عطاءات العلممعلمي

عمارة القبور في الإسلام – المسودة

عمارة القبور في الإسلام - المسودة

http://www.shamela.ws تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
  الكتاب: عمارة القبور في الإسلام – المسودة
المؤلف: عبد الرحمن بن يحيى المُعَلِّمي اليماني (1313 – 1386 هـ)
المحقق: مجموعة من الباحثين منهم المدير العام للمشروع علي بن محمد العمران
الناشر: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1434 هـ
عدد الأجزاء: 25
قدمه للشاملة: مؤسسة «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

عِمَارة القُبُور في الإسلام
(المُسوَّدة)
تأليف
الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني
(1313 – 1386)
رحمه الله تعالى

تحقيق
علي بن محمد العمران

(5 ب/1)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أوضح لنا خاصّةَ سواء سبيله، وحفظ علينا كتابه وسنن رسوله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
أما بعد، فإني اطلعتُ على بعض الرسائل التي ألِّفت في هذه الأيام في شأن البناء على القبور (1)، وسمعتُ بما جرى في هذه المسألة من النزاع، فأردت أن أنظر في هذه المسألة نظرَ طالبٍ للحق، متحرٍّ للصواب، عملًا بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) [النساء: 59]، وقوله عزَّ وجلّ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
ولا ريب أن الردَّ إلى الله ورسوله بعد وفاته، إنما يحصل بالردِّ إلى الكتاب والسنة، وأن تحكيمه بعد وفاته، إنما هو بتحكيم الكتاب والسنة.
_________
(1) من هذه الرسائل “الرد على الوهابية” لحسن الصدر الرافضي (ت 1354 هـ)، فقد ذكرها المؤلف صراحة في النسخة الأخرى وتعقَّبه في مواضع منها. انظر (ص 3).
(2) ترك المؤلف بعد قوله (فإن تنازعتم … ) فراغًا بمقدار سطر لتتمة الآية.

(5 ب/3)


ولا ريب أن من الردِّ إلى الكتاب سؤالَ العلماء، كما أن من الردِّ إلى الرسول اعتبار أقوال خلفائه وورثته من أهل العلم، قال عزَّ وجلّ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وفي حديث أبي الدرداء مرفوعًا: “العلماء خلفاء الأنبياء” أخرجه البزار (1)، ورجاله موثقون، كما في “مجمع الزوائد” (2).
وله في “السنن” حديث فيه: “وإن العلماء ورثة الأنبياء … ” (3) الحديث.
ولا ريب أن الأئمة المجتهدين مِنْ أَوْلى مَن يدخل في ذلك.
_________
(1) “كشف الأستار” رقم (136).
(2) (1/ 126).
(3) أخرجه أبو داود رقم (3641)، والترمذي رقم (2682)، وابن ماجه رقم (223)، وأحمد رقم (21715)، وابن حبان رقم (88).
قال السخاوي في “المقاصد الحسنة” (ص 286): “صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما وحسَّنه حمزة الكناني، وضعّفه غيرهم بالاضطراب في سنده، لكن له شواهد يتقوّى بها، ولذا قال شيخنا: له طرق يُعرف بها أن للحديث أصلًا” ا? . وانظر “فتح الباري”: (1/ 193).

(5 ب/4)


[ص 2] عَرْض هذه القضية على كتاب الله عزَّ وجلّ
قال الله عزَّ وجلّ: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21].
وتقرير الاستدلال بالآية (1): أن قوله عزَّ وجلّ قبلها: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ … ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ … } إلخ، يدل أنهم ماتوا، فتنازع الحاضرون في شأنهم {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا}، وهذا بناءٌ على قبر. {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} قال المفسرون: وهم المؤمنون بدليل قوله: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} وهذا اتخاذ مسجد على قبر.
فلما قصَّ الله عزَّ وجلّ هذا في كتابه، ولم يصحبه بما يدل على حظره، دل على جوازه.
بل إذا لاحظنا أن القَصَص الوارد في القرآن لم يرد لمجرَّد حكاية وقائع تاريخية، وإنما هو للاعتبار والإرشاد والموعظة= تبين لنا دلالة الآية على الاستحباب، وأن الله عزَّ وجلّ أرشدنا بهذه الآية إلى ما ينبغي أن نعمله إذا مات فينا رجل صالح، أي: أننا على الأقل نبني على قبره بنيانًا، والأكمل أن نتخذ عليه مسجدًا.
* * * *
_________
(1) يعني على مذهب من يرى جواز البناء على القبور، وسيردّ المصنف على تقريرهم هذا بالتفصيل.

(5 ب/5)


تحليل الاستدلال
أولًا: قوله: “يدل أنهم ماتوا”.
فيه شيءٌ، فإن الظاهر أن أحد الفتية الذي بعثوه إلى المدينة عاد إليهم ومعه القوم، فدخل [ص 3] الكهف إلى أصحابه وأخبرهم، ولعل الله عزَّ وجلّ رفع الرعب الذي كان يعتري من اطلع عليهم، وذَكَره عزَّ وجلّ بقوله: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18].
وحالهم تحتمل إحدى صور:
الأولى: أن يكون الفِتْية خرجوا إلى القوم، وجلسوا معهم ريثما تحققت الآية، ثم عادوا إلى كهفهم، وعاد الرعب كما كان، فانتظرهم القوم أيامًا، فلم يخرجوا، فعلموا أنهم عادوا لحالتهم، ولكنهم لا يعلمون أماتوا، أم ناموا كما كانوا؟
الثانية: أن يكون رُفِعَ الرعبُ أولًا حتى دخل إليهم القوم، وتقررت الآية= أمروا القومَ بالخروج عنهم، فخرجوا وعاد الرعب، وانتظر القوم أيامًا، فلما لم يخرج أحدٌ من الفِتْية، علموا أنهم إما ماتوا، وإما عادوا إلى النوم.
الثالثة: أنهم عادوا إلى مضجعهم والقوم عندهم، فعاد الرعب، فخرج القوم فارِّين مرعوبين، ثم انتظروا بباب الكهف أيامًا حتى يئسوا.
الرابعة والخامسة: أن يكونوا خرجوا إلى القوم، أو دخل القوم إليهم، وبعد تقرر الآية عادوا إلى مضجعهم فرآهم القوم كذلك، فحاولوا إيقاظهم، ثم انتظارهم حتى يئسوا.

(5 ب/6)


[ص 4] ويرجِّح إحدى الصور الثلاث الأولى على الرابعة والخامسة قوله عزَّ وجلّ ــ حكايةً عن القوم ــ: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف: 21].
فإن هذا يدل أنهم لم يعلموا هل عاد الفتية لنومهم، أم ماتوا؟ ولو كانوا شاهدوهم بعد عودهم لمضجعهم لربما يترجَّح لهم أحد الأمرين.
لا يقال: إن قوله: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} قد يكون المراد به: أعلمُ مَنْ هم؟ ومِمّن هم؟ وما شأنهم؟ لأن الحكمة من الإعثار عليهم، وهي إظهار آية على البعث، لا تتمّ إلا بأن يخبروا القوم بحالهم، وممن هم، وفي عهد من كانوا، فتأمل!
ثانيًا: قوله: “وهذا بناءٌ على قبر”.
فيه نظرٌ من وجوه:
الأول: أن الفتية لم يتقرر للقوم موتُهم حتى يصح أن يكون لهم قبر، إذ القبر لا يكون إلا للميت، والعبرة في الحكم بظن القوم لا بما في نفس الأمر.
الثاني: لم يكن لهم قبر، وإنما كانوا في صحن الكهف.
الثالث: أنه على فرض أن الواقع في عودهم إحدى الصور الثلاث المتقدمة، فالبناء إنما يكون على باب الكهف؛ لامتناع أن يدخل البناؤون إلى مرقد الفتية لمنع الرعب.
والبناء على باب الكهف إنما هو بمثابة سدّ جانب انهدم من عرض القبر، إذا صح لنا أن نعتبر القوم مُرجِّحين أن الفتية ماتوا، وأن يُعتبر الكهف بمثابة القبر.

(5 ب/7)


وعلى فرض أن الواقع هو إحدى الصورتين الأُخْريين، فيحتمل أن يكونوا أرادوا بالبناء البناء على باب الكهف، وهو الأظهر الأنسب بالحال [ص 5] لاستغراب القوم هذه الحادثة واشتباههم في الفتية، أعادوا لنومهم، أم ماتوا؟
ويحتمل أن يكونوا أرادوا البناء على جثثهم في داخل الكهف، ومع بُعْدِ ذلك، فلم يكن هناك قبرٌ حتى يقال: إن البناء وقع عليه، وإنما البناء نفسه هو بمثابة القبر، واحتيج إليه لامتناع إخراج الفتية من الكهف، وحَفْر قبورٍ لهم كالعادة؛ لغرابة قصتهم، وعلاقتهم بالكهف، والشك في موتهم.
وهنا احتمال آخر، وهو: أن يكون المراد بالبنيان في الآية ما يُنصب تذكارًا لتلك الآية، وأن المناسب أن يكون بمكانٍ عالٍ مكشوف، إما بأن يكون خارج الكهف بعيدًا عنه، بحيث يظهر للمارة وغيرهم، وإما أن يُجْعَل على رأس الجبل الذي فيه الكهف.
وأن هذا أرجح من الأول؛ لأنه أنسب بالمقصود، وأظهر في معنى “على” كما سيأتي إيضاحه.
والحق الذي لا ريب فيه أن المراد به: البناء لسد باب الكهف؛ لأن مواراة جثث الفتية أمرٌ ضروريٌّ لابد منه، وحمل البنيان في الآية على هذا الأمر الضروري أولى من حمله على شيءٍ آخر.
وقد مر أن كون البنيان لسد باب الكهف أرجح من كونه حول الفتية في جوفه. وسيأتي في تقرير النزاع ما يزيد هذا بيانًا إن شاء الله.
ثالثًا: قوله: “قال المفسرون: وهم المؤمنون … ” إلخ.

(5 ب/8)


سيأتي إن شاء الله بيان الخلاف فيه، وأن الراجح أن قائلي ذلك هم أهل الشرك.
رابعًا: قوله: “وهذا اتخاذ مسجد على قبر”.
وفيه ما مرّ؛ أن القوم لم يتحققوا موت الفتية حتى يصح أن يكون لهم قبر، ولو صح موتُهم فلم يكن لهم قبر، وإنما كانوا في صحن الكهف.
ومع هذا، فإنه على الاحتمال الراجح أن الواقع هو إحدى الصور الثلاث، فواضحٌ أن بناء المسجد لا يكون داخل الكهف، وكذا على الاحتمال المرجوح أن الواقع هو إحدى الصورتين الأخريين؛ لأنه يمتنع أن يهموا ببناء مسجد محتوٍ على جثث الفتية بارزة، والكهوف وإن كانت أكبر من الغيران، فالغالب أن تكون صغيرة لا تسع بناءً كبيرًا، كبناء يشتمل على جثث تسعة أشخاص، مع بناء مسجد فوق ذلك البناء يتسع للمصلين (1).
[ص 15] ثم اعلم أن “على” في الآية في الموضعين لا تصلح لمعناه الحقيقي، وهو كون المستعلي فوق المستعلى عليه، محمولًا عليه، وكذا أن يكون مُسامتًا له من فوق في الهواء، بحيث لو سقط سقط عليه، فما بقي إلا الاستعلاء المجازي بأحد الأوجه الآتية:
إما بأن يكون المستعلي مجوفًا ينطبق على المستعلى عليه، كالجفنة على البيضة.
وإما أن يكون مستديرًا عليه، كالسور على المدينة.
وإما بأن يكون بمعنى: سدًّا لمنفذ. تقول: بنيت على الضبع جدارًا، إذا
_________
(1) هذه نهاية ص 10 بترقيم المؤلف، ثم أشار إلى أن التكملة في ص 29.

(5 ب/9)


سددتَ به بابَ وِجارِها.
وإما بأن يكون مشرفًا عليه من قرب، كالدار على دجلة.
وإما بأن يكون مشرفًا عليه من علو، كالقلعة على المدينة، إذا كانت على جبل مُطلٍّ على المدينة.
والوجهان الأولان ممتنعان هنا؛ لما مرَّ أن الاحتمال الراجح هو أن الواقع إحدى الصور الثلاث الأولى من الصور الخمس المار بيانها، وبيان الترجيح بدليله.
وعلى فرض أن الواقع إحدى الصورتين الأخيرتين، فيمتنع أن يُبْنى مسجد على جثث الفتية بارزة، والكهف يضيق عن بناء المسجد وحده، إذا تصورنا إمكان نحت قبورٍ في جوف الكهف، فضلًا عن بناء بنيان على الجثث، ثم بناء مسجد محيط به يتسع للمصلين.
والوجه الثالث متعين بالنسبة للبناء لما مرَّ، وأما بالنسبة إلى المسجد فكل منه (1)، ومن الوجهين الأخيرين محتمل.
وبما أن الأخير ألصق بلفظ “على” لظهور الاستعلاء فيه، مع إمكان أن يكون رأس الجبل الذي يكون البناء فيه فوق الكهف على خط مستقيم، فهو الراجح.
ويمكن أن يرجَّح [ص 16] أيضًا بأن الظاهر من ذكر المسجد أنهم قصدوا أن يكون معدًّا للصلاة، والظاهر من المقام أنهم قصدوا مع ذلك أن يكون تذكارًا لتلك الآية البالغة.
_________
(1) “فكل منه” كذا قرأتها، وهي غير واضحة لأنها في طرف الورقة.

(5 ب/10)


وبناء المسجد إعدادًا للصلاة إنما يكون بحيث يكثر وجود المصلين، وليس محل الكهف كذلك؛ لأن الفتية اختاروه مخبأً لهم، ولا يختبئون إلا بمكان بعيد عن الناس.
واحتمال أن يكون عَمَر ذلك المكان بعد نومهم يأباه قولهم لما بُعِثوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} الآية [الكهف: 19]، مع ما روي أنه ذهب إلى المدينة، القصة التي يذكرها المفسرون. ويأباه أيضًا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21].
والإعثار إنما يستعمل في الشيء الخفي الذي لم يكن مترقبًا، والكهف ــ وإن كان ممنوعًا بالرعب ــ إذا كان بين العمارة يكون مترقبًا بسبب منعه بالرعب، هذا بخلاف رأس الجبل، فإنه لا مانع أن تكون عليه قرية مسكونة، محتاجة إلى مسجد.
وقَصْد التذكار يقتضي أن يكون بحيث يشاهده الناس ويرونه، وباب الكهف كجوفه لا يصلح لذلك، وأما خارجه فإنه وإن أمكن أن يكون مشاهدًا، إلا أن رأس الجبل أظهر في ذلك.
وعليه، فيكون المراد بناء المسجد على رأس الجبل عند القرية التي قدمنا احتمال وجودها، ويُكْتب فيه تاريخ العثور على الفتية وخبرهم، وما يتعلق بذلك.
وحينئذٍ يكون مسجدًا وتذكارًا كما يقتضي الحال.
[ص 17] ولكن هذا الترجيح معارضٌ باحتمال أن الغالبين إنما أرادوا بناء المسجد؛ ليكونوا يحضرون لزيارة قبور الفتية، والتبرك بها، والصلاة في

(5 ب/11)


المسجد المنسوب إليها.
وعلى هذا، فيجب أن يكونوا عزموا على بنائه بقرب الكهف، إن لم يكن في جوفه.
وسيمرّ بك ما يؤيد هذا، إلا أنه على كل حال لا يحتمل أن يكون في جوف الكهف؛ لما قدمنا.
خامسًا: قوله: “فلما قصَّ الله عزَّ وجلّ هذا في كتابه، ولم يصحبه ما يدل على حظره، دل على جوازه”.
فالجواب: يمنع أن يكون مثل هذا دليلًا على الجواز، سواءً أريد الجواز في تلك الواقعة فقط، أم في شرع تلك الأمة مطلقًا، أم في شرعنا بواسطة أننا متعبدون بشرع مَن قبلنا، أم في شرعنا مباشرة.
فقد قص عزَّ وجلّ ما جرى من إخوة يوسف، ولم ينص في نفس القصة على حُرْمة كل ما هو حرام من تلك الأفعال، وإن ذكر الحكم في موضعٍ آخر من القرآن، فذلك لبيانه من حيث هو، لا ليكون تنبيهًا على ما في تلك القصة، وإلا لكان ناسخًا ومنسوخًا، ولا قائل به.
وفي القصة أنهم باعوه، وقد بينت السنة منع بيع الحر، وإن كان ابنًا أو أخًا للبائع.
وعلى فرض أن مثل هذا يكون دليلًا على الجواز، فالذي في الآية مجرد العزم، فلا يدل على جواز الفعل.
وعلى فرض التسليم بأنها تدل على جواز الفعل، فذلك لو لم يصحبها التنبيه بالحظر، وقد صَحِبها.

(5 ب/12)


أما التنبيه الموعود؛ فهو على أوجه: مصحوبٍ بالآية نفسها، وواقعٍ في محلٍّ آخر من القرآن، وواقعٍ في السنة.
فأما الذي في الآية، فبيانه: أن الله عزَّ وجلّ قال: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ}، فدل على تنازعٍ كان بين القوم في أمر الفتية.
ثم قال تعالى: {فَقَالُوا} فدل لوجود الفاء أن هذا بيانٌ وتفصيلٌ للتنازع المجمل قبل، كما تقول: اختلف الأئمة في كذا، فقال فلانٌ كذا، وقال فلانٌ كذا … إلخ.
ثم إن جُعِلت الواو للجميع بناءً على الظاهر، ففي الكلام حذفٌ لا يتحقق التنازع الذي صرح به في الآية، وقام الدليل على أن ما بعد الفاء بيانٌ له، إلا بتقديره، كأنهم (1) قال: فقالوا جميعًا: ابنوا عليهم بنيانًا ربهم أعلم بهم. ثم قال أحد الفريقين: لا تزيدوا شيئًا غير البنيان مِن مسجدٍ وغيره= {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا … } إلخ.
فاتفق القوم أجمعون على بناء بنيان لسَتْر جثث الفتية، وتنازعوا في بناء المسجد.
وإذا جُعِلت الواو لأحد الفريقين أطلقت بلا تأويل، وصحَّ مجيء الضمير مع عدم تقدّم مرجع له؛ لتقدم ما يدل عليه، وهو التنازع الدال على افتراقهم، فكأنه قال: “ففريقٌ منهم قالوا … ” ففي الكلام إيهامٌ، أي: أن القائلين هم الجميع.
_________
(1) كذا ولعلها: “كأنه”.

(5 ب/13)


وإذا جعلتها لأحد الفريقين بتأويل، أي: أنها عائدةٌ صناعةً إلى القوم جميعًا، ولكن لا على أنهم قالوا ذلك كلهم حقيقةً، بل على إقامة القائلين مُقام الجميع، فكأن القوم كلهم قالوا ذلك.
فأطلق على الفريق الأول الضمير الذي ظاهره أنه للجميع، لإقامة ذلك الفريق مقام الجميع، كأن الفريق الثاني لا وجود له.
والثاني أرجح؛ لما تقدم أن الفاء تدل على أن ما بعدها تفصيلٌ للتنازع، فلزم أن يكون مدخولها مما وقع فيه التنازع، وهذا إنما يتم على الثاني.
وأيضًا المجاز والإيهام على المعنى الذي قدمناه أبلغ من الحذف.
وأيضًا يؤيده قوله: {ابْنُوا} بالخطاب، ولو كان القائلون هم الجميع، لكان الظاهر أن يقال: “نبني” أو نحوه.
إذا تقرر هذا فأي الفريقين المؤمنون؟ فإن المفسرين اختلفوا في ذلك، كما سيأتي نقل كلامهم إن شاء الله (1).
فذهب بعضُهم إلى أن الغالبين هم المؤمنون، بناءً على عزمهم على اتخاذ المسجد، وعلى أخبارٍ مأثورة عمَّن قبلنا.
أما نحن فنقول: إن مجرَّد العزم على اتخاذ المسجد لا يكفي، بل ربما كان كفرًا كما ذكره الله عزَّ وجلّ في أهل مسجد الضرار، وربما فعله المتدينون جهلًا، وهو حرامٌ كبنائه في غير المِلك، أو في طريق عامة، أو نحو ذلك.
_________
(1) لم يذكر المؤلف في هذه النسخة اختلاف المفسرين الذي وعد به. وذكر طرفًا منه في النسخة الأخرى في آخرها (ص 131 وما بعدها). وانظر “تفسير الطبري”: (15/ 217)، و”الدر المنثور”: (4/ 392)، و”تفسير ابن كثير”: (5/ 2152).

