على خلافه».
انتهت هذه القطعة بهذه العبارات، ومن حقِّك أن تسأل ما هذا الدليل الذي يريد الشيخ أن يذكره؟ وأين الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذُكِر الأوَّل منهما؟ والجواب تجده في بداية «رسالة في العقيدة، ناقصة الأخير»، إذ يذكر الشيخ الدليلَ القائمَ على بقاء شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وعدم اندراسها حتى غيَّرها عمرو بن لُحَيٍّ، ثمَّ يذكر الوجه الثاني من وجهي خطأ القائلين باندراس تلك الشريعة، قال الشيخ:
«فقد ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «رأيتُ عمرو بن لُحَيِّ بن قَمَعة بن خِندِفَ أخا بني كعبٍ هؤلاء يجرُّ قُصْبه في النار»، وفي روايةٍ: «وكان أول من سيب السيوب».
.. الوجه الثاني: أنهم يطلقون العذر فشمل العذر في الشرك والعذر في المعاصي وذلك يقتضي أحد أمرين: إما أنهم يرون أن الشريعة إذا اندرس بعضها سقط التكليف بباقيها، وإما أن يزعموا أن شريعة إبراهيم عليه السلام كانت قد اندرست بجميع فروعها، ولا أرى عاقلا يُقْدِمُ على الأول ولا عارفًا يُقْدِمُ على الثاني».
وبعد أن وقفتَ على التسلسل والترابط المنطقي بين هذه القطع الثلاث أزيدك أنها متسلسلة الأرقام من ص 1 إلى ص 52 بترقيم المؤلِّف.
ووضعتُ هذه الرسائل الثلاث بعد نهاية الباب الثاني «باب في أنَّ
(مقدمة 2/69)
الشرك هلاك الأبد حتمًا وأنَّ تكفير المسلم كفر».
وقد يتساءل القارئ: لِم أقحمتَ هذه الرسائل الثلاث في الكتاب مع عدم ورودها في نسخة (أ) المشهورة؟
والجواب: أنني وجدت في هذه القطعة أكثر من خمس عشرة إحالة إلى مواضع سبقت أو ستأتي من نسخة (أ) لكتاب العبادة (1)،
مما لم يَدَعْ عندي مجالًا للشكِّ في أنَّ هذه القطعة جزء من كتاب العبادة.
_________
(1) منها ما في ص (ز 7): «فتستعين النفس بالشبهات وهي لا تحصى كثرةً، وسيأتي ذكر طائفةٍ منها في بابٍ على حِدَةٍ». وقد عقد المؤلف في كتاب العبادة عنوانًا مستقلًّا خاصًّا بالشبهات. انظر ص 567 من المخطوط.
وقال في ص (ز 28): «وبهذا يجمع بين ما تقدَّم هنا وما تقدَّم في أوائل الرسالة من اشتراط اليقين.». وتجد هذا في المخطوط ص 2.
وقال أيضًا في ص (ز 31): «ما تقدَّم في الكلام على اشتراط العلم بمعنى: لا إله إلا الله من قصة أُبَيِّ بن كعب وغيره». وتجد هذا الكلام في ص 15 من المخطوط.
ومن ذلك: ما في ص (ز 32): «وسيأتي في ذكر الأمور التي ورد في الشرع أنها شرك عدة أحاديث وآثار». انظر ص 666 من المخطوط.
وما في ص (ز 33): فاليهود أطاعوا الأحبار والشياطين والهوى الطاعة الخاصة التي هي تأليه وعبادة لغير الله على ما يأتي تفسيره. وقد عقد مبحثًا في تأليه الأحبار والرهبان في ص 391 فما بعدها من المخطوط.
وما في ص (ز 40): «أما الأول فبيانه متوقِّف على تحقيق معنى الإله والعبادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى». وبيان ذلك هو لبُّ الرسالة. انظر من ص 165 إلى ص 480 ب من رسالة العبادة فما بعدها.
وما في ص (ز 33): «قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} في آيات أخرى تقدَّمت في أوائل الرسالة». وقد تقدَّمت فعلًا في أوائل الرسالة. انظر ص 17 من المخطوط، باب في أنَّ الشرك هلاك الأبد.
(مقدمة 2/70)
وترجَّح عندي أن أضعها في الموضع الذي وضعتُها فيه من الكتاب بسبب قوله في ص (ز 51) من هذه القطعة: «ما تقدَّم في الأصل الثاني، ومنها ما سيأتي في الكلام على التقليد».
والكلام على التقليد من فصول «باب في أمور يستند إليها بعضُ الناس في إثبات العقائد، وهي غير صالحة للاستناد إليها»، وهو الباب الرابع من الكتاب فلم يمكن أن أضع هذا الباب المكتَشَف بعد الباب المحال عليه، ولا أن أضعه في أوَّل الكتاب؛ لأنَّ في القطعة عدَّة إحالات على الباب الأوَّل وهو الذي فيه شروط لا إله إلا الله. والباب الثاني «باب في أن الشرك هلاك الأبد، وأن تكفير المسلم كفر» لصيق بالباب الأول، فتعيَّن جعلُ هذه القطعة الباب الثالثَ للكتاب.
والبديل عن صنيعي هو أن أجعله ملحقًا بآخر الكتاب، أو أن أنشره مفردًا، وكلا الأمرين يقلِّل الفائدة ويزيد اختلال الكتاب.
ولعلَّ مما يُسوِّغ صنيعنا وتصرُّفنا هذا أنَّنا لم نحصل على النسخة النهائيَّة التي أرادها المؤلِّف بدليل ما ورد في نسخة (ب) (وقد صاغها بعد المبيَّضة الأولى) من الإشارات التي تدلُّ على تقديم وتأخير في بعض فصول الكتاب.
ومن الأدلَّة القويَّة على كون هذه القطعة من صُلْب الكتاب: قولُ المؤلف في ص (ز 32) من هذه القطعة التي ألحقتُها بالكتاب: «وتقدَّم في أواخر الباب الذي قبل هذا: اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل». فإذا الباب الذي أشار إليه هو «باب في أنَّ الشرك هلاك الأبد، وأنَّ تكفير المسلم كفر»، وهو الباب الثاني، ووقع ذكرُ هذا الحديث الذي أحاله
(مقدمة 2/71)
المؤلِّف في آخر هذا الباب، وخرَّجه المؤلِّف تخريجًا مختصرًا مع ذكر الطرق والشواهد (1)، فتعيَّن موضعُ هذه القطعة وأنَّها من صُلْب «رسالة العبادة» بنصِّ المؤلِّف لا باجتهادي، والحمد لله على نِعَمِه.
ومما يؤكِّد ما سبق ويزيده وضوحًا قولُ المؤلف عن هذا الحديث في رسالة البسملة والفاتحة ص (8 ب): «وقد ذكرتُ هذا الحديث في رسالة العبادة بطرقه وشواهده»، ولا شكَّ أنَّ رسالة البسملة والفاتحة متأخرِّة التأليف عن رسالة العبادة؛ إذ ضمّنها زبدة رسالة العبادة بطريقة رائعة وأكْثَرَ من الإحالات فيها على رسالة العبادة.
خامسًا: أجزاء مفرَّقة من كتاب العبادة. بالرقم 4781. وهي المبيَّضة الأولى الناقصة للرسالة، وهي المشهورة في أوساط طلبة العلم، وهي أربعة دفاتر، رمزت لها بالحرف (أ)، وترقيمها هو المعتمد ما عدا مواضع القِطَع الزائدة، فتُميَّز أرقامُها بحروف خاصَّة.
سادسًا: أوراق مفرقة أغلبها في العقيدة. بالرقم 4249.
وهي تمثل الدفتر الثاني من دفاتر نسخة (أ) السبعة، ووصل إلينا كاملًا غير منقوص، ويبدأ من ص 85، والسبب في ذلك أنَّ المؤلِّف قال في أواخر ص 84 من نسخة (أ): «ومن الناس مَن يحتجُّ في هذا الأمر العظيم بمجرَّد العقل والقياس، وفي ذلك ما فيه»، ثمَّ ضرب على هذا السطر، وزاد فصلين: أولهما في الرَّدِّ على احتجاج بعض أهل زمان المؤلِّف وما قرُب منه بآيات من كتاب الله تعالى ويفسرونها برأيهم بما لم يُنقلْ عن السلف ولا تساعده
_________
(1) انظر ص 27 من رسالة العبادة نسخة (ب).
(مقدمة 2/72)
اللغة العربية، ولا البلاغة القرآنية، والفصل الثاني في احتجاج بعضهم بالحديث الضعيف، واستغرق ذلك سبع صفحات، ثم عاد المؤلِّف فأثبت الكلام الذي حذفه سابقًا في بداية الدفتر الثاني الذي عثرتُ عليه بتوفيق الله، واستمرَّ ترقيم الدفتر الثاني من حيث انتهى الدفتر الأول قبل زيادة سبع الصفحات، ولا يُشوِّشْ عليك تكرُّر الترقيم من ص (85) إلى ص (91) في الدفتر الثاني مرَّةً أخرى؛ لأنه الموافق للأصل الأصيل قبل الزيادة، فلزم بقاؤه كما كان.
ومن الأدلَّة على صحَّة موضع هذا الدفتر أنَّ المؤلِّف أحال على عدَّة مواضع منه، وتأكَّدتُّ من مطابقة أرقام الصفحات المحال عليها فإذا فيها المعلومات المُشار إليها سواء بسواء.
سابعًا: ثم رسالة في معنى كلمة التوحيد. بالرقم 4713. وأظنها المسوَّدة الأولى للكتاب. واستفدتُّ منها فائدة كبيرة في تكميل النقص الحاصل في الكتاب بسبب الدَّفترين المفقودَيْن بعد الدفترَيْن الأوَّلين. وموضعها بعد الدفتر الثاني مع الفاصل الذي أشرنا إليه عند الحديث عن نسخة (ب)، ورمزت لها بالحرف (س).
ثامنًا: قطعة غير مرقمة ولا مفهرسة، ورمزت لها بالحرف (س) أيضًا، لكن يبدأ ترقيمها بـ (س 115/أ) من حيث انتهى الدفتر الذي قبله.
تاسعًا: رسالة في الكلام في الحكم بغير ما أنزل الله وتفسير آية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية، بالرقم 4658/ 8، وهي صفحة واحدة. وموضعها قبل بداية الدفتر الرابع من نسخة (أ).
(مقدمة 2/73)
عاشرًا: الدفتر الرابع من كتاب العبادة. وهو محفوظ في مكتبة الحرم المكي بالرقم العام 4937. وهو متسلسل الصفحات بدءًا بـ ص 289 وانتهاء بـ ص 396، ثم تتصل ببقية صفحات نسخة (أ) ابتداءً بـ ص 397 إلى ص 741، وهي آخر ما عُرف من الكتاب.
* عاشرًا: عملي في الكتاب، ومنهج التحقيق.
1 – قمت بنسخ الرسالة، ووضعتُ رقم صفحة المخطوط بين معقوفين أمام بداية كلِّ صفحة من صفحات المخطوط.
2 – ميَّزتُ بالحرف (ز) أرقامَ صفحات المخطوط التي زدتُّها من القطع الثلاث التي وضعتُها في أوائل الكتاب، وعلَّمتُ بالحرف (س) أرقامَ صفحات المخطوط التي أضفتُها من نسخة (س) ورديفتها غير المرقمة، تمييزًا بين الأرقام المتشابهة، كما ميَّزتُ بالحرف (ب) أرقام صفحات نسخة (ب).
3 – قابلت الرسالة بعد نسخها بالأصل مرتين.
4 – قام المؤلف بعزو الآيات إلى سورها، وتخريج الأحاديث وتوثيق الأقوال غالبًا، واستكملت النقص في القضايا الثلاث عند الحاجة، وعلَّقت على ما رأيته بحاجة إلى تعليق.
5 – ترجمتُ للأعلام الواردين في الرسالة ممن رأيته يحتاج إلى التعريف به.
6 – أثبت تعليقات المؤلف في الحاشية وختمتها بـ (المؤلف).
7 – عرَّفت بالبلدان المغمورة غير المشهورة.
8 – خرَّجت الأبيات الشعريَّة.
9 – شرحت الألفاظ الغريبة.
(مقدمة 2/74)
10 – أمّا ما يتعلَّق بتخريج الأحاديث، فقد التزمت ذكر الكتاب والباب ورقم الحديث، وكذلك رقم الجزء والصفحة إذا أغفلهما المؤلِّف دون تمييز لزياداتي على المؤلِّف لكثرة ذلك، ولأن المؤلف مال أخيرًا إلى الاكتفاء بذكر الكتاب والباب دون ذكر الجزء والصفحة كما صنع في نسختَيْ (ب) و (ز).
11 – في إصلاح الخطأ وإكمال النقص سلكت الآتي:
أقمت بتصحيح ما كان مخالفًا لقواعد العربية مع التنبيه عليه.
ب أصلحتُ ما وقع من الأخطاء في نصوص الآيات القرآنية وإحالاتها، دون تنبيه.
ت للمؤلِّف بعض الرموز والاختصارات، مثل: (هـ) و (اهـ)، اختصارًا للفظ (انتهى)، وقد يكتبها كاملة، وذلك في آخر النصوص التي ينقلها أحيانًا، فأبقيت ذلك كلَّه عدا الأول، فقد جعلته هكذا: (اهـ). وقد يجرِّد اسم السورة من أداة التعريف عند عزو الآيات إلى سورها، ويخلي أحيانًا اسم الكتاب من أداة التعريف كذلك، فأكملت ذلك كلَّه دون تنبيه، اكتفاء بما ذكرته هنا.
12 – قدَّمت للرسالة بمقدِّمة تضمَّنت تحديد عنوان الكتاب وتحقيق نسبته إلى المؤلف، مع ذكر تاريخ تأليفه له، وبيان أهمية الكتاب وقيمته العلمية، وبيان منهج المصنف، وموارده وطبعات الكتاب ووصفًا للنسخ المخطوطة، وبيان موضوع الرسالة وموضوعاتها.
(مقدمة 2/75)
13 – ذيَّلْتُ الرسالة بفهارس للآيات والأحاديث والأعلام والأشعار والمصادر والموضوعات.
(مقدمة 2/76)
نماذج النسخ المخطوطة
(مقدمة 2/77)
الصفحة الأولى والثانية من نسخة (أ) المشهورة
(مقدمة 2/79)
ص 57 – 58 من نسخة (أ)
(مقدمة 2/80)
آخر صفحة من الدفتر الأول من نسخة (أ)
(مقدمة 2/81)
بداية الدفتر الثاني
(مقدمة 2/82)
بداية الدفتر الرابع من نسخة (أ)
(مقدمة 2/83)
صفحة (326 – 327) من الدفتر الرابع من نسخة (أ)
(مقدمة 2/84)
نهاية الدفتر الرابع من نسخة (أ)
(مقدمة 2/85)
أول الدفتر الخامس من نسخة (أ)
(مقدمة 2/86)
صفحة (450 – 451) من نسخة (أ)
(مقدمة 2/87)
صفحة (567) وملحقها من نسخة (أ)
(مقدمة 2/88)
بداية “أصول ينبغي تقديمها”
(مقدمة 2/89)
أول رسالة “وما كنا معذبين”
(مقدمة 2/90)
آخر صفحة من رسالة “وما كنا معذبين”
(مقدمة 2/91)
أول صفحة من رسالة في العقيدة
(مقدمة 2/92)
آخر صفحة من رسالة في العقيدة
(مقدمة 2/93)
صفحتان من أواسط نسخة (ب) غير المرقمة
(مقدمة 2/94)
صفحة أخرى من أواسط نسخة (ب) غير المرقمة
(مقدمة 2/95)
آخر مقدمة نسخة (س)
(مقدمة 2/96)
بداية الباب الثاني من نسخة (س)
(مقدمة 2/97)
صفحة (98) من نسخة (س)
(مقدمة 2/98)
رسالة العبادة
(رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله
والفرق بين التوحيد والشرك بالله)
للعلَّامة
أبي عبد الله عبد الرحمن بن يحيى بن علي
المعلِّميِّ اليمانيِّ المكِّيِّ
1312 – 1387 هـ
تحقيق
عثمان بن معلِّم محمود بن شيخ علي
(2/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي خلق الجنَّ والإنس ليعبدوه، وبعث إليهم رسله ليوحِّدوه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، كما صلَّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإني تدبَّرت الخلاف المستطير بين الأمَّة في القرون المتأخِّرة في شأن الاستعانة بالصالحين الموتى، وتعظيم قبورهم ومشاهدهم، وتعظيم بعض المشايخ الأحياء، وزَعْم بعض الأمَّة في كثيرٍ من ذلك أنه شركٌ، وبعضِها أنه بدعةٌ، وبعضِها أنه من الحقِّ، ورأيتُ كثيرًا من الناس قد وقعوا في تعظيم الكواكب والروحانيِّين والجنِّ بما يطول شرحه، وبعضه موجودٌ في كتب التنجيم والتعزيم كـ”شمس المعارف” (1) وغيره، وعلمتُ أن مسلمًا من المسلمين لا يُقْدِمُ على ما يعلم أنه شركٌ، ولا على تكفير مَن يعلمُ أنه غير كافرٍ، ولكنه وقع الاختلاف في حقيقة الشرك، فنظرتُ في حقيقة الشرك؛ فإذا هو ــ بالاتِّفاق ــ: اتِّخاذ غير الله عزَّ وجلَّ إلهًا من دونه، أو عبادة غير الله عزَّ وجلَّ، فاتَّجه النظرُ إلى معنى الإله والعبادة؛ فإذا فيه اشتباهٌ شديدٌ؛ فإنَّ المعروف في تفسير (إله) قولهم: (معبود)، أو: (معبود بحق)، ومعنى العبادة
_________
(1) شمس المعارف ولطائف العوارف كتابٌ لأحمد بن عليِّ بن يوسف البُوني، المتوفَّى سنة 622 هـ. انظر: كشف الظنون 2/ 1062.
(2/3)
مشتبهٌ جدًّا ــ كما ستراه إن شاء الله تعالى ــ، فعلمتُ أن ذلك [2] الاشتباه هو سبب الخلاف، وإذا الخطر أشدُّ مما يُظَنُّ؛ لأن الجهل بمعنى (إله) يلزمه الجهل بمعنى كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله)، وهي أساس الإسلام وأساس جميع الشرائع الحقَّة من قبل، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وقد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع والمعقول على أنَّه لا يكفي النطق بها بدون معرفة معناها. وإيضاح ذلك أن الاعتداد بالنطق بها له شروطٌ:
منها: أن يكون على سبيل الاعتراف؛ للقطع بأن المشرك إذا نطق بها حكايةً عن غيره لا يُعْتَدُّ بذلك؛ كالمسلم إذا نطق بكلمة الكفر حكايةً عن غيره، وأنت خبير أن العبارة لا يُحْكَم بكونها اعترافًا حتى يُعْلَم أن المتكلِّم بها يعرف معناها، فلو أثبت زيدٌ على إنسانٍ أعجميٍّ أنه قال: أنا رقيقٌ لزيدٍ، ووجدنا هذا الأعجميَّ لا يعرف العربيَّة ولا يعرف معنى هذه العبارة، وإنما لقَّنوه إيَّاها بدون إعلامه بمعناها، لم يُعْتَدَّ باعترافه، وهذا مما لا خلاف فيه أصلًا.
[ب 2] ومنها: العلم بمضمونها، والعلم هو الذي يُعَبِّرُ عنه أهل الكلام بالتصديق، وقيل: التصديق أخصُّ، قال الله تبارك وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19].
[3] وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. فقيَّد نفع الشهادة, قيَّده بالعلم بالمشهود به.
(2/4)
قال ابن جريرٍ في تفسيرها: “اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولا يملك عيسى وعزيرٌ والملائكة الذين يعبدهم هؤلاء المشركون بالله (1) الشفاعة عند الله لأحدٍ إلا مَن شهد بالحق فوحَّد الله وأطاعه على علمٍ (2) منه بتوحيد الله وصحَّة ما (3) جاءت به رسله”.
ثم أسند نحوه عن مجاهد، وفيه: “إلا مَن شهد بالحقِّ، وهو يعلم الحقَّ”.
ثم قال: “وقال آخرون: عُنِيَ بذلك: ولا تملك الآلهة التي يدعوها المشركون ويعبدونها من دون الله الشفاعة، إلا عيسى وعزيرٌ وذووهما والملائكة الذين شهدوا بالحقِّ فأقروا به وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به”.
ثم أسند نحوه عن قتادة، ثم قال: “وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يُقال: إن الله تعالى ذِكْره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحدٍ إلا مَن شهد بالحق، وشهادته بالحق هو إقراره بتوحيد الله، يعني: إلا مَن آمن بالله وهم يعلمون حقيقة توحيده” (4).
_________
(1) في الأصل تبعًا للطبعة التي ينقل منها المؤلف: (بالساعة)، والتصحيح من طبعة دار هجر (20/ 661).
(2) كتب المؤلِّف هنا لفظ: (كذا)؛ إشارة إلى الخلل في العبارة. ولفظ (على) زيادةٌ من الطبعة المذكورة.
(3) في الأصل: “بتوحيد وصحة بما”، والتصحيح من الطبعة المشار إليها.
(4) تفسير ابن جريرٍ، الطبعة الأولى، 25/ 56 – 57. [المؤلف]. وقد أشار المؤلف في نسخة (أ) إلى الخلل الوارد في النسخة بقوله: “نقلت هذه العبارة كما هي في النسخة المطبوعة”. وقد وضعتُ الصواب في المتن، وأشرت في الهامش إلى ما كان في الأصل.
(2/5)
وقال الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ [4] لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14].
وقال عزَّ وجلَّ: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41].
وفي القرآن آياتٌ كثيرةٌ في المنافقين تبيِّن هذا المعنى.
وفي صحيح مسلمٍ عن عثمان قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “مَن مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة” (1).
وفيه عن عمر قال: كنا مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في مسيرٍ، فذكر الحديث، وفيه: فقال ــ يعني النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ــ عند ذلك: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنِّي رسول الله، لا يلقى الله عزَّ وجلَّ بهما عبد غير شاكٍّ فيهما إلا دخل الجنة” (2).
وفيه عن أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من حديث طويل: “فَمَنْ لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة” (3).
_________
(1) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب 10 [مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكٍّ فيه … ]، 1/ 41، ح 26. [المؤلف](2) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب 10 [مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكٍّ فيه … ]، 1/ 41 – 42، ح 27. [المؤلف](3) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب 10 [مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكٍّ فيه … ]، 1/ 44، ح 31. [المؤلف]
(2/6)
وفي صحيح البخاريِّ عن أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: “أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة مَن قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه أو نفسه” (1).
[ب 3] وفيه عن معاذٍ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله [5] وسلَّم قال: “ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حَرَّمه الله على النار” (2). وأصل الحديث في صحيح مسلمٍ (3).
وحديث الصحيحين وغيرهما في سؤال القبر سيأتي في الكلام على التقليد (4) إن شاء الله تعالى.
واعلم أن هذا الشرط مجمعٌ عليه أيضًا، فأما ما نُقِل عن الكرّامية من أن الإيمان هو النطق بالشهادتين فقط، وأن المنافق مؤمنٌ حقيقةً، فهو نزاع لفظي؛ لأنهم يقولون: إن هذا الإيمان الذي هو النطق إنما هو بالنظر إلى الأحكام الدنيوية (5)، فأما النجاة من النار فلا بدَّ فيها من التصديق القلبيِّ.
_________
(1) صحيح البخاريِّ، كتاب العلم، باب 32 [الحرص على الحديث]، 1/ 31، ح 99. [المؤلف](2) صحيح البخاريِّ، كتاب العلم، باب 47 [مَن خصَّ بالعلم قومًا دون قومٍ]، 1/ 37 – 38، ح 128. [المؤلف](3) كتاب الإيمان، باب 10 [مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكٍّ فيه … ]، 1/ 43، ح 30. [المؤلف](4) ص 200 – 203.
(5) يعني الإيمان الذي يعصم الدم والمال في الدنيا ويصير به من جملة المسلمين.
(2/7)
هكذا نقله عنهم الشهرستاني (1)، والسعد التفتازاني (2) وغيرهما. هذا، مع مخالفة قولهم للنصوص القرآنية والنبويَّة والإجماع السابق قبلهم.
إذا تقرَّر ما ذُكِر فلا ريب أن الجاهل بمعنى (لا إله إلا الله) لا علم له بمضمونها، ولا يصحُّ أن يُقال: شهد بها “وهو يعلم”، “مؤمنًا بها قلبه”، “غير شاكٍّ”، “مستيقنًا بها قلبه”، “خالصًا من قلبه أو نفسه”، “صدقًا من قلبه”، فتدبَّرْ.
وفي فتح الباري عن الحليميِّ (3): “لو قال الوثنيُّ: “لا إله إلا الله” وكان يزعم أن الصنم يقرِّبه إلى الله لم يكن مؤمنًا حتى يتبرّأ من عبادة الصنم” (4).
ومنها: التسليم، ويُعَبَّر عنه بالرضا، واكتفى جماعة عنه بالتصديق، زاعمين أنه يتضمنه. قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا [6] فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وفي صحيح مسلمٍ من حديث العباس بن عبد المطلب قال: قال
_________
(1) الملل والنحل 1/ 154 بهامش الملل والنحل لابن حزمٍ، الطبعة الأولى سنة 1320. [المؤلف](2) شرح المقاصد 1/ 248. [المؤلف](3) أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي، القاضي العلامة، أحد أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي، وكان متفننًا، وله مصنفات نفيسة، توفي سنة ثلاث وأربعمائة. السير 17/ 231
(4) فتح الباري، طبعة الخيريَّة، 13/ 280. [المؤلف]. وهو في كتاب المنهاج في شعب الإيمان للحليميّ 1/ 136.
(2/8)
رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّد رسولًا” (1)، وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 101 – 102].
وقال سبحانه: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} إلى أن قال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 12 – 14].
فعُلِم من هذه الآيات أن فرعون وقومه كانوا عالمين مستيقنين، ولم ينفعهم ذلك لعنادهم؛ إذ لم يعترفوا ولم يُسَلِّموا ولم يرضوا. ومَنْ لا يعلم معنى (لا إله إلا الله) لا يدلُّ تسليمه ورضاه بقولها على تسليمه ورضاه بمدلولها.
ومنها: أن يكون النطق بها على وجه الالتزام، أعني: التزام أن يعمل طول عمره بمقتضاها، وألا يخالفه. وأدلَّته أكثر من أن تحصى.
[ب 4] قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
اتَّفق المفسِّرون على أن قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} إلخ تفسيرٌ لقوله:
_________
(1) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب 11 [مَن رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمَّدٍ رسولًا]، 1/ 46 ح 34. [المؤلف]
(2/9)
{كَلِمَةٍ}. وقال ابن جريرٍ: “وقال آخرون: هو قول “لا إله إلا الله””. ثم أسند عن أبي العالية قال: “كلمة السواء: لا إله إلا الله” (1).
أقول: ويبيِّنه أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يدعو إلى (لا إله إلا الله). وفي قوله تعالى في الآية: {كَلِمَةٍ} ما يرشد إلى ذلك.
فيتحصَّل مما ذُكِر أن قوله تعالى: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بسطٌ لمعنى (لا إله إلا الله). وقد تضمَّن قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} إلخ الالتزام، فاتَّضح بذلك أن (لا إله إلا الله) تتضمَّن الالتزام، وهو المطلوب.
[7] وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وقد فُسِّر قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} في آياتٍ أخرى.
قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلى أن قال: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} الآيات [الأعراف: 64 – 70]. وجاء نحو هذا في قصة صالحٍ (2)، وشعيبٍ (3)،
_________
(1) تفسير ابن جريرٍ 3/ 195. [المؤلف](2) الأعراف: 73. [المؤلف](3) الأعراف: 85. [المؤلف]
(2/10)
وجاء نحوه في سورة هودٍ، ونحوه عن نوحٍ (1).
ودلالة هذه الآيات على الالتزام واضحةٌ، وهي مفسِّرةٌ لقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} في الأنبياء.
فظهر من ذلك تضمُّن الكلمة الطيِّبة للالتزام، وأن المطلوب من الخلق أن يقولوها على سبيل الالتزام.
وإيضاحه: أن هذه الآيات تصرِّح بأن إرسال الرسل إلى قومهم كان لدعوتهم إلى أن يعبدوا الله ويذروا عبادة غيره، وإجابة الرسل معناها قبول ما أُرسِلوا به. ولما جُعِلَت الشهادة إعلانًا بقبول ما أُرسِل به الرسل كانت متضمِّنةً التزامَ الشاهد أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة في حديث جبريل عليه السلام، إذ سأل النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الإيمان والإسلام، قال: “الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به” (2).
وفي صحيح مسلمٍ حديث عمر في هذه القصة: “الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله” (3).
_________
(1) المؤمنون: 23. [المؤلف](2) البخاريّ، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل، 1/ 19، ح 50. مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسلام ما هو؟ [وفي بعض النسخ: باب بيان الإسلام والإيمان والإحسان]، 1/ 30، ح 9. [المؤلف](3) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، [باب بيان الإسلام والإيمان والإحسان]، 1/ 29، ح 8. [المؤلف]
(2/11)
قال في الفتح: “ولما عَبَّر الراوي بالعبادة احتاج أن يوضِّحها بقوله: “ولا تشرك به شيئًا”، ولم يحتج إليها في رواية عمر؛ لاستلزامها ذلك” (1).
[8] وفي الصحيحين أيضًا حديث ابن عبَّاسٍ في قصَّة وفد عبد القيس، وفيه: أمرهم بأربعٍ، ونهاهم عن أربعٍ. أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: “أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ ” قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: “شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسول الله … ” (2).
[ب 5] وفي صحيح مسلمٍ من حديث أبي سعيدٍ في هذه القصة: “آمركم بأربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا … ” (3).
فيُعلَم بما تقدَّم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون اتِّحاد معنى شهادة أن لا إله إلا الله ومعنى التزام عبادة الله وعدم الشرك به، وهو المطلوب، والله أعلم.
هذا، ومَن تدبَّر تبيَّن له أن الشروط السابقة ــ وهي الاعتراف والتصديق والتسليم والرضا ــ إنما هي بمثابة الوسيلة للالتزام، وكأنه المقصود.
بل لو قيل بأن جانب الالتزام هو المغلَّب في شهادة أن لا إله إلا الله لما كان بعيدًا، بدلالة الاكتفاء بها من المشرك المحارب وإن لم يسمع شيئًا من البراهين المبطلة للشرك.
_________
(1) فتح الباري 1/ 88. [المؤلف](2) البخاريّ، كتاب الإيمان، بابٌ أداء الخمس، 1/ 21، ح 53. مسلم، كتاب الإيمان، باب [الأمر] بالإيمان إلخ، 1/ 35 – 36، ح 17. [المؤلف](3) مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان إلخ، 1/ 36، ح 18. [المؤلف]
(2/12)
وفي حديث أسامة قال: بعثنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى الحُرَقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجلٌ من الأنصار رجلًا منهم، قال: فلما غشيناه قال: (لا إله إلا الله)، قال: فكفَّ عنه الأنصاريُّ، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، قال: فقال لي: “يا أسامة، أقتلته بعد ما قال: (لا إله إلا الله)؟ ” قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوِّذًا، قال: “أقتلته بعد أن قال: (لا إله إلا الله)؟ ” قال: فما زال يكرِّرها عليَّ حتى تمنَّيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (1).
وفي حديث المقداد أنه قال: يا رسول الله، إن لقيتُ كافرًا فاقتتلنا، فضرب يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ بشجرةٍ، وقال: أسلمتُ لله، آقتله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “لا تقتله”. قال: يا رسول الله، فإنه طرح إحدى يديَّ ثم قال ذلك بعد ما قطعها، آقتله؟ قال: “لا تقتله؛ فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال” (2).
وفي حديث ابن عمر “قال: بعث النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – خالد بن الوليد إلى بني
_________
(1) صحيح البخاريِّ، كتاب الديات، باب 2 [قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا}]. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال (لا إله إلا الله)، 1/ 68، ح 96 (159). [المؤلف](2) صحيح البخاريِّ، كتاب الديات، باب 1 [قول الله تعالى: “ومَن يقتل مؤمنًا متعمِّدًا فجزاؤه جهنَّم”]. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال (لا إله إلا الله)، 1/ 66، ح 95. [المؤلف]
(2/13)
جَذِيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: (أسلمنا)، فجعلوا يقولون: (صبأنا) فجعل خالدٌ يقتل ويأسر” الحديث، وفي آخره: فرفع النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يده، فقال: “اللهمَّ إني أبرأ إليك مما صنع خالدٌ” (1).
وفي حديث أنسٍ: … فجاء أبو طلحة فخطب أمَّ سُلَيمٍ، وهي أمُّ أنس، فكلَّمها في ذلك، فقالت: يا أبا طلحة، ما مثلُك يُرَدُّ، ولكنك امرؤٌ كافرٌ، وأنا امرأةٌ مسلمةٌ، لا يصلح لي أن أتزوَّجك. فذكر الحديث، وفيه: فانطلق أبو طلحة يريد النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله جالس في أصحابه، [ب 6] فلما رآه [9] قال: “جاءكم أبو طلحة، غُرَّة الإسلام بين عينيه” الحديث (2).
بل قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14].
فهؤلاء شهدوا أن لا إله إلا الله على سبيل الالتزام وقُبِلَتْ منهم مع شهادة الله تعالى عليهم بأنه لم يدخل الإيمان في قلوبهم، وبذلك انتفى صدقُ الاعتراف، وانتفى التصديقُ، وانتفى الرضا الحقيقي، فلم يبق إلَّا الالتزام، فتدبَّرْ.
وقد قال العلماء: إن (لمَّا) النافية تشعر بأن المنفيَّ سيقع بعدُ، وعلى
_________
(1) صحيح البخاريِّ، كتاب المغازي، باب بعث النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خالد بن الوليد إلخ، 5/ 160، ح 4339. [المؤلف](2) رواه أبو داود الطيالسيّ في مسنده، حديث 2056 [وفي طبعة التركي 3/ 533، ح 2168]، وسنده صحيحٌ. [المؤلف]
(2/14)
هذا ففي الآية وَعْدٌ من الله عزَّ وجلَّ لهؤلاء القوم بأنه سيدخل الإيمان في قلوبهم، وقد وعدهم صريحًا بقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فيُعلَم من هذا أن هؤلاء لم يكونوا من المنافقين؛ فإن الله تعالى وعد هؤلاء بما سمعت، وأوعد المنافقين بأن يُضِلَّهم ويزيدَهم مرضًا ورِجْسًا.
والفرق بين الفريقين أنَّ المنافقين التزموا بألسنتهم وكانوا ينقضونه في السرِّ بالتكذيب والطعن والعدوان والسعي بالفساد وكيد الإسلام وأهله. وأما هؤلاء الأعراب فإنهم التزموا ووفَوْا بما التزموه وإن لم يكن قد دخل الإيمان في قلوبهم، فتدبَّرْ.
ثم رأيت الإمام الشافعيَّ رحمه الله تعالى قد ألمَّ بهذا في كتاب (إبطال الاستحسان)، قال: “ثم أَطْلَع الله رسولَه على قومٍ يظهرون الإسلام ويُسِرُّون غيره …. فقال لنبيِّه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا … } [الحجرات: 14].
قال الشافعيُّ: {أَسْلَمْنَا}، يعني: أسلمنا بالقول بالإيمان مخافة القتل والسِّباء، ثم أخبر أنه يجزيهم إن أطاعوا الله ورسوله، يعني: إن أحدثوا طاعة الله ورسوله، وقال له في المنافقين وهم صنفٌ ثانٍ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ … } [المنافقون: 1] ” (1).
محلُّ الشاهد قوله في المنافقين: “وهم قسم ثانٍ” (2).
والمقصود أن الأحكام الدنيويَّة بُنِيت على الالتزام وحده، ولو ممن عُلِم أنه لم يؤمن قلبه. وبهذا يُعلَم أنَّ ما جاء في بعض روايات حديث أسامة من
_________
(1) كتاب الأمّ 7/ 268. [المؤلف](2) كذا في الأصل.
(2/15)
قول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “فهلَّا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا” ليس المراد منه: آمن قلبه أم لا، بل المراد ــ والله أعلم ــ: آلتزم الإسلام بقلبه كما التزمه بلسانه أم لا؟ لأنَّ حرمة القتل لا تتوقَّف على الإيمان بالقلب كما سمعت.
وقال الله عزَّ وجلَّ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].
[ب 7] استثناؤه مَن أُكرِه وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان يدلُّ أن المستثنى منه وهو قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} يعمُّ مَن تظاهر بالكفر وإن لم يكفر قلبه، وإنما استثنى مَن تظاهر بالكفر مكرهًا. وعلى هذا فقوله: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} يعمُّ مَن تظاهر به مختارًا غير مكرهٍ وإن لم يكفر بقلبه؛ فإن تظاهره بالكفر مختارًا كافٍ في شرح الصدر بالكفر، وذلك أنه بتظاهره بالكفر قد نقض التزامه. وظاهر الآية أن المكرَه إذا كفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان قد كفر بعد إيمانه، ولكن لما كان معذورًا وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان عذره الله تعالى، فالعذر مبنيٌّ على الأمرين معًا: الإكراه، واطمئنان القلب بالإيمان، فلا يكفي أحدهما، والله أعلم.
[10] ويشهد لهذا قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ
(2/16)
عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 – 99].
أخرج البخاريُّ عن ابن عبَّاسٍ أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثِّرون سواد المشركين على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، يأتي السهم فيصيب أحدهم فيقتله، أو يُضرب فيُقتل، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ} الآية (1).
وأخرج البخاريُّ عن ابن عبَّاسٍ أيضًا أنه تلا: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}، قال: كنتُ أنا وأمِّي ممن عذر الله (2).
وهذا الأثر الثاني يدلُّ أن ابن عبَّاسٍ لم يرد بالأثر الأوَّل أن الآية خاصَّةٌ بمن كان يكثِّر السواد في الحرب، بل تعمُّ المتخلِّفين عن الهجرة. وجاء عن بعض السلف أن هؤلاء المتخلِّفين غيرَ المعذورين كفروا بعد إيمانهم، واستبعده بعض المتأخِّرين ظنًّا أنه لم يقع منهم إلَّا التخلُّف عن الهجرة. والذي تدلُّ عليه الآثار أن المتخلِّفين كانوا يُكرَهون على الكفر، [11] وعلى هذا فمُكْثُ مَن مكث منهم مع استطاعته الهجرة وعلمِه أنه إن لم يهاجر أُكرِه على الكفر= ضربٌ من الاختيار؛ فلذلك ــ والله أعلم ــ لم يُعذَروا.
ثم رأيت في سنن البيهقيِّ ما لفظه: “قال الله جَلَّ ثناؤه في الذي يُفْتَن عن
_________
(1) صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، تفسير هذه الآية [باب: “إن الذين توفَّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم … “]، 6/ 48، ح 4596. [المؤلف](2) الصحيح، كتاب التفسير، باب: “وما لكم لا تقاتلون” إلخ، 6/ 46، ح 4588. [المؤلف]
(2/17)
دينه، قَدَر (1) على الهجرة فلم يهاجر حتى توفي: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} الآية [النساء: 97] ” (2). وهذا صريحٌ فيما ظهر لي، ولله الحمد.
هذا، وقوله تعالى في الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلًا: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} فيه دلالةٌ على [أن] مَن أُكرِه منهم على الكفر فتظاهَر به فقد أساء، وإن كان معفوًّا عنه، أي ــ والله أعلم ــ: لأنه كان الأولى لهم أن يصبروا [ب 8] على العذاب أو القتل ولا يتظاهروا بالكفر. وقد كان جماعةٌ من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل أن يُؤذَن لهم بالهجرة يعذَّبون فصبر أكثرهم، وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لعمَّارٍ وأبيه وأمِّه وهم يعذَّبون: “صبرًا آل ياسر؛ فإنَّ موعدكم الجنَّة” (3).
ومما يدلُّ على الالتزام قول الله جلَّ ثناؤه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}، إلى قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ}، إلى قوله: {فَبَايِعْهُنَّ} [الممتحنة: 10 – 12].
_________
(1) كذا في الأصل والسنن الكبرى للبيهقيِّ.
(2) سنن البيهقي 9/ 12. [المؤلف](3) أخرجه الحاكم في كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنه، إيذاء الكفَّار آل ياسرٍ، 3/ 383، من طريق ابن إسحاق مرسلًا. ثم أخرجه في الكتاب المذكور، ذكر مناقب عمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنه، “ما خُيِّر عمَّارٌ بين أمرين إلا اختار أرشدهما”، 3/ 388 – 389، من طريق أبي الزُّبير عن جابرٍ رضي الله عنه، نحوه، وقال: “صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرجاه”، ولم يتعقَّبْه الذهبيُّ.
(2/18)
يعني ــ والله أعلم ــ: فبايعهنَّ على ذلك عند قدومهنَّ من دار الكفر، على أن هذه المبايعة كانت غير خاصَّةٍ بهنَّ؛ ففي الصحيحين عن عبادة بن الصامت أحد النقباء أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال وحوله عصابةٌ من أصحابه: “بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا” الحديث، كما في بيعة النساء (1).
وجاء نحوه عن جرير بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص (2).
وهذه المبايعة كالتفسير للشهادتين وبعض ما يتعلَّق بهما؛ ولذلك ــ والله أعلم ــ ترك أئمَّةُ الصحابة ومن بعدهم مبايعةَ مَنْ يُسلم مثل المبايعة المذكورة اكتفاء بالشهادتين، وبأنَّ معناهما وما يتعلَّق به [12] قد اشتهر بين الناس.
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الآية [البقرة: 83].
فأَخَذَ الميثاق منهم لا يعبدون إلا الله على وجه الالتزام، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
ومما يوضِّح اشتراط الالتزام أنَّ الكافر لو قال: أنا أعلم أن دين الإسلام حقٌّ ولكن لا أدع ديني، أو قال: أنا أعلم أن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله حقٌّ ولكني لا أحبُّ الدخول في الإسلام، أو قال: أنا لا أدع ديني أبدًا مع أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله؛ فإنه لا
_________
(1) البخاريّ، كتاب الإيمان، باب 11، 1/ 12، ح 18. مسلم، كتاب الحدود، بابٌ الحدود كفَّارةٌ لأهلها، 5/ 127، ح 1709. [المؤلف](2) انظر: فتح الباري 1/ 51. [المؤلف]
(2/19)
يصير بشيءٍ من ذلك مسلمًا، ولا تلزمه أحكام الإسلام. وقد وردت في معنى هذا آثارٌ كثيرةٌ، منها قصة أبي طالبٍ (1) ومنها قصَّة ابن صُوريا (2) وغيره من اليهود كانوا يعترفون ولكنهم أبَوْا الدخول في الإسلام، فلم يَعُدَّ النبي صَلّى الله عليه وآله [13] وسلَّم اعترافَهم إسلامًا، ولا تمسُّكَهم بعده بدينهم ردَّة.
ومنها قصة هرقل (3) والأعشى ميمون (4) وغير ذلك.
_________
(1) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب مناقب الأنصار، باب قصَّة أبي طالبٍ، 5/ 52، ح 3884. وصحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب صحَّة إسلام مَن حضره الموت ما لم يُشرع في النزع، 1/ 40، ح 24.
(2) هو عبد الله بن صوريا اليهوديّ، أعلم بني إسرائيل. رُوِي أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال له: “يا ابن صوريا، أنشدك الله وأذكِّرك أيَّامه عند بني إسرائيل، هل تعلم أنَّ الله حكم فيمَن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ ” فقال: اللهمَّ نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبيٌّ مرسل ولكنهم يحسدونك. أخرجه البيهقي في كتاب الحدود، باب ما جاء في حدِّ الذمِّيِّين … ، 8/ 245، من حديث أبي هريرة. وأصل القصَّة في الصحيحين من حديث ابن عمر. انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب المناقب، باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، 4/ 206، ح 3635. وصحيح مسلمٍ، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهلِ الذمَّة في الزنى، 5/ 121، ح 1699.
(3) هو ملك الروم، وهرقل اسمه، ولقبه قيصر. وقصَّته مع أبي سفيان مشهورةٌ، وفيها أنه قال له بعدما سأله عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: (فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارجٌ، لم أكن أظنُّ أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشَّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه). انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب بدء الوحي، 1/ 8، ح 7. وصحيح مسلمٍ، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – إلى هرقل، 5/ 163، ح 1773.
(4) هو ميمون بن قيس بن ثعلبة الشاعر الجاهليُّ المشهور، ذُكِر أنه خرج إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يريد الإسلام، فأنشأ قصيدةً يمدح بها النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، ومِن ضمنها أبيات يقرُّ فيها بأن محمَّدًا نبيُّ الإله، ويحضُّ على فرائض الإسلام، وينهى عن المحرَّمات المشهورة، فمرَّ بمكَّة في الفترة التي هادن فيها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قريشًا، فصدَّه بعضُ المشركين عن نيَّته. انظر: السيرة النبويَّة لابن هشام 2/ 29 – 32، وديوان الأعشى 185 – 187
(2/20)
وقد أطلت في بيان هذا الشرط لأنني لم أره مشروحًا فيما وقفت عليه.
ثم رأيت صاحب “الهَدْي” ذكر قصَّةً وقعت لبعض النصارى في العهد النبويِّ، ثم قال: [ب 9]: “وفيها: أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأنه نبي لا يُدْخِلُه في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته، فإذا تمسَّكَ بدينه بعد هذا الإقرار لا يكون ردّة منه، ونظير هذا قول الحَبْرَين له وقد سألاه عن ثلاث مسائل، فلما أجابهما قالا: نشهد أنك نَبِيٌّ، قال: فما يمنعكما من اتِّباعي؟ قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود (1)، ولم يَلْزَمْهُما بذلك الإسلامَ، ونظير ذلك شهادةُ عمِّه أبي طالبٍ له بأنه صادقٌ وأنّ دينه من خير أديان البريّة دينًا (2)، ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام.
ومَن تأمَّل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالرسالة، وأنه صادق، فلم تُدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، عَلِمَ أن الإسلام أَمْرٌ وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفةَ والإقرار والانقياد
_________
(1) أخرجه التِّرمِذيّ في كتاب التفسير، بابٌ ومن سورة بني إسرائيل، ، ح 3144، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والنَّسائيُّ في كتاب تحريم الدم، السحر، 7/ 102 – 103.
(2) قال ذلك في قصيدةٍ له، أورد بعضها ابن إسحاق في سيرته ص 136.
(2/21)
والتزام طاعته ودينه ظاهرًا وباطنًا” (1).
وبعد ذلك رأيت في حاشية عبد الحكيم على شرح المواقف ما لفظه: ” …. من حصل له تصديقٌ بلا اختيارٍ إذا التزم العمل بموجبه يكون إيمانًا اتِّفاقًا. ولو صدَّق النبيَّ بالنظر إلى معجزاته اختيارًا ولم يلتزم العمل بموجبه بل عانده فهو كافرٌ اتِّفاقًا. فعُلم أن المعتبَر في الإيمان الشرعيِّ هو الاختيار في التزام موجب التصديق لا في نفسه، وهذا هو التسليم الذي اعتبره بعض الفضلاء أمرًا زائدًا على التصديق” (2).
وإذ قد تبيَّن أن من شرط الاعتداد بشهادة أن لا إله إلا الله أن تقع على وجه الالتزام، فمن الواضح أنه لا بدَّ من معرفة معناها كسائر صيغ العقود التي يلتزم بها المكلَّف ما لم يكن ملتزمًا له قبل.
ثم إذا وقعَتْ كلمة الشهادة مستكملة للشروط فشرط استمرار حكمها ألا يحدث من صاحبها ما يخلُّ بموجَبها، وهذا هو المقصود الحقيقي والثمرة المطلوبة، ولذلك وقع الاتِّفاق على أنَّ السجود للصنم أو الشمس أو نحوهما ردَّةٌ تخرج من الإسلام إلا المكرَه بشرطه، ولم يشترط في الحكم برِدَّة الساجد للصنم أو الشمس أن يُسَمِّي ما سجد له إلهًا أو يُسَمِّي سجوده عبادةً، بل لو كان حال السجود معلنًا بثباته على شهادة أن لا إله إلا الله وكانت هناك قرينةٌ تدلُّ أن سجوده إنما كان لغرضٍ عارضٍ، كأن جُعِلَ له مالٌ
_________
(1) الهدي بهامش سيرة ابن هشامٍ 2/ 39. [المؤلف]. وهو في طبعة مؤسسة الرسالة 3/ 638.
(2) حواشي شرح المواقف، موقف 6، مرصد 3، مقصد. [المؤلف]. 8/ 322 والنص المنقول لحسن جلبي في حاشيته لا لعبد الحكيم السيالكوتي.
(2/22)
عظيمٌ على السجود فسجد، لم يُفِدْه ذلك ظاهرًا ولا باطنًا. والسرُّ في ذلك: أنَّ سبب الكفر ها هنا ليس محصورًا فيما يدلُّ عليه السجود من الاعتقاد في الشمس، بل له وجه آخر وهو الإقدام على ما عُلم أنه في حكم الشرع كفرٌ، فالإقدام عليه بغير إكراهٍ دليلٌ واضحٌ على رضاه بأن يكون كافرًا، وسيأتي لهذا مزيدٌ إن شاء الله تعالى.
وإذا علمت أن المقصود الحقيقيَّ هو الاستمرار على مقتضى الشهادة حتى لا يقع من الشاهد ما ينقضها علمت أنه لا بدَّ من معرفة معناها؛ إذ مَن لا يعرف معناها لا يؤمَن عليه أن يقع فيما ينقضها، وهذا بغاية الوضوح.
[ب 10] شبهةٌ وجوابها
فإن قيل: أفلا يكفي الإنسان أن يكون معترفًا بصدق الرسول في جميع [14] ما جاء به مصدِّقًا به مسلِّمًا راضيًا ملتزمًا العمل بموجَب ذلك عازمًا عليه، فلما سمع كلمة أن لا إله إلا الله وعلم أنَّ الرسول جاء بها اعترف بها وصدّق وسلّم ورضي والتزم وعزم على العمل بموجَبها مع جهله بمعناها كما يكفيه نحو هذا في الآيات القرآنيَّة والأحاديث المتواترة، وإذا وقع منه عملٌ يخالف موجَبها عُذِرَ بالجهل؟
قلت: الأدلَّة التي قدَّمناها صريحةٌ في أن المطلوب في الشهادة الاعترافُ والتصديق والتسليم والرضا والالتزام والعمل بالموجَب على وجه التحقيق في كلِّ واحد منها، وذلك لا يكون إلا مع العلم بالمعنى كما قدَّمنا. فأمَّا حصول هذه الأمور بمجرَّد خبر المعصوم مع جهل المعنى، فلا يكون على وجه التحقيق كما هو ظاهر. وقد يجمع الجاهل بالمعنى بين الاعتراف بلا إله إلا الله على الوجه المذكور وبين الاعتراف بما يناقض معناها، أعني
(2/23)
الشركَ، وإنكارَ حقيقة معناها، أعني التوحيد، وهكذا يُقال في التصديق وبقيَّة الأمور. وحينئذٍ فلم يحصل له شيء من المقصود وهو أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا، وما يدرينا لَعَلَّ هذا الرجل لو عَلِمَ حقيقة معناها لما اعترف ولا صدَّق، وهكذا الباقي.
ووجه ذلك: أنه قد تقوم لديه شبهاتٌ تعارض عنده ما يعتقده من صدق الرسول أو يكون ذلك الأمر مخالفًا لهواه. وللهوى سلطان عظيم على النفوس، فربما عُرِضَت الحقيقة البينة على النفس وهي غير مخالفة لهواها فتقبلها، ثم تُعرض عليها حقيقة مثل تلك في الوضوح أو أبين، ولكنها مخالفة لهواها فتردّها. وهل كذّب المشركون رسلهم إلا لمجيئهم بما يخالف أهواءهم؟ وفي الحديث: “حُبُّك للشيء يُعْمي ويُصِمّ” (1).
ومن تتبع مناظرات أهل النحل المختلفة وتأويلاتهم البراهينَ الواضحةَ تبين له ما ذكرناه، بل من تتبع مناظرات الفرق الإسلامية وما تحتجُّ به كلُّ فرقةٍ منها، [ب 11] وتردُّ ما يخالفها من الأدلَّة أو تتأوَّله عرف ما للهوى من عظمة السلطان، على أن كثيرًا من أولئك المتأوِّلين التأويلات التي لا يشكُّ البريء من الهوى في بطلانها هم ممن ثبتت معرفته وأمانته وأنه لا يتعمَّد الباطل، ولكن الهوى أعماه وأصمَّه فقاتل الحقَّ وهو يظنُّ أنه يقاتل عن الحقِّ.
_________
(1) مسند أحمد 5/ 194. سنن أبي داود، كتاب الأدب، بابٌ في الهوى، 2/ 344، ح 5130. كلاهما من حديث أبي الدرداء مرفوعًا، وفي سنده مقالٌ، ورجَّح بعض الحفاظ وقفه، وفي الجامع الصغير أن ابن عساكر أخرجه من حديث عبد الله بن أُنَيْس، قال في الشرح [التيسير بشرح الجامع الصغير 1/ 1002]: “وسنده حسنٌ”، وقد رُوِي من حديث معاوية. [المؤلف] وفي نسخة أ: “وسنده حسن، وزَعْمُ وَضْعه رُدَّ”.
(2/24)
ولله درُّ البُرَيق الهذلي في قوله (1):
أَبِنْ لي ما ترى والمرء تأبى (2) … عزيمته ويغلبه هواه
[16] فيعمى ما يرى فيه عليه … ويحسب ما يراه لا يراه
وكما أن الإنسان قد يجتهد في الطاعة في العمل ولكنه لو كُلِّفَ عملًا شديد المشقة لم يُطِع، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36 – 37]، وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، وقال تبارك وتعالى لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] = فكذلك قد يجتهد الإنسان في التصديق فإذا كُلِّف التصديق بما يخالف هواه لم يُصَدِّق، فربما أُخْبِر بخبر لا يفهمه فصدَّق على عادته، ولو تبيَّن له معناه وكان مخالفًا لرأيه وهواه لكذَّب أو ارتاب أو توقَّف؛ فقد كان مشركو قريشٍ يعلمون أمانة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى خصُّوه بلقب الأمين، ولما سأل هرقل أبا سفيان عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: هل كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا (3). وأبو سفيان يومئذ رأسُ المشركين وأشدُّهم عداوةً لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
_________
(1) انظر: شرح أشعار الهذليِّين 2/ 758.
(2) في شرح أشعار الهذليِّين: يأتي، ولعله أنسب.
(3) صحيح البخاريِّ، في أوائله، بابٌ كيف كان بدء الوحي إلخ، 1/ 8 – 9، ح 7. [المؤلف]
(2/25)
وأخرج الحاكم في المستدرك عن ناجية بن كعبٍ (1)، عن عليِّ بن أبي طالبٍ، قال: قال أبو جهلٍ: “قد نعلم يا محمَّد أنك تصل الرحم وتَصْدُق الحديث، ولا نُكذِّبك، ولكن نُكذِّب الذي جئت به”، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} الآية [الأنعام: 33].
قال الحاكم: “صحيحٌ على شرط الشيخين”، تعقَّبه الذهبي، فقال: “ما خرَّجا لناجية شيئًا” (2).
[ب 12] أقول: أجل، لم يخرجا له، ولكن قد وثَّقه العجليُّ وابن حِبَّان، وقال ابن مَعين: “صالحٌ”. فأما قول ابن المدينيِّ: “ما روى عنه غيرُ أبي إسحاق، وهو مجهولٌ”، فقد قال السخاوي في فتح المغيث ــ بعد ذكر مَن يقبل المجهول ــ: “وخصَّ بعضهم القَبول بمن يزكِّيه مع رواية الواحد أحدٌ من أئمة الجرح والتعديل، واختاره ابن القطَّان في بيان الوهم والإيهام، وصحَّحه شيخنا، وعليه يتمشَّى تخريج الشيخين في الصحيحين لجماعةٍ … ” (3).
أقول: وبهذا الاعتبار يصحُّ قول الحاكم: “على شرط الشيخين”.
فأما قول الجوزجاني في ناجية: “مذمومٌ”، فالجوزجانيُّ كان فيه نصبٌ وانحرافٌ شديد عن عليٍّ عليه السلام، يرى محبَّة عليٍّ جرحًا؛ ولهذا لم يلتفت العلماء إلى كلامه في أصحاب عليٍّ ومحبِّيه، وقد صرَّح بذلك ابن
_________
(1) انظر ترجمته في ميزان الاعتدال 4/ 155. [المؤلف](2) المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة الأنعام، سورة الأنعام شيَّعها من الملائكة ما سدَّ الأفق، 2/ 315. [المؤلف](3) فتح المغيث ص 135. [المؤلف]
(2/26)
حجرٍ وغيره في مواضع. وعليه فقوله في ناجية: “مذمومٌ” معناه أنه كان يحب عليًّا، “وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها” (1).
نعم، أخرج الترمذي الحديث في جامعه من طريق معاوية بن هشام، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن عليٍّ.
ثم أخرجه من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، أنَّ أبا جهل …
قال الترمذي: “فذكر نحوه ولم يذكر فيه: عن عليٍّ. وهذا أصحُّ” (2).
أقول: ابن مهديٍّ أثبت من معاوية، ولكن رواية المستدرك من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن عليّ. وقد قال ابن مهدي نفسه: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة والثوريِّ.
أقول: ولعلم مشركي قريشٍ بمنزلة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الصدق والأمانة فزعوا إلى قولهم: (مسحورٌ)، (مجنونٌ)، ونحو ذلك.
والمقصود أنه – صلى الله عليه وسلم – لو جاءهم بخبرٍ لا يخالف هواهم أو لا يعرفون معناه لصدَّقوه، ولكنه لما جاءهم بـ (لا إله إلا الله) وهم يعرفون معناها بما يخالف هواهم أنكروا.
_________
(1) هذا عجز بيتٍ صدره:
وعيَّرها الواشون أني أحبُّها
وهو لأبي ذُؤيبٍ الهذلي، وظاهرٌ عنك، أي: زائلٌ عنك، لا يَعْلَق بك. انظر: شرح أشعار الهذليِّين 1/ 70.
(2) جامع الترمذي، تفسير سورة الأنعام، 2/ 678، ح 3064. [المؤلف].
(2/27)
وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جمع قريشًا [17] ثم قال لهم: “أرأيتكم لو أخبرتُكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدِّقيَّ؟ ” قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إلَّا صدقًا، قال: “فإني [ب 13] نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ”. فقال أبو لهبٍ: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنَزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (1) [المسد: 1].
وقال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
وقال جلَّ ثناؤه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20].
وقد تقدَّم بيان أن فرعون وقومه كانوا مستيقنين بصدق موسى عليه السلام، ومع ذلك كان منهم ما كان. وكان عمرو بن عبيد من زُهَّاد المسلمين وعُبَّادهم يُضْرَب به المثل في ذلك، حتى قال الخليفة المنصور العباسي في العُبّاد:
كلُّكم طالب صيد
كلُّكم يمشي رويد
غير عمرو بن عبيد
_________
(1) صحيح البخاريِّ، [كتاب التفسير]، تفسير سورة الشعراء، [باب قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}]، 6/ 111، ح 4770. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، بابٌ في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ}، 1/ 134، ح 208. [المؤلف]
(2/28)
ورثاه لما مات بأبياتٍ مشهورةٍ.
ومع ذلك فإنها أخذته فتنةٌ في القَدَر غلا فيها حتى قال: “إن كان {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في اللَّوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجَّةٌ”.
وسُئل مرَّةً عن {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} كانت في اللوح المحفوظ؟ فقال: “ليس هكذا كانت”، قيل: وكيف كانت؟ فقال: “تبَّت يدا مَن عمل بمثل ما عمل أبو لهبٍ”، كأنه يريد أنها كانت: “تبَّت يدا مَن أشرك بالله وكذَّب رسوله” مثلًا، ثم لما أشرك أبو لهب وكذَّب علم الله تعالى ذلك منه، فجعل بدل هذا {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}؛ لأنَّ مقصود عمرٍو نفي علم الله بأن فلانًا سيكفر وفلانًا سيفجر، وإنما يَعلم ذلك بعد وقوعه.
ورُوِي له عن الأعمش، عن زيد بن وهبٍ، عن ابن مسعودٍ، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حديثٌ (1) رآه مخالفًا لهواه، فقال: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذَّبته، ولو سمعته من زيد بن وهبٍ لما صدَّقته، ولو سمعت ابن مسعودٍ يقوله لما قبلته، ولو سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (2) لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا [18] لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا!
ونُقِلَت عنه أشياء أخرى من هذا الباب. وجاء عنه أنه قال: “لو أن عليًّا
_________
(1) هو حديث: “إن أحدكم يُجمع خلقه في بطْن أمه أربعين يومًا” إلخ، وهو في الصحيحين، انظر: صحيح البخاري، كتاب القدر، باب 1، 8/ 122 ح 6594، وصحيح مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه 8/ 44 ح 2643
(2) زاد في تاريخ بغداد 12/ 172 هنا: (يقول هذا)، وهو أوضح.
(2/29)
وعثمان وطلحة والزُّبير شهدوا عندي على شِراك نعلٍ ما أجزته” (1).
وليس هذا رأي عمرٍو وحده، بل كلُّ مَن يعتقد عقيدةً مستندًا فيها إلى عقله يزعم أنها يقينيَّةٌ عنده، بحيث يستحيل أن يجيء يقينٌ بخلافها.
قال الغزالي: “أمَّا اليقين فشرحه أنَّ النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت إليها فلها ثلاثة أحوال:
أحدها: أن تتيقَّن وتقطع به …. بل حيث لو حُكي لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة وادَّعى ما يناقضها فلا تتوقف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذب، أو تقطع بأن القائل ليس بنبي، وأنَّ ما ظن [ب 14] أنه معجزة فهي مخرقة (2)، وبالجملة فلا يؤثِّر هذا في تشكيكها بل تضحك من قائله وناقله …. ” (3).
وقد عرّفتك أن كلَّ معتقد عقيدة مسندًا لها إلى العقل يزعم أنها يقينية. ومعنى ذلك أنه لو لقي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فشافهه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بما يخالف تلك العقيدة لكذّبه، والعياذ بالله. [19]فلا تحسبنْ هندًا لها الغدر وحدها … سجيةَ نفسٍ، كلُّ غانيةٍ هندُ (4)
ولكن القوم إذا جاء دليل شرعي يخالف عقيدتهم فتارة ينكرون ثبوته
_________
(1) انظر ترجمته من: تهذيب التهذيب وغيره، وانظر: الاعتصام 1/ 309 – 313، وتاريخ الخطيب 12/ 170 – 188. [المؤلف](2) ما عُمِل بتمويهٍ وخداعٍ. انظر: تاج العروس، مادَّة (مخرق).
(3) المستصفى 1/ 43. [المؤلف](4) البيت لأبي تمام، ديوانه 2/ 81.
(2/30)
عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، بل يزعمون أن ثبوته محال، وتارة يستكرهونه على التأويل، وقد مرَّ مثال ذلك عن عمرو بن عُبيدٍ.
وقد علمنا أنهم مختلفون في العقائد؛ فهذا يعتقد أمرًا ويزعم أنه يقينيٌّ، وذاك يعتقد نقيضه ويزعم أنه يقينيٌّ. وبهذا يُعلَم أن من العقائد التي يزعم أصحابها أنها يقينيَّةٌ ما هو باطلٌ قطعًا، فلو فرضنا أن أصحابها لقوا النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فأخبرهم ببطلان عقيدتهم فماذا يكون حالهم؟ أيردُّون قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويكذِّبونه ويقطعون بأنه ليس بنبيٍّ وأن معجزاته مخرقةٌ ويضحكون منه وممن يتَّبعه، أم يتردَّدون، أم يرجعون عن عقيدتهم التي زعموا أنها يقينيَّةٌ يستحيل أن يجيء يقينٌ بخلافها؟ ومَنْ تأمل تأويلاتهم المستكْرَهة للآيات القرآنيَّة وما وقع فيه شجعانهم كابن سينا وابن رشدٍ وغيرهما لم يجزم بحسن الظنِّ بهم.
إنَّ مَن غَرَّه النساء بودٍّ … بعد هندٍ لجاهلٌ مغرورُ
كلُّ أنثى وإن بدا لك منها … آية الحبّ حبُّها خيتعورُ (1) (2)
هذا مع أن هؤلاء ــ وعمرٌو في مقدمتهم ــ إذا سمعوا آية من القرآن لم يفهموا معناها لم يتردَّدوا في تصديقها، وكذلك إذا كانت مخالفةً لعقيدتهم فإنهم يصدِّقونها بعد تأوُّلها على ما يوافق عقيدتهم، ولكن لو فُرِض [20] أنَّ آيةً جاءت قطعيَّة الدلالة على خلاف قولهم فما ندري ماذا يصنعون؟ وقد
_________
(1) هو كلُّ شيءٍ يتغيَّر ويضمحلُّ ولا يدوم على حالٍ، والسراب المضمحِلُّ، وشيءٌ كنسيج العنكبوت يظهر في الحرِّ كالخيوط في الهواء. المعجم الوسيط 454.
(2) البيتان لآكل المرار حجر بن مطاوية. البيان والتبيين للجاحظ: 3/ 328، والأغاني: 16/ 380 – 381.
(2/31)
نُقِل عن عمرٍو أنه جحد أن تكون {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] السورة، وقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] الآيات، من القرآن.
وذهب بعض المنتسبين إلى الإسلام من المتفلسفين إلى أنَّ [ب 15] في القرآن والأحاديث الثابتة كذبًا كثيرًا، ويقولون: هو كذبٌ حسن للمصلحة. وذهب بعضهم إلى إنكار أن يكون القرآن من عند الله، وإنكار أن يكون الأنبياء معصومين عن الكذب، قالوا: وإنما هم رجالٌ صالحون مصلحون تكلَّموا بمقدار فهمهم وعلمهم فغلطوا كثيرًا.
وفي قصة ابن أبي سرحٍ أنه كان يكتب للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فربَّما أملى عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “عليمٌ حليمٌ”، فيقول: أو: “عزيزٌ حكيمٌ”، فيقول النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “كلاهما سواءٌ”، فارتدَّ ابن أبي سرحٍ (1). هذا ضربٌ.
والضرب الثاني، من أمثلته: ما في صحيح مسلمٍ من حديث أبيِّ بن كعبٍ في اختلاف القراءة، وفيه: قال أُبيٌّ: “فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما قد غشيني ضرب في صدري، فَفِضْت عَرَقًا، وكأنما أنظر إلى الله فَرَقًا” (2).
وفي خبر الرجل الذي قاتل مع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أشدَّ
_________
(1) انظر الروايات وتوجيه القصَّة في الصارم المسلول ص 118 وما بعدها. [المؤلف](2) صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة [وفي بعض النسخ: كتاب صلاة المسافرين وقصرها]، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرفٍ، 2/ 203، ح 820. [المؤلف]
(2/32)
القتال، وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “هو من أهل النار”، فكاد بعض المسلمين يرتاب (1).
[21] وفي قصَّة الحديبية، ويوم أحدٍ، ووفاة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما يشبه ذلك.
والمقصود أن الإيمان الإجماليَّ لا يؤمَن تزلزله أو زواله إذا جاء في التفصيل ما يخالف الرأي والهوى، ولكنَّ أُبيًّا وأضرابه كان الله تبارك وتعالى يتداركهم فورًا ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
[22] وإنما لم يكلِّف الله عزَّ وجلَّ العباد بالإيمان التفصيليِّ بجميع ما جاء به الرسول بحيث لا يُقبَل إيمان العبد حتى يعلم الشريعة من أوَّلها إلى آخرها؛ لما في ذلك من المشقَّة الشديدة، بل عدم الإمكان، فلو كلَّفهم بذلك لم يكد يصحُّ إيمان أحدٍ، فاكتُفي بالعلم التحقيقيِّ بمعنى الشهادتين مع الإيمان الإجماليِّ، ثم كُلِّف الناس بعد ذلك ما يطيقون. والتوحيد رأس الدين وعماده، فلا يلزم من الاكتفاء بالإيمان الإجماليِّ بالقرآن والسنَّة بدون معرفة المعاني كلِّها أن يُكتفى بمثل ذلك في الشهادتين.
[ب 16] فإن قيل: فما القول في صبيان المسلمين: أمسلمون أم لا؟ وفيمَن كبر منهم وبلغ ولم يعلم معنى الشهادتين تحقيقًا أمسلمٌ أم لا؟ وفيمَن قبل الإسلام من الأعاجم ونحوهم وهو لا يعلم معنى الشهادتين أيصحُّ إسلامه أم لا؟
_________
(1) صحيح البخاريِّ، كتاب القدر، باب العمل بالخواتيم، 8/ 124، ح 6606. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 74، ح 112. [المؤلف]
(2/33)
قلت: هؤلاء كلُّهم مسلمون، وإنما الكلام في الإيمان المنجي؛ فالصبيُّ ومَن بلغ مجنونًا ينجوان لعدم التكليف؛ فإن الأعراب وإن كانوا يعلمون معنى الشهادتين إلَّا أنهم لم يصدِّقوا به بقلوبهم، وهؤلاء لم يعلموا معنى الشهادتين حتى يُعلَم أيصدِّقون أم لا، ولكن الشريعة قد قبلت إسلام هؤلاء وهؤلاء وأجرت عليهم أحكام المسلمين.
فإن قلت: فإذا كان رجلٌ عارفٌ بالتوحيد الذي تدلُّ عليه (لا إله إلا الله) تحقيقًا مصدِّقًا به مسلِّمًا راضيًا ملتزمًا عالمًا بموجَبه ولكنه لا يعلم معنى (لا إله إلا الله)، ومع ذلك يقولها امتثالًا مؤمنًا بها إجمالًا؟
قلت: أمَّا هذا فالأمر فيه قريبٌ، ولكن الغالب أن الجاهل بمعنى (لا إله إلا الله) يكون جاهلًا بحقيقة التوحيد، ومَن كان كذلك يُخشى عليه أن يكون مشركًا وهو لا يشعر، [23] أو أن يعرض له الشرك فيقبله وهو لا يدري، أو أن يرمي غيره من المسلمين بالشرك، [ب 17] وكلا الأمرين خطرٌ شديدٌ.
(2/34)
بابٌ في أن الشرك هلاك الأبد حتمًا، وأن تكفير المسلم كفرٌ
أما الشرك ــ نعوذ بالله منه ــ فهلاك الأبد، لا هوادة فيه لأحدٍ، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116].
وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
وقال عزَّ وجلَّ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} أي: الملائكة، {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 – 29].
وقال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(2/35)
(88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 83 – 89].
وقال جلَّ ثناؤه: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) [24] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 64 – 65].
وقال تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22].
[ب 18] وقال سبحانه: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39].
وقال عزَّ وجلَّ: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 213 – 214].
وقال جلَّ ثناؤه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وقال تبارك وتعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [المؤمن: 18].
هذا مع أن الله عزَّ وجلَّ قد عصم ملائكته وأنبياءه وخاتمهم عليهم الصلاة والسلام من الشرك ومما هو دونه, ولكن نَبَّه بما تقدَّم من الآيات المتعلقة بهم على عِظَمِ أمر الشرك وخطره، مع أنَّ التعليم والتحذير هو من جملة العصمة.
(2/36)
فصلٌ
ومما يبيِّن فظاعة الشرك وشدَّة بغض الله عزَّ وجلَّ له: النظر فيما ورد في تعظيم شأن ضدِّه وهو التوحيد.
قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
جاء عن ابن عبَّاسٍ وغيره تفسير العبادة بالتوحيد (1). ووَجْه ذلك: أن الله عزَّ وجلَّ يحبُّ أن يُعبد العبادة التي يقبلها، وهو لا يقبل إلا العبادة الخالصة التي لا شرك معها.
[25] ومما يبيِّن عظمة شأن التوحيد وشدَّة خطر الشرك: أن أعظم سورة في القرآن، والسورة التي تعدل ثلثه، وإنما هي بضع عشرة كلمة، والسورة التي ورد أنها تعدل ربعه، وأعظم آية في القرآن= كلُّها مبنيَّةٌ على توحيد العبادة.
أما أعظم سورة في القرآن فأمُّ الكتاب.
روى البخاريُّ وغيره عن أبي سعيد بن المعلَّى أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال له: “ألا أعلِّمك أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ “، فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج، قلت: يا رسول الله، إنك قلت: لأعلِّمنَّك أعظم سورةٍ من القرآن، قال: ” {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته” (2).
_________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره 1/ 385، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 59 – 60 كلاهما من طريق ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (اعبدوا ربكم) أي: وحِّدوا ربكم ..
(2) صحيح البخاريِّ، [كتاب] فضائل القرآن، باب [فضل] فاتحة الكتاب، 6/ 187، ح 5006. [المؤلف]
(2/37)
أشار صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87].
وجاء نحوه من حديث أُبَيِّ بن كعبٍ وأبي هريرة (1).
وصحَّ في عدَّة أحاديث تسميتها أمَّ الكتاب وأمَّ القرآن. وفي ذلك أوضح الدَّلالة على أنها أعظم السور؛ لأن أمَّ الشيء في اللغة أعظم ما فيه، يُقال للدِّماغ: أمُّ الرأس.
[ب 19] ومما يدل على عظمتها: أن الله تبارك وتعالى فرض قراءتها في كلِّ ركعةٍ من الصلاة، فانظر كم شُرِع تكرارها كلَّ يومٍ، والصلاة أعظم الفرائض الدينيَّة.
وجاء أن الفاتحة هي الصلاة؛ ففي صحيح مسلمٍ وغيره من حديث أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله تعالى عليه وآله وسلَّم: “قال الله تعالى: قَسَمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال الله تعالى: حمدني [26] عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي” الحديث، فصَّل فيه الفاتحة فقط فجعلها هي الصلاة (2). ويشهد لذلك تسمية الصلاة صلاةً، فإن الصلاة في اللغة: الدعاء، وليس في الصلاة دعاءٌ أعظم من الفاتحة، والشيء إنما يسمَّى باسم جزئه إذا كان ذلك الجزء كأنه كلُّه.
_________
(1) المستدرك، [كتاب فضائل القرآن، “ما أُنزِلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثل فاتحة الكتاب”]، 1/ 557 – 558. [المؤلف](2) صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة، 2/ 9، ح 395. [المؤلف]
(2/38)
وبيان كون الفاتحة مبنيَّةً على توحيد العبادة: أن صدر السورة تمهيدٌ لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فقوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] معناه كما حقَّقه المفسِّرون وغيرهم: لا نبتدئ بشيءٍ مستعينين به أو متبرِّكين إلا باسم الله الرحمن الرحيم، وتَضَمُّنُ هذا للتوحيد ظاهر.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} معناه على ما حقَّقه المفسرون وغيرهم: كلُّ حمدٍ فهو مستحَقٌّ لله وحده، أي ليس معه تعالى أحدٌ يستحقُّ شيئًا من الحمد، وإيضاحه: أنَّ الكمالات التي يُسْتَحَقُّ عليها الحمد كلُّها لله عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ ما يُنْسَب إلى غيره من الكمالات فهو أثرٌ من آثار خلقه تعالى وفضله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].
رُوِي عن جعفر بن محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن عليٍّ عليهم السلام قال: فَقَدَ أبي بغلة له فقال: لئن ردَّها الله عزَّ وجلَّ لأحمدنَّه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أُتِيَ بها بسرجها ولجامها، فركبها، فلما استوى عليها وضَمَّ عليه ثيابه، رفع رأسه إلى السماء وقال: الحمد لله، لم يزد عليها، فقيل له في ذلك، فقال: وهل تركتُ أو أبقيتُ شيئًا؟ جعلتُ الحمد كلَّه لله عزَّ وجلَّ (1).
وإذا كان لا يستحق شيئًا من الحمد إلا الله عزَّ وجلَّ، فقد بان من ذلك أنه لا يَستحق غيرُه تعالى شيئًا من العبادة.
_________
(1) صفة الصفوة 2/ 62. [المؤلف]. وقد رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر ص 54، ح 106. ومن طريقه أبو نعيم في حلية الأولياء 3/ 186، وفي إسناده محمد بن مسعر، لم نجد فيه جرحًا ولا تعديلًا.
(2/39)
قال ابن جريرٍ: ” {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الشكر خالصًا لله جَلَّ ثناؤه دون سائر ما يُعبد من دونه ودون كُلِّ ما يُرَى من خلقه” (1).
[ب 20] {رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي مالكهم ومدبِّرهم، بيده ملكوت كلِّ شيءٍ، يدبِّر الأمر كلَّه، فكيف يعبد أحدٌ من عباده المخلوقين المربوبين عبدًا مخلوقًا مربوبًا مثله؟ !
[27] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هذا إبطالٌ لما توهَّمه بعض المشركين بل جميعهم كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في بيان اعتقاد قدماء المصريِّين (2)، توهَّموا أن الناس لحقارتهم وجهلهم وفجورهم لا ينبغي لهم أو لا يغنيهم التوجُّه إلى مَن له الكبرياء والجلال والعظمة تبارك وتعالى، بل لا بدَّ لهم أن يتوجَّهوا إلى المقرَّبين عنده كالروحانيِّين والصالحين ليكونوا شفعاءهم عند الله ويقرِّبوهم إليه زُلفى؛ لأنهم متوسِّطون بين الجبار عزَّ وجلَّ وبين سائر الخلق، فدرجتهم لا ترفعهم عن الالتفات إلى العامَّة ولا تضعهم عن نظر الجبَّار تعالى إليهم وقبول شفاعتهم.
ويقول بعضهم: إذا كثرت ذنوب الإنسان كان حريًّا بألَّا تناله رحمة العزيز الجبَّار إلا أن يشفع له أحد المقرَّبين، وهذا جهلٌ برحمة الله تعالى التي قال فيها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال جلَّ ثناؤه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ}، إلى قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [المؤمن: 7]. وسيأتي بسط هذا المعنى إن شاء الله تعالى.
_________
(1) تفسير ابن جرير 1/ 45. [المؤلف](2) انظر ص 700 فما بعدها.
(2/40)
[28] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه ردٌّ على مَن يقول: أما الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يوسِّع فيها على البرِّ والفاجر؛ فيمكن ألَّا يحتاج المخلوق فيها إلى شفاعةٍ، وأما الآخرة فلا غنى فيها عن الشفاعة؛ فأخبر الله تعالى أنه مالك يوم الدِّين بما فيه، فهو الذي يملك الشفاعة والشافعَ والمشفوعَ له، {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43]، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26].
فمَن تدبَّر الآيات المتقدِّمة من الفاتحة واستحضر ما تضمنته من دلائل التوحيد لم يبقَ عنده ريب في أنَّ الله عزَّ وجلَّ هو وحده المستحق للعبادة، فإذا كان مع ذلك مستحضرًا أنه قائمٌ بين يدي ربِّ العالمين يثني عليه ويتضرَّع إليه، لم يتمالك نفسه أن يقول بلسانه وقلبه وعقله: [ب 21] {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ومعنى ذلك كما أطبق عليه المفسرون وأهل العربية وأهل المعاني: نَخُصُّك اللَّهمَّ بعبادتنا ونَخُصُّك باستعانتنا، أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين أحدًا سواك.
وعبارة ابن جريرٍ: “وتأويل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لك اللهم نخشع ونذلّ ونستكين إقرارًا لك يا ربنا بالربوبيَّة”. ثم روى بسنده عن ابن عبَّاسٍ قال: “قال جبريل لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: قل يا محمَّد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} نُوَحِّد ونخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك”، إلى أن قال ابن جريرٍ: “ومعنى قوله: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: وإيَّاك ربنا نستعين على عبادتنا إياك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها لا أحدًا سواك، إذ كان مَنْ يكفر [29] بك يستعين بسواك، ونحن
(2/41)
بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة”. ثم روى بسنده عن ابن عبَّاسٍ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: “إيَّاك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلِّها” (1).
وعلاقة بقيَّة السورة بالتوحيد تظهر بالتدبُّر.
ثم رأيت في نظم الدرر للعلامة البقاعيِّ تلميذ الحافظ ابن حجرٍ في الكلام على الفاتحة ما لفظه: “فالغرض الذي سيقت له الفاتحة هو: إثبات استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال واختصاصه بملك الدنيا والآخرة وباستحقاق العبادة …. ، ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم. والمقصود من جَمْعهم تعريفهم بالمَلِكِ وبما يرضيه وهو إفراده بالعبادة، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة لإفراده بالعبادة فهو مقصود الفاتحة بالذات، وغيره وسائل إليه ….. ؛ لأن [المقصود من] (2) إرسال الرسل وإنزال الكتب: نصبُ الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع: جمع الخلق على الحق، والمقصود من جمعهم: تعريفهم بالملِك وبما يرضيه، وهو إفراده بالعبادة، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة بالقصد الأوَّل” (3).
أقول: ويتلخَّص من كلامه بإيضاحٍ أنَّ مقصود الشرائع مجموعٌ في
_________
(1) تفسير ابن جريرٍ 1/ 52. [المؤلف](2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، وأضفته من المطبوع.
(3) كذا نقلته من أوراقٍ مأخوذةٍ بالتصوير عن نسخةٍ قلميَّةٍ محفوظةٍ بدار الكتب المصريَّة أو بإحدى مكاتب إسلامبول. [المؤلف]. وهو في المطبوع 1/ 20 – 22. وقد وضع المؤلف هنا في نسخة (أ) كلمة (ملحق). واستوفى في هذا الملحق المستقلِّ الكلامَ على سورتي الإخلاص والكافرون.
(2/42)
الإسلام، ومقصود الإسلام مضمَّنٌ في القرآن، ومقصود القرآن منتظمٌ في الفاتحة، ومقصود الفاتحة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. وتقرير هذا يُحْوِج إلى إطالةٍ، ويكفي في إثباته قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
[ب 22] وأما السورة التي تعدل ثلث القرآن، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ففي صحيح البخاري “عن أبي سعيد الخدري أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، يردِّدها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له، وكأَن الرجل يتقالُّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “والذي نفسي بيده، إنها لتعدِل ثلثَ القرآن”” (1).
وفي صحيح مسلم “عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلته ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن”. وفيه: “عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: احشُدوا (2) فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشَد مَن حشَد، ثم خرج نبيُّ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبرٌ (3) جاءه من السماء فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبيُّ الله صلى الله عليه
_________
(1) صحيح البخاري، فضائل القرآن، فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، 6/ 189، ح 5013. [المؤلف](2) يعني: اجتمِعوا واستحضروا الناس. النهاية 1/ 388.
(3) كذا في الأصل وصحيح مسلم، وفي إحدى نُسخ صحيح مسلم بالنصب.
(2/43)
وآله وسلم فقال: إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن” (1).
وفي الصحيحين وغيرهما أحاديث أخرى في هذا المعنى وفي فضلها.
فأما بناؤها على توحيد العبادة فإن قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} معناه عند السلف ما لخَّصه ابن جرير في قوله: “هو الله الذي له عبادة كل شيء، لا تنبغي العبادة إلا له ولا تصلح لشيء سواه” (2).
ومَن حمله على أَحديَّة الذات أو على ما يشمل الأمرين فالمراد بأحديَّة الذات، والله أعلم، الرَّدُّ على النصارى في قولهم: (ثلاثة أقانيم)، وانجرُّوا بذلك إلى القول بأن عيسى إله يستحق العبادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح ذلك، وعلى هذا فإثبات أحديَّة الذات مقصود منه إثبات الأحديَّة في استحقاق العبادة.
{اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}، ساق ابن جرير آثارًا في تفسيره ثم قال: “قال أبو جعفر: الصمد عند العرب هو السيد الذي يُصْمَد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمِّي أشرافَها، ومنه قول الشاعر (3):
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب فضائل القرآن، باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. [المؤلف](2) تفسيره 3/ 195. [المؤلف](3) نُسب البيت إلى (هند) بنت معبد الأسدية. انظر: سيرة ابن هشام 2/ 254، ومعجم ما استعجم 2/ 996، والبيان والتبيين 1/ 180، وخزانة الأدب 11/ 269.
ونُسب أيضًا إلى سبرة بن عمرو الأسدي. انظر: شرح أبيات إصلاح المنطق 151، وسمط اللآلي 2/ 933، ولسان العرب مادة (خير).
(2/44)
ألا بكَّر الناعي بخيري بني أسد … بعمرو بن مسعود وبالسيِّد الصَّمَد
وقال الزِّبْرِقان (1):
ولا رهينة إلا سيِّد صمد
فإذا كان كذلك فالذي هو أولى بتأويل الكلمة المعنى المعروف من كلام مَن نزل القرآن بلسانه” (2).
[ب 23] وفي الكشاف (3): “الصمد فَعَل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده وهو السيد المصمود إليه في الحوائج”.
أقول: وإنما زاد ابن جرير قوله: “الذي لا أحد فوقه” لما فهمه والله أعلم من الحصر في قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ}، أي: لا صَمَد إلَّا الله، وقد نص غيره على الحصر وأنه لأجله عُرِّف (الصمد) دون (أحد)؛ لأن المشركين لم يدَّعوا الأحديَّة لغير الله عز وجل، وإنما ادَّعوا الصمدية فأتى بالحصر ردًّا عليهم. وقد نص أهل البلاغة في بحث المسند أنَّ نحو “زيد الأمير” قد يفيد القصر، أي: لا أمير إلا زيد.
وكأن ابن جرير رأى أن غير الله تعالى قد يصمد الناس إليه كالملوك والرؤساء وأن الصمْد إليهم قد يكون مباحًا، فرأى أنه لا يتأتَّى الحصرُ إلا مع
_________
(1) مجاز القرآن 2/ 316. انظر: الأمالي لابي علي القالي 2/ 288، وفرحة الأديب للغندجاني 177. وصدره:
ساروا إلينا جميعًا فاحتملوا
(2) تفسيره 30/ 197. [المؤلف](3) 4/ 242.
(2/45)
الزيادة المذكورة “الذي لا أحد فوقه”، والصواب: أنه لا حاجة إليها، ولكن الصمد في الآية صمد خاص تعيِّنه القرائن، وسيأتي بيانه في تحقيق الدعاء إن شاء الله تعالى، وهذا الصَّمْد الخاصُّ عبادة لا يستحقه إلَّا الله تعالى.
{لَمْ يَلِدْ} ردٌّ على من زعم أن لله تعالى ولدًا، ومنهم مشركو العرب في قولهم: (الملائكة بنات الله)، والنصارى في شأن عيسى وغيرهم، وهؤلاء زعموا لله تعالى ولدًا ثم أشركوا ذلك المزعوم أنه ولد في العبادة، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
{وَلَمْ يُولَدْ} فيه رد على النصارى في قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17، 72]، ثم عبدوه مع أنه مولود.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} فيه [ردٌّ] (1) على جميع أصناف المشركين الذين يؤلهون غير الله، فإنهم يجعلونهم أكفاءً له من حيث استحقاق العبادة وإن كانوا لا يسوُّونهم به في كل شيء، وسيأتي إيضاح هذا إن شاء الله تعالى. ولبناء هذه السورة على توحيد العبادة سميت سورة الإخلاص، والله أعلم.
وأما السورة التي ورد فيها أنها تعدل ربع القرآن فـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ففي روح المعاني (2): “وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (3) عن ابن عمر مرفوعًا، وفي آخر أخرجه في
_________
(1) زيادة يحتِّمها السياق.
(2) 30/ 249.
(3) 1/ 61، ح 186، وفي إسناده: عُبَيد الله بن زحرٍ، وفيه مقالٌ. وأخرجه الحاكم في كتاب فضائل القرآن، ” {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ربع القرآن”، 1/ 566 (سقط من الأصل وهو في التلخيص). وقال: “صحيحٌ”، فتعقَّبه الذهبي فقال: “بل جعفر بن ميسرة منكر الحديث جدًّا، قاله أبو حاتمٍ. وغسَّان ــ يعني ابن الربيع ــ ضعَّفه الدارقطنيُّ”. وانظر الآتي.
(2/46)
الصغير (1) عن سعد بن أبي وقاص كذلك أنها تعدل ربع القرآن”.
وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم وغيرهم من طريق فروة بن نوفل الأشجعي، عن أبيه أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله علِّمني شيئًا أقوله إذا أويت إلى فراشي، قال: “اقرأ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فإنها براءة من الشرك”. قال الحاكم: “صحيح الإسناد” وأقره الذهبي (2).
_________
(1) 1/ 114، وفي إسناده: زكريا بن عطية. قال أبو حاتم: “منكر الحديث”. وقال العُقيلي في حديثه هذا: “لا يتابع عليه”. انظر: الجرح والتعديل 3/ 599، الضعفاء 2/ 85.
وورد من حديث أنس، أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في {إِذَا زُلْزِلَتِ} 5/ 166، ح 2895. وأحمد 3/ 146 و 221. من طريق سلمة بن وردان عنه. قال الترمذي: “حديث حسن”. وأخرجه الترمذي أيضًا في الموضع السابق 5/ 165 – 166، ح 2893. من طريق ثابتٍ عنه. وقال: “حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ: الحسن بن سلم”.
ومن حديث ابن عباس. أخرجه الترمذي في الموضع السابق 5/ 166، ح 2894. والحاكم في كتاب فضائل القرآن، ” {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ربع القرآن”. قال الترمذي: “هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث يمان بن مغيرة”. وقال الحاكم: “صحيح الإسناد ولم يخرجاه”، فتعقَّبه الذهبي فقال: “بل يمان ضعَّفوه”.
(2) المستدرك، كتاب فضائل القرآن، قراءة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} براءةٌ من الشرك، 1/ 565. وقال: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه”، ولم يتعقَّبه الذهبي. [المؤلف].
قلت: وانظر: سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم، 4/ 313، ح 5055. وجامع الترمذي. كتاب الدعوات، باب 22، 5/ 474، ح 3403. وقال: “وقد اضطرب أصحاب أبي إسحاق في هذا الحديث … “. وعمل اليوم والليلة للنسائي، قراءة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عند النوم … ، ص 468 – 469، ح 801 – 804. وصحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الرقائق، باب قراءة القرآن، ذكر الأمر بقراءة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} لمن أراد أن يأخذ مضجعه، 3/ 69 – 70، ح 789 – 790].
(2/47)
وجاء نحوه من حديث جَبَلة بن حارثة (1)، وهو كما في الإصابة في ترجمته: “حديث متصل صحيح الإسناد” (2).
[ب 24] وورد نحوه من حديث أنس، أخرجه البيهقي في الشعب (3)، ومن حديث خبَّاب أخرجه البزار وابن مردويه (4)، ذكرهما في روح
_________
(1) أخرجه أحمد 5/ 457، والنسائي في عمل اليوم والليلة، الموضع السابق، ص 467، ح 800، والطبراني في الكبير 2/ 287، ح 2195، وفي الأوسط 1/ 272، ح 888، و 2/ 275، ح 1968. قال الهيثمي: “ورجاله وُثِّقوا”. مجمع الزوائد 10/ 166. وفي إسناده اختلافٌ بيَّنه النسائي في الموضع المذكور، وانظر: العلل للدارقطني 13/ 277، س 3174.
(2) الإصابة 2/ 159.
(3) انظر: شعب الإيمان، باب في تعظيم القرآن، فصل في فضائل السور والآيات، ذكر سورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 5/ 461 – 462، ح 2291. قال البيهقي: “هو بهذا الإسناد منكر”.
(4) انظر: مختصر زوائد البزَّار 2/ 416، ح 2122. والمعجم الكبير للطبراني 4/ 81، ح 3708. وليس فيه: “فإنها براءةٌ من الشرك”. والدر المنثور 8/ 657 – 658. وفي إسناده شريك بن عبد الله، وهو صدوق اختلط. وجابرٌ الجعفيُّ، وهو ضعيف.
(2/48)
المعاني (1) قال: “وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: “ألا أدلُّكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله؟ تقرؤون: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عند منامكم” (2).
فأما بناؤها على توحيد العبادة فظاهر.
وأما الآية فآية الكرسي؛ ففي صحيح مسلم وغيره “عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله تعالى معك أعظم؟ قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، قال: فضرب في صدري: وقال: والله ليَهْنِك العلمُ، أبا المنذر” (3).
وقد وردت في فضلها أحاديث أخرى لا حاجة إلى ذكرها هنا.
وأما بيان بنائها على توحيد العبادة فهاكه:
_________
(1) 30/ 249.
(2) أخرجه أبو يعلى، كما في المطالب العالية 15/ 452، ح 3786، والطبراني في المعجم الكبير 12/ 241، ح 12993. قال الهيثمي: “وفيه جبارة بن المغلس، وهو ضعيف جدًّا”. مجمع الزوائد 10/ 167.
(3) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب فضائل القرآن، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي. [المؤلف]
(2/49)
قال تعالى في الآية التي قبلها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].
المراد، والله أعلم، بنفي الخلَّة: ما لم يكن في طاعته، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وهذه الآية تقدَّمها في سورة الزخرف ذكر شأن مشركي العرب في عبادتهم الملائكة، وقولهم: “بنات الله”، وذكر شأن النصارى في عبادتهم عيسى وقولهم: “ابن الله”، فيظهر من هذا أن قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ} الآية فيه إشارة إلى ذلك، أي أن مشركي العرب يحبون الملائكة ويعبدونهم، والنصارى يحبون المسيح ويعبدونه، فإذا كان يوم القيامة كان الملائكة والمسيح أعداء لمن عبدهم من دون الله، وقد بين الله عز وجل ذلك في مواضع من القرآن كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وهكذا قوله: {وَلَا شَفَاعَةٌ} المراد بها، والله أعلم، الشفاعة التي يطمع فيها المشركون من الملائكة وعيسى ونحوهم، فأمر الله عز وجل المؤمنين ألَّا يتَّكلوا على الشفاعة التي يتَّكل عليها المشركون، ونبَّه على ذلك بقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
ثم رد الله تعالى على الكافرين زعمهم وبيَّن حقيقة الشفاعة بقوله: [30] {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبرٌ برهن عليه بما [ب 25] يعترف به المشركون وغيرهم، وهو أنه عز وجل:
(2/50)
{الْحَيُّ} وحياته عز وجل حياة ذاتية تامة كاملة، نسبة حياة الملائكة والجن والإنس إليها أضعف من نسبة موتهم إلى حياتهم. وإلى هذا ــ والله أعلم ــ أشار سبحانه بقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 – 21].
المدعوُّون هنا الملائكة أو هُم وغيرهم، وصفهم سبحانه بأنهم أموات غير أحياء، أي بالنظر إلى الحياة الكاملة، وهي حياته سبحانه وتعالى. وسيأتي الكلام على هذه الآية إن شاء الله تعالى.
{الْقَيُّومُ} قال الراغب (1): “أي القائم الحافظ لكل شيءٍ والمعطي له ما به قوامه، وذلك هو المعنى المذكور في قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} [الرعد: 33] “، ولا أحد سواه تعالى يشاركه في ذلك ولا يقاربه.
{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}، فيه توضيح لكمال حياته وقيُّوميَّته.
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، بما فيه الداعون من دونه والمدعوون وغيرهم، وكل خير وشر يحتاج المخلوق إلى جلبه أو دفعه.
فهذه الصفات يعترف بها المشركون لله عز وجل ويعترفون باختصاصه بها؛ فثبت بها أنه سبحانه هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ لأن العبادة إن كانت إجلالًا فالله هو الجليل على الحقيقة، وإن كانت شكرًا فهو المنعم على الحقيقة، وإن كانت استجلابًا لنفعٍ أو استدفاعًا لضرٍّ فهو سبحانه
_________
(1) المفردات 691.
(2/51)
الذي بيده ملكوت كلِّ شيءٍ، والمشركون يعترفون بهذا كلِّه، إلا أنهم يقولون: الذين نعبدهم من دون الله هم مقربون لديه يشفعون إليه، فلما ثبت أنَّه سبحانه وتعالى قرّبهم وجعل لهم أن يشفعوا إليه لزم من ذلك أن لا يمنع غيرهم من عبادتهم طلبًا لشفاعتهم؛ لأن ذلك ينفع العابد ولا يضرُّ الله تعالى. وعلى ذلك قولهم فيما حكاه الله عز وجل عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، فأبطل الله تعالى شبهتهم بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} الاستفهام بمعنى النفي، كما قال تعالى في موضع آخر: [31] {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3].
والمشركون يسلِّمون أنه لا يشفع أحد عنده بغير إذنه، ولكنهم يتوهَّمون أنه سبحانه قد أذن للمقرَّبين في الشفاعة إذنًا عامًّا، فدفع سبحانه وتعالى ذلك بقوله: [ب 26] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، فهو سبحانه العالم بكل شيءٍ بالمشفوع له وما قُدِّر له، وبالشافع وشفاعته وغير ذلك، والمقرَّبون لا يحيطون بشيءٍ من علمه إلَّا بما شاء، فلا يعلمون بالمشفوع له ولا بحقيقة عمله ولا حقيقة ما يستحقه ولا ما قدر له ولا بأن الشفاعة له صواب يشاؤه الله ويرتضيه، لا يعلمون شيئًا من هذا إلا إذا شاء الله تعالى أن يعلموا، وقد ثبت أنهم مملوكون لله عز وجل مبالغون في طاعته، فيُعْلَم من هذا أنهم لا يشفعون لأحدٍ إلَّا بعد أن يأذن الله تعالى لهم أن يشفعوا له، وأنه سبحانه لا يأذن لهم إلا بعد أن يشاء شفاعتهم لذلك الشخص ويرتضيها ويعلم أنها صواب، كما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
(2/52)
فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقال عز وجل: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]، [32] وقال تبارك وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 – 28].
ومَن تدبَّر هذا كلَّه علم أنَّ شفاعة المقرَّبين لا تقع إلَّا لمن أراد الله عز وجل أن ينفعه، ومَن أراد الله عز وجل أن ينفعه فلا بد أن ينفعه، فإن كان قد قضى أن ذلك النفع يكون بعد شفاعة فإنه سبحانه يأمر بها الشفيع فيشفع طاعة لربه ومسارعة في مرضاته.
وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لطلب الشفاعة من المقربين، ولا لتعظيمهم لكي يشفعوا. فإذا كان الطلب والتعظيم عبادة فهو مع ذلك موجِبٌ لغضب الله عز وجل على فاعله، لأنه أشرك به غيره، فكيف يرجو منه أن يجازيه على ذلك بأن يرتضيه ويرضى له النفع، ويأذن في الشفاعة له ويرضاها؟ بل وموجِبٌ لغضب المقربين على الفاعل؛ لأنهم ما تقرَّبوا إلا بطاعتهم لربهم وحبهم لرضاه حبًّا أفناهم عن غيره من الحظوظ والأغراض.
فأما ما ثبت بسلطان أن الله عز وجل أمر به وأذن فيه مما فيه توقير للمقربين فإنه عبادة لله تعالى، كما سيأتي تحقيقه بأدلته، والحق على الناس أن يقتصروا عليه، والله الموفق.
[ب 27] {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ
(2/53)
الْعَظِيمُ}.
في هذا وفيما قبله إبطال لما يتوهَّمه بعض الأمم من أن الله عز وجل يَكِلُ كثيرًا من تدبير العالم إلى الرُّوحانيِّين والأرواح، فيدبِّرون كما يريدون، ويزيد بعضهم فيتوهَّم أنَّ الله تبارك وتعالى لا يقدر على التدبير بغير معونة الرُّوحانيين والأرواح، ويغلو بعضهم فيجحد علم الله تعالى بالجزئيات، أو يشكُّ فيه. وسيأتي بسط الكلام على هذا وذكر الآيات الصريحة في إبطاله إن شاء الله تعالى.
[33] هذا، والآيات المبيِّنة خطر الشرك كثيرة جدًّا، وفيما تقدَّم كفاية إن شاء الله تعالى.
وأمَّا رمي المسلم بالشرك من غير بيِّنة، فحسبك من خطره ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من طرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ مَن كفَّر مسلمًا فقد كفر (1).
على أنَّ مَن لم يحط علمًا بمعنى لا إله إلا الله على سبيل التحقيق فهو نفسه على خطر أن يكون مشركًا، أو يعرض له الشرك فيقبله وهو لا يشعر، فالأَولى به أن يبادر إلى تخليص نفسه.
وقد جاء من حديث أبي موسى: “خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ذات يوم فقال: أيها الناس، اتقوا هذا الشرك فإنه أخْفَى من دبيب النمل”.
_________
(1) انظر: صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب مَن كفَّر أخاه … ، 8/ 26، والباب الذي يليه. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر، 1/ 56. [المؤلف]
(2/54)
الحديث، رواه الإمام أحمد (1)، وجاء مثله من حديث عائشة، رواه الحاكم في المستدرك (2). ونحوه من حديث أبي بكر الصديق وابن عباس (3).
وسيأتي (4) إن شاء الله تفصيل هذه الأحاديث، والكلام على أسانيدها (5)، وبيان أن في سياقها ما يدل أنه أريد بها الشرك الحقيقي كما هو الظاهر، لا الشرك الأصغر الذي هو الرئاء.
_________
(1) المسند 4/ 403. [المؤلف](2) 3/ 391. [المؤلف](3) انظر: كنز العمال 2/ 97 و 98 و 169. [المؤلف](4) 641. [المؤلف]. وانظر ص 989 فما بعدها في كلامه عن القسم بغير الله.
(5) انظر ص 143 فما بعدها.
(2/55)
[ز 1] بابٌ في أصولٍ ينبغي تقديمها
الأصل الأول
حجج الحقِّ شريفةٌ عزيزةٌ كريمةٌ
ليست كالهَلُوك (1) تعرض نفسها، ولا كأمِّ خارجة ــ يُقال لها: خِطْبٌ، فتقول: نِكْحٌ ــ (2)، ولا كميٍّ في وقاحتها ولجاجها؛ إذ قال صاحبها (3):
على وجهِ مَيٍّ مسحةٌ من مَلاحةٍ … وتحت الثياب العارُ لو كان باديا
فكشفت ثيابها، وقالت: هل ترى عارًا؟
وإنما شأنها أن تدعو الناس إلى طلبها، فمن جدَّ في طلبها وبذل وسعه في التقرُّب منها، ولم يكن له هوًى في سواها، أو كان له ولكنه يؤثرها على ما عداها، كشفت عن وجهها وعرَّفته بنفسها؛ ومن فسد طبعه فلم يُعْنَ بشأنها أو قعدت به همَّته عن الجهاد في سبيل الوصول إليها قالت له (4):
دَعِ المكارم لا ترحل لبُغيتها … واقعد فإنَّك أنت الطاعم الكاسي
ومَن حمله الجهل بها والغرام بغيرها على أن يعيبها وينفر عنها ازدادت
_________
(1) هي الفاجرة الشبِقَة المتساقطة على الرجال. انظر: تاج العروس 27/ 404.
(2) هي أم خارجة البجلية، يقال في المثل: أسرع من نكاح أم خارجة. انظر: الكامل 2/ 580 ومجمع الأمثال 1/ 348.
(3) نُسِب في خزانة الأدب (1/ 109) إلى ذي الرُّمَّة، وكان يحلف أنه ما قاله. وفي المصدر نفسه أن ابنة عمٍّ لمَيَّ قالته على لسانه.
(4) البيت للحطيئة. انظر: ديوانه 108، والكامل للمبرِّد (2/ 720)، والطاعم: الحسن الحال في المطعم، أي: إنك ترضى بأن تشبع وتلبس.
(2/56)
عنه بعدًا واحتجابًا، وقالت: حسبه ذاك عقابًا.
ارض لمن غاب عنك غيبتَه … ذلك ذنبٌ عقابه فيه (1)
ومَن كانت حاله بينَ بينَ أشارت إليه تشوِّقه، فإما أن يرقى به الشوق إلى درجة الأوَّل، وإما أن يحطَّه اليأس إلى درجة الثاني، وإما أن يبقى معلَّقًا فيوشك أن تَعْرِض له إحدى البغايا فتذهب به إلى حيث ألقت رَحْلَها أُمُّ قَشْعَمٍ (2).
فإن قيل: هذا تمثيلٌ لا يُقنِع، فارجع بنا إلى التحقيق؛ فقد يتراءَى للناظر أنه لو كانت حجج الحقِّ ظاهرةً مكشوفةً لكان أولى.
قلتُ: الجواب عن هذا يتوقَّف على معرفة حكمة الخلق، فأستعين الله تعالى، وأقول:
فصلٌ
قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
الكمال يقتضي التكميل، فالعالم الكامل يقتضي كمالُه أن يكون له تلامذةٌ يجتهد في تكميلهم، وهكذا الطبيب والصانع والزاهد وغيرهم، حتى إن العالم الكامل إذا لم يكن له تلامذةٌ يجتهد في تكميلهم يُرْمَى بالبخل
_________
(1) ديوان ابن نباتة: 574، وفيه: “أرضى”، و “فذاك”.
(2) كنية الموت، أي: بمَضْيَعَة حيث الهلاك والموت. انظر القاموس المحيط، مادة قشعم، وشرح شعر زهير بن أبي سُلْمى ص 30 عند البيت الذي يقول فيه: لدى حيث ألقت رحلها أمُّ قَشْعم، من معلَّقته المشهورة.
(2/57)
والحسد وغير ذلك، ولله تبارك وتعالى الأسماء الحسنى وهو الغنيُّ الحميد، فاقتضى جوده سبحانه وتعالى أن يكمِّل غيره إلى الحدِّ الممكن، ولما لم يكن معه غيره خلق الخلق ليكمِّلهم إلى الحدِّ الممكن، وليس من الممكن خلقهم كاملين؛ لأن الذي يمكن خلقهم عليه من الكمال يكون كلُّه بمنزلة كمالِ خلقِهم في صُوَرهم، وليس ذلك بكمالٍ يُحْمَدُ عليه المخلوقُ إذ لا إصبع له فيه، فكان لا بدَّ أن يُخْلَقُوا صالحين لأن يَكْمُلوا.
ثم كمال العبد المملوك إنما هو في طاعة ربِّه. ويتأكَّد هذا في فهمك إذا لاحظت أن الربَّ هو الله عزَّ وجلَّ، وهو لا يأمر إلا بالخير الذي يكون كمالًا يُحْمَدُ عليه فاعلُه، ولا ينهى إلا عن الشرِّ الذي ينافي الكمال والحمد، ويقتضي النقص والذمَّ. ويزداد ذلك وضوحًا إذا لاحظت أنه سبحانه الغنيُّ الحميد، فما كان فيما أمرهم به من خيرٍ فهو لهم، فعبادة ربِّهم هي كمالهم.
ولا يحصل المقصود بأن يخلقهم قابلين للكمال ثم يجبرهم عليه؛ لأنه إذا جبرهم على الخير كان كما لو خلقهم عليه، وقد سبق أن ذلك ليس بكمالٍ يُحْمَدُون عليه, [ز 2] ولا بأن يخلقهم ويجعل لهم اختيارًا ثم لا يُمَكِّنَهُمْ من العمل؛ لأنهم إذا لم يعملوا لم يَكْمُلُوا.
فإن قيل: ألا يُكْتَفَى بعزمهم؟ قلتُ: إنهم لو سئلوا لأجابوا كُلُّهُم بالعَزم على الطاعة. فإن قيل: فبعلم الله تعالى فيهم؟ قلتُ: عِلْمُ الله عزَّ وجلَّ بأنه لو مكَّن هذا لكَمُلَ ولو مكَّن هذا لرَذُلَ لا يكفي في حقيقة الكمال؛ فلا يكون الأوَّل كاملًا بمجرَّد العلم، ولو أخبر المعصوم أن هذا الذي مات كافرًا لو عاش لآمن، وهذا الذي مات مؤمنًا لو عاش لكفر= لما اقتضى أن يحكم
(2/58)
عليهما في الحال بغير ما ماتا عليه. ولا بأن يخلقهم (1) ويجعل لهم اختيارًا ويمكِّنَهم من العمل، ولكنه يجعل الخير بحيث يُنَال بلا عناءٍ ولا مشقَّةٍ البتَّة؛ لأن مَن يُتَصَوَّرُ في حقِّه العناءُ والمشقَّة لا يُحْمَدُ على اختيار الخير والعمل به إلا بمقدار ما تحمَّلَهُ في سبيله من العناء والمشقَّة.
فلو أن جماعة جاد كلٌّ منهم بدينارٍ، وكان أحدهم لا يملك إلا ذلك الدينار وهو محتاجٌ إليه، والآخر يملك عشرةً، ولا يحتاج إليها كلِّها، والثالث: يملك مائةً، ولا يحتاج إلا إلى نصفها، والرابع: يملك القناطير المقنطرة من الذهب، ولا يحتاج إلا إلى عُشْرِ مِعْشَارِها= لكانوا متفاوتين في الحمد، وقد قال الشاعر (2):
ليس العطاء من الفضول سماحةً … حتى تجود وما لديك قليلُ
فأما قول الآخر (3):
لولا المشقَّة ساد الناس كلُّهم … الجود يُفْقِر والإقدام قَتَّالُ
فمعنى قوله: “ساد الناس”: عملوا ما هو ــ لولا عدم المشقَّة ــ من أسباب السيادة، فالحقيقة أنه لولا المشقَّة ما ساد أحدٌ من الناس.
هذا, والعبد إنما يَعْتَدُّ من طاعته بما كان عليه فيه عناءٌ ومشقَّةٌ, وإنما يُحمَد عليها على قدر ذلك. افرض أن رجلًا أثنى على عبده بالطاعة، فقلتَ له: ماذا بلغ في ذلك؟ فدعا العبد، وقال له: امسس أذنك اليمنى ولا تمسَّ
_________
(1) معطوف على قوله: “ولا يحصل المقصود بأن يخلقهم قابلين للكمال”.
(2) هو المقنَّع الكندي، والبيت في حماسة أبي تمام. انظر شرحها للشنتمري 2/ 919.
(3) هو أبو الطيب المتنبئ. انظر ديوانه مع الشرح المنسوب للعكبري 3/ 287.
(2/59)
اليسرى، ففعل، فقال لك: أرأيت؟ ألست تستحمق هذا الرجل.
وإذ كان لا بُدَّ في الكمال في العبادة أن يُخْلَقُوا قابلين للكمال، ويُجْعَلَ لهم اختيارٌ، ويُمَكَّنُوا من العمل، ويكون الخلق والأمر بحيث يكون دون الخير عناءٌ ومشقَّةٌ= اقتضت الحكمة أن يكون ذلك، وهذا هو الابتلاء، وعليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
ومن لازمِ الابتلاء ــ وقد عرفتَ تفصيله ــ أن يختلفوا في تَحَمُّل العناء والمشقَّة. فأما الملائكة فإن الله عزَّ وجلَّ اصطفاهم وعصمهم، فانحصر اختلافهم في تفاوت درجاتهم في الكمال، ومع ذلك فخوفهم من ربِّهم عزَّ وجلَّ شديدٌ، قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50].
وقال سبحانه: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57].
الصحيح أن هذا صفةٌ للملائكة كما يأتي بعد إن شاء الله تعالى.
وفي العذاب الذي يخافه الملائكة وجهان:
الأول: أنه نقص درجات القرب، وأما النُزول [ز 3] إلى دركات المقت فقد أَمِنُوه لإخبار الله عزَّ وجلَّ أنهم معصومون.
الثاني: أنه أَعَمُّ من ذلك، وأنهم لعلوِّ درجتهم في العلم بالله وشدَّة خشيتهم إياه يعلمون ما لا نعلم، وربما يُؤَدِّيهم ذلك إلى تجويز ما نراه غيرَ
(2/60)
جائز. وقد يأتي نحوُ هذا في حقِّ الأنبياء عليهم السلام، جاء عن بعض السلف أن الذي أوتي الآيات فانسلخ منها كان قد أوتي النبوة (1).
وجاء في قصة قتل زكريَّا عليه السلام ما قد يدلُّ على إمكان سَلْبِ النبوة (2).
وقال جماعة: قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 88 – 89] = قالوا: “إلا أن يشاء الله ربُّنا أن نعود في ملَّتكم”.
وعن السُّدِّيِّ: ” … {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}، فالله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد عَلِمَ شيئًا فإنه وسع كلَّ شيء عِلْمًا” (3).
أقول: هذا على مذهب مَنْ لا يُجَوِّزُ أن يقالَ: إن الله تعالى يشاء الشرك. ومن الناس من يُجَوِّز إطلاق ذلك إلا أنهم يختلفون في تفسير المشيئة.
_________
(1) انظر: تفسير ابن جرير 9/ 78. [المؤلف]. قال ابن كثير: ولا يصح. وقال ابن الجوزي: فيه بُعد. انظر: تفسير ابن كثير 3/ 509، وزاد المسير 3/ 288.
(2) جاء في تلك القصة “أن المنشار لما بلغ رأس زكريا أنَّ منه أنَّةً، فقال الله له: لئن صعِدتْ إليّ منك أنَّة ثانية لأمحونَّك من ديوان النبوة”. ولم أجد ما يدلُّ على هذا إلَّا ما حكاه أبو الخير التيناتي الأقطع المتوفى سنة 349 هـ عن قاصٍّ سمعه بمصر. انظر: تاريخ دمشق 66/ 165.
(3) تفسير ابن جرير 9/ 3. [المؤلف]
(2/61)
وأقرب ما يقال هنا أن المعنى: إلا أن يشاء الله خذلاننا أو خذلان بعضنا، فيكلنا إلى أنفسنا فنعجز، وقد نقع في الشرك، ولذلك قال بعد هذا: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}.
وقد يقال: إن الاستثناء إنما هو بالنسبة إلى الذين آمنوا مع شعيب ولم يكونوا أنبياء ولا معصومين.
وقد قال جماعة: إن إبليس وهاروت وماروت كانوا ملائكة. وأجابوا عن العصمة بأن الملك معصوم مادام ملكًا، وقد يُحَوِّلُهُ الله عزَّ وجلَّ عن الملكيَّة إلى خَلْقٍ آخر فتزولُ العصمة.
كذا قالوا، وقد يقول مَن زعم أن المنسلخ عن الآيات كان نبيًّا بأنَّ النبيَّ معصومٌ مادام نبيًّا، ثم إن قُدِّر أن الله عزَّ وجلَّ سَلَبَ نبيًّا النبوة زالت العصمة. وقد يجيبون عما يلزم ذلك من عدم الوثوق بإخبار من ثبتت نبوته لاحتمال السَّلْب لو جاز بأن يقولوا: إنْ قُدِّر وقوعُ ذلك فلا بدَّ أن يقيمَ الله عزَّ وجلَّ حجة قاطعة تُعْرَفُ بها الحقيقة.
وبالجملة فهذا قول مرغوب عنه، منفورٌ منه، وإنما المقصود أن عصمة الملائكة عليهم السلام لا تنافي شدَّة خشيتهم لله وخوفهم من عذابه.
وأما الجنُّ والإنس فإنهم حملوا الأمانة، كما يأتي، فكان الابتلاء في حَقِّهِمْ أتمَّ والاختلاف أعمَّ. وإذ كانوا خُلِقُوا للابتلاء، ومن لازم الابتلاء الاختلاف، صَحَّ أن يقال: خُلِقُوا للاختلاف. قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118 – 119].
(2/62)
اختلف السلف والخلف في تفسير الآية، والأَوْلَى بظاهر التنزيل ما رُوِيَ عن مجاهد قال: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}: “أهل الحقِّ وأهل الباطل”، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، قال: “أهل الحقِّ” (1).
وعن الحسن البصري قال: “وللاختلاف خَلَقَهُمْ” (2).
أقول: فالاستثناء منقطع، أي: ولكن مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يُهْدَى للحق.
وتَأَوَّلَ ابنُ جريرٍ الخَلْقَ للاختلاف بقوله: “فإن قال قائلٌ: فإن كان تأويل ذلك كما ذَكَرْتَ فقد ينبغي أن يكون المختلفون غَيْرَ ملومين على اختلافهم؛ إذ كان لذلك خلقهم ربُّهم … قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذَهَبْتَ، وإنما معنى الكلام ….. ولعِلمه، وعلى عِلمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم ــ أنه قد يكون فيهم المؤمن والكافر والشَّقِيُّ والسعيد ــ خلقهم، فمعنى اللام في قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} بمعنى على … ” (3).
أقول: وهذا يلاقي ما قَدَّمْتُه إلا أنه لا يخلو عن تَكَلُّفٍ
ولما كان الكمالُ في العبادة صَعْبَ الحصول لما فيه من العناء والمشقة كان لا بُدَّ مِنْ باعثٍ للخلق يُهَوِّنُ عليهم ذلك، وليس إلا وعد المطيع بما تَعْظُمُ فيه اللَّذَّةُ وإيعاد العاصي بما يَعْظُمُ فيه الألم. [ز 4] والناسُ في هذه النشأة المبْنِيَّةِ على الابتلاء لا يكادون يتصوَّرون اللَّذَّة والألم إلا فيما يناسب ما
_________
(1) تفسير ابن جرير 12/ 80. [المؤلف](2) المصدر السابق.
(3) تفسير ابن جرير 12/ 81. [المؤلف]
(2/63)
عرفوه منهما. ومن جهةٍ أخرى فعدلُ الله عزَّ وجلَّ ورحمته يقتضي أن يكافئ كلًّا بما يستحقُّه، فلذلك خلق الله عزَّ وجلَّ الجنَّة والنار، وذكر من وصفهما لعباده ما يناسب أفهامَهُمْ حتى يدركوا أن في الجنَّة غاية اللَّذَّة، وفي النار غاية الألم.
ولما كانوا على كلِّ حالٍ لا بدَّ أن يختلفوا كما تقدَّم، وإذا اختلفوا استحقَّ بعضهم الجنَّة، وبعضهم النار، وقد أحاط علمُ الله عزَّ وجلَّ وقَضَاؤُه وقَدَرُه بتفصيل ذلك قبل خَلْقِهِمْ، صَحَّ أن يقال: إن الله عزَّ وجلَّ خلق هؤلاء سعداءَ للجنَّة، وهؤلاء أشقياءَ للنار، كما جاء في أحاديث.
فقد عَلِمْتَ بحمد الله عزَّ وجلَّ أنه لا منافاة بين العقل الصريح والنقل الصحيح، ولا بين النصوص، فالله عزَّ وجلَّ خلق الخلق ليَكْمُلُوا، وكمالهم في عبادته، فقد خلقهم لعبادته، ولا يكون الكمالُ والعبادةُ إلا بطريق الابتلاء، فقد خلقهم لِيَبْلُوَهُمْ، والابتلاء يؤدِّي إلى الاختلاف ولا بدَّ، فقد خلقهم ليختلفوا، والاختلاف يقتضي مصير هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فقد خلق هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار.
فصلٌ
وإذ قد علمتَ هذا فنبني الجواب على الابتلاء، فنقول: إن الله عزَّ وجلَّ إنما أنشأ الناس هذه النشأة للابتلاء، كما قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. وإذ كانت للابتلاء فالأمر فيها كالخلق لا بُدَّ أن يكون مناسبًا للابتلاء، وذلك بأن تكون حُجَجُ الحق دون منالها عناءٌ ومشقَّةٌ، وكيف لا وطَلَبُهَا من جملة العبادة، والعبادة كما تقدَّم تستدعي العناءَ
(2/64)
والمشقَّةَ، وإذا كان لا بُدَّ أن يكون دون منالها عناءٌ ومشقة لزم أن لا تكون ظاهرة مكشوفة كما اقْتَرَحْتَ.
ثم رأيتُ في أوائل الرسالة (1) للإمام الشافعي رحمه الله تعالى: “ومنها ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره ممَّا فرض عليهم، فإنه يقول جل ثناؤه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، وقال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154] “.
* * * *
_________
(1) 22 – 23.
(2/65)
الأصل الثاني
الحجج والشبهات
إن قال قائلٌ: قد عرفنا اقتضاء الحكمة أن لا تكون حجج الحق ظاهرةً مكشوفةً، وبقي أمرٌ آخر وهو أنه قد يتراءى للناظر أنه لو كانت حجج الحقِّ كلُّها بحيث يَعْرِفُ يقينًا مَنْ وَصَلَ إليها أنه قد وصل، ويَعْرِفُ يقينًا مَنْ لم يصل إليها أنه لم يصل، لكان أولى.
قلت: حاصلُ هذا أن تكون حجج الحقِّ كلها يقينيَّةً، لا تشتبه على أحد.
فالجواب: أنه مَنَعَ مِنْ ذلك موانعُ، نكتفي هنا بذكر واحدٍ منها، وهو أنه قد سبق أن هذه الدار مبنيَّة على الابتلاء، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
فكلُّ ما يجري من الإنسان في هذه الدار تَصَرُّفٌ في الأمانة، ولا يتمُّ الابتلاء إلا بأن يُمَكَّنَ من الخيانة، والخيانةُ لها درجات كثيرة، فلا بدَّ أن يكون الابتلاء بحيث يتناول الدرجات كلَّها.
فلو عَمَدْتَ إلى عشرة رجالٍ قد أُودِعَ كلٌّ منهم وديعةً وجدتهم متفاوتين في الأمانة والخيانة بحسب تفاوتهم في ثلاثة أمورٍ:
الأوَّل: الباعث على الخيانة.
الثاني: المانع الدنيويُّ.
الثالث: المانع الدينيُّ.
(2/66)
أما الأوَّل، فمن البواعث: الحاجة، وأن تكون الوديعة ثمينةً، وإرادة الإضرار بالمودِع، قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]. [ز 5] وحُبُّ السمعة إذا كان الناس يمقتون المودِعَ، وكلُّ واحدٍ من هذه يتفاوت.
وأما الثاني فمن الموانع الدنيويَّة: ظَنُّهُ أنه ستُقَام عليه البيِّنةُ، ويؤخذُ منه المال، أو أنه سَيُعَاقَبُ بأخذ ماله أو بحبسه أو ضَرْبِه أو نحو ذلك، أو أنه يُحْرَمُ من فوائد أخرى، أو أنه يفتضح بين الناس, وكلٌّ من هذه يتفاوت. مثال التفاوت في الأخير: أن من الناس مَن لا يبالي بالفضيحة البتَّة, ومنهم مَن لا يبالي بالفضيحة إذا رأى أن كثيرًا من الناس سيشكُّون في أمره، ومنهم مَنْ لا يبالي بها إذا رأى أن كثيرًا مَن الناس سيحسنون الظنَّ به، ومنهم من يأبى الفضيحة ولا يبالي بالرِّيبة كأن رأى أن الناس إذا سمعوا بالقصَّة يرتابون ولا يجزمون بأنه خانَ، ومنهم مَن يأبى الرِّيبة العامَّة ولا يخون إلا إذا ظنَّ أن كثيرًا من النَّاس سيحسنون الظنَّ به، ومنهم مَنْ يأبى الريبة ولا يخون إلا إذا رأى أن النَّاس سيحسنون الظنَّ به. ومنهم مَنْ يزيد على هذا فيأبى أن يفتضح عند المودِعِ فلا يخونُه إلا إذا رأى أنه سيجوِّز براءته, ومنهم مَنْ لا يخون إلا إذا رأى أن المودِع سيحسن الظنَّ به كأن يحترق بيته ومتاعه فيزعم أن الوديعة احترقت فيما احترق. ومنهم مَنْ يزيد على هذا فلا يأمن سوء الظنِّ، ولكنه يخون إذا رأى أن المودِعَ نَسِيَ الوديعة. ومنهم مَنْ لا يخونُ إلا إذا أَمِنَ التهمةَ البتَّة، كأن يموت المودِعُ ولم يَعْلَمْ أحدٌ غيرهما بالوديعة.
وأما الثالث: فالمانع الديني رقيب الإيمان في قلب الإنسان، وقد يَقْوَى
(2/67)
بحيث لا يغلبه شيء، وقد يضعف بحيث تغلبه شبهةٌ من الشُّبَه، ثم يتفاوت الحال بتفاوت قوَّة الرقيب، وقوَّة الشبهة. فمن الشبهات أن يقول: الله غفور رحيم، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169].
ومنها أن يقول: سيشفع لي فلانٌ. المودِع غنيٌّ فإذا خنتُه في هذه لم يضرَّه. هو فاجرٌ، وأخْذُ مال الفاجر فيه مصلحةٌ. هو كافرٌ، والإضرار بالكافر مطلوبٌ. قد ظلمني زيدٌ فأظلم عمرًا، فيتكافأ الذي لي بالذي عَلَيَّ. قد ظلمني ابنُ عَمِّهِ أو أخوه فأظلمه استيفاءً لحقِّي. قد كنتُ أَوْدَعْتُهُ شيئًا فادَّعى أنه سُرِقَ، وما أُرَاهُ إلا كاذبًا فأخونه كما خانني. هو غنيُّ وأنا محتاجٌ، فهذا من جملة حقِّ المحتاج في مال الغنيِّ. هو غنيٌّ ولا أراه يؤدِّي الزكاة ولي حَقٌّ في الزكاة، فهذا منه. لي حسناتٌ كثيرةٌ تُكَفِّرُ هذه السيِّئة. سوف أتوب. مضت مُدَّةٌ ولم يطالبني بالوديعة فلعلَّه قد سمح لي بها. قد قلتُ له: ألا تأخذ وديعتك؟ فتبسَّم فكأنَّه أراد أن يُفْهِمَنِي أنه وهبها لي. قد قلتُ له: إني أريد أن أستمتع بالوديعة فسكت، والسكوت يدلُّ على الإذن. قد نفعته مرَّةً فلم يكافئني. قد سَبَّني مرةً فصار لي حقٌّ عليه. إلى غير ذلك.
وقد يَقْوَى الرقيبُ حتى لا ينقاد إلا لنحو قوله: قد كنتُ أودعتُه مثلَ هذا المال أو أكثر فجحدني فقد ظفرتُ بحقِّي، وقد يكون أقوى من هذا فيقول: ورد في الحديث: “أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تخن مَن خانك” (1).
_________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الإجارة، بابٌ في الرجل يأخذ حقَّه مَن تحت يده، 3/ 290، ح 3535. والترمذيّ في كتاب البيوع، باب 38، 3/ 555، ح 1264، من حديث أبي هريرة. وقال: “حسنٌ غريبٌ”. وأخرجه الحاكم في كتاب البيوع، “أدِّ الأمانة … “، 2/ 46، وقال: “صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرجاه، وله شاهدٌ عن أنسٍ … “، فذكره.
(2/68)
هذا، والباعث على الخيانة من أنصار الشبهة، والمانع الدنيوي من أنصار الحجة، والحكمة تقتضي أن يكون الابتلاء بحيث تظهر به الخيانة في أيِّ درجةٍ كانت.
[ز 6] وعلى هذا القياس يكون النظر في الحجج العلمية؛ فالبواعث على الخيانة فيها كثيرة متفاوتة يجمعها كلمة (الهوى)، فقد تَهْوَى القولَ لأن في مقابله مشقَّةً كعدم وجوب الجماعة، أو إخراجَ مالٍ كجواز الحيل لإسقاط الزكاة، أو تحصيلَ مال كجواز العينة، أو شهوةً كاستحلال النبيذ والملاهي، أو موافقةً لهوى مَنْ تُحِبُّ أو مخالفةً لهوى مَنْ تُبْغِضُ كأن يُطَلِّقَ رجلٌ، ثم يَنْدَم فيستفتيك فَتَهْوَىْ عدمَ الوقوع إن كان صديقَكَ، والوقوعَ إن كان بغيضَك.
وقد تَهْوَى القولَ لأنك ترى ذهابك إليه، وانتصارك له يُكْسِبُكَ جاهًا وقبولًا وشهرةً؛ كأن يكونَ موافقًا لهوى الأمراء والأغنياء والعامَّة، وهذا من أَضَرِّ الأهواء وأهدمها للدِّين.
وقد تهواه لأنك ترى في ظهور صحَّته فخرًا لك، وفي ظهور بطلانه غضاضةً عليك، فَتَهْوَى القولَ الذي سبق أن قلتَ به وعرفهُ الناسُ، والقولَ الذي مضى عليه آباؤُك أو مشايخُك أو إمامك، أو أي رجل أو فريق تنتسب إليه؛ لأنك ترى أن ما يثبت لمن تنتسب إليه من مدحٍ بإصابة أو نقص بغلطٍ يَسْرِي إليك.
(2/69)
وقد تَهْوَى القول لمناسبةٍ مَّا بينك وبين قائله، كأن تكون حنبليًّا فَتَهْوَى قول مالك إن كنت مدنيًّا أو قول أبي حنيفة إن كنت فارسيًّا أو قول الشافعي إن كنت قرشيًّا، حتى لقد نجد المرأة في عصرنا تميل إلى قول يُرْوَى عن عائشة.
وقد تهواه لأن في ظهور صحته نقصًا على من ينافسك من أقرانك ومعاصريك؛ لأنك تحبُّ ظهور نقصهم وظهورَ فَضْلِكَ عليهم. وكذلك تهواه إذا كان في ظهور صحته تخطئةٌ لمن كان ينافس أباك أو شيخك أو إمامك أو أيَّ رجل أو فريق تنتسب إليه؛ لأنك ترى أن في ظهور نقص ذاك رجحانًا لمن تنتسب إليه يسري إليك، حتى لقد يسمع الحنفي شعرًا منسوبًا إلى الإمام الشافعيِّ فيحرص على أن يقدح في فصاحته.
وقد تَهْوَى القولَ لأن فيه فضيلةً لك أو لمن تنتسب إليه أو توافقه في أمرٍ مَّا، أو لأن في مقابله نقصًا لمن يخالفك أو يخالف مَنْ تنتسب إليه، أو توافقه فتهوى القول بأنَّ الأعجميَّ كفءٌ للعربيَّة إن كُنْتَ عجميًّا، ومقابله إن كُنْتَ عربيًّا، وتَهْوَى صحةَ ما رُوِيَ في فضل العربِ دون ما رُوِيَ في فضل فارسٍ إن كنت عربيًّا، وعكسه إن كنت فارسيًّا.
وقد بلغ الأمر ببعض الجهلة من العرب والفرس إلى وَضْع كُلٍّ من الفريقين أحاديث في فضل قومه، وذمِّ الآخرين، وكذلك وضع بعض جهلة أهل الحديث أحاديث في فضل أصحابه وذَمِّ أهل الرأي، وَوَضَعَ بعضُ جهلة أهل الرَّأْيِ أحاديثَ في فضل أبي حنيفة وذمِّ الشافعيِّ، وجرت معارك بين القادريَّةِ والرفاعيَّة كلٌّ من الفرقتين تضع القصص والحكايات لإطراء شيخها وتنقيص الآخر.
(2/70)
وقد تهوى القول لأنه يُطْمِعُكَ في النجاة في الأخرى وإن ساء عملك، كالإرجاء المحض والغلوِّ في إثبات الشفاعة، وكالميل إلى صحة ما رُوِيَ من الأحاديث والآثار في الفضائل الخطيرة على الأعمال اليسيرة، وفي نجاة مَنْ مات بأحد الحرمين إن كنت تُؤَمِّلُ ذلك؛ وفي أن أهل البيت مغفورٌ لهم إن كُنْتَ منهم، وغير ذلك.
ويشتدُّ الهوى جدًّا في الأمور التي نشأ عليها الرجل وأَلِفَهَا وافتخر بها ومضى عليها آباؤه وأجداده وأحبَّاؤه وشيوخه ومَنْ يقتدي بهم، ويرجو النجاة بحبِّهم وشفاعتهم، إذا قيل له في كثير من تلك الأمور إنها بدع، وإن منها ما هو كفر أو شرك، ذلك أنه يرى أن من لازم صحة ذلك أن يظهر أنه كان مبتدعًا ضالًّا أو كافرًا مشركًا، وأنَّ كثيرًا من آبائه وأجداده وشيوخه وفقهائه وأقطابه وأوتاده كانوا مبتدعين [ز 7] ضالِّين أو كفَّارًا مشركين وأنهم مخلَّدون في النار، وأنه إذا تدبَّر الحجج فتبيَّن له بطلانُ ما كان عليه هو وأسلافه فرجع إلى الحق كان رجوعُه بدعوة أناسٍ لم يزل يمقُتُهُم ويُسَفِّهُهُمْ.
هذا، وسيأتي الكلام على الأعذار، وفيه ما يُهَوِّن هذا الأمر ويعين الناظر على هواه إن شاء الله تعالى.
وقد ينعكس الهوى فَيَهْوَى الإنسانُ أن ينقض قولَهُ السابقَ وأن يخالفَ آباءه وأجدادَه وشيوخَه وأئمّتَه وسائرَ ما تقدَّم، يَهْوَى ذلك حرصًا على أن يقال: حرُّ الفكر بريءٌ من التعصُّب، وطمعًا أن يُعَدَّ مجدِّدًا يُؤْخَذُ عنه، وإمامًا يُقْتَدَى به، وعلى الأقلِّ يرى أنه إذا خالف الأكابر فقد صار قِرنًا لهم. وقد كان أصاغرُ الشعراءِ يَتَعَرَّضون لِهَجْوِ أكابرهم كجرير والفرزدق وبَشَّار، كل ذلك ليرتفعوا بذلك فيقال: إن فلانًا ممن هاجى جريرًا، ولهذا كان الأكابرُ
(2/71)
يترفَّعُون عن إجابة هؤلاء المتعرِّضين.
وبالجملة فمسالك الهوى كثيرة، وفيها ما يَدِقُّ ويَغْمُضُ فيخفى على صاحبه، وكثيرًا ما يتفق ذلك لأكابرَ لا يُرْتَاب في علمهم وفضلهم وورعهم. {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
واعلم أن الهوى يتفاوت قوَّةً وضعفًا، ويعارضه المانع الدنيويُّ وهو خشية الفضيحة بين الناس وأن يقال: كثير الغلط، يتشبَّثُ بالشبهات الساقطة ويُعْرِضُ عن الحجج النيِّرَة، معاندٌ مكابرٌ لا يخاف الله تعالى، ونحو ذلك. فتستعين النفس بالشبهات وهي لا تحصى كثرةً، وسيأتي ذكر طائفةٍ منها في بابٍ على حِدَةٍ، وهي في نفسها متفاوتةٌ في القوَّة والضعف، ثم يكون الحكم لرقيب الإيمان، فقد يقوى الرقيبُ حتى لا يكاد يبقى للهوى أثرٌ البتَّة، ولا يبقى في المعركة إلا الحجَّة والشبهة، وقد يَضْعُفُ الرقيب على تفاوتٍ، والتوفيق بيد الله.
فلو كانت حجج الحقِّ كما اقْتَرَحْتَ كلُّها يقينيَّةً لا تشتبه على أحدٍ لتعذَّرت الخيانةُ فيها، وبذلك يَنْسدُّ أعظمُ بابٍ من أبواب الابتلاء، وهو الابتلاء في العلم والنظر، ثم يَجُرُّ ذلك إلى الخَلَلِ في الابتلاء في العمل، وذلك مخالفٌ لحكمة الخلق كما تقدَّم، والله سبحانه أعلم وأحكم.
* * * *
(2/72)
[ز 8] الأصل الثالث
إصابة الحقِّ فيما يمكن اشتباهه تتوقَّف على ثلاثة أمورٍ: التوفيق، والإخلاص، وبذل الوسع.
أما التوفيق، فالتوقُّف عليه ظاهرٌ، وإنما الشأن في سبب حصوله، وقد بيَّنه الله تبارك وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [خاتمة العنكبوت].
والجهاد فيه عزَّ وجلَّ يتضمَّن الأمرين الآخرين، أعني الإخلاص وبذل الوسع، فَعُلِمَ أن حصولَهما سببٌ لحصول التوفيق، وعلى ذلك حجج أخرى، وسيأتي بعضها.
وأما الإخلاص، فهو رغبة صادقة في إصابة الحق لا يعارضها هوًى مُتَّبَعٌ، ومسالك الهوى لا تحصى قد تقدَّم بعضها في الأصل الثاني.
وعلى الناظر في مسألة من المسائل أن يفتِّش نفسه قبل البحث فيها، ثم في أثنائه، مثلًا إذا أردت النظر في حكم الماء القليل تقع فيه نجاسة لا تُغَيِّرُه ففتِّش نفسك قبل البحث فإنها لا تخلو عن حالين، إما أن تودَّ وتشتهيَ واحدًا معيَّنًا مِن الطرفين: التنجُّس وعدمه، وإما أن لا يكون لها ميلٌ إلى ذا ولا ذاك، وإنما تودُّ معرفة الراجح منهما شرعًا، فإن وجدتَها على الحال الثانية فهي حينئذ بريئة من الهوى، وإلَّا كأنْ تجدها تَهْوَى عدم التنجُّس، ففتِّش عن سبب ذلك الميل, وقَوِّمْ نفسك إن استطعت.
فإن وجدتَ السبب هو الرأي المحض كأن تقول: إن النجاسة إذا لامست الماء ولم ينحلّ منها فيه شيء كبعرة مُس بها الماء فأبْعِدَتْ عنه فورًا،
(2/73)
أو كانت يسيرةً جدًّا على (1) لا يظهر منها أثرٌ مَّا على الماء، فإنه بعيد في النظر أن تنجسه، فاستَحْضِرْ أن الله تبارك وتعالى أعلمُ منك وأحكمُ؛ فلعلَّه سبحانه عَلِمَ حِكْمَةً خَفِيَتْ عنك.
وإن وجدته حبَّ التيسير على نفسك فعِظْهَا واستحضر فناء الدنيا وبقاء الآخرة وغير ذلك.
وإن وجدته حبَّ التيسير على الناس فاستحضر أن ربهم أرحمُ بهم منك، وأن الخير لهم إنما هو في طاعة ربهم في العسر واليسر.
وإن وجدته حبَّكَ لإمامك أو شيخك لأن مذهبه عدم التنجس فاستحضر عدم عصمته، وأنك إنما كُلِّفْتَ بطاعة الله ورسوله، وإنما ينبغي لك البحث لتعرف ما هو أقرب إلى طاعة الله ورسوله فتتبعه.
فإن استطعت أن تردَّ نفسك إلى الاعتدال فانظر في المسألة ولا تنس مراقبة نفسك أثناء البحث فإنه قد يَعْرِضُ لها هوىً لم يكن قبلُ.
وإن لم تستطع فعلى الأقلِّ تَعَرَّفْ هواها وعامِلْها معاملة الخصم الأَلدِّ، فإذا لم يحصل لك من البحث إلا الرجحان النفسيُّ فلا تثق به، وإذا ظهر لك دليلٌ يوافق هواك فأمعن في تأمُّلِه والتفكُّر فيما يخدش فيه أو يعارضه كما تصنع في دليل خصمك، واستعن بمراجعة مَن يخالفك.
وتَفَقَّد المسائل الخلافية التي قد استقرَّ في نفسك الحكمُ فيها وترى أنه إنما استقرّ للحجة، فتدبَّرْ تلك الحجة، فإن وجدتها قاطعة كَنَصٍّ قاطعٍ يكون القدحُ فيه قدحًا في الشارع، أو كإجماع محقَّقٍ، كفاك ذلك، وإن وجدتَها
_________
(1) كذا في الأصل، ولعلّها: “على ألّا”، أو “على” مقحمة.
(2/74)
دون ذلك فإنك لا تأمَنُ أن تكون شبهةً رجَّحَها عندك الهوى.
ومن علامات الهوى أن تجد نفسك تضيق وتنقبضُ إذا سمعت آية أو حديثًا احتجَّ به مخالفك وتتمنَّى أن تظفر بما تردُّ به احتجاجه، ومما تعرف به ميلك مع الهوى أن تنظر في نظائر حجتك وتأويلك فلعلَّك قد رَدَدْتَ مثلَ ذلك أو أقوى منه على مخالفك في تلك المسألة أو غيرها، وتنظر في نظائر حجة خصمك وتأويله فلعلَّك قد اعْتَمَدتَ على مثله أو دونه، والله الموفق.
وأما بذل الوسع ففي ثلاثة أمور:
الأول: تَعَرُّفُ الهوى، وتطهيرُ النفس منه، أو التحرُّزُ من اتِّباعه، وقد مضى.
الثاني: تقوى الله عزَّ وجلَّ والاستكثارُ من الطاعات واجتناب المعاصي والمكروهات، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [أوائل البقرة]، والأدلَّة على هذا كثيرةٌ، وهذا الأمر متضمِّنٌ للأمر الأوَّل، وإنما أفردت الأوَّل لدقَّته وغلبة التقصير فيه، ومتضمِّنٌ للثالث كما يأتي.
الثالث: طلب العلم، وهو على درجاتٍ.
الدرجة الأولى: تحصيل الضروري من العقائد، وهو ما لا يكون الإنسان مؤمنًا إلا إذا كان معتقدًا له. وهذا أمرٌ ميسَّرٌ في الإسلام لولا ما كَدَّرَهُ من إذاعة الشُّبَه وإشاعة البدع حتى أصبح الخلاص منها صعبًا على العلماء فضلًا عن العامة.
(2/75)
الدرجة الثانية: الضروريُّ من الأحكام، وهذا أيضًا مُيَسَّر؛ لأنه متواترٌ كفرض الصلوات الخمس وأعدادها.
الدرجة الثالثة: العقائد التي يَصِحُّ أصلُ الإيمان مع خُلُوِّ الذهن عنها، ولكنَّ اعتقادَ الحقِّ فيها مشروع، واعتقاد الباطل فيها قد ينافي أصل الإيمان أو يخدشُ فيه. والأمر في هذا سهل أيضًا على مَن وفَّقه الله تعالى، وذلك بأن يستمرَّ على ما يقتضيه خُلُوُّ الذهن، فإن أراد المعرفة أعدَّ لها عُدَّتها، ثمَّ يبذل وسعَه حتى تقهرهُ الحجَّةُ.
الرابعة: الأحكام الفرعية، والأمر فيها سهلٌ أيضًا، فإنه يكفي العاميَّ فتوى العالمِ والأخذُ بالأحوط ما استطاع، فإن أراد المعرفة أعدّ لها عُدَّتها ثمَّ نظر.