(5 ب/14)


وأما الأخبار المأثورة؛ فإن صحَّ شيءٌ منها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظرنا فيه، وفي الأدلة المخالفة، وأخذنا بالأحسن كما أمرنا عزَّ وجلّ.
وإن كانت عن غيره من أئمة أمته، نظرنا دليلهم، ورجحنا.
وإن كانت عن أهل الكتاب، لم نعبأ بها، فقد أُمرنا أن لا نصدّقهم في شيءٍ، وخاصة في هذه القصة نفسها، قال الله عزَّ وجلّ: {وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ} [الكهف: 22] أي: الفتية {مِنْهُمْ} أي: أهل الكتاب {أَحَدًا}.
أما ورود شيءٍ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يبلغنا، وأما عن بعض الأئمة، فنعم، ولكن لم نعلم لهم دليلًا إلا عزم الفريق الثاني على اتخاذ المسجد، وتقرر ما فيه، ومع ذلك ننظر في أدلة القول الآخر.
فننظر أولًا في الآية.
فنجد أولًا: إطلاق ضمير الجميع على الفريق الأول، أو إيهام ذلك، يدل أن له مزية استحق بها أن يُقام مُقام الجميع، وهذه المزية ليست الغلبة؛ لأن الله عزَّ وجلّ أثبتها للفريق الثاني، فلم يبق هناك ما يصلح لكونه مزية بهذه المثابة إلا العلم والدين.
ونجد ثانيًا: أن الله عزَّ وجلّ حكى عن الفريق الأول قولهم: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}. وهذه كلمة جليلةٌ، تدل على علم قائلها ودينه.
ونجد ثالثًا: تقديم الله عزَّ وجلّ للفريق الأول، والتقديم يُشْعِر بمزية للمقدم، وأقرب ما يتصور من المزايا: العلم والدين.
ونجد رابعًا: قوله عزَّ وجلّ في الفريق الثاني: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى

(5 ب/15)


أَمْرِهِمْ} فأَشْعَر أن الحامل لهم على هذا العزم هو الغَلَبة، على ما قرره علماء البيان، في باب المسند إليه في مجيئه موصولًا؛ للإيماء إلى وجه بناء الخبر (1).
وقرّره أهل الأصول (2): أن إيقاع الحكم على المشتق يؤذن بِعِلِّية ما منه الاشتقاق، وهو في الموصول أوضح.
والغالب أن الغلبة تكون سببًا للمعصية، والغالبُ في الأمم السابقة: أن الغلبةَ إنما تكون للضالين، والغالبُ في الأمم السابقة أيضًا: التكذيب بالآيات، والضلال فيها نوع من التكذيب بها.
قال الله عزَّ وجلّ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. وقال تبارك وتعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102].
وعلى كل حال، فوصف هؤلاء بالغَلَبة، مع وصف مقابليهم بما تقدم، يُشْعر بأنهم ذوو جهل وغلو، واتخاذ المسجد لا ينافي الجهل والغلو، كما لا يخفى.
وننظر ثانيًا في غير هذه الآية من القرآن؛ فنجد قوله عزَّ وجلّ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. تدل أنه لا ينبغي بناء مسجد
_________
(1) انظر “التلخيص ــ شرح البرقوقي” (ص 60)، و”المطوّل شرح التلخيص” (ص 74).
(2) انظر “البحر المحيط”: (5/ 201) للزركشي، و”التحبير شرح التحرير”: (7/ 3349 – 3350) للمرداوي.

(5 ب/16)


على قبر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى (1)، وهذا هو القسم الثاني من التنبيه.
وننظر ثالثًا في السنة النبوية؛ فنجدها متواترة بذمّ الذين كانوا من الأمم السابقة يتخذون قبور أنبيائهم وصُلَحائهم مساجد ولَعْنهم، واشتداد غضب الله عليهم، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وقد جاء النصّ على النصارى بشيءٍ من الأحاديث، كما سيأتي إن شاء الله (2)، ولاسيما وأكثر المفسرين على أن القوم الذين أعثروا على أهل الكهف كانوا نصارى، فتبين الصبح لذي عينين.
ونقطع أن الفريق الأول هم أهل العلم والدين، وأنهم محمودون بما ذهبوا إليه من الأمر ببناء جدار على باب الكهف، يستر جثث أولئك الفتية.
وأن الفريق الثاني بخلاف ذلك كله، في مخالفتهم للفريق الأول، وعزمهم على بناء مسجد على باب الكهف، يكون أحد جدرانه ساترًا للكهف، كما يدل عليه معنى الآية، على ما قدمناه من التفصيل.
وهذا هو القسم الثالث من التنبيه.
وعلى فرض عدم التنبيه، فهي واقعةُ عينٍ لا عمومَ لها , وعلى فرض قيام دليل على العموم، ففي حق تلك الأمة فقط، بناء على أننا غير متعبَّدين بشرع من قبلنا.
وعلى تسليم أننا مُتعبَّدون بشرع من قبلنا، فذلك إذا لم يوجد في شرعنا ما يخالفه، وقد وُجِد كما مرَّ مفصَّلًا.
_________
(1) (ص 21).
(2) لم يأتِ شيء في هذه النسخة، وانظر الأخرى (ص 24، 132).

(5 ب/17)


فإن قيل: إن الدليل هنا على كونه شرعًا لِمَن قبلنا في الكتاب، والدليل المخالف له في السنة، فيكون نسخًا للكتاب بالسنة.
أجيب: أن في جواز نسخ الكتاب بالسنة خلافًا، ولكن لا حاجة بنا لذكره، وبيان الراجح، فإن ما نحن فيه ليس من نسخ الكتاب بالسنة في شيء، وإنما هو من نَسْخ شرع من قبلنا بشرعنا، والمنسوخ في الحقيقة هو خطاب من الله عزَّ وجلّ لنبي تلك الأمة.
فأما الآية التي في كتابنا، فأقصى ما يُدَّعى فيها: أنها في قوة خبر، بأن ذلك الفعل كان جائزًا في شرع تلك الأمة، وهذا ــ على فرض صحة الدعوى ــ خبرٌ صادق لا يتصور نسخه أصلًا، وهذا بيِّنٌ، فلا نطيل بزيادة إيضاحه، وذكر أمثلته.
[ص 10] بقي أن يكون المراد بالجواز المدَّعى دلالة الآية عليه، الجواز في شرعنا مباشرة، وهذا لا وجه له. وعلى فرض أن له شِبْه دلالة، فأقصى ما يُدَّعَى فيها أنها دلالة ظاهرة.
فيجاب: بأن السنة بينت عدم اعتبارها، ولا حاجة لزيادة الفروض والتسليمات، فالأمر أوضح من ذلك.
سادسًا: قوله: “بل إذا لاحظنا أن القَصَص الوارد في القرآن لم يرد لمجرَّد حكاية وقائع تاريخية، وإنما هو للاعتبار … ” إلخ.
قد يقال: إن قصة أصحاب الكهف نزلت ــ كما في أسباب النزول (1) ــ لما سألت قريشٌ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم عنهم بإيعاز اليهود إليهم،
_________
(1) انظر “الدر المنثور”: (4/ 380).

(5 ب/18)


فكانت الحكمة في إنزالها أن تكون معجزةً له صلى الله عليه وآله وسلم بالإخبار عن حالهم، ولا يعلمه أحدٌ إلا أن بعض أهل الكتاب يعلم بعضَه، وهذه الحكمة كافية.
ولما كانت المعجزة لا تتم إلا بحكاية القصة على وجهها، دخل فيها التآمر بالبناء، والعزم على اتخاذ المسجد، فلا يلزم أن يكون لهما حِكْمة خاصة.
على أن الحق الحقيق هو أن نقول: إن لها حكمة خاصةً غير ما ذكرتموه، وهي [أن] في التآمر بالبناء تنبيه الأمة إلى سدِّ القبور، وأن لا تترك فيها فُرْجة، وأن أهل العلم والدين ممن قبلنا كانوا يكتفون بذلك، وينازعون من أراد غير ذلك، كبناء مسجد.
وفي اتخاذ المسجد بيان مخالفة العامة لأولي العلم والدين، وضلالهم من حيث إنهم يَحْسبون أنهم يحسنون صنعًا، وتحذيرنا من مثل ذلك.
وصحَّ تصديق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما كان يقوله لأصحابه: [ص 7] “إن من كان قبلهم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصُلَحائهم مساجد” (1)، إلى غير ذلك من المناسبات.
سابعًا: قوله: “فأرشدنا عزَّ وجلّ بهذه الآية إلى ما ينبغي أن نعمله إذا مات فينا رجل صالح، أي: أننا على الأقل نبني على قبره بنيانًا، والأكمل أن نتخذ عليه مسجدًا”.
الجواب: أن الحق عكس ذلك، كما علمتَ مما قدمناه، دلت عليه الآيةُ
_________
(1) أخرجه مسلم (532) من حديث جندب البجلي رضي الله عنه.

(5 ب/19)


نفسُها، وغيرها من القرآن والسنة المتواترة.
ولو كان ما زعمتَه مراد الله عزَّ وجلّ، لكان فَهِمَه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعَمِل به في حياته في حق أصحابه الذين توفوا في حياته، كعثمان بن مظعون، وسعد بن معاذ، وعمه حمزة، ومن معه من الشهداء، وأولاده صلى الله عليه وآله وسلم.
وعدم فعله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك كافٍ في إبطال هذا الزعم، فكيف والواقع أنه ثبت عنه النهي عن البناء على القبور، والأمر بتسويتها مطلقًا، وتواتر عنه لعن من اتخذ القبور مساجد، وفي بعض الروايات الصحيحة التصريح بأن المراد باتخاذها مساجد بناء المساجد مشتملة عليها، وسيأتي بيان الأدلة التي تدل على أن مثل ذلك بناء المساجد عند القبور وإن لم تكن مشتملةً عليها، وكذا بناؤها لأجلها وإن كانت بعيدة عنها. وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله (1).
ثم جاء مِن بعده أصحابه، فلزموا طريقته، وثبت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه بعث صاحب شرطته لتسوية كلّ قبرٍ مشرفٍ مطلقًا (2)، واستمرَّ الحالُ على ذلك في القرون الأولى المشهود لها بالخير، حتى جاء بعض المتشيّعين بعد الألف، يزعم أن الآية تدل على خلاف ذلك كله، سبحانك هذا بهتان عظيم! !
وقال الله عزَّ وجلّ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
_________
(1) (ص).
(2) سبق تخريجه موسَّعًا في المبيضة (ص 50 وما بعدها)، ورواية “صاحب الشرطة” في (ص 66) منها.

(5 ب/20)


وتقرير الاستدلال بالآية: أن لفظ “المساجد” عام يتناول كل مسجد، والجملة مفيدة للاختصاص، كما في {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 1]، بل الأمر هـ? هنا أظهر، والحصر هـ? هنا حصر إفراد، لقوله: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} أي: أن المساجد كلها لله وحده لا شريك له، خالصةً من كل شرك.
فتبين أن من خواصِّ المسجد أن يكون خالصًا لله، فمن بنى بناءً، وزعم أنه قصد به أن يكون مسجدًا، فإن كانت نيته في بنائه خالصة لله وحده لا شريك له، كان البناء مسجدًا. وإن لم يكن كذلك، كأنْ قَصَد أن يكون على قبر فلان الصالح، [ص 11] أو بالقرب منه، فهذا لم يُبْنَ خالصًا لله وحده لا شريك له، وبهذا فُقِدَت منه تلك الخاصَّة المعتبرة في المساجد.
ومما يُؤيَّد به هذا الاستدلال حديث مسلم (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عَمِل عملًا أشركَ فيه معيَ غيري، تركتُه وشِرْكَه”.
وفي رواية: “فأنا منه بريء، وهو للذي عَمِلَه” (2).
والذين يبنون المساجد على القبور لا يحملهم على بنائها إلّا وجود القبور، حتى لو لم يكن هناك قبورٌ لما بنوا.
ويجاب عن هذا: بأن غاية ما فيه أن يكون وجود القبر سببًا حاملًا على بناء المسجد، وهذا كما يمرّ إنسان على قرية آهلةٍ، ليس لها مسجد، فيحمله ذلك على أن يبني فيها مسجدًا، وبأن قَصْد أن يكون المسجد على قبر فلان
_________
(1) رقم (2985).
(2) هذا لفظ ابن ماجه رقم (4202)، وابن خزيمة في الصحيح رقم (893) وغيرهما.

(5 ب/21)


الصالح، أو بقربه قَصْد شرعي أيضًا، ومثل هذا لا يضر كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بالناس أداءً للفريضة، وليعلم الناس.
ويردّ هذا بوضوح الفرق في كلا الوجهين، فالذي مرَّ على القرية الآهلة وليس لها مسجد، فحمله ذلك على بناء مسجد فيها، إنما استجاب لسبب شرعي، وهو أن الشرع إنما يدعو إلى بناء المساجد عند الحاجة إليها، فلو كان لقرية [ص 12] مسجد يكفي أهلها، لم يستحبّ بناء مسجد آخر فيها، بل يكره أو يحرم؛ لكونه يكون سببًا للتفريق، وضياعًا للمال الذي يستدعيه البناء في غير محله، وتحجُّرًا لتلك البقعة عن أن ينتفع بها المسلمون في غير فائدة.
فالحاصل: أن هذا الرجل لما مرَّ على القرية المذكورة سمع نداء الشرع يقول له: إن الله عزَّ وجلّ يدعوك إلى بناء مسجد في هذه القرية، يُصلَّى له فيه، ويُذْكَر فيه اسمه.
وأما باني المسجد على القبر، فلم يستجب لسبب شرعي؛ لأن الشرع لا يدعو إلى بناء المساجد على القبور، بل حرَّم ذلك، واشتدَّ غضب الله ولعنته على فاعله، نعم، إنما استجابَ لداعٍ شيطاني، يقول له: إن الشيطان يدعوك إلى بناء باسم مسجد على هذا القبر، ليكون ذلك معصيةً لله ورسوله، ويشتد غضب الله ولعنته على بانيه، ومن أعانه، أو رضي بفعله، أو لم ينهه بقدر طاقته، ويتطاير شرر ذلك إلى من صلى فيه، ويتشعَّب ذلك إلى شعب أخرى، هي ملحظ الشارع في النهي عن بناء المساجد على القبور.
ومما يكشف عُوار هؤلاء: أن أحدهم يعرف عدة قرى آهِلَة، ليس فيها مساجد، فلا يستيجب داعي الشرع لبناء مسجد فيها، ثم يعمد إلى قبرٍ بقفرة،

(5 ب/22)


أو بمدينة كثيرة المساجد، فيبني عليه.
وأما صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أداءً للفريضة مع قَصْد تعليم الناس، فقصد التعليم قصدٌ شرعي شريف، وأين منه قصد الانغماس في غضب الله ولعنته؟ !

(5 ب/23)


[ص 24] الحمد لله

تحديد محلّ النزاع
مما لا نزاع فيه أن المقصود من دَفْن جثث الموتى، إنما هو مواراتها، قال الله عزَّ وجلّ في قصة ابني آدم: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ … } الآية [المائدة: 31].
وعليه، فالأصل أن يُقْتَصر على القدر الكافي للمواراة.
وهل يجوز أن يتعدّى ذلك؟
لا خلاف أن القبر إذا كان بمقبرة مُسَبَّلة لم يجز أن يتعدّى به القدر الكافي، لأن التعدي تصرُّفٌ في غير حق، سواءً أكان التعدي بالإفراط في توسعة القبر، أم بالبناء عليه، أم بإحكام رَدْمه حتى يشقّ حَفرُه.
أما الإفراط في التوسعة والبناء على القبر، فواضحٌ؛ لأنه لا حقَّ إلا في القدر الكافي.
وأما إحكام الرَّدْم حتى يشقّ الحفر؛ فلأنه لا حقَّ للجثة في تلك البقعة، إلا ما دامت محتاجةً للمواراة، فإذا صارت ترابًا زال الحق [ص 25] لزوال المقتضي، وإذا صارت عظامًا لم يكن الحق إلا في القدر الكافي لتلك العظام.
إذا فهمتَ هذا، فلا شك أن لأولياء الموتى الحق في حفر القبور في أي موضعٍ كان من المقبرة المُسَبَّلة ما دام غير مشغول بحق آخر، فلهم الحق بالحفر في موضع القبر الذي يُظَن أن الجثة التي فيه قد أَرِمت، فإذا كان

(5 ب/24)


محكمًا، فإن الحفر يشق عليه جدًّا، حتى ربما تركوا تلك البقعة لذلك.
فظهر أن الشخص الذي أحكم البناء قد تصرَّف في غير حقه تصرفًا يضر غيره من المستحقين في وقت استحقاقهم، وهذا حرامٌ لا شكّ فيه.

المقبرة المُسَبَّلة:
أما المقبرة المُسَبَّلة؛ فهي بقعة غير مملوكة، خُصّصت للدفن، بحيث لا يجوز أن تُبنى فيها دار للسكنى، أو حمام، أو مصنع، أو نحو ذلك.
فدخل ما عُلِم أنه كان مملوكًا، وأن المالك سبَّله للدفن، وما عُلِم أنه كان مَواتًا حتى يشرع في الدفن فيه، وكذا ما لم يُعلم حاله قبل تخصيصه للدفن؛ لأن الأصل عدم الملك، فالظاهر أنه كان مَواتًا حتى خُصِّص للدفن.
أمّا ما عُلِم أنه كان ملك شخص، ولم يعلم أنَّه سبَّله، ففيه نظر. وليس من موضوعنا؛ لأنه إن لم يُحْكَم بالتسبيل حُكِم ببقاء المِلك، فيمنع الدفن، ويكون للورثة الاستيلاء على البقعة وحرثها، أو البناء فيها للسكنى، أو غير ذلك، بعد بِلى من دُفِن فيها سابقًا، إلى غير ذلك مما لا يهمنا.
[ص 27] الدفن في المَوات:

الدفن في المَوات في حكم الدفن في المسبَّلة؛ لأن مجرد حفر القبر والدفن فيه ليس إحياءً مُملِّكًا، وإنما يفيد الأحقية ما دامت الجثة باقية.
كل هذا مما يغنينا اتفاقُ العلماء عليه عن ذكر حُجَجِه، مع أن الآية التي صدَّرنا بها البحث دالة عليه، كما لا يخفى على العارف.
وعلى كل قادر النهي عن الإفراط في التوسعة، والإحكام، والبناء في

(5 ب/25)


المُسبَّلة، وإزالة ذلك، ولو قبل البلى، وقبل الاحتياج إلى تلك البقعة؛ لأن الفعل الحرام يجب إزالته في كل حال.
فأما بعد البلى، فإن بقعة القبر نفسها تستعمل.
[ص 28 ب] تنبيه:
ليس من البناء المحرَّم أن يموت ميت في غار، ويتعذَّر إخراجه منه، فيُسَدّ باب الغار، ومِنْ هذا ما حكاه الله عزَّ وجلّ في قصة أصحاب الكهف من قول القوم: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا}، فإن الفتية لما رجعوا إلى الكهف بعد بروزهم إلى القوم الذي يقتضيه إظهار الآية، عادوا إلى مضجعهم، وعاد الرعب الذي ذكره عزَّ وجلّ بقوله: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18]، وانتظرهم القوم خارج الكهف حتى يئسوا، كما يدل عليه قولهم: {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ}، أي: أماتوا، أم عادوا إلى نومهم.
وليس المراد {أَعْلَمُ بِهِمْ} مِمَّن هم؟ وكم لهم؟ لأن الآية التي أعثر الله عليهم لأجلها لا تتم إلا بأن يخبروا القوم بأنهم كانوا في عهد كذا، وجرى لهم كذا، وسيأتي بَسْط الكلام على هذا الآية في فصل “اتخاذ المساجد على القبور” إن شاء الله (1).
_________
(1) تقدم الكلام على قصة أصحاب الكهف بالتفصيل عند استدلال المخالف بالآية على جوازالبناء على القبور انظر (ص 5 – 22). ولعل المؤلف أراد تأخير هذا البحث إلى الموضع الذي ذكره أعلاه وهذا ما وضعه في النسخة الأخرى انظر (ص 131 – 138).

(5 ب/26)


الوصية بالدفن في المِلك:
قرر العلماء أن الشخص إذا أوصى أن يُدفن في ملكه، لم تنفَّذ وصيته، بل يدفن في مقبرة المسلمين، فإن أراد الورثة أن يدفنوه حيث أوصى كان دفنًا في ملك الدافن، وسيأتي حكمه.
وإذا أوصى مع ذلك أن يُفْرَط في توسعة قبره، وإحكامه، والبناء عليه، وأراد الورثة الدفنَ المعتاد فقط، لم يلزمهم غيره، فإن فعلوا، فهو في ملكهم، وسيأتي حكمه.
[ص 28] الدفن في مِلك الدافن:
السُّنَّة المطَّرِدة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم الدفن في مقبرة المسلمين، أما دفنه صلى الله عليه وآله وسلم في بيت زوجِه فله سببٌ خاصٌّ، سيأتي إن شاء الله بيانه، وبيان سبب دفن صاحِبَيه معه في فصلٍ مفرد (1).

ثم إن الدفن في ملك الدافن لا يقتضي التخليد، فله بيع البقعة التي فيها القبر، وتدخل بقعة القبر في البيع، كما أنه إذا مات وُرِثت عنه، وإذا وقفها مقبرةً أو غيرها، دخلت بقعة القبر في الوقف، ولكن لا يجوز استعمال بقعة القبر إلا بعد البِلى، فإذا كان البِلى، جاز استعمالها بزرع وبناء للسُّكْنى وغيره.
[ص 29] محلُّ النزاع:
بقي رفع القبر في غير الملك، بدون إحكام ولا بناء، وإنما هو بزيادة حصى ورمل وتراب يُرْكَم عليه حتى يرتفع.
_________
(1) لم يتمكن المؤلف من عقد هذا الفصل في هذه النسخة.

(5 ب/27)


وبقي الرفع، والتوسعة، والإحكام، والبناء فيما إذا كان في ملك الفاعل، وهذا هو الذي يصلح أن يكون محلًا للنزاع.
الرفع في غير المِلك
لا شك أن الرفع زائدٌ على القدر الكافي للمواراة التي هي المقتضي للدفن، كما دلت عليه الآية، وفيه أيضًا ضرر على المستحقين إذا أرادوا حفر القبر بعد البِلى، وإن كان خفيفًا، فهذا يقتضي المنع، فالدليل على من يدعي الجواز.
[ص 30] بِيَد المجيزين متمسَّكات:
منها: ما علقه البخاري في “صحيحه” (1) في باب: الجريد على القبر، قال: “وقال خارجة بن زيد: رأيتني ونحن شبَّان في زمن عثمان رضي الله عنه، وإن أشدنا وثبةً الذي يَثِبُ قبرَ عثمان بن مظعون حتى يجاوزه”.
وهذا وإن كان معلقًا إلا أن البخاري ذكره بصيغة الجزم، وذلك حكمٌ بصحته (2)، كما هو مقررٌ في موضعه.
ومنها: ما رواه الشافعي عن [إبراهيم بن محمد] (3) عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعًا (4).
_________
(1) (2/ 95 ــ الأميرية).
(2) يعني إلى من علقه عنه. وانظر “هدى الساري” (ص 19 – 22).
(3) ما بين المعكوفين تركه المؤلف بياضًا.
(4) أخرجه الشافعي في “المسند” رقم (601)، و”الأم”: (1/ 628 – 629).

(5 ب/28)


وأنه رشَّ على قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء (1).
وهذا مرسلٌ صحيحٌ، وأكثر الأئمة يحتجون بالمرسل.
والشاهد في وضع الحصباء، ولا شك أن وضعها على القبر يؤثّر في رفعه.
[ص 31] ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف” (2) قال: ثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي حصين عن الشعبي: رأيتُ قبور شهداء أحد جُثًى مُسنَّمة.
وهذا الحديث صحيح، ذكره في “الجوهر النقي” (3).
_________
(1) أخرجه الشافعي في “المسند” رقم (599). من الطريق نفسها.
وتكلم المصنف عن إسناد الأثر في النسخة الأخرى (ص 23) قال: “إبراهيم بن محمد: أجمع الأئمة على تضعيفه، إلا ابن الأصبهاني والشافعي، قال الشافعي: كان لأن يخر من السماء ــ أو قال: من بُعد ــ أحبّ إليه من أن يكذب.
وصرح جماعة من الأئمة بأنه يكذب، وقال الإمام أحمد: يضع.
وقال ابن عدي: قد نظرت أنا الكثير من حديثه، فلم أجد له حديثًا منكرًا، إلا عن شيوخ يحتملون، وقد حدث عنه الثوري وابن جريج والكبار.
وعلى كل حال، فالرجل ضعيف، ومع هذا فالحديث مرسل، وفي الاحتجاج بالمرسل خلافٌ، لا حاجة لذكره” ا? .
قلت: وللحديث الأول شاهد عند ابن ماجه (1565) من حديث أبي هريرة، وضعفه أبو حاتم الرازي. وللثاني شاهد عند أبي داود في “المراسيل” (424)، وآخر رواه البيهقي (3/ 411) عن جعفر بن محمد عن أبيه في الرش على القبر.
(2) (3/ 215). وأبو داود في المراسيل” (423)، وعبد الرزاق: (3/ 505) من طريق الثوري أخبرني بعض أصحابنا عن الشعبي بمثله.
(3) (4/ 4 ــ بهامش سنن البيهقي).

(5 ب/29)


ومنها: الإجماع من المسلمين على رفع القبور في المقابر المسبَّلة، واختلافهم في قدره وكيفيته لا يقدح في الإجماع، ما داموا مجتمعين على أصل الرفع.
ومنها: أن للقبور أحكامًا؛ من النهي عن القعود عليها، والصلاة إليها، وغير ذلك، وهذا يقتضي رفعها؛ لتتميز عن الأرض، فتُعْرَف.
[ص 32] والجواب:
• أما أثر خارجة؛ فقال في “فتح الباري” (1): “إن البخاري وصله في “تاريخه الصغير”.
وقد نظرنا “التاريخ الصغير”، فوجدناه قال (ص 23) (2) طبعة إله آباد: “حدثنا عَمرو بن محمد ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة الأنصاري قال: سمعت خارجة بن زيد بن ثابت: رأيتني ونحن غلمان شُبَّان زمن عثمان، وإن أشدّنا وَثْبة الذي يَثِبُ قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه” ا? .
والكلام عليه من وجوه:
أولًا: من حيث إسناده.
فيه ابن إسحاق، وهو وإن كان الحق أنه صدوق، وصرَّح بالتحديث، فالتحقيق ما قاله الذهبي في “الميزان” (3) في فَذْلَكة (4) ترجمة ابن إسحاق
_________
(1) (3/ 265).
(2) “التاريخ الأوسط” رقم (126 ــ ط الرشد).
(3) (4/ 395).
(4) أي في نهايتها.

(5 ب/30)


قال: “فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئًا، وقد احتجَّ به أئمة، فالله أعلم”.
وهذه القصة قد انفرد بها، ففيها نكارة.
ويحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عَمْرة، لم أطَّلع له على ترجمة (1).
[ص 33] ثانيًا: إذا سلم إسناده، فإن في “تهذيب التهذيب” (2) في ترجمة خارجة: قال ابن نُمَير وعَمرو بن علي: مات سنة (99)، وقال ابن المديني وغير واحد: مات سنة مائة.
فظاهر هذا أن الأكثر على أن موته كان سنة مائة، والجمع أولى، بأنه مات أواخر سنة (99).
وفي “تاريخ ابن عساكر” (3) أنه توفي وعمره سبعون سنة، وذكر لذلك قصة: أن خارجة قال: رأيتُ كأني بنيتُ سبعين درجة، فلما فرغت منها تهورت (4)، وهذه السنة لي سبعون سنة قد أكملتها. قال: فمات فيها.
_________
(1) ترجم له البخاري في “التاريخ الكبير”: (8/ 284)، وابن حبان في “الثقات”: (7/ 603).
(2) (3/ 95).
(3) (15/ 396).
(4) غير محررة في الأصل، وسبقت بنحو هذا الرسم في “المبيَّضة” (ص 49)، وهي هكذا في التاريخ وبعض المصادر، وفي بعضها الآخر: “تدهورت”.

(5 ب/31)


ونقل مثله ابن خلكان (1) عن “طبقات ابن سعد” (2). فإذا نقصنا سني عمره من سني الهجرة لموته، بقي تسع وعشرون، فيكون مولده آخر سنة تسعٍ وعشرين.
وعثمان قُتِل سابع ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فيكون سن خارجة يوم قُتِل عثمان ست سنين تقريبًا، فكيف يكون شابًّا في زمن عثمان؟
وقد راجعتُ “طبقات ابن سعد” ــ طبع أوربا ــ فرأيته روى هذه القصة عن الواقدي.
ثالثًا: إذا سَلِم إسناده، ولم نعتبر هذه علةً قادحة فيه، فإنه ينبغي الجمع بأن يُتأوَّل [ص 34] الأثر، بأنَّ قوله: “شبان” مجاز، أراد: أننا غِلْمان أقوياء أصحَّاء، كأننا شبان.
ويؤيد هذا كلمة “غلمان” الثابتة في “التاريخ”، وإن حُذِفت في التعليق.
ويؤيده أيضًا: أنهم لو كانوا أبناء تسع سنين أو نحوها، لما ذهبوا يتواثبون على قبر رجل من أفضل السابقين، ولاسيما وبجواره قبر ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ممنوعٌ في الشرع اتفاقًا؛ لأن من رُوي عنه إباحة الجلوس على القبر، لا يبيح التوثُّب عليه.
وقوله: “وإن أشدنا وثبة … ” إلخ، يدل أن أكثرهم كان يقصّر فيقع على القبر، والذي يجاوزه يقع على القبور المجاورة، وأبناء الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يبلغون التمييز إلا وهم عارفون لآداب الدين، ملتزمون لها،
_________
(1) في “الوفيات”: (2/ 223).
(2) (7/ 258 ــ ط دار الخانجي).

(5 ب/32)


ولاسيّما مثل خارجة بن زيد.
وعلى هذا، فلا دلالة في الأثر؛ لأن الغلام الذي عمره ست سنين ــ وإن كان قويًّا ــ يشق عليه أن يَثِبَ أكثر من ذراعين ونصف على وجه الأرض، وهذا هو عرض القبر عادة تقريبًا.
ويشبه أن يكون قبر عثمان بن مظعون أعرض قليلًا من القبور المعتادة، ويكون خارجة أراد بذلك القول، الإخبار عن عرض القبر؛ ليخبرهم أن السنة توسعة القبر.
[ص 35] رابعًا: إذا سَلِمَ إسنادُ الأثر، وقُدِحَ في العلة، وحُمِل على ظاهر قوله: “شبان”، ولم نُبالِ بما يلزم عليه من أن الشُّبان من أبناء أفاضل الصحابة كانوا من التفريط في الآداب الشرعية بحيث يذهبون يتوثَّبون على قبر صحابي من أفاضل السابقين، وقبور من جاوره من أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا كان هذا كله، فليس في الأثر أنهم كانوا يَثِبون القبرَ عرضًا أو طولًا، فكلا الأمرين محتمل.
وعليه، فيقال: لعلَّ قبر عثمان بن مظعون كان أطول قليلًا من القبور المعتادة، ويكون مراد خارجة الإخبار بذلك ليبين أن السنة توسعة القبور.
فإذا فُرِض أن طول القبر نحو خمسة أذرع، فإن هذا القدر كافٍ لأن يشقَّ على الشاب أن يثبه على وجه الأرض.
فإن قيل: إن البخاري فهم من هذا الأثر الرفع، ولذلك أورده في “باب الجريد على القبر” (1).
_________
(1) (2/ 95 ــ الميرية).

(5 ب/33)


وقال الحافظ في “الفتح” (1): “وفيه جواز تعلية القبر، ورفعه عن وجه الأرض”.
فالجواب: أن لفظ الأثر موجودٌ محفوظٌ، ففَهْم البخاري والحافظ ليس بمجرَّده حجة، كما لا يخفى، على أنهما قد يريدان الرفع اليسير، نحو أربع أصابع إلى شبر، وهذا فيه بحثٌ، سيأتي إن شاء الله تعالى.
[ص 36] خامسًا: على فرض تسليم أن قبر عثمان بن مظعون كان مرفوعًا، فلا يُدْرَى مَن رَفَعه، إذ قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهى عن رفع القبور، والزيادة عليها من غير حُفْرتها.
فكيف يصح أن يقال: إنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك؟ !
بل ورد في نفس قبر عثمان بن مظعون ما ينافي الرفع، ولو قليلًا، وهو كونه صلى الله عليه وآله وسلم وضع عليه حَجَرًا، وقال: “أُعَلِّمُ بها قبرَ أخي، وأدفِنُ إليه من مات من أهلي” (2).
وهذا يدل أنه كان مساويًا للأرض، إذ لو كان مرتفعًا ولو قليلًا لما احتاج إلى العلامة؛ لأنه أول قبر وُضِع هناك، فمجرَّد ارتفاعه كافٍ في التعليم، فدل
_________
(1) (3/ 265).
(2) أخرجه أبو داود رقم (3206) ومن طريقه البيهقي: (3/ 412) ولفظهما: “أتَعَلَّم”. من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب وليس صحابيًّا. قال الحافظ في “التلخيص”: (2/ 141): “وإسناده حسن ليس فيه إلا كثير بن زيد راويه عن المطلب، وهو صدوق. وقد بيّن المطلب أن مخبرًا أخبره ولم يسمّه، ولا يضر إبهام الصحابي … “.

(5 ب/34)


أنه كان مساويًا للأرض، فخشي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخفى موضعه بجفاف التراب، وهبوب الرياح والمطر، فعلَّمه بذلك الحجر.
وعليه، فيُحْتَمل أن بعض متأخِّري الإسلام من أقارب عثمان بن مظعون رفع القبر في أواخر مدة عثمان رضي الله عنه، والصحابة رضي الله عنهم مشغولون بالفتنة، ثم سُوِّي بعد ذلك، كما يدلُّ عليه الأثر نفسه، إذ لو كان القبر باقيًا على حاله لما احتاج خارجة إلى هذا القول، بل كان يقول: ها هو القبر موجودٌ على حاله، وهكذا كان في زمن عثمان.
[ص 37] سادسًا: لنفرض أن القبر رُفِع، وأنه رفعه بعضُ الصحابة، فليس فعل الصحابي حجة، ولم يكن القبر ظاهرًا لجميع الناس حتى يُدَّعى الإجماع.
سابعًا: لنفرض أنه كان ظاهرًا، فإن الصحابة رضي الله عنهم في مدة عثمان وبعده كانوا متفرقين في البلاد مشغولين بالفتن.
ثامنًا: لنفرض أنهم كانوا مجتمعين، فقد صحَّ عن كثير منهم رواية النهي عن ذلك، وصحَّ عنهم العمل بموجبه، كما سيأتي بسطه إن شاء الله تعالى، وهذا كافٍ في نفي الإجماع.
[ص 38] تاسعًا: هب أنه لم يرد ما يكذِّب الإجماع، فإنَّ في حُجِّية الإجماع خلافًا مشهورًا.
عاشرًا: على تسليم أنه حجة، فيشترط أن يُعْلَم، ولا سبيل إلى العلم به، كما هو مقرر في الأصول.

(5 ب/35)


حادي عشر: على فرض تسليم أنه لا يُشْتَرط العلم به، بل يُكْتَفى بأنه لم يُنْقَل ما يخالفه، فإنما يكون حجة إذا لم يَرِد في كتاب الله عزَّ وجلّ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما يخالفه، وهذا هو الثابت عن عمر وعبدالله وغيرهما، وعن الإمام أحمد والشافعي، وغيرهما.
وذلك أن احتمال وجود مخالف لقول من قبلنا لم يُنْقل قوله، أقوى من احتمال كون النص على خلاف ظاهره، فضلًا عن كون احتمال الحديث الثابت بالإسناد كذبًا، فضلًا عن احتمال النسخ.
• [ص 39] وأما مرسل محمد بن علي؛ فلا يخفى ما في حُجّية المرسل من النزاع، وأن التحقيق عدم حُجِّيته.
وعلى فرض صحته؛ فيُحْمل على وضع كفٍّ أو كفين من الحصباء، لتكون علامة على القبر، أو غير ذلك مما لا يؤثر في رفعه الذي ثبت النهي عنه، جمعًا بين الأدلة.
لكن يُشْكل على ذلك ثبوت النهي عن الزيادة، والكف من الحصباء زيادة، إلا أنه يمكن تخصيص عموم النهي عن الزيادة بهذا الحديث، هذا على فرض حُجِّيته.
• وأما ما رواه ابن أبي شيبة؛ ففي سنده عنعنة سفيان، وهو يدلِّس.
نعم، في “فتح المغيث” (1) (ص 77) في الكلام على المعنعنات في “الصحيحين” قال: “أو لوقوعها من جهة بعض النقَّاد المحققين سماع المعنعن لها … والثوري بالنسبة لحديث القطان عنه … الخ”.
_________
(1) (1/ 218 – 219 ــ الجامعة السلفية).

(5 ب/36)


لكن ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك، ومجرَّد احتمال ذلك يرده، فلعله أحدثه بعضُ التابعين الذين لم يطلعوا على النهي.
وعلى كل حال، فليس في فعلهم حجة.
• [ص 40] وأما الإجماع؛ ففي زمان الصحابة ثبت عن علي وفَضَالة ما يخالفه، وهناك آثار عن عمر وعثمان تخالف ذلك أيضًا.
وفي زمن التابعين يبعد أن يروي الأئمة هذه الأحاديث بدون بيان ما يخالفها، ومع ذلك يخالفونها.
وفي “كنز العمال” (1): عن عثمان: أنه كان يأمر بتسوية القبور. ابن جرير.
وفي “شرح الموطأ” (2) للباجي ما لفظه: “قال ابن حبيب: وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تُرْفع القبور، أو يُبْنى عليها، وأمر بهدمها، وتسويتها بالأرض. وفَعَلَه ــ يعني الهدم والتسوية ــ عمر بن الخطاب. قال: وينبغي أن تسوى تسوية تسنيم … إلخ.
ومع هذا فمن الواضح أن الإجماع الحقيقي لا يمكن العلم به، وإنما غاية ما يمكن أن نجد قولًا لمن قبلنا لا نعلم له مخالفًا، فيكون هذا حجةً إذا لم نجد في الكتاب أو في السنة ما يخالفه، فأما إذا وُجد في الكتاب والسنة
_________
(1) رقم (42927). وأخرجه عبد الرزاق في “المصنف”: (3/ 504)، وابن أبي شيبة في “المصنف”: (3/ 222).
(2) (2/ 494).

(5 ب/37)


ما يخالفه، فإنّ ذلك دليل على عدم الإجماع، وأن هناك مخالفًا لم يبلغنا قوله.
وقد تقدم أن احتمال وجود مخالف لم يبلغنا قوله أقرب من احتمال كون النص على خلاف ظاهره. فضلًا عن كون الحديث الثابت إسناده كذبًا، فضلًا عن احتمال النسخ. وتقدم أن قولنا هذا هو قول أئمة الهدى، والله أعلم.
وأما قوله: “إن للقبور أحكامًا … ” إلخ.
فقد يقال: يكفي في التمييز وضع علامة، ككفّ من حصى مغاير لونه لحصى تلك البقعة، أو وضع حجر، هذا إن صحَّ العملُ بحديثي وضع الحصى ووضع الحجر المارَّين.
وقد يقال: إنه لا بأس بالارتفاع اليسير الذي ينشأ من إعادة تراب الحفرة إليها، فإنه يزيد عن مثلها بسبب وضع الجثة، وما سترت به، وغير ذلك، فينشأ من إعادته كله (1) إليها ارتفاع يسيرٌ.
ولكن هناك أحاديث تنافي هذا، فلْنَعْقد فصلًا للبحث فيها.
_________
(1) الأصل: “كلها” والصواب ما أثبت.

(5 ب/38)


[ص 41] فصل
في تسوية القبور
حدَّث ثُمامة بن شُفَي قال: كنا مع فَضالة بن عُبيد بأرض الروم، فتوفي صاحبٌ لنا، فأمر فَضالةُ بقبره فسوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها.
رواه عن ثمامة عَمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري، وابن إسحاق.
فأما عَمرو بن الحارث؛ فرواه عنه ابنُ وهب.
وعن ابن وهب: أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السَّرْح، وهارون بن سعيد الأيلي، وسليمان بن داود (1).
فعن ابن السرح: مسلم في “صحيحه” (2)، وأبو داود في “سننه” (3)، ومن طريقه رواه البيهقي في “سننه” (4).
وعن الأيلي: مسلم في “صحيحه” (5) أيضًا، ومحمد بن إسماعيل الإسماعيلي عند البيهقي (6).
_________
(1) ويونس بن عبد الأعلى عند الطحاوي في “مشكل الآثار” (3267)، وعبدالعزيز بن مقلاص المصري عند الطبراني في “الكبير”: (18/رقم 811).
(2) رقم (968).
(3) رقم (3219).
(4) (4/ 2).
(5) الموضع السالف.
(6) الموضع السالف.

(5 ب/39)


وعن سليمان: النسائي في “سننه” (1).
والروايات كلها مسلسلة بالتحديث والإخبار، والألفاظ متقاربة، وجميعها مشتركة في قوله: “فأمر فضالةُ بقبره فَسُوِّي … ” إلخ، كما تقدم.
[ص 42] وأما ابن إسحاق؛ فرواه عنه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن عُبيد بن أبي أمية الطنافسي، وأحمد بن خالد الوهبي (2).
فعن الأولين: الإمام أحمد في “مسنده” (3) (جزء 6/ص 18)، إلا أنه قال في رواية محمد بن عُبيد: “ثنا محمد (بن يحيى) بن إسحاق” وإنما هو محمد بن إسحاق، وفي هذه الرواية عنعن ابن إسحاق.
وأما في رواية إبراهيم، فقال الإمام (4): ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني ثُمامة … إلخ، فصرَّح ابنُ إسحاق بالتحديث.
وعن الثالث: أبو زرعة الدمشقي، وهو عبد الرحمن بن عَمرو بن صفوان النصري، وعنه أبو العباس الأصم، وعن الأصم الحاكم وغيره، كما في “سنن البيهقي” (5). وفي هذه الرواية عنعن ابن إسحاق.
_________
(1) رقم (2030).
(2) وعبد الأعلى بن عبد الأعلى عند ابن أبي شيبة: (3/ 222)، والطحاوي في “مشكل الآثار” (3268).
(3) رقم (23934).
(4) رقم (23936).
(5) (3/ 411).

(5 ب/40)


ولفظ رواية محمد بن عبيد: ” … فأصيب ابنُ عمٍّ لنا، فصلى عليه فَضالة، وقام على حُفْرته حتى واراه، فلما سوَّينا على حفرته قال: أخِفُّوا عنه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور”.
وفي رواية إبراهيم: ” … فقال فضالة: خَفِّفوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسوية القبور”.
وفي رواية أحمد بن خالد عند البيهقي: ” … فتوفي ابنُ عمّ لنا يقال له: نافع بن عبد، قال: فقام فضالة في حفرته، فلما دفناه قال: خَفِّفوا عليه التراب، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور”.
[ص 44] وهذا الحديث صحيحٌ، نظيفٌ لا غبار عليه، ووجود ابن إسحاق في إحدى الطريقين لا يقدح، مع أنه إنما يُخْشى من التدليس والانفراد، كما مر، وفي هذا الحديث صرح بالتحديث، وتوبع.
وأما قوله في رواية: “أخِفّوا عنه”، وفي أخرى: “خَفِّفوا”، وفي ثالثة: “خَفِّفوا عنه التراب”، فهذه ليست زيادة، وإنما هي في مقابل ما جاء في رواية عَمْرو: “فأمر فضالة بقبره، فسُوِّي”، فذكرها ثمامةُ لابن إسحاق مصرحًا فيها بلفظ فضالة الذي عبّر عنه في رواية عَمرو بقوله: “فأمر”.
وأما اختلاف الروايات في كلمة “خَفِّفوا” فمن الرواية بالمعنى.
ومما يدل على أن ثمامة أوضح القصة لابن إسحاق، وجود اسم المتوفى في روايته، دون [ص 45] رواية عَمْرو. وأيضًا فذِكْر ابن إسحاق لاسم المتوفى واسم أبيه “نافع بن عبد” يدل على جودة حفظه للقصة، وإتقانه لها.

(5 ب/41)


على أن انفراد ابن إسحاق ليس شديد النكارة، بدليل قول الذهبي (1): “وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئًا”، أراد نكارة يسيرةً، بدليل ما بعده.
والنكارة اليسيرة وإن كانت توجب التوقُّف فإنها تنجبر بقيام بعض القرائن على الحفظ، ونحو ذلك، وقد بينا ذلك في هذا الحديث، والله أعلم.
_________
(1) في “الميزان”: (4/ 395).