وبالجملة فالصعوبة في الدرجة الأولى إنما جاءت من إشاعة الشُّبَهِ والبدع، فمتى رُزِقَ العامَّةُ دولةَ حقٍّ تَسُدُّ عنهم ذلك استراحوا كما كان في أوائل الإسلام، وقصة عمر مع صبيغ بن عسل معروفة (1)، فإن لم يكن ذلك
_________
(1) يعني صَبِيغ بن عِسْلٍ الحنظليَّ. وقصَّته مع عمر رضي الله عنه وردت من طرقٍ متعدِّدةٍ وبألفاظٍ مختلفةٍ. منها: ما أخرجه الدارميُّ من طريق سليمان بن يسارٍ، أن رجلًا يُقال له صَبِيغٌ قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه ــ وقد أعدَّ له عراجين النخل ــ، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صَبِيغٌ، فأخذ عمر عرجونًا من تلك العراجين فضربه، وقال: أنا عبد الله عمر، فجعل له ضربًا حتى دمي رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذي كنتُ أجد في رأسي. وأخرجه أيضًا من طريق نافعٍ بسياقٍ أتمَّ. سنن الدارميِّ، المقدِّمة، باب مَن هاب الفتيا وكره التنطُّع والتبدُّع، 1/ 252 و 254، ح 146 و 150. وانظر: الشريعة للآجرِّيِّ 1/ 481 – 484، ح 152 – 153، الإبانة لابن بطَّة 1/ 414 – 415، ح 329 – 330، اعتقاد أهل السنَّة للالكائيِّ 4/ 634 – 636، ح 1136 – 1140، ذم الكلام للهرويِّ 4/ 242 – 244، ح 706 – 707، الإصابة 5/ 306 – 307، الدر المنثور 2/ 152 – 153.
(2/76)
فإنما يهوِّنُ عنهم الشر تمييزُهم بين علماء الحق وغيرهم، فيقتدون بعلماء الحق ويهجرون غيرهم، ويَسُدُّون آذانهم عن سماع الشُّبَه وقَبُولِ البدع، وقد كان هذا في القرون الأولى. وأما بعد ذلك فاختلط الأمر بل انعكس، فَمَنْ رزقه الله تعالى من العامَّة معرفةَ عالمٍ من علماء الحق فاقتصر عليه وهجر سماسرة الشُّبَه وأنصارَ البدع فقد فاز.
وأما الدرجة الثانية فلا صعوبة فيها على مَنْ سَلِمَت له الأولى.
وأما الثالثة فكالأولى، فإن العامِّيَّ بعد شيوع الكلام فيها لا يكاد يستطيع الاستمرار على ما يقتضيه خُلُوُّ الذهن إلا أن يقيَّض (1) له عالِمٌ من علماء الحق فيلزمه ويدع مَنْ سواه.
وأما الرابعة فإن ما حدث من غلو الناس في مذاهبهم والتعصب على مخالفها حال بينهم وبين الأخذ بالأحوط والوقوف عند الحدِّ. وعلى كل حال فالأمر على العامي أسهل؛ لأن إعداد العُدَّة للعلم إنما يحصل بطلب العلوم من أهلها الراسخين فيها، ولا تجد علمًا من العلوم إلا قد شاركت فيها البدع والأهواء، ولا تكاد تجد عالمًا راسخًا في هذه الأزمنة فإن وجد فخاملٌ غير معروفٍ، فإن عُرِف فمرميٌّ بالضلال عند الجمهور.
وطالب العلم لا بُدَّ أن يقلد شيخه والكتاب الذي يقرؤه؛ لأنه لا يكاد يستطيع أن يبقى على ما يقتضيه خُلُوُّ الذهن حتى تقهره الحجة، فإنها تَعْتَوِرُه
_________
(1) في الأصل بالظاء المشالة.
(2/77)
شبهاتٌ وأهواءٌ تخيِّل إليه أنه قد عقل الحجَّة واتَّضحت له في كثير من المسائل، ثم ينشأ على الهوى لتلك المسائل وعلى الهوى لشيخه ومذهبه وعلى تَوَهُّم أن الحقَّ محصورٌ فيه، فإن فرض أنه بلغ رتبة العلم الحقيقيَّة لم يكد ينتفع بها، ولكنَّه مع هذا كلِّه إذا ناقش نفسه الحساب وألزمها صدق النظر وصحَّت نيَّته أن يجاهد في الله حقَّ الجهاد فلا بدَّ أن يهديه الله تبارك وتعالى سبله، والله الموفق.
* * * *
(2/78)
فصل
حكم الجهل والغلط (1)
خفاء الكثير من حجج الحق يلزمه وقوع الجهل والغلط، والناس في ذلك ثلاث طبقات، الطبقة الأولى: من لم تبلغه دعوة نبي أصلًا، قال الله تبارك وتعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 13 – 16].
خلط الناس في معنى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، فزعم بعضهم أن الرسول هنا إنما أريد به العقل (2)، وهذا تحريفٌ تغني حكايته عن ردِّه.
[ز 8] (3) وقال بعضهم: أما الرسول فهو الرسول المعروف، ولكن المراد
_________
(1) قوله: (فصلٌ) جاء متَّصلًا بالكلام السابق. والعنوان الجديد (حكم الجهل والغلط) وما بعده إلى قوله: (تغني حكايته عن ردِّه) كان ملحقًا بصفحة عنوان القطعة السابقة (أصول ينبغي تقديمها).
(2) انظر: روح المعاني 15/ 37.
(3) من هنا تبدأ القطعة المسمّاة (رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا})، وهي متَّصلةٌ بما قبلها كما ترى، لكن تكرَّر عند المؤلِّف وضع الرقم (8) على هذه الورقة، فتبعته على ذلك.
(2/79)
بالعذاب عذابٌ خاصٌّ هو العذاب الدنيوي المستأصل (1) كإهلاك قوم نوح وعاد وثمود، واحتجوا على ذلك بقوله عقب هذه الآية: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} الآية، فنظروا إلى ما بعدها وغفلوا عما قبلها.
والحق أن الرسول هو الرسول المعروف، وأن العذاب على إطلاقه، فيتناول الأخروي والدنيوي، وترتبط الآية بما قبلها وما بعدها، ولله الحمد. ولا يشكل على الآية ما يشاهَد من عموم الهلاك للصبيان والمجانين وما يتفق من هلاك مَنْ لم تبلغه دعوة؛ فإنه ليس كلُّ هلاكٍ عذابًا، ألا ترى إلى الطاعون هو رجز على الكفار وشهادة للمؤمنين، وإنما يكون الهلاك عذابًا إذا كان عقوبة على ذنب.
هذا وفي القرآن آيات أخرى تشهد لهذا المعنى، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}، إلى قوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 128 – 131].
وقوله عزَّ وجلَّ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} [الزمر: 71].
_________
(1) انظر: متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي 2/ 68. ونسب هذا القولَ القرطبيُّ (10/ 231) وأبو حيان (6/ 10) والشوكاني (3/ 306) إلى الجمهور، مع ترجيح الأخيرين ما رجَّحه المؤلِّف.
(2/80)
وقال سبحانه: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ}، إلى أن قال: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 6 – 9]، وهذه الآيات صريحة في أن جميع الذين يدخلون النار من الكفار قد جاءتهم نذرٌ منهم فكذبوهم، وقوله: {فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} صريح في أن المراد بالنذير النبي، فاندفع ما يزعمه بعضهم من حمل النذير على العقل (1).
وذكر سبحانه وتعالى الرسل، ثم قال: {رُسُلًا … الرُّسُلِ} [النساء: 165].
أوضح تبارك وتعالى بهذه الآيات أن من عدله وحكمته ورحمته ألا يعذب حتى يرسل رسولًا، فأخطأ قوم فقالوا ما سبق من أن المراد بالرسول في الآية هو العقل، فلا مع الشرع وقفوا، ولا عدل الله وحكمته عرفوا.
والحامل لهم على ذلك: أنهم زعموا أن العقل مستقل بإدراك وجود الخالق وأنه قادر عليم حكيم، وبإدراك أن الحكمة تقتضي المنع من القبيح وتقتضي تعذيب مرتكبه بشرطه، وبإدراك قبح كثير من الأعمال. قالوا: فمن لم تبلغه دعوة أصلًا إذا أدرك ما تقدم ومع ذلك ارتكب القبيح فقد استحق العذاب، وإن قَصَّر في إدراك ما تقدم أو بعضه فكذلك يستحق العذاب على التقصير وعلى ارتكاب القبيح.
أقول: كأن القوم قاسوا من لم تبلغه دعوة أصلًا على أنفسهم، فظنوا أنه
_________
(1) الحرف الأخير لم يظهر في الصورة.
(2/81)
يكون كواحدٍ منهم في سرعة الانتقال، وسهولة الاستدلال، وتيسُّر دَفْع الشبه في الجملة، وغير ذلك. ولو فكَّروا قليلًا لعلموا أن البون شاسع؛ فإنهم تلقَّنوا العقائد صغارًا ونشؤوا على قبولها والسكون إليها، وعامَّة الناس حولهم مطبقون عليها، وبَلَغتْهم الشرائع وما نبَّهتْ عليه من الحجج ودفع الشبهات, وبلغهم كلامُ العقلاء الذي تلقَّوه من الشرائع وفسَّروا به ما نبَّهتْ عليه من الحجج وفرَّعوا عليها. ومَنْ لم تبلغه دعوة أصلًا بعيدٌ عن هذا كله، ونحن نجد من المنهمكين في العقليات المقصِّرين في الشرعيَّات من تكون عاقبتُه الإلحادَ أو الارتيابَ مع أنهم قد تلقَّوا كلام العقلاء في الحجج التي اقتبسوها من الشرائع أو فَرَّعوها عليها [ز 9] فما بالك بمن لم تبلغه دعوة أصلًا؟
وهَبْ أن النظر العقلي يستطيع أن يُثْبِتَ على مَنْ لم تبلغه دعوة إجرامًا أو تقصيرًا، فقد بقي وراء ذلك عفو الرؤوف الرحيم.
فإن قيل: إن غلاة هؤلاء يجحدون العفو ويزعمون أنه قبيح؛ لأنه خلاف الحكمة!
فالجواب: أن تلك منهم مكابرة للعقل والشرع، ثم ما عساهم يقولون في الأطفال رُفِعَ عنهم القلم حتى يبلغوا الحلم؟ فإن قيل: إن الطفل يكون تمييزه ضعيفًا. قلت: ذاك في أول أمره، وقد لا يبلغ الغلام إلّا لتمام خمس عشرة سنة، أو ثماني عشرة على الخلاف في ذلك، وقد يكون ابنُ ثلاث عشرة أو أربع عشرة أعقلَ من كثير من الرجال، فأما إذا كان من قوم بلغتهم الدعوة واتبعوها فقد يتعلَّم ويتدرَّب وينظر ويتدبَّر، فيكون أَقْوَمَ بمعرفة الحجج من أُمَّة بكمالها لم تبلغها دعوة أصلًا.
(2/82)
هذا، وإذا كان المدار على التمييز فما بال الغلام يكون الآن غير مكلف, ثم يبلغ بعد ساعة فيصير مكلَّفًا، والبلوغ لا يزيد في العقل شيئًا؟ بل لو قال قائل: إنه ينقصه لما يطرأ من قوَّة الشهوة التي تغالب العقل لَمَا أَبْعَدَ.
فإن قيل: المناط في الحقيقة هو التمييز، ولكنه غير منضبط، فضبطه الشارع بالبلوغ، على ما تَقَرَّر في أصول الفقه في بيان العلَّة، ويمثِّلونه بعلَّة قَصْر الصلاة أنها في الأصل المشقةُ، ولكن لعدم انضباطها ضبطها الشارع بالسفر بشرطه, واغتفر ما قد يترتب على ذلك من الإخلال بأصل الحكمة في بعض الجزئيات مراعاة لحكمة الضبط التي هي أهمُّ.
قلت: فقد يقال: إن ضبط المناط إنما يُحتاج إليه في إقامة الأحكام الدنيوية على المكلَّف كالحدود ونحوها، فأما الجزاء الأخروي فالله عزَّ وجلَّ لا تخفى عليه خافية، فقد كان يمكن أن يُقال للناس: أما أنتم فلا تُجْرُوا على الصبي حكم المكلَّف حتى يبلغ, وأما الصبي في نفسه فينبغي له إذا حصل له أصل التمييز أن يعامِلَ نفسه معاملة المكلَّف؛ لأنه قد يكون حصل له في علم الله تعالى نصاب التمييز فيكون في علم الله تعالى مكلَّفًا يستحق العقوبة في الآخرة على إجرامه وتقصيره. وهذا ــ مع ما يظهر من مطابقته للحكمة ــ فيه مصلحة ظاهرة ومعونة لوليِّ الصبي على ما أُمِر به من تعويد الصبي المحافظة على الفرائض واجتناب القبائح وتأديبه على الإخلال بذلك.
أقول: لا أعرف لهم جوابًا ينفعهم، وأما نحن فنقول: إن الله تعالى عَفُوٌّ كريم، فعفا عن الصبيِّ حتى يبلغ. ومع ذلك فقد دلَّتنا الشريعة على الحكمة في ذلك، وهي أنه كما يُحتاج إلى ضبط مناط التكليف لتعريف الناس متى يعامِلون الإنسان معاملة المكلَّف، فإنه يُحتاج إلى ذلك لأمرين آخرين:
(2/83)
أحدهما: تعريف الملائكة الموكَّلين بكتابة الأعمال وغيرها، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: “كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعةً وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُلَّ على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعةً وتسعين نفسًا فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا، فقتله فَكَمَّل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُلَّ على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومَنْ يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله [ز 10] فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. فَانْطَلَقَ حتى إذا نَصَفَ الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب … “، الحديث (1).
الأمر الثاني ــ وهو الأعظم ــ: معرفة الأشهاد ليشهدوا يوم القيامة، وذلك أن الناس يجادلون عن أنفسهم هناك، قال الله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111].
والله تبارك وتعالى هو الحكم العدل، فاقتضى كرمه وعفوه وفضله وكمال عدله ألَّا يقطع جدال المجادل هناك بقوله: “أنا أعلم”، بل يقيم عليه الشهادة من الرسل والملائكة حتى تشهد عليه أعضاؤه، فَيُعْذِر من نفسه، قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ
_________
(1) وهذا لفظ مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل إلخ، 8/ 103، ح 2766. ونحوه في صحيح البخاريِّ في ترجمة “باب” قبل باب المناقب. [المؤلف]. يعني كتاب أحاديث الأنبياء، باب 54، 4/ 174، ح 3470.
(2/84)
شَهِيدًا} [النساء: 41] (1).
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
وقال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [خاتمة الحج].
وفي مسند أحمد وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك، فَيُدْعى قومُه فيقال لهم: هل بَلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بَلَّغْتَ قومَك؟ فيقول: نعم، فيقال له: مَنْ يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيُدْعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلَّغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما عِلْمُكُم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرُّسُلَ قد بَلَّغوا، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، قال: يقول: عدلًا، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ” (2).
وأصل الحديث في تفسير هذه الآية من صحيح البخاريِّ (3) وفيه: “والوسط: العدل”.
وقال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا
_________
(1) ونحوها في سورة النحل: 89، والقصص: 75. [المؤلف](2) مسند أحمد 3/ 58. [المؤلف](3) كتاب التفسير، باب قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ … } 6/ 21، ح 4487.
(2/85)
تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 – 12].
وآياتٌ أخرى في إثبات ذلك.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 19 – 23].
وقال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65].
وفي صحيح مسلمٍ من حديث أنس قال: كنا عند رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فضحك، فقال: “هل تدرون مِمَّ أضحك؟ ” قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: “مِنْ مخاطبة العبد ربَّه عزَّ وجلَّ، يقول: يا رب، ألم تُجِرْني من الظلم؟ قال: فيقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لكُنّ فعنكُنَّ كنت أناضل” (1).
_________
(1) صحيح مسلمٍ، كتاب الزهد والرقائق، 8/ 216، ح 2969. [المؤلف]
(2/86)
وفيه من حديث أبي هريرة: ” …. فيَلْقَى العبدَ، فيقول: أي فُل (1)، ألم أكرمك وأُسَوِّدْك (2) وأزوجك وأسخِّرْ لك الخيل والإبل وأَذَرْكَ تَرْأس (3) وتَرْبَع (4)؟ فيقول: بلى أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا، [ز 11] فيقول: فإني أنساك كما نسيتني”، ثم ذكر الثاني كذلك، ثم قال: “ثم يَلْقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصلَّيت وصمت وتصدَّقْت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: هاهنا إذًا (5)، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكَّر في نفسه: مَنْ ذا الذي يشهد عليَّ، فيُختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخِذُه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك لِيُعْذِرَ من نفسه (6)، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه” (7).
أقول: ظاهر الآيات في شهادة الرسل أنهم يشهدون على مَنْ أدركوه وبلَّغوه. ويؤيِّده ما أخبر الله تعالى به عن عيسى عليه السلام من قوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117].
ثم من الناس من يجحد شهادة الرسل، فيشهد لهم نبينا صلَّى الله عليه
_________
(1) يا فلان.
(2) أجْعَلْكَ سيّدًا على غيرك.
(3) أَلَمْ أَدَعْكَ تكون رئيسًا على قومك.
(4) أي تأخذ مِرْباعَهم وهو رُبْعُ الغنيمة.
(5) إذا أثنيت على نفسك بما أثنيت فاثبُتْ هنا إذًا كي نُرِيَك أعمالك.
(6) ليقطع الله عُذْرَه وتقوم الحجة على العبد بشهادة أعضائه عليه.
(7) صحيح مسلمٍ، كتاب الزهد والرقائق، 8/ 216، ح 2968. [المؤلف]
(2/87)
وآله وسلَّم وأمته. والسِّرُّ في ذلك والله أعلم ــ مع ما له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأمته من الفضائل ــ أنه يكون قد سبق تقديم أهل المحشر كلِّهم له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للشفاعة العظمى، وظهر لهم بذلك عُلوُّ منزلته وسعيه فيما ينفعهم، فكأنهم في ضمن ذلك قد عرفوا واعترفوا بأنه أهلٌ لأن تُقْبَلَ شهادته، وأمتُه تبعٌ له.
ثم من الناس من لا يقنع بهذه الشهادة وشهادة غير الأنبياء من الناس كشهادة الصحابة على التابعين، فيُشْهِدُ الله عليهم الملائكةَ وغيرهم مما ورد في الآثار من شهادة الأماكن والأحجار والأشجار وغيرها. ثم منهم مَنْ يَرُدُّ هذه أيضًا، ويقول كما تقدَّم في الحديث: “لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا منّي”، فيُنْطِق الله تبارك وتعالى أعضاءَه فتشهد، فيُعْذِرُ من نفسه.
فلو كان الله عزَّ وجلَّ يكتفي في قطع العذر يوم القيامة بأن يقول: “أنا أعلم” لَما اقتضت الحكمة كتابة الحَفَظَة ولا إقامةَ ما تقدَّم من الشهادات، لكنه تبارك وتعالى اقتضى كرمه وفضله وعفوه وكمال عدله ألَّا يكتفي بذلك.
فلهذا نقول: اقتضى كرم الله تعالى وعفوه وكمال عدله أن يُرفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، ولا يُكتفى باستكماله نصاب التمييز قبل بلوغه، إذ لو اكتُفي به فاعتذر يوم القيامة بقوله: “كنت صبيًّا لم أستكمل التمييز” لَما أمكن إقامة الشهادة عليه، لِما تقدَّم أن التمييز لا ينضبط، فلا يعلمه الناس ولا الملائكة ولا الأعضاء؛ بخلاف مَنْ بلغ سليمَ العقل، فإنهم يشهدون عليه أنه كان قد بلغ سليم العقل، ومعلوم أن مَنْ بلغ سليم العقل يكون قد استكمل نصاب التمييز.
ثم نعود إلى مسألتنا فنقول: الاكتفاء في تكليف مَنْ بلغته الدعوة ببلوغه سليمَ العقل لا يلزم مثلُه فيمن لم تبلُغْه دعوةٌ أصلًا؛ لوضوح الفرق؛ فإن مَنْ
(2/88)
بلغته الدعوة قد نبَّهه الشرع وقَرَّب له الحججَ وعبَّد له طرقَ الاستدلال ودَفْعَ الشبه، ومَكَّنه من سؤال الرسول أو العلماء، وغير ذلك؛ ومَنْ لم تبلغه دعوة أصلًا محرومٌ من هذا كلِّه.
فإذا فكَّرنا فيما تقتضي الحكمة أن يكون مناطًا لتكليفه في نفس الأمر لم يكن بُدٌّ من أن نعتبر مع التمييز الذي يكون لمن بلغ سليمَ العقل أمرًا آخر كسلامة الفطرة وقوَّة الفطنة، وهذا الأمر الآخر لا ينضبط فلا يعلمه الناس ولا الملائكة ولا هو نفسه، [ز 12] فاقتضى كرمُ الله تبارك وتعالى وعفوُه وكمالُ عدله وحكمته أن ينوط الحكم ببلوغ الدعوة، فيكون مناطُ التكليف هو بلوغ الحلم مع سلامة العقل وبلوغ الدعوة، وقد صرَّحت الآيات السابقة بإقامة الحجة ببلوغ الدعوة، وفيها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130]، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر: 71]، وأنه لو أهلكهم قبل الرسول لاعتذروا هناك بقولهم: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134، القصص: 47].
فقد اتَّضح بحمد الله تبارك وتعالى تطابق العقل والنقل على أن مَنْ لم تبلغه دعوة أصلًا ليس بمكلَّف، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فصل
وأخطأ آخرون فزعموا أن الآية (1) تتناول العرب قبل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فليسوا بمعذَّبين على ما كان منهم من الشرك وغيره (2)،
_________
(1) يعني قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}.
(2) انظر: روح المعاني 15/ 40 – 41.
(2/89)
وقد ردَّ النووي في شرح مسلم (1) هذا القول فأجاد.
وكأن هؤلاء القوم توهَّموا أن معنى الآية: وما كنا معذِّبين أحدًا من أمَّةٍ حتى نرسل إليها رسولًا، ثم توهَّموا أنه لم يُرْسَلْ إلى العرب رسولٌ قبل محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أو أن الرسول أو الرسل الذين أرسلوا إلى العرب قبل محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كانت قد اندرست شرائعهم، فصار العربُ كمَنْ لم يُرْسَلْ إليهم رسول حتى أرسل الله محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
وقد أخطؤوا في كلا الأمرين، أما الأول فإن الآية مطلقة، فمعناها: وما كنا معذِّبين أحدًا حتى نرسل رسولًا، فتتناول كلَّ أحد وكلَّ رسول سواء مَنْ كان من أمَّة الرسول ومَن كان من غيرها، وإنما الشرط بلوغ الدعوة فقط، على ما تقدَّم، مع قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
والغلط في هذا مبنيٌّ على الغلط في فَهْمِ ما أشار إليه القرآن وصرَّحت به السُّنَّة من أن الرسل قبل محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان أحدُهم يُرسل إلى قومه خاصة، فتوهَّموا أنه إذا أُرسل إلى قومه خاصَّة لم يكن له بغيرهم عُلْقَة. والحقُّ أنَّ معنى إرساله إلى قومه خاصَّة أنه لم يؤمر بالتجَرُّدِ لتبليغ غيرهم وبَذْلِ المجهود فيه كما أُمِرَ بذلك في قومه، بل يكفيه في غير قومه ما تيسَّر له من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر إذا لقيهم وأَمِنَ من شرِّهم ونحو ذلك.
_________
(1) 3/ 79.
(2/90)
فلما أُرْسِلَ هود إلى عاد كان غيرُهم من الأقوام الذين بلغتهم دعوتُه على قسمين: أمَّة فيها رسول حيٌّ أو قد مات ولكن شريعته باقيةٌ محفوظة، فهؤلاء يكفيهم رسولُهم ولا يلزمهم أن يأتوا هودًا، وأمَّة لم يُبعث إليها رسول أو بُعِث ثم مات واندرستْ شريعتُه أو بعضُها، فهؤلاء يلزمُهم أن يأتوا هودًا ويطيعوه.
قال الحَليمي في منهاجه: “إن العاقل المميز إذا سمع أيّة دعوة كانت إلى الله تعالى، فترَك الاستدلال بعقله على صحَّتها وهو من أهل الاستدلال والنظر، كان بذلك معرضًا عن الدعوة، فيكفر”، نقله في روح المعاني (1).
ولا ريب أنهم إذا جاؤوه لم يقل لهم: لا شأن لي بكم إنما أُرْسِلْتُ إلى غيركم.
وفي الفتح في الرَّدِّ على من زعم أن رسالة نوح كانت عامَّة بدليل أنه دعا على جميع أهل الأرض فأُغرقوا: “ويحتمل أن يكون دعاؤه قومَه إلى التوحيد بَلغ بقيَّة الناس فتمادوا على الشرك فاستحقُّوا العقاب، وإلى هذا نحا ابن عطيَّة في تفسير سورة هود. قال: وغيرُ ممكن أن تكون نُبوَّته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مُّدَّته” (2).
أقول: وكان نوح قريبَ العهد من آدم، فكأنَّ أهل الأرض كانوا في عهده قليلًا متقاربين لم ينتشروا في الأرض كلها، وإنما هم في إقليم واحد، ولم يثبت بدليل صحيح ما يخالف ذلك، وليس في الإسلام ما ينص على أن آدم
_________
(1) 4/ 495. [المؤلف]. وهو في المنهاج في شعب الإيمان للحليمي 1/ 175.
(2) فتح الباري، أوائل كتاب التيمم، 1/ 298. [المؤلف]. وانظر: المحرر الوجيز لابن عطية 4/ 572.
(2/91)
كان قبل ستة آلاف سنة ولا أكثر ولا أقلَّ، وكذلك نوح، وإنما عندنا قوله تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38]، وما في الكتاب الذي يزعم اليهود أو النصارى أنه التوراة من تحديد المُدَّة لا نقول بصحته، وقد أبطله الأوربيون أنفسهم.
[ز 13] وقد كان موسى رسولًا في الأصل إلى قومه بني إسرائيل، ولم يكن عليه بمقتضى أصل الرسالة أن يتجرَّد لتبليغ فرعون وآله، وإنما أُمِر بالذهاب إلى فرعون ليستخلص منه بني إسرائيل، فإنه كان يستعبدهم، ولا يمكن تبليغهم كما يجب وإقامةُ الشريعة فيهم حتى يخلصوا من الاستعباد ويصيروا إلى بلد لا معارِض فيها لإقامة الشريعة. قال الله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}، إلى أن قال: {وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 103 – 105].
وقال تعالى لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} إلى قوله: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 43 – 47].
وقال سبحانه: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} إلى قوله: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 10 – 17].
فظهر بما ذكر أن جِدّ موسى عليه السلام في تبليغ فرعون كان مداره
(2/92)
على أن يرسل معه بني إسرائيل، فلو أن فرعون أرسل معه بني إسرائيل لذهب معهم ولم يتشاغل بتبليغ فرعون وملئه؛ لأنه في الأصل لم يرسل إليهم. ومع هذا فقد لزمهم الإيمان به وقامت عليهم الحجة وبلّغهم هو من أصل الدين ما دعت إليه الحاجة. ولو أرسلوا معه بني إسرائيل لكان عليهم بعد ذلك أن يأتوه حيث كان ويؤمنوا به ويتعلَّموا منه، وقد قَبِلَ الله تعالى إيمان مَنْ آمن منهم، كمؤمن آل فرعون وامرأة فرعون والسحرة؛ وعَذَّب الباقين.
وكذلك قاتَل موسى وخلفاؤه الأقوامَ الذين كانوا مستولين على الأرض المكتوبة لبني إسرائيل، ولا نشكُّ أنهم دعوهم إلى الإيمان ولزمتهم الحجة وإن لم يكونوا من قوم موسى الذين أرسل إليهم.
وكذلك نجد موسى أنكر على الخضر ما فعله مما ظاهره المنكر ولم يمنعه من ذلك أنه ليس من قومه الذين أرسل إليهم. وهكذا نجد سليمان عليه السلام لَمَّا تيسَّر له أن يدعو سبأ دعاهم وتَوَعَّدَهم بأن يغزوهم، فجاؤوه وأسلموا معه. وكذلك نجد الإسلام وجد جماعة من العرب قد تهوَّدُوا وآخرين منهم ومن الروم والحبش وغيرهم قد تنصَّروا فعاملهم معاملة أهل الكتاب ولم يقل لهم: إن موسى وعيسى لم يُرْسَلا إليكم.
وهذا يوسف عليه السلام تدلُّ قصته أنه لم يكن رسولًا إلى أهل مصر، فإنه لما قابل الملِك لم يَدْعُهُ، بل سأله أن يولِّيه الخزائن فتولَّاها منه، ثم كان إذا جرى بينه وبين آخر نزاعٌ يكون الحكم على دين الملك، كما يدلُّ عليه قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76].
(2/93)
ثم نراه لمَّا كان في السجن وسأله الرجلان عن حلمهما فآنس منهما الإقبالَ عليه وحسنَ الظن به، تلطَّف في دعائهما إلى الإيمان، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 36 – 40]، ثم فسّر لهما رؤياهما.
ولا بُدَّ أنه بعد أن تولَّى الخزانة كان يدعو الناس بحسب ما تيسَّر، كما يصنعه النبي مع مَنْ لم يؤمر بالتجرُّد لتبليغه أو قُلْ مع غير قومه الذين أُرْسِلَ إليهم. وهكذا ينبغي أن يكون فَعَلَ أبوه يعقوب عليه السلام بعد ورود مصر.
ومما يدلُّ على هذا ما أخبرنا الله تعالى به عن مؤمن آل فرعون قوله لقومه: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [المؤمن: 34].
زعم بعضهم أن يوسف هذا غير ابن يعقوب (1)، كأن هذا الزاعم فَهِمَ
_________
(1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير 7/ 221، وقال: ليس بشيء. وانظر: الإتقان 5/ 1970.
(2/94)
من هذه الآية أن يوسف هذا كان رسولًا إلى المصريِّين الرسالة الخاصَّة، كما أُرْسِلَ هود إلى عاد، وعلم أن هذا لا ينطبق على يوسف بن يعقوب لما مَرَّ. والصواب أن الآية لا تدلُّ على ما ذكر، بل تدل أن يوسف كان رسولًا أي إلى أهل بيته ومن لعله تبعهم من قومهم، ولكنه تيسر له أن يدعو المصريين ففعل. والله أعلم.
وهكذا ما اشتهر بين أهل العلم أن من الأنبياء مَنْ لم يكن رسولًا، ويفسرون ذلك بأنه لم يؤمر بالتبليغ، لا أرى هذا التفسير على إطلاقه، وإنما معناه الصحيح أنه لم يؤمر بالتجرد للتبليغ والجِدِّ فيه لا لقومه ولا لغيرهم، وإنما يؤمر بما تيسر له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأهله وجيرانه ومن يأنس به، فيكون حاله مع الناس كلهم كحال هود مع غير قومه الذين أرسل إليهم على ما تقدم.
وعلى هذا فمن بلغه وجود نبيٍّ غير رسول يكون حاله كمن بلغه وجود رسولٍ في قيام الحجة إذ لا يظهر فرق، وعلى هذا فكلمة (رسول) في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} المراد بها ــ والله أعلم ــ ما يَعُمُّ النبي، ولا حاجة لدعوى المجاز، ولا إلى ما قيل: إن كل نبي فهو رسول إلى نفسه، بل كل نبي يصدق عليه أنه رسول؛ لأنه لا بُدَّ أن يؤمر بالتبليغ وإن لم يؤمر بالتجرُّد له والجِدِّ فيه.
وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52]، فدلت الآية أن كلًّا من الرسول والنبي مرسل. نعم إذا أطلق الرسول فالظاهر منه أنه المأمور بالتجرُّد للتبليغ والجِدِّ فيه، لأن معنى الإرسال فيه أقوى، ولكن ذلك لا يمنع من حمل (رسول) في بعض الموارد
(2/95)
على ما يعمُّ النبي الذي لم يؤمر بالتجرد للتبليغ والجد فيه إذا دل دليل على العموم، والدليل هنا ما مر؛ إذ لا يظهر فرق بين من بلغه إرسال رسول ومن بلغه إرسال نبي في قيام الحجة. والله أعلم.
فصل
وأما القول بأنه لم يبعث إلى العرب رسول قبل محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فيردُّه أن مَنْ كان منهم من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام فقد دخلوا في رسالتهما؛ إذ لا شبهة أنهما كانا مرسلين إلى أبنائهما، ومَن كان مرسلًا إلى قوم فهو مرسلٌ إلى ذرِّيَّتهم ما تناسلوا، وأما الباقون فقد دخلوا في رسالة إسماعيل، كما جاء أنه أرسل إلى جُرْهُم (1)، وجاء أن عادًا وثمود من العرب، وقد أرسل إليهم هودٌ وصالحٌ.
فأما قوله تعالى: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الجرز [السجدة]: 3]، فالمراد بالقوم كما هو الظاهر مَن بلغتهم بعثته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من أهل مكة وغيرهم، وهؤلاء لم يأتهم أنفسهم رسول نذير قبله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولا يفهم من ذلك أنه لم يأت أسلافهم نذير، كيف ومن أسلافهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما نبيّان مرسلان، ومن أسلافهم أبناء إسماعيل لصلبه، وقد أنذرهم أبوهم إنذارًا مباشرًا، وهكذا يُقال في آيات أخر (2).
_________
(1) جُرْهُم: حيٌّ من اليمن نزلوا مكَّة وتزوَّج فيهم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهم أصهاره، ثمَّ ألحدوا في الحرم فأبادهم الله. لسان العرب 12/ 97.
(2) كالآية (44) من سورة سبأ، و (46) من سورة القصص. [المؤلف]
(2/96)
وأما قوله تعالى في أوائل سورة يس: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]، فالمراد آباؤهم الأدنون، كما هو الحقيقة، فإن حُمِل على ما يعمُّ الأجداد وإن عَلَوا فلا بُدَّ من قصره على بعض الطبقات لما تقدم.
وأما القول بأن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد كانت اندرست قبل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فخطأ القائلين به من وجهين:
الأول: أنهم يطلقون القول بعذر المشركين الذين هلكوا قبيل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وآبائهم وأجدادهم فصاعدًا، وقضية ذلك: أن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام اندرست قبل أن يشرك أحد من العرب، وهذا قول لا دليل عليه، بل الدليل قائمٌ على خلافه.
[ز 15] (1) فقد ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: “رأيتُ عمرو بن لُحَيِّ بن قَمَعة بن خِندِفَ أخا بني كعبٍ هؤلاء يجرُّ قُصْبه في النار”، وفي روايةٍ: “وكان أول من سيَّب السُّيوب” (2).
والحديث في المستدرك وفيه: “هو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام”، وفي رواية: “هو أوَّل من سيَّب السوائب وغيَّر دين إبراهيم عليه
_________
(1) من هنا تبدأ القطعة المسمّاة في فهرس المكتبة (رسالة في العقيدة)، وهي متَّصلةٌ بما قبلها كما ترى.
(2) صحيح مسلمٍ، كتاب الجنة إلخ، بابٌ النار يدخلها الجبَّارون إلخ، 8/ 155، ح 2856. ونحوه في صحيح البخاريِّ، كتاب المناقب، باب قصَّة خزاعة، 4/ 184، ح 3521. [المؤلف]
(2/97)
السلام”، وفي أخرى: “أول مَن غيَّر عهد إبراهيم … ونصب الأوثان” (1).
وقد وردت آثار في سبب نصبه للأوثان وسبب إشراكه في التلبية سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني: أنهم يطلقون العذر، فشمل العذر في الشرك والعذر في المعاصي، وذلك يقتضي أحد أمرين: إما أنهم يرون أن الشريعة إذا اندرس بعضها سقط التكليف بباقيها، وإما أن يزعموا أن شريعة إبراهيم عليه السلام كانت قد اندرست بجميع فروعها. ولا أرى عاقلا يُقْدِمُ على الأول، ولا عارفًا يقدم على الثاني.
فأما قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]، وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، فالمعنى أنه لو لم يرسل إليهم رسول لقالوا ذلك على جهة الاعتذار، فقطع الله عذرهم، ولا يفهم من ذلك أنه لو لم يرسل الرسول فقالوا ذلك لقُبِل منهم وعُدَّ عذرًا لهم.
وقد دل قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أنهم مؤاخذون بأعمالهم، على فرض عدم الإرسال وإظهار الاعتذار، فكذلك يقال فيمن هلك قبل البعثة.
_________
(1) راجع المستدرك، كتاب الأهوال، ذكر أوَّل مَن حمل العرب على عبادة الأصنام، 4/ 605. والإصابة، ترجمة أكثم بن الجون، [1/ 214 – 215]. وفتح الباري، باب قصَّة خزاعة، 6/ 354. [المؤلف]
(2/98)
وقد قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]، وليس المعنى أنه لم يأت أسلافهم كما هو واضح، ولا يُفهم منه أنه لو لم يُبعث رسول فقالوا ذلك كان عذرًا مقبولًا. فكذلك لا يكون مَن هلك من أهل الكتاب قبل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معذورًا على الإطلاق، فكذلك العرب.
وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ} إلى قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [طه: 155 – 157]، فهذا اعتذار قطعه الله تعالى، مع العلم بأنه لو أُرْسِل إليهم رسول بلا كتاب لقامت عليهم الحجة وإن كان ذاك الاعتذار باقيًا، فكذلك مَن هلك منهم قبل بعثة الرسول وإنزال الكتاب بالنسبة إلى ما قامت عليه الحجَّة.
وأما قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} إلى قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: 59]، فالمراد بالإهلاك هنا التدمير الدنيوي المستأصل كما يرشد إليه السياق، ثم إما أن يكون (أل) في {الْقُرَى} للاستغراق، والكلامُ على سلب العموم، وأمُّ القرى مكَّة، والمعنى: ما كان ربُّك ليدمِّر على جميع القرى حتى يبعث رسولًا في مكَّة، فَأَنْتَ ذلك الرسول. وهذا التدمير هو الموعود به عند قيام الساعة. فحاصل المعنى: ما كان ربك ليقيم الساعة حتى يبعث رسولًا في مكَّة فأنت هو. وهذا معنى صحيح لا غبار عليه.
(2/99)
وإما أن تكون (أل) للجنس، وأمُّ القرى أعظمها، والمعنى: ما كان ربُّك ليدمِّر على طائفةٍ من القرى حتى يبعث في أعظمها رسولًا, كما بعث في القرية العظمى من قرى عادٍ هودًا فلما كذَّبوه دمَّر الله تعالى على تلك القرى وهكذا، وهذا معنًى صحيحٌ أيضًا. وبقيت احتمالاتٌ أخرى ما بين باطلٍ وضعيفٍ فلا حاجة للإطالة بها.
والمقصود أنه ليس في الآية ما يدلُّ على أن المشركين كانوا قبل بعثة محمَّدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معذورين مطلقًا.
ودونك تحقيق حال العرب.
(2/100)
فصل
العرب بعد إسماعيل عليه السلام فريقان:
الفريق الأول: ذُرِّيَّته، ومنهم بنو عدنان.
والفريق الثاني: مَن عداهم.
فأما ذُرِّيَّته فإنها لزمتهم شريعة أبويهم إبراهيم وإسماعيل والتزموها، وأما مَن عداهم فإنها لزمتهم ببلوغ الدعوة، فمنهم مَن التزمها، ومنهم مَن أبى، والذين أبوا منهم مَن تهوَّد بعد ذلك كسبأ الذين اتَّبعوا سليمان عليه السلام مع مَلِكَتِهم كما قصَّه الله تعالى في كتابه في سورة النمل، ومنهم مَن تنصَّر كأهل نجران، ومنهم مَن بقي على شركه.
وكلامنا الآن في الذين اتبعوا شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فنقول: إنهم بقوا محافظين عليها أمدًا طويلًا، ففي كتاب أرميا، الإصحاح الثاني: ” [9] (1) لذلك أخاصمكم بعد يقول الرب وبني بنيكم أخاصم ــ 10 ــ فاعبروا جزائر كِتِّيم (2) وانظروا وأرسلوا إلى قيدار وانتبهوا جدًّا وانظروا هل صار مثل هذا ــ 11 ــ هل بدَّلت أمَّةٌ آلهةً وهي ليست بآلهةٍ، أما شعبي فقد بدَّل مجده بما لا ينفع ــ 12 ــ” (3).
_________
(1) لم يكتب المؤلف رقم الفقرة.
(2) هو اسمٌ قديمٌ لقبرص. انظر: قاموس ــ ما يُسمَّى ــ الكتاب المقدَّس، في مدخليْ كِتِّيم وقبرس.
(3) لم ينقل المؤلف الفقرة الثانية عشرة، ولعله أشار بكتابة الرقم إلى انتهاء الفقرة الحادية عشرة.
(2/101)
قيدار ــ ويُقال: قيذار ــ هو اسم ابن إسماعيل، كما هو مذكورٌ في الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين.
وذكر معه نبايوت، وأكثر النسابين من العرب أن نابتًا ــ ويقال: نبت ــ هو ابن قيذار بن إسماعيل، وإليه نُسب عدنان، ولا مانع أن يكون لإسماعيل ابن اسمه نبايوت ونابت أو نبت، ثم سمي ابنُ قيذار نابتًا أو نبتًا باسم عمِّه. وما وقع لبعض النسابين من قولهم في نسب عدنان: نابت أو نبت بن إسماعيل، فكأنهم أسقطوا قيذار اغترارًا بما حكي عن التوراة أو غير ذلك. وأنشد ابن إسحاق لقصيِّ بن كلاب جدِّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أبياتًا فيها (1):
فلست لغالبٍ إن لم تَأثَّل … بها أولادُ قَيذَرَ والنَّبيتُ
أراد بالنبيت أبناء نابتٍ. والله أعلم (2).
فمعنى قوله: “وأرسلوا إلى قيدار” أي: أرسلوا إلى بلاد بني قيدار، وهي الحجاز وما حولها. وقوله: “وانتبهوا جدًّا” يشير به ــ والله أعلم ــ إلى تدبُّرِ الفَرْقِ بين بني إسرائيل وبني قيدار، بنو قيدار محافظون على شريعة إبراهيم لم يبدِّلوا ولم يغيِّروا مع مرور الزمان، وبنو إسرائيل قد بدَّلوا شريعة موسى، وكان بعد إبراهيم بزمانٍ، ومع ذلك كانت عندهم التوراة، ثم تسلسل فيهم الأنبياء كداود وسليمان ومَنْ بعدهما. وقوله: “هل بدَّلت أمة آلهة” إلخ يُعْلَمُ
_________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 128. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 57 وفيه: لحاضن بدل غالب.
(2) راجع فتح الباري، كتاب المناقب، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل، 6/ 346. وراجع تاريخ ابن جريرٍ 2/ 192؛ فإن أكثر الأقوال المختلفة في نسب عدنان تقول: نابتٌ، أو نبتٌ، أو النبيت بن قيذار بن إسماعيل. [المؤلف]
(2/102)
منه مع ما تقدَّم أن بني قيدار لم يبدِّلوا كما بدَّل بنو إسرائيل. والسِّفْر المذكور يصرِّح بأن بني إسرائيل عبدوا الأصنام ونصبوها في بيت المقدس، فراجعه إن شئت.
واستمرَّ بنو إسماعيل ومن وافقهم في اتِّباع شريعة إبراهيم عليه السلام على المحافظة عليها, فبُعث عيسى عليه السلام وهم على ذلك, ورُفع وبُدِّلَتْ شريعته وهم على ذلك, حتى بدَّلها ذلك الخبيث عمرو بن لحيٍّ.
وقد تأمَّلتُ أنساب الصحابة الذين أسلموا من ذرِّية عمرو بن لحيٍّ كأكثم بن الجون، وسليمان [ز 16] بن صُرَد، وعمرو بن سالم، وبُدَيل بن وَرْقاء، وعمرو بن الحَمِق، وجويرية أمِّ المؤمنين، وغيرهم, فإذا بين كلٍّ منهم وبين عمرو بن لحيٍّ تسعة آباءٍ، وربَّما زاد أبًا أو نقص.
وبين عمرو بن لحيٍّ وبين معدِّ بن عدنان خمسة آباء عند من يقول: هو من ذريته كما هو ظاهر الحديث الصحيح المتقدِّم، فإن خِندِفَ هي زوج الياس بن مضر بن نِزار بن مَعَدٍّ، وأما على المشهور أن لُحيًّا لقبٌ واسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد, وأنه إنما نسب إلى قَمَعة بالتبنِّي أو غيره، فإنه يكون في عهد النضر بن كنانة بن مدركة بن إلياس أو قبله، وهو أظهر؛ فقد كان لكنانة ابنٌ اسمه عبد مناةٍ ولأُدِّ بن طابخة بن إلياس ابنٌ اسمه عبد مناة أيضًا، والظاهر أن هذا الاسم إنما سمَّوا به بعد التبديل، ومثله زيد مناة، وعبد اللات، وتيم اللات، وعبد العُزَّى، وغيرها، والله أعلم.
وقد حكى ابن الكلبي وغيره أنَّ معدَّ بن عدنان كان على عهد عيسى
(2/103)
عليه السلام (1)، وبين مولد عيسى ومولد محمد عليهما الصلاة والسلام نحو ستمائة سنةٍ، فعلى هذا يكون بين عيسى عليه السلام وبين تبديل عمرو بن لحيٍّ نحو مائتي سنةٍ.
ومن تتبَّع تاريخ النصرانية علم أنها لم تكد تمضي مائة سنة بعد رفع عيسى عليه السلام حتى بدَّل جمهورُ أتباعه أشنع تبديلٍ، وظهر بما تقدَّم أن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بقيت محفوظةً في ذريتهما العرب ومن وافقهم حتى بُدِّلت شريعةُ موسى والأنبياء بعده وشريعة عيسى، وكانت آخر الشرائع تبديلًا.
فصل
أما مَن كان من العرب على شريعة إبراهيم قبل تبديل عمرو بن لحيٍّ أو بعده وبقي متمسكًا بها فلا ريب في نجاتهم؛ لأنهم كانوا على شريعة صحيحةٍ لم تُبدَّلْ ولم تُنسَخْ ولم يلزم أهلَها إجابةُ أحدٍ من الأنبياء الذين بُعِثُوا بعد إسماعيل؛ لأنه لم يُبعث أحد منهم إلى ذرية إسماعيل ومن وافقهم في اتباع شريعة إبراهيم.
وقد قدَّمنا أنه إذا بُعث رسول إلى أمة وكانت هناك أمة أخرى على شريعة لم تبدَّلْ لم يلزمها اتباع ذلك الرسول.
وأما عمرو بن لحي ومن وافقه على التبديل وكذا من جاء بعده فاتبعه مع علمه بالتبديل فهؤلاء هالكون لا محالة.
وأما مَن بعد هؤلاء إلى بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فالكلام
_________
(1) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 57.
(2/104)
فيهم يستدعي بعض البسط، فأقول: إن القوم كانت قد بلغتهم أصل دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فلم يزالوا يعرفون أن إبراهيم رسولُ الله وأنه جاء بشريعة من عند الله, وكانوا يدَّعون أنهم على دينه.
ذكر ابن إسحاق اجتماع زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ورجلين آخرين ونجواهم, قال: “فقال بعضهم لبعض: تَعَلَّموا والله ما قومكم على شيءٍ، لقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم … يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرَّقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم … وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموءودة، وقال: أعبد رب إبراهيم، وبادى قومَه بعيب ما هم عليه.
قال ابن إسحاق: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن أمه أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيلٍ شيخًا كبيرًا [ز 17] يسند ظهره إلى الكعبة وهو يقول: “يا معشر قريشٍ، والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري”، ثم يقول: “اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكن لا أعلمه”، ثم يسجد على راحته. ثم قال: وحُدِّثت عن بعض أهل زيد بن عمرو بن نفيل أن زيدًا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال: “لبيك حقًّا حقًّا تعبُّدًا ورقًّا”
عُذتُ بما عاذ به إبراهمُ … مستقبلَ الكعبة وهو قائمُ
إذ قال:
أَنْفِي لك اللهم عانٍ راغمُ … مهما تُجَشِّمْنِي فإني جاشِمُ
(2/105)
إلى أن قال: ثم خرج يطلب دين إبراهيم عليه السلام ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام كلها حتى انتهى إلى راهب بميفعةٍ (1) من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون, فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال: إنك لتطلب دينًا ما أنت بواجِدٍ مَنْ يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلَّ زمان نبيٍّ يخرج من بلادك (2).
أقول: وأثر أسماء بنت أبي بكر أخرجه البخاري في صحيحه. وأخرج عن ابن عمر قصة زيد في مساءلته لعلماء اليهود والنصارى، وذكر ابن عمر أنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بَلْدَحَ (3) قبل أن ينزل على النبي – صلى الله عليه وسلم – الوحي فقُدِّمت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – سُفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: “إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه” (4).
وذكر في الفتح شاهدًا لقصة السُّفرة من حديث سعيد بن زيدٍ وفيه: فمرَّ بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سُفرة لهما فَدَعَيَاهُ فقال: “يا ابن أخي لا آكل مما ذُبِحَ على النُّصب، قال: فما رُئِيَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يأكل مما ذُبِح على النصب من يومه ذلك” (5). أقول: وهذا الحديث في مسند أحمد (6).
_________
(1) أي: بمرتفعٍ.
(2) راجع سيرة ابن هشام، ذكر ورقة بن نوفلٍ إلخ، 1/ 222 – 231. [المؤلف](3) بَلدَح: وادٍ قبل مكة من جهة المغرب. معجم البلدان 1/ 480.
(4) صحيح البخاريِّ، كتاب المناقب [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيلٍ، 5/ 40، ح 3826. [المؤلف](5) فتح الباري 7/ 98.
(6) 1/ 189. [المؤلف]
(2/106)
وذكر الحافظ حديث زيد بن حارثة، وسأذكره بعد إن شاء الله تعالى.
وذكر ابن إسحاق اتخاذ قريش الأصنام ثم قال: “وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده”.
أقول: ولعلمهم بأن احترامها من دين إبراهيم الذي بلَّغه عن ربه عزَّ وجلَّ لم ينعتوها بالألوهية كما نعتوا أصنامهم، ولم يصفوا احترامهم لها بأنه عبادة لها كما قالوا في أصنامهم، بل كانوا يرون أن احترامهم لها عبادة لله عزَّ وجلَّ، وسيأتي إيضاح هذا إن شاء الله تعالى.
وذكر ابن إسحاق شأن زمزم وتجديد عبد المطلب لها وقول قريش: “إنها بئر أبينا إسماعيل” (1).
وبالجملة فالشواهد على ما ذكرت من معرفتهم بأصل دعوة إبراهيم وإسماعيل ودعواهم أنهم على دين إبراهيم كثيرة، وفيما ذكرت كفاية إن شاء الله تعالى.
ومع ذلك فقد كان بقي فيهم من شريعة إبراهيم عليه السلام أشياء:
[ز 18] منها: في العقائد: علمهم بأن الله هو الحق، قال قائلهم ــ وأنشده بين ظهرانيهم فلم ينكروه ــ:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل (2)
_________
(1) سيرة ابن إسحاق ص 3.
(2) راجع صحيح البخاريِّ، كتاب بدء الخلق [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب أيَّام الجاهليَّة، 5/ 42، ح 3841. وصحيح مسلمٍ، كتاب الشعر، 7/ 49، ح 2256. [المؤلف]
(2/107)
وذِكْرُ الله تعالى والثناءُ عليه والقَسَمُ به في كلامهم أكثرُ من أن يُحْصَى، بل شهد الله تبارك وتعالى عليهم في كتابه بأنهم يعترفون بربوبيته، وأنه الذي يرزق من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبر الأمر، له الأرض وما فيها، رب السموات السبع ورب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له، ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض، خلق السموات والأرض وهو العزيز العليم. وسيأتي سياق الآيات في ذلك (1) وما يتعلق به من كلام المفسرين (2).
ومنها في الأحكام: احترام البيت والحرم، ومشروعية الختان، والوفاء بالنذر وباليمين وبالعهد، وتحريم الظلم والغدر والزنا والربا والكذب، وتحريم نكاح الأمهات والبنات والأخوات، إلى غير ذلك. ولما بنوا الكعبة قبل البعثة تواصوا أن لا يجعلوا فيها إلا مالًا طيبًا، ولا يجعلوا فيها مالًا أُخِذَ غصبًا ولا قُطِعت فيه رحم ولا انتُهِكت فيه ذمة ولا مهر بغيٍّ ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحد من الناس (3).
_________
(1) اقرأ من سورة يونس الآية: 31، ومن سورة قد أفلح المؤمنون، الآية: 84 – 89، ومن سورة العنكبوت، الآية: 61 – 63، ومن سورة الزمر، الآية: 38، ومن سورة الزخرف، الآية: 9، والآية: 87. [المؤلف](2) يشير إلى ما ذكره في تفسير عبادة الملائكة في ص 715 – 724.
(3) راجع: سيرة ابن هشام، حديث بنيان الكعبة، 1/ 194. وراجع: فتح الباري، كتاب المناقب، باب بنيان الكعبة 7/ 100. وكتاب الحجِّ، باب فضل مكَّة إلخ، 3/ 286. [المؤلف]
(2/108)
وقال في شرح قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لعائشة: “ألم تري قومك قَصُرَتْ بهم النفقة” قال في الفتح: “أي النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك كما جزم به الأزرقي وغيره …. وروى سفيان بن عيينة في جامعه عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه أنه شهد عمر بن الخطاب أرسل إلى شيخ من بنى زهرة أدرك ذلك فسأله عمر عن بناء الكعبة فقال: إن قريشًا تقرَّبت لبناء الكعبة، أي بالنفقة الطيبة، فعجزت فتركوا بعض البيت في الحِجْر, فقال عمر: صدقت”.
أقول: قولهم: “بيع ربا” صورته أن أحدهم كان يبيع بنسيئة فإذا حلَّ الأجل قال لغريمه: تقضي أم تربي؟ قال جماعة من أهل العلم: هذا هو المعروف من الربا في الجاهلية، ولم يُنْقَلْ عنهم ربا القرض. أقول: كأنهم ــ والله أعلم ــ تنزَّهوا عن ربا القرض لأنه كان مقطوعًا بتحريمه عندهم.
ونظير هذا كلمة “العِينَة” وردت في الحديث (1) ولم ينقل أنَّ الصحابة سألوا عن تفسيرها, فيظهر من ذلك أنها كانت معروفة من قبل, فكأنَّ أهل الجاهلية كانوا يتعاملون بها احتيالًا على ربا القرض لحرمته عندهم. والله أعلم.
مُحْدَثاتهم
منها: زعمهم أن الملائكة بنات الله، سبحانه وتعالى عما قالوا علوًّا كبيرًا.
ومنها: عبادتهم الملائكة بالدعاء وغيره، على ما يأتي تفصيله.
ومنها: ارتيابهم في البعث مع أنه قد كان بلغهم. قال الله تبارك وتعالى:
_________
(1) انظر: سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، 3/ 274، ح 3462.
(2/109)
{قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 82 – 83] (1).
وقد كان منهم من يصدِّق به، قال لبيد (2) في الجاهلية:
[ز 19] وكل امرئٍ يومًا سيعلم سعيه … إذا كُشِفت عند الإله المَحاصِلُ
وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته (3):
فلا تكتمُنَّ الله ما في نفوسكم … ليخفى ومهما يُكتَم اللهُ يعلم
يؤخَّر فيوضع في كتابٍ فَيُدَّخر … ليوم الحساب أو يُعَجَّل فيُنْقَم
ومنها: نصبهم الأوثان في جوف الكعبة وفوقها وحواليها وفي مواضع أخرى، وتسميتها آلهة، وعبادتهم إياها.
ومنها: الاستقسام بالأزلام والذبح للأنصاب.
ومنها: ما شرعه لهم عمرو بن لحي من البَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحامي.
ومنها: النسيء، وفيه تحريم بعض أشهر الحلّ وتحليل بعض الأشهر الحرم وتقديم أو تأخير الحجِّ عن ميقاته.
ومنها: ما أحدثوه في الحجِّ من امتناع قريش ومَنْ إليها من الوقوف بعرفة مع الناس، بل كانوا يقفون بالمزدلفة، ومِنْ مَنْعِ مَنْ ليس من أهل
_________
(1) ونحوها في سورة النمل 67 – 68. [المؤلف](2) انظر: شرح ديوانه 257.
(3) انظر شرح شعر زهير بن أبي سُلمى ص 26.
(2/110)
الحرم أن يطوف في ثياب الحلِّ، بل إن حصل له من ثياب أهل الحرم وإلا طاف عريانًا.
فصل
ثبت بما تقدم أن القوم كانوا يعلمون وجود الله تعالى وأنه الرب الخالق الرازق المدبر القادر العليم الحكيم، وأنه أرسل إبراهيمَ بدينٍ فبلَّغه إبراهيمُ، وأنه لازمٌ لهم.
فقد بان بهذا أن الحجَّة قائمة عليهم في الجملة.
أما التفصيل، فما بلغهم أنه من شريعة إبراهيم فلا ريب في لزومه لهم وسقوط عذر مَن خالفه منهم، وكذلك ما لم يبلغهم ولكنهم لو ساءلوا أو بحثوا ونظروا لعرفوه، إلا أنه قد يُعْذَرُ في هذا مَنْ لم يتنبَّهْ ولم يُنبَّهْ، أو تنبَّه وتعسَّر عليه البحثُ فاحتاط، فلندع هذا وننظر في محدثاتهم.
يمكن أن تجعل محدثاتهم على ثلاثة أضربٍ:
الضرب الأوَّل: ما كانوا يرونه من شريعة إبراهيم.
الضرب الثاني: ما كانوا يجهلون أمنها هو أم لا؟
الضرب الثالث: ما كانوا يعلمون أنه ليس منها.
فأما الضرب الأوَّل فلم أجد له مثالًا صريحًا، وقد قرعهم الإسلام بالحجَّة والبرهان، ثم بالسيف والسنان، مع إعلانه أنَّما يدعو إلى ملة إبراهيم، فلم نسمع بقول قائلٍ منهم: هذا من دين إبراهيم فكيف تتركه يا محمد وتعيبه وتنهى عنه مع زعمك أنك متَّبعٌ ملَّة إبراهيم؟ فلو كان الضرب
(2/111)
الأول موجودًا لكانت هذه أقوى حجة في يدهم وأسرعها خطورًا في بال أحدهم، فمن المحال عادة أن يسكتوا عنها وهم يرون سبيلًا إليها. وقد أطبق أهل العلم على إثبات إعجاز القرآن بتركهم معارضته، وحُجَّتنا هذه لا تقلُّ عن ذلك.
فأما ما حكاه الله تعالى عنهم من قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فسياق الآية هكذا: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].
[ز 20] فعلم أن كلمتهم تلك ليست مبنية على شبهة تورث اعتقادًا أو ظنًّا وإنما هي من القول بلا علم وهو التخرُّص والرجم بالغيب، وقد عرفوا من صفات الله تبارك وتعالى ما يَثْبُتُ به أنه سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وعلموا حرمة الكذب وقبحه في أخبار الناس بعضهم عن بعض فما الظن بالكذب على الله عزَّ وجلَّ. فتلك الكلمة إما افتراء محض وإما قولٌ بلا علم، وهو إما كذب وإما في حكم الكذب. ولعلمهم ببطلان تلك الكلمة قدَّموا عليها ما هو عمدتهم وهو اتباع آبائهم؛ فإن كانوا تحذلقوا في تلك الكلمة فكأنهم نحوا بها منحى قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، وهذه شبهة أخرى كانوا هم يعلمون بطلانها قطعًا كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: أما قولهم “الملائكة بنات الله” تعالى الله عن ذلك، فالظاهر أنهم كانوا ينسبونه إلى دين إبراهيم؛ إذ لو لم ينسبوه إليه لنسبوا إليه نقيضه، وهم يزعمون أن نقيضه باطل ويعترفون بأن دين إبراهيم حق.
(2/112)
قلت: كلامنا إنما هو في ظنٍّ يستند إلى نقلٍ أو ما يقرُب منه؛ فإن هذا هو الذي قد يصلح عذرًا لهم ويمكنهم به المدافعة بأن يقولوا: هذا من دين إبراهيم فكيف تنكره؟ فالنقل أن يخبرهم آباؤهم عن آبائهم عن آبائهم وهكذا إلى إسماعيل، والذي يقرب منه أن يكون مضى عليه أسلافهم، وهم ــ أعني الأسلاف ــ حريصون على المحافظة على شريعة إبراهيم والوقوف عند حدودها، فيقول الأخلاف: كان أسلافنا يتدينون بهذا وقد عرفنا مِنْ أحوالهم ما جَعَلَنا نثق بأنهم لا يتدينون إلا بما ثبت عندهم أنه من شريعة إبراهيم.
فهذا الذي نفيناه، فلم يكن عند القوم بمقالتهم في الملائكة نقلٌ ولا كانوا واثقين بأسلافهم، بل كانوا يعلمون أن الأسلاف بدَّلوا وغَيَّروا وزادوا ونقصوا بمحض التخرُّص.
فأما ظنٌّ يستند إلى شبهة غير ما ذكر بأن تكون عندهم شبهة عقلية فيذكرونها ثم يقولون: ثبت أن هذا حقٌّ فهو من دين إبراهيم= فلم ننفِه، على أنه في هذه المقالة لم يكن عندهم إلا قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28] وهم أنفسهم يعلمون وَهَنَ هذه الشبهة بل بطلانَها؛ لأنهم يعلمون أن آباءهم لم يكونوا معصومين، بل كانوا يتقوَّلون بالخرص والرجم بالغيب. ويحتمل أن تكون لهم شبهة أخرى واهية أيضًا سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
فإن قلت: قد يمكن في بعض تلك المحدثات أن يخفى حاله عليهم فيحسبونه من شريعة إبراهيم, ولكن لما نبههم الإسلام وقرَّعهم تفكروا فتبين لهم أن حسبانهم لم يكن عن دليل، فذاك الذي كَفَّهم عن المعارضة.
قلت: إن هذا لمحتمل؛ فإن بَعُدَ أن يخفى بعضُها عليهم جميعًا لم يَبْعُدْ
(2/113)
أن يخفى على بعضهم، بل إذا نظرنا إلى العادة كِدْنا نقطع بأنه لا بدَّ أن يخفى بعضها على بعضهم. والله أعلم.
وأما الضرب الثاني فلم أجد له مثالًا صريحًا، ولكن لا بدَّ من ثبوته في الجملة بأن يكون بعضهم كان يشك في بعض تلك المحدثات أمن شريعة إبراهيم هي أم محدثة؟
وأما الضرب الثالث: فمن أمثلته الصريحة: الاستقسام بالأزلام، ففي صحيح البخاريِّ [ز 21] من حديث ابن عبَّاسٍ: قال: إن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “قاتلهم الله، أَمَ (1) والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط” (2).
ومن هذا الضرب فيما يظهر: نصب الأوثان واتخاذها آلهة وعبادتها، فإن إحداث عمرو بن لحي لذلك واقعةٌ أكبر وأظهر من إحداث الأزلام فعلمهم بها أولى، وكان العرب معروفين بحفظ الوقائع وتناقلها إلى مئات السنين، وقد اتَّصل بعض أخبارهم في إحداث الأصنام بمؤرخي الإسلام كما سنذكره فيما يأتي، وكذلك اتَّصل بهم شيءٌ من أخبار عمرو بن لحيٍّ،
_________
(1) أصلها: “أمَا” وهي كلمةٌ لافتتاح الكلام، وقيل: هي بمعنى “حقًّا”، وحُذِفت ألفها للتخفيف. انظر: عمدة القاري 9/ 355. وأُثْبِتَت الألف في بعض روايات البخاري. انظر: فتح الباري 3/ 305.
(2) صحيح البخاريِّ، كتاب الحجِّ، باب مَن كَبَّر في نواحي الكعبة، 2/ 150، ح 1601. [المؤلف]
(2/114)
ومن أخبار معاصريه ومن كان قبله.
هذا ولو كانوا يزعمون أنهم إنما يستندون في اتخاذ الأوثان وتعظيمها إلى شريعة إبراهيم أو شريعة نبيٍّ آخر لما سمَّوها آلهة ولا سمَّوا تعظيمها عبادة لها. والحجة على هذا الامتناع ستأتي فيما بعد (1)؛ لأنها نتيجةٌ لمقدِّماتٍ وتمهيداتٍ كثيرةٍ لم نستوفها بعد. ونكتفي هنا بما إذا تدبرته حق تدبره أرشدك إليها، وهو أن القوم كانوا يحترمون الكعبة أبلغ من احترام الأصنام كما تقدم، ومع ذلك لم يسموها إلهًا ولا قالوا في احترامها أنه عبادة لها، ولا قال أحد ممن كان يشغب منهم على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “كيف يعيب محمَّد علينا عبادتنا للأوثان وهو وأصحابه يعبدون الكعبة والحجر الأسود معنا”، بل كانوا يقولون: الكعبة بيت الله، واحترامها عبادة لله، وإنما ذلك لعلمهم بأن بناءها واحترامها مما أمر الله تعالى به على لسان رسوله إبراهيم عليه السلام.
وهكذا يُقال في عبادتهم الملائكة، فإنهم كانوا يطلقون أن الملائكة آلهة وأنهم يعبدونهم كما يأتي.
ومن هذا الضرب الثالث: وقوف قريش بالمزدلفة. قال جبير بن مطعم: “كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة ويقولون: نحن الحُمس فلا نخرج من الحرم” (2).
وقريشٌ لم يكن لها في عهد إبراهيم وجودٌ مستقلٌّ، وإنما هي من ذُرِّيَّته
_________
(1) انظر: ص 831 – 832.
(2) انظر: فتح الباري، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة، 3/ 334. [المؤلف]
(2/115)
وُجِدت بعد قرونٍ، فلا يُتوهَّم أنها خُصَّتْ بحكم دون الناس قبل وجودها، وكانوا يعلمون أنهم إنما أحدثوا ذلك برأيهم، قال سفيان بن عيينة: “كان الشيطان قد استهواهم فقال لهم: إنكم إن عظَّمتم غير حرمكم استخفّ الناس بحرمكم” (1).
إذا تقرر هذا، فيمكن أن يقال بعذرهم في الضرب الأول في الجملة.
وأما الضرب الثاني فكان الواجب عليهم فيه السؤال والبحث والنظر، فمن فعل ذلك فتبين له فقد خرج من هذا الضرب، وإلَّا كان عليه الاحتياط، ومَنْ لم يعمل ما عليه من ذلك فلا أرى له عذرًا.
وأما الضرب الثالث فقيام الحجة عليهم فيه أوضح.
تنبيه:
اختلف أهل العلم في حال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل البعثة أكان متعبَّدًا بشرعٍ أم لا؟ والقائلون بالتعبد اختلفوا في تعيين الشرع الذي كان متعبَّدًا به.
وأنت إذا تدبَّرت ما تقدَّم علمت أنه كان متعبَّدًا بشرع أبيه إبراهيم عليه السلام، وكان صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قائمًا بما يلزمه بحيث لو أن رجلًا آخر كان على مثل حاله ومات قبل البعثة لكان ناجيًا.
[ز 22] فمن المنقول في ذلك: اجتنابه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الأوثان، صحَّ ذلك من حديث زيد بن حارثة كما سيأتي، وفيه كفاية عما في الدلائل لأبي نُعَيمٍ بسند واهٍ إلى أمِّ أيمن وآخر واهٍ إلى ابن عبَّاسٍ.
_________
(1) فتح الباري أيضًا. [المؤلف]
(2/116)
ومن ذلك: أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يقف بعرفة مخالفًا لقومه، ثبت ذلك في الصحيحين من حديث جبير بن مطعمٍ (1).
وفي رواية لابن خزيمة وإسحاق بن راهويه من حديث جبير “قال: كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة يقولون: نحن الحُمس فلا نخرج من الحرم، وقد تركوا الموقف بعرفة، قال: فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا” (2).
ومن ذلك: اجتنابه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الذبح على النصب والأكل مما ذُبِح عليها. قد مَرَّ طرف من ذلك في قصة زيد بن عمرو بن نفيل، وأخرج الحاكم في المستدرك وأبو يعلى والبزار وغيرهما من طريق أبي أسامة، ثنا محمد بن عمرو هو ابن علقمة، عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهو مُرْدِفي إلى نُصب من الأنصاب، فذبحنا له شاة ووضعناها في التنور حتى إذا نضجت استخرجناها فجعلناها في سفرتنا، ثم أقبل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يسير وهو مُرْدِفي في أيام الحَرِّ من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي
_________
(1) راجع صحيح البخاريِّ، كتاب الحجِّ، باب الوقوف بعرفة، 2/ 162، ح 1664. وصحيح مسلمٍ، كتاب الحجِّ، بابٌ في الوقوف، 4/ 44، ح 1220. [المؤلف](2) ذكره في فتح الباري 3/ 334. [المؤلف]. وانظر: صحيح ابن خُزيمة، كتاب المناسك، باب الوقوف بعرفة على الرواحل، 2/ 1332، ح 2823. والمعجم الكبير للطبرانيِّ 2/ 136، ح 1579.
(2/117)
لقي فيه زيد بن عمرو بن نفيل فحيّا أحدهما الآخر بتحية الجاهلية (1)، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ما لي أرى قومك قد شَنَفُوكَ (2)؟ قال: أما والله إنَّ ذلك لغير نائرةٍ (3) كانت منِّي إليهم، ولكني أراهم على ضلالةٍ، قال: فخرجت أبتغي هذا الدين حتى قَدِمْتُ على أحبار يثرب، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به (4)، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فخرجت حتى أقدم على أحبار خيبر فوجدتهم كذلك، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فقال لي حبر من أحبار الشام: إنك تسأل عن دينٍ ما نعلم أحدًا يعبد الله به إلا شيخًا بالجزيرة، فخرجت حتى قَدِمْتُ إليه فأخبرته الذي خرجت له فقال: إن كل مَنْ رأيته في ضلالة، إنك تسأل عن دينٍ هو دين الله وملائكته، وقد خرج في أرضك نبيٌّ أو هو خارج يدعو إليه، ارجع إليه وصدِّقه واتَّبِعْهُ وآمن بما جاء به، فرجعت فلم أحس شيئًا بعد، فَأَنَاخَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم البعير الذي كان تحته، ثم قدمنا إليه السفرة التي كان فيها الشواء، فقال: ما هذه؟ فقلنا: هذه شاةٌ ذبحناها لنصب كذا وكذا، فقال: إني لا أكل ما ذُبِح لغير الله.
قال: وكان صنمٌ من نحاسٍ يُقال له إساف ونائلة يتمسح به المشركون
_________
(1) يعني قولهم: “عِمْ صباحًا” أو نحوها. [المؤلف](2) أي أبغضوك. [المؤلف]. وفي بعض المصادر: “شنفوا لك”، وكلاهما مذكور في كتب اللغة.
(3) أي: عداوة. انظر: النهاية: نور.