(5 ب/42)


[ص 46] معنى التسوية
المتبادر من التسوية أن يكون وجه القبر مساويًا لوجه الأرض في البقعة المحيطة به، ولكن نوزع فيه، أن هذا المعنى هو معنى تسوية القبر بالأرض، لا معنى تسوية القبر مطلقًا.
فتسوية القبر عبارةٌ عن جعله متساوي الأطراف، كما في قوله عزَّ وجلّ: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4].
وهذا لا يقتضي التسوية بالأرض، بل أن يُسوَّى القبرُ في ذاته، بأن لا يُترك فيه تسنيم، أو زيادة في بعض أطرافه، بل يُجعل مسطحًا، وهذا أعم من أن يكون مساويًا لوجه الأرض، أو يكون مرتفعًا.
[ص 47] وأجيب: بأن التسوية إذا أُطْلقت على شيءٍ كائنٍ على وجه الأرض، كالبناء والربوة، يُعنى بها تسويته بالأرض، ومنه قوله عزَّ وجلّ: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14].
قال الراغب (1): أي: سوَّى بلادَهم بالأرض.
ويدل عليه في هذا الحديث نفسه، أن الصحابي جعل الأمر بالتسوية أمرًا بالتخفيف من التراب، حيث قال: “أخِفّوا عنه ــ أو “خَفّفوا” أو “خَفّفوا عليه التراب” ــ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور”.
_________
(1) في “المفردات” (ص 440).

(5 ب/43)


وإنما يكون الأمر بالتسوية أمرًا بالتخفيف، إذا أُرِيد بها التسوية بالأرض، فأما تسوية القبر في نفسه، فإنها تمكن مع كثرة التراب، كما تمكن مع قِلّته.
والصحابيُّ لم ينقل لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنصِّه [ص 48] حتى يسوغ لنا أن نستقلَّ بفهمه، وإن خالف فهم الصحابي، وإنما مُؤدَّى كلامه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بتسوية القبور التسويةَ المقتضية لتخفيف التراب، أي: أن بيان كون التسوية المأمور بها هي التي تقتضي تخفيف التراب مرفوعٌ تقوم به الحجة.
وقد قال الباجي في “شرح الموطأ” (1): وقال ابن حبيب: “وتسويتها بالأرض”.
ويؤيد هذا ما سيأتي (2) في حديث علي رضي الله عنه: “ولا قبرًا مُشْرفًا إلا سوَّيته”.
فجعل التسوية إزالة الإشراف، والإشراف هو الارتفاع، أعمّ من كون القبر متساويًا في نفسه، أو غير متساوٍ، فالتسوية التي هي إزالة الإشراف، هي التسوية بالأرض، كما هو واضح.
[ص 49] أقول: أما الآية؛ فلا يتعين فيها هذا المعنى، أعني التسوية بالأرض، بل يصح أن يكون المراد تسوية بلادهم في نفسها، أي: جعلها متساوية الأجزاء، وهذا كناية عن الخراب البالغ، فإن البلاد العامرة تكون
_________
(1) (2/ 494) وقد سبق النص قريبًا.
(2) لم يأت شيء، وإنما في المبيضة.

(5 ب/44)


متفاوتة بارتفاع الأبنية على العرصات، وارتفاع بعض الأبنية على بعض، وإنما تتساوى إذا خَرِبت الخراب البالغ.
والإنصاف أن التسوية إذا أُطلقت كان المراد بها تسوية الشيء في نفسه، ولا تُحْمل على التسوية بالأرض إلا بقرينة.
وعليه، فالظاهر حمل التسوية في الحديث على التسوية بالأرض للقرينة، وهي قوله: “أخِفُّوا عنه”، أو “خَفِّفوا”، كما تقدم.
[ص 50] وكذا يقال في حديث علي رضي الله عنه: إن جَعْل التسوية منافية للإشراف قرينة تدل أن المراد التسوية بالأرض، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقد مرَّ (1) عن “كنز العمال” (2): “سوّوا القبور على وجه الأرض إذا دفنتم” (3). فإن صحَّ فهو صريحٌ في التسوية بالأرض، إذ لا يصح أن يقال: إن قوله: “سووا القبور” أمرٌ بتسويتها في ذاتها، و”على وجه الأرض” حال، إذ لا معنى للحال، فالقبور على وجه الأرض على كلِّ حال.
فيحتمل أن يكون المراد: تسوية القبور بالنظر إلى جميعها، أو تسوية كل قبر في حد ذاته.
فعلى الأول يكون المراد بأن تُجْعَل متساوية، أي: بأن تكون كلها على
_________
(1) كذا قال المصنف، والذي مرّ (ص 37) أثر عثمان “أنه كان يأمر بتسوية القبور”.
(2) رقم (42387). وانظر “المبيَّضة” (ص 20).
(3) كتب المصنف عقبه: “طب عن فضاله بن عبيد، ولا أدري ما صحته” ثم ضرب عليها. والأثر أخرجه الطبراني في “الكبير”: (18/رقم 812).

(5 ب/45)


هيئة واحدة؛ لا يختلف قبر عن قبر. وهذا كما إذا أمرت الخبّاز بتسوية الأرغفة، يريد أن تكون كلها بقدر واحد على هيئةٍ واحدةٍ.
وعلى الثاني يحتمل أن يكون المراد بتسوية القبر، تسوية أطرافه.
وهذا لا يقتضي التسطيح كما قيل، فإن المسنَّم تسنيمًا محكمًا، بحيث إن ظاهر القبر يبقى أملس، بحيث لو بُسِط عليه ثوبٌ للصق به من جميع أجزائه، يقال له: مَسوًّى.
ولو رأينا كرتين من حديد، إحداهما مُحْكَمة التكوير ملساء، والأخرى يوجد في سطحها مواضع ناشزة، وأخرى منخفضة، لقلنا: إن الأولى مستوية، والثانية غير مستوية.
فإذا أُمِرْنا بإصلاح الثانية، صح أن يقال: أمرنا بتسويتها.
ويحتمل أن يكون المراد جعله سويًّا (1).
_________
(1) من قوله: “فيحتمل أن يكون المراد … ” إلى هنا جاء في (ق 53 ب) وقدَّرت أن يكون هذا هو مكانه المناسب، فالله أعلم.

(5 ب/46)


تحقيق الحق في هذا البحث
هذا ما يمكن أن يقوله المتشدِّد، ولكن الذي ينبغي التعويل عليه، وأن يدان الله تعالى به:
أن أثر “خارجة” لا دلالة له على شيءٍ، لما مرّ.
وأن مرسل الشافعي، لا مانع من صِحّته، ولكن محله إذا كان التراب الذي أعيد في الحفرة لم يكفِ لارتفاعها قليلًا عن وجه الأرض، أو كفى للارتفاع ولكن خُشي أن يلتبس القبرُ بغيره، وأُرِيد أن يُمَيَّز لقصدٍ صحيح جائز شرعًا.
وكذا حديث وضع الحجر على القبر سواء بسواء.
[ص 51] وحديث ابن أبي شيبة، لا مانع من صِحّته، ولكن التسنيم الواقع على القبور، هو الناشئ عن إعادة تراب الحفرة إليها فقط.
وأما دعوى الإجماع؛ فإنها وإن كان فيها ما فيها، فهي غير معارضة لما قلناه؛ لأن الفقهاء نصوا على جواز رفع القبر قليلًا، ونصوا على حظر الزيادة عليه من غير تراب حفرته (1)، وهذا هو الذي نقوله: أنه يعاد إليه تراب حفرته.
فإن حصل ارتفاع قليلٌ فذاك، وإلا جُعلت عليه علامة ليُعْرف أنه قبر، فإن حصل الارتفاع، وخشي الالتباس بغيره، وأُرِيد التمييز لمقصد شرعي صحيح، فلا بأس بوضع علامة عليه. وبهذا يحصل تمييز القبور الذي
_________
(1) انظر “بدائع الصنائع”: (1/ 320) للكاساني، و”المغني”: (3/ 435) لابن قدامة.

(5 ب/47)


يقتضيه ما لها من الأحكام.
والرفع اليسير، أو وضع العلامة له مقتضٍ صحيحٌ، وهو تمييز القبر؛ ليجتنب الجلوس عليه، والصلاة إليه، وغير ذلك. فاندفع ما قيل: إنه زائدٌ على القدر الكافي للمواراة.
ثم إن ذلك لا يضر بالمستحقين عند إرادة الحَفْر بعد البِلَى؛ لأنه أمرٌ خفيفٌ، وإن سُلِّم أنه لا يخلو عن ضرر، فإن ذلك يُغْتفر من باب دفع كبرى المفسدتين؛ لما مرّ , والله أعلم.
[ص 52] وأما حديث فَضالة بن عُبيد؛ فالحق أن التسوية فيه هي تصيير القبر سويًّا، أي معتدلًا، أي: على الهيئة المشروعة في القبور، بدون زيادة ولا نقصان، ومن هذا قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} [الانفطار: 7] أي ــ والله أعلم ــ: جعلك بشرًا سويًّا كامل الخلقة، بالنظر إلى الهيئة المشتركة بين البشر.
وكذا قوله: {الَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف: 37].
قال الراغب (1): السَّوِيّ ما يُصَان عن الإفراط والتفريط.
فنقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد بين لأصحابه الهيئة التي تنبغي أن تكون القبور عليها، وبعد أن عَقَلوها أمرهم بتسوية ما يطرأ من القبور، أي: جعلها سويَّة على الهيئة التي قد علمهم إياها.
_________
(1) في “المفردات” (ص 440).

(5 ب/48)


وأما قول فَضالة: “أخِفّوا عنه”؛ فالظاهر أنه رأى التراب الذي حول الحفرة كثيرًا، بحيث إذا رُكِم فوق القبر ارتفع زيادةً على القدر المشروع، فأمرهم بالتخفيف، [ص 53] بأن لا يجمعوا التراب كله، بل يقتصروا على ما يبلغه القدر المعروف للقبور. أو يكون قال لهم هذا بعد أن ركموا التراب، ورآه كثيرًا، بحيث صار القبر مرتفعًا زيادةً عن القدر المشروع.
وأما ما نقلناه عن “كنز العمال” (1) ــ إن صح ــ فالتسوية هي: تسوية القبور في ذاتها. وقوله: “على وجه الأرض” احترازٌ من أن يُظن أن المراد بتسويتها في جوف الحفرة، والله أعلم.
ومما هو صريحٌ في الرفع: ما ثبت في رفع قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبري صاحبيه، كما سيأتي. وما تقدم من حديث ابن أبي شيبة، وغير ذلك. والله أعلم.
_________
(1) انظر ما سبق (ص 45).

(5 ب/49)


[ص 54] القَدْر المشروع لرفع القبر
لم أطلع على ما يُسْتَدل به في هذا بالنسبة إلى غير المِلك، إلا أن يقال: إن الظاهر أن يعين لذلك الأمر الذي تقتضيه طبيعة الحال، وهو إعادة تراب الحفرة إليها، بلا نقصان ولا زيادة.
ويؤيد بأحاديث النهي عن الزيادة الآتية، فإن مفهومها جواز إعادة تراب الحفرة، سواءً أقل أم كثر.
وربما يُعْترض هذا بقول فَضالة: “أخِفّوا عنه” على ما قدمنا.
ويمكن أن يجاب: بأنه لعل البقعة التي حفر فيها القبر ترابية، بحيث يختلط التراب الخارج من الحفرة بالتراب الذي حواليها، فلا يتميز. وفيه شيءٌ.
ولكن ورد الدليل على مقدار الرفع في الملك، وعمَّمه العلماء في الملك وغيره، [ص 55] لعدم الفرق.
ففي “صحيح ابن حبان” (1): أخبرنا السختياني ثنا أبو كامل الجَحْدري ثنا الفُضيل بن سليمان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُلْحِدَ له، ونُصِب عليه اللبن نصبًا، ورُفِع قبره من الأرض نحوًا من شبر.
فهذا عمل أكابر الصحابة رضي الله عنهم، ولا نعلم لهم مخالفًا، والصحابة ذلك اليوم متوافرون بالمدينة، ولم يرد في الكتاب أو السنة ما يخالف ذلك، فكان حجة.
_________
(1) رقم (6635).

(5 ب/50)


كيفية رفع القبر
الصفة الطبيعية لإعادة التراب إلى الحفرة: أن ينشأ عن ذلك شيءٌ من الارتفاع مسنَّمًا، وهذا هو الأصل الذي لا ينبغي أن يتعدى إلا بدليل.
استدل من يقول بالتسطيح بحديث التسوية المتقدم، بناءً على أن المراد جعل القبر متساويًا.
وقد سبق رده، وبيان ما هو إن شاء الله الحق (1).
[ص 56] واستدلوا أيضًا بحديث أبي داود (2) عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة، فقلت: يا أُمّاه، اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه. فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مُشْرِفة ولا لاطِئة، مبطوحة ببطحاء العَرْصة الحمراء.
وأخرجه الحاكم في “مستدركه” (3)، وقال: صحيح. وأقره الذهبي.
وفيه زيادة: “فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُقدَّمًا، وأبا بكر رأسُه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم “.
قالوا: والبطح هو عبارة عن جعل الشيء مستويًا.
قال الزمخشري في “الفائق” (4) في (رفف): ” [ابن الزبير رضي الله عنه]_________
(1) انظر (ص 47 – 49).
(2) رقم (3220). والبيهقي في “الكبرى”: (4/ 3).
(3) (1/ 369).
(4) (2/ 74).

(5 ب/51)


لما أراد هدم الكعبة … وكانت في المسجد جراثيم، فقال: يا أيها الناس ابطَحوا. وروي: كان في المسجد حُفَر منكرة، وجراثيم، وتعادٍ، فأهاب بالناس إلى بطحه … إلخ.
البطحُ: أن يجعل ما ارتفع منه منخفضًا حتى يستوي، ويذهب التفاوت … ” إلخ. ا? .
[ص 57] قالوا: ولا يمكن أن يقال: إن القبور مبطوحة، أي: مسوَّاة بالأرض؛ لقوله في الحديث: “ولا لاطئة”، فما بقي إلا أن تكون مُسَطَّحة، أي: مُسَوَّاة في نفسها.
وتأوله صاحب “الجوهر النقي” (1): بأن المراد بـ “مبطوحة” غير مشرفة، أعم من أن تكون مسنَّمة، أو مسطحة، واستدل بكلام الزمخشري السابق، وهو كما ترى.
وحَمَل غيرُه لفظ “مبطوحة” على أنها موضوعة عليها البطحاء، أي: الحصى، كما فُسِّر به حديث عمر أنه أمرهم أن يبطحوا المسجد، وهو ثابتٌ في مجاميع اللغة (2).
[ص 58] ويحتمل معنى ثالثًا: وهو أن يكون شَبَّهها بهيئة الأشخاص المبطوحين، أي: المُلْقَين على وجوههم، فإن القبر المركوم عليه قليلٌ من التراب على هيئة التسنيم، يشبه هيئة الشخص المبطوح.
_________
(1) (4/ 3 ــ بهامش سنن البيهقي).
(2) بعد هذا الكلام عدة أسطر ضرب عليها المؤلف وترك عبارةً لم يظهر عليها أثر الضرب وهي: “ويبعده جدًّا؛ لأن الظاهر أنه أراد”.

(5 ب/52)


وعليه، فينبغي الترجيح بين هذه المعاني، فأقول:
أما المعنى الأول؛ فيردُّه ما علَّقه البخاري في “صحيحه” (1) عن سفيان التمَّار: أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسنَّمًا.
ووصله ابن أبي شيبة (2) فقال: ثنا عيسى بن يونس عن سفيان التمَّار قال: دخلتُ البيت الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، [ص 59] فرأيت قبره وقبر أبي بكر وعمر مُسَنَّمة.
ويبعد كل البعد أن يُغَيَّر قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه عما وُضِعَت عليه، والصحابةُ باقون، وعلماء التابعين شاهدون، والملوك والأمراء من أهل العلم.
والإصلاح الذي وقع في زمن الوليد بن عبد الملك، وقع بحضور عمر بن عبد العزيز ــ وحَسْبُك به علمًا، ودينًا وورعًا ــ مع وجود غيره، وتغيير الجدار للضرورة، ولا ضرورة في تغيير الهيئة، وهذا بخلاف ما قلناه في قبر عثمان بن مظعون، فإنه لا مانع في أن يغيره ويرفعه شخصٌ واحدٌ.
فأما قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه , فيبعد أن يجترئ على تغييرها أحدٌ.
وعلى تسليم احتمال التغيير، فإنما يُصَار إلى تجويزه إذا لم يوجد جمع بين الدليلين أيسر منه. ولا شُبْهة أن الجمع بحمل [ص 60] “مبطوحة” على
_________
(1) كتاب الجنائز، باب ماجاء في قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
(2) “المصنف”: (3/ 215).

(5 ب/53)


المعنى الذي يوافق رواية التمَّار أولى وأقرب من حملها على المعنى الذي يخالفه.
ولاسيما والكلمة بالنظر إلى المعنيين الأوَّلين محتملة لهما على السواء، فيكون حديث سفيان مرجِّحًا لأحدهما، وهو الذي لا يخالفه فسقط المعنى الأول، وبقي النظر بين الثاني والثالث.
لا شك أن الثاني حقيقة، والثالث مجاز، والحقيقة مقدمة على المجاز، إلا أن هناك أدلَّة تقوي إرادة المجاز:
أولها: أنه إذا ثبت أن القبور كانت مسنَّمة، فمن البعيد أن ينعت القاسم قدر ارتفاعها، ويدع نعت هيئتها، ويذهب إلى ذكر أن عليها حصى، فإن بيان الهيئة أهم من [ص 61] ذكر الحصى.
ثانيها: في “شرح المشكاة” (1) لعلي قاري ما لفظه: “وأيضًا ظهر أن القاسم أراد أنها مسنمة، برواية أبي حفص بن شاهين في “كتاب الجنائز” بسنده عن جابر قال: سألت ثلاثة كلهم له في قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبٌ، سألت أبا جعفر محمد بن علي، وسألت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وسألت سالم بن عبد الله: أخبروني عن قبور آبائكم في بيت عائشة؟ فكلهم قالوا: مسنمة”.
وهـ? هنا إشكال: وهو أن جابرًا هو راوي حديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُلْحِد له، ونُصِب عليه اللبن … (2) إلخ، كما سيأتي، فالظاهر أنه
_________
(1) (2/ 371).
(2) تقدم (ص 50).

(5 ب/54)


حضر الدفن، والظاهر أنه حضر دفن الشيخين أيضًا، فكيف يحتاج إلى السؤال عن كيفية القبور؟ اللهم إلا أن يكون جوز تغييرها، وفيه بُعْد، كما أن تجويز أنه لم يحضر أبعد.
وعلى كل حال، فحديث ابن شاهين لم يصحّح، ولعله لا يكون صحيحًا.
ثالثها: أن وضع الحصى على القبر، على فَرْض تسليم جوازه، فإنما هو ــ والله أعلم ــ علامة للقبر، ولا حاجة للعلامة في قبور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه.
فالذي يظهر ــ والله أعلم ــ ترجيح المعنى الثالث.
[ص 62] ومن أدلة التسنيم: أثر الشعبي الذي رواه ابن أبي شيبة، كما تقدم (1)، وإن عنعنه سفيان.
ومنها: أن العمل في عهد السلف كان جاريًا على ذلك.
والظاهر في مثل هذا أن يكون موافقًا للسنة، ما دام لم يقم دليلٌ يدل على مخالفته.
وقال صاحب “الجوهر النقي” (2): “وحكى الطبري عن قوم أن السنة التسنيم، واستدل لهم بأن هيئة القبور سنة متبعة، ولم يزل المسلمون يسنِّمون قبورهم، ثم قال: ثنا ابن بشار ثنا عبد الرحمن ثنا خالد بن أبي عثمان قال: رأيت قبر ابن عمر مسنَّمًا.
_________
(1) (ص 29).
(2) (4/ 4 ــ بهامش سنن البيهقي).

(5 ب/55)


قال الطبري: لا أحبّ أن يتعدَّى فيها أحد المعنيين من تسويتها بالأرض، [ص 63] أو رفعها مسنَّمة قدر شبر، على ما عليه عمل المسلمين في ذلك.
قال: وتسوية القبور ليست بتسطيح. ا? .
ومما يدل على أن عمل أهل المدينة كان على التسنيم: أن مذهب مالك اختيار التسنيم (1)، وهو يرى عمل أهل المدينة حجة، فلو كان عمل أهل المدينة على التسطيح لما خالفهم.
وأيضًا التسطيح يشبه بناء أهل الدنيا؛ لأن فيه نوعًا من الإحكام، بخلاف التسنيم، فإنه يحصل بطبيعة الحال عند رد تراب الحفرة إليها.
[ص 64 ب] وهذا الارتفاع نحوًا من شبر بالنسبة إلى وسط القبر؛ لأنه مسنم. والواقع أن إعادة تراب الحفرة إليها بعد الدفن ينشأ عنه تسنيم نحو الشبر غالبًا.
فإذا كان الواقع كذلك فالأمر بيّن، وإن فُرِضَ أنه زاد فعندي أنه يجب التخفيف عملًا بظاهر حديث فَضالة على ما تقدم، واقتصارًا على القدر الثابت.
وإن فُرِض أنه نقص، كأنْ كان في الحفرة حجرٌ كبيرٌ أُخْرِج منها، فلما أُعيد التراب بعد الدفن لم يكفِ، فعندي أنه إن كفى لمساواة الحفرة لوجه الأرض لم يزد عليه؛ لإطلاق النهي عن الزيادة كما يأتي، ولأن الرفع ليس ضروريًّا لأصل الدفن، وإنما فائدته التعليم على القبر، ويغني عنه وضع
_________
(1) انظر “تهذيب المدونة”: (1/ 346)، و”الذخيرة”: (2/ 478 – 479).

(5 ب/56)


حجر، كما روي من فعله صلى الله عليه وآله وسلم بقبر عثمان بن مظعون.
أما إذا نقص عن مساواة الحفرة بالأرض، فالظاهر أنه يزاد عليها حتى يساوي وجه الأرض فقط؛ لأن تركها ناقصة، نقصٌ وإخلالٌ بأصل الدفن.

(5 ب/57)


[ص 65] البناء على القبر
قد مَرَّ حكم البناء على القبور في غير المِلك، وهذا الفصل موجَّه إلى البناء عليها في الملك، مع أن الأدلة تتناول الجميع، كما ستراه إن شاء الله تعالى.
قد علمت أن البناء على القبر أمرٌ زائدٌ على المواراة، وهو أيضًا زائدٌ على التعليم على القبر، بحيث يُعْرَف أنه قبرٌ، فالدليل على مدعي الجواز.
أما من له حظٌّ من العلم من المجيزين، فإنه يعترف بالحُرْمة في القبور المسبَّلة، ويقتصر على الكراهة في الملك، وسيأتي الكلام مع هؤلاء عند الكلام على أدلة النهي إن شاء الله تعالى.
وأما الغلاة المتطرِّفون من الجُهَّال، فإنهم يدَّعون أن البناء على بعض القبور مستحب، ومنهم من يعتقد وجوبه، وليس لهؤلاء في الحقيقة متمسَّك، [ص 66] إلا أنهم يعتقدون أن الموتى يضرون وينفعون، وأن في البناء على قبورهم وغيره تقربًا إليهم، يُدْخل في نفوسهم السرور، ويحملهم على نفع الفاعل.
هذا مَبْلَغ علمهم، وغاية فهمهم.
فإذا آنسوا من أحدٍ إنكارًا عليهم قالوا: “وهَّابي”، وتواصوا بهجره، وتجنّب مجالسته، وسماع كلامه، وجاهروا بتضليله وتفسيقه، بل وتكفيره، ورموه بكل حجرٍ ومدرٍ، وإن أمكنهم أن يلحقوا به الضرب لم يتأخروا عنه.
وإذا دُعوا إلى الإنصاف والنظر في الحجج والأدلة، ورأوا أن في الإعراض عن الإجابة ما يؤيد جانب خصومهم، [ص 67] أخذوا يرددون

(5 ب/58)


بعض الشبه التي لا تستحق أن تسمى شبهًا، فضلًا أن تسمى أدلة، لكنها على كل حال ربما تجذب أذهان بعض الجُهال، وسأذكر منها ما يسوغ أن يسمى شبهة؛ لمشابهته الشبهة، لا لمشابهته الدليل.
فمنها: دعوى الإجماع (1).
وأين الإجماع؟! وهذه كتب فقهاء المذاهب من أصغر مختصر، إلى أكبر مطوَّل متفقةٌ على النهي عن البناء، وتحريمه في المقابر المسبَّلة، ونص بعضُهم على حُرْمته حتى في الملك، ومن لم يقل بالحُرْمة في الملك أطلق الكراهة التحريمية، وسيأتي عقد فصل مستقل؛ لنقل كلام الفقهاء، إن شاء الله تعالى (2).
فأما كتب الحديث النبوي، فأظهر من شمس على عَلَم.
على أن في الإجماع نزاعًا، وأي نزاع؟
[ص 68] ومنها: القياس على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهي شبهة ضعيفة، وسنعقد إن شاء الله تعالى للبحث فيه فصلًا خاصًّا، فانظره إن أردت (3).
ومنها: أثر خارجة، وقد مرَّ ما فيه (4).
_________
(1) هذه الشُّبهة ساقها حَسَن الصدر الرافضي في كتابه “الرد على الوهابية” وسبقت الإشارة إليه في المقدمة.
(2) لم يعقد المؤلف هذا الفصل في هذه النسخة.
(3) لم يعقد المؤلف أيضًا هذا الفصل هنا. وذكر في (المبيضة ص 37 ــ 38) طرفًا من ذلك.
(4) انظر (ص 30 وما بعدها).

(5 ب/59)


ومنها: ما علَّقه البخاري (1)، قال: “لما مات الحسن بن الحسن بن علي، ضربت امرأته القبة على قبره سنةً، ثم رُفِعت: فسمعوا صائحًا يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا، فانقلبوا”.
والجواب: أن البخاريَّ علقه تحت عنوان: باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور.
والبخاري وإن ذكره بصيغة الجزم، فلم يلتزم في ذلك أن يكون صحيحًا. نعم، قالوا: إن ذلك إذا لم يكن صحيحًا عنده، فهو صحيحٌ عند غيره، وهذا لا يفيد؛ لأن شروط غيره مختلفة، حتى إن منهم من لا يشترط في الراوي غير الإسلام.
فإن قيل: المراد غيره ممن يتحرى، كمسلم.
قلنا: فإن في بعض ما يصحّحه مسلم ما ينتقد، ولولا ذلك لما أتعبنا أنفسنا بهذا البحث.
ونحن لا ننكر أنه [ص 69] ينبغي لنا حُسن الظن بالبخاري، أنه لا يعبر بصيغة الجزم إلا وقد اطلع على سندٍ قوي، لكن هذا في ظنه، فأما نحن، فالذي يلزمنا أن ننظر في السند، ونحكم بما ترجح لنا.
وذكر الحافظ في “الفتح” (2) أنه رُوي هذا الأثر في الجزء السادس عشر من حديث الحسين بن إسماعيل بن عبد الله المحاملي ــ رواية الأصبهانيين عنه ــ. قال: وفي كتاب ابن أبي الدنيا في “القبور” (3) من طريق
_________
(1) في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور (2/ 88 ــ الميرية).
(2) (3/ 238).
(3) ليس في المطبوع منه، والمطبوع ناقص. وهو في “هواتف الجان” له (131).

(5 ب/60)


المغيرة بن مِقْسَم قال: “لما مات الحسن بن الحسن، ضربت امرأته على قبره فُسطاطًا، فأقامت عليه سنة … ” فذكر نحوه. ا? .
قلت: المغيرة بن مِقْسَم كان أعمى ويدلس، فلا تثبت القصة بمجرَّد هذه الحكاية منه، ولا يُدْرَى ما حال السند إليه، كما أنا لا ندري ما حال سند المحاملي.
وعندي أن هذه الرواية لا تصح أبدًا، فإن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعُد جدًّا أن يقع مثل هذا منهم؛ إذ زوجة الحسن هي بنت عمه فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهم، ويوم مات الحسن كان بنو أخيها أحياء، وكذلك غيرهم من أهل البيت، فلو فرضنا أنه لم يبلغها نهي، لكان بعيدًا أن لا يكون بلغهم، وأقل ما يكون بلغهم لَعْن زوَّارات القبور.
والتحقيق: أن اللعن منصبٌّ على اللواتي يكثرن الزيارة.
ولا شك أن ضرب قبة على القبر لأجله، والمُكْث فيها سنة أشدّ من مطلق كثرة الزيارة، فحاشا السيدة فاطمة بنت الحسين أن تصنع ذلك، وحاشا أهل البيت أن يكون منهم مثل هذا، ولا يبعد أن يكون ناصبيّ خبيث وضع هذه القصة، وحاشا فاطمة بنت الحسين بن علي أن تفعل ذلك الفعل جزعًا من وفاة زوجها، أو طمعًا في حياته، كما تدلُّ عليه حكاية قول الهاتِفَين: “هل وجدوا ما طلبوا؟ بل يئسوا فانقلبوا”.
وأما قول بعضهم: لعلها ضربت الفُسطاط للاجتماع لقراءة القرآن ونحوه. فمع كون ذلك محظورًا أيضًا، فحكاية قول الهاتِفَين تردّه.

(5 ب/61)


وفي “الفتح” (1): “وقال ابن المُنيِّر: إنما ضُربت الخيمة هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه، تعليلًا للنفس، وتخييلًا باستصحاب المألوف من الأُنس، ومكابرة للحسّ، كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية، ومخاطبة المنازل الخالية، فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين بتقبيح ما صنعوا، وكأنهما من الملائكة، أو من مؤمني الجن” ا? .
أما نحن فنقول: أهل البيت أعلم بالله ورسوله ودينه، وأعقل وأكمل وأثبت من أن يصدر منهم هذا. على أننا نعلم أنهم غير معصومين، وأن فعلهم الشيء لا يكون حجة على جوازه، وإنما رأينا من الواجب أن نذبّ عنهم هذه القصة، وإن كانت لا دلالة فيها على مسألة البناء ونحوه؛ لأن فعل غير المعصوم لا تقوم به الحجة، وحسبنا الله ونعم الوكيل (2).
[ص 70] ومنها (3): أن في البناء مصلحة لتظليل [لتضليل] (4) الزوَّار الذين يشدون رحالهم إلى القبور، ويظلّون لها عاكفين.
وجوابه: أن الزيارة الشرعية لا تُحْوِج إلى شيءٍ من ذلك، فالبناء إذًا إعانة على الزيارة البدعية، ومع هذا وغيره فالاستحسان في معارضة النص هباء منثور، وصاحبه مأزور لا مأجور.
_________
(1) (3/ 238).
(2) من قوله ص 61: “لعن زوارات القبور” إلى هنا لحق في أعلى الصفحات من (ق 70 أإلى ق 74 ب)
(3) أي من شُبَة المجوّزين للبناء على القبور.
(4) كذا كتبها في الأصل على الوجهين إشارةً منه إلى المعنيين إذ زعموا أن في البناء مصلحة (تظليل) الزوار من الشمس، فكانت النتيجة أن (ضلوا) عن الصراط المستقيم.

(5 ب/62)


ومنها: التمسُّك بعمومات خارجة عن محلّ النزاع، كالأمر بحب الصالحين واحترامهم.
وجوابه: أن هذا الإطلاق مقيَّد بما أذن به الشرع، فلا يقول مسلم: إنه يستحب [ص 71] حبهم واحترامهم في معصية الله تعالى، والقدر المأذون فيه إنما يتميز عن غيره بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، فلا يكفي هذا العموم ما لم يثبت دليل الخصوص، مع أن حالة الميت غيبٌ لا يُدْرَى ما ينفعه مما لا ينفعه، وإنما يكون التمييز بإخبار الشرع، وقد دل الشرع أن فعل محبي الميت ما ينكره الشرع يضرُّ الميت لا ينفعه، فثبت في الأحاديث الصحيحة: “أن الميت يُعَذَّب ببكاء أهله” (1).
ومنها: القياس على ما ثبت من احترام القبور، بالنهي عن الجلوس إليها ووطئها، والمشي بينها بالنعال، وغير ذلك.
وهذا قياس باطل، والنصوص تصادمه، وفوق هذا: فإنّ أكثر القبور المشيَّدة قد أَرِمت جثثها، فسقطت حُرْمتها.
هذا، [ص 72] ولولا أن يطالع رسالتي هذه جاهل بحقيقة الدين، قد عَلِق بنفسه شيءٌ من هذه الشبه، لما ذكرتها، فمعذرة إلى القراء.
وأما من كان عنده شيءٌ من الفقه، فإنه يسلِّم بحرمة البناء والرفع والتجصيص ونحوه في غير الملك، ولكنه يقتصر في الملك على الكراهية قائلًا: إن الأصل المقرر أن للإنسان أن يصنع في ملكه ما يشاء، ولكن لما كان البناء ونحوه خلاف السنة، وفيه إضاعة مال، وتشييد ما هو محلٌّ للبِلى،
_________
(1) تقدم تخريجه في (المُبيّضة) (ص 117).

(5 ب/63)


كان مكروهًا، وعلى مدَّعي الحُرْمة البيان (1).
وعليه، فلنشرع في ذكر أدلة النهي عن البناء ونحوه، ثم نبين دلالتها على الحُرْمة.
قد تقدم حديث فَضالة في الأمر بتسوية القبور (2)، وحققنا أن معناه: الأمر بأن تكون على الهيئة التي قررها لها الشارع، وأن الهيئة التي قررها لها الشارع هي ما تقتضيه الفطرة في ردِّ تراب الحفرة إليها، وجمعه على ظهر الحفرة، فيصير القبر بطبيعة الحال مسنَّمًا مرتفعًا عن الأرض نحو شبر [ص 73] باعتبار وسطه، ولكنه إذا اتفق أن كان التراب الخارج من الحفرة، إذا جُمِع كلّه على ظهرها ينشأ عنه ارتفاع فوق الشبر، اقتضت التسوية تخفيفه.
وسيأتي في فصل إزالة الإشراف عن القبور حديث علي رضي الله عنه،
_________
(1) هذه حجج من يقول: إن البناء على القبور في المِلك مكروه وليس بمحرم، ويسلّم بحرمة البناء ونحوه في غير المِلك. حكاه المؤلف على لسانه، وقد سبق له الرد على حججه ويأتي مزيد منها، ونجملها في الآتي:
1) أن الأصل عدم التفريق بين البناء في المسبلة وفي الملك لعموم الأدلة الواردة في النهي. 2) أنه من التشبُّه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى. 3) أنه من التشبه بأهل الجاهلية في الإفراط في تعظيم القبور. 4) أن فيه إضاعة للمال. 5) كونه من الزينة والخيلاء في أول منازل الآخرة كما قال الشافعي. 6) أنه مخالف لسنة السلف في بناء القبور. 7) أنه صار ذريعة ووسيلة إلى الشرك، إذ تقود إلى الاعتقاد في الميت وأنه يضر وينفع. وهي أدلة قوية يكفي اعتبارها في القول بحرمة البناء على القبر في المِلك.
(2) (ص 39).

(5 ب/64)


في الأمر بتسوية القبور المشرفة (1)، ومعناه واضح أن المراد إزالة إشرافها، وإعادتها إلى الهيئة السويَّة التي قررها الشارع، وقد حققناها في حديث فضالة.
وكلا الحديثين يدلُّ على النهي عن البناء على القبور، ونحوه.
أما إذا كان البناء على حدود القبر القريبة، بحيث يكون طوله نحو ستة أذرع، وعرضه نحو أربعة، [ص 74] فلأنه يُطْلَق عليه قبرٌ غير مسوًّى، ويطلق عليه: قبر مشرف، أي: مرتفع زيادة عن القدر المشروع، فيتناوله الأمر تناولًا أوّليًّا؛ لأنه إذا تناول ما جاوز الحد المشروع بزيادة قليل من التراب، فبزيادة أحجار وطين وحصى وغيره، من باب أولى.
وأما دلالة الحديث على النهي عن التجصيص، فلأن القبر المجصص ليس على الهيئة التي قررها الشارع للقبور، فهو قبر غير مسوّى، فالأمر بتسوية القبر أمرٌ بعدم الجص، أو بإزالته.
وأما إذا كان البناء بعيدًا عن القبر، محيطًا به، كالقبب الكبيرة، فبطريق القياس الجلي، سواء أكانت العلة هي كراهية إحكام موضع البلى أم تعظيم القبور. وهذا واضح، والله أعلم.
[ص 75] ولنا حديثٌ في النهي عن البناء ونحوه، رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم: جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري، وأبو سعيد الخدري، وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنهم.
_________
(1) لم يذكر المؤلف هذا المبحث في هذه النسخة، وانظر الأخرى (ص 50 وما بعدها).

(5 ب/65)


[ص 18] الأحاديث الواردة في النهي عن البناء على القبر
وما في معناه
1 – في “صحيح مسلم” (1) عن جابر رضي الله عنه قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُجَصَّص القبر، وأن يُبنى عليه، وأن يُقعد عليه”.
وفي رواية له (2): “نهى عن تقصيص القبور”.
وأخرجه غير مسلم: الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان (3)، والحاكم في “المستدرك” (4)، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي. وسيأتي إن شاء الله الإشارة إلى بعض الألفاظ المختلفة في الروايات.
2 – أخرج ابن ماجه (5) بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُبْنى على القبر”.
وأخرجه أبو يعلى (6) بسندٍ رجاله ثقات، كما في “مجمع الزوائد”.
_________
(1) رقم (970).
(2) (970/ 95).
(3) أحمد رقم (14647)، وأبو داود (3225)، والترمذي (1052)، والنسائي (2028)، وابن حبان رقم (3162 – 3165).
(4) (1/ 370).
(5) رقم (1564).
(6) رقم (1016 ــ ط الأثري).

(5 ب/66)


قال في “المجمع” (1): وعن أبي سعيد قال: “نهى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبنى على القبور، أو يُقْعَد عليها، أو يصلى عليها”.
قلت (الهيثمي): روى (2) ابن ماجه: النهي عن البناء عليها فقط.
3 – [ص 19] أخرج الإمام أحمد (3) بسندٍ فيه ابن لهيعة عن أم سلمة قالت: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبور، أو تقصَّص”.
زاد في رواية مرسلة: “أو يجلس عليه” (4).
[19 ب] لمجيزي البناء ثلاث طرق في التفصّي من هذه الأحاديث:
الأولى: الطعن في أسانيدها.
الثانية: إنكار دلالتها على المقصود.
الثالثة: المعارضة.
[20 أ] قالوا: أما الحديث الأول فهو من رواية أبي الزبير عن جابر (5).
* * * *
_________
(1) (3/ 61).
(2) الأصل: “رواه” سهو.
(3) رقم (26556).
(4) رقم (26557).
(5) من قوله: “الأحاديث الواردة في النهي … ” إلى هنا كتبه المؤلف في أوائل الرسالة (ق 18 – 19). ثم استطرد في موضوعات الرسالة، فناسب نقل هذا الموضع إلى هنا ليكون الكلام متصلًا مع باقي الموضوعات.

(5 ب/67)


حديث جابر
رواه عنه أبو الزبير محمد بن مسلم بن تَدْرُس، وسليمان بن موسى الأموي الأشدق، وها نحن نذكر ما وقفنا عليه من الروايات.
• [ص 76] الإمام الهمام أحمد بن حنبل “مسند” (1) (جزء 3/ص 339): ثنا حجاج ثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يَقْعد الرجلُ على القبر، أو يُقْصّص، أو يُبْنى عليه”.
الحديث مسلسل بالتصريح بالسماع، كما ترى.
• النسائي في “سننه” (2): أخبرنا يوسف بن سعيد حدثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تقصيص القبور، أو يُبنى عليها، أو يُجلس عليها”.
يوسف: قال عنه النسائي: ثقة حافظ. وقال ابن أبي حاتم: صدوق ثقة. (خلاصة وحواشيها).
وحجاج: غير مدلس، فلا يضر عنعنته، وأما باقي السند، فمصرحٌ بالسماع كما ترى.
• [ص 77] البيهقي في “سننه” (3): أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله
_________
(1) رقم (14647).
(2) رقم (2028).
(3) (4/ 4).

(5 ب/68)


الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن إسحاق الصّغاني ثنا حجاج يعني: ابن محمد، قال: قال ابن جُريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: “سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يقعد الرجل على القبر، أو يُقَصّص، أو يُبْنى عليه”.
“أبو عبد الله”: هو الحاكم.
“أبو العباس … ثنا … الصّغاني” صحح لهما الحاكم في “مستدركه”، وأقره الذهبي.
“حجاج … قال ابن جريج” حجاج غير مدلس، فقوله: “قال” محمولٌ على السماع، مع أنه ثبت عنه أنه لا يقول: “قال ابن جريج” إلا في السماع.
قال النواوي في “تقريبه” (1)، [ص 78] في النوع الرابع والعشرين ما لفظه ممزوجًا بشرحه للسيوطي: ” (وأوضح العبارات: قال، أو ذكر، من غير لي أو لنا، وهو) مع ذلك (أيضًا محمولٌ على السماع إذا عُرِف اللقاء) وسلم من التدليس، (على ما تقدم في نوع المعضل) في الكلام على العنعنة (لاسيما إن عُرِف) من حاله (أنه لا يقول: قال، إلا فيما سمعه منه) كحجاج بن محمد الأعور، روى كتب ابن جريج عنه بلفظة: “قال ابن جريج”، فحملها الناس عنه، واحتجوا بها” ا? .
مع أنه صحَّ عنه التصريح، كما مر في “مسند الإمام أحمد”.
• [ص 79] مسلم في “صحيحه” (2): وحدثني هارون بن عبد الله ثنا
_________
(1) (1/ 422 – 423 مع تدريب الراوي للسيوطي).
(2) رقم (970).

(5 ب/69)


حجاج بن محمد، ح، وحدثني محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق جميعًا عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: “سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول … ” بمثله.
أي بمثل الحديث قبله، وسيأتي، ولفظه: قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُجَصَّص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه”.
هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع: ثقتان، لا مَطْعن فيهما.
وعبد الرزاق: قيل: فيه شيءٌ من تشيُّعٍ كان فيه، ومن خللٍ في ضبطه بعد عماه.
فأما التشيع؛ فكان خفيفًا، حتى صحَّ عنه تفضيل الشيخين على علي رضي الله عنهم، وصح عنه أنه قال: “الرافضي كافر”. ومع ذلك فليس هذا الحديث مما يتعلق بالتشيع.
وأما ما طرأ على ضبطه بعد عماه، فلا يضر في هذا الحديث؛ لأن محمد بن رافع ليس ممن سمع منه بعد عماه.
[ص 80] ثم إن حجَّاجًا وعبد الرزاق غير مدلسين، فلا يضرّ قوله: “عن ابن جريج”، مع أنه قد صحَّ عن حجاج التصريح بالتحديث، كما مر في سند “المسند”. وصحَّ عن عبد الرزاق أيضًا، كما في سند “المسند” الآتي عقب هذا. وقد أطلقوا أن ما في الصحيح من عنعنة المدلسين محمولٌ على السماع، كما سيأتي، وتأتي المناقشة فيه إن شاء الله.
وبقية السند مصرح فيه بالسماع، كما ترى.

(5 ب/70)


• الإمام أحمد في “مسنده” (1) (جزء 3/ص 295): ثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: “سمعتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يُقْعَد على القبر، وأن يُقَصص، وأن يُبْنى عليه”.
جميع السند مصرح فيه بالسماع، كما ترى.
• [ص 81] أبو داود في “سننه” (2): حدثنا أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق أنا ابن جريج … إلخ بالسند والمتن الذي قبله.
• الحاكم في “المستدرك” (3): حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد العنزي ثنا محمد بن عبد الرحمن الشامي ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو معاوية عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تجصيص القبور، والكتابة فيها، والبناء عليها، والجلوس عليها”.
أقره الذهبي على تصحيحه، وفيه عنعنة ابن جريج وأبي الزبير، وقد صحّ عن كل منهما التصريح بالسماع، ولكن في هذه الرواية زيادة “النهي عن الكتابة” (4).
_________
(1) رقم (14148).
(2) رقم (3225).
(3) (1/ 370).
(4) وانظر تعليق الحاكم على هذا الحديث، وردّ الذهبي عليه، ومناقشة ابن حجر الهيتمي والمؤلف له ما سبق في (المُبيّضة) (ص 113).