(4) هذا لفظ الذهبي في تلخيص المستدرك، وفي المستدرك بدلها: ” … على أحبار أيلة، فوجدتهم يعبدون الله ولا يشركون به” كذا، والظاهر أن كلمة (لا) من زيادة النسَّاخ. [المؤلف]
(2/118)
إذا طافوا، فطاف رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وطفت معه فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “لا تَمَسَّهُ”، قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسَّنَّهُ حتى أنظر ما يقول، فمسحته، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “ألم تُنْهَ؟ ” قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلمت صنمًا حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ومات زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن يبعث، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “يأتي يوم القيامة أمةً وحده”، قال الحاكم: “صحيحٌ على شرط مسلمٍ”، وأقرَّه الذهبي (1).
[ز 23] أقول: أبو أسامة إمام حجة، قيل: إنه كان يدلس، فإن صح ذلك فقد صرَّح هنا بالسماع، وحكى الأزدي عن سفيان بن وكيع كلامًا يوهن به أبا أسامة، وردَّه ابن حجر في مقدمة الفتح (2) بضعف الأزدي وسفيان بن وكيع. وأقول: لو صحّ ذلك لكان محمله التدليس وقد علمت اندفاعه هنا، وإنما الكلام في محمد بن عمرو بن علقمة فأطلق بعض الأئمة توثيقه وغمزه بعضهم بما حاصله أنه لم يكن بالحافظ، ومجموع كلامهم يقتضي أنَّ حديثه دُوَيْن الصحيح وفوق الحسن، ذكر ابن حجر في المقدمة (3) أنَّ البخاري أخرج له في الصحيح مقرونًا بغيره، وتعليقًا، وأنَّ مسلمًا أخرج له
_________
(1) المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، ذكر قصَّة إسلام زيد بن حارثة … ، 3/ 216 – 217. [المؤلف]. والسنن الكبرى للنسائي، كتاب المناقب، زيد بن عمرو بن نفيل، 7/ 325، ح 8132، ومسند البزار 4/ 165 ح 1331، ومسند أبي يعلى 13/ 137، ح 7212.
(2) ص 399.
(3) ص 441.
(2/119)
في الصحيح في المتابعات.
أقول: قال ابن المديني عن يحيى القطان: “محمد بن عمرو أعلى من سهيل”. وقال أيضًا: “محمد بن عمرو أحبُّ إلي من ابن أبي حرملة” (1)، وفضَّلَه ابن معين على سهيل والعلاء ومحمد بن إسحاق (2)، وقد احتجَّ مسلم بهؤلاء كلهم في الصحيح ووافقه البخاري فأخرج لمحمد بن أبي حرملة.
وقضية السُّفرة قد وردت من حديث ابن عمر عند البخاريِّ في صحيحه، ولكنها مختصرةٌ تحتمل بعض التأويل (3).
وجاءت أيضًا من حديث سعيد بن زيد عند الإمام أحمد وغيره، كما تقدم، وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا: “سمعت زيد بن عمرو بن نفيلٍ يعيب أكل ما ذبح لغير الله، فما ذقت شيئًا ذبح على النصب حتى أكرمني الله عزَّ وجلَّ بما أكرمني به من رسالته” (4).
_________
(1) الجرح والتعديل 8/ 31، وسهيل هو ابن أبي صالح إلَّا أن الإمام أحمد تعقَّب يحيى بن سعيد فقال: “وما صنع شيئًا، سهيل أثبت عندهم من محمد بن عمرو”. الجرح والتعديل 4/ 247.
(2) انظر: تهذيب التهذيب 9/ 376 – 377.
(3) راجع صحيح البخاريِّ [5/ 40، ح 3826]- مع فتح الباري [7/ 97 – 99]-، كتاب المناقب [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب حديث زيد بن عمرو بن نُفَيلٍ. [المؤلف](4) دلائل النبوة لأبي نُعيمٍ، الفصل الثالث عشر، ذكر ما خصه الله عزَّ وجلَّ به من العصمة … ، ص 59. [المؤلف]. وهو في ط: دار النفائس ص 188، ح 131.
(2/120)
وعبد الله بن محمَّدٍ هذا ضعيف جدًّا، وقد تقدَّم في حديث سعيد بن زيد قوله: “فما رُئِيَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذلك” (1).
وذكر الحافظ في الفتح (2) تأويلاتٍ لم يَقْنَعْ بها، ثم قال: “قوله: ذبحنا شاة على بعض الأنصاب يعني الحجارة التي ليست بأصنام ولا معبودة، وإنما هي من آلات الجزَّار التي يذبح عليها؛ لأن النصب في الأصل حجر كبير، فمنها ما يكون عندهم من جملة الأصنام فيذبحون له وعلى اسمه، ومنها ما لا يُعبد، بل يكون من آلات الذبح … “.
أقول: لا أراك تقنع بهذا، ولا بما حكاه ابن الأثير في النهاية (3) عن إبراهيم الحربي، فالصواب إن شاء الله تعالى أنَّ الأنصاب كانت عندهم غير الأصنام، فكانت الأصنام تعظَّم بوجوه مختلفة، كالعكوف عندها والتمسُّح بها وغير ذلك، وأما الأنصاب فكانت مختصَّة بالذبح عليها، ولعلهم لم يكونوا يطلقون على الذبح عليها أنه عبادة لها، ولما كان الأمر كذلك وكان معروفًا من شريعة إبراهيم عليه السلام تحريم الحرم واحترامه في الجملة، وكانت تلك الأنصاب من جملة حجارة الحرم، كان ذلك مظنَّة أن يحسب الناشئ فيهم أنه من بقايا شريعة إبراهيم عليه السلام، فإذا ذبح عليها بهذه النية وهو مع ذلك حريص على اتِّباع شريعة إبراهيم والوقوف عندها واجتناب ما بان له أنه ليس منها كان معذورًا إن لم نقل مأجورًا.
_________
(1) انظر: ص 106.
(2) 7/ 144 ط. دار المعرفة.
(3) 5/ 60 – 61.
(2/121)
وهذه كانت حال النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولعل سِنَّه حينئذٍ دون الثلاثين؛ فإنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تزوج خديجة رضي الله عنها وهو في الخامسة وعشرين (1) من عمره، فوهبت له زيد بن حارثة، فلعلَّ هذه القصة كانت بعد ذلك بقليل. والله أعلم.
ولما سمع صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كلام زيد بن عمرو بن نفيلٍ تبيَّن له خلاف ما كان يحسب في الذبح [ز 24] على الأنصاب، فاجتنبه واجتنب الأكل مما ذبح عليها.
ومن ذلك ما صحَّ من حديث جابرٍ قال: “لما بُنِيَت الكعبة ذهب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وعباس ينقلان الحجارة فقال عباس للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: اجعل إزارك على رقبتك يَقِك من الحجارة، فخرَّ إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق فقال: إزاري إزاري فَشُدَّ عليه إزاره” (2).
وذكر الحافظ له شواهد في هذا الباب، وفي كتاب الحج، باب فضل مكة، منها: عن العباس قال: “لما بنت قريشٌ الكعبة انفَرَدَتْ رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي فجعلنا نأخذ أُزُرَنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أُزُرَنا، فبينما هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء، قال: فقلت لابن
_________
(1) كذا في الأصل، وانظر: سيرة ابن هشام 1/ 178.
(2) صحيح البخاريِّ، كتاب المناقب [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب بنيان الكعبة، 5/ 41، ح 3829. [المؤلف]
(2/122)
أخي: ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانًا” (1).
فبان بهذا أنه لم يكن هناك إلا هو وعَمُّه وهما على عزم أن يستترا إذا دَنَوَا من الناس، فكأنه لم يكن معروفًا عندهم من شريعة إبراهيم تحريم كشف العورة عند الحاجة إذا لم يكن هناك إلا الأب أو العم أو نحوهما، ومع ذلك أدَّب الله تعالى رسوله فمنعه من ذلك.
وفي الصحيحين وغيرهما في حديث بدء الوحي: “ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ــ وهو التعبد الليالي ذوات العدد ــ قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها” (2).
قال الحافظ في الفتح: “قوله: “فيتحنَّث”، هي بمعنى يتحنَّف، أي: يتَّبع الحنيفيَّة، وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاءً (3) في كثيرٍ من كلامهم، وقد روي في رواية ابن هشامٍ في السيرة: يتحنَّف بالفاء؛ أو التحنُّث: إلقاء الحنث، وهو الإثم، كما قيل: يتأثَّم ويتحرُّج ونحوهما”.
ولفظ البخاري في التفسير ” … فيتحنَّث فيه، قال: والتحنُّث: التعبُّد”. استظهر الحافظ في الفتح أن هذا من تفسير عروة أو الزهريِّ، ثم قال: “ولم يأت التصريح بصفة تعبُّده, لكن في رواية عبيد بن عميرٍ عند ابن إسحاق: فيطعم من يرد عليه من المساكين. وجاء عن بعض المشايخ أنه كان
_________
(1) أخرجه ابن إسحاق (79)، وابن أبي عاصم في “الآحاد والمثاني” (354)، والبزار (1295) وغيرهم بإسناد ضعيف، وأصل القصة ثابت صحيح كما تقدم.
(2) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب 1، 1/ 7، ح 3. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي، 1/ 97، ح 160.
(3) في الأصل: “فاء”، سبق قلم.
(2/123)
يتعبد بالتفكر. ويحتمل أن تكون عائشة أطلقت على الخلوة بمجرَّدها تعبُّدًا؛ فإن الانعزال عن الناس ولا سيَّما مَن كان على باطلٍ من جُمْلة العبادة، كما وقع للخليل عليه السلام حيث قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99].
ثم ذكر مسألة تعبُّده صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل البعثة بشرعٍ، وذكر قول مَن قال: لم يكن متعبَّدًا بشريعة نبيٍّ قبله، ثم ذكر شبهتهم “لأنه لو كان تابعًا لاستبعد أن يكون متبوعًا، ولأنه لو كان لنُقِل مَنْ كان يُنْسَبُ إليه” (1).
أقول: الأوَّل خيالٌ فاسدٌ، وكأن قائله لم ينظر في أحوال الأنبياء الماضين ولم يعلم ما يلزم قوله من الفساد، وهو أن مَنْ أراد الله تعالى إرساله يبقى أربعين سنة غير مكلف. وأما الثاني فقد نُقِل كما علمت.
ثم ذكر القول بتعبُّده بشرع نبيٍّ قبله، وذكر الأقوال في ذلك إلى أن قال: “الثالث: إبراهيم، ذهب إليه جماعةٌ، واستدلُّوا بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، إلى أن قال: “ولا يخفى قوة الثالث ولا سيَّما مع ما نقل من ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم، والله أعلم” (2).
أقول: قد جاء عن زيد بن عمرو بن نفيل قوله: “إني خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان وكان يصليان إلى هذه القبلة” ذكره في الفتح في باب حديث زيدٍ (3).
_________
(1) فتح الباري 8/ 506.
(2) فتح الباري 8/ 506 – 507.
(3) 7/ 97. وأخرجه ابن سعد في الطبقات 3/ 379، والفاكهي في أخبار مكة 4/ 85 – 86، ح 2419، وأبو نعيم في الدلائل ص 100، ح 52 من رواية عامر بن ربيعة العدوي عنه.
(2/124)
وفي صحيح مسلمٍ (1) في قصَّة إسلام أبي ذرٍّ قوله: “وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بثلاث سنين”، قال ابن أخيه: “قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجَّه؟ قال: حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل أُلْقِيتُ كأني خِفَاءٌ” (2).
ففي هذا ما يدل أنه كان قد بقي من شريعة إبراهيم ما يسمى صلاة وإن لم نعلم صفتها، إلا أنه [ز 25] كان فيها سجود كما تقدم في قصة زيد بن عمرو بن نفيل “ثم يسجد على راحته”، وذكره في الفتح بلفظ: “ثم يسجد على الأرض براحته” (3).
هذا بعض ما ورد به النقل، وفيه كفاية. وقد بان أن الله تبارك وتعالى وفَّق نبيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل النبوة لما كان يلزمه، فمن ذلك ما أدركه بنظره، ومنه ما يسَّر له مَنْ ساءله فأخبره كزيد بن عمرو بن نفيل، ومنه ما نُبِّه عليه بأمرٍ غير عاديٍّ كقضية الستر. وقد كان بلغه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تبديلُ اليهود والنصارى بالتواتر وبأخبار من يثق به كزيد بن عمرو بن نفيل فأيْأسَهُ ذلك أن يجد عندهم من الحق ما يوثق به، فسقط عنه سؤالهم، مع أن الله عزَّ وجلَّ جنَّبه ذلك للحكمة التي نبه عليها بقوله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}
_________
(1) في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذرٍّ رضي الله عنه، 7/ 153، ح 2473.
(2) كغطاءٍ وزنًا ومعنىً، والمعنى: كأني ثوبٌ مطروحٌ. مشارق الأنوار (ج ف و) 1/ 160.
(3) فتح الباري 7/ 100.
(2/125)
[العنكبوت: 48].
فبالنظر إلى هداية الله تعالى له إلى الطرف الذي كان يلزمه قبل النبوة ثم إكماله له الهداية بالنبوة خاطبه عزَّ وجلَّ بقوله في سورة الضحى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)}، فالهداية شاملة للأمرين. والله أعلم.
وبالنظر إلى أن معظم شريعة إبراهيم قد كان اندرس فلم تمكن الهداية إليه إلا بالنبوة خاطبه عزَّ وجلَّ بقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52].
ونبه سبحانه على عذره فيما لم يكن يدريه بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3].
ونصَّ سبحانه على عذر مَن كان غافلًا هذه الغفلة، وقد تقدم ذلك في الآيات الدالة على عذر مَن لم تبلغه الدعوة، وفيها: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131].
فصل
إنك إذا تدبرت الآيات السابقة في أنه سبحانه لا يعذب حتى يبعث رسولًا تبين لك أن بعث الرسول لا يكفي، بل لا بدَّ من بلوغ دعوته وغير ذلك مما يعبِّر عنه أهل العلم بقيام الحجة.
وإيضاح ذلك أن الناس على ثلاث طبقات:
(2/126)
الطبقة الأولى: مَنْ لم يبلغه خَبَرُ دعوةٍ أصلًا.
الثانية: من بلغه الخبر.
الثالثة: مَنْ أَسْلَمَ.
أما الطبقة الأولى: فأهلها ثلاثة، رجل غافل البتَّة، ورجل متحيِّر قد تنبَّه بفطرته وعقله ونظره في آيات الآفاق والأنفس فاعترضه بعض الشبهات فبقي حائرًا، ورجل مستيقن قد بلغ بنظره إلى استيقان أن للعالم ربًّا هو الخالق المدبر القادر العليم الحكيم.
وأما الطبقة الثانية: فإنَّ الرجل أوَّل ما يبلغه خبر دعوة يكون إمّا متردِّدًا، وإما مستيقنًا؛ لأنَّ الغافل يتنبَّه فيتردَّد أو يستيقن، والمتردِّد يدرك أنَّه إذا كان للعالم ربٌّ وأرسل رسولًا وجبت طاعته، والمستيقن يدرك أنَّ الربَّ إذا أرسل رسولًا وجبت طاعته، فكلاهما تلزمه في الجملة الحجَّة ببلوغ الخبر.
وأما التفصيل فلا يخفى أنه بمجرد بلوغ الخبر لا تقوم الحجة في جميع العقائد والأحكام، والآيات التي قدمناها في عذر من لم تبلغه الدعوة تبيِّن هذا، فإذًا لا بدَّ من تحديد أمر يكون هو اللازم لمن بلغه الخبر إنْ تهاون به استحقَّ العقاب وإنْ أدَّاه بقي معذورًا فيما عداه حتى يتجدَّد ما يُلْزِمُه به.
[ز 26] وهذا يختلف باختلاف الأحوال، فقد يكون المخبر معروفًا بالكذب، وقد يكون مجهولًا، وقد يكون معروفًا بالصدق، وقد يتواتر الخبر، وقد يكون هناك ما يوقع في النفس أنَّ المدعيَ كاذب، وقد لا يكون ما يدلُّ على كذبه ولا صدقه، وقد يكون ما يدلُّ على صدقه؛ وقد يكون بلده بعيدًا عمن بلغه الخبر، وقد يتوسط، وقد يقرب، وقد لا يمكن من بلغه الخبر أن
(2/127)
يذهب إلى الداعي، وقد يمكنه بمشقة شديدة، وقد يمكنه بمشقَّة عاديَّة، وقد يمكنه بغير مشقَّة، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [خواتيم البقرة].
فقد يُقال: إنَّ من بلغه الخبر ولم يظهر له صدقه أو ظهر له صدقه ولكن كان هناك ما يظهر منه كذب المدعي كفاه أن يتبين ويتثبت، فيسائل كُلَّ من يَقْدَمُ من الجهة التي أُخْبِرَ بأنَّ الداعي فيها ويأمر مَنْ يذهب إليها أن يبحث ويسأل؛ فإذا قوي الخبر ولم يظهر ما يظهر منه كذب المدَّعي لزم مَن بلغه الخبر أن يبادر إلى التبيُّن كأن يرسل رسولًا إن شقَّ عليه ذهابه بنفسه؛ فإذا تحقق الخبر وظهر ما يدلُّ على صدق المدَّعي لَزِمَتِ المبادرة إليه، إلَّا أنه فيما يظهر يكفي القبيلةَ وأهلَ البلدة أن يوفدوا وفدًا ممن عُرِفَ بالعقل والحلم وقبول الحق.
وإذا كان المدَّعي نبيًّا حقًّا فلا بدَّ أن يظهر للذين يجتمعون به راغبين في الحق أنه صادق، أو على الأقلِّ يترجَّح لهم صدقُه، ويعلمون أن الذي يدعو إليه خير مما هم عليه، فيلزمهم إجابته حتمًا، وكذلك القبيلة إذا رجع إليها وفدُها، فإن الأخذ بالراجح واجب، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16].
فإنه إذا استجاب جماعة لمدَّعي النبوة في حين إمكانها كان ذلك مما يدل على صدقه، فيتحتَّم على مَن سمع به الاجتماعُ به أو إيفاد الوفد كما تقدَّم، فإذا اجتمعوا به راغبين في الحق فهم مجاهدون في الله محسنون؛ فلا
(2/128)
بدَّ أن يهديهم الله بأن يهيِّئ لهم ما يفيدهم اليقين أو الرجحان، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [خاتمة العنكبوت].
وأنت ترى أن بين بلوغ الخبر ووجوب الإسلام مسافةً قد يموت الإنسان في أثنائها، أعني بعد أن أدَّى ما يلزمه من البحث عن صحة الخبر وما بعده، وقبل أن يلزمه الإسلام. والظاهر أن حكمه فيها كحكمه قبل بلوغ الخبر؛ فإن بلوغ الخبر إنما أوجب عليه البحث وما بعده كما مر، وقد فعل ذلك، فيبقى فيما عداه على ما كان عليه، فإن كان معذورًا كمن لم تبلغه قبلُ دعوةٌ أصلًا استمرَّ عذره. وكذلك من كان قد بلغته دعوة فأخذ بما يلزمه منها واستمرَّ على ذلك عند بلوغ خبر الدعوة الأخرى مع القيام بما لزمه من البحث ونحوه، فمات قبل أن يلزمه الإسلام، والله أعلم.
وأما الطبقة الثالثة: فإنَّ من الذين يسلمون من يكون قد حصل له اليقين قبل قبول الإسلام أو معه فيجتمع له الإسلام والإيمان، ومنهم من يسلم قبل أن يدخل الإيمان في قلبه، [ز 27] كالأعراب الذين أنزل الله تعالى في شأنهم: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} الآيات [خاتمة الحجرات].
فهذا الضرب عليهم الطاعة والمتابعة وتحري مجالسة الرسول أو علماء دينه ونحو ذلك مما من شأنه أن يَكْسِبَهم الإيمانَ كتدبُّر القرآن والسنَّة والسيرة. ومعاملةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للأعراب تدلُّ أنه إنما
(2/129)
يلزمهم من هذا ما ليس فيه مشقَّةٌ شديدةٌ، والله أعلم. فمن قام بما عليه من ذلك فعاجله الموت قبل أن يدخل الإيمانُ في قلبه، لم يَلِتْهُ الله من عمله شيئًا كما نصَّت عليه الآية. ومن جهة النظر لا يخفى أنه مع أصل العذر أحسن حالًا ممن هلك قبل بلوغ الدعوة، وممن بلغه الخبر فقام بما عليه فعاجله الموت قبل أن يلزمه الإسلام، فلا ينبغي التوقُّف في نجاته.
ومَن قَصَّر من هؤلاء؛ فإن بلغ في التقصير إلى أن يأتي في السرِّ ما أخبره الرسول بأنه كفر ويناجي أصحابه بتكذيب الرسول ونحو ذلك فهذا منافق هالك. وبهذا عُلِمَ الفرقُ بين الأعراب المذكورين في الآية وبين المنافقين، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: إن الأعراب المذكورين صنف آخر غير المنافقين كما تقدم في أوائل الرسالة (1). وانظر صفة المنافقين في أوائل سورة البقرة يتضح لك الحال.
وإن كان تقصيره بدون ذلك ففيه نظر، والظاهر أنه إذا لم يقصِّر فيما لزمه مما يكسبه الإيمان عادةً، وإنما قَصَّر بترك واجبٍ آخر أو ارتكاب حرامٍ، ثم عاجله الموت قبل أن يتوب وقبل أن يدخل الإيمان في قلبه= استحقَّ المؤاخذة بذنبه ولم يُخَلَّد في العذاب. والله أعلم.
وقد يتَّفق مَوْتُ هذا بعد أن حصل له جزءٌ من الإيمان دون النصاب الشرعيِّ أو قبل أن يحصل له شيءٌ وإنما معه قول: لا إله إلا الله، وعسى أن يكون هؤلاء داخلين فيمن ورد في الأحاديث الصحيحة أنهم يخرجون من النار، فإن فيها أنه يخرج من النار “مَن في قلبه مثقال شعيرةٍ من إيمان”، ثم “مَن كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان”. ثم “مَن كان في قلبه أدنى
_________
(1) انظر ص 15.
(2/130)
أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان”، وفي رواية: “أدنى شيء”، وفي رواية قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذاك لك، أو قال: ليس ذاك إليك، ولكن وعزَّتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأُخْرِجَنَّ من النار مَنْ قال: لا إله إلا الله”.
وذكر في روايةٍ شفاعة الشفعاء وإخراجهم مَنْ أذن لهم بإخراجهم ثم قال: “فيقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا” ثم يتفضَّلُ الله عزَّ وجلَّ “فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط”، وفي رواية في ذكر هؤلاء: “يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قدَّموه” (1).
فدخول هؤلاء النار إما أن يكون بذنوبٍ وخطايا، وإما أن يكون بتقصيرٍ في تحصيل الإيمان [ز 28] تقصيرًا لا يهدم لا إله إلا الله، ولا يهدم الجزء الذي قد حصل لمن حصل له منهم. والله أعلم.
وفي بحث زيادة الإيمان ونقصانه من المواقف العَضُدِيَّة وشرحها للسيد الشريف: “والظاهر أن الظنَّ الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكمُه حكمُ اليقين ــ في كونه إيمانًا حقيقيًّا ــ؛ فإن إيمان أكثر العوامِّ من هذا القبيل” (2).
_________
(1) راجع صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين إلخ، والأبواب بعده، 1/ 116 – 117 و 126 – 127، ح 183 (302) و 193 (326). والأحاديث في صحيح البخاريِّ مفرَّقةٌ. [المؤلف]. انظر: كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، 1/ 17، ح 44. وكتاب التوحيد، باب كلام الربِّ عزَّ وجلَّ يوم القيامة … ، 9/ 146، ح 7509 – 7510.
(2) شرح المواقف العضديَّة 3/ 544.
(2/131)
أقول: قد قَدَّمْتُ ما يوافقه في الجملة ويزيد عليه، ولكن بشرط عدم التقصير الهادم، وبهذا يجمع بين ما تقدَّم هنا وما تقدَّم في أوائل الرسالة من اشتراط اليقين. والله أعلم.
فصل
ومما ورد في الأعذار ما ثبت عن جماعة من الصحابة فيما قصَّه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال: “أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا متُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ [ربِّي] (1) ليعذبَنِّي عذابًا ما عذَّبه أحدًا. قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أَدِّي ما أَخَذْتِ، فإذا هو قائم فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك” (2).
وجاء في بعض الروايات من قول الرجل: “لعلِّي أَضِلُّ (3) الله”، قال الحافظ في الفتح: “قوله: (لئن قدر الله عليَّ)، في رواية الكُشمِيهَنيِّ: (لئن قدر عليَّ ربِّي)، قال الخطابيُّ … إنه لم ينكر البعث، إنما جهل فظنَّ أنه إذا فُعِل به ذلك لا يُعاد … قال ابن قتيبة: قد يَغْلَطُ في بعض الصفات قومٌ من
_________
(1) هذه الزيادة من الصحيحين.
(2) راجع صحيح مسلمٍ، كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله، 8/ 97، ح 2756 (25). وصحيح البخاريِّ، قُبَيل كتاب المناقب. [المؤلف]. يعني كتاب فضائل الأنبياء، باب 54، 4/ 176، ح 3478.
(3) يُقال: ضلَّ فلانًا، أي: فاته وذهب عنه فلم يقدر عليه. انظر: النهاية 3/ 98. المعجم الوسيط 1/ 542.
(2/132)
المسلمين فلا يكفرون بذلك” (1)، ثم ذكر تأويلات أخرى.
وللسنوسيِّ في شرح مسلمٍ كلامٌ لا بأس به، حاصله أن الرجل لم يجحد أن لله قدرة ولم يشك في ذلك، وإنما شك في إعادة الجسم إذا فُعِلَ به كما أمر، فطمع أن تكون من المحال الذي لا تتعلق به القدرة (2).
أقول: أما قول الخطابيِّ: (إن الرجل لم ينكر البعث) فحقٌّ، ولكنه شكَّ فيه. أما البعث في القبر بمعنى إعادة الإحساس بحيث يحس بالعذاب فشكَّ فيه فيمن فُرِّق جسده تلك التفرقة، وأما البعث للقيامة فالرجل إما جاهلٌ به البتَّة، وإما شاكٌّ فيه مطلقًا، لأن الأبدان لا بدَّ أن تتفرَّق تلك التفرقة أو أشدَّ منها، وإن لم تحرق وتسحق وتذرى (3).
وأما قول ابن قتيبة: (قد يغلط) إلخ، فإن أراد أنهم لا يكفرون البتَّة فمردودٌ عليه، وإن أراد أنه قد يكون منهم الجاهل الذي لم تقم عليه الحجَّة، ولم يقصِّر تقصيرًا هادمًا، فهذا حقٌّ على ما سمعت وتسمع.
وأما أن الرجل لم يجحد القدرة جملةً ولم يشكَّ فيها مِنْ أصلها فحقٌّ، ولكنه قد شكَّ في تناولها لإعادة البدن الذي يفرَّق مثل تلك التفرقة، وفي شكه هذا تجويز للعجز على الربِّ عزَّ وجلَّ، وتجويزه أن تكون تلك الإعادة من المحال الذي لا تتناوله القدرة لا يَدْفَعُ تجويزَه العجز.
وإيضاح ذلك أن الإنسان قد يشاء أن يقتل الأمير فلا يقدر عليه، وقد لا
_________
(1) تأويل مختلف الحديث 81. والعبارة فيه: “ولا يحكم عليهم بالنار”.
(2) راجع شرح مسلم للأُبِّي والسنوسي 7/ 160. [المؤلف](3) كذا في الأصل، والصواب حذف الألف آخره.
(2/133)
يشاء وهو يقدر، وقد لا يشاء وهو لا يقدر، فالأول هو العاجز ولا يدفع عنه اسم العجز إعراضه عن المشيئة لعلمه بعدم قدرته، بل المدار في انتفاء المشيئة على انتفاء الباعث عليها، أو وجود مانع غير العجز. فالمحالات التي لا تتعلق بها قدرة الباري عزَّ وجلَّ كلها من قبيل الضرب الثالث، ولكن لا يجوز أن يصرَّح فيها بنفي [ز 29] القدرة، كأن يُقال: “لا يقدر على كذا”؛ لأن هذه العبارة توهم الضرب الأول، ولأن العقل مما يخطئ فيزعم ما ليس بمحالٍ محالًا، بل يُقال: إنه على ما يشاء قدير، فلو شاء كذا وكذا قدر عليه.
يُقال: هل يقدر الله عزَّ وجلَّ بعد تعذيب ثمود أن يرفع ذلك العذاب فيجعله لم يقع؟ فنقول: إنه على ما يشاء قدير، فلو شاءه قدر عليه. فيقال: ولماذا لا يشاؤه؟ فنقول: لا حكمة تدعو إليه، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} [خاتمة سورة الشمس]، أي لا يخاف عقبى تلك القضية وهي تعذيبهم.
قال بعض المتأخرين: فيه إشارة إلى الردِّ على اليهود الذين يقع في كتبهم نسبة الندم إلى الله تبارك وتعالى. أقول: حاصله أنه سبحانه لا يخاف أن يبدو بعد ذلك أن الحكمة تقتضي عدم تعذيبهم؛ فإنه سبحانه عالم الغيب والشهادة، فهو يعلم أن الحكمة في الحال والمآل تقتضي تعذيبهم.
إذا علمت هذا فتجويز عدم القدرة على إعادة الأبدان بعد تفرُّق أجزائها هو من الضرب الأول؛ لأنَّ عدل الله تعالى وحكمته يقتضي الجزاء، وذلك يقتضي أن يشاء الجزاء، وإذا كان الجزاء يتوقف على الإعادة (1) اقتضى ذلك
_________
(1) في الأصل: “العبادة” سبق قلم.
(2/134)
أن يشاءها الله تعالى، فمَن جَوَّزَ مع ذلك أن لا تتعلَّق بها القدرة كان مُجوِّزًا للعجز لا محالة.
فالحقُّ أن هذا رجل كان عنده جهل بالبعث والقدرة ولم يُقَصِّرْ تقصيرًا هادمًا فعذره الله تعالى.
وقريبٌ من هذا ما قصَّه الله تبارك وتعالى عن الحواريين، قال سبحانه: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} إلى قوله: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} [المائدة: 111 – 115].
فالآية ظاهرةٌ في أن القوم كانوا قد أسلموا، وأخذوا بحظٍّ من الإيمان، ولكن بقي في قلوبهم شيءٌ من الجهل والشكِّ، ولم يوجب هذا أن يُعَدُّوا كفَّارًا أو مرتدِّين، ألا ترى إلى قول عيسى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112]، ومثل هذا إنما يخاطَب به مَن عنده إيمانٌ في الجملة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278].
وقد اضطرب الناس في قضية الحواريين؛ لعلمهم أنهم كانوا قد أسلموا وأن مقالتهم لم تخرجهم من الدين، فمن الناس مَنْ شَذَّ فقرأ “هل تستطيع
(2/135)
ربَّك” على معنى هل تستطيع سؤال ربِّك (1)، ومنهم من أغرب فحمل (يستطيع) على معنى (يريد) أو (يجيب). وقد تردَّد ابن جريرٍ في ذلك، ثم قرَّر “أنَّ القوم كانوا قد خالط قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم” (2).
أقول: وأنا لا أرتضي قوله: “مرضٌ” فإن مجرَّد الشكِّ والتردُّد وضعف اليقين لا يسمى مرضًا حتى يكون معه خبثٌ وعنادٌ وبغضٌ للحقِّ، ومثل هذا يمنع الاهتداء، كما قال تعالى في المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10].
قال الراغب: “ويُشبَّه النفاق والكفر ونحوهما من الرذائل بالمرض إما لكونها مانعةً عن إدراك الفضائل كالمرض المانع للبدن من التصرُّف الكامل … ” (3).
[ز 30] ومن الناس من تأوَّل الآية (4)، ثم قال: إنما أراد القوم الطمأنينة كحال إبراهيم عليه السلام فيما قصَّه الله تبارك وتعالى من حاله بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
_________
(1) هذه القراءة ليست شاذَّةً، بل قرأ بذلك الكسائيُّ من القرَّاء السبعة، وهي قراءةٌ متواترةٌ. انظر: السبعة لابن مجاهدٍ 249، النشر في القراءات العشر لابن الجزريِّ 2/ 256.
(2) تفسيره 7/ 78 – 79. [المؤلف](3) المفردات ص 765.
(4) يعني قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
(2/136)
قَلْبِي} [البقرة: 260] (1).
أقول: قد أبعد المرمى؛ فإن الخليل عليه السلام إنما سأل أن يرى الكيفيَّة ليطمئنَّ قلبه من الخواطر.
وإيضاح ذلك أن المدركات على أربعة أضربٍ:
ما يدركه الإنسان بالحسِّ المحقَّق ويعرف له بالحسِّ نظائر ولو في الجملة، كأن ترى رجلًا في إحدى يديه أو في كلٍّ منهما إصبع زائدة، فهذا إذا رأيته رؤية محققة لم تَرْتَبْ في إدراكك إلا أن تكون سوفسطائيًا.
الثاني: ما يدركه بدليلٍ غير الحسِّ ويعرف له بالحسِّ نظائرَ، كأن يتواتر عندك أن فلانًا الذي سمعت به في إحدى يديه أو في كل منهما أصبع زائدة، وهذا أيضًا تحصل به الطمأنينة.
الثالث: ما يدركه بالحس ولكن لا يعرف له نظيرًا، كأن ترى مشعوذًا أمامه إناء مغطًّى فيكشف الإناء فترى فيه ثلاثة عصافير ولا ترى فيه غيرها، ثم يعيد الغطاء، ثم يكشفه فلا ترى في الإناء إلا ثلاث بيضات. فإذ كنت لا تعرف نظيرًا لانقلاب العصفور بيضة تجد نفسك تشكك في إبصارك أعصافير في الإناء ولم تحقق النظر ثانيًا، أم بيضات فيه ولم تحقق النظر أولًا، أم ماذا؟
قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجرات: 14 – 15].
_________
(1) انظر: تفسير أبي السعود 3/ 97 – 98.
(2/137)
الرابع: ما تدركه بدليل غير الحس ولا تعرف له نظيرًا، كهذا المثال السابق لو لم تشاهد الواقعة. فمَن لم يشاهد المشعوذين ويَكْثُرْ سماعُه لقصصهم إذا أخبره جماعةٌ يحصل بخبرهم القطع عادة بهذه الواقعة لا يزال يجد نفسه كأنها تتردَّد في قبول خبرهم.
وأوضح من هذا أن تفرض أنَّ إنسانًا ولد أعمى وعاش حتى كبر وأهله يتحامون أن يشعروه بأن الناس يبصرون فعاش لا يشعر بذلك البتة، ثم تعمِد أنت فتقول له: إني أبصر الأجسام البعيدة منِّي، فإنه يقول: ما معنى قولك أُبْصِرُ؟ أتريد أنك تلمسها أو تسمع حسَّها؟
ولنفرض أنك استطعت أخيرًا أن تُفْهِمه أنَّ الإبصار قوَّةٌ في العينين يدرك بها الأجسام من بُعْدٍ فيعرف قربها وبعدها وحجمها ويعرف أن ذاك فلان وذاك فلان، فإنه يقول: وما لي لا أدرك أنا؟ فتقول: لم تُخْلَقْ لك هذه القوة، فلا تجده يصدِّقك، فتقول له: فإذا جاء أحد فاسأله، فيجيء رجل فيسأله فيوافقك، ثم ثالث ورابع وخامس إلى أن يبلغ العدد مبلغًا يحصل بخبرهم القطع عادة، فإن الأعمى يصدِّقكم، ثم تنازعه نفسه فيتطلب نظيرًا للإبصار يعرف به كيفيته في الجملة، فلا يجد، فيكاد يرتاب في الخبر، ثم يقول: من المحال أن يتوارد هؤلاء كلُّهم على الكذب، ثم تنازعه نفسه ويتخيَّل كأنَّه مرتابٌ في الخبر.
واعلم أنَّ صفات الله تبارك وتعالى وكثيرًا مما أخبر به الشرع من هذا القبيل. ومن ذلك حشر الأجساد، فالإنسان يعلم بأنَّ الجسم يبلى وتتفرق أجزاؤه شذر مذر، ثم يخبره الشرع [ز 31] بأن الله تعالى يعيد الأبدان بعد موتها وبلائها وتفرُّق ذراتها، ويوضح له ذلك بأن الله تعالى عالم بمواقع تلك
(2/138)
الأجزاء المتفرقة وقادر على جمعها، فتتطلب نفسه مما تعرفه بالحس نظيرًا لذلك العلم وتلك القدرة فلا تجد، فأما المؤمن فإنه يوقن بصدق الخبر ولكنَّ نفسه قد لا تكفُّ عن نزاعها اشتياقًا إلى معرفة الكيفية، فإذا لم تجد نظيرًا عادت تنظر في الخبر فتجده قاطعًا فترجع إلى تطلُّب النظير وهكذا.
فإذا أحسَّ الإنسان من نفسه بهذا خشي ألَّا يكون موقنًا، فالنفس تضطرب اشتياقًا إلى معرفة الكيفية، والقلب يضطرب خشية من ضعف اليقين، وقوة اليقين لا تدفع هذا الاضطراب بل تزيده؛ لأنه كلما قَويَ اليقين قويت الخشية فاشتدَّ الاضطراب. فهذه والله أعلم كانت حال الخليل عليه السلام، ففزع إلى ربه عزَّ وجلَّ أن يريه كيف يحيي الموتى فتسكن نفسه ويطمئن قلبه من ذلك الاضطراب المؤلم.
وما حُكِيَ عن بعض الصِّدِّيقين من قوله: “لو كُشِفَ الغطاء ما ازددتُ يقينًا” (1)، إن صحَّ فلا إشكال فيه؛ إذ قد يُقال: إن الخليل عليه السلام لم يطلب زيادة اليقين ولا ازداد بالرؤية يقينًا وإنما سكنت نفسه واطمأن قلبه من ذلك الاضطراب الذي لا ينافي كمال اليقين بل يناسبه كما مرَّ، بل قد يكون في هذه المقالة دلالة على أن حال قائلها دون حال الخليل عليه السلام؛ لما قدَّمنا أن قوَّة اليقين تثمر قوَّة الخشية، وقريبٌ من هذا حال أبي بكرٍ مع النبيِّ
_________
(1) اشتهرت نسبة هذا القول إلى عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال الآلوسي: “موضوع لا أصل له في كتب الحديث الصحيحة عند الفريقين” يعني: السنة والشيعة. ونسبه أبو طالب المكي إلى عامر بن عبد الله بن عبد قيس. انظر: قوت القلوب 2/ 169، وانظر: المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 149، ومختصر التحفة الاثني عشرية ص 39.
(2/139)
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في عريش بدر، وقد شرحتها في موضعٍ آخر.
وقد يقال: إن قائل تلك الكلمة أراد اليقين بوجود الله عزَّ وجلَّ، والخليل عليه السلام لم يَعْرِضْ لهذا؛ فإن قلبه مطمئن به غاية الطمأنينة، وإنما نظره في إحياء الموتى.
وعلى كل حال فحال الخليل عليه السلام حال عالية، ولذلك قال نبينا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “نحْن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى” (1).
فأما الخليل فقد أراه الله تعالى فاطمأن قلبه، وأما سائر المؤمنين فقد ضرب الله تعالى لهم أمثالًا محسوسة على جهة التقريب، كخلقهم أول مرة وإحياء الأرض بعد موتها.
هذا في حشر الأجساد، وأما صفات الله عزَّ وجلَّ فإن الشارع أرشد إلى قطع التفكر، ففي الصحيحين: “يأتي الشيطانُ أَحَدَكُمْ، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته” (2).
وفي صحيح مسلم (3) أن بعض الصحابة قالوا للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله
_________
(1) صحيح البخاريِّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله: “ونبِّئهم” إلخ، 4/ 147، ح 3372. صحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، بابٌ من فضائل إبراهيم الخليل، 7/ 97، ح 151 (بعد 2370). [المؤلف](2) صحيح البخاريِّ، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 4/ 123، ح 3276. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، بابٌ في الوسوسة، 1/ 84، ح 134 (214). [المؤلف](3) في الباب المذكور [في الهامش السابق، 1/ 83، ح 132]. [المؤلف].
(2/140)
وسلَّم: “إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أَوَ قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان”.
فصل
ومما ورد في الأعذار ما تقدَّم في الكلام على اشتراط العلم بمعنى: لا إله إلا الله، من قصة أُبَيِّ بن كعب وغيره، فراجعه.
وقد اختلفت فرق من المسلمين في أشياء من صفات الله تعالى، ولا يخفى أن في الأقوال المختلفة ما يلزمه الكفر بالكذب على الله عزَّ وجلَّ ونسبة النقص إليه، وتكذيب آياته، [ز 32] كلُّ ذلك أو أكثره عن جهلٍ وخطأ، ومن الذاهبين إلى ذلك مَنْ لم يحمله عليه إلا اتِّباع الرؤساء والشياطين والهوى فيلزمه الشرك باتخاذ هذه الأشياء أربابًا وآلهة، كما ألزم الله تعالى أهل الكتاب وغيرهم بذلك كما يأتي مبسوطًا. ومع هذا اتفق المحققون من علماء الفرق الإسلامية على عدم الكفر الحقيقي على من أُلزِم بالكفر على الوجه المذكور مادام ملتزمًا أصول الإسلام الضرورية وزاعمًا أنه لا يلزمه ما أُلزِم به، على تفصيلٍ يؤخذ من مظانِّه، وَمَنْ شدَّد فحكم بالكفر على بعض مَنْ تقدَّم إنما حكم به على مَنْ يرى أنه قد قامت عليه الحجَّة فعاند، لا على الأتباع من العوامِّ ونحوهم.
ومما ورد في الأعذار قول الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 138 – 140].
(2/141)
يظهر من جواب موسى عليه السلام أنه وإن أنكر عليهم وجَهَّلَهُمْ لم يجعل طلبهم ارتدادًا عن الدين. ويشهد لذلك أنهم لم يؤاخذوا هنا بنحو ما أوخذوا به عند اتخاذهم العجل، فكأنهم هنا ــ والله أعلم ــ عُذِرُوا بقرب عهدهم. وقد مرَّ جماعة من المسلمين مع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على شجرةٍ يعكف عليها المشركون، فسألوا النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يجعل لهم مثلها، فقال: “قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (1)، ولم يعدَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كلمتهم ردَّةً، فكأنه عذرهم لقرب العهد.
وسيأتي في ذكر الأمور التي ورد في الشرع أنها شرك عدة أحاديث وآثار فيها أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مع حكمه على تلك الأمور أنها شرك لم يحكم على من فعلها من المسلمين قبل البيان أنه أشرك وارتدَّ. وكذلك تأتي آثارٌ عن أصحابه أنهم كانوا يرون الشيء من ذلك فيغيِّرونه وينكرونه ويُبَيِّنون أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخبر أنه شركٌ ولا يحكمون على مَنْ فعله من المسلمين قبل أن يبيِّنوا له بأنه أشرك وارتدَّ.
وتقدَّم في أواخر الباب الذي قبل هذا “اتَّقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل” (2)، وسيأتي الكلام عليه مبسوطًا، وفي روايةٍ للإمام أحمد وغيره: “فقال له مَن شاء الله أن يقول: وكيف نتَّقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا
_________
(1) المسند للإمام أحمد 5/ 218 [وفي الأصل 118]، وسيأتي تصحيحه وشواهده [ص 230]. [المؤلف](2) انظر ص 54 – 55.
(2/142)
نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم” (1).
وسيأتي أنَّ في سياق الأحاديث ما يؤيد ظاهرَها من أنَّ المراد بهذا الشرك: الشرك الحقيقيُّ، لا ما يحمله عليه بعض الناس من الرئاء، إلَّا أنَّه وإن كان شركًا حقيقيًّا في نفسه فقد دلَّت الأحاديث على أن مَنْ وَقَعَ منه وهو لا يعلم أنه شركٌ فهو معذورٌ، أي ــ والله أعلم ــ بشرط ألَّا يكون مقصِّرًا تقصيرًا هادمًا. وسيتَّضح لك ــ عندما تعلم حقيقة معنى الإله ومعنى العبادة، ومعنى الشرك ــ أَنَّ كثيرًا من الآراء والأقوال والأفعال التي لا يكاد يسلم منها أحدٌ غير من عصمه الله يَصْدُقُ عليها لولا العذر أنها شركٌ.
اللهمَّ إنَّا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم.
[(2) ومما يدل على هذا ما أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي علي الكاهلي قال: خطبنا أبو موسى الأشعري، فقال: يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل. فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضاب، فقالا: لتخرجَنَّ مما قلت أو لنأتينَّ عمر مأذون (3) لنا أو غير مأذون، قال: بل أخرج مما قلتُ. خطبنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ذات يومٍ، فقال: “أيها الناس، اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل”، فقال له مَن شاء الله أن يقول: وكيف نتَّقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: “قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا
_________
(1) مسند أحمد 4/ 403. [المؤلف]، وفي إسناده: أبو علي رجل من بني كاهل، لم يوثقه إلا ابن حبان.
(2) من هنا إلى نهاية الفصل ملحق ص 32 من المخطوط.
(3) كذا في الأصل والمسند، وفي التاريخ الكبير ومجمع الزوائد: (مأذونًا)، وهو الوجه.
(2/143)
نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم” (1). أبو علي الكاهلي ذكره ابن حبان في الثقات (2).
وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق عبد الأعلى بن أعْيَن، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “الشرك أخفى من دبيب الذَّرِّ على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحبَّ على شيءٍ من الجور وتبغض على شيءٍ من العدل، وهل الدين إلا الحبُّ والبغض، قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] “. قال الحاكم: “هذا حديثٌ صحيح الإسناد … “، تعقَّبه الذهبيُّ، فقال: “قلتُ: عبد الأعلى قال الدارقطنيُّ: ليس بثقةٍ” (3).
أقول: ولكن للحديث شواهد؛ ففي كنز العمال نحوه عن معقل بن
_________
(1) مسند أحمد 4/ 403 [المؤلف]. وأخرجه ابن أبي شيبة، كتاب الدعاء، في التعوُّذ من الشرك … ، 15/ 279 – 280، ح 30163. وعنه البخاري في التاريخ الكبير 9/ 58. وأخرجه الطبرانيُّ في الأوسط 4/ 10، ح 3479. قال الهيثميُّ: (ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي، وقد وثَّقه ابن حبان). مجمع الزوائد 10/ 384.
(2) 5/ 562. وانظر: الجرح والتعديل 9/ 409.
(3) المستدرك 2/ 291 [المؤلف]. وهو في مسند البزَّار (كما في كشف الأستار) 4/ 217، ح 3566. والضعفاء للعقيلي 3/ 60. والحلية لأبي نعيم 8/ 368 و 9/ 253. قال الهيثمي: (وفيه عبد الأعلى بن أعين، وهو ضعيف). مجمع الزوائد 10/ 384. وانظر ترجمة عبد الأعلى بن أعين في ميزان الاعتدال 2/ 529، وتهذيب التهذيب 6/ 93.
(2/144)
يسارٍ، عن أبي بكر الصِّدِّيق، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، ونسبه إلى إسحاق بن راهويه وأبي يعلى، قال: “وسنده ضعيفٌ”.
ونحوه عن قيس بن أبي حازمٍ، عن أبي بكر الصِّدِّيق، عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ونسبه إلى الحسن بن سفيان، والبغوي (1).
/وذكر أيضًا نحوه عن ابن عباسٍ، ونسبه إلى الحكيم الترمذي والحلية لأبي نعيمٍ” (2).
ووجه الدلالة أمران:
– الأول: أن الحديث صريح في أنَّ من الشرك ما هو خفيٌّ جدًّا وأنَّ كلَّ أحد معرَّض للوقوع فيه، ومثل هذا لا يليق بيسر الدين ونفي الحرج عنه المؤاخذةُ به.
– الأمر الثاني: أنه أرشدهم إلى الدعاء المذكور، وفيه: “ونستغفرك لما لا نعلم” أي: من الشرك، كما هو ظاهر، فعُلم منه أن الشرك الذي لا يُعلم قابل للمغفرة.
فإن عورض هذا بقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] فسيأتي الجواب (3) عن ذلك إن شاء الله تعالى.
_________
(1) انظر: كنز العمَّال 2/ 169 [المؤلف]. ورواية معقل بن يسارٍ عن أبي بكرٍ في مسند أبي يعلى 1/ 61 – 62، ح 59 – 61.
(2) كنز العمَّال 2/ 97 و 98 [المؤلف]. وانظر: الحلية 3/ 36 – 37.
(3) صفحة 650 [المؤلِّف]. ص 924.
(2/145)
ولكن لا بدَّ من تقييد الشرك الذي يقبل المغفرة لكون فاعله لم يعلم به بأن يكون فاعله معذورًا في جهله على ما مرَّ.
فإن قلت: إنما يصح الاستدلال بقوله: “ونستغفرك لما لا نعلم” إذا حُمل على معنى: لا نعلم أنه شرك، وقد تعمَّدنا فعله، وقد يحتمل معنًى آخر وهو أن يقال: أي: لا نعلم أننا نفعله أي: لم نتعمَّد فعله أصلًا، بل وقع سهوًا كالقائل: “اللهم أنت عبدي وأنا ربك”. قلت: المعنى الأول هو المتعيِّن لدلالة السياق على أنَّ الذي لا يُعلم هو الخفيُّ، فإنما لم يُعلم لخفائه لا لعدم تعمُّده، ولدلالة التمثيل بالحب على جورٍ والبغض على عدلٍ، ومعناه: أن تحبَّ رجلًا لجورٍ جارَه من حيث هو جور، وتبغض رجلًا لعدلٍ عدَله من حيث هو عدْل، فلا يدخل في هذا حبك حاكمًا حكم لك بمالٍ جورًا وتبغض آخر حكم عليك بعدلٍ إذا أحببت ذاك من حيث نفعك نفعًا دنيويًّا وأبغضت هذا من حيث ضرَّك ضررًا دنيويًّا.
فأما قول الله عزَّ وجلَّ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. /فقد قيل: إنَّ المعنى: لا يؤمنون إيمانًا كاملًا، وفيه نظر، والأولى أن يقال: المراد بالحرج الحرجُ الذي يصحبه نسبة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى الجور والظلم، فأما مَن حكم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بمالٍ يدفعه إلى صاحبه فدفعه موقنًا بأن الحكم حق وعدل ولكن نفسه كارهة للدفع حبًّا للدنيا وحرصًا عليها، فمثل هذه الكراهة لا تنافي أصل الإيمان.
(2/146)
نعم، مَن حملته هذه الكراهة على مشاقَّة الرسول في حياته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والامتناع منه بالفرار أو بالقوَّة، بحيث لو بعث إليه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مَن يستوفي منه الحقَّ لقاتلهم، فالذي يظهر أنَّ ذلك ينافي الإيمان، ولكن هذا خاصٌّ بحكم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في حياته، فأما بعد وفاته فإنما يكفر مَن ثبت عنده حكم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فزعم أنَّ الحقَّ خلافه، والله أعلم].
فصل
[ز 33] وهاهنا اعتراضان، أحدهما: أن يقال قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] في آيات أخرى تقدمت في أوائل الرسالة (1)، فكيف التوفيق بينها وبين ما ذُكِرَ هنا من الأعذار؟
والجواب: أنه إذا قام الدليل على العذر في بعض الصور فالتوفيق سهل بحمد الله تبارك وتعالى بأحد وجهين:
الأوَّل: أن يقال في تلك الصور: إنها ليست بشرك ولا كفر، ثم نطلب للشرك والكفر تعريفًا لا يتناول تلك الصور وما في معناها، فإن كان هناك تعريف مشهور نظرنا فيه، فإما أن نبيِّن أنه لا يتناول تلك الصور، وإما أن نزيد فيه قيدًا أو أكثر لإخراج تلك الصور التي قام الدليل على العذر فيها. فإذا قيل: الشرك اتِّخاذ إلهٍ من دون الله أو عبادة غير الله، فإما أن نبيِّن معنى الإله والعبادة بألَّا يشمل تلك الصور، وإما أن نقول: لا بدَّ من زيادة قيدٍ، كأن يُقال
_________
(1) انظر ص 35 – 36.
(2/147)
“بلا عذرٍ”، والمدار على الحجَّة؛ فليس لأحدٍ أن يفسِّر ويقيِّد بمجرَّد هواه، ولا لأحدٍ أن يَرُدَّ ما قامت عليه الحجَّة.
الوجه الثاني: أن يُقال: إن الشرك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} من العامِّ المراد به الخصوص أو العامِّ المخصوص، فتخرج تلك الصور بأدلَّتها.
وربَّما يتعيَّن الوجه الأوَّل أو يترجَّح في بعض الصور، والثاني في باقيها.
ومما يُستأنَس به للوجه الأوَّل: أن القرآن خصَّ اسم المشركين غالبًا بما عدا أهل الكتاب من كفَّار العرب ونحوهم مع أن أهل الكتاب {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، فاليهود أطاعوا الأحبار والشياطين والهوى الطاعة الخاصَّة التي هي تأليه وعبادة لغير الله على ما يأتي تفسيره (1)، والنصارى فعلوا مثل ذلك وزادوا فألَّهوا عيسى وأمه والصليب وغيره وعبدوهم من دون الله، ولكن أهل الكتاب يجحدون أن يكونوا اتخذوا مع الله إلهًا أو عبدوا غيره، فيجحدون أن تكون طاعتهم للأحبار والرهبان والشياطين والهوى تأليهًا وعبادة لغير الله تعالى، والنصارى يجحدون أن يكون ما يعملونه لمريم والصليب وغيرهما تأليهًا وعبادة. نعم يقولون: إنهم يؤلِّهون عيسى ويعبدونه، ولكنهم يقولون: ليس هو غير الله، وهذا الجهل والجحود لا
_________
(1) انظر ص 654 – 657 وص 731.
(2/148)
ينفعهم؛ لأن الحجة كانت قائمة عليهم قبل البعثة، وتَمَّ قيامها ببعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وما جاء به من الآيات. لكنه مع ذلك خصَّ القرآنُ اسمَ المشركين بغيرهم ممن كانوا يسمون غير الله تعالى آلهةً ومعبوداتٍ وشركاء، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
ومما يُستأنَس به للثاني قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106]، إذا بنينا على أن الاستثناء متَّصلٌ كما هو الأصل ثبت بذلك أن مَن أُكْرِه على الكفر ففَعَلَه وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان فقد صدق عليه في الجملة أنه كفر بعد إيمانه، ولكنه مستثنىً من عموم الأدلَّة المشدِّدة في الكفر مطلقًا.
وحديث: “اتَّقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل … “، قد يُستأنَس به للوجه الثاني، لأنه سمَّاه شركًا مع خفائه وأمر بالاستغفار مما يقع منه بغير علمٍ. والأقرب الاستئناس به للأوَّل، لأنه قال: “قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما [لا] نعلم”. فأبهم في الثانية فأشعر بأن عدم العلم يمنع تسميته شركًا. والله أعلم.
[ز 34] الاعتراض الثاني:
إن قيل: كيف هذا، وقد تقدَّم في أوائل الرسالة اشتراط العلم بمعنى: “لا إله إلا الله”، وعليه فَمَنْ يُحْكَم له بالإسلام تبعًا يلزمه الإتيان بالشهادتين عند بلوغه مع معرفة معناهما، فإن فَعَل لم يشتبه عليه الشرك بعد ذلك، وإن لم يفعل كان مقصِّرًا، فكيف يُعْذَر؟ وأما الكافر إذا أراد الدخول في الإسلام
(2/149)
فلا يدخل إلا بالشهادتين مع معرفته لمعناهما، فإن فعل لم يشتبه عليه الشرك بعد ذلك، وإلا فلم يصحَّ إسلامه من أصله.
فالجواب: أن الأوَّل وهو من يُحْكَم له بالإسلام تبعًا قد لا يكون مقصِّرًا، كمن ينشأ ببادية بعيدة عن العلماء، فيعلم بوجوب الإتيان بالشهادتين، ولا يعلم أنه يجب عليه تحقيق معناهما، وإذا علم فقد يرى أنه قد عرف معناهما، ويكون في نفس الأمر لم يحقِّق المعنى، وقد يحقِّق المعنى ثم يغفل عنه أو يشتبه عليه في بعض الجزئيَّات. وستعلم عند تحقيق معنى الإله والعبادة أن معرفة المعنى جملة لا تضمن عدم الاشتباه في بعض الجزئيات، حتى لقد يقع الاشتباه للمتبحر في العلم فضلًا عن العالم الذي لم يتبحر فضلًا عن العامي، وذلك أن معنى الإله والعبادة كما ستعلم يرتبط بسائر فروع الشريعة، فالخطأ في فرعٍ منها يلزمه خطأٌ مّا في تطبيق معنى لا إله إلا الله، وذلك مصداق الحديث السابق أن الشرك أخفى من دبيب النمل. هذا وقد قام الإجماع أن الإسلام لا يوجب على كلِّ فردٍ أن يكون عالمًا فضلًا عن أن يكون متبحرًا.
وأما الثاني وهو مَنْ كان كافرًا ثم أسلم فالذين يشترطون للدخول أن يأتي بالشهادتين مع معرفته معناهما يكتفون فيما يظهر بمعرفة معناهما إجمالًا. يدلُّك على ذلك أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يكتفي من الناس بشهادة ألا إله إلا الله مع أنهم لم يكونوا يفهمون من كلمة (إله) إلا معنىً إجماليًّا لا يضمن ألَّا يشتبه عليهم، فلم يكونوا يعلمون أن من طاعة الرؤساء ما يكون تأليهًا لهم، وأن من طاعة الشيطان ما يكون تأليهًا له، وأن من اتِّباع الهوى ما هو تأليهٌ له، وأن من الطيرة وتعليق التمائم والقسم بغير الله
(2/150)
تعالى ما هو تأليهٌ لغير الله تعالى، وسيأتي بسط ذلك كلِّه إن شاء الله تعالى. والمتنصِّرون منهم لم يكونوا يعلمون أن تعليق الصليب تأليه له، في أشياء أخر ستأتي فيما بعد. والظاهر أن الذين قالوا للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “اجعل لنا ذات أنواط” (1) لم يكونوا يعلمون أن اتخاذها من اتخاذ إله مع الله تعالى.
هذا مع أنَّ من أهل العلم من لا يشترط للدخول في الإسلام الإتيان بالشهادتين أصلًا، بل يقولون: يكفي كلُّ ما يؤدِّي معنى الدخول في الإسلام كقوله: أسلمت لله، ونحو ذلك. كما حكى الله عزَّ وجلَّ عن ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].
وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إلى أن قال: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 131 – 132].
ومما يدلُّ على صحَّة هذا المذهب حديث الصحيحين عن المقداد أنه قال: يا رسول الله، إن لقيتُ كافرًا فاقتتلنا فضرب يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ بشجرةٍ، وقال: أسلمت لله، أأقتله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “لا تقتله”، قال: يا رسول الله، قد طرح إحدى يديَّ، ثم قال [ز 35] ذلك بعد ما قطعها أأقتله؟ فقال: “لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل
_________
(1) سيأتي تخريجه عند المؤلف في ص 230.
(2/151)
أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال” (1).
هكذا رواه الجماعة عن الزُّهري: ابن جُرَيجٍ ويونُس بن يزيد في الصحيحين، وابن أخي الزُّهري عند البخاري، والليث بن سعدٍ والأوزاعي وابن عُيَينة (2) عند مسلمٍ، وغيرهم. ووقع في رواية عبد الرزَّاق عن معمرٍ عن الزُّهري عند مسلمٍ: “فقال: لا إله إلا الله”، ورواية الأكثر أثبت، على أن الإمام أحمد أخرج الحديث من طريق ابن جُرَيجٍ: “أخبرني الزُّهري” فذكره، وفيه: “فقال: أسلمت لله، أقاتله يا رسول الله؟ “، فذكر الحديث. ثم قال أحمد: “ثنا عبد الرزَّاق، ثنا معمرٌ”، فذكر أوَّل الحديث، ثم قال: “فذكر الحديث، إلا أنه قال: أقتله أم أدعه؟ ” (3).
فظهر بهذا أن في رواية أحمد عن عبد الرزاق عن معمر “فقال: أسلمت لله” كما في رواية ابن جريج قبلها؛ إذ لم يستثن أحمد إلا قوله “أقتله أم أدعه”، فعُلِم أن الباقي سواءٌ، ولو كان في حديثه “لا إله إلا الله” لكان ذكر ذلك أهمَّ من ذكر “أقتله أم أدعه” كما لا يخفى، فقد اختلفت الرواية عن معمرٍ، ولا خفاء أن الترجيح فيها لما يوافق رواية الجمهور.
_________
(1) صحيح البخاريِّ، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}، 9/ 3، ح 6865 [وفي كتاب المغازي، باب 12، 5/ 85، ح 4019]. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله [وفي الأصل: باب الدليل على أن مَن مات لا يشرك إلخ]، 1/ 66، ح 95. [المؤلف](2) لم أجد رواية ابن عيينة عن الزهري عند مسلم، ولم يذكرها المزي في تحفة الأشراف 8/ 502، (11547).
(3) المسند 6/ 5 – 6. [المؤلف]
(2/152)
وفي شرح مسلمٍ للأُبِّيِّ عن القرطبيِّ: فيحتجُّ به للدخول في الإسلام بكلِّ ما يدلُّ على الدخول فيه من قولٍ أو فعلٍ ما يتنزَّل منزلة النطق بالشهادتين، وقد حكم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بإسلام بني جَذِيمة الذين قتلهم خالدٌ وهم يقولون: “صبأنا صبأنا”، ولم يحسنوا أن يقولوا: “أسلمنا”، فلما بلغ ذلك النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رفع يديه إلى السماء، وقال: “اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالدٌ”، ثم وداهم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (1).
قال الأُبِّيُّ: “وكان الشيخ ــ يعني شيخه أبا عبد الله محمد بن عرفة ــ يقول: كلمة: “أسلمت لله” إنما توجب الكفَّ عن القتل ثم يستَفهم بعد ذلك”، قال الأُبِّيُّ: “وهو خلاف ما دلَّ عليه الحديث” (2).
أقول: وذلك من وجهين، الأول: أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أطلق النهي ولم يقل: لا تقتله حتى تستفهمه وتعرض عليه النطق بالشهادتين، فإن أبى فاقتله، أو نحو ذلك.
الثاني: قوله: “فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله” والمعنى الظاهر من هذا أنه مسلم، والظاهر حجة.
فائدة:
اختلف في معنى قوله: “وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته”. ولا نزاع أن الظاهر “وأنت كافر”، ولكن الجمهور أبوا هذا؛ لأن من أصلهم أن ارتكاب
_________
(1) انظر: المفهم 1/ 293 – 294.
(2) شرح الأُبِّي لصحيح مسلمٍ 1/ 204. [المؤلف]
(2/153)
الكبيرة ليس بكفر. وأجيب بأن المعنى: إن قتلته مستحلًّا لقتله، ولا نزاع أن استحلال الحرام القطعي كفر. ولم يرتضوا هذا؛ يرون أنه ليس في الكلام ما يدل على هذا القيد. وأنت إذا تأملت وجدت الدلالة واضحة فإن سؤال المقداد إنما قصد به معرفة الحلِّ أو الحرمة لعلمه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا أذن في القتل كان حلالًا، فقوله: أأقتله؟ في قوَّة قوله: أيحلُّ لي قتله؟ أو: أأستحلُّ قتله؟ وبحسب هذا يكون الجواب (1) قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “فإن قتلته” في قوَّة قوله: “فإن استحلَلْت قتله”، والله أعلم.
وقصَّة بني جَذِيمة التي أشار إليها القرطبيُّ هي في صحيح البخاريِّ (2).
وفيها من قول ابن عمر: “فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا وجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا”، وهذا ظاهرٌ أنهم لو قالوا: (أسلمنا) ما اشتبه الأمر على خالدٍ.
[ز 36] وفي الصحيحين في حديث أسامة لما صمد في الجهاد لرجل ليقتله فقال الرجل: لا إله إلا الله، فقتله أسامة فَلامَه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال أسامة: “حتى تمنَّيت أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم” (3).
_________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: “وبحسب هذا الجواب يكون قوله … ” فوقع تقديم وتأخير من سبق القلم، أو يتمُّ الكلام عند قوله: “الجواب”، ويُستأنف: “فقوله … “.
(2) كتاب المغازي، باب بعث النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خالد إلخ، 5/ 160 – 161، ح 4339. [المؤلف](3) صحيح البخاريِّ، كتاب الديات، باب [قول الله تعالى]: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} إلخ، 9/ 4، ح 6872. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله [باب الدليل على أن مَن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنَّة]، 1/ 68، ح 96 (159). [المؤلف]
(2/154)
وفي رواية لمسلمٍ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال لأسامة: “كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة؟ ” وكرَّر ذلك، وهذا ظاهرٌ في حكمه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بإسلام الرجل مع أنه لم يأت بلفظ: “أشهد” ولا بشهادة أن محمَّدًا رسول الله، ما ذاك إلا أن الظاهر من قوله: لا إله إلا الله، أنه أراد بها الدخول في الإسلام.
وفي صحيح مسلمٍ من حديث عائشة في قصَّة المشرك الذي اتَّبع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في طريقه عند خروجه إلى بدر “قال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك”، وفيه أنه رجع ثم عاد كذلك قالت: “ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: فانطلق” (1).
وفيه في قصة العقيليِّ: أسره المسلمون وأوثقوه، فمرَّ به النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فناداه: يا محمَّد، يا محمَّد، فرجع النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فكلَّمه، ثم مضى. فناداه ثانيًا، فرجع إليه، فقال: إني مسلمٌ، قال: “لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كلَّ الفلاح” (2).
_________
(1) صحيح مسلمٍ، قُبَيل كتاب الإمارة. [المؤلف]. يعني كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافرٍ، 5/ 200، ح 1817.
(2) مشكاة المصابيح، كتاب الجهاد، باب حكم الأسرى، الفصل الأول، 2/ 1161 – 1162، ح 3969. [المؤلف]. وهو في صحيح مسلمٍ، كتاب النذر، بابٌ: “لا وفاء لنذرٍ في معصية الله”، 5/ 78، ح 1641.
(2/155)
وفيه أن تلك الكلمة ضامنةٌ لأن يفلح كلَّ الفلاح لولا أنه قالها وهو لا يملك أمره، والفلاح كلُّ الفلاح هو النجاة في الآخرة، فثبت أن تلك الكلمة إسلامٌ لو قالها وهو يملك أمره.
فإن قيل: يمكن أن يكون النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إنما كان يكتفي بنحو “أسلمتُ لله” بعد أن اشتهر أمر الإسلام وأنه يدعو إلى الشهادتين، وكان العرب يعرفون معناهما، فقام قولُ أحدهم: “أسلمتُ لله” ــ مع معرفته لما ذُكِر ــ مقامَ إتيانه بالشهادتين عارفًا بمعناهما.
قلت: يكفي في ردِّ هذا قصة بني جذيمة، فإنها كانت في أواخر السنة الثامنة للهجرة، ومع ذلك لم يحسنوا أن يقولوا: “أسلمنا”، فكيف يُظَنُّ بهم معرفة ما هو أخفى من ذلك؟ على أنه قد سلف أن العرب مع معرفتهم أصل معنى الإله كانت تشتبه عليهم أشياء، فلم يكونوا يعلمون أن من طاعة الرؤساء وقبول وسوسة الشيطان واتِّباع الهوى ما هو تأليهٌ لهذه الأشياء، وكذلك ما يقع في الرقى والتِّوَلة والقسم بغير الله عزَّ وجلَّ مما كان يشتبه على الصحابة حتى بَيَّنَهُ لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وعلى بعض التابعين حتى بَيَّنَهُ لهم الصحابة، ومن ذلك قصَّة ذات أنواطٍ وغيرها.
فالذي يقتضيه ما مرَّ أنه يكفي لدخول الكافر في الإسلام أن يتقبَّله مع معرفة أنه دينٌ مشتملٌ على عقائد وأحكامٍ وأنه ملتزمٌ لها سواءٌ أوافقت ما كان عليه أم خالفته، فإنه بذلك يَنْسَلِخُ عن كفره ويُسَلِّم نفسه للإسلام ويلتزمه جملةً؛ والله الموفق.
(2/156)
[ز 37] فصل
المنتسبون إلى الإسلام أقسام:
الأوَّل: مَن تحكم له أيَّها القارئ بالإسلام، فلا كلام فيه.
الثاني: مَن تكفِّره أو تتردَّد فيه لعلَّةٍ غير الشرك، وهذا لا كلام فيه هنا.
الثالث: مَن تكفِّره أو تتردَّد فيه لعلَّة الشرك خاصة، وكلامُنا في هذا.
فاعلم أن كلَّ مكلَّفٍ مَنْ هؤلاء لا بدَّ أن يكون قد ثبت له حكم الإسلام؛ لأنه لا يخلو أن يكون هو الذي دخل في الإسلام وكان آباؤه على ملَّةٍ أخرى كاليهوديَّة والنصرانيَّة، أو يكون نُسِبَ إلى الإسلام على سبيل التبعيَّة، أَوْ لا.
فالذي أسلم هو نفسه قد ثبت له حكم الإسلام. فإذا قلنا: إنه يكفي للدخول في الإسلام كلُّ ما يؤدِّي معنى التزامه فذاك، وإن قلنا: لا بدَّ من الإتيان بالشهادتين مع معرفة معناهما فقد عرفت أن المراد معرفته في الجملة، والعادة مستمرة إلى الآن أن الكافر إذا أراد الدخول في الإسلام يلقِّنُه الناس الشهادتين ويفسِّرون له معناهما فيعرفه في الجملة، يعرف أنه لا مدبِّر بقوَّته الذاتيَّة إلا الله ولا معبود بحقٍّ إلا الله، ويعرف من العبادة الصلاة والصيام فيعرف أنه لا يستحقُّ أن يُصَلَّى ويُصام له إلا الله، وأن تعظيم الأوثان والسجود لها أو للشمس أو القمر أو الصليب عبادةٌ لغير الله، إلى غير ذلك، مع التزامه للإسلام جملةً. وهذا كافٍ للدخول في الإسلام وثبوت حكمه كما تقدَّم.
والمنسوب تبعًا إما أن تكون موافقًا على ثبوت الإسلام له بالتبعيَّة أو
(2/157)
غير موافقٍ، فالأوَّل قد ثبت له حكم الإسلام اتِّفاقًا. والثاني الذي يكثر وجوده من صوره هو مَنْ كان آباؤه متلبِّسين بتلك الأمور التي تراها شركًا، فتقول: آباؤه مشركون فكيف يُحكم له بالإسلام تبعًا لهم؟
فاعلم أن هذا لا بدَّ أن يكون أحدُ أجداده كان كافرًا فأسلم فثبت له حكم الإسلام كما مرّ، وقد يكون هذا الجدُّ تلبَّس بتلك المحدثات، وسيأتي، وقد لا يكون تلبَّس بها فكان مسلمًا اتِّفاقًا، وتبعه ابنه في الإسلام ثم ابن ابنه، وهكذا إلى أوَّل جدٍّ تلبَّس بالمحْدَثات. فأوَّلُ جَدٍّ تلبَّس بالمحْدَثات إما أن يكون هو الذي دخل في الإسلام، وإما أن يكون ابن رجل مسلم لم يتلبس بها، وعلى كلا الحالين قد ثبت لهذا الجدِّ حُكْمُ الإسلام اتفاقًا، ومَنْ ثبت له حكم الإسلام فالأصل بقاؤه عليه ولا يخرج عنه إلا بحجَّةٍ واضحةٍ. وقد علمت أن من قَبِلَ الإسلام ثم جهل وأخطأ بما هو شرك قد يُعْذَرُ، ولا يظهر حَدٌّ لذلك إلا قيام الحجَّة كما سيأتي. فذلك الجدُّ الذي ثبت له حكم الإسلام لا يخرجه عنه تلبُّسه بتلك المحدثات ما لم تعلم قيام الحجة عليه، وأنت لا تعلم ذلك، فبقي على إسلامه، فيتبعه ابنه في الإسلام، فيبقى له حكمه وإن تلبس بتلك المحدثات، وهكذا.