(5 ب/71)


• [ص 82] الطحاوي في “شرح معاني الآثار” (1): حدثنا ربيع المؤذِّن قال: ثنا أسد قال ثنا محمد بن خازم عن ابن جُريج عن أبي الزبير عن جابر قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تجصيص القبور، والكتابة عليها، والجلوس عليها، والبناء عليها”.
• [ص 83] الترمذي في “سننه” (2): حدثنا عبد الرحمن بن الأسود أبو عمرو البصري حدثنا محمد بن ربيعة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: “نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تُجَصَّص القبور، وأن يُكتب عليها، وأن يُبنى عليها، وأن توطأ”.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجهٍ عن جابر.
أقول: عبد الرحمن بن الأسود … (3).
ومحمد بن ربيعة وثقه ابن معين وأبو داود والدارقطني، ذكره في “الخلاصة” (4) ولم يوصف بتدليس، فلا تضر عنعنته.
_________
(1) (1/ 515).
(2) رقم (1052).
(3) بيَّض له المؤلف مقدار ثلاثة أسطر. وله ترجمة في “تهذيب الكمال”: (4/ 371)، و”تهذيب التهذيب”: (6/ 140) وذكرا جماعة ممن روى عنهم، قالوا: وعنه الترمذي والنسائي وابن جرير الطبري، وذكرا عدة. (ت بعد 240). ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا. وقال البزار (الكشف 511): كان من أفاضل الناس. وقال ابن حجر في “التقريب”: مقبول.
(4) (2/ 402).

(5 ب/72)


وأما عنعنة ابن جريج وأبي الزبير فقد صحَّ عن كلٍّ منهما التصريح بالسماع كما تقدم، لكن في هذه الرواية زيادة النهي عن الكتاب والتعبير بالوطء مكان الجلوس.
• [ص 84] “صحيح مسلم” (1): حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ثنا حفص بن غِياث عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُجصَّص القبر، وأن يُقعَد عليه، وأن يُبنى عليه”.
أبو بكر إمام، وحفص ثقة، إلا أنه ساء حفظه بعدما اسْتُقْضي، فإذا حدث من كتابه فهو حجة، لكنهم قالوا: إن صاحب الصحيح لا يروي عن مثل هذا إلا ما علم أنه حدَّث به عن كتابه، وسيأتي البحث في هذا إن شاء الله (2).
وعنعنة ابن جريج وأبي الزبير محمولةٌ على السماع، لصحة التصريح عنهما بالتحديث كما مر، مع ما ذكروا من أن كلّ ما في الصحيح من العنعنة عن المدلسين محمولةٌ على السماع، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى (3).
• [ص 85] الحاكم في “المستدرك” (4): حدثنا أبو سعيد أحمد بن يعقوب الثقفي ثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي ثنا سَلْم بن جُنادة بن سَلْم القرشي ثنا حفص بن غِياث النَّخَعي ثنا ابن جُريج عن
_________
(1) رقم (970).
(2) لم يأت شيء.
(3) تقدم شيءٌ من ذلك (ص 36 – 37).
(4) (1/ 370).

(5 ب/73)


أبي الزبير عن جابر قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبر، أو يُجَصّص، أو يُقعد عليه، ونهى أن يُكتب عليه”.
صححه على شرط مسلم، وأقره الذهبي.
قال الحاكم: وقد خرجته بإسناده “غير الكتابة”، فإنها لفظة صحيحة غريبة.
أقول: قد تقدم حال حفص، والعنعنة، لكن في هذه الرواية زيادة النهي عن الكتابة، ولا يقال: لعلها من رواية حفص بعد ما اسْتُقضي من حفظه، إذ قد تابعه في روايتها عن ابن جريج أبو معاوية عند الحاكم، ومحمد بن ربيعة عند الترمذي، ومحمد بن خازم (1) عند الطحاوي.
• [ص 87] (2) الطحاوي في “شرح معاني الآثار” (3): حدثنا أحمد بن داود قال: ثنا مسدد قال: ثنا حفص عن ابن جريج، فذكره بإسناده مثله.
أقول: يعني مثل (4) الحديث الذي قبله، وقد تقدم ولفظه: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تجصيص القبور، والكتابة عليها، والجلوس عليها، والبناء عليها”.
• [ص 88] “صحيح مسلم” (5): وحدثنا يحيى بن يحيى أنا إسماعيل بن
_________
(1) محمد بن خازم عند الطحاوي هو نفسه أبو معاوية عند الحاكم، وإنما اشتبه على المؤلف لأنه جاء في سند الطحاوي “ابن حازم” مصحفة بالحاء المهملة، والله أعلم.
(2) ترك المؤلف (ق 86) بياضًا.
(3) (1/ 516).
(4) الأصل: “مثله” سهو.
(5) رقم (970/ 95).

(5 ب/74)


عُلَية عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: “نُهِي عن تقصيص القبور”.
فيه عنعنة أبي الزبير، قال الذهبي في “الميزان” (1): “وفي “صحيح مسلم” عدة أحاديث فيما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع عن جابر، ولا هي من طريق الليث، ففي القلب منها، فمن ذلك … وحديث النهي عن تجصيص القبور، وغير ذلك” ا? .
أقول: كذا في النسخة “عن تجصيص” بالجيم، وإنما هو “تقصيص” بالقاف، فإنه هكذا في “صحيح مسلم”، وإن رواه غيره بالجيم، كما سيأتي، والمعنى واحد، ولكن ربما يتوهم أن مراد الذهبي بحديث النهي عن تجصيص القبور الحديث الذي فيه النهي بهذا اللفظ، وهو الحديث المطول الذي مرّ، وليس كذلك؛ لأن الحديث المطوَّل قد صرَّح فيه بالسماع، كما تقدم.
[ص 89] والجواب عما قاله الذهبي: أنه يبعد جدًّا أن يدلس أبو الزبير حديث النهي عن التقصيص، أو التجصيص، وهو مسموعٌ له في ضمن الحديث الطويل، وأي حاجة تدعوه إلى التدليس؟
والذي يظهر لي: أنه عرض لأبي الزبير ما يخص تقصيص القبور فقط دون البناء والجلوس والوطء والكتابة والزيادة، كأن سئل عن تقصيص القبور، أو رأى قبرًا مقصصًا، أو ذكر له ذلك، فاحتاج أن يستدل على النهي عن تقصيص القبور، وأراد الاختصار، أو كان المقام ضيقًا، أو نحو ذلك. فاختصر الحديث اقتصارًا على موضع الحاجة.
_________
(1) (5/ 164).

(5 ب/75)


[ص 90] وسيأتي في رواية النسائي وابن ماجه التصريح بأن الناهي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو واضحٌ وإن لم يصرح به؛ لأن جابرًا لم يكن يخبر بنهي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع سماعه النهي منه صلى الله عليه وآله وسلم. وفوقَ ذلك، فقول الصحابي: “نُهينا عن كذا” بدون ذكر الناهي، مرفوعٌ على الصحيح.
ثم قول الذهبي: “ففي القلب منها” يدل أنه لا يوافق الجمهور على أن كل ما في الصحيح من العنعنة عن المدلسين محمولٌ على السماع، وفيه بحث ليس هذا موضعه؛ لأن محل الخلاف إذا كان في الأحاديث الأصول لا المتابعات.
قال في “فتح المغيث” (1) (ص 77) طبع الهند: “ولكن هو ــ كما قال ابن الصلاح وتبعه النووي وغيره ــ محمولٌ على ثبوت السماع عنده فيه من طرق أخرى، إذا كان في أحاديث الأصول لا المتابعات … ” إلخ.
[ص 91] (2) وحديث مسلم المعنعن ليس من أحاديث الأصول، بل هو متابعة لحديثه المصرّح فيه بالسماع، وقد تقدم.
• [ص 92] النسائي في “سننه” (3): أخبرنا عمران بن موسى قال: حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تجصيص القبور”.
_________
(1) (1/ 218 ــ ط الجامعة السلفية).
(2) ترك المؤلف بقية (ق 91 أ -91 ب) فارغًا.
(3) رقم (2029).

(5 ب/76)


عمران: ثقة. وعبد الوارث: إمام، روى له الجماعة، وفي العنعنة ما تقدم.
• ابن ماجه (1): حدثنا أزهر بن مروان ومحمد بن زياد قالا: ثنا عبد الوارث عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تقصيص القبور”.
أزهر: صدوق. ومحمد بن زياد: ثقة من رجال البخاري.
• [ص 94] (2) أبو داود في “سننه” (3): حدثنا مسدّد وعثمان بن أبي شيبة قالا ثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، وعن أبي الزبير عن جابر بهذا الحديث: “سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يقعد على القبر، وأن يقصص، وأن يبنى عليه”.
قال أبو داود: وقال عثمان: “أو يزاد عليه”، وزاد سليمان بن موسى: “أو يكتب عليه”، ولم يذكر مسدَّد في حديثه: “أو يزاد عليه”.
قال أبو داود: وخفي عَليَّ من حديث مسدد حرف “وأن”.
لم ينفرد حفص بذكر سليمان بن موسى، كما سيأتي.
وفي الحديث عنعنة ابن جريج، وقد يقال: إنها غير ضارة هنا؛ لأنه قد صحَّ سماعه من أبي الزبير لهذا الحديث كما مر، فعنعنته هنا محمولةٌ على السماع، ولما قرن سليمان بن موسى مع أبي الزبير، دل على أنه مثله في
_________
(1) رقم (1562).
(2) ترك المؤلف (ق 93) فارغة.
(3) رقم (3226).

(5 ب/77)


ذلك، أي: أنه سمعه منه.
وفي هذا نظر؛ لأن الحديث الذي صرَّح بسماعه ليس فيه هذه الزيادة: “أو يزاد عليه” الثابتة في رواية عثمان، [ص 95] فلعله سمع من أبي الزبير الحديث بغير الزيادة، وسمع ممن سمع منه الحديث بالزيادة.
على أنه لو فُرِض تسليم سماعه الحديث بالزيادة من أبي الزبير، لم يلزم في قرن سليمان به كونه سمعه منه أيضًا.
وفيه أيضًا: عنعنة أبي الزبير عن جابر، ولا ينفعه تصريحه بالسماع كما مر؛ لأن في هذا زيادة، فلعله دلَّسه لموضع الزيادة.
وفيه أيضًا: سليمان بن موسى عن جابر، وقد قال ابن معين: سليمان بن موسى عن جابر مرسل.
لكن في هذا بحث سيأتي إن شاء الله (1). وكذا في سليمان مقال، سيأتي تحقيقه إن شاء الله (2).
• [ص 96] البيهقي (3): أخبرنا أبو علي الروذباري أبنا محمد بن بكر (4) ثنا أبو داود ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، وعن أبي الزبير عن جابر بهذا الحديث: “سمعت رسول
_________
(1) (ص 90 – 91).
(2) (ص 88).
(3) “الكبرى”: (4/ 4).
(4) رسمها في الأصل: “بكير” وصوابه “بكر” وهو أبو بكر محمد بن بكر بن داسة راوي السنن عن أبي داود. انظر “السير”: (15/ 538).

(5 ب/78)


الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يقعد الرجل على القبر، أو يقصص، أو يبنى عليه”.
زاد: “أو يزاد عليه”، وزاد سليمان بن موسى: “أو أن يكتب عليه”.
أقول: هو الذي قبله.
• النسائي (1): أخبرنا هارون بن إسحاق حدثنا حفص عن ابن جريج عن سليمان بن موسى وأبي الزبير عن جابر قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبنى على القبر، أو يزاد عليه، أو يجصص”.
زاد سليمان بن موسى: “أو يكتب عليه”.
رواته ثقات، وفيه ما تعلم مما تقدم.
• [ص 97] الإمام أحمد في “مسنده” (2) (جزء 3/ص 295): حدثنا محمد بن بكر ثنا ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى قال: قال جابر: “سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى أن يُقْعد على القبر، وأن يُجَصص، وأن يُبنى عليه”.
فيه تدليس ابن جريج بقوله: “قال سليمان”. و”قال” من صِيَغ التدليس.
وفيه ما تقدم من قول ابن معين: إن سليمان بن موسى عن جابر مرسل. أي منقطع.
وفيه تكرير لفظ “قال”، فـ”قال” التي عَقِب لفظ “ابن جريج” مُسْنَدة
_________
(1) رقم (2027).
(2) رقم (14144).

(5 ب/79)


لضمير ابن جريج، والتي تليها لسليمان بن موسى، ثم ذكر بعد سليمان بن موسى “قال: قال جابر” فالأخيرة مجاز، ويبقى التي قبلها.
والظاهر أنها مسندة لضمير لم يُذْكَر مرجعه في الحديث، ولعله كان قد تقدم ذكره في كلام سليمان أو غيره بحضرته، كأنْ يقال له: هل سمعت عطاء ــ مثلًا ــ يحدث عن جابر في البناء على القبر؟ فيقول: قال ــ يعنى عطاء ــ قال جابر. فجاء ابن جريج فقال: “قال سليمان: قال: قال جابر”. [ص 98] وصَدَق أنه قال سليمان: “قال: قال جابر”.
ولكن عندما قال سليمان ذلك كان معلومًا مرجع الضمير لـ”قال” الأولى، وفي حديث ابن جريج صار مجهولًا، فلو صح سماع سليمان من جابر، لم ينفع في هذا الحديث، فهو على كل حال منقطع، أو فيه من لم يُسَمَّ، على الخلاف في تسمية مثله.
ويجاب عن هذا: بأنه بعيد، والظاهر أن “قال” الثالثة تأكيدٌ للثانية، وهذا أولى مما ذكر، ومن احتمال كون الرابعة من زيادة النسَّاخ. وأما قاعدة “التأسيس أولى من التأكيد” فخاصّةٌ بما إذا لم يكن إرادة التأسيس أبعد، والتأكيد أقرب.
• [ص 99] ابن ماجه (1): حدثنا عبد الله بن سعيد ثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُكْتَب على القبر شيءٌ”.
* * * *
_________
(1) رقم (1563).

(5 ب/80)


[ص 100] تحقيق حال أبي الزبير (1)
أما تدليسه فثابت، وقد مرَّ الكلام عليه عقب الروايات (2)، وقد زال المحذور بصحة التصريح بالسماع، كما مرّ.
وأما ما فيه من المقال:
فقال الشافعي: يحتاج إلى دِعامة.
وقال أبو زرعة وأبو حاتم: لا يحتج به.
وأشد الناس عليه شعبة سَيّد المتعنّتين، سئل: لم تركت حديث أبي الزبير؟ قال: رأيته يَزِنُ، ويسترجح في الميزان.
وروي عنه أنه قال: لا يحسن أن يصلي.
وقال: بينا أنا جالسٌ عنده إذ جاء رجلٌ، فسأله عن مسألة، فرد عليه، فافترى عليه، فقلت له: يا أبا الزبير، أتفتري على رجل مسلم؟ قال: إنه أغضبني. قلت: ومن يغضبك تفتري عليه؟ لا حدثت عنك أبدًا.
ووثقه الجمهور، كما سيأتي ذِكْر بعضهم.
وكلمة الشافعي إن لم تكن من أدنى مراتب التعديل، فهي من أخفِّ مراتب الجرح.
وكلمة أبي زرعة وأبي حاتم؛ من المرتبة التي تلي أخف مراتب الجرح.
_________
(1) انظر ترجمته في “تهذيب الكمال”: (6/ 503)، و”تهذيب التهذيب”: (9/ 440)، و”إكمال تهذيب الكمال”: (10/ 336)، و”ميزان الاعتدال”: (5/ 162).
(2) انظر (ص 75 – 76).

(5 ب/81)


ومن قيل فيه ذلك، فحديثه صالحٌ للاعتبار، فإن انضم إليه مثله كان الحديث حسنًا. [ص 101] انظر “فتح المغيث” (1) (ص 24).
هذا لو فُرِض أنه لم يوثِّق أبا الزبير أحدٌ، فأما إذا وُثِّق ــ وهو الواقع ــ تعين الترجيح.
أما قول شعبة: “رأيته يزن ويسترجح في الميزان” فذلك وإن كان ينافي كمال المروءة، فليس بجرح.
قال ابن حبان (2): ومن استرجح في الوزن لنفسه، لم يستحق الترك.
وأما كلمته الثانية فلم تصح؛ لأنها من رواية سويد بن عبد العزيز، وهو ضعيف.
وأما قصته الثالثة؛ فالافتراء حقيقته مطلق الكذب، وظاهر السياق أنه سبَّه، والافتراء إذا أُطلق في حكاية السبّ، فالظاهر أنه أُرِيد به القذف.
وجوابه:
1 – أن الافتراء ليس نصًّا في القذف، فقد يُراد به مطلق السب، ولاسيما إذا كان شنيع اللفظ، كالإعضاض.
[ص 102] فعليه، فقد يكون السائل أساء الأدب، فأعضَّه أبو الزبير، وقد جاء في الحديث: “من تعزَّى بعزاء الجاهلية، فأعِضُّوه بِهَنِ أبيه، ولا تكنوا” (3).
_________
(1) (1/ 83).
(2) في “الثقات”: (5/ 352).
(3) أخرجه أحمد رقم (21218)، والنسائي في “الكبرى” رقم (8813)، والبخاري في “الأدب المفرد” رقم (1000)، وابن حبان رقم (3153)، وغيرهم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. وانظر “السلسلة الصحيحة” (269).

(5 ب/82)


2 – وعلى تسليم أن شعبة أراد بها القذف، فلم يبين لفظ أبي الزبير، فيحتمل أنه قال كلمة يراها شعبة قذفًا، وغيره لا يوافقه، ولهذا قال الفقهاء: إذا قال الشاهد: أشهد أن فلانًا قذف فلانًا؛ لم يقبل حتى يفسّر.
ولا يَرِدُ على هذا قول شعبة: فقلت له: أتفتري .. إلخ.
وسكوت أبي الزبير عن نفي ذلك؛ لأن شعبة قد يكون إنما قال له: أتقول هذا لرجل مسلم؟ ثم أخبر شعبة عن ذلك بالمعنى على رأيه. أو يكون أبو الزبير ترك نفي ذلك؛ لأنه على كل حال قد جرى منه شيءٌ غير لائق، فرأى الأولى المبادرة إلى الاعتذار، بأنها كلمة سبقت على لسانه لشدة الغضب.
3 – وعلى تسليم أنه قذفه قذفًا صريحًا، فقد يكون أبو الزبير مطلعًا على أن ذلك هو الواقع، وسكت عن ذكر ذلك لشعبة؛ لأنه على كل حال مما لا يليق، وإنما سبق أولًا على لسانه لشدة الغضب، ورأى أن هذا العذر كافٍ.
ويُسْتأنس لما ذُكِر أنه لو كان القذف صريحًا، والمقذوف سالمًا لذهب فشكاه إلى الوالي، والحدود يومئذٍ قائمة.
4 – وعلى كل حال، فقد أجاب أبو الزبير عن نفسه [ص 103] بقوله: “إنه أغضبني”. أي: فلشدة الغضب جرت على لسانه ــ وهو لا يشعر ــ كلمة مما اعتاد الناسُ النطقَ به.

(5 ب/83)


وقد جاء في الحديث: “لا طلاق في إغلاق” (1). وفُسِّر الإغلاق: بالغضب.
وقال الله عزَّ وجلّ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225].
5 – قال الذهبي في “الميزان” (2)، في ترجمة ابن المديني: “ثم ما كل من فيه بدعة، أو له هفوة، أو ذنوب تقدح فيه بما يوهن حديثه، ولا من شَرْط الثقة أن يكون معصومًا من الخطايا والخطأ”.
وفي “إرشاد الفحول” (3) للشوكاني (ص 49): “قال ابن القشيري: والذي صحَّ عن الشافعي أنه قال: في الناس من يمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية، و [لأن] (4) في المسلمين من يمحض المعصية ولا يمزجها بالطاعة، فلا سبيل إلى ردِّ الكل، ولا إلى قبول الكل، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة، قُبِلت شهادته وروايته، وإن كان الأغلب المعصية، وخلاف المروءة رددتهما (5) ” ا? .
وفيه من جملة كلام عن الرازي: “والضابط فيه: أن كل ما لا يؤمن
_________
(1) أخرجه أحمد رقم (26360)، وأبو داود رقم (2193)، وابن ماجه رقم (2046)، والحاكم: (2/ 198)، والبيهقي: (7/ 357). وصححه الحاكم على شرط مسلم، وتعقبه الذهبي بأن فيه محمد بن عبيد ضعّفه أبو حاتم ولم يحتج به مسلم. وانظر “الإرواء” (2047).
(2) (4/ 61).
(3) (1/ 264 ــ ط دار الفضيلة).
(4) زيادة من الطبعة المحققة.
(5) الأصل: “رددتها” والمثبت من المحققة.

(5 ب/84)


مِن (1) جراءته على الكذب، تردّ الرواية، وما لا، فلا”.
وفيه: قال الجويني: “الثقة هي المعتمد عليها في الخبر، فمتى حصلت الثقة بالخبر قُبِل”.
[ص 104] أقول: وهذا هو المعقول، وعليه عمل الأئمة الفحول، فإن الحكمة في اشتراط العدالة في الراوي هي كونها مانعة له عن الكذب، فيقوى الظن بصدقه، فإذا جرت منه هفوة لا تخدش قوة الظن بصدقه، لم تخدش في قبول روايته.
ومن هنا رجَّح الأئمة رواية الخوارج على رواية الشيعة؛ لأن الخوارج يعتقدون أن مطلق الكذب كفر، فضلًا عن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما الشيعة فيتدينون بالكذب (التقية) حتى جوزوها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل على الله عزَّ وجلّ؛ لتأويلهم الآيات الواردة في مدح بعض الصحابة على خلاف ظاهرها، قائلين: إنما جعل الله تعالى ظاهرها الثناء استدراجًا لأولئك القوم، ليقوموا بنصر الدين، ويكفُّوا ضررهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته … (2).
والذي يهمنا أن تلك الكلمة التي سبقت على لسان أبي الزبير بدون شعوره؛ لشدة غضبه، لا ينبغي أن نهدر بها مئات الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، [ص 105] مع التحقق بكمال صدقه، وحفظه وضبطه، وتحرِّيه وإتقانه.
_________
(1) في المحققة: “معه”.
(2) كلمتان لم أتمكن من قراءتهما ورسمهما: “والسوط مطين”.

(5 ب/85)


6 – والظاهر من حاله، وما ثبت لدى جمهور الأئمة من عدالته، أنه تاب عنها في الوقت.
ويلوح لي أن بعض أعدائه ــ بل أعداء الدين ــ دسّوا إليه ذلك السائل ليرصده، حتى إذا كان شعبة عنده، جاء فأغضبه؛ ابتغاء أن تسبق على لسانه كلمة، فينقمها شعبة عليه، وقد كان ما ظنوه.
ولكن حيلتهم لم تطفئ نور الله الذي بصدر أبي الزبير، فاعتمده جمهور الأئمة الأعلام، واحتجوا به.
الأئمة الموثقون له
“الميزان” (1):
ابن المديني: ثقة ثبت.
ابن عون: ليس أبو الزبير بدون عطاء بن أبي رباح.
يعلى بن عطاء: كان أكمل الناس عقلًا وأحفظهم.
عطاء: كنا نكون عند جابر، فيحدثنا، فإذا خرجنا تذاكرنا، فكان أبو الزبير أحفظنا.
ابن معين والنسائي وغيرهما: ثقة.
ابن عدي: هو في نفسه ثقة، إلا أنه يروي عنه بعض الضعفاء، فيكون الضعف من جهتهم.
_________
(1) (5/ 162).

(5 ب/86)


[ص 106] عثمان الدارمي: قلت ليحيى (بن معين) فأبو الزبير؟ قال: ثقة. قلت: محمد بن المنكدر أحب إليك، أو أبو الزبير؟ فقال: كلاهما ثقتان.
وممن وثقه أيضًا الإمام مالك، فإنه روى عنه، وهو لا يروي إلا عن ثقة. والإمام أحمد، والساجي، وابن سعد، وابن حبان.
وقال الذهبي: هو من أئمة العلم، اعتمده مسلم، وروى له البخاري متابعة.
والظاهر أن الموثِّقين اطلعوا على قصة شعبة، واطلعوا على ما يدفع ما فيها من الإيهام، أو حملوها على بعض ما قدمنا، أو غير ذلك.
ولاسيما ومنهم ابن معين، والنسائي، وابن حبان، وحسبك بهم تعنُّتًا في الرجال، كيف ومعهم بضعة عشر إمامًا.
وسيظن ظانون أنه ما حدانا إلى الدفاع عن أبي الزبير إلا حرصنا على صحة حديثه هذا، فليعلموا أن الحجة قائمة بدونه مما مضى، وما سيأتي. [ص 107] وأن أبا الزبير لم تكن روايته قاصرة على هذا الحديث، فإن له أحاديث كثيرة، ربما يكون منها ما لا يوافق هوانا، ورغبة نفوسنا. وما دافعنا عنه إلا ونحن مستشعرون لذلك، ولكن نظرنا في حقيقة الحال، ففهمنا أن الرجل حجة، سواءً أكان لنا أم علينا، وكل من نظر بعين الإنصاف تحقق ما قلناه. والله الموفق، لا رب غيره.
* * * *

(5 ب/87)


[ص 108] تحقيق حال سليمان بن موسى (1)
قال البخاري: عنده مناكير.
النسائي: ليس بالقوي.
أبو حاتم: محله الصدق، وفي حديثه بعض الاضطراب.
أما عبارة البخاري؛ فهو وإن قال: “كل من قلت فيه: منكر الحديث، لا يحتج به”، وفي لفظ: “لا تحل الرواية عنه” ا? “فتح المغيث” (2) (ص 163) = ففرقٌ بين “منكر الحديث” و “عنده مناكير”.
قال ابن دقيق العيد في “شرح الإلمام”: “قولهم: “روى مناكير” لا يقتضي بمجرَّده ترك روايته، حتى تكثر المناكير في روايته، وينتهي إلى أن يقال فيه: “منكر الحديث”؛ لأن “منكر الحديث” وصفٌ في الرجل يستحق به الترك لحديثه. والعبارة الأخرى لا تقتضي الديمومة، كيف وقد قال أحمد بن حنبل في محمد بن إبراهيم التيمي: “يروي أحاديث منكرة”، وهو ممن اتفق عليه الشيخان، وإليه المرجع في حديث “الأعمال بالنيّات” ا?. “فتح المغيث” (3) (ص 163).
أقول: وإنما يُجْرَح بالمناكير إذا كان الرواة عن الرجل ثقات أثبات (4)،
_________
(1) له ترجمة في “تهذيب الكمال”: (3/ 304)، و”تهذيب التهذيب”: (4/ 226)، و”إكمال تهذيب الكمال”: (6/ 99)، و”الميزان”: (2/ 415).
(2) (2/ 125).
(3) (2/ 126).
(4) كذا، والوجه: “أثباتًا”.

(5 ب/88)


يبعد نسبة الغلط إليهم، وكذا مشايخه ومن قبلهم، ثم كثر ذلك في روايته، ولم يكن له من الجلالة والإمامة ما يقوِّي تفرُّده.
وهم قد يطلقون هذه الكلمة إذا كانت تلك الأفراد مما رُوِيت عنه، وإن لم يتحقق أن النكارة من قبله، ويطلقونها إذا كان عنده ثلاثة أحاديث فأكثر. انظر كتب المصطلح.
وقد سَرَد في “الميزان” (1) ما له من الغرائب، وهي يسيرة، وبيَّن أنه توبع في بعضها، ثم قال: “كان سليمان فقيه أهل الشام في وقته قبل الأوزاعي، وهذه الغرائب التي تُسْتنكر له يجوز [ص 109] أن يكون حفظها” ا? .
قلت: وبعض الغرائب من رواية ابن جريج عنه بالعنعنة، وابن جُرَيج مدلّس، فربما كانت النكارة من قبل شيخٍ لابن جريج، دلَّس له عن سليمان.
وعلى نحو ذلك تُحْمَل كلمة أبي حاتم، مع أن قوله: “بعض الاضطراب” يُشْعِر بقلته جدًّا، لاسيما مع قرنه له بقوله: “محله الصدق”.
أما كلمة النسائي؛ فتوهينٌ يسيرٌ، غير مفسَّر.
وأبو حاتم والنسائي من المتعنتين في الرجال.
الموثقون
سعيد بن عبد العزيز: لو قيل: من أفضل الناس؟ لأخذت بيد سليمان ابن موسى.
ابن عدي: تفرَّد بأحاديث، وهو عندي ثبتٌ صدوق.
_________
(1) (2/ 415).

(5 ب/89)


يحيى بن معين: سليمان بن موسى عن الزهري، ثقة.
دُحيم: كان مقدَّمًا على أصحاب مكحول.
[ص 110] ومع هذا كله، فليس الحديث الذي نحن بصدده من أفراده، ولكن أردنا تحقيق حال الرجل من حيث هو، كما فعلنا في شأن أبي الزبير.
بقي البحث في سماعه من جابر:
في “تهذيب التهذيب” (1): أرسل عن جابر، وفيه: وقال ابن معين: سليمان بن موسى عن مالك بن يُخَامر، وعن جابر مرسل. ا? .
ولم يذكر ما يخالف ذلك، لكن رأيت في “مسند الإمام أحمد” (2) (جزء 3/ص 295): ثنا عبد الرزاق أنا ابن جريج قال سليمان بن موسى: أنا جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لا يقيم أحدُكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالفه إلى مقعده، ولكن ليقل: افسحوا”.
ثنا محمد بن بكر أنا ابن جريج أخبرني سليمان بن موسى قال أخبرني جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لا يقيم أحدُكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالفه إلى مقعده، ولكن ليقل: افسحوا”.ا? .
[ص 111] فقول سليمان في السند الأول: “أنا جابر” صريحٌ في سماعه من جابر، لكن فيه عنعنة ابن جريج.
وأما السند الثاني؛ محمد بن بكر وابن جريج على شرط الشيخين، وقد
_________
(1) (4/ 227).
(2) رقم (14143، 14144).

(5 ب/90)


صرَّح كلٌّ منهما بالسماع، بحيث انتفى احتمال التدليس، وصرح سليمان بقوله: “أخبرني جابر”، ويبعد كلَّ البعد أن يكون ههنا سهو من النسَّاخ في السندين المتتابعين معًا، فلم يبق إلا أحد احتمالين:
إما أن يكون صَدَق في أن جابرًا أخبره، وإما أن يكون كذب.
وقد ثبت أن الرجل صدوق، وهو أعلم بنفسه من ابن معين وغيره. ولم ندرِ علامَ بنى ابنُ معينٍ حكمَه، فتمسَّكْنا بما صح من سماع سليمان عن جابر، وقد أدرك من حياة جابر مدةً طويلة.
هذا، مع علمنا بأن ثبوت سماعه من جابر لا يفيد صحة حديثه في شأن القبور [ص 112] ما دامت عنعنة ابن جريج قاطعة الطريق، إلا أن توجد رواية مصرحة بسماع ابن جريج منه لهذا الحديث.
فأما تصريح سليمان بالسماع، فلا ضرورة إليه، إذ قد صحّ سماعُه من جابر، وليس بمدلّس.
على أن مجرد إمكان لقيه لجابر كافٍ في حمل عنعنته على السماع، على ما اختاره مسلم، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى، في تحقيق حال القاسم بن مخيمرة (1).
_________
(1) (ص 94 وما بعدها).

(5 ب/91)


حديث أبي سعيد الخدري
• ابن ماجه في “سننه” (1): حدثنا محمد بن يحيى ثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الرقاشي ثنا (وهب، وفي نسخة ــ وهو الصحيح ــ) وُهيب (بن خالد الباهلي) ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن القاسم بن مُخَيمرة عن أبي سعيد: “أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يُبنى على القبر”.
الإسناد صحيح، وإنما النظر في سماع القاسم من أبي سعيد، وسيأتي.
• [ص 113] “مسند أبي يعلى” (2): حدثنا العباس بن الوليد النرسي نا وهيب نا عبد الرحمن بن يزيد (3) بن جابر عن القاسم بن مُخَيمرة عن أبي سعيد قال: نهى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبور، أو يُقعد عليها أو يُصلى إليها”.
العباس بن الوليد: من رجال “الصحيحين”.
• “جامع الزوائد” (4): وعن أبي سعيد قال: “نهى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبور أو يُقْعَد عليها أو يصلّى إليها”. ورواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
_________
(1) رقم (1564).
(2) رقم (1016).
(3) في المطبوعة: “زيد” تصحيف.
(4) (3/ 61).

(5 ب/92)


قلت: ذكرته استظهارًا، لأن نسخة “مسند أبي يعلى” التي نقلت عنها الحديث خطية، وكذا نسخة “جامع الزوائد”.
* * * *

[ص 115] حال القاسم بن مخيمرة
في “تهذيب التهذيب” (1) أول ترجمته: روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وأبي أمامة … إلخ. ثم ذكر بعد أسطر عن يحيي بن معين أنه قال: لم نسمع أنه سمع من أحدٍ من الصحابة. وفي آخر ترجمته: قال ابن حبان: “سأل عائشة عما يلبس المحرم”.
[ص 116] أقول: لم أجد فرصةً لتفتيش كتب الحديث لتحقيق سماع القاسم بن مُخَيمرة مِن أبي سعيد رضي الله عنه، لكنه كان معاصرًا له قطعًا، فقد ثبت بما قاله ابن حبان أن القاسم أدرك عائشة إدراكًا بينًا، وقد كانت وفاتها سنة (57) فإدراكه لأبي سعيد بَيِّن واضح؛ لأن أقل ما قيل في وفاة أبي سعيد أنها سنة (63) وأكثره سنة (74)، ووفاة القاسم ــ على ما ذكر ابن سعد (2) ــ في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة (100) تقريبًا (3).
_________
(1) (8/ 327).
(2) في “الطبقات”: (8/ 419).
(3) انظر “تحفة التحصيل” (ص 414). وقال البوصيري في “مصباح الزجاجة” (1/ 277) في الكلام على هذا الحديث: منقطع؛ لأن القاسم لم يسمع من أبي سعيد.

(5 ب/93)


الحمد لله

بحث شرط اللقاء
نقل مسلم رحمه الله في مقدمة “صحيحه”: إجماع السلف من أئمة الحديث على الاكتفاء بالمعاصرة في تصحيح المعنعن من غير المدلِّس، ما لم يقم دليل على نفي اللقاء، وشنَّع على من اشترط ثبوت اللقاء من أهل عصره.
ثم جاء المتأخرون فقالوا: إن الاشتراط قول المحققين، وذكروا منهم البخاري وشيخه ابن المديني.
[ص 117] ولا يخفى أن هذا لا ينافي سَبْق الإجماع لهما، ومجرَّدُ حُسْن الظن بهما أنهما لا يخرقان الإجماع، ولعلهما اطلعا (1) أنه لم يزل في طبقات السلف من يشترط اللقاء= لا يُغني شيئًا.
فلو ناظر مسلمٌ البخاريَّ، فقال: أنت وشيخك مسبوقان بالإجماع، لم يفده إلا أن يصرِّح بالنقل عن بعض السلف من جميع الطبقات في موافقة قوله؛ فأما مجرد إنكار الإجماع فلا يفيد، إذ الإجماع من الأمور التي لا يطالب مدّعيها بدليل.
أما لو قال البخاري: إنه يلزمك وغيرك حسن الظن بنا، لكان قد أتى بما يُضْحَك منه.
_________
(1) تحتمل: “وأنهما مطلعان”.

(5 ب/94)


نعم ذكر السخاوي في “فتح المغيث” (1) (ص 66): عن الحارث المُحاسبي ما يُظنّ خادشًا للإجماع حيث قال: “اختلف أهل العلم .. إلخ”.
لكنه لا يصادم نقل مسلم؛ لاحتمال أن يكون راعَى خلافَ ابنِ المديني، ومع هذا فإننا لا نُقْنِع أنفسنا بالتمسّك بدعوى الإجماع، كما لا يَهُولُنا دعوى التحقيق في الطرف الآخر، بل نسعى لتحقيق البحث بأدلته الحقيقية على صورة مناظرة، مشيرين لمذهب مسلم رقم (1)، ومقابله برقم (2)، ونستوفي البحث بقدر الجهد، بحسب ما اطلعنا عليه من أدلة الفريقين، وما ظهر لنا أنه قد يُستدل به. والله المستعان.
[ص 118] (1) الأصل الثابت في الرواية أن يكون عما شاهده الراوي وأدركه، سواء أعَلِم السامع لقاءً للمروي عنه أم لا، وعليه فهذا هو الأصل والظاهر الذي يجب التمسُّك به حتى يتبين خلافه.
(2) ما دليلكم على ذلك؟
(1) نذكر أمثلة نوضحه بها:
أـ مصريٌّ زار اليمن، ثم عاد فأخذ يخبر عن فلان من علماء صنعاء أنه قال: كذا، وعن آخر من علماء زبيد، وثالث من علماء تعز، والسامعون لا يسمعون بأولئك العلماء، ولم يخبرهم أنه لقيهم، ولا أنهم أحياء.
ب ــ هنديٌّ زار الحجاز، ثم عاد، فأخذ يخبر عن فلان من علماء مكة، وفلان من علماء المدينة، وفلان من علماء الطائف، والسامعون كما تقدم.
ج ــ عالمٌ هنديّ أخذ يخبر بمثل الذي قبله، مع أن السامعين لا يعلمون أزار الحجاز أم لا؟
_________
(1) (1/ 191).

(5 ب/95)


من تأمل هذه الأمثلة علم أن الذي يتبادر إلى الأذهان من رواية أولئك الأشخاص أنها عن سماع، مع أن الفرض أن الراوي عنعن، وأن السامع لا يعلم المعاصرة بدليل خارجي، فضلًا عن اللقاء، أما إذا علمها فإن الأمر يزداد قوة.
[ص 119] (2) (1) هذه الأمثلة تُعارَض بغيرها، فإذا ذهب شرقيٌّ إلى أوربا، ثم عاد فأخبر عن فلان بإنجلترا، أو عن فلان بفرنسا، وعن فلان بألمانيا، فإن الذي يتبادر عدم السماع، وإن عُلِمت المعاصرة.
(1) هذا التبادر لوجود القرائن الصارفة عن الأصل، كتباعد البلدان وضعف الدواعي إلى زيارتها، وزيادة المشقة في ذلك، ووجود البرق والبريد والصحافة والتأليف بكثرة، وغَلَبة الإرسال بحيث لا تكاد تجد إنسانًا يقول: أخبرني فلان عن فلان، وغير ذلك، ولهذا مثلنا أمثلة بريئة عن القرائن، وإن شئت فتصوَّرْها واقعةً في زمن التابعين حيث كانت الأقوال ــ ولاسيما السنة ــ إنما تؤخذ من ألسنة الرجال، فلا برق ولا بريد ولا صحافة، بل ولا تأليف.
والناس يومئذ أهل جدٍّ وتشمير في الرحيل لطلب العلم، ولاسيما للقاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف إذا كان الراوي أو المروي عنه بأحد الحرمين، والناس يومئذ كلهم يزورون الحرمين، وكثير منهم من يحج كل سنة؟
_________
(1) الأصل: (ب) وهو رمز الفريق الثاني الذي أشار المؤلف أنه سيرمز له بـ (2) فكأنه ذهل عنه، كما سيحصل عدة مرات.

(5 ب/96)


[ص 120] فكيف إذا شئت زيارة الحرمين بالفعل، أو كان أحد الرجلين ببلدة قد وصلها الآخر، فكيف إذا أقاما ببلدة واحدة؟ !
والحاصل أن الأصل كما قررناه، وأنه قد تقوم قرائن تصرف عنه، وقد تقوم قرائن تؤيده.
ولنذكر مثالًا آخر يوضّح ذلك الأصل:
كنا في بومباي ــ مثلًا ــ فجاء رجل من السند، لم يصل بومباي قبل، فمكث في بومباي بضعة أيام، ثم لقينا، فأخذ يخبرنا عن فلان المدرِّس بمدرسة كذا في بومباي أنه قال كذا، وعن فلان الإمام بمسجد كذا فيها أنه صلى الجمعة بسورة كذا، وعن فلان التاجر بها أن سائلًا سأله فرد عليه بكذا.
فالذي يتبادر إلى الأذهان أنه لقي أولئك الأفراد وسمع منهم، مع أنه لو لم يخبرنا بذلك، لم يترجَّح لنا ألقيهم أم لا.
فتبين أن التبادر إنما جاء من الرواية، فثبت أن الأصل في الرواية، أن تكون عما شاهده الراوي وأدركه.
[ص 121] (2) لعل اصطلاح المحدّثين كان على خلاف ذلك، كما يدل عليه ذهاب ابن المديني والبخاري، ومن تبعهما إلى ما ذهبوا إليه.
(1) قد أسلفنا أن مجرد ذهابهما إلى ذلك القول لا يصلح نقضًا لما نقله مسلم من إجماع السلف، وهو يدل أبلغ دلالة أن اصطلاحهم كان موافقًا للأصل، بل هناك من القرائن ما يدلّ على شدة محافظتهم على الأصل أشدّ من محافظة غيرهم، وذلك مزيد احتياطهم وتثبتهم وجريان عادتهم بالإسناد، والتحفُّظ من نقد النقاد، وغير ذلك.

(5 ب/97)


على أننا لو تنازلنا عن دعوى الإجماع بقيت الأغلبية، وهي كافية في إثبات المطلوب، مع أن موافقة البخاري وشيخه على حمل عنعنة من ثبت لقاؤه على السماع، يدل على ما ذكرنا، وإلا لكانت الحجة عندهما هي مجرَّد اللقاء.
فيلزمهما أن كل من لقي شيخًا ثبت سماعه لكل حديثه، وهذا كما ترى. [ص 122] وإنما رأيا أن دلالة الرواية بدون ثبوت اللقاء لا تخلو عن ضعف، فاشترطا تقويتها بثبوت اللقاء.
ونحن نسلِّم أن الرواية مع ثبوت اللقاء أقوى منها بدونه غالبًا، ولكن هذا لا يقتضي عدم حجيتها، إذا كانت في نفسها دلالة ظاهرة محصِّلة للظن، على أنه يعلم مما قدمناه أن القرائن قد تتظافر على إثبات اللقاء حتى تكاد تقطع به، وإن لم ينقل صريحًا.
(2) لنا: شيوع الإرسال في السلف، فإنه دليل على أن اصطلاحهم على خلاف الأصل الذي قدَّمْتُم.
(1) أما الإرسال الجلي فلا نزاع فيه؛ لأن المرسل يتَّكِل على وضوح القرينة الصارفة عن الأصل، وهذا إنما هو كشيوع المجاز، لا يقتضي إلغاء الحقيقة (1).
وأما الإرسال الخفي، فلنا جوابان عنه:
أ- لا نسلِّم شيوعه. والاستقراء يدل على قلته؛ فإن أكثر رواية التابعين وتابعيهم المتصلة معنعنة، ولو كان الإرسال الخفي شائعًا فيهم لأقلوا خشية
_________
(1) بعده في الأصل كلمة “بل” والكلام بدونها مستقيم.