وهبك أثبتَّ قيام الحجَّة على أحد الآباء فإنَّك لا تعلم قيامها على الأمِّ فَبَقِيَتْ على حكم الإسلام فتبعها ولدها. وهَبْكَ أثبتَّ قيامها على الأبوين فلعلَّها إنما قامت عليهما بعد العلوق بالولد وثبوت حكم الإسلام له، وهَبْكَ أثبتَّ قيامها على الأبوين قبل العلوق بالولد فقد قال بعض أهل العلم كالشافعيَّة: إنه إذا كان في أصول الطفل المعروفة سلسلةُ نسبِه إليهم مسلمٌ حُكِمَ للطفل بالإسلام وإن كان ذلك الأصلُ قد مات قبل زمانٍ طويلٍ وكان
(2/158)
الأقرب حيًّا (1)، فإن لم ترض هذا فقد قال بعض أهل العلم ــ وهو الذي [ز 38] حكاه ابن المنذر (2) عن الشافعيِّ وبه أخذ أكثر أصحابه وصحَّحه الرافعيُّ وخالفه النوويُّ، لكن تعقَّبه … (3) فصوَّب تصحيح الرافعيِّ، وأطال البلقينيُّ في تصويب ما قال الرافعيُّ … (4) ــ: إن ولد المرتدَّيْنِ محكومٌ بإسلامه وإن كان العلوق به بعد ردَّتهما.
والذي يخالف في هذا إنما يقوى قوله إذا كانت الردَّة مكشوفة يُصَرِّح صاحبها بأنه قد بدَّل دينه وترك الإسلام. وإيضاح هذا أن المدْرَك فيما يظهر في الحكم بإسلام الطفل أو كفره قبل أن يعرب عن نفسه هو النظر فيما يظهر أنه يختاره إذا بلغ، وأظهرُ أسباب الاختيار أمران: وضوح الحجة واتباع الآباء. والأول وهو وضوح الحجة خاصٌّ بالإسلام فإن وافقه الثاني بأن كان الآباء كلهم المعروفة سلسلة النسب إليهم مسلمين فالحكم بالإسلام بغاية الوضوح. وإن خالفه البتة بأن كان الآباء كلهم المعروفة سلسلة النسب إليهم كفارًا أصليين فالحكم بالكفر ظاهر؛ لأن الغرام باتِّباع الآباء شديدٌ، كما تشاهده في اليهود والنصارى وقلَّةِ مَن يُسْلِمُ منهم. وإن وافقه مِن وجهٍ وخالفه مِنْ وجهٍ نُظِرَ في الراجح فيوضع مثلًا إسلام الأب والأمر الأوَّل وهو وضوح حجة الإسلام في كفَّةٍ، وكفر الأم والأصول من الطرفين في كفَّةٍ، فيرجح أنه يختار الإسلام، وقس على ذلك. وموضع التفصيل كتب الفقه،
_________
(1) انظر: روضة الطالبين 5/ 430.
(2) الأوسط 13/ 508.
(3) هنا بياضٌ بقدر كلمةٍ، والظاهر أن المؤلف بيَّض لاسم العالم الذي تعقَّبَ النوويَّ.
(4) هنا بياضٌ بقدر نصف سطرٍ، وانظر منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع للسيوطي بهامش روضة الطالبين 7/ 297.
(2/159)
ونقتصر هنا على النظر في مسألتنا.
الطفل إذا بلغ فعرف أنَّ أسلافه كانوا مسلمين حتى تنصَّر أبواه مثلًا فإن غرامه بالنصرانيَّة لا يكون كغرام من عرف أن أسلافه مضوا عليها من قرونٍ كثيرةٍ، فهذا يحتمل أن يميل إلى النصرانيَّة؛ لأن أبويه صارا إليها ويحتمل أن يميل إلى الإسلام؛ لأنَّ أسلافه مضوا عليه حتى صار أبواه إلى خلافه، فله شبه بمن كان أحد أبويه مسلمًا والآخر كافرًا. هذا في الرِّدَّة المكشوفة، ودونها درجات.
فأما مسألتنا وهي أن يعرف أنَّ أسلافه مضوا على الإسلام، وأنَّ أبويه عاشا ينتسبان إلى الإسلام مغتبطَين به يعتقدان أنه هو الدين الحق ويبذلان أنفسهما في سبيله، ويُعَظِّمان القرآنَ ويعتقدان أنَّ كلَّ ما فيه حقٌّ، ويحبَّان النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويعتقدان أن كلَّ ما جاء به حقٌّ، ويحترمان سلف الأمة وعلماءها، ويتمسكان بشعائر الإسلام، ويعتقدان حقًّا عليهما أن لا يخالفاه، ويحكمان على أنفسهما أنهما إن خالفاه ولم يعذرهما الله عزَّ وجلَّ هلكا، ولكنهما وقعا في شيء كانا يزعمان أنه لا يخالف الإسلام وجماعة من أهل العلم يقولون إنه مخالف. فهذا الغلام إن لم توضح له الحجة على أنَّ تلك المخالفة كفرٌ فالظاهر أنه يتبع أبويه عليها، ولكن هذا لا يكفي للحكم عليه من طفوليَّته بعدم الإسلام؛ فإن النظر في هذا الباب مبني على فرض قيام الحجة، ألا ترى أنه يحكم بالإسلام للطفل الذي أبوه وأسلافه كلهم نصارى وأمه مسلمة مع العلم بأنه إذا لم توضح له حجة الإسلام إنما يتبع أباه وأسلافه.
وإذا أوضحت له الحجة فأمامه طرقٌ:
(2/160)
الأولى: أن يتَّبع أبويه على تلك المخالفة تعصُّبًا لهما ويرضى لنفسه بأمورٍ:
منها: ترك الإسلام الذي اتَّضح له أنه الحق ومضى عليه أسلافه ومضى أبواه أنفسهما على الانتساب إليه والاغتباط به كما مر، ونشأ هو نفسه على حبه والاغتباط به والافتخار بالانتساب إليه.
ومنها: اختيار الكفر الذي مضى أسلافه وأبواه أنفسهما ونشأ هو نفسه على بغضه ومقته وشدة النفور عنه والعلم بأنه هلاك أبدي.
[ز 39] ومنها: عداوة الله ورسله والمؤمنين، وقد مضى أسلافه وأبواه أنفسهما ونشأ هو نفسه على محبتهم وتعظيمهم والاغتباط باتِّباعهم.
ومنها: غضب الله عزَّ وجلَّ والخلود في نار جهنم.
الطريق الثانية: أن يتبع الحق ويشهد على أبويه بالكفر.
الطريق الثالثة: أن يتبع الحق ويرجو العذر لأبويه.
أفلا ترى سلوكه الطريق الأولى أبعد جدًّا من اختيار مَن كان أبوه وأسلافه نصارى وأمُّه مسلمةً للنصرانيَّة؟ فبقي النظر في الطريقين الأخريين، فإن لم تتَّضح له الحجَّة على هلاكهما وعلى أن الشكَّ في هلاكهما كفرٌ فلا ريب أنه يختار الطريق الثالثة، ولكن هذا لا ينافي الحكم بإسلامه؛ لوجوه:
الأوَّل: أن النظر في هذا الباب مُرَتَّبٌ على فرض قيام الحجة كما مرَّ.
الثاني: أنه إذا لم تقم عليه الحجة القاطعة بهلاكهما لا يكون رجاؤه العذر لهما كفرًا.
(2/161)
الثالث: أن كفر المتلبِّس بالمحدثات التي الكلام فيها ليس في هذه الأزمنة من الأمور الواضحة التي يكفر مَن شكَّ أنها كفرٌ مطلقًا، فكيف مَنْ لم يشكَّ أنها كفرٌ ولكنَّه يرجو العذر لبعض مَن تلبَّس بها؟
وعلى فرض أنك أثبتَّ قيام الحجة على أحد الأجداد وامرأته وإصرارهما قبل العلوق بالولد وأنه لم يُقْنِعْكَ ما تقدَّم من الاستدلال على أن ذلك لا يمنع الحكم للولد بالإسلام فبماذا تحكم للولد في صغره؟
إن قلتَ: أحكم أنه مرتد قيل لك: أنَّى يكون مرتدًّا ولم يُحْكَم له بالإسلام قطُّ؟ وأصل معنى الارتداد هو الرجوع، فكيف يُقال: إنه رجع عن الإسلام مَنْ لم يكن عليه قطُّ؟ وقد جاء عن الصحابة أنهم سَبَوْا أولاد المرتدِّين (1)، والمرتدُّ لا يُسْبَى.
وقد كان خطر لي أن أحتجّ بمعاملة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مشركي العرب معاملة الكفَّار الأصليين مع أن أسلافهم كعمرو بن لُحَيٍّ وأقرانه كانوا مرتدِّين عن شريعة إبراهيم عليه السلام، وكانت الأنساب إليهم معروفةً. ثم ظهر لي أنه قد يجاب عن هذا بأن الإسلام شريعةٌ جديدةٌ يطالبهم باتِّباعه، حتى لو رجعوا إلى شريعة إبراهيم ولم يتَّبعوا الإسلام لم يخرجوا من الكفر، فلا يلزم من عدم حكمه عليهم حكم المرتدين أنهم لم يكونوا في حكم المرتدِّين عن شريعة إبراهيم. ويمكن أن يناقش في هذا
_________
(1) ورد عن أبي الطفيل أنه كان في جيش عليٍّ الذين أرسلهم إلى المرتدين من بني ناجية، قال: فقتلوا المقاتلة وسبوا الذَّراري. أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب السير، ما قالوا في الرجل يسلم ثم يرتد … 17/ 434 – 435، ح 33407.
ومن طريقه: البيهقي في كتاب المرتد، باب ما جاء في سبي ذرية المرتدين 8/ 208.
(2/162)
الجواب ولكن فيما تقدَّم كفاية إن شاء الله تعالى.
فلم يبق إلا أن تقول: أحكم لذلك الولد بأنه كافرٌ أصليٌّ، فيُقال لك: أنت خبيرٌ أن كلامنا إنما هو في المنتسبين إلى الإسلام الذين لا ترميهم بالكفر إلا لتلبُّسهم بتلك المحدثات التي تراها شركًا ويزعمون أنها مما أذن الله تعالى فيه، وتعلم أن هؤلاء القوم لا يميز الولد منهم إلا وقد تلقن الشهادتين وأحبَّ الإسلام واغتبط به وعزم أن يدين به حتى يموت، فإن فرضت أنه في صغره محكوم له بالكفر الأصلي فإنه يسلم قبل أن يبلغ، وإذا بلغ استمرَّ على ذلك، وقد تقدَّم (1) أنه يكفي الكافر للدخول في الإسلام والحكم له به ما هو أقلُّ من ذلك.
فقد اتضح بحمد الله سبحانه أنه ما مِنْ منتسبٍ إلى الإسلام ممن ترميه بالكفر لتلبُّسه بتلك المحدثات فقط إلا وقد ثبت له حكم الإسلام، وهذا ما أردنا بيانه.
فصلٌ
مَن ثبت له حكم الإسلام ثم أعلن عن نفسه أنه قد رغب عن الإسلام وتركه فأمره واضحٌ، وهذه هي الردَّة المكشوفة. وأما مَن يدَّعى أنه مستمرٌّ على الإسلام فإنه لا يُحْكَم عليه بالردَّة إلا بحجَّةٍ واضحةٍ؛ إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان. وإذ كان كلامنا إنما هو في العبادة فالمثال الواضح فيها أن يصرِّح بأنه يتَّخذ مع الله إلهًا أو يعبد غيره على الحقيقة، [ز 40] وهذه الدرجة هي حال أهل الجاهليَّة كما تقدَّم، ويليها أن يتلبَّس بما هو تأليهٌ وعبادةٌ لغير
_________
(1) ص 151 فما بعدها.
(2/163)
الله تعالى مع قيام الحجَّة بأنه يعلم ذلك وإن لم يعترف به. هذا طرفٌ.
ويقابله الطرف الذي يتَّضح فيه أن ما تلبَّس به مما صورته صورة التأليه والعبادة لغير الله تعالى ليس في نفس الأمر كذلك، أو أنه وإن كان في نفس الأمر كذلك فصاحبه معذور.
أما الأول فبيانه متوقف على تحقيق معنى الإله والعبادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى (1).
وأما الثاني فينبغي لمن أراد التحقيق أن يستحضر أمورًا:
الأوَّل: ما قدمناه في الأعذار (2).
الثاني: قول الله تبارك وتعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [خواتيم البقرة]، {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]، {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152، والأعراف: 42، والمؤمنون: 62]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
قال المحقِّق الشاطبيُّ: “قد ثبت في الأصول العلميَّة أن كلَّ قاعدةٍ كلِّيَّةٍ أو دليلٍ شرعيٍّ كلِّيٍّ إذا تكرَّرت في مواضع كثيرةٍ وأُتِيَ بها شواهدَ على معانٍ أصوليَّةٍ أو فروعيَّةٍ ولم يقترن بها تقييدٌ ولا تخصيصٌ مع تكرُّرِها وإعادة تقرُّرها فذلك دليلٌ على بقائها على مقتضى لفظها من العموم … ” (3).
_________
(1) ص 387 فما بعدها.
(2) أواخر ص 132 فما بعدها.
(3) الاعتصام 1/ 180. [المؤلف]
(2/164)
ويظهر من كلام ابن جرير في بعض المواضع محاولة تخصيصها، واحتجَّ بقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48، والفرقان: 9] (1).
أقول: في قوله: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} أوجهٌ:
أحدها: ما أشار إليه.
الثاني: ما اختاره في آية الفرقان، قال: “يقول: فلا يجدون سبيلًا إلى الحقِّ إلَّا فيما بعثتك به”، وروى نحوه عن ابن عبَّاسٍ (2).
الثالث: فلا يستطيعون سبيلًا إلى ما حاولوه من الطعن في نُبُوَّتك. والسياق يقتضيه، وفي آثار السلف ما يوافقه.
فعلى الوجهين الأخيرين لا كلام، وأما على الأوَّل فالآية كما يدلُّ عليه السياق والآثار إنما وردت في أفرادٍ عاندوا وتمرَّدوا فختم الله على قلوبهم، وسيأتي الكلام على ذلك.
وقد تقدَّم في الأصل الأول (3) عن ابن جرير تأويله (4) قولَه تعالى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119]، ما ينفي قول الجبرية، وتقدَّم هناك (5) ما رواه عن السُّدِّيّ في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
_________
(1) راجع تفسيره 2/ 283. [المؤلف](2) راجع تفسيره 8/ 126. [المؤلف](3) ص 63.
(4) كذا في الأصل، ولعله سقط “عند” أو “في”.
(5) ص 61.
(2/165)
[الأعراف: 89]، وفيه: “فالله لا يشاء الشرك”.
وقد تقدَّم في الأصل الأوَّل (1) حكمة الخلق بما عُلِمَ به يقينًا أن الله تعالى لم يخلق الخلق عبثًا، ولا ليُعْنِتَهُم.
وقال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108]، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [المؤمن: 31]، في آياتٍ كثيرةٍ ينفي الله تبارك وتعالى عن نفسه الظلم. وقد تقدَّم في هذا الأصل (2) كمال عدل الله سبحانه حتى إنه يوم القيامة لا يحكم بمجرد علمه، وفي الحديث القدسي: “يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم … ” إلى أن قال: “يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إيَّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه” (3).
واختلف الناس في معنى الظلم الذي ينفيه الله تبارك وتعالى عن نفسه، فقال الجبريَّة ومَن تابعهم: هو “أن يتصرَّف في غير ملكه” (4).
قال عبد الرحمن: مَن نظر إلى كثرة الآيات في القرآن وتدبَّرها اتَّضح له بطلان هذا التفسير، وعليك أن تعتبر ذلك بأن تجعل التفسير مكان المفسَّر في الآيات كأن تجعل مكان قوله في الآيتين السابقتين “ظلمًا” قولك:
_________
(1) ص 58 فما بعدها.
(2) ص 64.
(3) صحيح مسلمٍ، كتاب البرِّ والصلة، باب تحريم الظلم، 8/ 16، ح 2577. [المؤلف](4) التبصير في الدين للإسفراييني 169، والذين اتبعوا الجبريَّة هم الأشاعرة، انظر: شفاء العليل، الباب 16، ص 241.
(2/166)
“تصرفًا في غير ملكه” وانظر كيف يصير الكلام، وراجع ما قدَّمناه في كمال عدل الله تعالى يوم القيامة.
وقال غيرهم: هو: “أن ينقص عبده من حاقِّ ثوابه أو يعذبه بغير ذنب” (1)، قالوا: وما يُشَاهَدُ في الدنيا من إيلام الأطفال والمعتوهين والبهائم، فكل ذلك مطابق لحكمة الله عزَّ وجلَّ وعدله، فإن لم نعرف وَجْهَ ذلك في بعضها فعدم العلم ليس علمًا بالعدم {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
وغلت القدرية وتجارت بها أهواؤها حتى جحدت علم الله تعالى بالحوادث قبل حدوثها (2)، وربما ضاق الأمر على بعضها فأنكر آيات من القرآن كما سلف عن عمرو بن عبيد (3)، وأحجمت المعتزلة عن هذا الغلوِّ ولكنها تطرَّفت من جهاتٍ:
منها: قولهم: إن العقل يحكم بأن الظلم قبيحٌ محرَّمٌ على الله تعالى، ويحكم بأنه سبحانه ليس له أن يتصرَّف في ملكه إلا بالعدل (4)، وغير ذلك
_________
(1) وهو قول أهل السنَّة، انظر: شرح الطحاويَّة 2/ 679 – 681، وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} قال: لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يُظْلَم فيُزاد عليه في سيئاته، ولا يُظْلَم فيُهْضَم في حسناته. أخرجه الطبريُّ في تفسيره (18/ 379) من طريق علي بن أبي طلحة عنه. وورد نحوه عن مجاهد وقتادة والحسن. انظر: تفسير الطبري (18/ 380)، الدُّرّ المنثور 5/ 601.
(2) انظر: مجموع الفتاوى 8/ 450، شفاء العليل، الباب 21، ص 393.
(3) ص 29، 32.
(4) انظر: مجموع الفتاوى 8/ 91.
(2/167)
من الألفاظ التي يتبادر [ز 41] إلى الفهم منها أنهم يزعمون أن العقل حاكمٌ على الله عزَّ وجلَّ يوجب عليه ويحرِّم ويسأله عمَّا يفعل ويناقشه الحساب. وأهل الحقِّ أغنياء عن تلك المقالات بما تقدَّم في الحديث القدسيِّ “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي” إلى قوله: “فمن وجد خيرًا فليحمد الله” (1).
ومنها: تحريف الآيات الواردة في القضاء والقدر، وردّ الأحاديث الثابتة في ذلك. وعارضهم المُجْبِرة فادَّعوا صراحتها في الجبر، وآل بهم الأمر إلى أن حرَّفوا أضعاف أضعافها من الآيات والأحاديث وجحدوا حكمة الله وعدله، وسمّوا الحكمة غرضًا والعبث اختيارًا والعدلَ عجزًا، وجعلوا خلق الله تعالى وأمره كله لهوًا ولعبًا (2)، بل شرًّا من ذلك؛ فإنَّ اللاهي واللاعب له فائدةٌ مَّا مِنْ لهوه ولعبه.
وأهل الحقِّ أغنياء عن ذلك كلِّه بقول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه” (3).
وما صحَّ عن عبد الله بن عمرٍو قال: هجَّرت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يومًا، قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُعْرَفُ في وجهه الغضب فقال: “إنما
_________
(1) تقدم تخريجه قبل قليل.
(2) انظر: شفاء العليل، الباب 22، ص 435 فما بعدها.
(3) صحيح البخاريِّ، آخر كتاب فضائل القرآن، [بابٌ: “اقرأوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم”]، 6/ 198، ح 5060. صحيح مسلمٍ، أوائل كتاب العلم، [باب النهي عن اتَّباع متشابه القرآن]، 8/ 57، ح 2667. [المؤلف]
(2/168)
هلك مَنْ كان قبلكم باختلافهم في الكتاب” (1).
وتلك الآية التي اختلفا فيها كانت متعلقة بالقدر، فقد أخرج ابن ماجه بسندٍ صحيحٍ عن عمرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه، وجدُّه هو عبد الله بن عمروٍ قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما يُفْقَأُ في وجهه حَبُّ الرُّمَّان من الغضب، فقال: “بهذا أُمرتم أو لهذا خُلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم” (2).
فهم يقبلون كلَّ ما ثبت عن الله ورسوله، ويأخذون بالواضح معناه من ذلك ويتفهَّمون ما عداه، فإذا فهموا نظروا فإن كان إظهار ذلك مما تدعو إليه ضرورةٌ أو لا تترتَّب عليه مفسدةٌ أظهروه، وإن لم يروا لإظهاره ضرورة وخافوا من إظهاره اختلافًا وافتراقًا في الدين وسعهم السكوت.
وقد كان كلام الراسخين في العلم من السلف مجملًا تبعًا لإجمال الكتاب والسنة، وكانوا ينكرون على من حدث من القدرية وجرَّه هواه إلى ما جرَّه كما تقدَّم، فربَّما كان في إنكارهم ما يوهم طرفًا من الجبر، فأراد إمام التابعين الحسن البصريُّ رحمه الله تعالى أن يشرح الأمر، فلامه أهل العلم؛ لأنهم ــ والله أعلم ــ خافوا أن يكون في ذلك تقويةٌ مَّا لبدعة القدريَّة مما يجرُّ كثيرًا من الناس إلى مقالتهم، وفوق ذلك رأوا أن في الشرح والتفسير مخالفةً لصنيع الكتاب والسنَّة من الإجمال، وأنه ربَّما أَدَّى إلى الاختلاف والافتراق في الدين، فَكَفَّ رحمه الله تعالى عن ذلك.
_________
(1) صحيح مسلم، أوائل كتاب العلم، [باب النهي عن اتَّباع متشابه القرآن]، 8/ 57، ح 2666. [المؤلف](2) سنن ابن ماجه، في أوائله، بابٌ في القدر، 1/ 33، ح 85. [المؤلف]
(2/169)
ثم صار الناس يقولون في كلِّ من شَمُّوا منه رائحة الميل إلى الشرح والتفسير: “كان يرى القدر”، قالوا ذلك في الحسن البصريِّ وقتادة وسعيد بن أبي عروبة وابن أبي ذئبٍ ــ الذي قال فيه أحمد بن حنبلٍ: “ابن أبي ذئبٍ أصلح في بدنه وأورع وأقوم بالحقِّ من مالكٍ” (1) ــ، وكذلك قالوا في ابن إسحاق وعبد الوارث بن سعيدٍ وحسَّان بن عطيَّة في خلقٍ كثيرٍ. ولم يكن هؤلاء الأعلام من القدريَّة الذين عُرِفَ عنهم الغلوُّ ولا يقولون مقالات المعتزلة، ولا كان المنكرون عليهم الذين ينسبونهم إلى القدر جبريَّةً، حاشاهم، وإنما الفرق بين الفريقين أن هؤلاء مالوا إلى إظهار شيءٍ من الشرح والتفسير، وهؤلاء يرون أن الصواب أن لا يُظْهَرَ إلا الإجمالُ كما جاءت به السنَّة. ولكن بعد أن ظهرت بدعة الجبريَّة وجَرَّتْ إلى ما جَرَّتْ إليه كما تقدَّم حَقَّ على أهل العلم أن ينكروا عليهم وينزِّهوا السلف الصالح عن بدعتهم، فذلك الذي دعاني إلى بيان ما سمعتَ، وأسأل الله التوفيق.
وإن لم يفهموا (2) عملوا بما أمرهم الله تعالى به في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ [ز 42] مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7 – 8].
واعلم أن الذي استقرَّ عليه قول علماء الأصول من الأشعريَّة وغيرهم منع التكليف بما ليس في الوُسْعِ، ويسمُّونه التكليف بالمحال والتكليف بما
_________
(1) المعرفة والتاريخ 1/ 686، وفي تاريخ بغداد 2/ 302: أصلح في دينه.
(2) معطوف على قوله في الصفحة السابقة: فإذا فهموا نظروا …
(2/170)
لا يُطاق، وإنما يستثنون صورةً واحدةً هي ما عَلِمَ الله تعالى أنه لا يكون، قالوا: قد علم الله تعالى أن أبا جهلٍ لا يؤمن؛ فإيمانه محالٌ، ومع ذلك كان مكلَّفًا بالإيمان (1).
قال عبد الرحمن: هذه الصورة لا يُحْتَاج إلى استثنائها من قول الله عزَّ وجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، ولا من قولهم: لا يكلِّف الله تعالى أحدًا بما لا يطيق؛ لأن علم الله تعالى بعدم إيمان أبي جهلٍ لا ينافي أنه كان في وسعه الإيمان وأنه كان يطيقه ويقدر عليه (2)، ألا ترى أنك تقول: لم أفعل كذا وكان في وسعي أن أفعله أو وكنت أطيقه أو وكنت أقدر على فعله. ولو ضرب رجلٌ ابنك وأنت غائب فلما حضرت قلت له: لو كُنْتُ حاضرًا ما قَدَرْتَ على ضربه، فقال: لم يكن في وسع أحد ولا قدرته حتى رب العالمين (على) (3) منعي من ضربه، لبادَرَ الناس بحقٍّ إلى تكفيره.
ومع نصهم أنه لا يستثنى إلا هذه الصورة البعيدة ففي كلامهم ما يُشْعِرُ باستثناء أخرى هي التي جَرَّتْنا إلى هذا البحث.
قال العضد في مواقفه في الكلام على خلود الكفَّار في النار: “قال الجاحظ والعنبريُّ: هذا في الكافر المعاند (4)، وأما البالغ في اجتهاده إذا لم يهتد للإسلام ولم تَلُحْ له دلائل الحق فمعذورٌ، وكيف يُكَلَّف بما ليس في
_________
(1) قال في تشنيف المسامع بجمع الجوامع 1/ 281 بعد ذكره القول بامتناع تكليف ما لا يطاق ونسبته إلى المعتزلة: “وساعدهم كثير من أئمتنا”.
(2) انظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/ 674.
(3) كذا في الأصل.
(4) زاد السيِّد في شرحه “والمقصِّر”، وسياق المتن يدلُّ عليه. ع. [المؤلف]
(2/171)
وسعه ويعذَّب بما لم يقع فيه تقصيرٌ من قِبَله” (1).
وحكى عياضٌ في الشفاء نحوه عن داود إمام أهل الظاهر وثمامة (2)، قال: “وقد نحا الغزاليُّ قريبًا من هذا المنحى في كتاب التفرقة (3)، وقائل هذا كلِّه كافرٌ بالإجماع على كفر من لم يكِّفر أحدًا من النصارى واليهود وكلِّ مَن فارق دين المسلمين أو وقف أو شكَّ” (4).
قال عبد الرحمن: في نظم عبارة عياضٍ ما فيه على أنه لم يحك عن العنبري ولا عن أحد ممن ذكر معه أنه لا يُكَفِّر أحدًا ممن لم يلتزم الإسلام من النصارى وغيرهم، بل ولا أنه إنما يكفر بعضهم دون بعض، ولا أنه يقول بعذرهم جميعًا. وأما القول بعذر بعضهم (5) فهو في الجملة حق، والعذر لا يستلزم عدم الكفر كما أن الكفر لا يستلزم عدم العذر، ألا ترانا نقول بعذر صبيان الكفار ومجانينهم مع قولنا بكفرهم، وحُكْمِنا عليهم حُكْمَ الكفار في
_________
(1) المواقف: موقف 6، مرصد 2، مقصد 6، مبحث 2.8/ 308 [المؤلف](2) هو ثمامة بن أشرس النميري أحد معتزلة البصرة، كان له اتصال بالمأمون، وتنسب إليه الثمامية من المعتزلة، هلك سنة 213 هـ. انظر: تاريخ بغداد 7/ 147، الأعلام 2/ 100.
(3) فيصل التفرقة 87.
(4) الشفاء، في أواخره، فصلٌ في تحقيق القول في إكفار المتأوِّلين [2/ 280 – 281]. [المؤلف].
(5) كالذين لم يسمعوا بالنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فهم كفَّارٌ، ولكن لا يعذَّب إلا مَن بلغته بعثة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ثم لم يؤمن به، فالمقصود بعذرهم عدم التعذيب في الآخرة لا نفي الكفر عنهم كما سيبيِّنه المؤلِّف بعد قليلٍ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرةٌ تردُّ على مَن قال من أهل التحسين والتقبيح: إن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم) مجموع الفتاوى 8/ 435.
(2/172)
المناكحة والتوريث والدية والكفارة وما يصنع بالميت وغير ذلك؟
وفي المواقف عَقِبَ ما مرَّ: “واعلم أن الكتاب والسنّة والإجماع يُبْطِلُ ذلك، إذ يعلم قطعًا أن كفار عهد الرسول الذين قتلوا وحكم بخلودهم في النار لم يكونوا عن آخرهم معاندين، بل منهم من يعتقد الكفر بعد بذل المجهود، ومنهم من بقي على الشكِّ بعد إفراغ الوسع لكن ختم الله على قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام، ولم يُنْقَلْ عن أحدٍ قبلَ المخالفين هذا الفرقُ” (1).
قال عبد الرحمن: إن كان مراده بدلالة الكتاب والسنة والإجماع ما فيها من أن الكفار مُخَلَّدُون في العذاب فقد بيَّنتها الحجج الدالَّة على أن الله تعالى لا يعذب حتى يقيم الحجة، ولا يكلف نفسًا إلا وسعها، وغير ذلك مما سلف، [ز 43] فإما أن يكون المراد بالكفر في أدلَّة التعذيب كفرًا خاصًّا هو الكفر الحقيقيُّ فلا يدخل فيها الكفر الحكميُّ، كالكفر المحكوم به على صبيان الكفار ومجانينهم وسائر المعذورين، وإما أن تكون (2) من العامِّ المراد به الخصوص أو العامِّ المخصوص، وأدلَّةُ العذر صريحةٌ محكمةٌ فلا بدَّ من حمل ما يوهم خلافها على ما يوافقها.
وإن كان مراده أن الكتاب والسنة والإجماع تدلُّ على أن مَنْ قُتِلَ في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الكفار مُخَلَّدُون جميعهم في النار، فالجواب أن ما كان فيها من دلالة خاصة كما ورد في أبي جهل وأصحاب القليب قليب بدر، فمحمولٌ على أنهم كانوا معاندين أو مقصِّرين، والآثار تدلُّ على ذلك. وما كان فيها من دلالة عامَّة فقد يُقال: تُبَيِّنُها حُجَجُ العذر
_________
(1) المواقف 8/ 308.
(2) أي: أدلة التعذيب.
(2/173)
على ما سمعت آنفًا، ويزاد على ذلك احتمال أن يكون ما في السنَّة والإجماع مَبْنِيًّا على الظاهر أن مَن أصرَّ على الكفر بعد بلوغ الدعوة وطول الإنذار مع ظهور حجج الحق وضعف شبهات الكفار فهو إما معاندٌ أو مقصِّرٌ.
وقول العضد: “إذ يُعْلَمُ قطعًا إلخ” مردودٌ عليه، بل لنا أن نقول: المعلوم خلافه، ولنا على ذلك حجج: منها: ما أسلفنا أنهم كانوا قائمة عليهم الحجة قبل البعثة لتقصيرهم، فما ظنك بهم بعدها؟
ومنها: ما أسلفناه (1) فيما يلزم مَنْ بلغه بعثة نبيٍّ.
ومنها: أن شبهات الكفار كانت ضعيفةً، مَنْ تأمَّلَهَا عَرَفَ أنه لا يتفكر فيها عاقل إلا بان له بطلانها أو ضعفها، فَمَنْ لم يكن منهم تفكَّر فيها قبل البعثة فلا ريب أن خبر البعثة يدعوه إلى التفكُّر فيها، فإن لم يفعل فهو مقصِّرٌ؛ وإن تفكَّر فلا بدَّ أن يظهر له ضعفها إلا أن يُقَصِّر في النظر لما غلب عليه من الغرام بما أَلِفَ واعتاد وأدرك عليه الآباء والأجداد فهو مقصِّرٌ. ومَن نظر ولم يقصِّر ظهر له ضعفها فلا بدَّ أن يرجو أن يجد عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما هو خير منها. هذا إن لم يبلغه هنا ما يورث علمًا أو ظنًّا بصدقه، فإن لم يَسْعَ ليعرف ما عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فهو مقصِّر، وإن تعرَّض لمعرفتها ولكن هواه وغرامه بما كان عليه هو وآباؤه واستكباره عن أن يقبل الحق حالت بينه وبين أن ينظر حق النظر فهو معاندٌ مقصِّرٌ أخذ من كلٍّ منهما طرفًا.
وإن نظر مخلصًا للحق راغبًا فيه حريصًا على إصابته فإننا بما نعلم من ظهور حجج الحق وَوَهَنِ شبهات الشرك نعلم أنه لا بدَّ أن يتبيَّن له صدقُ الرسول أو على الأقلِّ يتبين له أنَّ ما يدعو إليه الرسول خيرٌ من الكفر، فإن لم
_________
(1) ص 128.
(2/174)
يتَّبعه فهو معاندٌ أو معاندٌ ومقصِّرٌ معًا.
هذا وقد مكث النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل القتال نحو خمس عشرة سنةً يدعو الناس ويعرض نفسه عليهم، واتَّبعه على ذلك مَنْ اتَّبعه، حتى اتَّبعه الأنصار وهم مِنْ أقرب الناس إلى معرفة الدِّين لمجاورتهم أهلَ الكتاب. بل واتبعه بعض علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وشاع عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل النبوَّة ما شاع من شرف المحتد وكرم الأخلاق وغير ذلك، ثم شاع عنه بعد النبوَّة ما يدعو إليه من تعظيم الله عزَّ وجلَّ والأمر بالعدل والإحسان وصلة الرحم والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وشاع عنه أشياء من المعجزات وغير ذلك. فَمَنْ أصرّ من الكفار بعد ذلك كلِّه على الكفر وغضب له فقاتل عليه حتى قُتِل فلا يكون إلا معاندًا أو مقصّرًا، وحسبك في عنادهم قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
وقد أوضح الله تبارك وتعالى حال الكفار الذين يستحقُّون النار بقوله سبحانه: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [ز 44] أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [خواتيم الجاثية].
وقال عزَّ وجلَّ: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا
(2/175)
فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 6 – 11].
ومن الحجج: أننا قد علمنا من النصوص القاطعة التي تقدَّم بعضها أن الله تبارك وتعالى لا يعذب إلا معاندًا أو مقصِّرًا، فإذا ثبت بحجة واضحة أن كلَّ مَنْ قُتِلَ مِنَ الكفار في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُعَذَّبون عَلِمْنَا أنهم كانوا بين معانِدٍ ومقصِّرٍ.
ومنها: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [خواتيم العنكبوت].
السورة مكِّيَّةٌ كما نصُّوا عليه (1) ونقلوه عن ابن عبَّاسٍ (2) وابن الزُّبير (3)
_________
(1) انظر: تفسير الكشَّاف 3/ 182، وأنوار التنزيل 524، وتفسير النسفي 3/ 360، وتفسير الجلالين 407، وتفسير أبي السعود 7/ 29. وحكى الخلاف في ذلك ابن الجوزي في زاد المسير 6/ 253، وأبو المظفر السمعاني في تفسيره 4/ 165، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 16/ 333، والآلوسي في روح المعاني 20/ 132، والشوكاني في فتح القدير 4/ 191. ولا يخفى رجحان القول بمكِّيَّة السورة لثبوت ذلك عن ابن عبَّاسٍ كما سيأتي.
(2) أخرجه النحَّاس في الناسخ والمنسوخ 2/ 316، ح 465، من طريق مجاهدٍ عنه بسندٍ حسنٍ.
(3) رواه ابن مردويه كما في الدُّرِّ المنثور 6/ 449.
(2/176)
وجماعة من التابعين (1)، وتَدَبُّرها يقضي بذلك، واستثنى بعضهم آيات من أوائلها وأثنائها (2)، فعلى كلِّ حال هاتان الآياتان مَكِّيَّتَان، والقتال إنما شُرِعَ بالمدينة.
وتفسير (جاهدوا) بـ (قاتلوا) يُخِلُّ بحُسْن الكلام وبديع نظمه، بل الذي يقتضيه النظم أن يكون المراد بالجهاد هنا هو دفاع الهوى والشبهات. لَمّا قضى في الآية الأولى بهلاك مَنْ افترى على الله كذبًا أو كذَّب بالحق لما جاءه، وكِلا هذين مما يدعو إليه الهوى والشبهات، فقابل ذلك في الآية الثانية بمن جاهد الهوى والشبهات في سبيل الحقِّ فرارًا من الافتراء والتكذيب، وتكفَّل الله سبحانه وتعالى لمن فعل ذلك أن يهديه سبله. والله أعلم.
وقد اعترف العضد بأن مِن قَتْلَى الكفار مَن كان معاندًا ومَن كان مقصِّرًا، ثم زعم أن فيهم مَن بذل المجهود واستفرغ الوسع فبقي معتقدًا للكفر أو على الشكِّ (3). ومعلوم أنَّ مَنْ نظر وهو مستكبرٌ عن الحق متعصِّبٌ لما أَلِفَهُ وأدرك عليه سلفه فلم يبذل المجهود ولا استفرغ الوسع. وعليه فالمدَّعى أنَّ منهم مَنْ بذل المجهود واستفرغ الوسع راغبًا في الحق حريصًا على إصابته، فنقول: صاحب هذه الصفة مجتهد ليعرف الحق عند الله فيتبعه، فهو مجاهد في الله وهو آتٍ بما أوجبه الله عليه، فهو محسن، ومن كان كذلك فلا بدَّ أن
_________
(1) منهم: عكرمة والحسن البصري. أخرجه البيهقي في دلائل النبوَّة، باب ذكر السور التي نزلت بمكَّة والتي نزلت بالمدينة، 7/ 143، من طريق يزيد النحويِّ عنهما بسندٍ حسنٍ. ومنهم: قتادة. أخرجه ابن الأنباري كما في الإتقان 1/ 57.
(2) انظر: الإتقان في علوم القرآن 1/ 95 – 96.
(3) انظر شرح المواقف 8/ 207 – 208.
(2/177)
يهديه الله تعالى كما صرحت به الآية. ومن قُتِلَ كافرًا فلم يهده الله تعالى، فلم يكن مجاهدًا محسنًا، فلم يكن ممن بذل مجهوده واستفرغ وسعه راغبًا في الحق حريصًا على إصابته، فانكسر ساعد العضد واتَّضح أن قوله “إذ يُعْلَمُ قطعًا إلخ” دعوى باطلة.
أما قول العضد: “ولكن ختم الله على قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام”، فهذه مسألة القدر وقد تقدَّم طرفٌ منها، ويكفينا هنا أن نقول: قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [خواتيم العنكبوت].
بيَّنت هذه الآية وآياتٌ أخرى في معناها أن الله تعالى إنما يُضِلُّ مَنْ سَبَقَ منه ما يستحقُّ به العذاب، وآية الختم نفسها تدلُّ على هذا، قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، إلى أن قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [ز 45] لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 1 – 7]؛ فأخبر بسبق كفرهم.
وقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} مما يُسْتَشْكَل؛ لأن كثيرًا من الكفار نفعهم الإنذار فآمنوا. وحَلُّه فيما يظهر لي: أن المراد بالكفر في قوله {كَفَرُوا} كفرٌ خاصٌّ هو أشدُّ أنواع الكفر وهو ما يكون عن عنادٍ واستكبارٍ وتمرُّدٍ شديدٍ.
وما روي عن بعض السلف أن المراد أحبار يهود الذين علموا أن محمَّدًا رسول الله، ثم جحدوا وأصرُّوا على الجحود، وعن بعضهم أن
(2/178)
المراد جبابرة المشركين الذين أُلْقُوا في قليب بدر لا يخالف ما ظهر لي؛ فإن كثيرًا من تفاسير السلف يخرج مخرج التمثيل كما نبَّه عليه أهل العلم (1).
هذا، وسياق الآية يدلُّ أن الختم وما معه ضربٌ من العقاب، ولهذا عطف عليها قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وفي روح المعاني: “إسناد الختم إليه عزَّ وجلَّ باعتبار الخلق، والذمُّ والتشنيع الذي تشير إليه الآية باعتبار كون ذلك مسبَّبًا عما كسبه الكفار من المعاصي كما يدل عليه قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وإلا أشكل التشنيع والذمُّ على ما ليس فعلهم. هكذا قاله مفسرو أهل السنة عن آخرهم فيما أعلم” (2).
وأما آية الشرح فهي قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} إلى قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 124 – 125].
ففي الآية الأولى مثالٌ مِنْ عنادهم، وفي الآية الثانية أن الإضلال
_________
(1) انظر: مقدِّمة في أصول التفسير 43، إذ تبيِّن أن غالب ما يثبت عن السلف من الخلاف في التفسير هو اختلاف تنوُّع، وهو نوعان، أحدهما: أن يعبِّر كلٌّ منهم عن المراد بعبارةٍ غيرِ عبارة صاحبه تدلُّ على معنىً في المسمَّى غيرِ المعنى الآخر مع اتِّحاد المسمَّى. والنوع الثاني: أن يذكر كلٌّ منهم من الاسم العامِّ بعض أنواعه على سبيل التمثيل.
(2) روح المعاني 1/ 132.
(2/179)
وتحريج الصدر إنما يجعله الله تعالى على الذين لا يؤمنون.
وقد قصَّ الله تعالى دعاء موسى وهارون على فرعون وملئه، وفيه: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 88 – 89] لَمَّا عَلِمَا عناد فرعون وملئه ــ كما قال تعالى بعد ذكر ما أراهم من الآيات: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]ــ عَلِمَا أنهم قد استحقُّوا العذاب الأليم وأحبَّا أن ينالهم البتَّة.
فالختم والشَّدُّ على القلب عقوبةٌ يعجِّلها الله عزَّ وجلَّ لمن كفر واستكبر وعاند وتمرَّد.
فإن قيل: فالمختوم على قلبه هل يبقى مكلَّفًا؟ قلت: نعم، أمَّا بترك الأقوال والأفعال التي هي فجورٌ أو كفرٌ فظاهرٌ؛ إذ الختم على القلب لا يمنع مِن تركها، وأمَّا بأصل الإيمان فللتكليف أثران: الدعوة والمؤاخذة، فالدعوة قد يقال: لا فائدة لها؛ إذ قد عُلِمَ أنه لا يؤمن ولم يقع الختم حتى قامت الحجة على أَتَمِّ ما يكون، وقد قال الله تعالى لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29] في وقت الصعق والجنون والختم على القلب. [ز 46] وقال سبحانه: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [خاتمة سورة ق]، وقال تبارك وتعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9].
وقد يقال: دلالة هذه الآيات غير واضحة ولا يخلو تجديد الدَّعوة عن فائدةٍ، والله أعلم.
(2/180)
وأمَّا المؤاخذة فهو مؤاخَذٌ على أقواله وأفعاله كما علمْتَ، وعلى عدم الإيمان؛ إذ المانع عن الإيمان ليس هو الختم فحسب بل الهوى وبغض الحق والاستكبار الذي منعه قبل الختم باقٍ وهو بعد الختم المانعُ في الظاهر، وهو مانعٌ آخر في الباطن. فمؤاخذته بالنظر إلى هذا المانع لا إشكال فيها وإنما هو كمن كان ممتنعًا عن أداء الزكاة بُخْلًا ثم عرض له ذو سطوة فَوَكَّلَ به مَنْ يلازمه قائلًا: إن أدَّيت الزكاة قتلتك، فما دام المانع الذي في نفسه وهو البخل قائمًا فهو آثم ولا ينفعه وجود المانع الآخر وهو الإكراه.
ومع ذلك فإن مانعيَّةَ الختم هي أثر الختم، والختم أثر عناده الذي كان باختياره. واختيارُ الأمر المنهيِّ عنه يُعَدُّ اختيارًا لما يترتَّب عليه من المفاسد ولو مع الجهل والعجز؛ فإن الله تبارك وتعالى إذا نهى عن أمرٍ عُلم أنه يترتَّب عليه مفاسد إن عَرَف الإنسان بعضها خفي عنه بعضها، وإنما يحيط بها الحكيم العليم جَلَّ وعلا، فإذا اختاره الإنسان كان مختارًا لكلِّ ما يترتب عليه من المفاسد على وجه الإجمال. قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25].
وقصَّ سبحانه قصَّة قتل ابن آدم أخاه، ثم قال: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وفي الحديث: ” … ومَنْ سنَّ في الإسلام سنَّةً سيِّئَةً فَعُمِلَ بها بعده كُتِب عليه مثلُ وِزر مَن عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيءٌ” (1).
_________
(1) صحيح مسلمٍ، كتاب العلم، باب مَن سنَّ سنَّةً إلخ، 8/ 61، ح 1017. [المؤلف]
(2/181)
ورواه غيره بلفظ: ” … ومَنْ سنَّ سنَّةً سيِّئَةً فَعُمِلَ بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئًا” (1).
وقوله في الرواية الأولى: “في الإسلام” ليس بقيدٍ، وإنما فائدته ــ والله أعلم ــ التنصيص؛ لئلا يتوهَّم أن هذا الحكم خاصٌّ بمن قبلنا وأنه من الإصر المرفوع عنا، فتدبَّرْ.
وفي الحديث: “لا تُقتل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها؛ لأنه كان أوَّلَ مَن سَنَّ القتل” (2).
وليس هذا من التكليف بما لا يُطاق، وإنما هو أثر التكليف بالأمر الأوَّل. فالإنسان منهيٌّ عن الإحداث في الدين، قائمةٌ عليه الحجَّة بأن الله عزَّ وجلَّ إذا نهى عن شيءٍ فإنه تترتَّب عليه مفاسد لا يحيط بعلمها إلا هو، فإذا أقدم على الإحداث فقد اختار كلَّ ما يترتَّب عليه كما مرَّ. وعقوبة الذنب على مقدار ما تحقَّق من شرِّه، فكلَّما عَمِل عاملٌ بتلك المحدثة تحقَّق لإحداث المُحْدِث الأوَّل شرٌّ جديد، فلا تزال تضاعف عليه العقوبة بمقدار ما يتضاعفُ من الشَّرِّ والعياذ بالله.
هذا، وقد قال أهل العلم: إن المتعدِّيَ بسُكْرِه مؤاخَذٌ بما يقع منه وهو سَكْران (3). والعقل لا ينكر هذا، ألا ترى لو أن ثلاثة نفرٍ سَكِرُوا؛ أما أحدهم
_________
(1) سنن ابن ماجه، باب مَن سنَّ سنَّةً إلخ، 1/ 74، ح 203. [المؤلف](2) صحيح مسلمٍ، كتاب القسامة، باب بيان إثم مَن سنَّ القتل، 5/ 106، ح 1677. صحيح البخاريِّ، كتاب الاعتصام [بالكتاب والسنَّة]، باب إثم مَن دعا إلى ضلالةٍ أو سنَّ سنَّةً سيِّئةً، 9/ 103، ح 7321. [المؤلف](3) انظر: الأم للشافعي 6/ 646، والأشباه والنظائر للسيوطي 216.
(2/182)
فسقاه الطبيب دواءً لا يدري أنه مسكرٌ، وأما الآخران فتعمَّدا شرب [ز 47] الخمر. فأما الأوَّل فاشتدَّ به السكر وعَرْبَد حتى وقع على أخته وقتل أمَّه وكذلك وقع لأحد المتعمِّدين. وأما الثالث فضُبِطَ وأُغْلق عليه بيت حتى أفاق، أفلا ترى أن جُرْم الثالث في صدور الناس دون جرم الثاني بكثيرٍ، وأما الأوَّل فلا يرون له جرمًا، وإن نَفَرَتْ منه الطباع عَذَرَتْهُ العقول.
ولو أنَّ ثلاثة نفر عَمَد كلٌّ منهم إلى رجلٍ مصوِّبًا بندقيته إليه ورماه عامدًا لقتله، فأخطأ أحدهم، وأصاب الثاني فجرح، وأصاب الثالث فقتل، لكانت أجرامهم متفاوتةً في حكم الله عزَّ وجلَّ وفي عقول الناس مع أن أصل فعلهم الذي وقع بأصل اختيارهم واحدٌ.
بقي قول العضد: “ولم يُنْقَلْ عن أحد قبل المخالفين هذا الفرقُ”، وقد يجاب بمنع عدم النقل، كيف وقد نقل القول بمنع التكليف بما لا يطاق، وهذه المسألة من فروعه وإن لم تُنْقَلْ بخصوصها. ولعلَّهم إنما سكتوا عنها لأنه لا يُعْلَم صدق اليهودي مثلًا في قوله: “قد تدبَّرتُ حجج الإسلام وبذلتُ المجهود واستفرغتُ الوُسْع راغبًا في الحقِّ حريصًا على اتِّباعه فتبيَّن لي بطلان الإسلام”. ولم يُفَرِّق الشرعُ بين مَن يَدَّعي هذه الدعوى وغيره من الكفَّار المصرِّحين، فرأوا أن البحث في نجاته في الآخرة إن صدق بحثٌ قليل الجدوى وتنشأ عنه مفاسد لا تحصى.
قال عبد الرحمن: الصواب ما قدَّمته أن حجج الإسلام واضحةٌ، وشبهات الكفر واهيةٌ، وقد تكفَّل الله تعالى لمن جاهد فيه محسنًا أن يهديه ويكون معه، فإطلاق السلف أن كلَّ مَن بلغته الدعوة وأمكنه النظر فلم يُسْلِمْ هالكٌ، حقٌّ واضحٌ؛ فإن مَن كان كذلك لا يكون إلا مُقَصِّرًا أو معاندًا. ومَن
(2/183)
قال: “إن مَن استوفى مجهوده مخلصًا للحقِّ فظهر له أن الحقَّ في غير الإسلام فلم يُسْلِمْ فهو معذور عند الله تعالى”، فليس في هذا القول شناعة ولا مخالفة للسلف إلا في تَوَهُّمِ الإمكان. فأمَّا مَنْ قال بالإمكان أو قضى بالوقوع كما صنع العضد ثم قضى بعدم العذر فهو المخطئ. والله المستعان.
فإن قال قائلٌ: إن آية الجهاد على ما فسَّرْتَها به تَسُدُّ باب الأعذار كلِّها لحَصْرها الأقسام في مهديٍّ ومعاندٍ ومقِّصرٍ، والمهديُّ مصيبٌ والمقصِّرُ لا يستحقُّ العذر. فعن هذا أجوبةٌ: أخصرها: أن قوله تعالى: {سُبُلَنَا} المراد بها سبل النجاة عنده سبحانه، كما قال سبحانه في صفة القرآن: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]، والسَّلام هو السَّلامة كما نصَّ عليه أهل التفسير (1).
ومما يبيِّن ما قلناه جمعُ السبل في الآيتين، وسبيل الحقِّ في نفس الأمر واحدٌ، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
فللحقِّ في نفس الأمر سبيلٌ واحدٌ، وللنجاة والسلامة سبلٌ، أوَّلها: سبيل الحقِّ في نفس الأمر وهو المتعين بالنظر إلى أصل الدين في حقِّ المكلَّف الذي بلغته الدعوة، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
_________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن 7/ 386، تفسير القرآن العظيم 3/ 63.
(2/184)
وثانيها: سبيل بَذْلِ الوسع.
وثالثها: سبيل الإتيان بما كُلِّفَ به من البحث وهو دون الوسع. وهذا قد يكون مع حرمة الاستقصاء أو كراهيته أو إباحته أو استحبابه، كالقاضي يتَّجِه له الحكم بدليلٍ ظنِّيٍّ فيحرم عليه أن يقول: لا أقضي حتى أراسل علماء الأرض كلَّهم، فلعلَّ عند بعضهم دليلًا يخالف ما ظهر لي، ويُكْرَه له التأخير حتى يُسَائِلَ علماء البلدان القريبة، وقد يُباح له أن يؤخِّر حتى يُسائِل علماء البلد إذا كانت القضيَّة متوسِّطةً، ويُستحبُّ له إذا كانت كبيرةً كالقتل.
ويمكن تعداد سبلٍ أخرى، وفيما ذُكِرَ كفايةٌ إن شاء الله تعالى.
[ز 48] فإن قيل: فإن الآية الأولى (1) ونظائرها من القرآن تنصُّ على هلاك مَن كذب على الله تعالى أو كذَّب بالحقِّ، والخطأ في الدِّين لا يخرج عن ذلك، فمن أخطأ في النبيذ المسكر يقول: إن الله أَحَلَّه، وهذا خبرٌ عن الله تعالى، فإذا كان غيرَ مطابق للواقع فهو كذبٌ، ويردُّ قولَ مخالفه، فإذا كان حقًّا ففي ردِّه إياه تكذيبٌ له، ويَرُدُّ الأدلَّة التي يستدلُّ بها مخالفه وهي من جملة حجج الله وآياته، ففي ردِّه لها تكذيبٌ لها، أفلا يكون كاذبًا على الله تعالى مُكَذِّبًا بالحقِّ والآيات؟
فالجواب: أن الحكم الأول هو أنه لا أظلم ممن افترى على الله كذبًا. وافتراء الكذب هو اختلاقه، وذلك أن الخبر يتضمَّن خبرًا آخر، فالقائل “أحلَّ الله النبيذ المسكر”. يتضمَّنُ خبرُه خبرًا آخر صورته: “وأنا أعتقد أن الله تعالى أحلَّ النبيذ المسكر”، فافتراء الكذب هو عدم مطابقة كلٍّ من الخبرين
_________
(1) 68 من سورة العنكبوت.
(2/185)
للواقع بأن يكون الله تعالى لم يُحِلَّ ويكون المخبر لا يعتقد أن الله أحلَّ. فأما إذا كان الله تعالى لم يُحِلَّ ولكنَّ المخبر يعتقد أنه أَحَلَّ فليس بمفترٍ، ومن أهل العلم مَن يقول: وليس هو بكاذب أيضًا. فإنْ بَنَيْنَا على قول الجمهور ــ أنه يَصْدُق على مثل ذلك أنه كذبٌ ــ فإننا نقول: الحكم في الآية منصبٌّ على الافتراء لا على مطلق الكذب، وكذلك في نظائرها من الآيات.
فأما قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]، فهذه الآية وإن لم تقيَّدْ بالافتراء لكنها عطفت التكذيب بالواو، فأفهمت أن الحكم منصبٌّ على مَنْ جَمَعَ بين الكذب والتكذيب بخلاف بقيّة الآيات، فإنها لَمَّا قيدت بالافتراء عطفت التكذيب بأو، فأفهمت أن الحكم منصبٌّ على كلٍّ من الرجلين أعني مَن انفرد بافتراء الكذب على الله، ومَن انفرد بالتكذيب بالحق لما جاءه أو بآيات الله. وبعض الآيات تقتصر على أحد الأمرين، كقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15]، وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 157]، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [الجُرُز: 22].
وأمَّا قوله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18]، فواضحٌ أن المعنيَّ بقولهم: {كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أُريدَ به: افترَوْا عليه الكذب، كما تصرِّح به أوَّلُ الآية.
(2/186)
وأما قوله تبارك وتعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 59 – 60]، فلا يخفى أن قوله {كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} هو في قومٍ جمعوا بين الكذب والتكذيب بالآيات استكبارًا كما يُبيِّنُه أوَّلُ الآية وآخرُها.
وأما الحكم الثاني فهو أنه لا أظلم ممن كذَّب بالحقِّ لما جاءه، فالتكذيب هو نسبة الخبر إلى الكذب بأن يقول: هذا كذبٌ، وفي معناه أن يُعْرِضَ عنه ويستمرَّ على خلافه كما نَبَّهَتْ عليه آية الجُرُز. والحقُّ والصدق المراد به ــ والله أعلم ــ ما هو حقٌّ وصدقٌ في دين الله في نفس الأمر وإن لم تقم الحجَّة بأنه حقٌّ؛ فإن الآيتين لم تُفَصِّلا ولكن التكذيب مُقَيَّدٌ بوقوعه وقت مجيء الحق بقوله في الأولى: {لَمَّا جَاءَهُ} وفي الثانية: {إِذْ جَاءَهُ}. والمعنى أنه لم يَكَدْ يسمع الحقَّ حتى بادر إلى تكذيبه بدون نظرٍ ولا تفكُّرٍ ولا تأمُّلٍ ولا تدبُّرٍ، فهو كالحاكم الذي يجيئه المتظلِّمُ فلا يكاد يَعْرِفُ أنه متظلِّمٌ حتى يُكَذِّبَه بدون نظرٍ في شكواه، وهذا من أشدِّ الظلم في الناس؛ لأنه [ز 49] ظَلَمَه بعدم إنصافه وبعدم سماع شكواه وبتكذيبه، فمَنْ فعل مثل هذا بالحق الجائي عن الربِّ عزَّ وجلَّ فذاك الذي لا أظلم منه. وأما مَنْ كذَّبَ بالحق في دين الله وقد قامت به الحجة فهو المعبَّرُ عنه بالتكذيب بآيات الله، وهي حججه الظاهرة كما يقال لأعلام الطريق الظاهرة: آيات. وهذا أيضًا لا أظلم منه، فإن الآيات التي عبَّرت بالتكذيب بآيات الله لم تُقَيِّد التكذيب بكونه وقت المجيء، بل تقدَّم في آية الجُرز: {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا}. وهذا إن كان المكذِّبُ بالحق أظلم منه من جهة أنه كذَّبه ولم ينظر فهذا أظلم من جهة
(2/187)
أنه كذَّب وقد بان له الصدق.
فتحصَّل من الآية أنه لا أظلم من اثنين: أحدهما: مَن افترى على الله كذبًا. الثاني: مَن كذَّب بالحق في دين الله وقت ما جاءه، وعُلِمَ من بقيَّة الآيات أن مِثْلَه مَن كذَّب بآيات الله وهي حججه الواضحة أو أعرض عنها. وخرج عن الآية مَنْ أخبر عن الله عزَّ وجلَّ بما يعتقده واقعًا وهو في نفس الأمر غير واقع، ومن جاءه الحقُّ في دين الله فنظر وتدبَّر فلم تتبيَّن الحجة فكذَّبه أو أعرض عنه.
فتبيَّن بحمد الله عزَّ وجلَّ أن الآية لا تَسُدُّ باب العذر على المخطئين.
فإن قلت: خروج هذين عن الآية إنما معناه خروجهما عن الأظلميَّة، ولا يلزم من ذلك خروجهما من الظلم، قلت: نعم، ولا يستلزم دخولَهما في الظُّلم.
فإن قلت: فما حالهما؟ قلت: المخطئ إن دخل في الآية الثانية فهو على سبيلٍ مِنْ سُبُل النجاة كما عَرَفْتَ، وإلا فهو المقصِّر، فإن أدَّاه تقصيره إلى عدم التزام الإسلام فهالكٌ لا محالة كما سلف، وأمَّا إذا كان ملتزمًا للإسلام فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
الأمر الثالث (1): قال ابن جرير: “الوُسْع: الفُعْلُ، من قول القائل: وَسِعَني هذا الأمر فهو يسعني سعةً، ويُقال: هذا الذي أعطيتك وُسْعِي، أي: ما يَتَّسِع لي أن أعطيك فلا يضيق عليَّ إعطاؤكَه، وأعطيتك من جهدي إذا
_________
(1) مما ينبغي أن يستحضره مَن أراد التحقيق في مسألة الحكم بالردة، وتقدم الأمران الأول والثاني ص 164.
(2/188)
أعطيتَه ما يجهدك فيضيق عليك إعطاؤه، فمعنى قوله {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233] هو ما وَصَفْتُ من أنها لا تُكَلَّف إلا ما يَتَّسِعُ لها بذلُ ما كُلِّفَتْ بَذْلَه فلا يضيق عليها ولا يجهدها” (1).
وروى في موضعٍ آخر عن ابن عبَّاسٍ “قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] قال: هم المؤمنون، وسَّع الله عليهم أَمْرَ دينهم فقال الله جلَّ ثناؤه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 87]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (2).
قال عبد الرحمن: المقصود هنا معرفة معنى الوُسْعِ، فأمَّا العموم والخصوص فقد مضى الكلام فيه.
وقال الراغب: “والوُسْعُ من القدرة ما يَفْضُلُ عن قَدْرِ المكلَّف، قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} تنبيهًا أنه يُكَلِّف عبده دُوَيْنَ ما ينوء به قدرته” (3).
وفي الشريعة مواضع توضِّح ذلك، منها: أن الله تعالى لم يكلِّف الأعراب الذين أسلموا ولَمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم لزومَ المسجد وسماعَ القرآن ونحو ذلك مما من شأنه أن يكسبهم الإيمان.
_________
(1) تفسيره: 2/ 283. [المؤلف](2) تفسيره: 3/ 95. [المؤلف].
(3) المفردات 870.
(2/189)
ومنها: ما سبق أنه كان يخفى على العرب شيء من دقائق معنى الإله والعبادة، ولم يكن النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [ز 50] يُلْزِمُ مَن أسلم أن يتعلَّم جميعَ ذلك على الفور، بل رُبَّما كان أحدُهم يُسْلِم فيأمره لوقته أن يذهب للجهاد.
ومنها: حديث “اتَّقُوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل” (1)، ولم يأمرهم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يستفرغوا أوقاتهم في التعلُّم، بل أرشدهم أن يقولوا: “اللهم إنا نعوذ بك مَن أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم”.
ومنها: أن المسلمين مِنْ عهد الصحابة وهَلُمَّ جرًّا كانوا يكتفون ممن يقبل الإسلام من الأعاجم بأن يُلَقِّنَهُ مسلمٌ الشهادتين ويُفَسِّرَ له معناهما كما تيسَّر، ولا يُلْزِمونه أن يسائل كلَّ مَن لقيه من أهل العلم، ولا أن يرتحِل إليهم فيسائلهم حتى يعلم اتفاقهم، ولا أن يبادر إلى تعلُّم العربية والقرآن وتفسيره والسنَّة حتى يحصل له المعرفة التامَّة، بل لا نعلمهم أوجبوا أن يتعلَّم من القرآن إلا ما لا بدَّ منه لصحَّة الصلاة ولا نعلمهم أوجبوا معرفة تفسير ذلك.
وقريبٌ من كلمة الوُسْعِ كلمتا الاستطاعة والطَّاقة، وقد فُسِّر قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] بوجدان الزاد والراحلة، وذلك دون المجهود.
وفي الصحيحين وغيرهما من طرقٍ حديث المعراج وفيه قول موسى لمحمَّدٍ عليهما الصلاة والسلام في المراجعة في فرض الصلوات: “إن أمَّتك
_________
(1) سبق تخريجه في ص 54 – 55، 143 فما بعدها.
(2/190)
لا تستطيع ذلك” (1)، وفي رواياتٍ: “لا تطيق ذلك” (2) حتى قال له ذلك في خمس صلواتٍ.
وقال الراغب: “فقوله: {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي ما يصعب علينا مزاولته، وليس المعنى: لا تُحَمِّلْنا ما لا قدرة لنا به” (3).
وفي الصحيح من حديث عمران بن الحصين، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الصلاة، فقال: “صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ” (4).
قال أهل العلم: المراد بنفي الاستطاعة وجود المشقَّة الشديدة. راجع فتح الباري، شرح الحديث المذكور (5).
وفيه أن عند الطبرانيِّ من حديث ابن عبَّاسٍ: “يصلِّي قائمًا، فإن نالته مشقَّةٌ فجالسًا، فإن نالته مشقَّةٌ صلَّى نائمًا” (6).
_________
(1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، بابٌ كيف فُرِضت الصلاة في الإسراء؟ 1/ 79، ح 349. ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب الإسراء بالرسول، 1/ 103، ح 163، من طريق ابن شهابٍ، عن أنسٍ، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التوحيد، بابٌ: “وكلَّم الله موسى تكليمًا”، 9/ 150، ح 7517. من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمرٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.
(3) المفردات 532.
(4) صحيح البخاريِّ، [أبواب تقصير الصلاة]، بابٌ إذا لم يُطِقْ قاعدًا صلَّى على جنبٍ، 2/ 48، ح 1117. [المؤلف].
(5) 2/ 397.
(6) انظر: المعجم الأوسط 4/ 210، ح 3997، وقال: “لم يروِ هذا الحديثَ عن ابن جريجٍ إلا حَلْبَس … ” يعني: ابنَ محمَّدٍ الضُّبَعيّ. قال الهيثميّ: “ولم أجدْ مَن ترجمه، وبقيَّة رجاله ثقاتٌ”. مجمع الزوائد 2/ 348. وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 555: في إسناده ضعف.
(2/191)
وفي صحيح مسلمٍ من حديث أبي سعيد الخدريِّ، سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: “مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه (1)، وذلك أضعف الإيمان” (2).
المراد بعدم الاستطاعة في الحديث أن يخاف على نفسه ضررًا، ولذلك عُدَّ الاقتصار على الإنكار بالقلب أضعف الإيمان، فإنَّ قويَّ الإيمان لا يَصُدُّه خوفُ الضرر عن أن ينهى عن المنكر. فأما العاجز البتَّة كمن كان مقعدًا أخرس ورأى منكرًا بعيدًا عنه فأنكره بقلبه فلا يتعيّن أن يكون هذا من أضعف الإيمان، بل إذا صمّم بقلبه على أنه لو كان يمكنه المشي لمشى إلى ذلك المنكر حتى يغيِّره بيده كان ذلك من أقوى الإيمان. والله أعلم.
وقد يُعْتَرَضُ ما تقدَّم بوجهين:
الأول: أن حَمْل الوُسْع والطاقة والاستطاعة على ما فيه مشقَّةٌ شديدةٌ يقضي على تلك النصوص بالإجمال، وذلك أن المشقَّة الشديدة لا تنضبط كما اعترفوا به في تقرير عِلَّة قَصْرِ الصَّلاة، قالوا: إنَّ أصل الباعث على ذلك المشقَّة لكن لعدم انضباطها ضبطها [ز 51] الشارع بالسفر (3)، ولا يمكن
_________
(1) في الأصل: “فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فبلسانه”.
(2) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان … [وفي الأصل: باب تغيير المنكر إلخ]، 1/ 50، ح 49. [المؤلف](3) انظر: شرح المحلِّي على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/ 279.
(2/192)
ضبطها بالعرف لاضطرابه، وقد دلَّت مسألة القصر على عدم اعتباره، ولا يُقال: كلُّ إنسان فقيهُ نفسه؛ لأن ذلك يؤدِّي إلى تساهل أكثر الناس وتسامحهم.
الوجه الثاني: أن من المشاقِّ الشديدة ما ألغاه الشارع وكَلَّف بما هو فيه، مِنْ ذلك تكليفُ الكافر بالإسلام مع أنه يشقُّ عليه مشقَّةً شديدةً أن يَدَعَ دينًا قد أَلِفَهُ واعتاده وأدرك عليه آباءه وأجداده. ومِنْ ذلك تكليف مَنْ هام بامرأة وصادفها في خلوةٍ وتمكَّن منها أن لا يَقْرَبَها مع أنه يشقُّ عليه الانكفاف عنها مشقَّةً شديدةً. ومِنْ ذلك تكليفُ مَنْ أدمن الخمر في كفره ثم أسلم بأن يجتنبها، واجتنابها بدون تدريجٍ يشقُّ عليه مشقَّةً شديدةً.
والجواب عن الوجه الأوَّل بتسليم الإجمال في الجملة، ولكن الشريعة قد تضمَّنَتْ ما يُرْشِد إلى التفسير، ولكنها ترَكت مجالًا للاختلاف لحِكَمٍ عديدةٍ، منها: ما تقدم في الأصل الثاني. ومنها: ما سيأتي في الكلام على التقليد. ومنها: توسعة المجال لاجتهاد أهل العلم ليعظم ثوابهم. ومنها: تركُ مُتَّسَعٍ لاحتياط أهل التقوى من أقوياء المؤمنين ليأخذوا أنفسهم بالورع والتوقِّي فيعظم أجرهم ويُعْرَف فضلهم، وللضعفاء ليمكن لهم الترخُّص بدون المعصية، ولو شُدِّد عليهم لرموا بأنفسهم في المعصية. ومنها: تهيئة سبيلٍ لحسن ظنِّ المسلمين بعضهم ببعضٍ فيرى المتشدِّد أن للمترخِّصِ وجهًا وسبيلًا.
والجواب عن الوجه الثاني: أن المشقَّة في الأمثلة المذكورة ونحوها ليست بشديدةٍ إلى حدِّ الخروج عن الوُسْع، نعم إنها تقارب ذلك وربَّما اعتدَّ الشارع بأخفَّ منها، ولكن الشارع قد يُلْغِي المشقَّة التي ربَّما يظهر أنها
(2/193)
شديدةٌ لأسبابٍ، منها: أن يكون اتِّفاقها نادرًا، والفقهاء يلاحظون هذا، قالوا: لو أخطأ الحُجَّاج فوقفوا عاشر ذي الحجَّة أجزأهم حجُّهم، ولو أخطؤوا فوقفوا حادي عشره كان عليهم القضاء لندرة الخطأ بيومين (1). والثلاثة الأمثلة مما يندر، فما كلُّ أحدٍ يشقُّ عليه ترك دين آبائه ولا يتَّفق له ذلك إلا مرَّةً في عمره، والعاشق يندر أن يصادف معشوقته في خلوةٍ بدون تحرِّيه ذلك، ومدمن الخمر إذا أسلم فعزم على تركها إن شقَّ عليه ذلك فأيَّامًا معدودةً ثم ينساها أبدًا.
ومنها: أن تكون المفسدة التي تترتَّب على الفعل عظيمة، ولهذا قالوا: لو أكره على قتل مؤمنٍ لم يجز له، وعظم المفسدة في الأمثلة ظاهرٌ.
ومنها: أن لا تنضبط المشقَّة وتترتَّب على الفعل مفسدةٌ عظيمةٌ، كمن أُغْضِبَ فجنى على إنسان وادَّعى أن المجنيَّ عليه أغضبه فلم يَتَمالَكْ نفسه أن جنى عليه. فإنه لا دليل على أن الغضب بلغ ذلك المبلغ، ولو رُخِّصَ له لادَّعى أكثرُ الجناة مثلَ ذلك؛ إذ أكثر ما يقع القتل عند الغضب، بل لربما استحلَّ المغْضَبُ القتلَ لتوهُّمِه أنه قد بلغ به الغضبُ ذلك الحدِّ. ويأتي هذا في تلك الأمثلة، فإن المفسدة فيها عظيمة كما مرّ، ولو رُخِّصَ لهم لاستحلَّ الكافر المتبصِّر البقاءَ على دين آبائه لتوهُّمه أن المشقَّة شديدةٌ، وأن الله تعالى لا يكلِّفه بتحمُّلها. وكذلك الآخران، وإذًا لأوشك أن يدَّعيَ كلُّ زانٍ وكلُّ شاربِ خمرٍ نحوَ تلك الدعوى.
ومنها: أن تكون المشقة ناشئة عن مخالفة من المكلَّف لولاها لم يقع في المشقة، بل ربما ألغى الشارع هذه المشقَّةَ ولو خرجت عن الوُسْعِ بل
_________
(1) انظر: منح الجليل 1/ 476، شرح المحلِّي على المنهاج 2/ 185.
(2/194)
وعن القدرة، كالمتعدِّي بِسُكْرِه يؤاخَذُ بما يقع منه، وسيأتي توجيه ذلك في المختوم على قلبه.
[ز 52] ومَنْ أَدْرَكَ آباءه على الكفر ثم نُبِّهَ على ذلك كان عليه أن يبحث وينظر ويحقِّق، وهذا لا يشقُّ عليه مشقَّة تُذْكَر، فلو قام به لهداه الله تعالى فعرف بطلان دينهم وأن البقاء عليه مُوجِبٌ لغضب الجبار والخلود في عذاب النار، وإذًا لهان عليه ترك دينهم بل لما استطاع البقاء عليه.
والعاشق قد كان عليه أن يسعى في تقوية إيمانه وتحصيل الإيقان بأنَّ ربَّه عزَّ وجلَّ معه أبدًا، وأن الكرام الكاتبين لا يفارقونه، ودوام استحضار ذلك، ولو قام بهذا لما شقَّ عليه تركُ الزنا؛ فإننا نعلم أنه لو كان حين صادف معشوقته يرى أن إنسانًا ينظر إليهما ويخاف أن يحقره ويمقته ويُفْشِيَ سرَّه ويسيء سمعته لمنعه ذلك من مقاربتها، بل لو قيل لَما استطاع أن يقع بها لم يَبْعُد.
ومُدْمِن الخمر لو قَوِيَ إيمانه لصحَّ عزمُه على تركها، وإذًا لهان عليه تركُها، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعتادون شربها فلما حُرِّمَتْ أعرضوا عنها البتَّة، وهكذا عامَّة مَنْ أسلم بعد تحريمها. وإنما يشقُّ تركها على مَنْ لم يصحَّ عزمه فتبقى نفسه تنازعه إليها، وعن ذلك يكون تضرُّره في بدنه إن صدق الأطباء، فأما مَنْ صَحَّ عزمه فبإذن الله تعالى لا ينالُه إلا كلُّ خيرٍ.
هذا، والمشقَّة في تلك الأمثلة ونحوها وإن لم يعتدَّ بها الشارع في رفع التكليف فقد اعتدّ بها إلى حدٍّ ما من جهة أخرى، أما من نشأ على كفر آبائه فخَفَّفَ عنه بقبول العهد والذمَّة والأمان ولم يشدِّدْ عليه كما شدَّد على مَن
(2/195)
كان آباؤه مسلمين ونشأ هو على الكفر؛ فإن هذا مرتد لا يُقْبَل منه إلا الإسلام، وهكذا يكون التخفيف في الآخرة، فعذاب المرتدِّ أشدُّ من عذاب الكافر الأصليِّ، والله أعلم.
وأما العاشق الذي صادف صاحبته في خلوة فلعلَّ الله عزَّ وجلَّ أن يلطف به فيحجزه عنها أو يستره ويتوب عليه أو يخفِّف عنه من العذاب. ونحو هذا يقال في مدمن الخمر، وفي قصَّة النعيمان (1) ما يشهد لذلك. والله أعلم.
الأمر الرابع: أن الذي جرى عليه العمل في عهد الصحابة والتابعين هو التوسعة على العامَّة في عِلْم الدين، فيُكْتَفَى للعامِّيِّ بأن يعمل ما يرى عليه المسلمين، فإن عرضت له قضيَّة سأل مَن يتفق له ممن يُعْرَف بالعلم، ولما نشأت البدع كان العلماء يُنَفِّرُون العامَّة عن المبتدع لئلَّا يعتمدوا عليه، وربما كان يشتهر العالِمُ في جهة فتميل عامَّة تلك الجهة إلى الاعتماد عليه دون مَنْ يخالفه ما لم يظهر لهم خطؤه.
والعامَّة في القرون المتأخِّرة لم يزالوا في الظاهر على تلك الطريق، وإنما الفرق أن الذين كانوا يشتهرون في عهد السلف بأنهم علماء هم علماء حقًّا، والذي كان يُنَفِّر عنه العلماء بأنه مبتدع ضالٌّ كان مبتدعًا ضالًّا حقيقة، والحال في العصور المتأخرة على خلاف ذلك، فإن الذين يشتهرون فيها بأنهم علماء عامَّتُهم مقلِّدون لمذاهبهم، وكلُّ مذهب منها قد ضُمَّ إليه
_________
(1) هو النعيمان بن عمرٍو بن رفاعة بن الحارث الأنصاري، شهد بدرًا، واشتهر بالمزاح، ووُصِف بشرب الخمر، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقيم عليه الحدَّ، فلعنه رجل، فمنع النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – من لعنه. الإصابة في تمييز الصحابة 11/ 112 – 117.
(2/196)
أضعافٌ مضاعفةٌ. مثال ذلك: مذهب الإمام الشافعيِّ رحمه الله تعالى، كان له أصحابٌ جمعوا كلامه وقاسوا على أقواله وفَرَّعُوا وضمُّوا جميع ذلك إلى المذهب، ثم جاءت طبقةٌ بعدهم جمعوا كلام مَنْ تَقَدَّمَهُم وقاسوا عليه وفَرَّعوا وضمُّوا جميع ذلك إلى المذهب، وهكذا طبقةً فطبقةً.
ولما ظهر كلام الأشعريِّ في العقائد مال إليه بعضُ فقهائهم وأنكره بعضهم، ثم غلب عليهم فصار عامَّةُ الشافعيَّة أشاعرةً، وصار عند المتأخِّرين كأنه جزءٌ من المذهب، حتى إنه كان يستغرب في القرن الخامس والسادس فضلًا عما بعدهما أن يُقال: إن فلان (1) فقيهٌ شافعيٌّ ولكنه ليس بأشعريِّ، ويرى طلبة العلم والعامَّة أن هذا قريبٌ من المحال لتوهُّمِهِم أن رأيَ الأشعريِّ قطعةٌ من مذهب الشافعيِّ، فكيف يكون الرجلُ شافعيًّا وليس بأشعريٍّ؟ ! (2).
/وكانت تظهر المقالة والرأي فيتكلَّم فيها بعض فقهاء المذهب غير مستندٍ إلى المذهب بل متأثِّرًا بآثارٍ خارجيَّةٍ، وقد يحاول هو إلصاقها بالمذهب أو يحاول مَنْ بعده ذلك فلا تلبث أن تَلْصَقَ بالمذهب ثم تصبح أصلًا يُقاس عليه. وربما ظهرت البدعة فقصَّرت طبقةٌ في إنكارها، فشارك فيها بعضُ الطبقة التي تليها فَضَمَّتْها الثالثة إلى المذهب ثم تصبح أصلًا يقاس عليه.
على أنه في القرون المتأخرة صار كثير من المحدثات متفقًا عليه بين
_________
(1) كذا في الأصل.
(2) هنا انتهى ما كان مسمًّى (رسالة في العقيدة)، وقد وجدت صفحةً غير مرقَّمةٍ ملحقةً بآخر الرسالة المسمّاة (أصول ينبغي تقديمها)، وهذا هو الموضع المناسب لها.
(2/197)
فقهاء المذاهب, فصار المعروف بين الناس أنها مذهب أهل السنة. وقضيَّة ذلك أنها مما أجمع عليه سلف الأمة، على أنها إذا ألصقت بمذاهب أهل السنة فبقية المذاهب أولى بها، بل إن غالب المحدثات إنما هو من نتائج بعض مذاهب أهل البدع، أو مما لَصِقَ بها من ضلالات الديانات الباطلة كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها، وإنما سرى إلى أن أُلْصِقَ بمذاهب أهل السنة فأصبح بحيث يُظَنُّ إجماعًا، ومَنْ وُجِدَ مِنْ علماء الحقِّ في هذه القرون المتأخِّرة رُمِي بالابتداع ومخالفة الإجماع. فالعامَّة في هذه القرون شبيهون بالعامة في القرون الأولى في اتِّباعهم مَنْ يرونهم علماء السنة ونفورهم عمن يرونه مبتدعًا. (1) واعلم أن كثيرًا من الناس يستندون في هذه الأمور ــ أعني معرفة معنى (لا إله إلا الله) وما يتفرَّع عنه من الاعتقاد في بعض الأعمال أنها شركٌ أو ليست بشركٍ ــ إلى أمورٍ لا يُعتَدُّ بها شرعًا؛ فأرى أن أنبِّه عليها.
_________
(1) هنا رجعنا إلى تكملة ص 27 من نسخة ب.
(2/198)
بابٌ في أمورٍ يُستنَد إليها في بناء الاعتقاد
وهي غير صالحةٍ للاستناد
فمن تلك الأمور: التقليد، وقد دلَّ الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم أن التقليد في أصول العقائد لا يكفي، ومعرفة معنى (لا إله إلا الله) أصل الأصول.
أما دلالة القرآن، فقد تقدَّم أدلَّة اشتراط العلم (1)، وفيها قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقوله عزَّ وجلَّ: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، وما قاله ابن جريرٍ في تفسيرها، وما رواه عن مجاهدٍ وقتادة.
والتقليد ليس بعلمٍ؛ لأن العلم عند أهله هو: حكم الذهن [ب 28] الجازم المطابق؛ لموجبٍ، أي لحجَّةٍ قاطعةٍ.
قالوا: خرج بقوله: (لموجِبٍ) اعتقاد المقلِّد ونحوه؛ فإنه قد يكون جازمًا ومطابقًا، ولكنه ليس لحجَّةٍ قاطعةٍ.
أقول: فالاعتقاد ضربٌ من الظنِّ، وقد ردَّ الله عزَّ وجلَّ على المشركين ما كانوا يعتقدونه، ثم قال: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، في آياتٍ أخرى بهذا المعنى. قال جماعةٌ من أهل العلم: هذه الآيات واردةٌ فيما يُطلَب فيه العلم كالعقائد، فأما فروع الأحكام العمليَّة فقد ثبت بالحجج القطعيَّة وجوب العمل فيها بأنواعٍ من الظنِّ، كالظنِّ
_________
(1) انظر: ص 4 – 8.
(2/199)
الحاصل من خبر الواحد بشرطه.
وقال بعضهم: الآيات على عمومها، وما قامت الحجَّة القطعيَّة على وجوب العمل به من الأدلَّة الظنِّيَّة كخبر الواحد بشرطه في الأحكام الفرعيَّة فالعمل به اتِّباعٌ لتلك الحجَّة القطعيَّة، وهي مفيدةٌ للعلم، فالعمل به اتِّباعٌ للعلم لا اتِّباعٌ للظنِّ.
ألا ترى لو أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شافه بعض أصحابه بقوله: (إذا جاءك رجلٌ تظنُّه ثقة فأخبرك عنِّي بخبرٍ وجب عليك أن تعمل بخبره)، أليس وجوب العمل على ذلك الصحابيِّ بخبر من يظنُّه ثقةً واجبًا عليه قطعًا؟ أوليس إذا عمل به فإنما يستند إلى الأمر الذي تلقَّاه مواجهةً وهو قطعيٌّ معلومٌ له؟ أفلا ترى أنه متَّبعٌ للعلم لا متَّبعٌ للظنِّ؟ تدبَّر.
/وأما السنة فقد مرَّ (1) في أدلّة اشتراط العلم قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنَّة»، وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: « …. فمَن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشِّره بالجنَّة».
وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكرٍ، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في صلاة الكسوف، وفيه: فلما انصرف رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما من شيءٍ كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنَّة والنار، ولقد أُوحِي إليَّ أنكم تفتنون في القبور مثل ــ أو قريبًا من ــ فتنة
_________
(1) ص 6.
(2/200)
الدجَّال ــ لا أدري أيَّهما قالت أسماء ــ يُؤتى أحدكم، فيُقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن ــ أو الموقن، لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء ــ فيقول: محمَّدٌ رسول الله، جاءنا بالبيِّنات والهدى، فأجبنا وآمنَّا واتَّبعنا، فيُقال له: نم صالحًا، فقد علمنا إن كنت لموقنًا. [ب 29] وأما المنافق ــ أو المرتاب، لا أدري أيَّتهما قالت أسماء ــ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته» (1).
وقد رُوِي نحو هذا الحديث في سؤال القبر عن أم المؤمنين عائشة، وعن أنسٍ، وعن البراء، وعن أبي سعيدٍ، وعن جابرٍ، وعن أبي هريرة، وعن غيرهم من الصحابة من طرقٍ كثيرةٍ بعضها في الصحيحين. انظر: فتح الباري (2).
_________
(1) صحيح البخاريِّ، كتاب الكسوف، باب صلاة الرجال مع النساء في الكسوف، 2/ 37، ح 1053. هذه روايته من طريق مالكٍ عن هشامٍ. ورواه في مواضع أخرى من طرقٍ أخرى. ورواه مسلمٌ من طريق ابن نُمَيرٍ عن هشامٍ. صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة، باب ما عُرِض على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في صلاة الكسوف إلخ، 3/ 32، ح 905. [المؤلف](2) كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، … [المؤلف].
والحديث أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2/ 98 – 99، ح 1374. ومسلمٌ في كتاب الجنَّة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميِّت من الجنَّة أو النار، 8/ 161 – 162، ح 2870، من حديث أنسٍ. وأخرجه البخاريُّ أيضًا في الموضع السابق، 2/ 98، ح 1369. ومسلمٌ في الموضع السابق، 8/ 162، ح 2871، من حديث البراء ــ وهو في مسند أحمد 4/ 287 – 288 و 4/ 295 – 297. والمستدرك، كتاب الإيمان، مجيء ملك الموت عند قبض الروح … ، 1/ 37 – 40، مطوَّلًا، وصحَّحه الحاكم على شرط الشيخين، ولم يتعقَّبه الذهبيُّ ــ. وأخرجه البخاريُّ في الموضع السابق، 2/ 98، ح 1373، من حديث أسماء. وأحمد 6/ 139 – 140، من حديث عائشة. و 3/ 3 – 4، من حديث أبي سعيدٍ. و 3/ 331، من حديث جابرٍ. والترمذيُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 3/ 374، ح 1071. وابن حِبَّان (الإحسان) في كتاب الجنائز، فصلٌ في أحوال الميِّت في قبره، ذكر الإخبار عن اسم الملكين … ، 7/ 386، ح 3117، من حديث أبي هريرة، وقال الترمذيُّ: «حديثٌ حسنٌ غريبٌ». وهو معدودٌ في الأحاديث المتواترة. انظر: قطف الأزهار المتناثرة ص 294، ح 109.
(2/201)
وفيه: «ولابن حِبَّان وابن ماجه من حديث أبي هريرة، وأحمد من حديث عائشة: «ويُقال له: على اليقين كنتَ، وعليه متَّ، وعليه تُبعث إن شاء الله»».
وفيه أيضًا: (وله ــ أي: لأحمد ــ من حديث أبي سعيدٍ (1): «فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا عبده ورسوله»».
وفيه عند الكلام على حديث البراء الذي في الصحيحين في هذا المعنى: «وقد رواه زاذان أبو عمر عن البراء مطوَّلًا مبيَّنًا، أخرجه أصحاب السنن، وصحَّحه أبو عوانة وغيره، وفيه من الزيادة … : «فيقولان له: مَن ربُّك؟ فيقول: ربِّي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما يدريك؟ فيقول: قرأتُ القرآن كتابَ الله فآمنتُ به وصدَّقتُ، فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]»» (2).
وقوله: «وقرأتُ القرآن» إلخ، يريد أنه قرأه فعرف ما فيه من البراهين
_________
(1) في الأصل: (عائشة)، والتصويب من فتح الباري.
(2) فتح الباري 3/ 151 – 152.
(2/202)
فحصل له اليقين. «وأما المرتاب فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته»، ولا يخفى أيُّ الرجلين المقلِّد؟
وقد دلَّت هذه الأحاديث على توُّقف النجاة على اليقين، واليقين هو العلم القطعيُّ اتِّفاقًا. قال الراغب: «اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها» (1).
وبالغ الغزاليُّ في المستصفى فخصَّه، فقال في صفة النفس الموقنة [ب 30]: « … بل حيث لو حُكي لها عن نبيٍّ من الأنبياء أنه أقام معجزة وادَّعى ما يناقضها، فلا تتوقَّف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذبٌ أو تقطع بأن القائل ليس بنبيٍّ، وأنَّ ما ظنَّ أنه معجزة فهي مَخْرَقَة (2). وبالجملة/فلا يؤثر هذا في تشكيكها، بل تضحك من قائله وناقله. وإن خطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع نبيًّا على سرٍّ به انكشف له نقيضُ اعتقادِها فليس اعتقادها يقينًا، مثاله: قولنا: الثلاثة أقلُّ من الستة، وشخصٌ واحد لا يكون في مكانين، والشيء الواحد لا يكون قديمًا حادثًا موجودًا معدومًا ساكنًا متحرِّكًا في حالة واحدة».
ثم قال: «الحالة الثانية: أن تصدِّق بها تصديقًا جازمًا ولا تشعر بنقيضها البتة، ولو أُشعرت بنقيضها تعسَّر إذعانها للإصغاء إليه، ولكنها لو ثبتت وأصغت وحُكي لها نقيض معتقدها عمَّن هو أعلم الناس عندها كنبيٍّ أو صِدِّيق أورث ذلك فيها توقُّفًا، ولْنُسَمِّ هذا الجنس اعتقادًا جزمًا، وهو أكثر اعتقادات عوامِّ المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم، بل
_________
(1) مفردات ألفاظ القرآن 892.
(2) ما عُمِل بتمويهٍ وخداعٍ. انظر: تاج العروس، مادَّة (مخرق).
(2/203)
اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم؛ فإنهم قبلوا المذهب والدليل جميعًا بحسن الظن في الصِّبا، فوقع عليه نشؤهم؛ فإنَّ المستقلَّ بالنظر ــ الذي يستوي ميلُه في نظره إلى الكفر والإسلام ــ عزيزٌ.
الحالة الثالثة: أن يكون لها سكونٌ إلى الشيء والتصديق به وهي تشعر بنقيضه، أو لا تشعر ولكن لو أُشعِرت به لم ينفر طبعها عن قبوله، وهذا يُسمَّى ظنًّا، وله درجاتٌ …. » (1).
أقول: وفيما قاله نظرٌ؛ فإنَّ الحسَّ والمشاهدة تفيد العلم اليقين، ومع ذلك فقد تشكَّك فيها الحكماء السوفسطائيُّون (2) كما هو معروفٌ، ومن تأمَّل شُبَههم قد يعرض [له] توقُّفٌ ما. وقال تعالى: … (3) وجلُّ أو كلُّ البراهين على الأصول الدينيَّة مبنيَّةٌ على المحسوسات، ومع ذلك يرد على البناء شبهاتٌ عديدةٌ. ولوصحَّ ما قاله لما وُجِد مؤمنٌ موقنٌ إلَّا أن يكون من الملائكة والنبيِّين، وهذا باطلٌ قطعًا. والحقُّ أن اليقين لا يختصُّ بما ذكره، بل يعمُّ كلَّ اعتقادٍ جازمٍ عن دليلٍ قاطعٍ كالحسِّ والمشاهدة وما ينبني عليهما انبناءً واضحًا، وأنَّ إمكان التشكيك لا يدلُّ على عدم سبق اليقين. وقد قدَّمنا تحت عنوان: (شبهةٌ وجوابها) ما يصحُّ إيراده ها هنا.
ونحن نرى كثيرًا من الناس يتعقَّلون البراهين القطعيَّة، ومع ذلك لا يزالون مرتابين لغلبة الهوى والتقليد عليهم. فالحقُّ أنَّ مَن تعقَّل البرهان
_________
(1) المستصفى 1/ 43 – 44. [المؤلف](2) هم أهل السفسطة القائمة على مبدأ الشك في الموجودات. انظر الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 480، المعجم الفلسفي 1/ 660.
(3) وضعُ النُّقَط من المؤلِّف.
(2/204)
القطعيَّ وأذعن وانقاد ظاهرًا وباطنًا فهو موقنٌ، وأنه إن عرض له بعدُ شكٌّ (1) أو شبهةٌ فإن دفعها فورًا فهو موقنٌ، وما عرض له وسوسةٌ في (2) حكم الشرع. وإن استقرَّت في نفسه وأورثته ريبةً أو جحودًا زال يقينه السابق، وهو العلم الحقيقيُّ.
والحقُّ أنه ليس بين اليقين وبين الظنِّ منزلةٌ. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، [ب 31] إلى قوله جلَّ ثناؤه: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32].
وكأن الغزاليَّ يشير بهذا الاصطلاح إلى تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] بأن المراد الظنُّ الذي ليس بجازمٍ. وهبه تمَّ له هذا، فما يصنع بالآيات والأحاديث الناصَّة على اشتراط العلم واليقين وقد تقدَّمت؟
والحقُّ أنَّ التقليد لا يفيد إلا الظنَّ غير الجازم، وما يظهر من جزم مَن نراه مقلِّدًا لا يخلو عن ثلاثة أحوالٍ:
الأولى: ألَّا يكون مقلِّدًا في الواقع، بل قد يعقل برهانًا قطعيًّا، وهذا حال عوامِّ المسلمين غالبًا في إيمانهم بالله ورسوله.
الثانية: أن يكون قد قام عنده ما توهَّمه برهانًا قاطعًا؛ إما على العقيدة نفسها، وإما على عصمة إمامه، وقد يجتمع الأمران كما وقع لبعض مقلِّدي
_________
(1) غير واضحة في الصورة.
(2) الحرف غير واضح في الصورة.
(2/205)
أرسطو من المتفلسفة.
الثالثة: أن يكون غلب عليه الهوى والعصبيَّة. وقد تقدَّم الكلام في الهوى، ويأتي له مزيدٌ إن شاء الله تعالى (1).
وقال الآمديُّ: «اختلفوا في جواز التقليد في المسائل الأصوليَّة المتعلِّقة بالاعتقاد في وجود الله تعالى، وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه، وما يجب له وما يستحيل عليه. فذهب عُبَيد الله بن الحسن العنبريُّ والحشويَّة والتعليميَّة (2) إلى جوازه …. وذهب الباقون إلى المنع، وهو المختار؛ لوجوهٍ:
الأول: أن النظر واجبٌ …. ، ودليل وجوبه أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190]، الآية، قال عليه السلام: «ويل لمن لاكها بين لَحْيَيه ولم يتفكَّر فيها»». أقول: أخرجه جماعةٌ، منهم ابن حِبَّان في صحيحه (3). قال (4): «توعَّد على ترك النظر والتفكُّر فيها، فدلَّ على وجوبه».
_________
(1) انظر: ص 24 فما بعدها، والأصل الثاني في باب أصول ينبغي تقديمها، وص 911 فما بعدها.
(2) من ألقاب الباطنيَّة الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم، وبهذا الاسم اشتهروا في خراسان قديمًا وبالملحدة، كما كانوا يُسمَّون بالعراق: الباطنيَّة والقرامطة والمزدكيَّة. انظر: فضائح الباطنيَّة 17، الملل والنحل 1/ 190.
(3) انظر: صحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الرقائق، باب التوبة، 2/ 386، ح 620.
(4) يعني: الآمدي.
(2/206)
الثاني: الإجماع من السلف منعقد على وجوب معرفة الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز، فالتقليد إما أن يقال: إنه محصِّل للمعرفة أو غير محصِّل لها. القول بأنه محصل للمعرفة ممتنع لوجوهٍ:
الأول: أن المفتي بذلك غير معصوم، ومَنْ لا يكون معصومًا لا يكون خبره واجب الصدق، فخبره لا يفيد العلم.
الثاني: أنه لو كان التقليد يفيد العلم لكان العلم حاصلًا لمن قلَّد في حدوث العالَم ولمن قلد في قِدَمه وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين كون العالَم حادثًا وقديمًا.
الثالث: أنه لو كان التقليد مفيدًا للعلم فالعلم بذلك إمَّا أن يكون ضروريًّا أو نظريًّا، لا جائز أن يكون ضروريًّا وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء، ولأنه لو خُلِّي الإنسان ودواعي نفسه من مبدأ نشئه لم يجد ذلك من نفسه أصلًا، [ب 32] والأصل عدم الدليل المفضي إليه فمن ادّعاه لا بدَّ له من بيانه.
الوجه الثالث ــ من الوجوه الأُوَل ــ: أن التقليد مذمومٌ شرعًا، فلا يكون جائزًا، غير أنَّا خالفنا ذلك في وجوب اتِّباع العامِّيِّ للمجتهد فيما ذكرناه (1) من الصور فيما سبق» يعني: فروع الفقه «لقيام الدليل على ذلك، والأصل عدم الدليل الموجب للاتِّباع فيما نحن فيه، فنبقى على مقتضى الأصل.
وبيان ذمِّ التقليد قوله تعالى حكايةً عن قومٍ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، ذكر ذلك في معرض الذمِّ (2) لهم».
_________
(1) في الأصل: ذكره، والتصحيح من نسخة أ.
(2) سقطت الكلمة من الأصل، وأضفتها من نسخة أ.
(2/207)
أقول: والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ، ثم ذكر المعارضات وأجاب عنها، إلى أن قال: «قولهم: إن التقليد عليه الأكثر والسواد الأعظم، قلنا: ذلك لا يدلُّ على أنه أقرب إلى السلامة؛ لأن التقليد في العقائد المضلَّة أكثر من الصحيحة، على ما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، وقال عليه السلام: «تفترق أمَّتي ثلاثًا وسبعين فرقةً، واحدةٌ ناجيةٌ، والباقي في النار» (1) … ) (2).
أقول: والذي يقع لي: أن القول بالاكتفاء بالتقليد إنما جرى على الألسنة لما لجَّ النزاع بين السلفيِّين والمتكلِّمين، كأنه لما بالغ بعض السلفيِّين فكفَّر مَن يخوض في علم الكلام بالغ بعض المتكلِّمين فزعم أنَّ مَن لا يعرف الكلام فهو مقلِّدٌ؛ ولا إيمان لمقلِّدٍ، فقال بعض السلفيِّين: التقليد كافٍ في الإيمان، يريدون إن كان الاقتصار في النظر على الطريقة التي درج عليها السلف تقليدًا فالتقليد كافٍ في الإيمان، ولم يريدوا أنَّ التقليد الحقيقيَّ يكفي.
فأما حكاية الآمديِّ عن العنبريِّ والحشويَّة والتعليميَّة الجواز
_________
(1) أخرجه ــ بمعناه ــ أبو داود في كتاب السنَّة، بابٌ في شرح السنَّة، 4/ 197 – 198، ح 4596 – 4597. والحاكم في كتاب العلم، «تفترق هذه الأمَّة على ثلاثٍ وسبعين ملَّةً … »، 1/ 128، من حديث أبي هريرة ومعاوية رضي الله عنهما. قال الحاكم بعد أن أورد له طرقًا وشواهد: «هذه أسانيد تُقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث». وانظر: السلسلة الصحيحة (204).
(2) إحكام الأحكام 4/ 300 – 306. [المؤلف]
(2/208)
فالمشهور عن العنبريِّ أنه كان يرى أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ سواء في العقائد أو في الفروع.
فقيل: إنه إنما كان يقول هذا في المجتهدين من المسلمين ــ أعني في الضرب الثاني من العقائد ــ فيصوِّب مَن يثبت القدر ومَن ينفيه، ومَن يثبت الرؤية ومَن ينفيها، ونحو ذلك، ويقول: «هؤلاء عظَّموا الله، وهؤلاء نزَّهوا الله»، يريد أن المخطئ منهم مصيبٌ، على نحو ما يقوله غيره في المجتهدين في الفروع، وبهذا لا يكون الخلاف فيها اختلافًا في الدين ولا افتراقًا بين المسلمين.
وقيل: بل كان يقول بهذا في غير المسلمين أيضًا؛ فيرى أنَّ الكافر إذا بذل مجهوده في البحث والنظر يريد الحقَّ ويحرص عليه فأدَّاه نظره إلى أنَّ الإسلام ليس بحقٍّ فهو معذورٌ، وحُكِي عنه الرجوع عن ذلك. انظر: الاعتصام (1) [ب 33] وانظر ترجمة عُبيد الله في تهذيب التهذيب (2) وغيره.
وقد حكوا القول بعذر الكافر إذا بذل مجهوده كما تقدَّم عن الـ (3) أيضًا. قال بعض العلماء: ومال إليه الغزاليُّ في فيصل التفرقة (4).
أقول: وهذه مسألةٌ أخرى، والحقُّ فيها أنه لا يوجد إنسانٌ يبذل مجهوده في البحث والنظر مريدًا للحقِّ حريصًا عليه مخلصًا في قصده ثم يظهر له أنَّ
_________
(1) 1/ 189 – 190. [المؤلف]. وانظر ط دار ابن الجوزي 1/ 257.
(2) 7/ 8. وفيه «ونقل محمد بن إسماعيل الأزدي في ثقاته أنه رجع عن المسألة التي ذُكرت عنه لما تبيّن له الصواب».
(3) بيَّض له المؤلِّف، ولعله الجاحظ كما مرَّ في ص 171 مقرونًا بالعنبري.
(4) ص 87.
(2/209)
الإسلام ليس بحقٍّ؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا} [العنكبوت: 69]، فهذا الإنسان مجاهدٌ في الحقِّ محسنٌ فكيف لا يهديه الله تعالى؟ (1).
فإن فُرِضت المسألة فرضًا، فإن (2) قال قائلٌ: إنه لو وُجِد إنسانٌ بهذه الصفة لكان حكمه في الشرع حكمَ غيره من الكفَّار، وأمَّا في الآخرة فيكون في الذين يُمتحَنون فتُرفَع لهم نار، إلى آخر ما جاء في الأحاديث. فليس هذا القول بخروجٍ عن الإسلام، ولكن مثل هذا مما تواصى العلماء بالسكوت عنه لما قد يترتَّب على إظهاره من المفاسد.
وبالجملة فذلك النقل عن العنبريِّ ليس بنصٍّ في جواز التقليد في أصول الدين، مع أنه قد نُقِل عنه الرجوع عن مقالته.
_________
(1) قال المؤلِّف في ص 908 – 909: «وأما اليهود والنصارى والمشركون فهم في سُبل أخرى ليست من سُبُل الله تعالى؛ لأنها لا ترجع إلى سبيله الأعظم وصراطه المستقيم، فمَن جاهد منهم في الله فلا بدَّ أن يهديه الله إلى سبيله الذي يرضاه وهو الإسلام، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}».
وانظر كلام المؤلِّف في السياق نفسه (ص 913) إلى أن قال: «ومن هنا يُعْلَم أنَّ قوله تعالى: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} لا يقتصر معنى الهداية فيه على تيسير البرهان القاطع، بل يحصل بذلك وبتيسير الدليل الذي يتبين به للناظر أن اتِّباع الإسلام أحوط له، ولكنه إذا عمل بالأحوط ودخل في الإسلام يسَّر الله تعالى له بعد ذلك ما يُثْلِج صدرَه إن شاء الله تعالى، كما مرّ في تفسير قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}».
(2) كذا في الأصل، ولعلَّه: بأن.
(2/210)
وأما الحشويَّة فإن أراد بهم أهل الحديث المتَّبعين للسلف فقد سبق الجواب عنهم، وأنهم إنما ينكرون النظر على الطريق الفلسفيَّة ويوجبون النظر على الطريق السلفيَّة.
وأما التعليميَّة (1) فهم عند عامَّة المسلمين مبتدعةٌ، ومن المسلمين مَن يكفِّرهم. والمعروف عنهم أنهم إنما يرون الاتِّباع للإمام؛ لأنه عندهم معصومٌ، فاتِّباعه في زعمهم ليس بتقليدٍ بالمعنى المتعارَف.
وبالجملة فالأصول الضروريَّة من العقائد التي لا يكون المؤمن مؤمنًا إلا بها لا نعلم أحدًا يقول: يكفي فيها التقليد الحقيقيُّ، والله أعلم (2).
واعلم أنه لا فرق في التقليد بين أن يكون لعالم واحد وأن يكون لجماعة من العلماء / (3) وإن اشتهر أنهم أهل السنة وأن مخالفهم من أهل البدعة.
أولًا: لأن اشتهار أن هذا قول أهل السنة جميعهم قد يكون غير صحيح، ويكون جماعة من أئمة السنة على خلافه. بل قد يكون القول الذي زعموا لك أنه قول أهل السنة إنما هو قول طائفة من المتأخرين، ويكون قول سلف هذه الأمة الذين هم أهل السنة في الحقيقة (4) على خلافه، وسيأتي قريبًا قول ابن مسعود وحذيفة وغيرهما: إنها ستنتشر البدع ويألفها الناس حتى إذا تُرِكَ منها شيء قالوا: قد تُرِكَت السنة، وأن ذلك في حكم المرفوع، على أنها
_________
(1) من ألقاب الباطنية، وسبق التعريف بهم قريبًا. وقد كفَّرهم الغزالي وغيره. راجع: الإسماعيلية لإحسان إلهي ظهير، وفضائح الباطنية للغزالي. وانظر: مجموع الفتاوى 19/ 186 – 187.
(2) هنا ينتهي ما أخذناه من النسخة ب.
(3) من هنا يبدأ ملحق ص: 43، وهو سبع ورقاتٍ.
(4) ولا يخرج الحق عما يجتمعون عليه. انظر منهاج السنة النبوية 5/ 166.
(2/211)
ستأتي أحاديث كثيرة تفيد هذا المعنى.
ثانيًا: أن قول أهل السنة وحدهم ليس بإجماع، فلا يكون حجة كما هو مقرَّر في أصول الفقه، قال الإمام الغزالي: «المبتدع إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه، إذا لم يكفر، بل هو كمجتهد فاسق، وخلاف المجتهد الفاسق معتبر … والمبتدع ثقة يقبل قوله؛ فإنه ليس يدري أنه فاسق … » (1).
وإذا لم يكن حجة مطلقًا فكيف يكون حجة في العقائد التي لا يصح بناؤها إلا على الحجج القطعية المفيدة لليقين؟
ثالثًا: أن أهل السنة إنما حصل لهم الشرف باتباع الكتاب والسنة، فإنما يكون تقليدهم فيما يجوز فيه التقليد أولى لأن الظاهر أن قولهم موافق للكتاب والسنة، فإذا فُرِضَ أنه تبيَّن بالبحث والتحقيق أنهم قالوا في مسألة خلاف ما يدل عليه الكتاب والسنة فلا قيمة لقولهم فيها.
وإنما ننبِّهك على هذا؛ لأنَّ مِنْ طَبْع الإنسان أنه إذا عرف في طائفة أنهم على الحق في كثير من المسائل، وعرف في طائفة أخرى أنهم على باطل في كثير من المسائل، ثم ذكرت له مسألة اختلفت الطائفتان فيها، فإنه يتسرَّع إلى الحكم بأن الحقَّ فيها مع الطائفة الأولى، ولو لم يعرف لهم حجَّة، بل قد تُتْلى عليه الحجج الموافقة للطائفة الثانية، وتكون قويَّة ولا يعرف حجَّة للطائفة الأولى، ولكنه لا يستطيع دفع ذلك الوهم عنه، وهذا من أشنع الغلط.
وفي الحديث: «الكلمة الحكمة ضالَّة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحقُّ
_________
(1) المستصفى 1/ 183. [المؤلف]
(2/212)
بها»، أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعًا (1).
وأخرج الديلمي وابن عساكر نحوه من حديث علي عليه السلام كما «في المقاصد الحسنة» للسخاوي.
أقول: ومعناه صحيح يشهد له الكتاب والسنة. ومما يشهد له من السنة حديث أحمد وغيره في اليهوديّ الذي جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: إنكم تشركون وتندِّدون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فنهى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أصحابه عن ذلك (2)، وسيأتي هذا الحديث وما في معناه إن شاء الله تعالى.
وحديث الحكمة يُشير إلى أمور: منها: أن الحق كثيرًا ما يوجد عند مَنْ ليس من أهله فضلًا عمن أسيئت سمعته، ولهذا قال: «فهو أحق بها» يريد: فهو أحق بها ممن وجدها عنده، وذلك صريح في أنه وجدها عند من ليس من أهلها. بل قوله: «ضالة المؤمن» إلخ صريح في أنه قد توجد الحكمة عند كافر. ولهذا يكون المؤمن أحق بها ممن وجدها عنده؛ إذ لو وجدها عند مؤمن لكان كلٌّ منهما حقيقًا بها، وإذا أمكن وجودها عند كافر فإمكان وجودها عند مبتدعٍ أو فاسقٍ أولى.
_________
(1) جامع الترمذيّ، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، 2/ 115، ح 2687. سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحكمة، 2/ 281، ح 4169. قال الترمذيّ: «هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يُضَعَّفُ في الحديث من قِبَل حفظه». اهـ. [المؤلف](2) انظر: المسند 6/ 371 – 372، سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، الحلف بالكعبة، 7/ 7. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في صحيح سنن النسائيّ، برقم 3773.
(2/213)
ومنها: أنه قد لا يوجد الحق في بعض المسائل عند من اشتهر بالحق؛ لأن من شأن الضالة أنها تقع في محلٍّ غير مناسب لها فلا توجد إلا فيه، ولا توجد في المحلِّ المناسب لها، فمن اقتصر على طلبها في المواضع المناسبة لها لم يظفر بها.
ومنها: أنه لا ينبغي للمؤمن أن يستنكف عن طلب الحق عند من اشتهر بخلاف الحق ولا عن قبوله منه، فإن من ضلّ خاتمه مثلًا فوجده في كُنَاسَة أو بيد مشرك أو مبتدع أو من يلابس القاذورات مثلًا لم يمنعه ذلك من أخذه، ولو امتنع لعُدَّ أحمق.
ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يتعرَّف الحق من حيث هو حق، ولا يلتفت إلى حال من قاله، حتى لو اختلف عليه وليٌّ وفاجر أو إمام وجاهل لم يحمله ذلك على تلقّي كلام الوليِّ أو العالم بالقبول بدون تحقُّق أنه الحق، كما أن من ضلّ خاتمه مثلًا فلقيه وليٌّ وفاجر أو إمام وجاهل بيد كلٍّ منهما خاتم يقول له: أرى أن هذا خاتمك لم يلتفت إلى جلالة الوليّ أو الإمام ودناءة الفاجر أو الجاهل، بل يتأمَّل الخاتمين فأيُّهما عرف أنه خاتمه أَخَذَه، وإن كان هو الذي بيد الفاجر أو الجاهل.
ومنها: أن ترك الأخذ بقول وليٍّ أو إمام لا يكون تحقيرًا له ولا استخفافًا بحقه؛ فإن من عرف أن خاتمه هو الذي بيد الفاجر أو الجاهل، فأخذه وترك الذي بيد الوليِّ أو الإمام لم يُعَدَّ مُهينًا لهذين ولا مُسيئًا إليهما كما أنه لا يُعَدُّ معظِّمًا مبجلًا لذلك الفاجر أو الجاهل، وإن كان عليه شكره.
ومن أمعن في تدبُّر الحديث ظهر له أكثر مما ذكرنا.
(2/214)
ومما يحسن ذكره هنا قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
تقول العرب: جَرَمَه بُغْضِي أن يظلمني أو على أن يظلمني أي: جعله بغضي يكسب ظلمي الذي هو جُرْمٌ، أي: ذنب.
ومن العدوان وترك العدل أن تردَّ قول العالم بدون حجة، ولكن لأنك تسيء الظنّ به أو لأن كثيرًا من الناس أو أكثرهم يخالفونه ويدَّعون عليه أنه يخالف الحقَّ في بعض المسائل. وكما أن هذا عدوان على ذلك العالم، فهو عدوان على الحق أيضًا؛ لأن عليك أن تطلبه بالحجة والبرهان، فَتَرَكْتَ ذلك، وعدوانٌ على نفسك أيضًا؛ لأنك ظالم لها.
والحاصل: أن طالب الحق إذا اختلف عليه العلماء كان عليه أن ينصب نفسه منصب القاضي فيسمع قولَ كلِّ واحد منهم وحجته، ثم يقضي بالقسط، فكما أن القاضي إذا اختصم إليه وليٌّ وفاجر أو مؤمن وكافر ليس له أن يقضي للوليِّ أو المؤمن بدون حجة، ولا أن يسمع منه ويُعْرِضَ عن خصمه، ولا أن يمتنع عن الحكم للفاجر أو الكافر إذا توجَّه له الحق، فكذلك طالب الحق في المسائل المختلف فيها.
ولعلك قد بلغك ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في أيام خلافته أنه رافع يهوديًا إلى القاضي شريح وبيد اليهودي درعٌ،
(2/215)
فادَّعى أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام: «إنها درعي»، فأنكر اليهودي، ولم يكن لأمير المؤمنين بينة، فقضى القاضي لليهودي، فلما رأى اليهوديّ ذلك أسلم واعترف بأن الدرع درع أمير المؤمنين، فلما رأى أمير المؤمنين إسلامه واعترافه وهب له الدِّرْعَ.
والقصة ثابتة في كتب الحديث والتاريخ (1).
وبعض الناس يتوهَّم أنَّ مثل هذا الحكم إنما هو من باب طرد القواعد، وإلَّا فلا ريب في صحة قول أمير المؤمنين وبطلان قول اليهوديّ. وفيه أنه يجوز خلاف ذلك لجواز أن يكون أمير المؤمنين وَهَبَها أو باعها ثم نسي أو اشتبهت عليه درع بدرع أو نحو ذلك، فتدبَّرْ. والله أعلم.
واعلم أن أكثر العلماء المنتسبين إلى المذاهب لم ينصبوا أنفسهم منصب القضاة، وإنما نصبوا أنفسهم منصب المحامين، كلٌّ عن المذهب المنتسِب إليه (2). فعلى طالب الحق أن ينزلهم منازلهم فلا يعدّهم قضاة يُقْبل قولهم في تأييد المذهب المنتسبين إليه وتخطئة غيره، بل عليه أن يعرف أنهم محامون عن مذاهبهم، فلا يسمع من أحد منهم إلا كما يسمع القاضي من المحامي.
ورُوِّينا من حديث عليٍّ بن أبي طالبٍ عليه السلام أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال له: «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر؛ فسوف تدري كيف تقضي». قال عليٌّ: «فما زلت قاضيًا
_________
(1) انظر: سنن البيهقيّ، كتاب آداب القاضي، باب إنصاف الخصمين … 10/ 136. [المؤلف](2) كذا في الأصل، والجادَّة إظهار الفاعل، فيُقال: المنتسِب هو إليه.
(2/216)
بَعْدُ». رواه أحمد، والترمذيّ وحسَّنه، وأبو داود، وقوَّاه ابن المدينيّ، وصحَّحه ابن حِبَّان (1). وله شاهدٌ عند الحاكم من حديث ابن عبَّاسٍ (2). كذا في بلوغ المرام (3).
واشتهر من قول أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام: «لا تنظر إلى مَنْ قال وانظر إلى ما قال» (4)، وسيأتي كثيرٌ مما يؤيِّد هذا المعنى.
وقال الإمام الغزالي: «الغلطة الثالثة: سببها سَبْقُ الوهم إلى العكس، فإنَّ ما يُرَى مقرونًا بالشيء يُظَنُّ أنَّ الشيء أيضًا لا محالة مقرون به مطلقًا، ولا يُدْرَى أنَّ الأخصَّ أبدًا مقرون بالأعمِّ، والأعمُّ لا يلزم أن يكون مقرونًا بالأخص. ومثله نُفْرَة نفس السَّلِيم وهو الذي نهشته الحيَّة عن الحبل
_________
(1) انظر: المسند 1/ 90. وسنن أبي داود، كتاب الأقضية، بابٌ كيف القضاء، 3/ 301، ح 3582. وجامع الترمذيّ، كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما، 3/ 609، ح 1331، وقال: «هذا حديث حسنٌ». وصحيح ابن حبَّان (الإحسان)، كتاب القضاء، ذكر أدب القاضي عند إمضائه الحكم … ، 11/ 451، ح 5065. وأعلَّه ابن حزم وغيره بسماك بن حرب. انظر: المحلى 8/ 436، والبدر المنير 9/ 533، وإرواء الغليل 8/ 226.
(2) انظر: المستدرك، كتاب الأحكام، استماع بيان الخصمين واجبٌ على القاضي، 4/ 93، من حديث عليٍّ رضي الله عنه، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ولم يتعقَّبه الذهبيّ. أما حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما فقد رواه في أوَّل كتاب الأحكام 4/ 88، وقال: «صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، ولم يتعقَّبه الذهبيّ، لكن ليس فيه ذكر الاستماع إلى الخصمين.
(3) كتاب القضاء، 2/ 188، ح 1388.
(4) انظر: المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 206، ح 397، وكشف الخفاء 2/ 362.
(2/217)
المبرقَش اللَّون؛ لأنه وجد الأذى مقرونًا بهذه الصورة، فتوهم أنَّ هذه الصورة مقرونة بالأذى. وكذلك تنفر النفس عن العسل، إذا شُبِّه بالعَذِرة؛ لأنه وجد الأذى والاستقذار مقرونًا بالرَّطْب الأصفر، فتوهَّم أنَّ الرَّطْبَ الأصفر مقرون به الاستقذار، ويغلب الوهم حتى يتعذَّر الأكل وإن حكم العقل بكذب الوهم، لكن خُلِقَتْ قُوَى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة، حتى إنَّ الطبع لينفر عن حسناء سمِّيت اسم اليهود إذا وجد الاسم مقرونًا بالقبح، فظنَّ أنَّ القبح أيضًا ملازم للاسم. ولذا تُوْرَد على بعض العوامِّ مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قلت: هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسيء الاعتقاد فيمن نَسَبْتَه إليه، وليس هذا طبعَ العامِّيِّ خاصَّة، بل طبعُ أكثر العقلاء المُتَّسمين بالعلوم، إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله تعالى الحقَّ حقًّا، وقوَّاهم على اتِّباعه …. » (1).
أقول: ومما يوضح ما قاله الغزالي أنك قد ترى من يشبه صديقًا لك فتميل إليه نفسك، مع أنك لم تره قبل ذلك، وترى من يشبه بغيضًا لك، فتنفر نفسك عنه، وترى من يشبه مخوفًا لك فتخافه، وقس على هذا. حتى إن الإنسان ليميل إلى سَمِيِّ صديقه، وينفر عن سميِّ بغيضه، ونحو ذلك، وقد يكون عهدك بصديقك أو بغيضك أو مخوفك بعيدًا، أو تكون مشابهة هذا له غير واضحة، فيخفى عنك السبب، فتبقى متعجبًا ما بال نفسي مالت إلى هذا الشخص مع أني لم أره قبل الآن. وما لها نفرت عن هذا مع أني لم أره قبل الآن، وأكثر الناس يوجِّهون ذلك بتعارف الأرواح أو تناكرها، وهذا وإن كان صحيحًا في الجملة إلَّا أنَّ الغالب ما تقدّم، وأنت إذا تذكّرت وتفكَّرْت
_________
(1) المستصفى 1/ 59. [المؤلف]
(2/218)
عرفت صحَّة ما ذكرنا. وهذا الباب واسع حتى لقد ترى الشخص فتظنُّه عالمًا، وما ذلك إلا لمشابهةٍ بينه وبين رجلٍ عالمٍ قد عرفته قبل ذلك.
فأمَّا ما ذكره الغزاليُّ أنَّ الإنسان قد تُذْكَر له مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قيل له: هذا قول الأشعرية وكان يسيء الظن بهم نفر عنها، فقد يكون لما ذكر بأن يكون هذا الإنسان طالب علم، وقد عرف مسائل أخطأ فيها الأشعرية، فلما نُسِبَتْ هذه المسألة إليهم نفرت نفسه عنها لمشابهتها لتلك المسائل في أنَّ الجميع من قول الأشعرية، فتوهَّم أنَّ المشابهة في هذا الأمر تشعربالمشابهة في الخطأ، وقَوِيَ هذا المعنى في وهمه حتى غلب ما قام لديه من دليلٍ على صحَّة قولهم في تلك المسألة.
وقد يكون طالع مذهب الأشاعرة فظهر له أنَّ الغالب فيما يخالفون فيه المعتزلة الخطأ، فاجتمع عنده القياس الوهميُّ السابق مع الحمل على الغالب.
وقد يكون سمع كثيرًا ممن يحسن الظن بهم يذمّون الأشعرية، وقد يكون وجد آباءه وأشياخه على الاعتزال ونشأ عليه، فصار يكره أن يُنْسَب الغلط إلى مذهبه ومذهب آبائه وأشياخه. وهذا هو التعصب، وهو أوْخَم هذه الأمور، فلقد بلغ بكثير من الناس إلى ما يظهر منه اعتقاد العصمة في فرد من أفراد الأمة؛ فإنك تجد كثيرًا من المقلدين للشافعيِّ مثلًا لا يجوِّزون الخطأ عليه. فإن قيل: إنهم لا يصرِّحون باعتقاد العصمة. قلت: نعم، ولكن ألا تراهم كلما عُرِضَ عليهم قولٌ من أقوال الشافعي اعتقدوا أنه الحق، ولا يتردَّدون فيه، ولو خالف القرآن أو خالف الأحاديث الصحيحة أو خالف أكابر الصحابة أو خالف جمهور الأمة؟ فلولا أنهم يعتقدون له العصمة لكانوا إذا بُيِّنَتْ لهم الحجة على خلافه خضعوا لها.
(2/219)
ولقد كثر اعتقاد العصمة في كثير من أفراد الأمة فضلًا عن الطوائف كالأشعرية والمعتزلة ونحوها، ومع هذا فلا نقول فيمن لم يصرِّح باعتقاد العصمة إنه يعتقدها، وإنما وقعوا فيما وقعوا فيه بالتعصب ومحبة النفس، فإنَّ أحدهم يحب نفسه حتى لا تطاوعه نفسه إلى الاعتراف بأنَّ آباءه أو مشايخه أو أهل مذهبه أخطؤوا، فلذلك تجده لا يميل إلى الاعتراف بأن إمامه أخطأ، وإن قامت الحجة عليه، بل يذهب يحرِّف الحجج ويؤوِّلها. وليس هذا بالتقليد الذي أجازه العلماء في الفروع وأنكره بعضهم، وإنما التقليد المجوَّز أن تأخذ بقول مجتهد لا تعلم حجَّته، ولكن قد قام عندك دليل يفيد الظن بأنَّ قوله صواب، فإذا أُخْبِرْتَ بدليل أقوى من الدليل الأول يدلُّ على أنَّ ذلك المجتهد أخطأ، وأنَّ الصواب قول مجتهد آخر، لزمك أن ترجع إلى قول الآخر، فإن منعك التعصُّب فعليك أن تكتفي بقول: «لعلّ لإمامي جوابًا عن هذا الدليل». واعلم أنَّ هذا لا أراه ينجيك؛ لما تقرَّر في الأصول من وجوب اعتقاد أنَّ الدليل الظاهر على ظاهره، والعمل بمقتضى ذلك حتى يتمَّ البحث، فإن ظهر بالبحث أنَّ هناك دليلًا آخر يوجب تخصيص الأول أو تأويله عُمِلَ به من حين ظهوره. ذَكَرَ أهلُ الأصول هذه المسألة في بحث الأمر وبحث العامِّ (1).
ولا فرق بين المقلِّد وغيره؛ لأنَّ قول إمامه وإن كان شبه قرينة على أن لذلك الدليل مخالفًا، فهذه القرينة معارَضَةٌ بقول مَنْ قال من المجتهدين بظاهر ذلك الدليل، والتفاوت بين المجتهدين يسير لا يقاوِم الدليلَ الظاهرَ
_________
(1) انظر: قواطع الأدلَّة للسمعانيّ 1/ 308، وتشنيف المسامع للزركشيّ 2/ 599 و 728.
(2/220)
من الكتاب والسنة.
والمقصود أنَّ قولك: «لعلَّ لإمامي جوابًا عن هذا الدليل» لا ينجيك، ولكنه أهون من أن تَعْمِد إلى الأدلَّة المخالفة لمذهبك فتحرِّفها وتؤوِّلها وتبدلها، والعياذ بالله. هذا مع أن التقليد المجوَّز إنما هو في فروع الفقه، فأمَّا أصول الدين فلا يغني فيها التقليد المحض (1).
/ولو جاز التقليد في أصول الدين، لكان سلف الأمة أولى بأن يقلِّدهم الناس، فإنَّ لهم مزايا يعزُّ وجودها فيمن بعدهم.
منها: قربهم من عهد النبوَّة.
ومنها: بعدهم عن التقليد لغير المعصوم. فكان الصحابة رضي الله عنهم لما علموا أن أمور الدنيا ربما يرى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – رأيًا يكون غيرُه أولى منه لا يمنعهم علمهم بعظيم قدره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وتفانيهم في محبته وتوقيره، عن الإشارة عليه بخلاف رأيه. وهذا كثير في الأحاديث، وثبت في حديث جابر في شأن الجمل الذي اشتراه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم منه، قال جابر: «كنا نراجعه مرَّتين في الأمر إذا أَمَرَنَا به، فإذا أَمَرَنَا الثالثة لم نراجعه» (2). ومن كان له اطِّلاع على الحديث وجد المراجعة ثلاثًا موجودة في أحاديث كثيرة يكفي بعضها في تواتر هذا المعنى.
فأمَّا في أمور الدين فكانوا يعلمون عصمته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيها فلم يكونوا يراجعونه في شيء منها إلَّا نادرًا، حيث يعلمون أنه صلَّى الله
_________
(1) هنا انتهى ملحق ص 43.
(2) مسند أحمد 3/ 358 – 359. [المؤلف]
(2/221)
عليه وآله وسلَّم استند إلى اجتهاده، كما راجعه عمر رضي الله عنه في الصلاة على ابن أبيٍّ المنافق (1)؛ لأنَّ عمر فَهِم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إنما استند في ذلك إلى رأيه. ثم كان أصاغرهم يخالفون أكابرهم في أمور الدين مع احترامهم لهم، وهكذا التابعون وأتباعهم والأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة وغيرهم يخالفون أكابر الصحابة فضلًا عن غيرهم. ولم يكن يخطر ببال العالم منهم أنَّ مخالفته مَنْ تَقَدَّمَه فيها احتقار أو سوء أدب في حقِّه، بل كان أحدهم يعترف بأنَّ مَنْ فوقه أفضلُ وأعلم منه، ولا يمنعه ذلك من مخالفته إذا ترجَّح له خلافُ قوله.
ومنها: الإخلاص، فكان أحدهم إذا سئل عما لا يعلمه حقَّ العلم لم يتوقف عن قول: لا أدري، وإذا أخطأ في شيء ثم وُقِفَ عليه لم يتوقَّف عن قوله: أخطأتُ، ولا يتكلَّم في علم لم يتقِنه، بل يقول: لا خبرة [44] لي بهذا العلم، ولا يبالي بأنَّ ذلك قد ينقص مكانته في قلوب الناس ويعظم مكانة غيره من معاصريه ومخالفيه. وحسبك ما كان بين أمير المؤمنين عليٍّ وبين معاوية من النزاع، ولم يمنع ذلك معاوية أن يستفتي أمير المؤمنين عما أشكل عليه من الأحكام، كما في قضية الرجل الذي قتل آخر زاعمًا أنه وجده مع امرأته، وغير ذلك (2).
والعلوم كالصنائع، قد يكون الرجل نَجَّارًا ولا يحسن من الصنائع
_________
(1) انظر: البخاريّ، كتاب الجنائز، باب ما يُكره من الصلاة على المنافقين … ، 2/ 97، ح 1366. وصحيح مسلمٍ، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، 8/ 120، ح 2774. [المؤلف](2) انظر: سنن البيهقيّ، كتاب الحدود، باب الشهود في الزنى، 8/ 231. [المؤلف].
(2/222)
غيرها، ولا يمنعه ذلك أن يقال: إنه صانع ماهر، فهكذا قد يكون الرجل ماهرًا في العربية فقط كسيبويه، ولا يمنعه ذلك أن يقال: إنه عالم علَّامة إمام.
وكان أهل القرون الأولى من الورع والمعرفة بحيث إن العالم بفنٍّ لا يتعاطى الكلام في غيره، والعامَّة لا يسألون في كلِّ علمٍ إلَّا من عُرِفَتْ له الإمامةُ فيه. فكان الناس في بغداد في زمن المأمون وما بعده مَنْ أحب أن يسأل عن شيء من الحديث وفقهه سأل الإمام أحمد وأضرابه، ومَنْ أحب أن يسأل عن شيء من الرأي والقياس سأل أصحاب الإمام أبي حنيفة، ومَنْ أحبّ أن يسأل عن شيء من العربية سأل أصحاب الكسائي وأضرابهم، ومَنْ أحبَّ أن يسأل عن شيء من الورع وأمراض القلب سأل أضراب بشر الحافي وأصحابه، ومَنْ أحبَّ أن يسأل عن شي من [45] المغازي والأخبار سأل أصحاب الواقدي وأمثالهم، وقس على ذلك.
وقد كان جماعة من أئمة الحديث المضروب بهم المثل إذا سئل أحدهم عن مسألة فقهية يقول للسائل: سَل الفقهاء.
ولكن في العصور الوسطى تغيَّر الحال، فكم من عارف بفنٍّ خاصٍّ تعاطى الكلام في غيره، واغترَّت العامة بشهرته فقلَّدوه في جميع العلوم.
وبالجملة فمزايا السلف كثيرة، وحسبك قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «خير أمتي القرن الذين يلوني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته».
والحديث في الصحيحين وغيرهما عن جماعةٍ من الصحابة (1)، وفي
_________
(1) منهم: ابن مسعودٍ رضي الله عنه. أخرج حديثه البخاريّ في كتاب الشهادات، بابٌ لا يشهد على جَوْرٍ إذا أُشْهِد، 3/ 171، ح 2652. ومسلمٌ ــ كما سيأتي ــ. ومنهم: عمران بن حُصَينٍ رضي الله عنه. أخرج حديثه البخاريّ في الموضع السابق، 3/ 171، ح 2651. ومسلمٌ في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، 7/ 185، ح 2535. ومنهم: أبو هريرة رضي الله عنه. أخرج حديثه مسلمٌ في الموضع السابق، 7/ 185، ح 2534.
(2/223)
ألفاظه اختلافٌ، واللفظ الذي ذكرناه لمسلمٍ في صحيحه عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه (1).
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرها عن عرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مُوَدّع فأوصنا، فقال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة» (2).
_________
(1) صحيح مسلمٍ، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، 7/ 184، ح 2533. [المؤلف](2) مسند أحمد 4/ 126. سنن أبي داود، كتاب السنَّة، بابٌ في لزوم السنَّة، 2/ 165، ح 4607. سنن ابن ماجه، كتاب السنَّة (المقدِّمة)، باب اتِّباع سنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، 1/ 10 – 11، ح 42 – 44. سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب اتِّباع السنَّة، 1/ 44، ح 96. جامع الترمذيّ، كتاب العلم، باب الأخذ بالسنَّة واجتناب البدع، 2/ 113، ح 2676، وقال: «حسنٌ صحيحٌ». والحاكم في المستدرك، كتاب العلم، «عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين»، 1/ 94 – 98، من طرقٍ، قال في بعضها: «صحيحٌ ليس له علَّةٌ»، وقال في بعضها: «صحيحٌ على شرطهما جميعًا، ولا أعرف له علَّةً»، وأقرَّه الذهبيّ. وقد صحَّحه ابن حِبَّان أيضًا (الإحسان)، في (المقدَّمة)، باب الاعتصام بالسنَّة … ، 1/ 178، ح 5. [المؤلف]
(2/224)
[46] وفي سنن أبي داود وسنن الدارمي وغيرهما عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: «يُفتح القرآن على الناس حتى يقرأه المرأة والصبيُّ والرجل، فيقول الرجل: قد قرأتُ القرآن فلم أُتَّبَع، والله لأقومنَّ به فيهم لعلي أُتَّبع، فيقوم به فيهم فلا يُتَّبَع، فيقول: قد قرأتُ القرآن فلم أُتَّبَع، وقد قمت به فيهم فلم أُتَّبَع، لأحتظرنَّ في بيتي مسجدًا لعلي أُتَّبَع، فيحتظر في بيته مسجدًا فلا يُتَّبَع، فيقول: قد قرأتُ القرآن فلم أُتَّبَعْ، وقمتُ به فيهم فلم أُتَّبَع، وقد احتظرتُ في بيتي مسجدًا فلم أُتَّبَع، والله لآتينَّهم بحديث لا يجدونه في كتاب الله ولم يسمعوه عن رسول الله لعلِّي أُتَّبَع، قال معاذ: فإياكم وما جاء به؛ فإنَّ ما جاء به ضلالة» (1).
وفي سنن الدارمي أيضًا عن الحسن قال: «سننكم، والله الذي لا إله إلا هو، بينهما: بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي …. » (2).
وفيها أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير إذا تُرِكَ منها شيء [47] قيل: تُرِكَت السنَّة … » (3).
_________
(1) سنن أبي داود، كتاب السنَّة، بابٌ في لزوم السنَّة، 2/ 272، ح 4611. سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب تغيُّر الزمان وما يحدث فيه، 1/ 66 – 67، ح 205. [المؤلف](2) سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، بابٌ في كراهية أخذ الرأي، 1/ 72، ح 222. [المؤلف](3) سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب تغيُّر الزمان وما يحدث فيه، 1/ 64، ح 191. ونحوه في المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، ذكر فتنةٍ يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير، 4/ 514 – 515. قال الذهبيّ في تلخيصه: «قلت: (خ م)»، يعني أنه على شرط الشيخين. [المؤلف]
(2/225)
أقول: وهذا الموقوف له حكم المرفوع؛ لأنه مما لا يُقال بالرأي.
وفي كتاب ابن وضاح (1) عن حذيفة رضي الله عنه: «أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله! ما نرى بينهما من النور إلَّا قليلًا، قال: والذي نفسي بيده لتظهرنَّ البدع حتى لا يُرى من الحق إلا قَدْر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لتفشُونَّ البدع حتى إذا تُرِكَ منها شيء قالوا: تُرِكت السنة … ». وهذا الموقوف له حكم المرفوع أيضًا؛ لأنه لا مجال للرأي فيه.
ومن أعظم مزايا السلف: ما نبَّه عليه ابن الحاج (2) رحمه الله, قال ما معناه: كان في عهد السلف إذا ابتدعت العامّة بدعة قام العلماء في إبطالها، وأما علماء الخلف فإنهم إذا ابتدع أحد من العامَّة والأمراء والأغنياء بدعةً قام العلماء في الترغيب فيها والانتصار لها وتوجيهها.
أقول: وقد صدق وبرَّ، ومَن أراد من أمرائنا وأغنيائنا فليجرِّب بأن يُحْدِثَ بدعة، ثم يستعين بالعلماء والمتصوِّفين فسيجدهم أسرع ما يكون إلى الترغيب فيها وتحريف الكتاب والسنة في سبيل تحسينها وتضليل أو
_________
(1) ما جاء في البدع 124 ح 162.
(2) أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري القبيلي الفاسي المالكي المشهور بابن الحاج، من تصانيفه: «المدخل إلى تنمية الأعمال»، قال فيه ابن حجر: (كثير الفوائد، كشف فيه عن معايب وبدعٍ يفعلها الناس)، توفي سنة 737 هـ. انظر: الدرر الكامنة 4/ 355 – 356. ولم أقف على هذا النقل في المدخل.
(2/226)
تكفير مَن قد يتعرّض لردِّها، [48] ولعلَّ الأعلم الأتقى منهم هو الذي يُلزم نفسه السكوت، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
وبهذا هلكت الأمم السابقة، وقد قصّ الله تعالى في كتابه عن اليهود والنصارى ما فيه أعظم العبر.
وفي الكتب الموجودة بيد اليهود والنصارى الآن ويسمونها بالتوراة أشياء كثيرة من هذا القبيل، وأما النصرانية فمَن تتبع تاريخها منذ رفع عيسى عليه السلام تبيَّن له أنه كان لا يزال في القرون الأولى عارفون بالحق، ولكنهم مغلوبون على أمرهم، وكانت العامَّة والملوك والأئمة المضلُّون يحدثون المقالات فيجدون من العلماء والرهبان مَنْ ينصرها، ويكفّر أو يضلِّل مَنْ يخالفها، وهذا حال جميع الأمم.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحابٌ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَنْ جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَنْ جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردلٍ» (1).
[49] وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لتتبعن سنن مَن كان قبلكم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله! اليهود
_________
(1) مسلم، كتاب الإيمان، بابٌ النهي عن المنكر من الإيمان، 1/ 50 – 51، ح 50. [المؤلف]
(2/227)
والنصارى؟ قال: «فمن؟ » (1).
وروى البخاري نحوه عن أبي هريرة، وفيه: فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ فقال: «ومَن الناس إلا أولئك» (2).
وروى الشافعي بسندٍ صحيحٍ ــ كما في الفتح ــ عن عبد الله بن عمرٍو عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لتركَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قبلكم حُلوَها ومُرَّها» (3).
وفي الفتح: وأخرج الطبرانيّ من حديث المستورد بن شدَّادٍ ـ رفعه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ــ: «لا تترك هذه الأمَّة شيئًا من سنن الأوَّلين حتى تأتيه» (4).
قال في الفتح: قلت: وقد وقع معظم ما أنذر به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وسيقع بقية ذلك (5).
_________
(1) البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب قول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: «لتتَّبعنَّ سنن مَن كان قبلكم»، 9/ 103، ح 7320. مسلم، كتاب العلم، باب اتِّباع سنن اليهود والنصارى، 8/ 57، ح 2669. [المؤلف](2) البخاري، الموضع السابق، 9/ 102 – 103، ح 7319. [المؤلف](3) الفتح 13/ 235. [المؤلف]. كذا, وليس في الفتح أنه مرفوع إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -. والحديث موقوف على ابن عمرو كما نصَّ عليه البيهقي في معرفة السنن والآثار 1/ 186. وانظر: السنن المأثورة للشافعي ص 137 – 138 ح 398. وأخرجه كذلك ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر في السنة وغيرهما.
(4) الفتح 13/ 235. [المؤلف]. قال الطبرانيّ: «لا يُروى هذا الحديث عن المستورد إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به ابن لهيعة».انظر: المعجم الأوسط 1/ 101، ح 313.
(5) الفتح 13/ 235. [المؤلف]
(2/228)
وفي المستدرك عن حذيفة رضي الله عنه قال: «أوَّلُ ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتُنْقَضَنَّ عرى الإسلام عروة عروة، وليصلينَّ نساء وهنَّ حيّض، ولتسلكُنَّ طريق مَن كان قبلكم حذوَ القذة بالقذة، وحذوَ النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم ولا يخطئنكم (1)، حتى تبقى فرقتان من فرقٍ كثيرة، فتقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس، لقد ضَلَّ مَنْ كان قبلنا، إنما قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 115] لا تصلُّوا إلَّا ثلاثًا، وتقول الأخرى: إيمان المؤمنين بالله كإيمان الملائكة، ما فينا كافرٌ ولا منافقٌ، حقٌّ على الله أن يحشرهما مع الدَّجَال».
قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، وأقرَّه الذهبيّ (2).
أقول: وقد وُجِدَت الطائفتان؛ فإنَّ بالهند طائفة يسمُّون أنفسهم أهل القرآن (3)، يقولون: إنما الواجب ثلاث صلوات أو صلاتان، وأما الطائفة الأخرى فغلاة المرجئة. والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن
_________
(1) كذا في الأصل، ولعلَّ الضمير يرجع إلى الطرق المفهومة من «طريق»، ورُسمت الكلمة في المستدرك: «ولا يخطأنكم» على لغة «خَطِئ يخطأ». وفي مسند الشاميِّين للطبرانيّ 2/ 100، ح 987: «ولا يُخْطَأُ لكم».
(2) المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، «أوَّل ما تفقدون من دينكم الخشوع»، 4/ 469. [المؤلف](3) انظر رسالتي في الرَّدِّ على «شبهات القرآنيِّين» وقد طُبعت مرّتين في مجمَّع الملك فهدٍ لطباعة المصحف الشريف.
(2/229)
سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قِبَلَ حنينٍ، فمررنا بسدرةٍ، فقلت: يا نبي الله! اجعل لنا هذه ذات أنواطٍ، كما للكفار ذات أنواطٍ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرةٍ ويعكفون حولها، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: [49 ب] «الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم».
وقال أيضًا: حدَّثنا حجَّاج، حدَّثنا ليث يعني ابن سعد، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي ثم الجندعي، عن أبي واقدٍ الليثيِّ، فذكره. وفيه: فقلنا يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، فقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، إنها السنن، لتركبن سنن مَن كان قبلكم سنَّةً سنَّةً» (1).
وكلا السندين رجاله رجال الصحيحين، وأخرجه الترمذيّ، وقال: «حسنٌ صحيحٌ» (2).
وأخرج الطبرانيُّ عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوفٍ، عن أبيه، عن جدِّه، نحوه (3).
_________
(1) المسند 5/ 218 [وفي الأصل: 118]. [المؤلف](2) جامع الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء «لتركبنَّ سنن مَن كان قبلكم»، 2/ 27 – 28، ح 2180. [المؤلف](3) المعجم الكبير 17/ 21، ح 13715.
(2/230)
وفي المستدرك «عن حذيفة: ذكروا عنده {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فقال رجلٌ: إنَّ هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نِعْمَ الإخوة بنو إسرائيل، إن كان لكم الحلو ولهم المرُّ. كلَّا والذي نفسي بيده حتى تحذوا السنَّةَ بالسنَّةَ حذو القذَّة بالقذَّة».
قال الحاكم: «صحيحٌ على شرط الشيخين»، وأقرَّه الذهبي (1).
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود [غريبًا] كما بدأ، ويَأرِزُ بين المسجدين كما تأرز الحيَّة في جُحرها» (2).
وقد رُوِي نحوه من حديث ابن مسعودٍ وأنسٍ وأبي هريرة وعمرو بن عوف المزنيّ وسعد بن أبي وقَّاصٍ وغيرهم (3).
_________
(1) المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة، «ابن أمِّ عبد من أقربهم إلى الله وسيلةً»، 2/ 312. [المؤلف](2) مسلم، كتاب الإيمان، بابٌ الإسلام بدأ غريبًا، 1/ 90، ح 146. [المؤلف](3) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه مسلمٌ في الموضع السابق، 1/ 90، ح 145. وحديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه أخرجه أحمد 1/ 398. والترمذيّ في كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، 5/ 18، ح 2629، وقال: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ». وحديث سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه أخرجه أحمد 1/ 184. وحديث أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالكٍ رضي الله عنهم أخرجه الطبرانيّ 8/ 152، ح 7659، وقال الهيثميّ: «وفيه كثير بن مروان، وهو ضعيفٌ جدًّا». مجمع الزوائد 7/ 513 – 514. وحديث عمرو بن عوفٍ رضي الله عنه أخرجه الترمذيّ في الموضع السابق، 5/ 18، ح 2630، وقال: «حديث حسنٌ صحيحٌ». وانظر: مجمع الزوائد 1/ 297 و 7/ 545 – 547.
(2/231)
وأخرج الحاكم في المستدرك ــ وقال: «صحيحٌ على شرط الشيخين»، وأقرَّه الذهبيّ ــ عن عبد الله بن عمرٍو، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «يأتي على الناس زمانٌ يجتمعون في المساجد ليس فيهم مؤمنٌ» (1).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ.
وفي فتح الباري: «قال ابن بطَّال: أعلم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن أمَّته ستتبع المحدثات من الأمور والأهواء، كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرةٍ بأن الآخِرَ شرٌّ، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصَّةٍ من الناس» (2).
أقول: يشير [49 ج] إلى الحديث المشهور: «لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». وهو في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: ثوبان ــ واللفظ له عند مسلمٍ ــ، وجابر بن عبد الله، ومعاذٌ، وأبو أمامة، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقَّاصٍ، وجابر بن سَمُرة، وعقبة بن عامرٍ، وسلمة بن نُفَيلٍ، وقرَّة بن إياسٍ، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن أبي سفيان (3).
_________
(1) المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، «يأتي على الناس زمانٌ يجتمعون في المساجد ليس فيهم مؤمنٌ»، 4/ 442. [المؤلف]. وهو موقوفٌ على عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما.
(2) الفتح 13/ 235. [المؤلف](3) انظر: البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب قول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين»، 9/ 101، ح 7311، [من حديث المغيرة بن شعبة]. وصحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى بن مريم، 1/ 95، ح 156، [من حديث جابر بن عبد الله]. وكتاب الإمارة، باب قوله – صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ»، 6/ 52 – 54، ح 1920 – 1925، [من حديث ثوبان، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن سَمُرة، وجابر بن عبد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وعقبة بن عامرٍ، وسعد بن أبي وقَّاصٍ. وسنن أبي داود، كتاب الجهاد، بابٌ في دوام الجهاد، 3/ 4، ح 2484، من حديث عمران بن حُصَينٍ. وجامع الترمذيّ، كتاب الفتن، باب ما جاء في الشام، 4/ 485، ح 2192، من حديث قرَّة بن إياسٍ، وقال: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ». وسنن ابن ماجه، كتاب السنَّة (المقدِّمة)، باب اتِّباع سنَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، 1/ 5، ح 7. والمسند 4/ 104 و 5/ 269، من حديث سلمة بن نُفَيلٍ وأبي أمامة]. وانظر: فتح الباري 13/ 229 – 230. [المؤلف]. وهو معدودٌ في الأحاديث المتواترة. انظر: قطف الأزهار المتناثرة ص 216، ح 81.
(2/232)
قال البخاريّ في صحيحه: «وهم أهل العلم».
وقال ابن المدينيّ: «وهم أصحاب الحديث».
وقال الإمام أحمد: «إن لم يكونوا أهل الحديث، فلا أدري مَنْ هم؟ »، وكذا قال يزيد بن هارون (1).
وقد استُدِلَّ به وبغيره على عصمة مجموع الأمة, فبني على ذلك حجِّيةُ الإجماع، وفيها نزاع كثير.
وعلى كلِّ حال، فأصول العقائد إنما تُبْنَى على الحجج القطعية، وقلَّما يتفق ذلك في الإجماعات المعروفة إلَّا ما كان منها على وفق ظواهر الكتاب والسنة، كما يأتي.
بل قيل: إنَّ الإجماع ــ أي وحده ــ لا يكون حجَّةً قطعيَّةً أصلًا.
_________
(1) انظر: فتح الباري 13/ 229. [المؤلف]
(2/233)
والقائلون بأنه قد يكون حجَّةً قطعيَّةً يشترطون أن يُعْلَم بالعلم القطعي أنَّ أهل العصر محصورون في عدد كذا، ثم يُنقل ذلك القول عن كلِّ فرد منهم بالتواتر، أي: ينقله عن زيد جماعةٌ يستحيل عادةً تواطؤُهم على الكذب وحصوله منهم اتفاقًا، فيحصل العلم القطعي بأنَّ ذلك الرجل قاله، كعلم المطَّلِع على أخبار العالم في هذا العصر أنَّ (باريس) اسم مدينة للفرنسيس، وينقله عن عمرٍو جماعة كذلك، وعن خالد كذلك، حتى يستغرق جميع أفراد ذلك العصر، ويُعْلمَ قطعًا أنهم استمرُّوا على ذلك القول إلى أن ماتوا، وأنَّ كل واحد منهم قاله غير مكرَه، ويعلم قطعًا أنه لم يخالفهم أحد قبل انقراض عصرهم، وأنه لم يكن قبلهم في الأمة مَنْ يقول بخلاف قولهم، وأن يتسلسل النقلُ إلينا بالتواتر [50] التفصيليّ القطعيِّ في كل درجة، إلى غير ذلك من الشرائط المسطورة في كتب الأصول (1)، فإن لم تجتمع فغايته أن يكون حجَّة ظنيَّة بشرطه. فلا يصلح للتمسك في أصول العقائد إلَّا إذا انضمَّ إليه أدلَّةٌ أخرى من ظواهر القرآن وعِدَّة من الأحاديث، بحيث يكون كلُّ فرد منها مفيدًا للظن، ولكن مجموعها يفيد القطع.
وإذا كان هذا حال الإجماع، فما بالك بقول الأكثر؟
فإن قيل: فأين الأحاديث الآمرة بالتمسك بالجماعة والسواد الأعظم؟
قلت: فما تصنع أنت بحديث الطائفة وغيره مما مرّ؟ وقد مرّ كلام ابن بطَّالٍ. ثم ما تصنع إذا دلّ كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على معنىً، وقولُ الأكثر على خلافه؟ وهذا كثيرٌ.
_________
(1) انظر: قواطع الأدلَّة 3/ 250، 270،، 296، 303، 310، ونهاية السول 3/ 303 فما بعدها.
(2/234)
لا مخرج إلا أحد أمرين:
الأول: أن يقال: إن أحاديث الجماعة والسواد الأعظم خاصة بما إذا لم يوجد دليل من الكتاب ولا من السنة، وعلى هذا يدل قول الله عزَّ وجلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
والأدلَّة في هذا من الكتاب والسنَّة كثيرةٌ. وعلى [51] ذلك كان عمل الصحابة، فقد جاء عن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنه كان إذا عرضت حادثةٌ يقضي بالكتاب، فإن لم يجد فبالسنَّة، فإن لم يجد شاور الناس (1).
وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقضي بالكتاب، فإن لم يجد فبالسنَّة، فإن لم يجد فبما قضى به أبو بكرٍ، فإن لم يكن شاور الناس (2).
وعلى هذا يدلُّ كتابه إلى شريح (3). وروي نحو ذلك عن ابن مسعود (4).
_________
(1) انظر: سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب الفتيا وما فيها من الشدَّة، 1/ 58، ح 163. وإعلام الموقعين 1/ 74 – 75. [المؤلف](2) انظر: إعلام الموقعين 1/ 74 – 75. [المؤلف](3) انظر: سنن النسائيّ، كتاب آداب القضاة، الحكم باتِّفاق أهل العلم، 2/ 360، ح 5414. وسنن الدارميّ، الموضع السابق، 1/ 60، ح 169. وانظر: إعلام الموقعين 1/ 61 – 62.
(4) انظر: المستدرك، كتاب الأحكام، الخصمان يقعدان بين يدي الحاكم، 4/ 94، سنن النسائيّ، الموضع السابق، 2/ 306، ح 5412. سنن الدارميّ، الموضع السابق، 1/ 59، ح 167. [المؤلف]
(2/235)
وعن ابن عباس أنه كان إذا سئل عن الأمر فكان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه برأيه (1).
وفي طبقات ابن سعد: «أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس» فذكر نحوه (2).
وفي سنن البيهقي من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكير بن عبد الله أخبره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مسلمة بن مخلد، أنه قام على زيد بن ثابت فقال: يا ابن عم: أُكرِهْنا على القضاء، فقال زيد: اقض بكتاب الله عزَّ وجلَّ، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فإن لم يكن في سنة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فادع أهل الرأي، ثم اجتهد، واختر لنفسك، ولا حرج (3).
وعلى هذا كان عمل أئمة التابعين وعلماء السلف، كالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة، ترى أحدهم إذا ظفر بدلالة من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال بها، وإن كان جمهور الأمة على خلافها.
_________
(1) سنن الدارميّ، الموضع السابق، 1/ 59، ح 168. ونحوه في المستدرك، كتاب العلم، الناس كانوا لا يكذبون في عهد النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، 1/ 127. قال الحاكم: «صحيحٌ على شرط الشيخين»، وأقرَّه الذهبيّ. [المؤلف](2) الطبقات 2/ 101.
(3) سنن البيهقي، كتاب آداب القاضي، باب ما يقضي به القاضي … ، 10/ 115. [المؤلف]
(2/236)
الأمر الثاني: ما نقله الشاطبي في الاعتصام (1) عن ابن جرير الطبري، وحاصله: أن أحاديث السواد الأعظم خاصَّة بمسألة الإمارة، والمعنى أنه إذا اجتمع أكثر المسلمين على تأمير أحدهم وجب عليهم وعلى غيرهم طاعته.
أقول: وهذا هو الذي يدلُّ عليه سياق تلك الأحاديث، وقد بُيِّنَ في بعضها أن المراد الطاعة في غير معصية الله تعالى، وقد دلّت على ذلك الآية السابقة، وبَيَّن في بعض الأحاديث أنَّ الخروج على الأمير لا يجوز إلَّا أن يكفر كفرًا بواحًا أو يترك الصلاة.
وعلى هذا أو ما في معناه يُحْمَل عمل الحسين بن علي عليهما السلام، ثم خلاف ابن الزبير وأهل المدينة ثم ابن الأشعث ومن خرج معه من الأئمة كسعيد بن جبير والشعبي وغيرهما.
وبالجملة، فالنظر في هذه المسألة مبنيٌّ على الأصل الإسلامي المشهور، وهو أنه إذا تعارضت مفسدتان ولم يكن بدٌّ من ارتكاب إحداهما وجب ارتكاب الصغرى لدرء الكبرى. وَمِنْ هنا يُعْلَمُ عُذْرُ أهلِ السنة بعد القرن الأول في حظر الخروج على السلطان مادام مسلمًا، فإنَّ التجارب علّمتهم أنَّ نتيجة الخروج تكون أعظم فسادًا وشرًّا وضرًّا مما كان قبله.
والمقصود أنَّ أحاديث الجماعة والسواد الأعظم لا حجة فيها على أنَّ قول الأكثر يكون حجة شرعية في المسائل العلمية، ولا سيَّما فيما يُطْلَبُ فيه العلم القطعيُّ من أصول الدين.
هذا مع أنَّه إذا فُرض ضلالُ الأكثر في أصلٍ من أصول الدِّين الكلِّيَّة، فقد
_________
(1) 3/ 140. نقل في الاعتصام أقوالًا أخرى فراجعها إن أحببت. [المؤلف]
(2/237)
خرجوا بذلك عن رسم الأمة فلا يصدق عليهم الجماعة ولا السواد الأعظم؛ لأنَّ المراد جماعة المسلمين, والسواد الأعظم منهم، كما هو ظاهر، والله أعلم.
وليس غرضي مما تقدَّم الحكمَ على أكثر الأمَّة بالضلال، وإنما مقصودي أن يعلم الناظر أنَّ ذلك أمر محتمل في نفسه، فلا يصُدُّه حسن الظن عن تدبُّر كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وما كان عليه سلف الأمة. (1) فأما حديث البخاري وغيره عن عقبة بن عامرٍ في صلاة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على شهداء أحد وخطبته بعد ذلك وقوله: «وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي» (2)، فقال الحافظ في الفتح: أي على مجموعكم؛ لأنَّ ذلك قد وقع من البعض، أعاذنا الله تعالى (3).
وأشار في موضعٍ آخر إلى أنه خاصٌّ بالصحابة؛ لأنهم المخاطَبون، وعبارته: «ووقع من ذلك في هذا الحديث إخباره …. وبأنَّ أصحابه لا يشركون بعده، فكان كذلك» (4).
وفي صحيح مسلمٍ من طريق أبي سفيان عن جابرٍ قال: سمعت النبي
_________
(1) من هنا يبدأ ملحق 52.
(2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، 2/ 91، ح 1344، ومواضع أخرى. ومسلمٌ في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبيِّنا – صلى الله عليه وسلم – وصفاته، 7/ 67، ح 2296، من حديث عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه.
(3) الفتح 3/ 139. [المؤلف](4) الفتح 6/ 400. [المؤلف]
(2/238)
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «إنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم».
قال الأُبِّيُّ: «يعارضه ما يأتي في الأشراط من أمر دوسٍ، ويُجاب أنَّ الإياس المذكور هو قبل قرب قيام الساعة، وعبادة دوسٍ من الأشراط، أو يقال: إن ذلك الإياس إنما هو من الشيطان، ولا يضره عدم صدقه» (1).
ويعني بأمر دوسٍ ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أَلَيَاتُ نساء دوسٍ على ذي الخَلَصَة»، وذو الخَلَصَة: طاغية دوسٍ التي كانوا يعبدونها في الجاهلية (2).
وأخرج مسلمٌ وغيره من حديث عائشة قالت: سمعت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزَّى»، فقلت: يا رسول الله! إن كنتُ لأظنُّ حين أَنْزَلَ الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33، والصف: 9] أن ذلك تامًّا (3)، قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحًا طيبة فتَوَفَّى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان،
_________
(1) إكمال إكمال المعلم 7/ 206. [المؤلف](2) البخاريّ، كتاب الفتن، باب تغيير الزمان حتى يعبدوا الأوثان، 9/ 58، ح 7116. مسلم، كتاب الفتن … ، بابٌ لا تقوم الساعة حتى تعبد دوسٌ ذا الخلَصة، 8/ 182، ح 2906. [المؤلف](3) كذا في الأصل وفي صحيح مسلمٍ، والتقدير: يكون تامًّا, كما في الطبريّ 23/ 361، والمستدرك 4/ 447 وتلخيصه.
(2/239)
فيبقى مَنْ لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم» (1).
أقول: هو صريح في أنه بعد بعث الريح يعمّ الكفر وتُعبد اللات والعزى، وأما قبل ذلك فلا يَعُمُّ ولا تعبد اللات والعزى، ولكنه يقع من بعض الناس الكفر بغير ذلك، كما بيّنته الأحاديث الأخرى، والله أعلم.
وأما حديث أحمد عن شدَّاد بن أوس، وفيه: « … قلت: يا رسول الله: أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: «نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا ولا حجرًا ولا وثنًا، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية» (2)، ففي سنده (3) عبد الواحد بن زيدٍ القاصّ وهو مجمع على ضعفه، كما في تعجيل المنفعة ولسان الميزان. والله أعلم (4).
فصل
[53] وإذا كان الأمر كما علمت في تقليد العلماء؛ فما بالك بتقليد المنسوبين إلى الخير والصلاح بدون أن يكونوا أئمة في العلم؟ وقد كان في السلف الصالح كثير من الزهاد والعباد، فلم يكن الناس يرجعون إليهم ولا إلى أقوالهم في الأمور العلمية، وإنما كانوا يرجعون إليهم في دقائق الورع، وترقيق القلوب، ومداوة النفوس، ونحو ذلك.
وأنت خبير أنَّ التقليد في المسائل الظنيات شرطه أن يكون لمجتهد
_________
(1) مسلم، الموضع السابق، 8/ 182، ح 2907. [المؤلف](2) المسند 4/ 123.
(3) أصاب هاتين الكلمتين بللٌ فلم تظهرا كاملتين، والمثبَت اجتهادٌ منِّي.
(4) انتهى ملحق ص 52.
(2/240)
مُسَلَّمٍ له الاجتهاد، وأنَّ عامَّة الأولياء الذين شاع بين الأمة تقليدهم كانوا مقلِّدين، ومَنْ قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد منهم لم يعترف له أهل عصره بذلك.
ولما بحثت عن أسباب تقليد الناس لمن يظنون به الخير والصلاح، وجدتُ أنه قد سرى إلى أذهانهم اعتقاد العصمة لكثير من أولئك، حتى لقد يغلو بعضهم فيُثْبِت لبعض الأولياء كمالات لا يثبتها للأنبياء، وينزهه عن أشياء لا ينزه عنها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, ولقد يُنْقَل له نقلًا (1) صحيحًا أو متواترًا أو يشاهِد بعينيه أنَّ فلانًا الذي يعتقد فيه يترك الصلاة ويشرب الخمر ويفعل ويفعل، فيقول: نعوذ بالله من فساد العقيدة ومن حرمان بركة الصالحين، إنما كان [54] سيدي فلان يتستر من الناس لئلا يعلموا منزلته عند الله، أو يختبر الناس ليظهر الموفَّق الذي لا تَزَلْزَلُ عقيدتُه من المحروم الذي يغترُّ بالظواهر، فكان يظهر للناس أنه عندهم ولم يصلّ، مع أنه في الحقيقة بمكة أو بالمدينة أو بجبل قاف أو نحو ذلك، ويظهر لهم أنه يشرب الخمر والواقع أنَّ الخمر كانت تستحيل في يده إلى شراب طهور.
ومنهم من يعترف بفعل سيده فلان بعضَ تلك الأعمال، ويقول: فَعَلَها وفَعَلَ غيرَها؛ لأنه قد وصل إلى الله تعالى، وتخلَّص من حيطة التكليف، فإنَّ الشريعة إنما فُرِضَتْ لأجل الوصول، فَمَنْ وَصَلَ ارتفعت عنه التكاليف.
وأحْسَنُ الغلاةِ حالًا مَنْ يقول: فَعَلَ ذلك الولي هذه الأمور لِحِكَمٍ لا نعلمها، أو لعلَّه ألهمه الله عزَّ وجلَّ إباحتها له، أو رأى النبيَّ صلَّى الله عليه
_________
(1) كذا في الأصل، وهو مفعول مطلقٌ. وقوله: (أنَّ فلانًا) نائب فاعلٍ لـ (يُنقَل)، أو مفعولٌ لـ (يشاهِد).
(2/241)
وآله وسلَّم فأذن له فيها، أو أمره بها.
وأقربهم مَنْ يقول: لعلّ ذلك الصالحَ فَعَلَ هذه الأمور وهو في حال الغيبوبة عن هذا الكون، والاستغراق في أنوار التجلِّيات.
وأضرُّهم على الإسلام والمسلمين مَنْ يقول: فِعْلُ ذلك القطب لهذه الأمور يدلُّ على مشروعيتها، وأن فعلها يُقَرِّب إلى الله تبارك وتعالى [55] وما خالف ذلك من ظواهر الكتاب والسنة له تأويل يعلمه أولياء الله تعالى. كيف لا وهم أعرف بالله وبكتابه ورسوله، وهم دائمًا حاضرون عند الله تعالى يُعَلِّمُهم ما لا يعلم غيرهم، ومشاهدون للوح المحفوظ, والملائكة تنزل عليهم، ويجتمعون بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم متى شاؤوا.
وقد يتعدَّى بعضهم هذا الحدَّ فيقول: إن الوليَّ إذا استحسن شيئًا كان عند الله تعالى حسنًا؛ لأن الله تعالى يحبه، فيحبُّ كل ما أحبَّه.
وفي طبقات الصوفية ومناقب الأولياء قصص كثيرة مما قدَّمنا الإشارة إليه، وتجدهم عند ذكر شيء منها يُعْقِبُونه بالتعوذ بالله تعالى من سوء الاعتقاد في الصالحين ومن حرمان بركتهم، ويتأولون فعلهم بشيء مما تقدم.
واغتنم الفساقُ هذا الأمر، فصار بعضهم يتظاهر بِزِيِّ المتصوفة، ثم يفعل ما بدا له. بل اغتنم ذلك أعداء الإسلام الملحدون فصاروا يتظاهرون بِزِيِّ المتصوفة، ويستعملون الألفاظ الشائعة بين المتصوفة، ثم يصرِّحون بكفرهم وإلحادهم جهارًا، قائلين في أنفسهم: مَنْ ضل بهذا الكلام فقد اصطدناه، [56] ومَنْ لم يضلَّ به فلا علينا؛ لأن من كان راسخ العقيدة في الإسلام سيحمل كلامنا على تأويلات بعيدة، أو يقتصر على زَعْم أن كلامنا على غير ظاهره، وأنه إنما يفهمه أهل الذوق والمعرفة؛ وعلى كلِّ حال فإن
(2/242)
اعتقادهم فينا الصلاح لا يتزلزل، وتبقى كتبنا متداوَلةً بينهم، يضلُّ بها في كل يوم جماعة.
أقول: وقد صدق ظنهم، فصار الضلال بكتبهم كثيرًا، ولا يستطيع أحد الإنكار عليهم؛ إما خوفًا من سطوتهم الروحية إن كان يعتقد فيهم، وإما خوفًا من أكثر الناس، وهكذا أُميت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله المستعان.
وقد قال الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
فقوله: {تَأْمُرُونَ} إلخ، في معنى بيان السبب في الخيرية، فدلّ ذلك على أن مَنْ تَرَكَ ذلك فلا نصيب له في الخيرية.
وقد نظرت في الأمر الباعث للغلاة على اعتقاد العصمة في غير الأنبياء، فوجدته اعتقاد الولاية فيهم، ونظرت في سبب اعتقاد الولاية, فإذا هو ما شاع بينهم من ظهور بعض الغرائب على أيدي أولئك، فأحببت أن أُبَيِّن لك حال الخوارق، هل تدل على ولاية مَنْ ظهرت على يده؟ ثم أبيِّنُ لك حال الولاية.
[57] فصل
واعلم أن الباعث على تقليد الصوفية والغُلوِّ فيهم أمران:
الأول: ما ينقل عن أحدهم من الخوارق.
الثاني: اعتقاد أنهم يطَّلعون على الغيب.
(2/243)
فأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في الطريق الرابع (1).
وأما الأول فتقرير ما قام بأنفس العامة من الاحتجاج به أن يُقال: كما أن الخارقة إذا وقعت على يد مدّعي النبوة دلت على صدقه، فكذلك إذا وقعت على يد الصالح دلت على ولايته. وإذا ثبتت ولايته ثبت أنه كان على حق، فثبت أنّ كلَّ ما جاء عنه حق.
فأقول مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ:
اعلم أولًا أنني بحمد الله تعالى لا أنكر الولاية ولا الكرامات، وأني بفضل الله عزَّ وجلَّ أحب كلَّ من عُرِف بالخير والصلاح والولاية، وأرجو الله تبارك وتعالى أن ينفعني بمحبتي لهم.
واعلم أيضًا أنني على يقين بأن ما أكتبه هاهنا مرضي عند أولياء الله تعالى؛ لأن فيه تبرئة لهم عما يظنه بهم الجاهلون وينسبه إليهم الغافلون، وتمييزًا لهم عمن يتستر بدعوى أنه منهم وهو أبعد الناس عنهم.
ثم اعلم أن الخوارق المنقولة عن صُلحاء المسلمين إذا وزنّاها بما توزن به سنة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وجدنا غالبها لا يثبت. ولا تَسْتَبْعِدَنَّ الكذب في اختلاق الكرامات، فإن الناس قد كذبوا على ربهم، فنسبوا إليه الابن والبنات والشركاء، وادعى بعضهم الألوهية، وبعضهم النبوة، وبعضهم أنه يوحى إليه. وكذبوا على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كما تقدَّم، مع أن الكذب عليه كذب على الله عزَّ وجلَّ، لقوله تعالى:
_________
(1) وهو بحث «الاطلاع على الغيب» الذي يشمل الإلهام والكشف كما يتضح من نسخة (ب) المشوَّشة.
(2/244)
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. والكذب على الله عزَّ وجلَّ كفر بواح، قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32].
وقد صرَّح بعض أهل العلم بأن الكذب على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كفر، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى (1).
وقال أهل العلم ــ والعبارة لابن الصلاح في مقدمته ــ: «والواضعون للحديث أصناف، وأعظمهم ضررًا قوم من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الحديث احتسابًا [أي: طلبًا للأجر والثواب] زعموا، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونًا إليهم، ثم نهضت جهابذة الحديث بكشف عوارها ومحو عارها، والحمد لله» (2).
وفي صحيح مسلمٍ عن الإمام يحيى بن سعيدٍ القطّان قال: «لم نر أهل الخير في شيءٍ أكذب منهم في الحديث» (3).
وذكر غيره أن أكثر الأحاديث المكذوبة على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وضعها أصحابها تعصُّبًا لمذاهبهم.
أقول: فهكذا كثير من الخوارق المنقولة عن الصالحين اخترعها متبعوهم زاعمين أن ذلك يقرِّبهم إلى الله عزَّ وجلَّ وإليهم، بل قد يقول بعضهم: إن الولي الفلاني أهلٌ لأن تجري على يده جميع الخوارق، فكلُّ
_________
(1) انظر: ص 889 فما بعدها.
(2) مقدِّمة ابن الصلاح (علوم الحديث)، النوع الحادي والعشرون، ص 279 – 280.
(3) مسلم، (المقدِّمة)، باب بيان أن الإسناد من الدين، 1/ 13 – 14. [المؤلف]
(2/245)
خارقة [59] تخيَّلتها صحّ لك أن تنسبها إليه، ولا يكون ذلك كذبًا؛ ويقول: إن لذلك الولي الحظَّ الكامل من وراثة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم, وقد قال صاحب البردة:
دع ما ادَّعته النصارى في نبيِّهمُ … واحكم بما شئت مدحًا فيه واحْتَكِم
وانْسُب إلى ذاته ما شئت من شرف … وانْسُبْ إلى قدره ما شئت مِنْ عِظَمِ
فإن قَدْر رسول الله ليس له … حدٌّ فيُعْرِب عنه ناطق بفم (1)
زاعمًا أن هذا حجة على أن للإنسان أن ينسب إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما شاء من الخوارق سواء رويت أم لم ترو.
وقد يكون الشيخ المنسوب إليه الخارق خيِّرًا في نفسه، ولكنه ابتُلِي بأولاد وأتباع يحبون أن يأكلوا بسببه الدنيا, فيخترعون الخوارق ويدّعونها له ويلبِّسون على الشيخ نفسه، فيقول له هذا: رأيتك يا سيدي في المنام كذا وكذا، ويقول له الآخر: وقعت لي شدة فاستغثت بك فجئت وأنقذتني منها، وهكذا لا يزالون به حتى يعتقد في نفسه أنه من أهل الكرامات.
وفي المثل الفارسي: «بِيرانْ نَمِي بَرَنْد ومُرِيدَانْ مِيْ بَرَانَنْدْ». ومعناه: المشايخ لا يطيرون، ولكن المريدين يُطَيِّرُونهم.
[60] فأما إذا كان الشيخ نفسه يميل إلى الشهرة وبعد الصيت ومحبة الدنيا فالأمر أوضح، وهذه أمور قد شاهدنا بعضها.
وقد يتعصب المريد لشيخه على شيخ آخر في عصره، فيحرص على أن ينسب لشيخه الخوارق والكرامات. وكثيرًا ما يفعل المريدون ذلك بعد
_________
(1) ديوان البوصيريّ ص 8 – 9.
(2/246)
موت الشيخ ليكون لهم بذلك جاه وشهرة، وليحملوا الناس على كثرة زيارة ضريحه، وبذل أموالهم على سبيل النذر وغيره، فيتمتع بها أولئك الفجار، ومَنْ وقف على كتب القادرية والرفاعية عرف إلى أي حدٍّ يصل التعصب بين أتباع المشايخ. وكثيرًا ما تكون الغرائب المنقولة حِيَلًا دَبَّرها أتباع الشيخ بحضرته أو عند قبره، وقد وقفنا على بعض ذلك.
وأما سبب انتشارها بين الناس فهو أنَّ للطباع البشرية وُلُوعًا (1) بذكر العجائب والغرائب, كما تراه منتشرًا بينهم من أخبار الجن والغِيلان والكيمياء وعجائب المخلوقات. وغالب ذلك مما لا أصل له، وإنما يختلق الإنسان شيئًا من ذلك مدحًا لنفسه أو لمن له علاقة به، [61] أو تكون جرت له قصة توهَّم فيها خارقًا، كمن يخيل له بعض الخيالات في النوم ويستيقظ بسرعة فيتوهم أنه لم يزل مستيقظًا، وأن الأمر الذي تخيَّل له كان يقظة؛ أو كان في ظلمة وخوف، فتوهَّم شيئًا، فذهب يحكيه على أنه أمر واقع، أو يكون احتال عليه بعض الناس بحيلة أوهمته تلك الواقعة.
والغالب في هؤلاء أنهم إذا حكوا الحكاية وأراد بعض العقلاء أن يناقش فيها حملهم ذلك على أن يسدِّدوا مواضع الخلل والاحتمال فيها بالكذب. ثم يتلقَّى الناس تلك الحكايات وينشرونها لحرصهم على الإغراب والتعجيب، وكثيرًا ما يكملها الحاكي بالكذب إذا رآها غير وافية بالتعجيب ويدافع عنها إذا قوبلت بالتكذيب، فيزعم أن الذي أخبره ثقة، أو أن الحكاية متواترة أو نحو ذلك.
_________
(1) هكذا ضبطه المؤلف بضم الواو، ونصّت عامَّة المعاجم على أنَّ هذا المصدر من المصادر القليلة التي تأتي على فَعول.
(2/247)
فأما إن حكيت تلك الغريبة على أنها كرامة فإن الدواعي إلى نقلها ونشرها أشدُّ؛ لما تقدَّم، ومقابلتها بالشك أو التردد بعيد جدًّا عند العامة وكثيرٍ من المنتسبين إلى العلم؛ لأنهم يعتقدون أنَّ الشك في مثل ذلك شكٌّ في قدرة الله عزَّ وجلَّ وفساد عقيدة، فترى أحدهم يُكْرِهُ نفسه على التصديق بذلك خوفًا من الكفر وفساد العقيدة ولا يسمع أحدًا يُكَذِّبها أو يستبعدها أو يتردَّد في صِحَّتها [62] إلا ناله بما يكره.
ولما صار أكثر المنتسبين إلى العلم في القرون المتأخرة يتزلَّفون إلى العامة وإلى مَن تعتقد فيه العامة جَارَوْهُم على هواهم، وأحسنهم حالًا مَنْ يعتصم بالسكوت.
والحاصل أنَّ من أراد أن يعلم في شيء من تلك الخوارق المحكية عن بعض المعتقَد فيهم أثابتة هي أم لا؟ فعليه أن يختبرها بما تُخْتَبَرُ به سنة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ومعجزاته.
ومَن كان له اطِّلاع على علم الحديث وكلام أهله والكتب التي أُلِّفَتْ في الموضوعات علم أنَّ كثيرًا من الموضوعات قد اغترَّ بها أئمة أكابر كالغزالي وإمام الحرمين والزمخشري والبيضاوي وغيرهم، فأدرجوها في كتهبم، بل إنَّ أئمة الحديث ليوردون في كتبهم التي لم يلتزموا فيها الصحة كثيرًا من الأحاديث الموضوعة ولا يُنَبِّهون على وضعها مكتفين بأنهم لم يلتزموا الصحة، وأن على من رأى حديثًا في كتبهم ينبغي له أن يبحث عن درجته. ويقع هذا كثيرًا في مؤلفات ابن منده وأبي نعيم والخطيب وابن عساكر وغيرهم. بل وقع بعضه في الكتب التي قيل إنها خاصة بالصحاح، ولا سيَّما المستدرك، ولم يَعُدَّ أحدٌ من العلماء ذلك دليلًا على
(2/248)
صحَّتها، بل صرَّحوا بوضعها واعتذروا عن أولئك الأكابر. فكذلك لا ينبغي أن يُسْتَدَلَّ على صحة شيء من هذه الغرائب بإدراج بعض العلماء المشهورين لها في كتبهم، على أنَّ كثيرًا منهم يتسامحون في ذلك؛ لزعمهم أن ما كان من باب المناقب والفضائل يجوز التساهل في روايته؛ لأنه لا يبنى عليه حكم شرعيٌّ لا قطعيٌّ ولا ظنِّيٌّ. [63] وقد نُقِلَ نحوُ هذا عن الأئمة المتقدمين وشرطوا ألّا يشتمل على شيء من الأحكام، وألّا يبنى عليه شيء من الأحكام، وقد حققت هذا البحث في رسالة مستقلة (1). والحمد لله.
فصل
فإذا صحَّ وثبت وقوع شيء من الغرائب عن رجل من المسلمين (2) كان عليك حينئذٍ أن تعرف من أيّ الأقسام هو، فقد قسم أهل العلم الغرائب إلى قسمين: خوارق وغيرها.
وذكروا أن الخوارق على أربعة أضرب: معجزة, وكرامة, واستدراج, وإهانة.
فالمعجزة مخصوصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والكرامة بالأولياء والصالحين, وأنكرها المعتزلة والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني من كبار أئمة أهل السنة، قال: كل ما جاز تقديره معجزة لنبيٍّ لا يجوز ظهور مثله كرامةً لوليٍّ، وإنما مَبَالِغُ الكرامات إجابة دعوة أو موافاةُ
_________
(1) هي: رسالة «حكم العمل بالحديث الضعيف».
(2) هنا لَحَق بقدر ثمان كلمات، ظهر منها: (لزم … النظر فيها أخارق هي أم لا؟)، مع أنَّ الكلام يستقيم بدونها.
(2/249)
ماءٍ في بادية من غير توقُّع المياه، أو نحو ذلك مما ينحطُّ عن خرق العادات.
وقال الإمام القشيريّ ــ وهو من أئمَّة أهل السنَّة العارفين بالتصوُّف ــ: لا تنتهي الكرامة إلى نحو ولدٍ دون والدٍ، وقلب جمادٍ بهيمةً.
قال التاج السبكي: وهذا حق يخصص قول غيره: ما جاز أن يكون معجزة لنبيٍّ جاز أن يكون كرامة لوليٍّ (1).
وقال الحافظ ابن حجرٍ في فتح الباري في باب غزوة الرجيع، في الكلام على مقتل خُبَيبٍ رضي الله عنه وقول المرأة: «لقد رأيتُه يأكل من قِطْف عنبٍ وما بمكَّة يومئذٍ ثمرةٌ، وإنه لموثقٌ في الحديد، وما كان إلا رزقٌ رزقه الله خُبَيبًا».
قال الحافظ: «قال ابن بطَّالٍ: هذا يمكن أن يكون الله جعله آيةً على الكفار وبرهانًا لنبيِّه لتصحيح رسالته، قال: فأما مَن يدَّعى وقوع ذلك له اليوم بين ظهراني المسلمين فلا وجه له؛ إذ المسلمون قد دخلوا في الدين وأيقنوا بالنبوَّة، فأيُّ معنىً لإظهار الآية عندهم؟ ولو لم يكن في تجويز ذلك إلا أن يقول جاهلٌ: إذا جاز ظهور هذه الآيات على يد غير نبيٍّ فكيف نصدِّقها من نبيٍّ والفرض أن غيره يأتي بها؟ لكان في إنكار ذلك قطعًا (2) للذريعة، إلى أن قال: إلا أن يكون وقوع ذلك مما لا يخرق عادةً ولا يقلب عينًا، مثل أن يكرم الله عبدًا بإجابة دعوةٍ في الحين ونحو ذلك مما يظهر فيه فضل الفاضل وكرامة الوليِّ، ومن ذلك حماية الله تعالى عاصمًا لئلا ينتهك عدوُّه حرمته، انتهى.
_________
(1) انظر: شرح المحلِّي على جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/ 262 – 263. [المؤلف](2) كذا في الأصل وفتح الباري.
(2/250)
والحاصل أن ابن بطَّالٍ توسَّط بين مَن يثبت الكرامة ومَن ينفيها، فجعل الذي يُثبَت ما قد تجري به العادة لآحاد الناس أحيانًا، والممتنعَ ما يقلب الأعيان مثلًا.
والمشهور عن أهل السنَّة إثبات الكرامات مطلقًا، واستثنى بعض المحقِّقين منهم كأبي القاسم القشيريِّ ما وقع به التحدِّي لبعض الأنبياء، فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولدٍ من غير أبٍ ونحو ذلك. وهذا أعدل المذاهب في ذلك؛ فإن إجابةَ الدعوة في الحال وتكثيرَ الطعام والماء والمكاشفةَ بما يغيب عن العين والإخبارَ بما سيأتي ونحو ذلك قد كثر جدًّا حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة، فانحصر الخارق الآن فيما قاله القشيريُّ، وتعيَّن تقييد قول مَن أطلق أن كلَّ معجزةٍ وُجِدَتْ لنبيٍّ يجوز أن تقع كرامةً لوليٍّ» (1).
وفي شرح المقاصد: ثمَّ المجوزون ذهب بعضهم إلى امتناع كون الكرامة على قضيّة الدعوى، حتى لو ادّعى الوليّ الولاية واعتقد بخوارق العادات لم يجز ولم يقع، بل ربما يسقط عن مرتبة الولاية.
وبعضهم إلى امتناع كونها من جنس ما وقع معجزة لنبي, كانفلاق البحر وانقلاب العصا وإحياء الموتى، قالوا: وبهذه الجهات تمتاز عن المعجزات.
وقال الإمام: هذه الطرق غير سديدة، والمرضي عندنا تجويز جملة خوارق العادات في معرض الكرامات، وإنما تمتاز عن المعجزات بخلوِّها
_________
(1) فتح الباري 7/ 268 – 269. [المؤلف]
(2/251)
عن دعوى النبوة، حتى لو ادَّعى الولي النبوة صار عدوًّا لله، لا يستحق الكرامة، بل اللعنة والإهانة (1).
والاستدراج: ما يجريه الله عزَّ وجلَّ لبعض الدجّالين، كالدجّال الأكبر، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عدَّة عجائب تقع معه، وذلك فتنة وابتلاء وامتحان واختبار من الله عزَّ وجلَّ لخلقه, ليمتاز المؤمن الموقن عن علمٍ ومعرفةٍ من غيره، فإن المؤمن الموقن عن علمٍ ومعرفةٍ يميِّزُ ما هو حجة حقيقية يرتضيها الشرع والعقل، وما ليس كذلك، فتلك العجائب لا تخدش في يقينه؛ للبراهين القاطعة على كذب الدجال، فيعلم المؤمن حينئذٍ أن تلك العجائب من قَبِيل الاستدراج. وأما غيره فإن العجيبة عنده [64] هي أقوى الحجج، فإذا رآها خضع لها، والعياذ بالله تعالى.
فإن قيل: فما الفرق بين المعجزة والاستدراج، حيث قلتم: إن المعجزة توجب العلم اليقينيَّ بصدق صاحبها، وأن الاستدراج لا يدل على صدقه، بل قد يدلُّ على كذبه؟
قلت: قد تولّى الإمام الغزالي رحمه الله وغيره من علماء الأمة بيانَ الفرق.
وحاصله: أن المعجزة إنما تفيد الصدق بمعونة القرائن، مثل أن تكون سلسلة النبوة لم تختم، وأن يكون مدَّعي النبوة محمود السيرة، وألّا يأتي بما يكذبه العقل تكذيبًا قاطعًا, ولا يأتي بما يكذب خبرًا ثابتًا عن الله عزَّ وجلَّ ثبوتًا قطعيًّا، وأن يكون عامّة ما يأتي به مما تتضافر الفطر والعقول والشرائع على الشهادة بأنه حق، إلى غير ذلك؛ بخلاف الاستدراج فإنه يصحبه براهين قطعية على كذب الدجّال إذا ادّعى دعوى يستشهد عليها بالعجيبة، فأما إن لم
_________
(1) شرح المقاصد 2/ 203. [المؤلف]
(2/252)
يدَّعِ ولم يستشهد فلا إشكال أصلًا. والله أعلم.
والإهانة: ما يجريه الله تعالى تكذيبًا للدجّال, كما نقل أن مسيلمة الكذاب بلغه أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مسح بيده على رأس أقرع فنبت شعره، وتفل في بئر كان ماؤها ملحًا فعَذُب، ففعل مسيلمة مثل ذلك فازداد رأس ممسوحه قرعًا وماء بئره ملوحة (1).
وقد بقي ضرب خامس, وهو الابتلاء, أعني ما يجريه الله عزَّ وجلَّ ليبتلي به المؤمنين ويختبرهم أيغترُّون به ويركنون إليه، فيقول أحدهم: أنا وليٌّ لله تعالى محبوب له؛ بدليل أنه أجرى على يدي الكرامة، أم يثبت على ما يقتضيه (2) الشريعة؟ وكما يكون ابتلاء لمن وقع على يده فهو كذلك ابتلاء لغيره، والله أعلم.
ومن أعظم الابتلاء أن يُمَكِّن الله تعالى الدجَّال من استعمال غرائبه في نفع مَنْ يوافقه والإضرار بمن يخالفه مع أن المخالف على الحق، ولكن ليتبين حالُ المخالف أعلى يقين هو من أمره أم لا؟ ويتبيَّن حال غيره أيعتصمون بالحجج الحقيقيَّة أم يغترُّون بتلك الظواهر؟ وفي أحوال الدجَّال الأكبر كثير من هذا, فاحفظه وتدبَّره، فإنه مهمٌّ جدًّا.
ومما يشهد له قصة لبيد بن الأعصم اليهودي في إضراره بالنبي – صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك سبب نزول المعوذتين (3). والله أعلم.
_________
(1) تاريخ الطبري 3/ 284 – 285، الروض الأنف 4/ 225.
(2) كذا في الأصل.
(3) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 4/ 122، ح 3268، ومواضع أخرى، وصحيح مسلم، كتاب الأدب، باب السحر، 7/ 14، ح 5832.
(2/253)
[65] فصل
وأما القسم الثاني من الغرائب: فيقع بكسب الإنسان وتَسَبُّبه، وقد تُسمَّى خوارق؛ لخفاء أسبابها وجهل غالب الناس بها.
فمنها: الشعبذة, وهي: عبارة عن أعمال تُظَنُّ أوَّلَ الأمر خارقة، فإذا عُرِفَتْ أسبابُها تبين أنها حِيَلٌ بمعونة خاصيَّةٍ يجهلها أكثر الناس، أو خفَّة اليد وسرعة الحركة إلى حدٍّ لا يثبته الناظر، أو بآلة يخفيها المشعوذ، أو عملٍ خفي قد أعدَّه من قبل، أو مساعدة شخص آخر مختبئٍ أو ظاهرٍ، والنظَّارة (1) لا يحسبون له علاقة بالمشعوذ، أو غير ذلك.
وللمشَعْبِذ مهارةٌ في تغليط النظارة، وصرف ظنونهم وأبصارهم إلى غير ما يريده.
[66] (2)
وقريب من الشعبذة ما يسمى الآن بالألعاب الرياضية، كرفع
_________
(1) النَّظَّارة هم القوم ينظرون إلى الشيء. انظر: المعجم الوسيط، ص 923.
(2) من منتصف ص 65 إلى آخرها مع ثلاثة أسطر من ص 66 كلامٌ مضروبٌ عليه وهو:
(وبالجملة، فالشعبذة في الأعمال كالتعمية والإلغاز في الكلام، كقولي: والله الذي لا إله إلا هو إني أستطيع أن أخطو خطوة واحدة تكون إحدى رجليّ في الهند والأخرى في صعيد مصر، وأشير عند الكلام إشارات تناسب المقام. فكلُّ مَنْ عَلِم بُعْدَ ما بين الهند وبين مصر وصعيدها يعلم أن قطع ذلك بخطوة واحدة محال، وإذا سمعني أُقْسِم على ذلك، وهو يعلم أني مسلم متحرِّز عن إظهار الكذب والفجور عَلِمَ أني لا أحلف إلا على صدق، فيتحيَّر في ذلك، فإن كان يظن بي القدرة على خرق العادة صدَّقني على ظاهر قولي، وإن أساء بي الظن كذَّبني بلا تأمُّل. والعاقل الفَطِن: الذي يتأمَّل كلامي، فإن ظَفِر له بمحمل صحيح يخرجه من المعنى المحال عرف أنه المقصود، وإلا قال: لا بدَّ له من محمل صحيح غير ما يتبادر منه، ولم يتردَّدْ في أن المتبادر من ذلك الكلام أمر محال، وأني إن أردت ظاهره فأنا كذَّاب دجَّال). [المؤلف]إلى هنا انتهى الكلام المضروب عليه، لكن المؤلف قد عاد ووضع كلمة (صح) أربع مرات فوق آخر سطرين.
(2/254)
الأثقال العظيمة, والمشي على سلك دقيق ممدود بين جدارين، أو نحوها، والإمساك عن التنفس مدة طويلة، وغير ذلك مما لا يستطيع الإنسان فعله ابتداء، ولكن أصحابه تمرَّنوا عليه زمانًا حتى سَهُلَ لهم.
ومن هذا القبيل: الإمساك عن الأكل مدة طويلة, وتناول بعض السموم, وإدخال حديدة في موضعٍ خاصٍّ من البدن.
وقد رأيت فقراء يزعمون أنهم رفاعية زعموا أنهم يأتون بالخوارق، فكان أحدهم يُدخل حديدة في طرف عينه اليمنى ثم يرفع بها حدقته رفعًا يسيرًا، وهذا عمل بسيط، وهو يأبى أن يغرز الحديدة في نفس الحدقة أو يبرز الحدقة أكثر مما كان يبرزها. فأخبرناهم أن هذا ليس بشيء، فتقدَّم آخر وجعل يجذب جلد بطنه ثم يغرز فيما انجذب من الجلد مسلّة (1)، ولكنه يأبى أن يغرزها في حشاه بحيث تخرق الصِّفاق (2)، بل يأبى أن يغرزها في موضع آخر من جلده. ثم تقدَّم الثالث ــ وكان أهمَّهم ــ[67] فأبرز حنجرته وحلقومه إلى الأمام إبرازًا فاحشًا، ثم غرز حديدة في جانب عنقه الأيمن، ومرت وراء الحلقوم حتى نفذت من الجانب الأيسر، ولكن لحقته صعوبة شديدة وساعده أصحابه وبعد نفاذها سال دم وتأَلَّم الرجل. وحاول أصحابه أن يكتموا ذلك ولكن كان ظاهرًا، فقيل لهم: إن كان هذا كرامة فَلِمَ هذا
_________
(1) هي بمعنى الإبرة.
(2) الصِّفاق: غشاء ما بين الجلد والأمعاء. انظر: المعجم الوسيط، ص 517.
(2/255)
العناءُ كلُّه؟ فزعموا أنه كان في النَّظَّارة امرأة حائض!
وسئلوا: هل يمكن هذا أن يغرز حديدة في بطنه أو في ثغرة نحره أو غير ذلك؟ فأجابوا: أنه ليس له إجازة في غير ما فعل.
وفي اليمن فقراء كثيرون هذه صناعتهم. أن يطوفوا البلاد للسؤال، ويعملون بعض أعمالٍ. يوهم أحدهم أنه يغرز الحديدة في عينه أو في حلقه أو بطنه أو نحو ذلك، ويوهم الناس أنه يتحامل على الحديدة بأقصى قوَّته، وتتمُّ حِيَلُهُم على النساء والصبيان ونحوهم، ومنهم من يضرب كتفه بالسيف، ولكنه يقيس قوَّة يده بالضرب بقدر أن يدنو السيف من كتفه أو يلامسه ملامسة خفيفة، وقد يجاوز بعضهم هذا إلى حدِّ أنه يشق أعلى الجلد فيسيل الدم.
والحاصل: أن العاقل إذا تأمَّل صنيعهم، وأمعن النظر تبين له أن عملهم كله مغالطة.
[68] ومن الغرائب ما يكون عن قوة غريبة للنفس, فأشهر ذلك الإصابة بالعين، وقد تكون قوة الإصابة بالعين اكتسابية.
قال في شرح المقاصد: «وقالوا: إن كان العين في بني أسد (1) , وكان الرجل يتجوَّع ثلاثة أيام فلا يمرُّ به شيء يقول فيه: لم أر كاليوم؛ إلّا عانه» (2).
وفوق الإصابة بالعين درجات كثيرة تكتسب بالرياضة، فإنه كما أن القوى الجسمية يمكن تربيتها بالرياضة حتى تصير للمرتاض قوَّة لم تكن له من قبل ولا تكون لغير المرتاض، كما مرّ في الشعبذة والألعاب، فكذلك
_________
(1) كذا في الأصل بتذكير العين وحذف اللام الفارقة من الخبر.
(2) شرح المقاصد 2/ 207. [المؤلف]
(2/256)
القوى النفسية يمكن تربيتها بالرياضة المختصة بها. وهذا الأمر معروف من القِدَم بين اليونان وأهل الهند والصين وغيرهم.
والفلاسفة القدماء فريقان:
فريق يذهبون إلى اكتساب العلوم والمعارف بإعمال العقل والفكر، ويقال لهم: المشَّاؤون.
وفريق يذهبون إلى اكتسابه برياضة النفس وترقيتها، ويقال لهم: الإشراقيون.
قال غير واحد: فالمشَّاؤون كالمتكلمين من المسلمين، والإشراقيون كالمتصوِّفين.
وفي رسائل ابن سينا وغيره كثير من طريق الإشراقيين، ويسميها هو تصوفًا.
وقال البيروني (1): إن اشتقاق التصوف من كلمة يونانية هي سوفا، ومعناه: الحكمة، ومنها قيل: فيلسوف، وأصله باليونانية فيلا سوفا، أي: محبّ الحكمة، فعُرِّبت هذه الكلمة بالصاد، ونسب إليها الصوفي (2).
أقول: واعلم أن أهل الرياضة من الأمم تختلف أغراضهم، فالحكماء
_________
(1) هو أبو الريحان أحمد بن محمد -وقيل محمد بن أحمد- الخوارزمي العلامة المنجم الطبيب، اللغوي، من مؤلفاته: «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، توفي سنة 440 هـ. انظر: عيون الأنباء في طبقات الأطبَّاء 2/ 20 – 21، ومعجم الأدباء 17/ 180.
(2) تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ص 24.
(2/257)
إنما يقصدون أن تصفو أنفسهم، وتنكشف لهم بعض الحقائق الكونية والمعارف الربانية، رغبة في العلم والمعرفة، [69] فإذا حصلت لهم قوى غريبة لم يأنسوا بها، ولا يلتفتون إلَّا إلى ما يرونه معينًا لهم على مطلوبهم. ولكنَّ كثيرًا من الناس إنما يرتاضون طلبًا لتحصيل القوة الغريبة، ومنهم من يكون نيته أوَّلًا تحصيل المعرفة، ولكن إذا حصلت له القوة الغريبة اغترّ بها وعكف عليها.
وأساس هذه الرياضات عندهم الجوع والسهر والعزوبة والخلوة وقطع الشواغل وجمع الفكر في شيء واحد، وأن لا يأكل روحًا ولا ما خرج من روح، كالبيض، والسمن، واللبن، وغير ذلك، وإتعاب الجسد وأعمال أخرى لها قواعد مخصوصة عندهم كرياضة التنفُّس، فينظِّم الطالب تنفُّسه على كيفية مخصوصة يواظب عليها حتى تصير له عادة. ومنها: أن يوجِّه همته عند استنشاق الهواء إلى أن يمرَّ به على طريق مخصوص يمرُّ على أعضاء مخصوصة، وغير ذلك.
ثم إنهم يزيدون على هذا المقدار أشياء تناسب غرض الطالب وعقيدته، فمن كان غرضه تحصيل المعرفة وتصفية النفس يضيف إلى ذلك المحافظة على الشريعة التي يعتقدها حقًّا، فالصابئة يضيفون تعظيم الكواكب ودعاءَها والتبخير بالبخورات الخاصة وغير ذلك، والوثنيون تعظيمَ الأصنام [70] والعكوف عليها، ونحو ذلك؛ وهكذا كل فريق بحسب اعتقاده.
ومن كان غرضه تحصيل القوة الغريبة فإنه يقتصر على ما يظنه كافيًا في تحصيلها، حتى إن منهم مَنْ يستعجل حصول تلك القوة ويرى أنها لا تحصل له إلا إذا أصلح نيته، ولكنه قد يحصل له مثلها بمعونة الشياطين،
(2/258)
فيسعى في الأعمال الخبيثة في اعتقاده، ويبالغ فيها، فربما حصل له شيء من القوة بسبب الرياضة إن كان ارتاض، ولكنه يظنها ما حصلت له إلا بتلك الأعمال الخبيثة، وأنه إن ترك تلك الأعمال سُلِبَ تلك القوة.
ومنهم من تستولي عليه الشياطين حقيقة، فيساعدوه (1) على بعض ما يريد ليطيعهم، ويعمل على تطويع الناس لهم، والعياذ بالله.
والمقصود أن حصول تلك الآثار إنما هو في الغالب نتيجة لما قدَّمنا ذكره من الجوع والسهر ونحوهما، فإذا صَحِبَ ذلك نوعٌ ما مما يراه المرتاض عبادة فإنما يساعد على حصول تلك الآثار من حيث هو رياضة. ولذلك لا يختص حصول تلك الآثار بدين من الأديان، ولكن الناس لجهلهم بالأسباب الحقيقية يستدلون على صحة الدين بحصول تلك الآثار للمرتاضين العاملين به، بل قد يستدل المرتاض نفسه بذلك، وهو خطأ كما علمتَ. والله أعلم.
[71] واعلم أن هذه الرياضة ليست بمذمومة على الإطلاق، فقد جاء الإسلام بالنهي عن الإسراف في الأكل والشرب، وبمشروعية الصيام، وقيام الليل، والتفكر, والاعتكاف, وغير ذلك مما يتضمن طرفًا من الرياضة وإن لم تكن الرياضة هي المقصود من ذلك، على أنه لا يبعد أن تكون مقصودة في الجملة.
وعلى كل حال فإن القدر الذي تضمنته العبادات المشروعة في الإسلام من الرياضة مفيد في تهذيب الأخلاق، وتقوية العزم، وتصفية النفس، وغير
_________
(1) كذا في الأصل.
(2/259)
ذلك إلى حدٍّ لا يبلغ القوى الغريبة. بل جاءت أحاديث كثيرة في النهي عن الغلوِّ في العبادات؛ فثبت النهي عن مواصلة الصوم، وعن صوم الدهر، وعن قيام جميع الليل أبدًا، وأخرى في النهي عن الغلو، وعن التشديد على النفس ومجاوزة ما كان عليه أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على عهده. فكان الصحابة رضي الله عنهم وعامَّة التابعين واقفين عند الحدود الشرعية في ذلك، ولكنه بعد ذلك نشأ أفرادٌ لهم رغبة في الخير وفي عبادة الله عزَّ وجلَّ, يتأوّلون ما ثبت عن الشارع من النهي عن الزيادة في العبادات بأن ذلك كان شفقة منه على الناس لئلا يشق عليهم, أو خشية أن يكون الإمعان في العبادة داعيًا إلى السآمة والملل، أو لئلا تضعف أجسامهم عن الجهاد والعمل في إعزاز الإسلام، ونحو ذلك من التأويلات.
وربما بالغ بعضهم [72] في العبادات ونحوها مما ورد في الشرع استحبابُ طرفٍ منه، حتى يبلغ بهم الحالُ إلى مشابهة أهل الرياضات, كما كانوا يبالغون في تجويع أنفسهم؛ لأنهم لا يجدون طعامًا حلالًا صِرْفًا لا شبهة فيه، وفي مناقب الزهاد أشياء من ذلك. وفي القرن الثاني والثالث بدأ هؤلاء المبالغون يذكرون أن للجوع فائدة في تصفية النفس.
ثم اطَّلع المسلمون على فلسفة اليونان ووجدوها على طريقين: إعمال العقل، ورياضة النفس؛ فنقلوا ذلك وعملوا به.
وقد عورضوا في الأولى معارضة شديدة يعلمها من له إلمام بتاريخ الإسلام.
وأما الثاني فلم يَلْقَ كبيرَ معارضة؛ لأن أصحابه ألحقوا كلَّ طَرَفٍ منه بما يشابهه في الإسلام، وقد قدَّمنا أن الإسلام تضمَّن طرفًا من الرياضة، وأن
(2/260)
بعض الراغبين في الخير بالغوا في ذلك. ولم تبق على الناقلين صعوبة إلا في بعض الأمور؛ كالعزوبة، وأن لا يأكل من روح ولا ما خرج من روح، ورياضة التنفس، فألحقوها بالإسلام بضربٍ من التَّمَحُّل، فقالوا: إن الزواج يشغل عن أداء الحقوق، ويحمل على الحرص على الدنيا من حلِّها وغير حلِّها، ولا سيَّما على أمثالنا من الضعفاء، فأما النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه فكانت عندهم قوة ليست عندنا، وذكروا حديثًا نسبوه إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «خيركم بعد الـ … (1) مَن لا زوجة له ولا ولد».
وأما منع الأكل من روح أو ما خرج من روح فاستشهدوا له بما نقل عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن لهذا اللحم ضراوة كضراوة الخمر (2) , [73] وغير ذلك.
وأما رياضة التنفس فاخترعوا لها نوعًا من الذكر بقولهم: (هو الله، الله
_________
(1) كذا في الأصل. ولعلَّه أراد حديث: «خيركم في المائتين كلُّ خفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد». أخرجه أبو يعلى في مسنده – كما في إتحاف الخيرة المهرة 4/ 3، ح 3584 – وغيره، من طريق روَّاد بن الجرَّاح عن سفيان الثوريّ، ولم يتابَع عليه. ولذلك قال أبو حاتمٍ: «باطلٌ»، وقال مرَّةً: «منكرٌ». انظر: العلل س 1890 و 2765. وقال الدارقطنيّ: «تفرَّد به روَّادٌ، وهو ضعيفٌ». انظر: العلل المتناهية 2/ 146 – 147، ح 1051 – 1052. وقال السخاويّ: «وعلَّته روَّادٌ، ولذا قال الخليليّ: ضعَّفه الحفَّاظ فيه وخطَّؤوه. انتهى. فإن صحَّ فهو محمولٌ على جواز الترهُّب أيَّام الفتن. وفي معناه أحاديث كثيرةٌ كلُّها واهيةٌ». المقاصد الحسنة ص 203، ح 452. وقال الألبانيّ: «باطلٌ»، وقال أيضًا: «موضوعٌ». انظر: السلسلة الضعيفة 8/ 71، ح 3580، ضعيف الجامع الصغير ح 2919.
(2) أخرجه مالك في الموطأ 2/ 524 – 525 ح 2702, وأبو داود في الزهد (47) , وغيرهما.
(2/261)
هو)، على نظام مخصوص، واخترعوا بدل جمع الهمة وحصر الفكر في شيء معيّن حصر المريد هَّمته في تصوُّر الشيخ، ونحو ذلك.
واعلم أن العاملين بالرياضة من المسلمين على أقسام:
فقسم منهم يرى أنها علم من العلوم، وصناعة من الصنائع, تختلف أحكامها في الشريعة باختلاف الغرض منها. فمَنْ كان غرضه منها تهذيب نفسه وتقوية إدراكه وتحصيل قوة يستعين بها على معرفة ربِّه فلا بأس بها عند هؤلاء. ومَنْ كان غرضُه تحصيلَ قوة يستعين بها على أغراضه الدنيوية من الجاه والشهرة ونحو ذلك فهي وبال عليه.
وقسم منهم تَوَهَّم أنها عبادات، إما بناء على ما تقدّم من أن الشريعة جاءت بشيء مما يشبهها، وأن أفرادًا من الراغبين في الخير بالغوا في ذلك إلى أن قربوا منها. وإما استنادًا إلى كلام المتأخرين من المتصوفين الذين يزعمون أن تلك الأعمال عبادة إسلامية بدون تأويل.
وقسم ليس لهم اعتقاد ثابت في الشريعة، ورأوا أن هذه الرياضة طريقة من طرق الحكماء تُوْصِل إلى زيادة المعرفة والقوة الغريبة، ولكنهم يراؤون الناس بزعم أنهم يعتقدون [74] أنها عبادة. ثم لما كان مقرَّرًا عند جمهور الأمة أن الله عزَّ وجلَّ يكرم صالحي عباده بأن يخرق لهم العادة أحيانًا، وقد نقل شيء من ذلك عن بعض الصحابة والتابعين، وكان أكثر الناس يجهلون أن الرياضة من شأنها ترقية قُوَى الناس إلى حدِّ الغرائب= صاروا يسمُّون كلَّ ما يظهر أو ينسب إلى المرتاضين من الغرائب: كراماتٍ, مع أنها محتملة لذلك، ومحتملة أن تكون من آثار الرياضة. والله أعلم.
(2/262)
وقد قال الصوفية أنفسهم بأن السالك يمر على مرتبة السحر العال (1) يكون صاحبها بحيث لا يريد شيئًا إلا كان في الحال، وأنه إن وقف عليها هلك. ذكره غير واحدٍ، منهم: عبد الكريم الجيليّ (2) في «الإنسان الكامل»، في الباب السادس والثلاثين (3)، وفي كتب الغزاليّ نحو ذلك.
ومن الغرائب ما يكون بمساعدة الشياطين، إما لمشاكلة بينهم وبين نفس ذلك الإنسان, كابن صَيَّاد الثابتة قصته في الصحيحين وغيرهما (4).
وإما بسعي ذلك الإنسان فيما يرضي الشياطين حتى يساعدوه, كما في كُهَّان العرب. وكان في زمن الحجاج رجل يقال له عبد الله بن هلال، ويلقَّبُ «صديق إبليس»؛ كان يعمل الغرائب، وكان يترك صلاة العصر إرضاء لإبليس حتى يساعده (5).
_________
(1) كذا في الأصل بحذف ياء المنقوص، وفسَّره الجيليّ في الإنسان الكامل (1/ 71) بأنه شيءٌ يشبه الكرامات، قال: «لأنه بلا أدويةٍ ولا عملٍ ولا تلفُّظٍ بشيءٍ، بل بمجرَّد قوىً سحريَّةٍ في الإنسان تُجْري الأمور على حسب ما اقتضاه الساحر».
(2) عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي القادري، قطب الدين، صوفي، من تصانيفه الكثيرة: الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلَّى لأهل الذكر من الأنوار لابن عربي، توفي سنة 832 هـ. الأعلام 4/ 50 – 51 ومعجم المؤلفين 5/ 313.
(3) 1/ 71.
(4) انظر: البخاريّ، كتاب الجهاد والسير، بابٌ كيف يعرض الإسلام على الصبيّ؟ 4/ 70 – 71، ح 3055. وصحيح مسلمٍ، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صيَّادٍ، 8/ 189 – 194، ح 2924. [المؤلف](5) انظر ترجمته في: لسان الميزان [3/ 372 – 374]. [المؤلف]
(2/263)
وكثير من الناس في الهند وغيرها في عصرنا هذا يسلكون هذه الطريقة، أي التقرب إلى الشياطين.
وإما لقصد الشياطين أن يُضِلُّوا ذلك الإنسان ويُضِلُّوا به، وقصة الشيخ عبد القادر الجيلي رحمه الله وتعرُّض الشيطان له مشهورة، وأشباهها كثيرة.
قال ابن قتيبة في عيون الأخبار (1): حدثني محمد بن داود، قال: حدثنا أبو الربيع الزهراني، قال: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم في الرجل يرى الضوء في الليل قال: هو من الشيطان، لو كان فضلًا لأوثر به أهل بدر.
وعن السلف آثار أخرى في هذا المعنى، كما روي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وغيرها، من قولهم لِمَنْ يُصْعَقُ عند سماع القرآن: من الشيطان، وغير ذلك (2).
وفي مقابلها آثار كثيرة عن التابعين فمن بعدهم في تحسين الظنِّ بمن ظهر على يده شيء من الغرائب، وكان واقفًا عند حدود الله تعالى، متحقِّقًا بالكتاب والسنة، بلا تحريف ولا تأويل يخالف به العلماء. والله أعلم.
فأما السحر، فمنه ما يكون بالرياضة، ومنه ما يكون بالتقرُّب من الشياطين، ومنه ما يكون بغير ذلك، وسنتكلم عليه في ما يأتي إن شاء الله.
[75] فصل
واعلم أن الخوارق والغرائب متقاربة يلتبس بعضها ببعض غير أن المعجزة تمتاز بما قدمنا، وكذلك الإهانة ممتازة كما مرّ.
_________
(1) 4/ 301. [المؤلف](2) انظر: سنن سعيد بن منصور، كتاب فضائل القرآن 2/ 330 ح 95، وانظر آثارًا أخرى في هذا المعنى في الدر المنثور 7/ 221 – 222.
(2/264)
فأما الكرامة فذكر أهل العلم أنها تمتاز بوقوعها على يد المسلم العالم بالشريعة العامل بها.
قال الشعراني في كتابه «تنبيه المغترِّين»: «من أخلاق السلف الصالح رضي الله عنهم ملازمة الكتاب والسنة كلزوم الظلِّ للشاخص، ولا يتصدَّر أحدهم للإرشاد إلا بعد تبحره في علوم الشريعة المطهرة بحيث يطلع على جميع أدلة المذاهب المندرسة والمستعملة، ويصير يقطع العلماء في مجالس المناظرة بالحجج القاطعة أو الراجحة الواضحة، وكتب القوم مشحونة بذلك، كما يظهر من أقوالهم وأفعالهم.
وقد كان سيد الطائفة الإمام أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه يقول: كتابنا هذا ــ يعني القرآن ــ سيد الكتب وأجمعها، وشريعتنا أوضح الشرائع وأدقُّها, وطريقتنا ــ يعنى طريق أهل التصوف ــ مشيدة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويحفظ السنة ويفهم معانيها لا يصح الاقتداء به.
وكان رضي الله عنه يقول: ما نزل من السماء علم وجعل الله لغير [76] نبيٍّ إليه سبيلًا إلا وجعل لي فيه حظًّا ونصيبًا.
وكان رضي الله عنه يقول لأصحابه: لو رأيتم رجلًا قد تربَّع في الهواء فلا تقتدوا به حتى تروا صنعه عند الأمر والنهي، فإن رأيتموه ممتثلًا لجميع الأوامر الإلهيّة مجتنبًا لجميع المناهي فاعتقدوه واقتدوا به، وإن رأيتموه يخلُّ بالأوامر ولا يجتنب المناهي فاجتنبوه. انتهى» (1).
وفي الأنوار: «ومن ادَّعى الكرامات لنفسه بلا غرض ديني فكاذب
_________
(1) تنبيه المغترين ص: 6. [المؤلف]
(2/265)
يلعب به الشيطان» (1).
وقال الشاطبي: «وقال أبو يزيد البسطامي: لو نظرتم إلى رجل أُعْطِيَ من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغترُّوا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وآداب الشريعة» (2).
وقال الحافظ ابن حجر في الكلام على غزوة الرجيع من فتح الباري: «ووراء ذلك كله أن الذي استقر عند العامة أن خرق العادة يدلّ على أنّ من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى، وهو غلط ممن يقوله؛ فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحرٍ وكاهن وراهب، فيحتاج مَنْ يستدلُّ بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارقٍ، وأولى ما ذكروه أن يُخْتبر حالُ مَنْ وقع له ذلك، فإن كان متمسِّكًا بالأوامر الشرعية كان ذلك علامة ولايته، ومَنْ لا فلا» (3).
أقول: والتمييز بين الكرامة والابتلاء والغرائب التي قدَّمناها صعب جدًّا، كثيرًا ما يشتبه على من جرت الواقعة على يده فضلًا عن غيره. وأقصى ما يمكن: أن تمتحن تلك الواقعة مع النظر في جميع ما يتعلق بها، وتوزن بالكتاب والسنة، فإن وُجِد فيها مخالفةٌ ما لظاهرٍ من ظواهر الشريعة كان الظاهر أنها ليست بكرامة، وإلا كانت محتملة.
وهذا ــ والله أعلم ــ مراد الجنيد وأبي يزيد. فأما أمرهما بالاعتقاد والاقتداء فإنما ذلك لكون ذلك الرجل عالمًا عاملًا [77] بحسب الظاهر،
_________
(1) نقله ابن حجر ص: 54 وأقرّه في الإعلام [بهامش الزواجر 2/ 161]. [المؤلف].
(2) الاعتصام 1/ 113 – 114.
(3) فتح الباري 7/ 269. [المؤلف]
(2/266)
ومن كان كذلك كان أهلًا أن يُعْتَقَد فيه ويُقْتَدى به وإن لم يظهر على يده شيء، فظهور تلك الواقعة مع سلامتها عن الدلالة على مخالفته للشريعة إن لم يزده لم ينقصه، فتدبَّرْ.
وعلينا إذا رأينا مَنْ ظهر على يده شيء من ذلك، وهو معتصم بالشريعة واقف عند حدودها، ولم يتعاط شيئًا من أسباب الغرائب، أن نظن تلك الظاهرة كرامة، وهذا مجرد ظن لا يكون حجة على القطع بأنه وليٌّ لله تعالى.
وقد تقدّم في الطريق الثالث (1) ما فيه كفاية، والحمد لله.
[وفي الصحيحين عن أبي بكرة قال: أثنى رجل على رجل عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «ويحك قطعت عنق صاحبك»، يقولها مرارًا: «إن كان أحدكم مادحًا لا محالة، فليقل: أحسب كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكِّي على الله أحدًا» (2).
وفي صحيح البخاريِّ وغيره حديث سعد بن أبي وقاص وقوله في رجل: إنه لمؤمن، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أو مسلم»، الحديث (3).
_________
(1) لعله يشير إلى استناد بعضهم إلى تقليد الصوفية المعتَقَد فيهم العصمة.
(2) البخاريّ، كتاب الأدب، باب ما يُكرَه من التمادح، 8/ 18، ح 6061. ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراطٌ، 8/ 227 – 228، ح 3000. [المؤلف](3) البخاريّ، كتاب الإيمان، بابٌ إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، 1/ 14، ح 27. [المؤلف]. وهو في صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تألُّف مَن يُخاف على إيمانه، 1/ 91، ح 150.
(2/267)
وحديث الأنصارية التي قالت في عثمان بن مظعون بعد وفاته: فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وما يدريكِ أن الله أكرمه؟ » الحديث. وفيه: «والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به» (1).
وفي مسند أحمد وغيره عن شقيق، ومسروق، عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «إن من أصحابي مَنْ لا يراني بعد أن أفارقه»، فبلغ عمرَ رضي الله عنه، فجاء عمرُ فدخل عليها فقال لها: بالله منهم أنا؟ فقالت: لا، ولن أبرِّئ أحدًا بعدك (2)] (3).
[78] وبالجملة، الأدلة في هذا كثيرة، وحاصلها: النهي عن القطع، فأما الظن وما يتبعه من الثناء المبني على الظاهر بدون نصٍّ على القطع، فلا حرج فيه. وإذا ظننا في إنسان أنه وليٌّ لله تعالى بما ظهر لنا من علمه وعمله، واستقامته على الصراط الشرعي؛ فلا يلزم من ذلك أن نجعل قوله حجة؛ لأن ولايته لم تثبت بالقطع، ولو ثبتت فهي لا تقتضي العصمة.
وقد سئل الجنيد: أيزني العارف؟ فسكت قليلًا، ثم قال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] (4).
وهب أننا ظننا برجل أنه معصوم أو كالمعصوم، فإنما ذلك عن التعمُّد، فأمَّا عن الخطأ فلا شبهة في عدم عصمته؛ إذ لا تمنعه تقواه وورعه أن يخطئ
_________
(1) البخاريّ، كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات، 3/ 182، ح 2687. [المؤلف](2) المسند 6/ 290، وص 298، وص 307، وص 312، وص 317. [المؤلف](3) ما بين المعقوفتين رأينا عليه خطًّا معترضًا، يحتمل أن يكون للضرب عليه.
(4) انظر: الرسالة القشيرية ص 187.
(2/268)
فيقول أو يعمل ما يظنه حقًّا وهو في نفس الأمر باطل. وكذلك لا يمنعنا اعتقاد أنه أخطأ مِنْ حُسْنِ الظن به، وظنِّ أنه كان صالحًا فاضلًا أو وليًّا لله عزَّ وجلَّ؛ فإن المجتهد إذا أخطأ لم يأثم، بل هو مأجور، كما ورد في الحديث (1)، وأشار إليه القرآن في قصة داود وسليمان، فقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79].
واعلم أن كثيرًا من مسائل العقائد لا تخرج عن هذا؛ فإن كثيرًا من الأعمال والأقوال يُعَدُّ كفرًا، ومع ذلك يُنْقل شيء منه عن بعض الأكابر، ولا يمنع ذلك من اعتقاد فضلهم وصلاحهم وولايتهم؛ فإن إنكار آية من القرآن كفر، ومع ذلك فقد قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: إن المعوذتين ليستا من القرآن، ولم يقدح ذلك في جلالته، لما كان له من العذر. وأمثلة ذلك كثيرةٌ، لعلَّنا نفرد لها فصلًا، وقد قدَّمنا (2) ما يتعلَّق بهذا.
وحاصله: أنه ليس كل ما ثبت في العمل أنه كفر أو شرك ثبت أن كلَّ مَنْ عَمِله يكون كافرًا أو مشركًا، بل ربما يكون العمل كفرًا أو شركًا ويكون بعضُ عامليه من أولياء الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه كان معذورًا في عمله.
وبهذا يندفع عنك ما تتوهَّمه؛ إذ تقول لك نفسك: لو كان هذا كفرًا أو شركًا لكان فلان وفلان وآبائي ومشايخي كفارًا، وأنت لا تستطيع أن تتصوَّر ذلك, وبهذا التوهم تتجنَّب النظر إلى الأدلة بالعدل والإنصاف.
_________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام, باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ, 9/ 108, ح 7352. ومسلم في كتاب الأقضية, باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ, 5/ 131, ح 1716, من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(2) في ص 132 – 147.
(2/269)
وقد غلط كثير من الناس فصاروا إذا ظهر لهم في أمرٍ أنه كفر تعدَّوا الحدود وأعلنوا بتكفير جماعة من أئمة الدين والأولياء الصالحين، وهذه حماقة شيطانية.
نعم لا يلزم من عذر بعض العاملين أن يُعْذَر جميعهم؛ فإن للعذر شرائط، فلا يخدعنَّك الشيطان، فتقول: إذا كان أولئك معذورين فأنا معذور على فرض أن هذا العمل كفر أو شرك؛ فإنك إنما تعذر إذا بحثت وحقَّقْت وبذلت وُسْعَك ثم تبيَّن لك أنه ليس ذلك العمل بكفر ولا شرك، بشرط أن تكون أهلًا للبحث والنظر، وإلَّا فإنه يتعين عليك الاحتياط.
ولعلَّنا نوضح هذا المعنى, وإنما قدَّمنا هنا الإشارة إليه مخافة أن يمنعك التوهُّمُ المذكور عن النظر في رسالتنا هذه نظر الطالب للحقِّ من حيث هو حقٌّ. والله الموفق.
وأنت خبير أن سادة الأولياء هم الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُجْعَل قولُ أحد منهم حجة كما تقدَّم.
وكثيرًا ما نجد المنسوبين إلى الولاية يختلفون فيما بينهم، ويخطِّئ بعضهم بعضًا، وقد يَنْسُبُ كلٌّ منهما رأيَه إلى الكشف، وقد يقول أحدهم قولًا ينسبه إلى الكشف ثم يرجع عنه، وينسب رجوعه إلى الكشف أيضًا، وفي ذلك دلالة على أن الكشف يخطئ. وفي أبيات لابن عربي (1):
واعتصم بالشرع في الكشف فقد … فاز بالخير عُبيدٌ قد عُصِم
_________
(1) نقلها الآلوسيُّ في روح المعاني (1/ 141 – 142) عن الفتوحات لابن عربيّ. وستأتي بقيَّة الأبيات في ص 307.
(2/270)
وسبب الخطأ في الكشف يُعْلَم مما قدمنا في الخوارق والغرائب.
وأزيدك هاهنا فائدة جليلة.
[79] اعلم أن الكشف، وإن ثبت أنه صحيح، فالأغلب أنه يكون له تأويل كتأويل الرؤيا، يوكل ذلك التأويل إلى فهم المكلَّف. والبرهان على ذلك مكاشفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رأى ليلة أُسْرِي به الفطرة في صورة اللبن، والشهوات في صورة الخمر، وأشياء كثيرة رآها (1)، وهي من باب التمثيل تحتاج إلى تأويلٍ.
وكذلك رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فقد رأى يوسف عليه السلام الكواكب والشمس والقمر ساجدين له، وكان تأويلُ ذلك سجودَ أبويه وإخوته.
وقال الله تعالى لنبيه محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ … } [الأنفال: 43].
فرآهم قليلًا وليسوا في الواقع قليلًا، ولكن ذلك كناية عن الذلَّة، وأنهم سيُغلبون. ورأى أنه في درع حصينة فأوَّلها المدينة. ورأى بقرًا تُنْحَرُ، فأوّلها بمن يقتل من أصحابه. ورأى سوارين من ذهب، فأولهما بالكذَّابَيْنِ: مسيلمة والأسود. وأمثال ذلك كثير (2).
وإنما يكون الظاهر حجة في الأوامر التكليفية التي كلف الله العباد أن
_________
(1) سيأتي تخريج هذه الأحاديث بعد أسطر.
(2) انظر: باب التعبير في صحيح البخاريِّ 9/ 29 – 46، [ح 6982، وما بعده]. وكتاب الرؤيا في صحيح مسلمٍ 7/ 50 – 58، [ح 2261، وما بعده]. [المؤلف].
(2/271)
يتدبروها ويعملوا بما فيها، فأمّا ما عدا ذلك فهو على ما وصَفْتُ.
هذا مع أن رؤيا الأنبياء وحي، فأما رؤيا غيرهم فإنها كما جاء [80] في الحديث محتملة أن تكون صادقة، وأن تكون من حديث النفس، وأن تكون من الشيطان.
والكشفُ عند التحقيق ضرب من الرؤيا، غاية الأمر أن الروح إذا قويت وضعف الجسد صارت الروح تعمل في اليقظة مثل ما تعمل غيرها من الأرواح في النوم. والبرهان على هذا حديث البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لم يبق من النبوَّة إلا المبشِّرات»، قالوا: وما المبشِّرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة» (1).
فلو كان الكشف أقوى من الرؤيا لكان أولى بأن يستثنيه.
ثم رأيت في فتح الباري نقلًا عن الطيبي: « … فلا يظهر على غيبه إظهارًا تامًّا وكشفًا جليًّا إلا لرسول … وأما الكرامات فهي من قبيل التلويح واللمحات» (2).
فأما حديث الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ولقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر»، وفي روايةٍ: «فإن عمر بن الخطَّاب منهم» (3). فقد تتبعنا
_________
(1) البخاريّ، كتاب التعبير، باب المبشِّرات، 9/ 31، ح 6990. [المؤلف](2) انظر: فتح الباري 13/ 284. [المؤلف](3) البخاريّ، كتاب فضائل أصحاب النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، باب مناقب عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، 5/ 13، ح 3689، [من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، بابٌ من فضائل عمر رضي الله عنه، 7/ 115، ح 2398، [من حديث عائشة رضي الله عنها]. [المؤلف].
(2/272)
سيرة عمر رضي الله عنه فلم نجد له من هذا القبيل إلا الفراسة وصدق الظن. ولم يكن ذلك مطَّرِدًا له، بل كان ربما أخطأ، ولم يكن يحتج في الشريعة بمجرد ظنه، بل كان يقضي القضاء ثم يرجع عنه لحديث يبلغه، أو لرأي يبدو له أو غير ذلك.
وهكذا لم يقل أحد من الصحابة ولا مَن بَعْدَهُم: إن قول عمر يكون حجة لحديث التحديث، وقد وجدنا صغار الصحابة وأئمة التابعين والأئمة الأربعة المجتهدين وأضرابهم كثيرًا ما يخالفون عمر لأدلَّة ظنية، بل لم يكن أحد من الصحابة يحتجّ في قليل ولا كثير [81] بالكشف، بل لا يكاد يصحُّ، بل لا يصحُّ عن أحد منهم دعوى الكشف لنفسه أو لغيره منهم، والله المستعان.
وقصَّة: (يا سارية الجبل) لم تصحَّ، وإن قال بعض المتأخِّرين: إن لها طرقًا تبلغ بها درجة الحسن لغيره (1)، ومع ذلك ففيها: أن عمر سُئل بعد أن قال: «يا سارية الجبل»، فأجاب أنه شيءٌ جرى على لسانه لم يُلْقِ له بالًا، وسيأتي بقية الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى (2).
وهكذا نجد نقل الكرامات عنهم قليلًا، والنادرَ من ذلك القليل صحيحًا، مع أنهم خير الأمة وأقربها من الله تعالى ورسوله، وأولاها بكل
_________
(1) لعلَّه يعني الحافظ ابن كثيرٍ؛ فإنه قال بعدما ذكر طرقًا لهذه القصَّة: (فهذه طرقٌ يشدُّ بعضها بعضًا). انظر: البداية والنهاية 10/ 176. أو الحافظ ابن حجرٍ؛ فإنه حسَّن إسنادها في الإصابة، ترجمة سارية بن زنيم بن عبد الله الدؤليِّ، 4/ 177.
(2) انظر: ص 799.
(2/273)
فضل، ولا يبلغ أحد ممن بعدهم مُدَّ أحدهم ولا نصيفه، عَمِلَ ما عَمِل. ولقد ينقل لواحد من أفراد الأمة بعد القرون الفاضلة أضعاف أضعاف ما نُقِلَ عن مجموع الصحابة رضي الله عنهم وأكثر من ذلك، وأنت إذا كنت قد تدبَّرت ما قدَّمنا فقد علمت السبب الحقيقيَّ في ذلك. والله أعلم.
وأغرب من ذلك أنك تجد الصحابة وخيار التابعين ومَنْ يليهم من العارفين كانوا شديدي الخوف من الله عزَّ وجلَّ، والمقت لأنفسهم، واتهامها بالغرور والرئاء وغير ذلك، مع أن منهم مَنْ مدحه الله عزَّ وجلَّ في كتابه وبشره بالجنة على لسان رسوله، وكثر ثناء النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عليه، وكان ممن ورد فيهم: «اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» (1)، فلا تجد أحدا منهم ادّعى لنفسه الخير والصلاح، وأن الله يحبه، وأنه من المقربين، ونحو ذلك.
[81 ب] وفي الصحيحين عن عائشة قالت: صنع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شيئًا ترخص (2) وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشيةً» (3).
_________
(1) صحيح البخاري كتاب الجهاد، باب الجاسوس … ، 4/ 59 ح 3007، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر 7/ 167 ح 2494 من حديث عليٍّ رضي الله عنه.
(2) في بعض نسخ البخاريِّ: ترخَّص فيه.
(3) البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب ما يُكرَه من التعمُّق والتنازع، 9/ 97، ح 7301، مسلم، كتاب الفضائل، باب علمه – صلى الله عليه وسلم – بالله تعالى وشدَّة خشيته، 7/ 90، ح 2356، وفي رواية له: «فغضب حتى بان الغضب في وجهه». [المؤلف]
(2/274)
وفي معنى ذلك أحاديث أخرى.
وفي الموطأ عن زيد بن أسلم، عن أبيه أنَّ عمر بن الخطَّاب دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مه! غفر الله لك، فقال له أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد (1).
وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تِبْنَة من الأرض، فقال: ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أُخْلَق، ليتني لم أكن شيئًا، ليتني كنت نسيًا منسيًّا (2).
وفي مسند أحمد وغيره عن مسروقٍ (3).
وعن علي عليه السلام أنه كان يقول في مناجاته بالليل: «آه من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق» (4).
وقال ابن سعد (5):
وعن ابن مسعود أنه قال رجل عنده: ما أحب أن أكون من أصحاب
_________
(1) الموطَّأ بهامش شرحه المنتقى للباجي 7/ 312. [المؤلف]. وهو في كتاب الجامع، باب ما جاء فيما يُخاف من اللسان، 2/ 586، ح 2825 – ط: دار الغرب-.
(2) انظر: الزهد لابن المبارك ص 79، ح 234، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 360، مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام عمر بن الخطَّاب، 19/ 149، ح 35621. وفي إسناده: عاصم بن عُبَيد الله، وهو ضعيفٌ.
(3) بيَّض له المؤلِّف.
(4) انظر: حلية الأولياء 1/ 85، تاريخ دمشق 24/ 401. وفي إسناده: محمد بن السائب الكلبي، وهو متهم بالكذب. وله طريق آخر عند ابن عبد البر في الاستيعاب 3/ 44 (بهامش الإصابة)، وفيه رجل مبهم.
(5) بيَّض له المؤلِّف.
(2/275)
اليمين، أكون من المقربين أحب إليَّ. فقال عبد الله بن مسعود: لكن هاهنا رجل ودّ أنه إذا مات لا يُبْعَث، يعني نفسه (1).
وعنه قال: لو تعلمون ما أعلم من نفسي حثيتم عليّ التراب (2).
وعنه قال: لو وقفت بين الجنة والنار فقيل لي: اختر نخيِّرْك، من أيهما تكون أحب إليك، أو تكون رمادًا؛ لأحببت أن أكون رمادًا (3).
يريد أن يخيّر بين أمرين:
أحدهما: أن يكون رمادًا.
الثاني: أن يُقْضَى له بما يستحقه من الجنة أو النار، فهو يختار الأول، أي: أن يكون رمادًا، لأنه لو اختار الثاني لا يدري لعله يقضى له بالنار.
وعن ابن عمر قال: لو علمت أن الله يقبل مني سجدة واحدة وصدقة درهم لم يكن غائبٌ أحبَّ إليَّ من الموت، ثم تلا: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (4).
_________
(1) انظر: الزهد للإمام أحمد ص 195 و 198، حلية الأولياء 1/ 133، صفة الصفوة 1/ 405.
(2) انظر: الزهد لأبي داود، ص 144، ح 148، المعرفة والتاريخ 2/ 549، المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عبد الله بن مسعودٍ، 3/ 316، حلية الأولياء 1/ 133، صفة الصفوة 1/ 406 – 407.
(3) انظر: مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام ابن مسعود، 19/ 165، ح 35683، المعجم الكبير للطبراني 9/ 105، ح 8535، حلية الأولياء 1/ 133، صفة الصفوة 1/ 406. قال الهيثمي: (ورجاله ثقاتٌ، إلَّا أني لم أجد للحسن سماعاً من ابن مسعود). مجمع الزوائد 10/ 407.
(4) انظر: تاريخ دمشق 31/ 146، صفة الصفوة 1/ 576.
(2/276)
وروى ابن سعد في ترجمة ابن عمر من الطبقات عن أبي الوازع أنه قال: قلت لابن عمر: لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم. قال: فغضب وقال: إني لأحسبك عراقيًّا، وما يدريك ما يُغْلق عليه ابن أمّك بابه؟ (1).
وعن أبي ذرٍّ قال: والله لوددت أن الله عزَّ وجلَّ خلقني يوم خلقني شجرة تُعْضَد، ويؤكل ثمرها (2).
[81 ج] وعن أبي الدرداء قال: أخوف ما أخاف أنْ يقال لي يوم القيامة: أعَلِمْتَ أم جَهِلْتَ؟ فإن قلتُ: علمتُ لا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا أُخِذْتُّ بفريضتها، الآمرة هل ائتمرت، والزاجرة هل ازدجرت (3).
_________
(1) الطبقات الكبرى 4/ 161. وانظر: الزهد لابن المبارك (زيادات نُعَيم بن حمَّادٍ) ص 14، ح 54، المعرفة والتاريخ 3/ 191، المدخل للبيهقيِّ 2/ 91، ح 542، تاريخ دمشق 31/ 157 – 158، صفة الصفوة 1/ 572.
(2) انظر: مسند أحمد 5/ 173، مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام أبي ذرٍّ، 19/ 209، ح 35827، الزهد لأبي داود، ص 186 – 187، ح 203، الزهد لوكيعٍ 1/ 393، ح 159، المستدرك، كتاب الأهوال، بشارة النبيِّ للمؤمنين أن يكونوا شطر أهل الجنَّة، 4/ 579. الزهد لهناد ص 259، ح 450، الزهد لابن أبي عاصم، ص 42، ح 66، حلية الأولياء 1/ 164، صفة الصفوة 1/ 595. وروي مرفوعاً، أخرجه الترمذيُّ في كتاب الزهد، باب قول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً»، 4/ 556، ح 2312، وقال: (هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ). وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، 2/ 1402، ح 4190، والحاكم في المستدرك، الموضع السابق، 4/ 579، وقال: (هذا حديثٌ صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه)، ولم يتعقَّبه الذهبيُّ. والموقوف هو الأشبه، كما قال الألباني في السلسلة الضعيفة 4/ 261، ح 1780، والسلسلة الصحيحة 4/ 299، ح 1722.
(3) انظر: حلية الأولياء 1/ 214، صفة الصفوة 1/ 630. وورد نحوه في الزهد للإمام أحمد ص 170، وشعب الإيمان للبيهقيِّ 4/ 411، ح 1646، وجامع بيان العلم 1/ 549، ح 1201. ورُوِي مرفوعاً، وأوَّله: «كيف أنت يا عُوَيمر إذا قيل لك يوم القيامة: أعلمتَ أم جهلتَ … ». أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، كما في بغية الباحث 2/ 1004، ح 1124، والخطيب في اقتضاء العلم العمل ص 19، ح 5، وابن عساكر في تاريخه 67/ 181. وضعَّفه الألبانيُّ في السلسلة الضعيفة 9/ 179، ح 4157.
(2/277)
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ دخل عليها ابن عباس وهي محتضَرة فبشرها، وذكر فضائلها. فقالت: دعني عنك يا ابن عباس، فوالذي نفسي بيده، لوددت أني كنت نسيًا منسيًّا (1).
وعن زين العابدين علي بن الحسين بن علي عليهم السلام أنه حجَّ فلما أحرم واستوت به راحلته اصْفَرَّ لونه، وانتفض، ووقع عليه الرِّعْدة ولم يستطع أن يلبي فقيل له: مالك لا تلبي؟ فقال: أخشى أن أقول: لبيك فيقال لي: لا لبيك، فقيل له: لا بدَّ من هذا، فلما لَبَّى غُشِيَ عليه، وسقط عن راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجَّه (2).
وعن محمد بن عليِّ بن الحسين أنه كان يقول في جوف الليل: إلهي أمرتني فلم آتَمِرْ، وزجرتني فلم أزدجر، هذا عبدك بين يديك ولا أعتذر (3).
_________
(1) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة النور، باب: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا … }، 6/ 106، ح 4753، حلية الأولياء 2/ 45، صفة الصفوة 2/ 37 – 38.
(2) ذُكِرَتْ هذه القصة في ترجمة علي بن الحسين من تهذيب التهذيب [7/ 306]. [المؤلف]. وانظر: المجالسة وجواهر العلم 3/ 154، تاريخ دمشق 41/ 378. قال الذهبي: (إسنادها مرسلٌ). سير أعلام النبلاء 4/ 392.
(3) انظر: التوبة لابن أبي الدنيا، ص 92، ح 101، حلية الأولياء 3/ 186، صفة الصفوة 2/ 111.
(2/278)
وعن الفضيل بن عياضٍ قال: لو خيرت بين أن أعيش كلبًا أو أموت كلبًا ولا أرى القيامة لاخترت أن أعيش كلبًا أو أموت كلبًا ولا أرى القيامة (1).
وعنه قال: أخذت على يد سفيان بن عيينة في هذا الوادي، فقلت: إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك؛ فبئس ما تظن (2).
[81 د] وعن بشرٍ الحافي أنه قال: شهرني ربي في الدنيا فليته لا يفضحني في القيامة، ما أقبح بمثلي يُظَنُّ بي ظنٌّ وأنا على خلافه، إنما ينبغي لي أن يكون أكثر ما يُظَنُّ بي أني أكره الموت، وما يكره الموت إلا مريب، ولولا أني مريب لأيِّ شيء أكره الموت (3).
وعنه: لقيه سكران وجعل يقبِّله ويقول: يا سيّدي، فلما ولّى تغرغرت عينا بشر بالدموع، وقال: رجل أحبَّ رجلًا على خيرٍ توهَّمه، لعلَّ المحبّ قد نجا، والمحبوب لا يدري ما حاله (4).
وعنه قال: ربما رفعت يدي في الدعاء فأردُّها أو قال: فأستلها، أقول: إنما يعمل هذا من كان له عنده وجه (5).
_________
(1) انظر: حلية الأولياء 8/ 84، صفة الصفوة 2/ 238 – 239.
(2) انظر: حلية الأولياء 8/ 101، صفة الصفوة 2/ 239 – 240. ونحوه في تاريخ دمشق 48/ 418.
(3) انظر: طبقات الصوفية ص 50، صفة الصفوة 2/ 326.
(4) انظر: تاريخ دمشق 10/ 203 – 204، صفة الصفوة 2/ 327.
(5) انظر: صفة الصفوة 2/ 330.
(2/279)
وعن السَّريِّ السقطي (1) فيما حكاه الجنيد عنه، قال: ما أرى لي على أحد فضلًا، قيل: ولا على المخنثين، قال: ولا على المخنثين (2).
وعنه فيما حكاه الجنيد أيضًا عنه قال: ما أحب أن أموت بحيث أُعْرَف، أخاف أن تقذفني الأرض، فأفتضح (3).
قال الجنيد: وسمعت سَريًّا يقول: إني لأنظر إلى أنفي كلَّ يوم مرتين مخافة أن يكون قد أسودَّ وجهي (4).
وعن أبي عبد الله البراثي (5) قال: حملتنا المطامع على سوء الصنائع، نذلّ لمن لا يقدر لنا على ضرٍّ ولا نفع، ونخضع لمن لا يملك لنا رزقًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، وكيف أزعم أني أعرف ربي حق معرفته، وأنا أصنع ذلك، هيهات هيهات (6).
_________
(1) السري بن المغلس السقطي، أبو الحسن البغدادي، الإمام القدوة شيخ الإسلام، ولد في حدود الستين ومائة، وتوفي في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: سبع وخمسين. انظر: تاريخ بغداد 9/ 187، سير أعلام النبلاء 12/ 185.
(2) انظر: طبقات الصوفية ص 53، حلية الأولياء 10/ 124، صفة الصفوة 2/ 375.
(3) انظر: شعب الإيمان 3/ 169، ح 692، حلية الأولياء 10/ 116، صفة الصفوة 2/ 376.
(4) انظر: شعب الإيمان 3/ 169، ح 691، حلية الأولياء 10/ 116، صفة الصفوة 2/ 376.
(5) محمد بن خالد بن يزيد بن غزوان البراثي، كان كثير البر والإحسان، وكان صديق بشر بن الحارث. اللباب 1/ 131.
(6) انظر: حلية الأولياء 10/ 323، صفة الصفوة 2/ 389.
(2/280)
وعن الجنيد قال: كنت بين يدي السَّرِيِّ السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة [81 هـ] يتكلّمون في الشكر فقال لي: يا غلام! ما الشكر؟ فقلت: ألاّ تعصي الله بنعمه، فقال لي: أخشى أن يكون حظُّك من الله لسانَكَ. قال الجنيد: فأنا أبكي على هذه الكلمة التي قالها السريُّ لي (1).
وعن الربيع بن خُثَيْم أنه كان إذا قيل له: كيف أصبحت قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا (2).
وقال: أدركنا أقوامًا كنا في جنوبهم لصوصًا (3).
وعن داود الطائي أنه وعظ رجلًا ثم قال: إني لأقول لك هذا، وما أعلم أحدًا أشدَّ تضييعًا مني (4).
وعن سفيان الثوري رآه رجل يكثر البكاء فقال له: يا أبا عبد الله أراك كثير الذنوب فرفع شيئًا من الأرض، فقال: والله لذنوبي أهون عندي من ذا، إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت (5).
_________
(1) انظر: الرسالة القشيرية ص 95، تاريخ بغداد 7/ 244 – 245، صفة الصفوة 2/ 417.
(2) انظر: الزهد لابن المبارك (زيادات نعيم بن حماد) ص 38، ح 151، الزهد لهنَّاد بن السريِّ ص 293، ح 513، مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام ربيع بن خُثَيمٍ 19/ 266 – 267، ح 35987، الطبقات الكبرى 6/ 185، المعرفة والتاريخ 2/ 564، الدعاء للطبراني 1/ 541، ح 1940، حلية الأولياء 2/ 109، صفة الصفوة 3/ 67.
(3) انظر: الطبقات الكبرى 6/ 189، الرقَّة والبكاء لابن أبي الدنيا، ص 163، ح 218، حلية الأولياء 2/ 109، صفة الصفوة 3/ 68.
(4) انظر: الزهد لابن أبي الدنيا، ص 190، ح 490، حلية الأولياء 7/ 346، اقتضاء العلم العمل، ص 110 – 111، ح 193، صفة الصفوة 3/ 138.
(5) انظر: شعب الإيمان 3/ 133 – 134، ح 839، حلية الأولياء 7/ 12، صفة الصفوة 3/ 150.
(2/281)
وعن هرم بن حيان (1) قال: والله لوددت أني شجرة من هذه الشجر، أكلتني هذه الراحلة، ثم قذفتني بَعْرًا، ولم أكابد الحساب، إني أخاف الداهية الكبرى؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار (2).
وعن الحسن البصري؛ بكى مرة، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي (3).
وعنه قال: لقد أدركت أقوامًا ما أنا عندهم إلا لصٌّ (4).
وعن مالك بن دينار قال: رأيت أبا عبد الله مسلم بن يسار في منامي بعد موته، فسلّمت عليه فلم يردَّ السلام، فقلت: ما يمنعك أن تردّ عليّ السلام؟ فقال: أنا ميِّت، فكيف أرد عليك السلام، قال: قلت له: فماذا لقيت بعد الموت؟ قال: فدمعت عينا مالك عند ذلك، وقال: لقيت والله أهوالًا زلازل (5) عظامًا شدادًا، [81 و] قال: فقلت: فما كان بعد ذلك؟ قال: وما تراه يكون من الكريم؟ قبل منا الحسنات وعفا لنا عن السيِّئات، وضمن عنا التبعات، قال: ثم شهق مالك شهقة خرّ مغشيًّا عليه، قال: فلبث بعد ذلك
_________
(1) هو العبدي الأزديُّ البصريُّ، أحد العُبَّاد، قال ابن سعدٍ: كان عاملاً لعمر، وكان ثقةً، له فضلٌ وعبادةٌ. سير أعلام النبلاء 4/ 48. وانظر: الطبقات الكبرى 7/ 131 – 132، حلية الأولياء 2/ 119.
(2) انظر: الزهد للإمام أحمد ص 284 – 285، المتمنِّين لابن أبي الدنيا ص 36 – 37، ح 37، حلية الأولياء 2/ 120، صفة الصفوة 3/ 214.
(3) انظر: صفة الصفوة 3/ 223.
(4) انظر: شعب الإيمان 9/ 285، ح 4673، حلية الأولياء 8/ 240، صفة الصفوة 3/ 234.
(5) كذا في الأصل، وفي المصادر: وزلازل.
(2/282)
أيامًا مريضًا من غشيته، ثم مات (1).
وقال صالح المرِّي: وقف مُطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير وبكر بن عبد الله المزني بعرفة، فقال مطرِّف: اللهم لا تردَّهم اليوم من أجلي. وقال بكر: ما أشرفه من مقام وأرجاه لأهله لولا أني فيهم (2).
وعن العلاء بن زياد أنه قال: إنما نحن قوم وضعنا أنفسنا في النار، فإن شاء الله أن يخرجنا منها أخرجَنا (3).
وعن محمد بن واسع أنه قال: لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي (4).
وعنه أنه لما مرض كثر عُوَّاده فقال لرجل: أخبرني ما يغني هؤلاء إذا أُخِذَ بناصيتي وقدمي غدًا وأُلْقِيتُ في النار؟ ! ثم تلا هذه الآية: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41] (5).
وعن مالك بن دينار أنه قال له محمد بن واسع: يا أبا يحيى! إن كنت
_________
(1) انظر: المنامات لابن أبي الدنيا ص 39، ح 30، حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا ص 114، ح 131، المجالسة وجواهر العلم 1/ 452، ح 140، حلية الأولياء 2/ 295، صفة الصفوة 3/ 241.
(2) انظر: الزهد للإمام أحمد ص 298، صفة الصفوة 3/ 248.
(3) انظر: الزهد للإمام أحمد ص 312، شعب الإيمان 3/ 211، ح 953، حلية الأولياء 2/ 245، صفة الصفوة 3/ 254.
(4) انظر: حلية الأولياء 2/ 349، صفة الصفوة 3/ 268.
(5) انظر: المحتضرين لابن أبي الدنيا ص 142 – 143، ح 183 – 184، حلية الأولياء 2/ 348، صفة الصفوة 3/ 271.
(2/283)
من أهل الجنة فهنيئًا لك، فقال مالك: ينبغي لنا إذا ذكرنا الجنة أن نخزى (1).
وعنه قال: والله لو وقف ملك بباب المسجد وقال: يخرج شرّ مَنْ في المسجد لبادرتكم إليه (2).
وعنه أنه قال له رجل: يا مرائي! فقال: متى عرفت اسمي، ما عَرَفَ اسمي غيرُك (3).
وعنه لما حضرته الوفاة قال: لولا أني أكره أن أصنع شيئًا لم يصنعه أحد قبلي [81 ز] لأوصيت أهلي إذا أنا متُّ أن يقيِّدوني، وأن يجمعوا يديَّ إلى عنقي، وأن ينطلقوا بي على تلك الحال حتى أُدْفَن، كما يُصْنَع بالعبد الآبق (4).
وقال عبد الواحد بن زيدٍ: إن حبيبًا أبا محمدٍ وهو العجميُّ جزع جزعًا شديدًا عند الموت، فجعل يقول بالفارسية: أريد أن أسافر سفرًا ما سافرته قطُّ … ثم أُوْقَف بين يدي الله فأخاف أن يقول لي: يا حبيب هات تسبيحةً واحدةً سبَّحتني في ستِّين سنةً، لم يظفر بك الشيطان فيها بشيءٍ، فماذا أقول وليس لي حيلةٌ؟ أقول: يا ربِّ قد أتيتك مقبوض اليدين إلى عنقي. قال عبد الواحد: هذا قد عبد الله ستِّين سنةً مشتغلاً به، ولم يشتغل من الدنيا
_________
(1) انظر: تاريخ دمشق 56/ 422، صفة الصفوة 3/ 279.
(2) انظر: صفة الصفوة 3/ 281 – 282.
(3) انظر: شعب الإيمان 14/ 515، ح 8108، حلية الأولياء 8/ 339، تاريخ دمشق 56/ 420، صفة الصفوة 3/ 287.
(4) انظر: المنتخب من كتاب الزهد والرقائق للخطيب البغدايِّ ص 101، ح 71، صفة الصفوة 3/ 288.
(2/284)
بشيءٍ قطُّ، فأيُّ شيءٍ حالنا؟ واغوثاه بالله! (1).
وعن بشر بن منصورٍ (2) قال: كنت أوقد نارًا بين يدي عطاءٍ السلمي (3) في غداةٍ باردةٍ، فقلت له: يا عطاء، يَسُرُّك الساعة لو أنك أُمِرْتَ أن تُلْقِيَ نفسك في هذه النار ولا تبعث إلى الحساب؟ فقال لي: إي ورب الكعبة. قال: ثم قال: والله مع ذلك لو أُمِرْتُ لخشيت أن تخرج نفسي فرحًا قبل أن أصل إليها (4).
وقال عبد الواحد بن زيدٍ: ربما سهرت مفكِّرًا في طول حزن عُتبة (الغلام) (5)، ولقد كلَّمته ليرفق بنفسه، فبكى، وقال: إنما أبكي على تقصيري (6).
وعن سهل التستري أنه قال: أول الحجاب الدَّعْوَى، فإذا أخذوا في الدعوى حُرِمُوا (7).
_________
(1) انظر: المجالسة وجواهر العلم 4/ 399 – 400، ح 1594، صفة الصفوة 3/ 321.
(2) السَّليمي، أبي محمد الأزدي البصري، عابد زاهد. توفي سنة 180 هـ. انظر: التاريخ الكبير 2/ 2/84 برقم 1770، سير أعلام النبلاء 8/ 359 – 361.
(3) من صغار التابعين، نُقلت عنه أشياء في الخوف فيها غلو. توفي بعد الأربعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء 6/ 86 – 88.
(4) انظر: شعب الإيمان 3/ 168 – 169، ح 890، حلية الأولياء 6/ 216، صفة الصفوة 3/ 325.
(5) هو عتبة بن أبان بن صمعة، من عباد أهل البصرة وزهادهم ممن جالس الحسن. روى عنه البصريون الحكايات. مات غازيًا. الثقات لابن حبان 7/ 270، السير 7/ 62.
(6) انظر: حلية الأولياء 6/ 236، صفة الصفوة 3/ 372 – 373.
(7) انظر: حلية الأولياء 10/ 202، صفة الصفوة 4/ 65.
(2/285)
وعنه أنه قال: ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدَّعْوَى، ولا طريق أقرب من الافتقار (1).
[81 ح] وعن شاه بن شجاعٍ الكرماني (2) أنه قال: لأهل الفضل فضلٌ ما لم يروه، فإذا رأوه فلا فضل لهم، ولأهل الولاية ولايةٌ ما لم يروها، فإذا رأوها فلا ولاية لهم (3).
وعن يحيى بن معاذ الرازي (4) أنه قال: ليس بعارفٍ مَنْ لم يكن غاية أمله من ربه العفو (5).
وعنه أنه قال: لا يفلح مَنْ شمِمْتَ منه رائحة الرياسة (6).
وقال: ذنوب مزدحمة على عاقبة مبهمة، ثم قال: إلهي! سلامة إن لم يكن كرامة (7).
_________
(1) انظر: المنتخب من كتاب الزهد والرقائق للخطيب البغداديِّ ص 123، ح 101، صفة الصفوة 4/ 65.
(2) هو شاه بن شجاع بن محمد بن المظفر، جلال الدين، أبو الفوارس، كان من أولاد الملوك، فتزهَّد، وصحب أبا تراب النخشبي، قال السُّلَميُّ: كان من علماء هذه الطبقة، وله رسالاتٌ مشهورةٌ، توفِّي قبل الثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفيَّة للسلميِّ 192، الوافي بالوفيات 16/ 91.
(3) انظر: طبقات الصوفية للسلميِّ 193، صفة الصفوة 4/ 68.
(4) زاهدٌ، له كلامٌ جيِّدٌ، ومواعظ مشهورةٌ. توفِّي بنيسابور سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين. انظر: طبقات الصوفيَّة 107 – 114، سير أعلام النبلاء 13/ 15.
(5) انظر: القصَّاص والمذكِّرين ص 272، ح 134، صفة الصفوة 4/ 93.
(6) انظر: حلية الأولياء 10/ 53، صفة الصفوة 4/ 94.
(7) انظر: صفة الصفوة 4/ 96.
(2/286)
وعن محمد بن أسلم الطوسي أنه كان يقول: والله الذي لا إله إلا الله هو ما رأيت نفسًا تصلِّي إلى القبلة شرًّا عندي من نفسي (1).
وعن إبراهيم بن أدهم أنه كان ناطورًا في كَرْمٍ، فمرَّ به رجل، فقال: ناوِلْنا من هذا العنب، قال إبراهيم: ما أذن لي صاحبه. فقَلَب الرجل السوط فجعل يُقنِّعُ (2) رأس إبراهيم، فطأطأ إبراهيم رأسه، وقال: اضرب رأسًا طالما عصى الله (3).
وعن رَابِعَة العدوية أنه قال لها رجل: ادعي، فالتصقت بالحائط، وقالت: مَنْ أنا يرحمك الله، أَطِع ربك وادعه؛ فإنه يجيب المضطرَّ (4).
وعن شقيق البلخي (5) أنه قال: مَثَلُ المؤمن كمثل رجل غرس نخلة وهو يخاف أن تحمل شوكًا، ومَثَل المنافق كمَثَل رجل زرع شوكًا وهو يطمع أن يحصد تمرًا (6).
وعن أبي سليمان الداراني أنه قال: من حَسَّن ظنَّه بالله ثم لا يخاف الله فهو مخدوع (7).
_________
(1) انظر: حلية الأولياء 9/ 244، صفة الصفوة 4/ 127.
(2) قنَّع رأسه بالسوط: علاه به.
(3) انظر: حلية الأولياء 7/ 379، تاريخ دمشق 6/ 316.
(4) انظر: صفة الصفوة 4/ 28.
(5) الإمام الزاهد شقيق بن إبراهيم الأزدي البلخي، أبو علي، صاحب إبراهيم بن أدهم، قُتل في غزاة كولان سنة 194 هـ. حلية الأولياء 8/ 58، سير أعلام النبلاء 9/ 313.
(6) انظر: حلية الأولياء 8/ 71، صفة الصفوة 4/ 160.
(7) انظر: حلية الأولياء 9/ 272، صفة الصفوة 4/ 226.
(2/287)
وعنه أنه قال: ربّما مثل لي رأسي بين جبلين من نار، وربما رأيتُني أهوي فيها حتى أبلغ قرارها، وكيف تهنأ الدنيا مَنْ كانت هذه صفته (1).
وعنه أنه قال: إنما ارتفعوا بالخوف، فإن ضيَّعوا نزلوا، وينبغي للعاقل وإن بلغ أعلى درجة [81 ط] أن يُفَزِّع (2) قلبَه بأسفل درجة من ذكر الموت في المقابر والبعث (3).
وعنه أنه قال: ليس العبادة عندنا أن تَصُفَّ قدميك وغيرُك يَفُتُّ لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبَّد، ولا خير في قلب يتوقَّع قَرْعَ الباب يتوقَّع إنسانًا يجيئه يعطيه شيئًا (4).
وقال أحمد بن أبي الحواري (5): قلت لأبي سليمان: إن فلانًا وفلانًا لا يقعان على قلبي، قال: ولا على قلبي، ولكن لعلّنا أُتِينا من قلبي وقلبك، فليس فينا خير، وليس نحبُّ الصالحين (6).
وعن الجنيد أنه قال: لولا أنه يُروى أنه يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم؛ ما تكلَّمت عليكم (7).
_________
(1) انظر: حلية الأولياء 9/ 261، صفة الصفوة 4/ 227.
(2) أي: يخوِّف.
(3) انظر: صفة الصفوة 4/ 227.
(4) انظر: حلية الأولياء 9/ 264، صفة الصفوة 4/ 230.
(5) هو أحمد بن عبد الله بن ميمون، شيخ أهل الشام، إمام زاهد عالم، توفي سنة 246 هـ. حلية الأولياء 10/ 5، سير أعلام النبلاء 12/ 85.
(6) انظر: حلية الأولياء 9/ 262 – 263، صفة الصفوة 4/ 232.
(7) انظر: حلية الأولياء 10/ 263، صفة الصفوة 2/ 420. وعبارة: «وكان زعيم القوم أرذلهم» وردت في حديثٍ ضعيفٍ أخرجه التِّرمِذيِّ في كتاب الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، 4/ 494، ح 2210، ضمن خمس عشرة خصلةً إذا فعلتها الأمَّة حلَّ بها البلاء، وقال التِّرمِذيُّ: (هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ إلَّا من هذا الوجه، ولا نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ غير الفرج بن فضالة، والفرج بن فضالة قد تكلَّم فيه بعض أهل الحديث وضعَّفه من قبل حفظه … ). وانظر كلام الأئمَّة في تضعيفه في السلسلة الضعيفة 3/ 312 – 313، ح 1170.
(2/288)
الزعيم: هو الرئيس، يعني: أني إذا تكلمت عليكم أجعل نفسي رئيسكم فأنا أخاف من ذلك أن يلزم منه تزكيتي لنفسي، ولكن هذه الرواية دفعت الخوف؛ لأنها تُشْعِر بأني إذا تكلّمت عليكم فأنا أرذلكم.
وعن ذي النون المصري (1) أنه قال: من تطأطأ لقط رُطَبًا ومن تعالى لقي عطبًا (2).
وعن أبي يزيد البسطامي أنه قال: لو صَفَتْ لي تهليلةٌ ما باليت بعدها بشيء (3).
وعنه أنه قال: ما دام العبد يظنّ أن في الخلق من هو شرٌّ منه فهو متكبِّر (4).
_________
(1) هو ثوبان بن إبراهيم، وقيل في اسمه غير ذلك، الإخميميُّ النوبيُّ، يكنى أبا الفيض أو الفياض، الزاهد، كان عالمًا واعظًا فصيحًا حكيمًا، توفي سنة 245 هـ. تاريخ بغداد 8/ 393، سير أعلام النبلاء 11/ 532 – 533.
(2) انظر: حلية الأولياء 9/ 376، صفة الصفوة 4/ 319.
(3) انظر: حلية الأولياء 10/ 40، صفة الصفوة 4/ 108.
(4) انظر: حلية الأولياء 10/ 36، صفة الصفوة 4/ 109.
(2/289)
وعن أبي بكرٍ الهلالي (1) أنه قال: رَمَوا بِهِمَمِهم إلى أعلى الفضائل وضيّعوا الفرائض، فلا إلى هممهم وصلوا ولا قاموا بقليلٍ ما به وُكِلُوا، ومَن قام بقليل ما وُكِل به اؤتمن على الكثير، ومن لم يقم بقليل ما وُكِلَ به لم يؤتمن على قليلٍ ولا كثيرٍ (2).
وسئل يوسف بن أسباط عن غاية (التواضع) فقال: أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيت أنه خيرٌ منك (3).
وعنه أنه قال: خرجت سَحَرًا لأؤذِّن فإذا عليّ ليلٌ، فقعدت فإذا أَسْوَد في يده حجرٌ يريد أن يضربني، ووراءه شيءٌ أبيض بيده حجرٌ يريد أن يصرفه عني، فقلت: هذان شيطانان يريدان أن يُرِيَاني أني رجلٌ صالحٌ، فقلت: كلاكما شيطان؛ فطارا (4).
وعن حذيفة بن قتادة المرعشي (5) أنه قال: إن لم تخش أن يعذِّبك الله على أفضل عملك، فأنت هالك (6).
وقال: لو جاءني رجلٌ، فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو، ما عَمَلُك
_________
(1) هو محمد بن معمر، من أهل طبرية. تاريخ دمشق 56/ 16.
(2) انظر: صفة الصفوة 4/ 243 – 244.
(3) انظر: حلية الأولياء 8/ 238، صفة الصفوة 4/ 265.
(4) انظر: صفة الصفوة 4/ 265.
(5) من العُبَّاد، صحب سفيان الثوري، وروى عنه. مات سنة 207 هـ، الثقات لابن حبان 8/ 215 – 216، حلية الأولياء 8/ 267، سير أعلام النبلاء 9/ 283.
(6) انظر: حلية الأولياء 8/ 268، صفة الصفوة 4/ 268. قال الذهبي تعليقًا على هذا الكلام: يعني: لما يعتوِرُه من الآفات. انظر: تاريخ الإسلام 5/ 47.
(2/290)
عملَ من يؤمن بيوم الحساب؛ لقلت له: يا هذا! لا تكفِّر عن يمينك، فإنك لم تحنث (1).
وجاء سعيد بن عبد العزيز (2) إلى سليمان الخوَّاص (3) بِصُرَّةٍ، وقال له: تنفق هذا وأنا أحلف لك بين يدي الله تعالى أنه حلالٌ، فقال: لا حاجة لي فيها، فقال له: ما ترى ما الناس فيه؟ دعوةً، فصرخ سليمان صرخةً، ثم قال: ما لك يا سعيد، فتنتني بالدنيا وتَفْتِنُني بالدين، مالي والدعاء؟ مَن أنا؟ ! (4).
وعن فتح الموصلي (5) قال: كبرت عليَّ خطاياي وكثرت، حتى لقد آيسَتْني من عظيم عفو الله، ثم قال: وأَنى آيَسُ منك، وأنت الذي جُدْتَ على السَّحَرة بعد أن غدوا كفرةً فجرةً؟ … ولم يزل يقول: وأنى آيسُ منك؟ حتى سقط مغشيًّا عليه (6).
ما لم أنسبه من هذه الآثار فهو من كتاب صفة الصفوة، وعامَّتها في الحلية لأبي نعيم بأسانيدها.
_________
(1) انظر: حلية الأولياء 8/ 268، صفة الصفوة 4/ 268.
(2) أبو محمد التنوخي، الدمشقي، مفتيها، مات سنة 167 هـ. حلية الأولياء 6/ 124، سير أعلام النبلاء 8/ 32.
(3) من العابدين الكبار، المرابطين في الثغر في الشام، وكان لا يأكل إلَّا الحلال المحض، وما له حديثٌ مستقيمٌ يرجع إليه. الثقات لابن حبان 8/ 277، سير أعلام النبلاء 8/ 178.
(4) انظر: حلية الأولياء 8/ 277 (طرفه الأوَّل)، صفة الصفوة 4/ 273 – 274.
(5) هو فتح بن سعيد الموصلي، أبو نصر، كان شريفاً زاهداً، مات سنة 220 هـ. حلية الأولياء 8/ 292، تاريخ بغداد 12/ 381 – 383.
(6) انظر: حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا، ص 114، ح 130، صفة الصفوة 4/ 186.
(2/291)
فأما مَنْ ذُكِر من أهل البيت والصحابة فمقامه معروف, وأما من ذُكِرَ من غيرهم فعامَّتهم ممَّن عُرِفَ بالعلم والعمل والزهد والصلاح واشتهر بالولاية، ونُقِلَتْ عنهم كرامات كثيرة.
وكثير من الناس يقول في الآثار المتقدمة: إنها من باب التواضع. وهذا حقٌّ، ولكن قد تقدَّم عن يوسف بن أسباط تفسير التواضع. وليس المراد بالتواضع أن يخبر المرء عن نفسه بخلاف ما يعتقده؛ فإن هذا كذب، وقد كان السلف أبعد الناس عن الكذب مطلقًا.
وفي ترجمة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق من «تهذيب التهذيب» (1): وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: رأيت القاسم يصلِّي فجاء إليه أعرابي [81 ي] فقال له: أيما أعلم أنت أو سالم؟ فقال: سبحان الله، فكرَّر عليه، فقال: ذاك سالم فاسأله. قال ابن إسحاق: كره أن يقول: أنا أعلم من سالم، فيزكِّي نفسه, وكره أن يقول: سالم أعلم مني، فيكذب. قال: وكان القاسم أعلمهما».
وأنت ترى في هذه الآثار المتقدمة أن منهم من أقسم بالله تعالى وأكَّد اليمين.
وفي الآثار المتقدمة الحكم على الناس بأن المدَّعِيَ محروم، ومن رأى لنفسه فضلًا فلا فضل له، ومن رأى لنفسه ولاية فلا ولاية له، ومن حسَّن ظنه بالله ثم لا يخاف الله فهو مخدوع، وأن الذين ارتفعوا إنما ارتفعوا بالخوف، فإذا ضيَّعوا نزلوا، وأن من تعالى لقي عَطَبًا، وأنه مادام العبد يظنُّ أن في
_________
(1) تهذيب التهذيب 8/ 334. وانظر: حلية الأولياء 2/ 184.
(2/292)
الخلق من هو شرٌّ منه فهو متكبِّر، وأن التواضع أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيت أنه خير منك، وأنه من لم يخش أن يعذِّبه الله تعالى على أفضل عمله فهو هالك، وقول فضيل بن عياض لسفيان بن عيينة: إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن.
فهذه الآثار تصرِّح بأن على كل إنسان أن يعتقد في نفسه النقص والتقصير, ويُظهر ذلك، ويطهِّر نفسه من العُجْب وظنِّ أنه صالح أو فاضل، وأنَّ من لم يصنع ذلك فهو متكبر، والمتكبر هالك. فكيف بمن تعدَّى حسن الظن بنفسه إلى الدعوى والشَّطح؟ فانظر حال السلف وحال من بعدهم.
[82] فقد جاء بعد ذلك أقوام يتغالون في مدح أنفسهم وإطرائها حتى إن بعضهم ليفضِّل نفسه على الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرَّبين، ومنهم من يتجاوز ذلك فيزعم أنه ربُّ العالمين، أو أن ربَّ العالمين لا يقدر على مخالفته، ونحو ذلك مما يسمُّونه الشَّطح، ويعدُّونه من علامات الولاية.
وأقلُّ ما يدلُّ عليه هذا فضل علم السلف على علم الخلف، فإن ميزان العلم الخشية، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وفي كتب الزهد والرقائق كلمات كثيرة عن السادة الصوفية في وجوب مقت النفس وسوء الظنِّ بها، وذمِّ مَنْ يزكِّي نفسه أو يظن بها خيرًا, ولكن أكثر هذه الكتب تشتمل على أدوية وسموم، وإلى الله المشتكى.
وليس مقصودي الطعنَ في أحدٍ من أولياء الله تعالى والعلماء به، أعوذ بالله من ذلك، وإنما المقصود بيان فضل السلف على الخلف، وإذا لم تثبت
(2/293)
العصمة للسلف كما مرَّ، فأولى من ذلك أن لا تثبت للخلف، فإذا لم يكف في أصول العقائد تقليدُ أحد من السلف فتقليد الخلف أولى ألا يكفي.
واعلم أن الله تعالى قد يوقع بعض المخلصين في شيء من الخطأ ابتلاء لغيره أيتبعون الحق ويدَعون قوله أم يغترُّون بفضله وجلالته؟ وهو معذور بل مأجور؛ لاجتهاده وقصده الخير وعدم تقصيره؛ ولكن من تبعه مغترًّا بعظمته بدون التفات إلى الحجج الحقيقية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فلا يكون معذورًا، بل هو على خطر عظيم.
[83] ولما ذهبت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى البصرة قبل وقعة الجمل, أتبعها أمير المؤمنين علي عليه السلام ابنه الحسن وعمار بن ياسر رضي الله عنهما لينصحا الناس، فكان من كلام عمَّار لأهل البصرة أن قال: والله إنها لزوجة نبيكم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في الدنيا والآخرة، ولكنَّ الله تبارك وتعالى ابتلاكم بها ليعلم إيَّاه تطيعون أم هي (1).
ومن أعظم الأمثلة في هذا المعنى مطالبة فاطمة عليها السلام بميراثها من أبيها صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (2)، وهذا ابتلاء عظيم للصِّدِّيق رضي الله عنه، ثبَّته الله عزَّ وجلَّ فيه.
وأهل العلم إذا بلغَهُم خَطَأ العالم أو الصالح وخافوا أن يغترَّ الناس
_________
(1) البخاريّ، كتاب الفتن، باب 18، 9/ 56، ح 7100. [المؤلف](2) أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس, باب فرض الخمس, 4/ 79, ح 3092. ومسلم في كتاب الجهاد والسير, باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا نورث ما تركنا فهو صدقة» 5/ 153, ح 1759.
(2/294)
بجلالته ربما وَضَعوا مِنْ فَضله وغبَّروا في وجه شهرته، مع محبتهم له ومعرفتهم بمنزلته؛ ولكن يظهرون تحقيره لئلا يفتتن به الناس.
ومن ذلك ما ترى في مقدمة صحيح مسلم من الحطِّ الشديد على البخاري في صدد الردِّ عليه في اشتراط ثبوت لقاء الراوي لمن فوقه، حتى لقد يخيل إلى القارئ ما يخيل إليه، مع أن منزلة البخاري في صدر مسلم رفيعة، ومحبته له وإجلاله أمر معلوم في التاريخ وأسماء الرجال.
وقد يكون من هذا كثير من طعن المحدثين في أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
[84] ولعلَّ مما حملهم على هذا علمهم بأن العامَّة وأشباه العامَّة يغترُّون بفضل القائل في نفسه، فإذا قال لهم العلماء: إنه أخطأ مع جلالته وفضله، قالوا: قد خالفتموه وشهدتم له بالجلالة والفضل، فقوله عندنا أرجح من قولكم بشهادتكم. وهكذا قال بعض الناس لعمَّار رضي الله عنه لما قال مقالته المتقدمة آنفًا: «فنحن مع الذي شهدتَ له بالجنة يا عمَّار» , يعنُون أمَّ المؤمنين (1).
وبالجملة؛ فمن علم القاعدة الشرعية في تعارض المفاسد لم يعذل العلماء في انتقاصهم مَنْ يخافون ضلال الناس بسببه، ولو علم محبُّو المطعون فيه هذا المعنى لما وقعوا فيما وقعوا فيه من ثَلْبِ أولئك الأكابر حميَّة وعصبيَّة، والله المستعان.
_________
(1) انظر: تاريخ الأمم والملوك 4/ 485.
(2/295)
فصل
وكثيرًا ما يحتج أهل زماننا وما قرب منه بآيات من كتاب الله تعالى ويفسرونها برأيهم بما لم ينقل عن السلف ولا تساعده اللغة العربية ولا البلاغة القرآنية.
وقد عظم البلاء بذلك, حتى إنك لتجد العجميَّ الذي لا يعرف من العربية إلا بعض المفردات، ولا يستطيع أن يكتب سطرين أو ثلاثة بدون لحن، وهو يفسر القرآن [85] برأيه. وهكذا يصنعون بالأحاديث الثابتة, مع أنهم يشددون النكير على مخالفهم إذا احتجَّ عليهم بآية أو حديث، وأوضح تفسيرها بالحجج الصحيحة، ونقل عن تفسير السلف ما يوافق قوله أو يشهد له، ويقولون: إن الفهم من الكتاب والسنة خاصٌّ بالمجتهدين. فأما إذا خالف أحد قول إنسان يعتقدون فيه الإمامة أو الولاية؛ فإنهم يكفِّرونه أو يضلِّلونه، ويشدِّدون عليه النكير، ويقولون: انظروا إلى هذا الضالِّ المضلِّ يزعم أنه فهم من الكتاب أو السنة ما لم يفهمه الإمام فلان أو الشيخ فلان أو نحو ذلك.
ومن البلاء العظيم أن هؤلاء الجهال هم في نظر العامة هم الرؤساء في الدين. وذلك مصداق حديث الصحيحين عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضَلُّوا وأضلُّوا» (1).
_________
(1) البخاريّ، كتاب العلم، بابٌ كيف يُقبَض العلم، 1/ 32، ح 100. ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم، 8/ 60، ح 2673. [المؤلف]
(2/296)
نعم، قد بقي في الناس أفراد من العلماء؛ مصداقًا لحديث الصحيحين: [86] «لا تزال طائفةٌ من أمَّتي قائمةً على الحقِّ» (1)، وهو مبيِّن لحديث ابن عمرٍو، والله أعلم. ولكن يكاد يكون وجود أولئك الأفراد كعدمهم؛ لأنهم غرباء، لا ترى العامَّةُ إلا أنهم مبتدعون ضُلَّال، والرياسة الدينيَّة بيد غيرهم.
والمقصود هاهنا النصيحة للمسلمين أن لا يغترَّ أحد منهم بأحد ممن يحتج بالكتاب والسنة على الأمور المشتبهة، وعليه أن ينظر لنفسه إن كان أهلًا, أو يطلب العلم لتصير له أهلية، أو يعمل بالاحتياط؛ فإنه لا عسر فيه. والله أعلم.
فصل
وكثيرًا ما يحتجون بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، وكذلك بالآثار المكذوبة عن السلف، أو التي لم تصحَّ؛ فمنهم من يكتفي بذكر الحديث أو الأثر ونقله عن كتاب معروف ولا يبين حاله من صحة وعدمها، إما لجهله بهذا العلم الجليل، وهو معرفة علوم الحديث، وإما لأنه لما رأى ذلك الحديث أو الأثر موافقًا لهواه اعتقد صحته، وإما لغير ذلك.
ومنهم من يحكي عن بعض [87] المتأخرين، كالسبكي وابن حجر وابن الهمام والسيوطي ونحوهم، أنهم صحَّحوا ذلك الحديث أو الأثر أو حسَّنوه، ويكون جهابذة العلم من السلف قد ضعّفوا ذلك الحديث أو حكموا بوضعه، وهم أجلّ وأكمل من المتأخرين، وإن كان بعض المتأخرين أولي علم وفضل وتبحُّر، ولكننا رأيناهم يتساهلون في التصحيح والتحسين،
_________
(1) سبق تخريجه ص 232.
(2/297)
ويراعون فيه بعض أصول الفن، ويغفلون عما يعارضها من الأصول الأخرى، وفوق ذلك أن السلف كانوا أبعد عن الهوى.
ومن هنا قال ابن الصلاح: إن باب التصحيح والتحسين قد انسدَّ، ولم يبق فيهما إلا النقل عن السلف. وهذا القول خطأ، ولكنه يعين على ما نريده، وهو وجوب الاحتياط فيما يصحِّحه المتأخرون أو يحسِّنونه.
وهكذا جماعة من المتقدمين لا يُغْترُّ بتصحيحهم, كالحاكم وابن حبان، بل والترمذي، ولا سيَّما تحسينه.
وهؤلاء أئمة كبار، ولكن الحاكم كان هَمُّه في كثرة الجمع ليردَّ على مَنْ قال من المبتدعة: إنه لم يصح عند أهل الحديث إلا ما في صحيحي البخاري ومسلم، كما ذكر هذا في مقدمة مستدركه، فجمع ولم يحقِّق ولم ينتقد. وكان عَزْمُه أن ينظر في الكتاب مرة [88] أخرى ليُخرج منه ما ليس من شرطه، ولكنه لم يتمكن من ذلك، كما ذكره السخاوي في فتح المغيث (1).
وقد انتقد أحاديثه الذهبي وابن دقيق العيد، وطبع كتاب الذهبي مع المستدرك، ولكني وجدته يتسامح أيضًا، فكثيرًا ما يكون في الحديث رجلٌ مدلِّس ولم يصرِّح بالسماع، أو رجل اختلط بأخرة، وربما أخرج له الشيخان أو أحدهما مما سُمِع منه قبل الاختلاط، أو رجل ضعيف قد انتقد الأئمة مسلمًا أو البخاري في الرواية له في الصحيح، أو رجل عن رجل كان يُضَعَّف في روايته عنه، وإنما يروي له الشيخان مما رواه عن غيره، أو رجل كان يُضَعَّف في حفظه وإنما أخرج له الشيخان أو أحدهما مما حدَّث به من
_________
(1) ص 13. [المؤلف]. وفي الطبعة الهنديَّة بتحقيق علي حسين علي 1/ 40 – 41.
(2/298)
كتابه، أو رجل ضعيف وإنما أخرج له الشيخان أو أحدهما في المتابعات والشواهد، إلى غير ذلك.
وفي شروط الأئمة الخمسة للحازمي بسنده إلى سعيد بن عمرو ــ هو البرذعي ــ قال: شهدت أبا زرعة الرازي … وأتاه ذات يوم، وأنا شاهد، رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم, فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال لي أبو زرعة: ما أبعد هذا عن الصحيح! يُدخل في كتابه أسباط بن نصر؟ ! ثم رأى قطن بن نسير وصل أحاديث عن ثابت فجعلها عن أنس، ثم نظر، فقال: يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتاب الصحيح؟ قال أبو زرعة: ما رأيت أهل مصر يَشُكُّون في أن أحمد بن عيسى ـ وأشار أبو زرعة بيده إلى لسانه ــ كأنه يقول: الكذب …
فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية ذكرت لمسلم بن الحجَّاج … فقال لي: إنَّ ما قلت صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط بن نصر وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع لي عنهم بارتفاع … (1).
أقول: وقد وافقه البخاري على الإخراج لأحمد بن عيسى، وعُذْرُه عُذْرُه. وقد قال أبو داود: كان ابن معين يحلف أنه كذَّاب. وقد تأوَّل ابنُ حجر في تهذيب التهذيب ذلك بما حاصله: أنه كان يكذب في السماع لا أنه يضع الحديث اختلاقًا (2). وهذا لا يدفع الجرح، والله أعلم.
_________
(1) شروط الأئمَّة الخمسة ص 23 – 24. [المؤلف]قلت: وهو في كتاب الضعفاء لأبي زرعة الرازي المنشور ضمن رسالة (أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية) 2/ 674 – 676.
(2) انظر: تهذيب التهذيب 1/ 65.
(2/299)
ومع هذا يسكت الذهبيُّ عن بيان ذلك، وهكذا يسكت عن علل أخرى تكون في الأحاديث، والله المستعان.
وأما ابن حِبَّان فمِن أصله ــ كما نبَّه عليه في كتابه الثقات ــ أن المجهول إذا روى عن ثقةٍ وروى عنه ثقةٌ، ولم يكن حديثه منكرًا؛ فهو ثقةٌ، يذكره في ثقاته، ويخرج حديثه في صحاحه. ووافقه على هذا شيخه ابن خزيمة، إلا أنه أشدُّ احتياطًا منه، وكذلك الدارقطنيُّ. ويظهر لي أن الكعبيَّ (1) صاحب الثقات كذلك. وهذا قولٌ واهٍ مخالف لما عليه جمهور الأئمَّة والأئمَّةُ المجتهدون وجهابذة الفنِّ، والنظر الصحيح يأباه.
وأما الترمذيُّ فله اصطلاحٌ في التحسين والتصحيح، وهو أن الحديث إذا روي من طريقين ضعيفين يسمِّيه حسنًا، والأئمَّة المجتهدون وغيرهم [89] من الجهابذة لا يعملون بهذا الإطلاق، بل يشترطون أن تحصل من تعدُّد الطرق مع قوة رواتها غلبةُ ظنٍّ للمجتهد بثبوت الحديث، فإن لم تحصل هذه الغلبة فلا أثر لتعدد الطرق وإن كثرت.
والمتأخِّرون يعرفون هذا الشرط، ولكنهم كثيرًا ما يتغافلون عنه. وربما توهَّم أحدهم أنه قد حصلت له غلبة ظنٍّ، وإنما حصلت له من جهة موافقة ذلك الحديث لمذهبه أو لمقصوده، والله المستعان.
بل إن في الصحيحين أو أحدهما أحاديث قد انتقدها الحفاظ، مثل حديث البخاري: حدّثنا محمد بن عثمان, حدثنا خالد بن مَخْلَد, حدثنا سليمان بن بلال, حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر, عن عطاء, عن أبي
_________
(1) كذا في الأصل، ولم يتبيَّن لي مَنْ هو، ولعلَّه يريد العجليّ.
(2/300)
هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إن الله قال: مَنْ عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب, وما تَقَرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه, ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينَّه, ولئن استعاذ بي لأُعيذنَّه, وما تردَّدْتُ عن شيء أنا فاعله تردُّدِي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مَسَاءتَه» (1).
فهذا الحديث قد تكلَّم فيه الذهبي في الميزان في ترجمة خالد بن مخلد، ولم يخرجه الإمام أحمد في المسند.
وخالد بن مخلد … (2) قال فيه الإمام أحمد: له أحاديث مناكير. وقال ابن سعد: كان متشيِّعًا, منكر الحديث، في التشيُّع مفرطًا، وكتبوا عنه للضرورة.
وقال صالح جَزَرَة: كان ثقة في الحديث إلا أنه كان مُتَّهَمًا بالغلوّ.
وقال الأعين (3): قلت له: عندك أحاديث في مناقب الصحابة؟ قال: قل: في المثالب والمثاقب.
_________
(1) البخاريّ، كتاب الرقاق، باب التواضع، 8/ 105، ح 6502. [المؤلف](2) هنا كلمةٌ غير واضحةٍ، تشبه: (ضعيفٌ) أو (ضُعِّف).
(3) هو محمد بن الحسن بن طريف، أبو بكر البغدادي الحافظ، روى عنه مسلم في المقدمة وأبو داود خارج سننه، وحدّث عن يزيد بن هارون وغيره، وثقه ابن حبان والخطيب البغدادي، وأثنى عليه الإمام أحمد، توفي سنة 240 هـ. انظر: الثقات لابن حبان 9/ 95، وتاريخ بغداد 2/ 183، وسير أعلام النبلاء 12/ 119 – 120.
(2/301)
وقال (1) أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به.
وذكره الساجي والعقيلي في الضعفاء.
وقال ابن معين: ما به بأس (2).
وحاصل القول فيه أنه صدوق يهم ويخطئ ويأتي بالمناكير، ولا سيما في التشيع، فإنه كان غاليًا فيه. ومثل هذا يتوقف عما انفرد به، ويُرَدُّ ما انفرد به مما فيه تهمة تأييدٍ لمذهبه. وقد تفرد بهذا الحديث كما ذكره الذهبي (3)، وكذا الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح (4).
وفي هذا الحديث تهمة تأييد مذهب غلاة الرافضة في الاتحاد والحلول، وإن لم يُنْقَلْ مثل ذلك عن خالد. وقد أُسْنِدت إلى هذا الحديث بدع وضلالات تصطكُّ منها المسامع، والله المستعان.
وفي سنده أيضًا شريك بن عبد الله بن أبي نمر، وحاصل كلامهم فيه أنه صدوق يخطئ (5). وقال الحافظ في الفتح بعد أن نقل كلام الذهبي والكلام في شريك: «ولكنْ للحديث طرق أخرى يدلُّ مجموعُها على أن له أصلًا» (6).
_________
(1) من قوله: «وقال أبو حاتم» إلى قوله: «والله الموفِّق» ملحق.
(2) انظر هذه الأقوال في تهذيب التهذيب 3/ 117 – 118.
(3) ميزان الاعتدال 1/ 640 – 641.
(4) هدي الساري: 400.
(5) وهو ما قاله ابن حجر في التقريب ص 266.
(6) فتح الباري 11/ 270. [المؤلف]
(2/302)
ثم ذكر الحافظ تلك الطرق، وعامَّتها ضعاف، إلا أنه ذكر أن الطبرانيَّ أخرجه من طريق يعقوب بن مجاهد، عن عروة، عن عائشة، وأن الطبراني أخرجه عن حذيفة مختصرًا، قال: «وسنده حسن غريب».
أقول: أما رواية حذيفة فمع الغرابة هو مختصر، وكأنه ليس فيه تلك الألفاظ المنكرة، وينبغي النظر في سنده؛ فإن الحافظ ربما تسامح في التحسين. وكذا ينبغي النظر في سند الطبراني إلى يعقوب بن مجاهد؛ فأخشى أن يكون فيه وهم؛ فإن المشهور رواية عبد الواحد بن ميمون عن عروة، وعبد الواحد متروك الحديث.
وبالجملة، فاقتصار الحافظ على قوله: «إن تلك الطرق يدلُّ مجموعها على أنَّ له أصلا»، ظاهرٌ في أنه ليس في شيء منها ما يصلح للحجَّة. ودلالة مجموعها على أنَّ له أصلًا لا يكفي في إثبات هذه الألفاظ المنكرة. ولو فهم البخاري رحمه الله من تلك الألفاظ ما يزعمه الملحدون لما ذكر هذا الحديث في صحيحه.
وهذا من المهمَّات؛ فإن كثيرًا من الأئمة قد يقبل الحديث؛ لأنه يحمله على معنىً له شواهد وعواضِد بمعونتها يستحقُّ القبول، فيجيء بعض الناس يحتجُّ بالحديث على معنىً منكر، قائلًا: قد قبله فلان من الأئمة، فليُتنبَّه لهذا.
ومما ينبغي التنبه له أيضًا: أن الشيخين أو أحدهما قد يوردان في الصحيح حديثًا ليس بحجَّة في نفسه، وإنما يوردانه لأنه شاهد لحديث آخر ثابت، ثم قد يكون في هذا الحديث الذي ذكراه شاهدًا زيادةٌ لا شاهد لها، فيجيء مَنْ بعدهما يحتجُّ به بالنسبة لتلك الزيادة، وربما حمل الحديث على
(2/303)
معنىً آخر غير المعنى الذي فهمه صاحب الصحيح، وبنى عليه أنه شاهد للحديث الآخر.
وبالجملة، فمَن أراد الاحتجاج بالحديث لا يستغني عن النظر في إسناده، بعد أن يكون له من المعرفة ما يؤهِّله لهذا الأمر، وإلَّا أوشك أن يَضِلَّ ويُضِلَّ. والله الموفق.
ومن أهل زماننا وما قرب منه من يترقَّى فيذكر الراوي وبعض ما قيل فيه من جرح أو تعديل، ولكنَّ كثيرًا منهم أو أكثرهم يكون زمامه بيد الهوى، فإن كان الحديث موافقًا له نقل ما قيل في الرجل من الثناء، وأعرض عما قيل من الجرح، وإن كان مخالفًا لهواه نقل ما قيل فيه من الجرح وسكت عن الثناء.
وأكثرهم ليس عندهم من التبحر في العلم، وممارسة الفن ما يؤهلهم للترجيح ومعرفة العلل، وأعظم ما عند أحدهم أن يتمسك بظاهر قاعدة من قواعد الفن؛ فإن كان الحديث موافقًا له تمسك بقولهم: «إن الجرح لا يُقْبل إلا مفسَّرًا»، أو: «إن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُلْتفت إليه»، أو: «إنَّ [90] المتصلِّب في مذهبٍ يجب التأنِّي في قبول كلامه في أهل المذهب الآخر»، أو نحو ذلك. وإن كان مخالفًا له تمسَّك بقولهم: «الجرح مقدَّمٌ على التعديل»، ونحوها.
فأما جهلهم بالعلل فحدِّث عنه ولا حرج. وغاية أحدهم أن ينقل عن بعض أهل العلم تعليل الحديث أو يتنبه هو للعلَّة إن تنبَّه، ثم يعمل في ذلك عمله في الجرح والتعديل؛ فإن كان الحديث موافقًا له تمسَّك بقولهم: «المثبِت مقدَّم على النافي»، أو: «زيادة الثقة مقبولةٌ»، أو: «إن من الأئمَّة مَن يقبل المرسل والمنقطع مطلقًا»، أو: «إن تصحيح بعض العلماء للحديث
(2/304)
يدلُّ أنه علم أن المدلِّس قد سمع الحديث ممن عنعنه عنه»، أو: «يدلُّ أن الراوي سمع هذا الحديث من شيخه قبل الاختلاط».
وإن كان مخالفًا له قال: «إن النافي كان أحفظ من المثبت»، و «الساكتين جماعةٌ، والذي زادَ واح