(5 ب/98)


[ص 123] الإيهام.
(2) لعلهم كانوا يتَّكِلُون على ثبوت اللقاء.
(1) ما كل سامع لحديثهم بمُطَّلع على اللقاء، فالإيهام باقٍ بالنسبة إلى من لم يطلع.
(2) لعلهم كانوا يتكلون على أن من لم يطلع على ثبوت اللقاء يسأل عنه.
(1) قد يتساهل فلا يسأل، مع أنه قد يغلب على ظنه ثبوت اللقاء للقرائن المتقدمة، فالأسهل والأحوط التصريح بالتحديث من أول وهلة ولا حامل على تركه.
فتبين أنهم إنما كانوا يعنعنون المتصلات؛ لاعتقادهم دلالة ذلك على السماع، بل إذا تتبعت رواية المدلسين وجدتهم كثيرًا ما يعنعنون المتصلات، فلماذا يعنعنون مع علمهم بأن عنعنتهم لا تُحْمَل على السماع لتدليسهم؟
هل يقال: إنهم كانوا يريدون أن يوهموا أنهم لم يسمعوا تلك الأحاديث، والحال أنهم سمعوها؟ ! هذا عكس التدليس المتعارف.
فالتدليس: إيهام السماع مع عدمه، وهذا إيهام عدم السماع مع ثبوته، وغرض المدلس إنما يتعلق [ص 124] بالأول دون الثاني.
فتبين أنهم إنما كانوا يعنعنون جريًا على الأصل والعُرْف المطَّرد في الاكتفاء بالعنعنة في المسموع.

(5 ب/99)


ب ــ (1) الإرسال الخفي تدليس، والكلام في الراوي غير المدلس، فإذا سويتم بين من وصف بالتدليس وغيره؛ لزمكم أن تردوا المعنعن مطلقًا، كما ذكره مسلم رحمه الله تعالى.
(2) كلا ليس الإرسال الخفي تدليسًا، إذ لا إيهام فيه مع عدم اللقاء.
(1) قد قدمنا ما يُعْلَم منه أن الإيهام واقع، وإن لم يثبت اللقاء، ويتأكد بالقرائن، كما مر.
(2) على كلِّ حال المختار أنه ليس تدليسًا، كما يُعْلَم بمراجعة كتب المصطلح.
(1) التحقيق أنه تدليس، ولكن لا نطيل ببيانه، إذ يغنينا أن نقول: لا يضرّ الخلاف في الاسم، فالإرسال الخفي كالتدليس في الإيهام والتغرير، بل هو أقبح منه وأشنع، قال في “فتح المغيث” (2) (ص 74 – 75): “فقال ابن عبد البر في “التمهيد” (3): ولا يكون ذلك عندهم إلا عن ثقة، فإن دلس عن غير ثقة؛ فهو تدليس مذموم [ص 125] عند جماعةِ أهلِ الحديث. وكذلك إن حدَّث عمن لم يسمع منه، فقد جاوز حدّ التدليس الذي رخَّص فيه من رخَّص من العلماء إلى ما ينكرونه ويذمونه ولا يحمدونه.
وسبقه لذلك يعقوب بن شيبة كما حكاه الخطيب عنه، وهو مع قوله في موضع آخر: “إذا وقع فيمن لم يلقه … أقبح واسمع (أشنع) (4). يقتضي أن
_________
(1) هذا الجواب الثاني للفريق الأول، وتقدم (أ) في (ص 98).
(2) (1/ 210 – 211).
(3) (1/ 27 – 28).
(4) كذا كتب المؤلف تصحيحًا للنص، وهو في المحققة والتمهيد: “أسمج”.

(5 ب/100)


الإرسال أشد، بخلاف قوله الأول، فهو مُشْعِر بأنه أخف، فكأنه هذا (هنا) عنى الخفي لما فيه من إيهام اللقيّ والسماع معًا، وهناك عنى الجلي لعدم الالتباس فيه”. اهـ.
أقول: قوله: “إيهام اللقي والسماع معًا”، أي لأن الرواية توهم السماع، ولا يكون سماع إلا مع لقي، وكلاهما غير واقع، بخلاف التدليس، فإن أحدهما وهو اللقي واقع.
(2) لكن الإيهام في التدليس أقوى لثبوت اللقاء.
(1) نعم، غالبًا، لكن قوة الإيهام فيه لا تنافي وجود الإيهام في الإرسال الخفي، على أن الإيهام في هذا لأمرين كلاهما غير واقع، وفي التدليس لأمرٍ واحد غير واقع، مع أنه قد يكون هناك قرائن تقوِّي إيهام اللقاء.
[ص 126] (1) فقد لزمكم على الأقل أن تسووا بين الأمرين، فكما أنكم لا تقبلون عنعنة من لم يثبت لقاؤه خشية الإرسال الخفي، وإن لم يوصف بأنه كان يفعله، فكذلك لا تقبلوا عنعنة من ثبت لقاؤه خشية التدليس، وإن لم يوصَف بأنه كان يدلِّس.
(2) هاهنا فرق، وهو: أن السلامة من التدليس هي الأصلُ، والظاهرُ من حال الثقة، فلا يقاوم لاحتماله وزن ما لم يُنقل.
(1) وكذلك نقول في الإرسال الخفي سواء، بل السلامة من الإرسال الخفي أقرب، لأمور:
منها: أنه أقبح وأشنع كما مر، فالثقة أشد بُعْدًا عنه.

(5 ب/101)


ومنها: أن الغرض الحامل عليه أضعف من الحامل على التدليس، لأن الشخص قد يستنكف عن إدخال واسطة بينه وبين شيخ قد لقيه وسمع منه، لأن ذلك يوهم تقصيره بخلاف من لم يلقه.
ومنها: أن الشخص يرغب في التدليس، لأنه أروج لدلسته من الإرسال الخفي.
ومنها: أنه لا يأمن الإنكار في الإرسال الخفي، فإنه قد يكون هناك من يعلم عدم اللقاء فيبادر بالإنكار عليه [ص 127]، بخلاف التدليس، فإنه لا يُنْكَر عليه الرواية عن شيخ قد لقيه وسمع منه.
(2) أما المدلسون فقد تكفَّل الأئمة ببيانهم، بخلاف الإرسال الخفي، فلم يبينوا أهله على جهة الاستقصاء، وهذا يدل أنهم كانوا يرون الخطر في التدليس، ولا يرون في الإرسال الخفي خطرًا.
وهذا إنما يتمشَّى على أنهم كانوا يشترطون اللقاء في قبول المعنعن، فمتى فُقِد اللقاء، فالعنعنة غير مقبولة لفقده، سواء أكان الراوي ممن يرسل الإرسال الخفي أم لا.
ومتى ثبت اللقاء فالعنعنة مقبولة، إلا إن كانت من مدلِّس، فلهذا اهتموا ببيان المدلسين، بخلاف الإرسال الخفي.
(1) هذه مغالطة، فقد قدمنا بيان دلالة الرواية على السماع، وقدمنا نقل مسلم لإجماع السلف على حملها على السماع إذا ثبتت المعاصرة فقط، وبسطنا ذلك أحسن بسطٍ، وأما هذه الشبهة فلنا جوابان عنها:
جواب مكافأة، وجواب إنصاف.

(5 ب/102)


[ص 128] أ – أنه إن كان الأئمة لم ينقلوا عن أحد أنه كان يرسل إرسالًا خفيًّا، فهذا دليل لنا على غلظه وشدة شناعته وقبحه، بحيث إن جميع المحدثين تنزَّهوا عنه، إلا الكذابين، فإن وصفهم بالكذب يغني عن وصفهم بالإرسال الخفي، وإن كان الأئمة نقلوا ذلك، ولكن عن قليل بالنسبة إلى من نقلوا عنه التدليس، فهذا أيضًا دليل لنا على شناعة الإرسال الخفي، بحيث إن الموصوفين به من المحدثين قليل جدًّا بالنسبة إلى المدلِّسين.
ب- المشهور بين المحدِّثين أن الإرسال الخفي تدليس، فالوصف بالتدليس يتناول النوعين، ولنا بحثٌ في تحقيق هذه المسألة نلخصه هاهنا:
في عبارة ابن الصلاح (1) في حد التدليس “فتح المغيث” (2) (ص 73): “وعمن عاصره ولم يلقه موهمًا أنه قد لقيه وسمعه”. وتبعه النووي، وعبارته في “التقريب” (3): “بأن يروي عمن عاصره ما لم يسمعه منه موهمًا سماعه”، وكذا العراقي. وقال في “فتح المغيث” (4) (ص 74): “إنه هو المشهور بين أهل الحديث”.
ومثله للسيوطي في “شرح التقريب” (5)، [ص 129] وهو ظاهر عبارة الخطيب في “الكفاية” (6). انظر “فتح المغيث” (ص 74) وإن قال
_________
(1) “علوم الحديث” (ص 73).
(2) (1/ 208).
(3) (1/ 256 ــ مع تدريب الراوي).
(4) (1/ 209).
(5) (1/ 256).
(6) (ص 357).

(5 ب/103)


الحافظ (1): إنها تخالفه.
ويؤيد هذا القول: أن معنى التدليس لغةً يتناوله، والأصل عدم النقل.
وأما البزَّار وابن القطان وابن عبد البر، فإنهم وإن خصوا تعريف التدليس بما ثبت منه (2) اللقاء؛ فقد فرقوا بينه وبين الإرسال بوجود الإيهام في الأول بخلاف الثاني، وهذا يدلك أنهم أسقطوا الإرسال الخفي، فلا أدخلوه في تعريف التدليس لما مر، ولا في الإرسال؛ لقولهم: “إن الإرسال لا إيهام فيه”.
ومع ذلك فكلامهم يدلّ على إلحاقه بالتدليس، لوجود الإيهام فيه، فليس من الإرسال.
ولقولهم: إن التدليس إنما كان تدليسًا لوجود الإيهام. وفي هذا إيهام وأيُّ إيهام. انظر عبارة ابن عبد البر المنقولة سابقًا.
وأما كلام الشافعي، فلم أقف عليه الآن، إلا أن المدَّعى إنما هو أنه يقتضيه وليس صريحًا فيه.
وأما قول أبي حاتم في أبي قِلابة الجَرْمي “فتح” (3) (ص 67): إنه كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم لكنه عاصرهم، كأبي زيد عمرو بن أخطب، وقال مع ذلك: إنه لا يُعْرَف له تدليس. ا? .
فيُحْمَل على الإرسال الجلي، بأن يكون مشهورًا بين الناس أنه لم
_________
(1) في “النكت على ابن الصلاح”: (2/ 614 – 615).
(2) تحتمل: “فيه”.
(3) (1/ 192).

(5 ب/104)


يلقهم، فلا إيهام، والرواية عن المعاصر إنما تكون تدليسًا إذا وجد الإيهام.
[ص 130] وأما استدلال الحافظ “فتح” (1) (ص 73): بإطباق أهل العلم بالحديث على أن رواية المخضرمين كأبي عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبيل الإرسال، لا من قبيل التدليس، فلو كان مجرد المعاصرة يُكتفى به في التدليس؛ لكان هؤلاء مدلسين؛ لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطعًا، ولكن لم يُعْرَف هل لقوه أم لا؟ ا? .
وجوابه: أن الصحبة أمر غير مجمل لا يخفى، فكان معلومًا للتابعين أن هؤلاء ليسوا بصحابة، فلم يكن في إرسالهم إيهام.
وقوله ــ رحمه الله ــ: “ولم يُعْرَف هل لقوه أم لا” فيه نظر. “راجع تراجمهم في كتبه”.
على أنه لو فُرِض أنه لم يقم دليل على عدم لقائهم له صلى الله عليه وآله وسلم، لالتزمنا أن تكون روايتهم عنه دعوى صحبة لها حكمها.
ومع هذا كله فالمدَّعَى إنما هو كون هذا القول هو المشهور بين أهل الحديث، فلا ينافيه أن يكون منهم من يخالفه.
[ص 131] على أنه لو فُرِض أن الإرسال الخفي لا يسمى تدليسًا، لكان وصف الشخص بالتدليس يدل على أنه لا يتنزه عن الإرسال الخفي؛ لأنهما متقاربان متشابهان.
(2) بقي لنا اعتراض واحد، إن تفصَّيتم عنه فقد فلَجْتُم، وهو: أن الثقة
_________
(1) (1/ 208). وانظر “النكت”: (2/ 408 – 409).

(5 ب/105)


قد يرسل عمن عاصره غير قاصد إيهامًا، بل اتكالًا على معرفة السامع بعدم اللقاء، كما حملتم عليه قول أبي حاتم في أبي قلابة الجرمي، فيكون هذا إرسالًا خفيًّا في الحقيقة لا يمتنع اتصاف الثقة به، ولا يلزم الأئمة نقله، وإن صار فيما بعد خفيًّا.
(1) هذا أشق ما أوردتموه، وعلى ذلك فجوابه [ص 132] من وجهين: إلزامي، وتحقيقي.
أما الإلزامي: فلأنه يلزمكم مثله في التدليس، بأن يقال: إن الثقة قد يرسل عمن لقيه وسمع منه غير قاصدٍ إيهامًا، بل اتكالًا على معرفة السامع بأنه وإن لقيه لم يسمع، أو سمع منه ولكن هذا المعنعن ليس مما سمعه وهذا لا يسمى تدليسًا، إذ لا إيهام فيه، فلا يمتنع اتصاف الثقة به، ولا يلزم الأئمة نقله، وإن صار فيما بعد تدليسًا.
فإذا اعتبرتم الاحتمال هناك، لزمكم اعتباره هنا، فتردون كلَّ معنعن كما قاله مسلم رحمه الله.
وأما التحقيقي؛ فنقول: إن السامع من المُعَنعِن إذا كان ثقة غير مدلس كما هو المفروض، فإنه يبين أن شيخَه لم يلق الذي روى عنه، فإن فُرِضَ أن هذا السامع حَدَّث من يعلم بعدم لقاء المعنعن لشيخه، فهذا المحدِّث إذا كان ثقة غير مدلس كما هو المفروض، فإنه يبين وهكذا.
فتلخَّص من هذا: أنه إذا ثبت عن أحد رجال السند [ص 133] بيان أن المعنعِن لم يلق المعنعَن عنه، فالأمر واضح، وإن لم يجئ البيان عن أحدٍ منهم ولا عن غيرهم، وجب حمل تلك العنعنة على السماع؛ وإلا لزم أن يكون في الرجال مدلِّس، المفروض سلامتهم من التدليس، وهذا هو

(5 ب/106)


جوابكم عما ألزمناكم، فصحّ وثبت أن العنعنة من المعاصر غير المدلس إذا رُوِيت بسندٍ رجاله ثقات غير مدلسين، فهي محمولة على السماع، إلا أن يقوم دليل على خلافه.
ومثل العنعنة غيرها من ألفاظ الرواية التي ليست صريحةً في السماع، ولا في عدمه.
(2) هل وافقكم أحدٌ على رأيكم هذا؟
(1) ها هي الأدلة بين أيديكم، تأملوها، فإن رأيتم الدليل موافقًا لنا، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وإن رأيتموه علينا، فلن ينفعنا موافقة أحد.
على أننا قد قدمنا أن هذا قول الإمام مسلم بن الحجاج، ونقل أنه إجماع السلف من أهل الحديث، ولم تخدش دعوى الإجماع بما يعد خادشًا، وقد نقل السخاوي (ص 62) (1) كلامًا عن ابن الصيرفي نلخصه:
“أن التابعيَّ إذا قال: “عن رجل من الصحابة” [ص 134] لا يقبل، إذ لا يعلم أعاصره أم لا، فلو أمكنَ عِلْمُ أنه عاصره جُعِل كمدرك العصر … “.
ثم قال السخاوي: “وتوقف شيخنا (2) في ذلك؛ لأن التابعي إذا كان سالمًا من التدليس حُمِلَت عنعنتُه على السماع، وهو ظاهر.
قال: ولا يقال: إنما يتأتى هذا في حق كبار التابعين الذين جُلّ روايتهم عن الصحابة بلا واسطة، وأما صغار التابعين الذين جلُّ روايتهم عن التابعين؛ فلا بد من تحقّق إدراكه لذلك الصحابي، والفَرْض أنه لم يسمعه
_________
(1) (1/ 178).
(2) انظر كلام الحافظ في “النكت”: (2/ 351).

(5 ب/107)


حتى نعْلم هل أدركه أم لا؟
لأنا نقول: سلامته من التدليس كافية في ذلك، إذ مدار هذا على قوة الظن، وهي حاصلة في هذا المقام” ا? .
أقول: وإذا كان هذا مع احتمال عدم إدارك المعنعن للصحابي، فضلًا عن لقائه، ففي مسألتنا أولى وأحرى؛ لأنه قد ثبت الإدراك وربما قامت عدة قرائن تدل على اللقاء، كما مرّ.
والعجب من الحافظ رحمه الله كيف مشى معهم [ص 135] في ترجيح رد عنعنة من عُلِمت معاصرته دون لقائه، مع أنها قد تقوم القرائن على اللقاء، وتوقّف عن ردِّها بل احتجَّ لقبولها في حق من لم تُعْلَم معاصرته أصلًا، وكان العكس أقرب كما هو واضح. والله أعلم.

(5 ب/108)


[ص 136] حديث أم سلمة
قال الإمام أحمد في “مسنده” (1) (جزء 6 ص 299): ثنا حسن ثنا ابن لهيعة ثنا يزيد بن أبي حبيب عن ناعم مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت: “نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُبنى على القبر أو يُجَصَّص”.
ثنا علي بن إسحاق ثنا عبد الله (يعني ابن المبارك) أخبرنا ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب عن ناعم مولى أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم “نهى أن يُجَصص قبر، أو يُبنى عليه، أو يُجْلَس عليه”.اهـ.
[ص 137] في ابن لهيعة كلام كثير، ولكن فصل الخطاب فيه ما ذكره الذهبي في “الميزان” (2) قال: “قال ابن حبان: قد سبرتُ أخباره من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه، فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجودًا وما لا أصل له في رواية المتقدمين كثيرًا، فرجعت إلى الاعتبار, فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء على أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات, فألزق تلك الموضوعات بهم” ا?.
أقول: قوله “ضعفاء” أي: عند الناس فلا ينافي أن يكون ابن لهيعة يظنهم ثقات.
إذا تقرر هذا، فحديث المتقدمين صحيح، لا يخشى منه إلا التدليس، فإذا جاء من روايتهم ما صرَّح فيه ابن لهيعة بالتحديث فهو صحيح.
_________
(1) رقم (26566، 26567).
(2) (3/ 189 – 197).

(5 ب/109)


لكن في “الميزان”: “وقال أبو زرعة: سماع الأوائل والأواخر منه سواء، إلا ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله، [ص 138] وليس ممن يحتج به” ا? .
وقال ابن مهدي والإمام أحمد وأحمد بن صالح والفلاس وغيرهم: إن رواية المتقدمين عنه صحيحة.
والحافظ عبد الغني والساجي وغيرهما: إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح.
وقال أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلَّابًا للعلم، وقد ضعّفه قوم مطلقًا. ونصّ بعضُهم: أنه ضعيف أولًا وآخرًا.
والحق ما حققه ابن حبان، فإنه قد حقق ما ظنوه وفصَّل ما أجملوه.
إذا تقرر هذا، فحديث الباب:
الرواية الأولى: حسن ثنا ابن لهيعة: ضعيفة.
والثانية: من حديث ابن المبارك أخبرنا ابن لهيعة حدثني … إلخ: فهي صحيحة، لأن ابن المبارك من العبادلة، ومن المتقدمين، وممن كان يتتبع كتبَ ابن لهيعة، وقد صرَّح ابن لهيعة بالتحديث.
فالظاهر أن ما في الرواية الأولى من زيادة الوصل، ونقص ذكر الجلوس من التخليط، فالحكم للمرسل [ص 139]، فالحديث مرسل صحيح.
فأما من يحتج بالمرسل وحده، فهو عنده حجة مستقلة.

(5 ب/110)


وأما من يشترط أن يعتضد؛ فهو عنده حجة لما تقدم من العواضد.
ويؤيده أن ناعمًا مع إدراكه كثيرًا من الصحابة، قليل الحديث، لم يحدِّث إلا عن مولاته أم سلمة، وعن عبد الله بن عَمرو، فالظاهر أن إرساله مما سمعه من الصحابة. والله أعلم.

(5 ب/111)


[ص 140] تتمة لحديث جابر وأبي سعيد وناعم
لو فُرِض أنّ ابنَ جريج لم يسمع هذا الحديث من سليمان، فلا بد أن يكون قد سمعه ممن هو ثقة عنده على الأقل، وهذا الذي يكون ثقة عند ابن جريج أقل ما فيه أن يكون صالحًا للمتابعة.
ثم إذا فُرِض أن سليمان لم يسمع من جابر، فكذلك لابد أن يكون سمعه ممن هو ثقة عنده، وكذلك يقال في القاسم وناعم، وذلك أن توثيق الأئمة لهؤلاء يتضمن أنهم لا يرسلون إلا عن ثقة مطلقًا أو على الأقل عندهم، إذ لو كانوا يرسلون عن الضعفاء المتفق على ضعفهم لَمَا كانوا ثقات.
وقد صرحوا أن من جملة الضعيف الذي يتقوّى فيصير حسنًا: ما كان فيه تدليس بالعنعنة، أو انقطاع بين ثقتين حافظين. انظر “فتح” (1) (ص 24).
مع أن حديث ناعم مرسل فهو حجة، إما بمفرده، وإما بعواضده.
فعلى تسليم المطاعن كلها، لا يقصر الحديث عن بلوغه أعلى درجة الصحيح لغيره؛ فكيف وقد أجبنا عنها ولله الحمد، [ص 141] فكيف إذا لوحظ حديث فَضالة وحديث عليّ، وعمل الصحابة والآثار المروية عنهم، مع موافقة آية المواراة (2).
_________
(1) (1/ 75).
(2) وهي قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31].

(5 ب/112)


والأصل الفطري والقياس المعبر عنه: بأن القبر بيت البِلَى لا يناسبه الإحْكام والزخرفة.
والقياس على السنة المتواترة في تغليظ حُرْمة اتخاذ المساجد عليها.
وإن كان هذا القياس أدون، مع ما في البناء ونحوه من تضييع المال أولًا: بإنفاق ما يستدعيه البناء.
وثانيًا: بتضييع تلك البقعة لاقتضاء البناء بقاءها كذلك ولو بعد البلى.
وملاحظة ما أدى إليه البناء ونحوه من تعظيم القبور.
كلُّ ذلك مما يفيد العلم القطعي بصحة معنى هذه الأحاديث، والله عزَّ وجلّ أعلم.

(5 ب/113)


مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى